محاججة حركات الإسلام السياسي، حلمي شعراوي

محاججة حركات الإسلام السياسي، في علاقاتها الدولية، مقال لحلمي شعراوي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الدين والامبراطورية

منذ اختلف المسلمون حول معايير اختيار أول صحابى فى اجتماع السقيفة، ليواصل قيادة مجتمع الإسلام الجديد منطلقا من يثرب بعد وفاة الرسول، وهم يعيشون بوعى أو بدون وعى- فصلا واضحا بين العملية السياسية (تأكيد السلطة) وبين الأساس الدينى الذى كان يستوجب عدم وقوع أى جدل حول شخص الصحابى الأول لرسول الإسلام. وعندما انتصر "معاوية" وآلياته لحسم الجدل السياسى بين بنى هاشم وبنى أمية، واقصائه لأحد أحباء الرسول (على) وأحفاده ،إنما كان ينصر "العملية السياسية" ،وليبقى الاعتبار الدينى أو الروحى، مجرد غطاء له إلى "السلطة" وباعتبارمعاوية رمز التسلط والبرجماتية .وقد ورث ذلك أهل السنة من "خلفاء" المسلمين وأمراء المؤمنين وآخرهم العثمانيون، وخاتمتهم المدعون من الحركات الاسلامية بالحق فى "السلطة السياسية " باسم الدين مثل الاخوان المسلمين . لقد ظل "أمير المؤمنين"؛ هو "ظل الله فى الأرض"، رغم وعى "المؤمن" بالظلم ،وادعائه إمكان البطولة عند قول كلمة الحق فى "وجه امام جائر"، ورغم رضائه بحياته الكسيرة فى ظل المجتمع الاسلامى وتنظيماته المجتمعية و الدينية (قضاة، وائمة مذاهب) أو الطائفية (الملل والنحل) أو الاقتصادية الاجتماعية (التجار. الحرف .. الجند... الخ).تلك التنظيمات التى فصلت دائما الدين والتدين عن بنية الامبراطورية الممتدة . أما الظلم والقهرالفعلى الذى استغل الدين فقد واجهته مئات التمردات التاريخية المعروفة التى راح ضحيتها، قتلى ومتهمين بالخروج على الدين، مع اغتيال حوالى أربعين خليفة على مر القرون!


الإستسلام للغرب

ظروف كثيرة جعلت من المنطقة العربية الإسلامية- أو ما يسمى الآن بالشرق الأوسط- ممرا دائما أو مستقرا لعمليات عدوانية خارجية، "مغولية" و"تترية" "وصليبية"؛ ترسًخَ منها واستدام "العدوان الرأسمالي الأوربى" الذى سمى بالغزو الصليبى من قبل الطبقات المنهارة ليحتفظ بدلالته الحضارية والثقافية فقط لدى مسلمى "الشرق"، وليبقى "عالم الإسلام" عند انصار الدين فقط فى "مواجهة" "الغرب" "الثقافى" بالأساس، وليس فى مواجهة الغرب السياسى الاقتصادى. وقد ساعد ذلك قوى سياسية كثيرة محافظه على استعمال هذا البعد وحده غطاء لسياساتها التابعة مثلما فعل الاخوان المسلمون. وقد هرب دعاة التفسير الثقافى أو الحضارى ذاك من تفسير خروج العرب من دائرة المنافسة الدولية بفشل نظمهم الاستبدادية أو الاستغلالية الاقطاعية المتخلفة دون أية تشاركيه اجتماعية ، على النحو الذى استطاعت الثورة "الغربية" تحقيقه، وبقينا فقط- جماهير مُستغَلة- فى الشرق- نحمى الدين "فى مواجهة" الغرب الصليبى"، دون سؤال التنظيم السياسى الاجتماعى الذى اقتحم "الغرب" إجابته.

