طوق الحمامة/قبح المعصية
→ باب الموت | طوق الحمامة قبح المعصية ابن حزم |
باب فضل التعفف ← |
قال المصنف رحمه الله تعالى: وكثير من الناس يطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم ويتبعون أهواءهم، ويرفضون أديانهم، ويتجنبوا ما حض الله
تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة الهوى ويخالفون الله ربهم، ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطية
فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا أن الله عز وجل ركب في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على
حسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل.
والثانية: ضد لها لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة. والله تعالى يقول: "إن النفس لأمارة
بالسوء". وكنى بالقلب عن العقل فقال: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد". وقال تعالى: "وحبب ألكم
الإيمان وزينه في قلوبكم". وخاطب أولي الألباب.
فهاتان الطبيعتان قطبان في الإنسان، وهما قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، ومطرحان من مطارح شعاعات هذين الجوهرين العجيبين الرفيعين العلويين ففي كل جسد منهما حظه على قدر مقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد، تقدست أسماؤه حين خلقه وهيأه. فهما يتقابلان أبداً ويتنازعان دأباً، فإذا غلب العقل النفس ارتدع الإنسان وقمع عوارضه المدخولة واستضاء بنور الله واتبع العدل وإذا غلبت النفس العقل عميت البصيرة، ولم يصح الفرق بين الحسن والقبيح، وعظم الالتباس وتردى في هوة الردى ومهواة الهلكة، وبهذا حسن الأمر والنهي، ووجب الاكتمال، وصح الثواب والعقاب، واستحق الجزاء. والروح وأصل بين هاتين الطبيعتين، وموصل ما بينهما، وحامل الالتقاء بهما وإن الوقوف عند حد الطاعة لمعدوم إلا بطول الرياضة وصحة المعرفة ونفاذ التمييز، ومع ذلك اجتناب التعرض للفتن ومداخله الناس جملة والجلوس في البيوت، وبالحري أن تقع السلامة المضمونة أن يكون الرجل حصوراً لا أرب له في النساء ولا جارحة له تعبنه عليهن قديماً.
وورد: من وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقى شر الدنيا بحذافيراها. واللقلق: اللسان. والقبقب: البطن. والذبذب: الفرج ولقد أخبرني أبو حفص الكاتب هو من ولد روح بن زنباع الجذامي، أنه سمع بعض المتسمين باسم الفقه من أهل الرواية المشاهير، وقد سئل عن هذا الحديث فقال: القبقب. البطيخ.
وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد، ثنا وهب بن مسرة ومحمد بن أبي دليم عن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: "من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة". فسئل عن ذلك فقال: "ما بين لحييه وما بين رجليه".
وإني لأسمع كثيراً ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولاً لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواه، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في شرك الشيطان واستهوته المعاصي واستفزه الحرص وتغوله الطمع، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته، حتماً مقضياً وحكماً نافذا لا محيد عنه البتة.
ولقد أخبرني ثقة صدق من إخواني من أهل النماء في الفقه والكلام المعرفة وذو صلابة في دينه، أنه أحب جارية نبيلة أديبة ذات جمال بارع، قال: فعرضت لها فنفرت، ثم عرضت فأبت. فلم يزل الأمر يطول وحبها يزيد، وهي لا تطيع البتة، إلى أن حملني فرط حبي لها مع عمي الصبي على أن نذرت أني متى نلت منها مرادي أن أتوب إلى الله توبة صادقة. قال: فما مرت الأيام والليالي حتى أذعنت بعد شماس ونفار. فقلت له: أنا فلان، وفيت بعهدك؟ فقال: أي والله، فضحكت.
وذكرت بهذه الفعلة ما لم يزل يداول في أسماعنا من أن في بلاد البربر التي تجاور أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره ممن أراد أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك. وينكرون على من تعرض له بكلمة ويقولون له: أتحرم رجلاً مسلماً التوبة.
قال: ولعهدي بها تبكي وتقول: والله لقد بلغتني بملغاً ما خطر قط لي ببال، ولا قدرت أن أجيب إليه أحداً.
ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجوداً. وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني الصلاح، غلطاً بعيداً والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت. والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل. والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات والصالحان من الرحال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.
وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا. ولهذا حرم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية. وقد جعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تأمل امرأة وهو صائم حتى يرى حجم عظامها فقد أفطر". وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنص التتريل لشيئاً مقنعاً. وفي إيقاع هذه الكلمة، أعني الهوى. اسماً على معان، واشتقاقها عند العرب، وذلك دليل على ميل النفوس وهويها إلى هذه المقامات. وإن المتمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها.
