هل الطائرات دون طيار انجاز اخلاقي، مقال
هل الطائرات دون طيار انجاز اخلاقي؟
للكاتب:عبدالعزيز البرتاوي
الرياض، مخرج 5. طريق الملك عبدالعزيز، السادسة صباحًا، درجة الحرارة، لا تجاوز الثلاثين، حتى اللحظة. وبرغم كونه صباح الجمعة، المتفق عليه، يوم إجازة أسبوعية، لدى كافة القطاعات، إلا أن زمرًا من كهول وشباب، يوحدهم الزي الباكستاني، بعضهم متلفع بشالات الكشمير، وحاسري الرؤوس غالبًا، يقبعون بانتظار سيارة عابرة، قد تتوقف، لتقلهم، لإنجاز أعمال، تخصصوا فيها، وأعمال لم يمارسوها قبل. ما يهم، الحصول على ما يعادل 20 دولارًا، قبل حلول المساء، والمضي إلى مساكن بعيدة عن هذا الطريق المترف بعض الشيء، حيث الأفكار، تدور وتمور، حول ما يجري هناك، في باكستان، البلد الذي أعجب ما فيه، أنه لم يعد ينتظر أي خبر عاجل، كما يقول سمير عطالله، كون الأشياء والأحداث تحدث بعجلة وببطء وخارج مقاييس الزمن أيضًا.
قادمون من باكستان، من وادي سوات. من كشمير، من كابول، من قندهار، من سهول بعيدة وقريبة، وحد بينها اكتشاف مذهل، بدأ بغتة للتجسس وإراحة الطائرات الكبيرة، وانتهى ليكون موتًا طازجًا كل لحظة رعناء، تحلّ بمخيلة السيد الاستخباراتي الأمريكي، لتمطر ‘الطائرة دون طيار’، أي تجمع يمكن تواجده تلك اللحظة، والهدف المنشود: رجل القاعدة الفارّ والمختبئ من عشر سنوات، والنتيجة: عشرات القتلى، من أطفال ونساء ومسنين، قد لا يكون بينهم رجل القاعدة المنشود، لكن من المؤكد أن ذلك التجمع الاحتفالي، أو الزواج الفرح، صار مأتمًا في غضون عشرة ثوان لا أكثر.
متعب انتظار هؤلاء الرجال. متعب بكونه انتظارا مفتوحًا، بلا أمل ولا أمد. ومتعب بكونه انتظارًا لأكثر من أمر: انتظار من يعبر ليقلهم نحو عمل شاق، في ظهيرة، ستواكب الـ 50 درجة مئوية. وانتظار لنشرة أنباء مسائية، تحصي لهم، كم قتيلا، باتت تشيعه قراهم هذه الليلة، بفضل هذا الاكتشاف المذهل: طائرة دون طيار.
لبعض المعلومات، عن ‘طائرة دون طيار’، يمكنك مطالعة ‘ويكيبيديا’. وستجد أنه من المخزي أن ترتبط أغلب المعلومات التي تفيد عنها -ولأجل المعرفة-، بهذا الشرق. إن طائرة دون طيار من نوع بريداتور مثلا، يتم تعريفها في مواقع البحث هكذا: تمت تجربتها في اليمن، حيث قامت بقتل ستة أشخاص في غارة عام 2005. ولتكملة التعريف: تعمل حاليا، في قصف وادي سوات، في باكستان بشكل دائم. ومن أوصافها التي قد تطلع عليها هناك: ‘تصيب الأهداف بدقة، لكنها لا تفرق بين الصديق والعدو’. ( هناك فيلم لأرنولد شوارزنيغر، بنفس اسم الطائرة، ينتصر فيه البطل الأمريكي على المخلوق الفضائي إثر معركة عنيفة. أمريكا تحارب في كل مكان).