ويبدو أن الحال قد استمر حتى صار معنى "الصحوة الإسلامية" السائد هو فى مواجهة "الغرب الحضارى"، وليس فى مواجهة التاريخ القهرى للامبراطوريات الإسلامية أو أنصار وراثتها ، وهنا يظل الاعتبار الثقافى الدينى هو الرابح دون تقدم سياسى يذكر... وليس صدفة أن تبقي شخصية مثل "جمال الدين الافغانى" في مساحة محدودة عند مؤرخى التاريخ الإسلامى الحديث، وقد كان سيد الحديث السياسى عن التحرر من الاستعمار، مرتبطا بنهضة المسلمين الحديثة.... كما ليس صدفة أن يتبرأ قادة "الصحوة الإسلامية" الحديثة من حرج التاريخ الاستبدادى الإسلامى دون تفسيره، تمسكا منهم بفترة "السلف الصالح" الدينية الأولى فقط، كمرجعية دينية ، حتى لايدخلوا فى الجدل السياسى حول شكل الحكم الموروث ومضمونه الاستبدادى. (صدر هذا الاستنكار منذ بداية الحركات الوهابية الاقصائية ومن تلاها من الحركات المهدوية فى السودان والسنوسية فى ليبيا ، سيد قطب وسلفيو مصر ثم الغنوشىفى تونس- ثم محمود محمد طه وحسن الترابى فى السودان ثانية). ويكتفى الاخوان المسلمون من الامر كله بالانتقائية البرجماتية الشهيرة عنهم.

وفى تقديرى أن تلك التصريحات، وهذا التجاوز للتاريخ السياسى الاجتماعى، إنما كان تعبيرا عن العجز عن استهداف "السلطة" الحديثة مباشرة لدى الحركات الإسلامية ، اكتفاء بادعاء بقاء الاسلام كقوة دعوية... أو أداة مجتمعية اصلاحية فقط فى نظرهم... وهذه القدرة على تجاهل التاريخ "السياسى" الاجتماعى للدولة الإسلامية الاستبدادية هى التى منحت حركات جهادية كانت "مسيسة" ضد الغزو الغربى" إمكانيات تبريرية عالية للاستكانة ، وللقبول "بالغرب السياسى"- الاستعماري- مقابل ان تنال الحركة الإسلامية- بعد تحولها عن "الجهادية" المعادية للاستعمار- نصيبا محدودا من الكعكة السياسية. حدث هذا مع الوهابية فى الجزيرة العربية وما آلت اليه من تبعية العائلة السعودية وغيرها، وحدث مع المهدية فى السودان (حزب الأمة) ، ومع الجهاديين و"المريديه" "والمارابو" واتباع "دان فوديو" فى غربى افريقيا. ومع السنوسية فى ليبيا والصحراء الكبرى.. وكلها أرتضت "مشاركة الاستعمار" وتمسكت "بالسلفية" فقط لكى لا تقدم أى مشروع سياسى اجتماعى جديد فى مواجهة "تقدم الغرب"! ولم يساعد عزل الدين عن القضايا العامة عند هذه الحركات إلا فى الحصول على مشاركة القوى الاستبدادية؛ استعمارية أو محلية، بقدر من النفوذ السلطوى ( عائلات حكم- نظم عسكرية- مقاعد برلمانية.. الخ).. وهذه "القابلية للمشاركة" مع القوى الاستعمارية أو الاستبدادية مقابل السلطة باسم الدين- هى التى جعلت المشروع الكولونيالى قديما، ثم الامبريالى حديثا يبحث دائما عن أساليب الالتقاء بقوى "الصحوة الاسلامية"، طالما أقامت هذه القوى مصادر قوتها على فكر سلفى محافظ من جهة، وقوى السوق والتجارة المحلية والمشروع الصغير من جهة أخرى، وهذه نفسها من مسلمات "المنطلقات الغربية" التي تصدرها للعالم الثالث ؛ كما اثبتتها التطورات الحديثة!