وشيء أصفه لك تراه عياناً، وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلاً يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأنت بكلام زائد كانت عنه في غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك. ورأيت التهمم لمخارج لفظها وهيئة تقلبها لائحاً فيها ظاهراً عليها لا خفاء به. والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء. وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان. والله عز وجل يقول: "وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم"، وقال تقدست أسماؤه: "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن". فلولا علم الله عز وجل برقة إغماضهن في السعي لإيصال حبهن إلى القلوب، ولطف كيدهن في التحيل لاستجلاب الهوى، لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى، وهذا حد التعرض فكيف بما دونه.
ولقد اطلعت من سر معتقد الرجال والنساء في هذا على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في. وحدثنا أبو عمر وأحمد بن أحمد، ثنا أحمد، ثنا محمد بن علي بن رفاعة، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغيرة من الإيمان". فلم أزل باحثاً عن أخبارهن كاشفاً عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون منبهاً على عورات يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبهن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب، وإني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله وكفى به علماً أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ علقت إلى يومي هذا. والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقي.
حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حجاف المعافري، وإنه لأفضل قاض رأيته، عن محمد بن إبراهيم الطليطلي عن القاضي بمصر بكر بن العلاء في قول الله عز وجل: "وأما بنعمة ربك فحدث". أن لبعض المتقدمين فيه قولا، وهو أن المسلم يكون مخبراً عن نفسه بما أنعم الله تعالى به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعم، ولا سيما في المفترض على المسلمين اجتنابه وأتباعه. وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقصوراً محظراً على بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي عقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاس في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي شيخنا وأستاذي رضي الله عنه، وكان أبو علي المذكور عاقلاً عاملاً عالماً ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة، وأحسبه كان حصوراً لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جملة علماً وعملاً وديناً وورعاً، فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي: ومات أبو علي رحمه الله في الطريق الحج.
ولقد ضمنى المبيت ليلة في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي مشهورة بالصلاح والخير والحزم، ومعها جارية من بعض قراباتها من اللاتي قد ضمنها معي النشأة في الصبا، ثم غبت عنها أعواماً كثيرة. وكنت تركتها حين أعصرت ووجدتها قد جرى على وجهها ماء الشباب ففاض وأنساب، وتفجرت عليها ينابيع الملاحة فترددت وتحيرت، وطلعت في سماء وجهها نجوم الحسن فأشرقت وتوقدت، وانبعث في خديها أزاهير الجمال فتمت وأعتمت، فأتت كما أقول:
وكانت من أهل بيت صباحة، وقد ظهرت على صورة تعجز الوصاف، وقد طبق وصف شبابها قرطبة، فبت عندها ثلاث ليال متوالية ولم تحجب عني على جاري العادة في التربية. فلعمري لقد كاد قلبي أن يصبو ويثوب إليه مرفوض الهوى، ويعاوده منسى الغزل. ولقد امتنعت بعد ذلك من دخول تلك الدار خوفاً على لبي أن يزدهيه الاستحسان. ولقد كانت هي وجميع أهلها ممن لا تتعدى الأطماع إليهن، ولكن الشيطان غير مأمون الغوائل. وفي ذلك أقول:
وأقول:
وما أورد الله تعالى علينا من قصة يوسف بن يعقوب وداود بن إيشى رسل الله عليهم السلام إلا ليعلمنا نقصاننا وفاقتنا إلى عصمته، وأن بنيتنا مدخولة ضعيفة، فإذا كانا صلى الله عليهما وهما نبيان رسولان أبناء أنبياء رسل ومن أهل بيت نبوة ورسالة متكررين في الحفظ مغموسين في الولاية، محفوفين بالكلاءة، مؤيدين بالعصمة، لا يجعل للشيطان عليهما سبيل ولا فتح لوسواسه نحوهما طريق وبلغا حيث نص الله عز وجل علينا في قرءانه المترل بالجبلة الموكلة والطبع البشري والخلقة الأصلية، لا بتعمد الخطيئة ولا القصد إليها، إذ النبيون مبرؤون من كل ما خالف طاعة الله عز وجلن لكنه استحسان طبيعي في النفس للصور، فمن ذا الذي يصف نفسه مملكها ويتعاطى ضبطها إلا بحول الله وقوته. وأول دم سفك في الأرض فدم أحد ابني آدم على سبب المنافسة في النساء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء". وهذه امرأة من العرب تقول وقد حبلت من ذي قرابة لها حين سئلت: ما ببطنك يا هند؟ فقالت: قرب الوساد وطول السواد. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