وبتمثيل آخر، فإن طائرة دون طيار، من نوع ‘أيتان’ -تصنع في إسرائيل، وحمولتها من الصواريخ والقنابل تصل إلى 2 طن-، تمت تجربتها في ضرب منطقة بالسودان عام 2009، فيما قيل أنها ضربة لقافلة ذخيرة إيرانية. وفي عام 2010 أعلنت إسرائيل عن سرب كامل منها، في قاعدة ‘تل نوف’. أما طائرة ‘هيرون’ دون طيار، الإسرائيلية أيضًا، فقد تم استخدامها وإثبات فعاليتها في أفغانستان، من قبل القوات الكندية والفرنسية والاسترالية والبريطانية.
وليست المشكلة في طائرة دون طيار وحدها. المشكلة أيضًا في أوطان دون حدود سيادية، ولا تحصين جوي، ولا أدنى معايير الكرامة الوطنية، تسرح في أراضيها وأجوائها، أسراب وقطعان وحوش هذا العالم المعربد، تدخل لتقتل من تشاء، وتجرب ما تشاء، وتمضي قافلة، بكل جموح واستعلاء نحو قواعدها المجاورة، في أوطان عميلة. ولو فكرت أو انتظرت كالرجال المتعبين، الذين يهمهم أمر هذا العالم، أي رد فعل، فإنه سيكون بمثابة النصر، أن تجد شجبًا واستنكارا، على غلاف جريدة محلية. في باكستان يدين الساسة المتعاقبون في حكومات ضعيفة، القصف بطائرات دون طيار علنًا، ويؤيدونها سرًا. لذلك أصدقاؤنا المتعبون في الرياض، على مدى انتظاراتهم، يهزون رؤوسهم بأسى، حين يأتي ذكر أمريكا. -في إحصائية أمريكية: 80′ من الشعب الباكستاني يعتبر الولايات المتحدة، الحليف الأبرز لحكوماتهم، عدوًا-.
هذه أوطان، تعمل كمختبرات تجربة، لفاسدي العالم، دون كلمة هامسة من حكوماتها. وما يوحد هذا الجرم المريع: أن تكون أمريكا وإسرائيل المنتج غالبًا، والبلدان العربية والإسلامية، المختبرات المعدة لتجربة فعالية هذا السلاح، ومن ثم استخدامه. وسيصمت العالم الأرعن والجبان، لأن ما يجري هو مكافحة للإرهاب، الذي يستهدف العالم أجمع، وتتبرع أمريكا والدول التابعة لها، بمحاربته. -دراسة صادرة لمجلة ‘أنو لوفيشن’: في السنوات الست إثر ضربة 11 أيلول، ارتفعت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية 74′، جراء بيع أسلحة ومشتقاتها، فيما يعرف بأعوام الميزانية السوداء-.
حتى عام 2000، كانت أمريكا تحتكر هذا الكم المهول من عوالم القتل المستهدف والتجسس -30 ألف طائرة دون طيار متوقعة في عام 2020-. لتشاركها فيه دولتان إثر ذلك: انكلترا وإسرائيل. في عام 2010 فاجأت الصين العالم، بإطلاق أكثر من 25 نوعًا من طائرات دون طيار. والآن في عالم يسفل، ويمضي نحو انعدام مقيت للقيم والأخلاق، وفي ظل ساسة جبناء وجشعين، تملك أكثر من 76 دولة، طائرات دون طيار، بفضل ما رأوا من نتائج ‘مبهرة’ في حربي العراق وأفغانستان وباكستان تحديدًا، بحسب مواقع البحث العسكرية.
في عام 2010، قال المقرر الرئيس للأمم المتحدة كريستوف هاينز، أنه في باكستان وحدها قتلت طائرات دون طيار، قريبا من 1000 شخص. وطالب بتحقيق موسع نحو هذه الزيادة ‘الدراماتيكية’، لاستخدام ‘القتل المستهدف’، لحصد أرواح آلاف الأبرياء بحدّ إحصائية قدمها هاينز، بدءا من عام 2004، في باكستان وحدها. وفي تقرير صدر مؤخرًا تتبوأ إسرائيل المرتبة الأولى تصديرًا لطائرات دون طيار باعت ما قيمته 5 مليارات دولار خلال عامين-، بينما البلدان الأكثر استهدافا: اليمن والصومال والعراق وباكستان وأفغانستان، حيث يقول السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، أن طائرات دون طيار، العائدة لـ’سي آي أيه’ وحدها، قتلت ما لا يقل عن 4700 شخص.