عصر "الصحوة"

ومما ساعد "الغرب" فى مسيرة "الالتقاء" بالمشروع الإسلامى، انغلاق ذلك الاخير على "أممية ذاتية"، لم تضايق- بل ساعدت كما سنرى- الاممية أو العولمة الامبريالية، التى راحت ترتب فضاءاتها بقوة منذ بدء الحرب الباردة، ومنافسة معسكر الاشتراكية لها فى المنطقة.

بدات الحركة الإسلامية تثبت جدواها للقوى الامبريالية كمبرر محلى لتقسيم كتلة كبرى فى وجه الاستعمار البريطانى مثل الهند، وإقامة دولة باكستان كدولة دينية" أو بزعم الإسلامية، لتصير إحدى قواعد "الغرب" البارزة فى قلب آسيا فى مواجهة السوفيت والصين والوطنية الهندية". وكان ذلك فى وقت تقام فيه إسرائيل كدولة ذات أساس ديني أيضا باسم اليهودية ، بل ويعلن المستوطنون فى جنوب أفريقيا نفسها دولتهم على أساس عرقى ضيق، وبايديولوجيا شبه دينية عن "رسالة" الشعب المسيحى الابيض المختار". وحتى إقامة حلف بغداد وحلفاء السنتو" فى الخمسينيات (باكستان- تركيا- العراق) ضد الشيوعية الدولية وضد حركة التحرر الوطنى الإقليمية الصاعدة. والتقى المشروع الاستعمارى بالسعودية ليحمل اسم الحلف الإسلامى....وقد ارتضت هذه "الإسلامية" العزلة عن الحركات الاقليمية الأوسع للتحرر مثل "باندونج"، و"عدم الانحياز"، والعالمثالثية الخ، مفضلة البقاء فى حضن السلطة الامبريالية ومشاريعها، فى وجه الدول الوطنية المحلية ( خروج الاخوان إلى الرحاب الأمريكى بقيادة سعيد رمضان من أوربا بعد صدامهم مع عبد الناصر 54/55)

ومن هذا "التراضى و" القابلية للمشاركة" مع القوى الغربية نفسها، المنافسة ثقافيا والمقبولة "سياسيا"، تمثل القبول لدى الاخوان المسلمين والحركات الاسلامية ، بفصل "الدينى" عن السياسى" لفترة –وبدرجات مختلفة - من أجل السلطة، ومن هذا المنطلق تدرج مشروع "الصحوة الإسلامية" ليقبل بمصطلح الاسلام السياسى وجدله، أو ليضع "الإسلام هو الحل" شعارا غامضا بين السياسى والدينى. وفى هذا الاطار قبلت تنظيماته الاخوانية والجهادية، الحوار مع القوى الامبريالية فى أكبر مشروع للالتقاء بها فى افغانستان بحجة معاداة الشيوعية ولعل أحاديث المستشار "بريجنسكى" والرئيس ريجان فى هذا الصدد (تكريم المجاهدين، ودور نظام السادات في التجنيد للحرب فى أفغانستان، بالتعاون مع الجماعات الاسلامية والأمريكيين ومما يندى له جبين أى مسلم!

وقد بات "المشروع الاسلامى" دائما قابلا "للتعاون" مع "العدو الاستعمارى" الذى لا ترد سيرته إلا باعتباره "الغرب الحضارى"،او الغرب الكافر، مما يعنى لدى "المواطن" ان المشكلة "ثقافية" دائما، يتغلب عليها بالارتباط "بالدعوة" والولاء للتنظيم الغامض ذى الخطط الكبرى، وتحقيق المصالح الفردية الجزئية، من خلال ارتباط معمق بالمشروع الرأسمالى العالمى. ولا يقيم هذا "المواطن المؤمن"- وفق الرسائل الدينية- اية صلة بين الرأسمالية الاسلامية الكبيرة التى دعمتها الريعية الخليجية منذ السبعينيات –بما قدمته من فرص العمل والاستثمارات- وبين مسايرة هذا الغرب" فى مشروعاته الاقليمية الكبرى.