وإني لأعلم فتى من أهل الصيانة قد أولع بهوى له، فاجتاز بعض إخوانه فوجده قاعداً مع من كان يحب، فاستجلبه إلى مترله، فأجابه إلى مترله بامتثال المسير بعده. فمضى داعيه إلى مترله وانتظره حتى طال عليه التربص فلم يأته. فلما كان بعد ذلك اجتمع به داعيه فعدد عليه وأطال لومه على إخلافه موعده، فاعتذر وورى. فقلت أنا للذي دعاه: أنا أكشف عذره صحيحاً من كتاب الله عز وجل إذ يقول: "ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم". فضحك من حضر. وكلفت أن أقول في ذلك شيئاً فقلت:
ولي كلمتان قلتهما معرضاً بل مصرحاً برجل من أصحابنا كنا نعرفه كلنا من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل واقتفاء آثار النساك وسلوك مذاهب المتصوفين القدماء باحثاً مجتهداً، وقد كنا نتجنب المزاح بحضرته، فلم يمض الزمن حتى مكن الشيطان من نفسه، وفتك بعد لباس النساك، وملك إبليس من خطامه فسول له الغرور، وزين له الويل والثبور، وأجره رسنه بعد إباء. وأعطاه ناصيته بعد شماس، فخب في طاعته وأوضع، واشتهر بعد ما ذكرته في بعض المعاصي القبيحة الوضرة، ولقد أطلت ملامه وتشددت في عذله إذ أعلن بالمعصية بعد استتار، إلى أن أفسد ذلك ضميره علي، وخبثت نيته لي، وتربص بي دوائر السوء، وكان بعض أصحابنا يساعده بالكلام استجراراً إليه، فيأنس به ويظهر له عداوتي، إلى أن أظهر الله سريرته، فعلمها البادي والحاضر، وسقط من عيون الناس كلهم بعد أن كان مقصداً للعلماء ومنتاباً للفضلاء، ورذل عند إخوانه جملة. أعاذنا الله من البلاء، وسترنا في كفايته، ولا سلبنا ما بنا من نعمته. فيا سوءتاه لمن بدأ باستقامة ولم يعلم أن الخذلان يحل به وأن العصمة ستفارقه، لا إله إلا الله، ما أشنع هذا وأفظعه. لقد دهمته إحدى بنات الحرس، وألقت عصاها به أم طبق. من كان لله أولاً ثم صار للشيطان آخراً، ومن إحدى الكلمتين:
وكان هذا المذكور من أصحابنا قد أحكم القراءات إحكاماً جيداً، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتداء اختصاراً حسناً أعجب به من رآه من المقرئين، وكان دائباً على طلب الحديث وتقييده، والمتولي لقراءة ما يسمعه على الشيوخ المحدثين، مثابراً على النسخ مجتهداً به.
فلما امتحن بهذه البلية مع بعض الغلمان رفض ما كان معتنياً وباع أكثر كتبه واستحال استحالة كلية، نعوذ بالله من الخذلان، وقلت فيه كلمة وهي التالية للكلمة التي ذكرت منها في أول خبره ثم تركتها.
وقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرويدي في كتاب اللفظ والإصلاح: أن إبراهيم بن سيار النظام رأس المعتزلة، من علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة، تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه بأن وضع له كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد.
فيا غوثاه عياذك يا رب من تولج الشيطان ووقوع الخذلان. وقد يعظم البلاء، وتكلب الشهوة، ويهون القبيح وبرق الدين حتى يرضى الإنسان في جنب وصوله إلى مراده بالقبائح والفضائح، كمثل ما دهم عبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الحزيري، فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعاً في الحصول على بغيته من فتى كان علقه. نعوذ بالله من الضلال ونسأله الحياطة وتحسين آثارنا وإطابة أخبارنا، حتى لقد صار المسكين حديثاً تعمر به المحافل، وتصاغ فيه الأشعار، وهو الذي تسميه العرب الديوث. وهو مشتق من التدييث، وهو التسهيل. وما بعد تسهيل من تسمح نفسه بهذا الشأن تسهيل، ومنه بعير مديث. أي مذلل. ولعمري إن الغيرة لتوجد في الحيوان بالخلقة، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مصاب. ولقد كنت أعرف هذا المذكور مستوراً إلى أن استهواه الشيطان ونعوذ بالله من الخذلان. وفيه يقول عيسى بن محمد بن محمل الحولاني:
وأقول أنا أيضاً:
وأقول أيضاً:
ولقد سمعته في المسجد الجامع يستعيذ بالله من العصمة كما يستعاذ به من الخذلان.