إن هذا الترف المعرفي، عن فتاكة سلاح كهذا سياسيا واقتصاديا، لا يجب أن يلهي عن معرفة البعد النفسي والاجتماعي لوجوده. اضطرابات النوم، الهلع المستمر، القلق الدائم من أي قصف مفاجئ، دون إذن ولا إخبار.
وفي مناطق غير عسكرية، حيث تسرح الحرب بين المدنيين، مرهونة لإذن السيد الأمريكي وعملائه. يقول المحامي الأمريكي البريطاني كلايف ستافورد: ‘إن غالبة الهجمات تتم في وقت متأخر من الليل في باكستان، وعليه لا يستطيع الوالدان التأكد من أن أطفالهما سيستيقظون في اليوم التالي، أو أن الجميع سيكونون في عداد القتلى’. كما تقول ميديا بنيامين-المعارضة النسوية-: ‘إن هذه الطائرات، لا تنتهي بانتهاء الغارة. من لم يُقتل، يظل خائفًا من أي أزيز قادم’.
ولا يمكن لوم الآخرين وحدهم. التقارير الصادرة مطلع العام الحالي، عن أبرز القواعد السرية لطائرات دون طيار، تتحدث عن وجودها في السعودية وتركيا وجيبوتي. السعودية لقصف الأراضي اليمنية، التي تقول الإدارة الأمريكية، أنها لا تحتاج لإذن في حالة التحليق والقصف والعودة للقواعد.
من السعودية تم تنفيذ قصف أنور العولقي عام 2011، وتذكر مصادر أمريكية أن رئيس المخابرات الأمريكية، وكبير مستشاري الرئيس لشؤون الإرهاب جون برينان ـ الذي عرقلت وصوله لرئاسة الاستخبارات مباشرة إثر فوز أوباما، جرائم الطائرات دون طيار ـ، والذي كان يعمل رئيسا للاستخبارات الأمريكية سابقًا في السعودية، هو من حصل على الإذن من السعودية لتشييد قاعدة سرية للطائرات دون طيار، بحسب نيويورك تايمز. ـ يصبح العالم تحت خطة: ‘اقتل كل ما يتحرك’، بحسب عنوان الكتاب الإحصائي للصحافي الأمريكي نيك برس-.
إشكال مريع آخر، يتمثل في كون هذا الموت العبثي الحادث كل لحظة، لا تجد مقابله، صراخا بقدر الألم. الكتاب العرب، أو من ينجر شرقًا وغربا لفكرة النقد من أجل ‘النقد’ -النقود فعليًا-، يتجنبون الحديث عن مثل هذه الأمور. قد يكتب أحدهم 100 مقال عن خطر الإرهاب الذي يتسبب فيه مسلمون وعرب اتهاما أو حقيقة، وقد يشجب وجود عبوة ناسفة وهمية في محطة قطار أوروبية، أكثر مما يفكر، أو يقوم’ بالكتابة عن هذا السلاح الفتاك. كون الأمر يتعلق بأمريكا وعقيدة ‘محاربة الإرهاب’ مفتوحة الحدود الزمانية والمكانية، وما يلحقها من سرب الدول المارقة والتابعة، ليس برأي أمريكا، ولكن برأي أخلاق العالم وأحراره.
الفنان والكاتب البريطاني جيمس بريدل، أقام الشهر الفائت بواشنطن، معرضًا فنيا لرسومات وصور، حول مدى جنوح وخطورة ولا أخلاقية طائرات دون طيار. كما أعدّ من قبل تطبيقًا للهاتف النقال، يبث أماكن القصف، ومدى ما حدث فيها-.
الرياض، مخرج 4. طريق الملك فهد. أنهي كتابة هذا المقال. القناة الإخبارية تبثّ نبأ غارة جديدة. أمريكا تواصل أمام أعين العالم الأعمى، مسيرة القتل المجنون. وما’ يؤلم حقًا، ليس هذا الاكتشاف: طائرة دون طيار. ما يؤلم فعلا هذا اللااكتشاف: عالم دون ضمير.