هكذا التقى "المشروع الاسلامى" بمشروع "انور السادات" المحلى والدولى فى مصر،فى السبعينيات من القرن العشرين، فجاء الاسلاميون بألوانهم الوهابية السلفية، والاخوانية والجهادية ،وكذلك بأموالهم من دول الخليج ليدعموا مشروع السادات الذى قام على أساس مقاومة القوى التقدمية التحديثية ، والذى عزل مصر عن أى مجال له صلة بماضى التحرر الوطنى أو بناء الدولة المستقلة الحديثة ، فالرأسمالية الاسلامية التجارية لاتجادل أفكار التحديث (الغربية ) وإنما تخدم الاستهلاكية والتقنية الغربية أيضا بدون تحفظ.

وفى هذا الاطار تصادم "جناح جهادى" مع السادات وقتله بقدر تصورهم لبعد السادات عن "السلفية" الدينية الخالصه، بينما بقى الاخوان والوسط الاسلامى- يحاورون مشروع السادات نفسه مستمرا فى نظام مبارك. ووصل الاخوان إلى حد القبول بنسبه ملحوظة من مقاعد البرلمان (2005) مقابل الوعد بدعمه وقبول توريث الحكم لأبنه باعتباره "أبو الأمة" كما صرح أحد مرشديهم!

لقد فشل التصور الإسلامى فى تجربة التعاون مع الدولة الوطنية سواء بنمطها الناصرى – أو غيره- وتعمق بذلك انسلاخ الإسلام السياسى عن الوطنية "القطرية " تمسكا بالامميه وحدها، وأدى بهم هذا التناقض مع الدولة الوطنية التى كسبت منهم معظم الارض ببرامجها الاجتماعية ومشروعاتها الدولتية إلى انحصارهم فى الاقتصادوية ، وهيمنة الرأسماليين منهم على القرار، بل وعلى مسيرتهم فى حضن الريعية الخليجية ، وتحركهم الأساسى فى فضاءات العولمة التى هى بالضرورة إمبريالية.

لم يبق من "البعد الدينى" لدعاواهم وتحركاتهم الدولية فى هذه الأطر إلا تبرير فج للتعاون مع قوى "الغرب " – المعادية أساسا – فى نظرهم – للإسلام، بحجة أنها معسكر أهل الكتاب فى الحرب الصليبية الجديدة ضد الشيوعية والإلحاد و"ملل الكفر" ! وبدت سريعا ممثلة فى حالة أفغانستان ضد السوفييت ، كما برر شيوخ فلسفة السوق توجهاتها الاقتصادوية والتحرك برأس المال الكبير هنا وهنالك، لأن الإسلام ضد" التدخلية " الاقتصادية ومع التسليم"بالتوزيع الإلهى للثروة "خلافا لما تشيعه فلسفات الدولة الوطنية ، المناقضة أو العقبة أمام المشروع الإسلامى.

لم أفهم أبدا هذا الاقتراب –الإخوانى- من "الغرب "الاستعمارى" إلا من خلال قراءته عبر الاقتصاد السياسى لتطور"المشرق"، وكيف يؤدى ذلك إلى هذا القدر من "الانتهازية" السياسية فى التعاملات الدولية أو حتى التحالفات المحلية .ورغم معرفتى بعدم انشغال معظم عناصر الاخوان المسلمين بالفلسفة، متوقفين عند بساطة السنة الاشعرية ، كارهين لطاقة التفكير المعتزلى ، متوقفين فى الختام عند قدرة "القطبية" على الإقصاء الكامل لمعسكر الفكر والتحديث ، إلا إنى أعرف أن الجماعات الاسلامية الأحدث، بدت أكثر "تأصيلا" فى هذا المجال . لكن أى قارئ هادئ لرحلة الاسلام السياسى الفكرية ، لابد أن يتوقف عند بعض أبعاد قراءاتهم لابن تيمية وحده باعتباره " سلفيا" مفرطا –عندضرورة استعماله- وليس مجرد أشعرى أو تبسيطى . وقد هدهد فكرى مبكرا كتاب عبد الرحمن الشرقاوى عن ابن تيمية من خلال بعد سياسى آخر بالغ الخطورة ، وهو"البعد الوطنى" لوقفته الشديدة أمام الاعتراف باسلام المغول عندما هاجموا الشام ، وكاد ابن تيمية أن يكفر علماء المسلمين الذين اعترفوا وتعاملوا مع هؤلاء الغزاة!