ومما يشبه هذا أني أذكر أني كنت في مجلس فيه إخوان لنا عند بعض مياسير أهل بلدنان فرأيت بين بعض من حضر وبين من كان بالحضرة أيضاً من أهل صاحب المجلس أمراً أنكرته وغمزاً استبشعته، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبهته بالتعريض فلم ينتبه، وكحرمته بالتصريح فلم يتحرك، فجعلت أكرر عليه بيتين قديمين لعله يفطن. وهما هذان:
وأكثرت من إنشادهن حتى قال لي صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما. فأمسكت وأنا لا أدري أغافل هو أم متغافل. وما أذكر أني عدت إلى ذلك المجلس بعدها. فقلت فيه قطعة منها:
وحدثني ثعلب بن موسى الكلاذاني قال: حدثني سليمان بن أحمد الشاعر قال: حدثتني امرأة اسمها هند كنت رأيتها في المشرق، وكانت قد حجت خمس حجات، وهي من المتعبدات المجتهدات، قال سليمان: فقالت لي: يا بن أخي، لا تحسن الظن بامرأة قط فإني أخبرك عن نفسي بما يعلمه الله عز وجل: ركبت البحر منصرفة من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة نسوة، كلهن قد حججن، وصرنا في مركب في بحر القلزم، وفي بعض ملاحي السفينة رجل مضمر الخلق مديد القامة واسع الأكناف حسن التركيب، فرأيته أول ليلة قد أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها وكان ضخماً جداً. فأمكنته في الوقت من نفسها. ثم مر عليهن كلهن في ليالي متواليات، فلم يبق له غيرها، تعني نفسها، قالت: فقلت في نفسي: لأنتقمن منك. فأخذت موسى وأمسكتها بيدي. فأتى في الليل على جاري عادته. فلما فعل كفعله في سائل الليالي سقطت الموسى عليه فارتاع وقام لينهض. قالت: فأشفقت عليه وقلت له: وقد أمسكته: لا زلت أو آخذ نصيبي منك. قالت العجوز: فقضى وطره وأستغفر الله. وإن للشعراء من لطف التعريض عن الكناية لعجبا. ومن بعض ذلك قولي حيث أقول:
وأقول أيضاً قطعة منها:
وإن فيما يبدو إلينا من تعادي المتواصلين في غير ذات الله تعالى بعد الألفة، وتدابرهم بعد الوصال، وتقاطعهم بعد المودة، وتباغضهم بعد المحبة، واستحكام الضغائن وتأكد السخائم في صدورهم، لكاشفاً ناهياً لو صادف عقولاً سليمة وآراء نافذة وعزائم صحيحة. فكيف بما أعد اله لمن عصاه من النكال الشديد يوم الحساب وفي دار الجزاء، ومن الكشف على رؤوس الخلائق: "يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد". جعلنا الله ممن يفوز برضاه ويستحق رحمته.
ولقد رأيت امرأة كانت مودتها في غير ذات الله عز وجل. فعهدتها أصفى من الماء وألطف من الهواء وأثبت من الجبال وأقوى من الحديد وأشد امتزاجاً من اللون في الملون، وأنفذا استحكاماً من الأعراض في الأجسام، وأضوأ من الشمس، وأصح من العيان، وأثقب من ألنجم، وأصدق من كدر القطا وأعجب من الدهر، وأحسن من البر، وأجمل من وجه أبي عامر، وألذ من العافية وأحلى من المنى، وأدنى من النفس، وأقرب من النسب، وأرسخ من النقش في الحجر ثم لم ألبث أن رأيت تلك المودة قد استحالت عداوة أفظع من الموت، وأنفذ من السهم، وأمر من السقم، وأوحش من زوال النعم، وأقبح من حلول النقم وامضى من عقم الرياح، وأضر من الحمق، وأدمر من غلبة العدو، وأشد من الأسر، وأقسى من الصخر، وأبغض من كشف الأستار، وأنأى من الجوزاء، وأصعب من معاناة السماء، وأكبر من رؤية المصاب، وأشنع من خرق العادات وأقطع من فجأة البلاء، وأبشع من السم الزعاف؛ وما لا يتولد مثله عن الذحول والترات وقتل الآباء وسبي الأمهات.