من هنا تبدو غرابة هذا التماهى "الاخوانى" مع"الاممية الغربية "التى لايفسرها إلا الاقتصاد السياسى للرأسماليين الاسلاميين، مقابل الوطنى والمحلى ، وليس لخلاف فى النظرة الدينية ، وهذا التجاوز للوطنى ، والحوار الداخلى ، هو الذى رسٍخًٍ سياسات التبعية عندهم ، وصعًب التحالفات الوطنية الديمقراطية ... إن "القطبية " المهيمنة الآن على الاخوان المسلمين فى مصر خاصة ، والسلفية المفرطة عند الجماعات الاسلامية هى التى تعزلهم بهذه الحدة عن الحوار مع الحداثة باسم كراهية "العلمانيه ، مع أنهم لابد أن يذكروا كيف تعادوا مع هذا النهج منذ مقاومة "الهضيبى" فى الخمسينات، واجتهادات " محمدالغزالى " بعد ذلك، أو العجز عن معايشة الناصرية منذ مراجعاتها فى السبعينيات.

وقد ظل "المشروع الاسلامى" يخدم هذه السياسة الانعزالية أو الاقصائية طوال الوقت فى مصر والسودان وتونس والعراق وفلسطين بصور مختلفة، مثلما يخدم على نحو ما فى الجزيرة العربية، وكانت اخر سوءاته ارتضاء الحرب الأهلية مع "الجهاد" في سوريا بديلا رخيصا للتدخل الامريكي، ونيابة عنه.

القفز على الثورة

تفجرت ثورة يناير 2011، وفى إطار تطورات هذه الثورة، سارع الاخوان المسلمون بعرض قابليتهم "للتعاون" منذ اللحظات الاولى، بالتفاهم مع عمر سليمان نائب مبارك لوراثة "سلطته" بهدوء، ثم مع المجلس العسكرى،الذى آلت إليه السلطة، ورغب فى التهدئة بدوره ، لطمأنة "الغرب" أو لاستقرار الاوضاع بسرعة للمصالح السائدة المتراضين عنها من قبل، وهى طبقية و"غربية" بالأساس. وكان الأهم هو تمريركل ذلك عن طريق وجود الاخوان فى السلطة، حتى لو تبع ذلك الصدام مع الثوريين. والعسكريين على السواء.

لقد أدى الحرص على السلطة- وهو حرص تاريخى وطبقى- إلى قبول المشروع الاسلامى بقيادةالاخوان المسلمين وأشياعهم لنفس المواقف الخاطئه للحركات الاسلاميه و التي يمكن أن يتذكرها المرء فى باكستان ، والسودان، والصومال، وغزة، والعراق، بطريقة مهينة لأى "مشروع حضارى" يدعوه! إنهم الذين جعلوا إحدى البلاد بسهولة قاعدة لأعمال المخابرات أو المواجهات الدولية (باكستان)، أو للمناورات السياسية (مع بن لادن وكارلوس فى السودان) أو لقبول النفوذ الغربى والاثيوبى فى الصومال، أو تيسير التوافق بين إسرائيل وحماس (فلسطين)، أو المضى مع المجلس العسكرى فى مصرعقب الثوره لاستمرار قبول اتفاقات "كامب ديفيد ، أو عدم مراجعتها مضحين بالمطالب الشعبية من أجل استقرار "سلطتهم" وضمان أصوات السلفيين ذوي النفوذ فى سيناء ، خلال الانتخابات العامة القريبة(2013) ! ولهذا الغرض نفسه ، ضاعفوا من اقترابهم من الادارة الأمريكية لتوافق على الإطاحة بسلطة المجلس العسكرى فى الحكم ، ومنحهم الشرعية الكاملة فى السلطة. (تصاعد الاتصال المباشر والمخابراتى بين الاخوان والأمريكيين منذ 2009/2010 وفق روايات صديقهم سعد الدين ابراهيم..!).

ولاتشير المواقف خلال إعداد الدستورأو صياغةهيكل الحكم ومحكومية المجتمع فى مصر(2012/2013) إلى إخلاص "دينى" ملحوظ لدى الاخوان المسلمين وفق شعارات "الإسلام هو الحل"! ولابد أن المراقب قدلاحظ طبيعة إلتفافاتهم البراجماتيه بشأن القضايا الدينية ، تاركين ذلك للجماعات السلفية والجهادية الاسلامية التى تطرفت كثيرا نيابة عن الاخوان!، وعندما أصبح الأمر يتعلق باقتصادياتهم الطبقية أثاروا المسألة الدينية فقط بالنسبة لشرعية "الصكوك"!

وهذا الفصل –الظاهرى- بين "الدين" و"السلطة" عند الضرورة هوالذى تصوروا قبولهم به كتأمين نفسى لدى أوسع الجماهير ليبقى الأمان السياسى فى يد النخبة الاخوانية.

ولاننسى أن هذا الوضع قد ضمن مساحات من الحوار مع بعض التيارات السياسية القائمة- ولو يسارية – والتى ظلت-لفتره- تسلم بحق الاخوان فى "السلطة الشرعية"، وبمنطق الحوار أو المشاركة المحدودة معهم ، باعتبارأن الاخوان المسلمين تيار شعبى – ثقافى اجتماعى واسع تستوجب العملية الديمقراطية القبول به .وهذا الوضع هو الذى أراح الادارة الامريكية أيضا فى السنوات الأخيرة لأنهم بذلك يضمنون الجيش وقيادة المجتمع "الاسلامية" دون "ضجيج" بعض عناصر النخبة السياسية المعادية أو المختلفة مع كثير من أبعاد المشروع الأمريكى.

معنى ذلك ان خسارة "السلطة" عند الاخوان المسلمين الآن(منتصف 2013) باتجاهاتهم البرجماتية – تعنى عند الكثيرين منهم خسارة المشروع كله، مهددة حضور الاسلام السياسى ومشروعاته بمقتل، حتى باعتباره مشروعا "دينيا" صالحا للمنافسة الديمقراطية، أو أن يبقى مشروعا مجتمعيا كفضاء للدعوة...! ذلك أن المشروع الاسلامى السياسى لا يتضمن عناصر المنافسة إلى حد كبير... فهو مشروع مغلق، يخشى من الفكر الحديث منذ "المودودى" و "سيد قطب"، مما أدى إلى عزلته الدائمه عن حداثيين مثل بعض شيوخ الازهراو"مالك بن نبى" او "اركون" او "نصر حامد ابو زيد" أوحركة الاصلاح الدينى وحركات التحرير الوطنية، بل وأدى إلى اختلاف اخوان مصر حتى مع "راشد الغنوشى" لتفكيره الحداثى احيانا . فالمشروع لم يقم ابدا على بنية اجتماعية استقلالية تعتمد على العمل الاجتماعى الديمقراطى، بل اعتمد دائما على احتضانه من قبل مشروع أقوى منه ، رغم ادعائه القوة الذاتية ، فكان اعتماده على القصر الملكى قبل ثورة يوليو أو النفوذ الاستعمارى المطروح منذ الحرب العالمية الاولى، وكأنه ينافس المشروع الصهيونى فقط فى تنازع الولاء للاستعمار القديم والجديد.