وتلك عادة الله في أهل الفسق القاصدين سواه، الأميين غيره؛ وذلك قوله عز وجل: "يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني". فيجب على اللبيب الاستجارة بالله مما يورط فيه الهوى. فهذا خلف مولى يوسف بن قمقام القائد المشهور، كان أحد القائمين مع هشام بن سليمان بن الناصر، فلما أسر هشام وقتل وهرب الذين وازروه فر خلف في جملتهم ونجا. فلما أتى القسطلات لم يطق الصبر عن جارية كانت له بقرطبة فكر راجعاً. فظفر به أمير المؤمنين المهدي، فأمر بصلبه. فلعهدي به مصلوباً في المرج على النهر الأعظم وكأنه القنفذ من النبل.
ولقد أخبرني أبو بكر محمد بن الوزير عبد الرحمن بن الليث رحمه الله أن سبب هروبه إلى محلة البرابر أيام تحولهم مع سليمان الظافر إنما كن لجارية يكلف بها تصيرت عند بعض من كان في تلك الناحية؛ ولقد كاد أن يتلف في تلك السفرة.
وهذان الفصلان وإن لم يكونا من جنس الباب فإنهما شاهدان على ما يقود إليه الهوى من الهلاك الحاضر الظاهر، الذي يستوي في فهمه العالم والجاهل؛ فكيف من العصمة التي لا يفهمها من ضعفت بصيرته. ولا يقولن امرؤ: خلوت فهو وإن انفرد فبمرأى ومسمع من علام الغيوب "الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور"، "ويعلم السر وأخفى"، "وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا وهو عليم بذات الصدور". وهو عالم الغيب والشهادة، "ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم"، وقال: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب أليه من حبل الوريد. إذ يتلقى الملتقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
وليعلم المستخف بالمعاصي. المتكل على التسويف. المعرض عن طاعة ربه أن إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقربين فلمعصية واحدة وقعت منه استحق لعنة الأبد وعذاب الخلد وصير شيطاناً رجيماً وأبعد عن رفيع المكان وهذا آدم صلى الله عليه وسلم بذنب واحد أخرج من الجنة إلى شقاء الدنيا ونكدها. ولولا أنه تلقى من ربه كلمات وتاب عليه لكان من الهالكين. أفترى هذا المغتر بالله ربه وبإملائه ليزداد إثماً يظن أنه أكرم على خالقه من أبيه آدم الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته الذين هم أفضل خلقه عنده؟ أو عقابه أعز عليه من عقوبته إياه؟ كلا، ولكن استعذاب التمني واستيطاء مركب العجز وسخف الرأي قائدة أصحابها إلى الوبال والخزي، ولو لم يكن عند ركوب المعصية زاجر من نهى الله تعالى ولا حام من غليظ عقابه لكان في قبيح الأحدوثة عن صاحبه وعظيم الظلم الواقع في نفس فاعله أعظم مانع وأشد رادع لمن نظر بعين الحقيقة واتبع سبيل الرشد، فكيف والله عز وجل يقول: "ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً".
حدثنا الهمداني في مسجد القمرى بالجانب الغربي من قرطبة سنة إحدى وأربعمائة. حدثنا ابن سبويه وأبو إسحاق البلخي بخراسان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة. قالا: ثنا محمد بن يوسف: ثنا محمد بن إسماعيل: ثنا قتيبة بن سعيد: ثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله وهو ابن مسعود: قال رجل: يا رسول الله، أي الذيب أكبر عند الله؟ قال: "أن تدعو لله ندا وهو خلقك".
قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك أن يطعم معك". قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". فأنزل الله تصديقها: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". وقال عز وجل: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله".
حدثنا الهمداني عن أبي إسحاق البلخي وابن سبويه عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن المسيب المخزوميين وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". وبالسند المذكور إلى محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال أنى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه. ثم رد عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا. قال فهل أحصنت قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبو به فارجموه.
قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه.
حدثنا أبو سعيد مولى الحاجب جعفر في المسجد الجامع بقرطبة عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر النحاس عن سعيد بن بشر عن عمرو بن رافع عن منصور عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد، وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. فيا لشنعة ذنب أنزل الله وحيه مبيناً بالتشهير بصاحبه، والعنف بفاعله، والتشديد لمقترفه، وتشدد في ألا يرجم إلا بحضرة أوليائه عقوبة رجمه، وقد أجمع المسلمون إجماعاً لا ينقضه إلا ملحد أن الزاني المحصن عليه الرجم حتى يموت". فيا لها قتلة ما أهولها، وعقوبة ما أفظعها، وأشد عذابها وأبعدها من الإراحة وسرعة الموت.