مشروع الاخوان المسلمين والجماعات الاسلامية لم يستطع أن يهضم تطور التحديث الدينى الذى شهده العالم الثالث فى لاهوت التحرير، ولا بعض التيارات داخلهم (محمد الغزالي) ولامحاولة بعض اليساريين الانحياز لهم (عادل حسين) أو طرح شخصيات مثقفه لمشروع اليسار الاسلامى (حسن حنفى وعابد الجابرى)، مما يبقى السؤال قويا حول إمكان أن يحكموا بهذا الانغلاق وهذا التعويق لتطور المجتمع الديمقراطي من أجل تمكين سلطة الدولة الاسلامية لهم وحدهم مهما كان وضوح عملية الاقصاء.

من هنا ظل الصراع قائما رغم كل التصورات السياسية والمجتمعية فى مصر بين التحديثى ( بما أسماه الاخوان والسلفيون: العلمانى)، وراهن العلمانيون أنفسهم على ديمقراطيته، وبين "الثقافى" الذىيحيل إلى المشروع الحضارى ، بل ويصل إلى معنى الاسلام السياسى. هذه الصيغة المعوقة للتقدم هى ما أسماه "محمود ممدانى" –المفكر الافريقى – مأزق أفريقيا الحديثة فى صراعها السياسى –بين الحضرى النخبوي الحداثي وبين الريفي التقليدي في القاره، ومقابله هنا الديني الريفي او البدوي معا- لكنه يتجسد في حالة من الصراع الدموى –وليس الحضارى – فى الشرق الأوسط.

وبهذا التراث دخلوا مجال الثورة فى مصر، بل وعادوا سريعا إلى الإتصال بالدوائر الأمريكية التى رحبت بهم كمنافسين منذ تجربة نظام مبارك نفسه، ومن داخل المشروع الأمريكى للشرق الأوسط بالتأكيد . ومع تصارع الادوار بعد الثورة بدا الاخوان متعجلين فى العمل فى هذه البنية بعد ان انتهوا من منافسة مبارك ، فبدوا مع نظام "قطر" و"الاتراك"، يمثلون التوافق الأمريكى الجديد فى الشرق الأوسط ، ولم يبالوا حتى بأصولهم فى السعودية..! وسعد الامريكيون بالطبع بقيادة الاخوان للمنطقة ، باعتبارهم الأوفر حظا فى الاستقرار وضمان امن اسرائيل من نظم قلقة او حركات شعبوية غير مأمونة، ولأنهم يضمنون بقية الدول فى كل الاحوال بحكم نفوذ "مصر" المعروف.

تجاوز الثورة

لا تعرف أدبيات المشروع الاسلامى الاممى المغلق ، وحتى"مشروع النهضة" الذى طرحوه انتخابيا2012 مفاهيم " الجماهير الشعبية" أو "الثورة" "أو التطور الدستورى" مثلا رغم انهم يتحدثون اليوم كثيرا عن "الإرادة الشعبية" (والارادة عندهم لله وحده)، وعن احترام الدستور (والقرآن وحده هو الدستور) وعن الثورة، وهم ينبذون الإسم نفسه لأنه مرتبط بثورة يوليو 1952 أو الثورات الشيوعية !. وهم لم يشاركوا فى انتفاضة 25 يناير2011إلا للنفاذ إلى القمة لأن الأساس هو أن( الخروج بما يشبه الفتنة على الحاكم المسلم محرم شرعا-ومع ملاحظة انهم قد يفضلون الانقلابات مثل ماقاموا به في السودان 1989 ضد حكومة صادق المهدي الاسلاميه ! ) اما الدائرة الخارجية فتخضع لمفهوم الأمة الاسلامية ويمثلها عندهم ظاهريا المؤتمر الاسلامى أو الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين الممولين من دول الخليج، ليظل المفهوم الفعلى هو لنفوذ مكتب الارشاد والتنظيم الدولى للاخوان المسلمين.

وليلاحظ: القارئ أن كل هذا الانغلاق هو الذى أورثهم بسهولة نمط نظام مبارك فى العزلة السياسية إزاء قضايا مصر الحيوية على المستوى العربى والافريقى، من العراق وفلسطين حتى الصومال ودارفور إلى حوض النيل، والدائرة الافريقية مكتملة. كما ادى انغلاق المشروع الاسلامى على فلسفته الاقتصادية التجارية، أن يبقى رهن سياسة السوق الرأسمالى الكبير لصالح رموزهم المعروفة أو الترويج لآلية المشروعات الصغيرة لاستيعاب الفقراء، ولينتهوا إلى الرضى بروشتة صندوق النقد الدولى، استمرارا لسياسة مبارك أيضا.

وليس تسارع الاخوان الي التوسع فى سياسة السوق الحرة وروشتة صندوق النقد الدولى إلا استمرارا لتأثير ما أسماه سمير أمين يوما "بفيروس الامبريالية " إشارة إلى علاقة الرأسمالية مع الإمبريالية ...فطريق الرأسمالية المعولمة لايؤدى في غالب الحال الا إلى إطار السياسات الامبريالية التى بات الاخوان المسلمون جزءا منها فى الشرق الأوسط رغم بقاء الثقافى (الدينى) فى الجعبة السلفية!

لذلك خرجت الجماهير فى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 ضد النظامين، من أجل مصر.. دولة وطنية مدنية مستقلة، وليس خلافا حول اسلام مصر أو تدينها... فالاخوان فصلوا الدين عن الدولة واقعيا منذ وقت مبكر طلبا للسلطة، وليبقى شعار "الاسلام هو الحل" مجرد بديل رمزى للدولة التسلطية.ولا يخفى على أى مراقب أنهم خلال العامين الأخيرين لم يثيروا مسائل "دينية " تذكر ، فقد عشنا طول الوقت فى مأزق ترتيباتهم لمسائل "التمكين السياسى" تاركين قضايا "التطرف الدينى" والتمكين الاجتماعى للجماعات الاسلامية والحركة السلفية ، وكافة مسميات التخلف الفكرى فى المجتمع، والتى أربكت أمامهم العمل السياسى والمجتمعى على السواء . وحين لم تقبل الجماهير ذلك كما بدا فى 30 يونيو 2013 فإنها بذلك تُخرج الاخوان من التاريخ الحديث ، وإن تعددت أشكال عنفهم ضد هذه الحقيقة.

التساؤلات :يطرح المستقبل القريب فى مصر عدة تساؤلات:

1- هل يعالج الاخوان أزمتهم التاريخية بقبول صيغة الحزب السياسى الاسلامى (مثل الديمقراطى المسيحى) ومن ثم القبول بالعملية الديمقراطية المدنية-الوطنية؟ ،أم يظل الاحتمال هو حالات المواجهة من قبل نخبة تدربت لنصف قرن على الأقل، على الادعاء بأن الدين والدولة لاينفصلان وان "الجهاد" –وليس المعارضه-هو بديل السياسه، وأن أممية الحركة هى مصدر قوتهاالاقتصادية ، فضلا عن دورها الاقليمي في التعاون مع الغرب؟

2- هل تعود الولايات المتحدة إلى الثقة بالعسكريين وحدهم فى دول الربيع العربى نفسها أو خارجها، إزاء فشل الاسلاميين، مثلما تحولت للعسكريين في افريقيا فى الستينيات إزاء مشاكلها مع حركات التحربر الوطنية؟

3- هل تؤدى إحباطات الجماهيرإلى تجاهل القوى السياسية التقليدية إلا لمن إتجه منها إلى خيارات اجتماعية متقدمة، وتجديد دماء العمل السياسى الثورى مما قد يدفع القوى الاخرى إلى التسليم للعسكريين بشرعية السلطة باعتبارهم أكثر المؤسسات تنظيما وحداثة؟

فى هذه الصورة فإنه مالم تقم القوى الاجتماعية الديمقراطية الحقيقية (تنظيمات شعبية ومدنية ونقابية...) باحتواء الموقف، فإن التطرف الاسلامى أو الشبابى اليسارىقد يبقي مصر- ولو لبعض الوقت- بسهولة فى إطار الخيار العسكرى.