وطوائف من أهل العلم منهم الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه وداود وأصحابه يرون عليه مع الرجم جلد مائة، ويحتجون عليه بنص القرآن وثبات السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل علي رضي الله عنه بأنه رجم امرأة محصنة في الزنا بعد أن جلدها مائة. وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله. والقول بذلك لازم لأصحاب الشافعي، لأن زيادة العدل في الحديث مقبولة، وقد صح في إجماع الأمة المنقول بالكافة الذي يصحبه العمل عند كل فرقة وفي أهل كل نحلة من نحل أهل القبلة، حاشى طائفة يسيرة من الخوارج لا يعتد بهم، أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفر بعد إيمان، أو نفس بنفس، أو بمحاربة الله ورسوله يشهر فيها سيفه ويسعى في الأرض فساداً مقبلاً عير مدبر، وبالزنا بعد الإحصان. فإن حد ما جعل الله مع الكفر بالله عز وجل ومحاربته وقطع حجته في الأرض ومنابذته دينه لجرم كبير ومعصية شنعاء، والله تعالى يقول: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم". "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة". وإن كان أهل العلم اختلفوا في تسميتها فكلهم مجمع مهما اختلفوا فيه منها أن الزنا يقدم فيها، لا اختلاف بينهم في ذلك ولم يوعد الله عز وجل في كتابه بالنار بعد الشرك إلا في سبع ذنوب، وهي الكبائر: الزنا أحدها، وقذف المحصنات أيضاً منها، منصوصاً ذلك كله في كتاب الله عز وجل.
وقد ذكرنا أنه لا يجب القتل على أحد من ولد آدم إلا في الذنوب الأربعة التي تقدم ذكرها. فأما الكفر منها فإن عاد صاحبه إلى الإسلام أو بالذمة إن لم يكن مرتداً قبل منه، ودرئ عنه الموت. وأما القتل فإن قبل الولي الدية في قول بعض الفقهاء أو عفا في قول جميعهم سقط عن القاتل القتل بالقصاص. وأما الفساد في الأرض فإن تاب صاحبه قبل أن يقدر عليه هدر عنه القتل، ولا سبيل في قول أحد مؤالف أو مخالف في ترك رجم المحصن، ولا وجه لرفع الموت عنه البتة.
ومما يدل على شنعة الزنا ما حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن: ثنا القاضي أبو عيسى عن عبد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن الليث عن الزهري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عبيد بن عمير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب في زمانه ناساً من هذيل، فخرجت جارية منهم فأتبعها رجل يريدها عن نفسها فرمته بحجر فقضت كبده، فقال عمر: هذا قتيل الله، والله لا يودي أبداً.
وما جعل الله عز وجل فيه أربعة شهود وفي كل حكم شاهدين إلا حياطة منه ألا تشيع الفاحشة في عباده، لعظمها وشنعتها وقبحها، وكيف لا تكون شنيعة ومن قذف بها أخاه المسلم أو أخته المسلمة دون صحة علم أو تيقن معرفة فقد أتى كبرة من الكبائر استحق عليها النار غداً، ووجب عليه بنص التتريل أن تضرب بشرته ثمانين سوطاً.
ومالك رضي الله عنه يرى ألا يؤخذ في شيء من الأشياء حد بالتعريض دون التصريح إلا في قذف.
وبالسند المذكور عن الليث بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أن يجلد الرجل قال لآخر: ما أبي بزان ولا أمي بزانية.
في حديث طويل وبإجماع من الأمة كلها دون خلاف من أحد نعلمه أنه إذا قال رجل لآخر: يا كافر، أو يا قاتل النفس التي حرم الله، لما وجب عليه حد؛ احتياطاً من الله عز وجل إلا يثبت هذه العظيمة في مسلم ولا مسلمة.
ومن قول مالك رحمه الله أيضاً أنه لا حد في الإسلام إلا والقتل يغني عنه وبنسخه إلا حد القذف، فإنه إن وجب على من قد وجب عليه القتل حد ثم قتل. قال الله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا". وقال تعالى: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الغضب واللعنة المذكوران في اللعان إنهما موجبتان.
حدثنا الهمداني عن أبي إسحاق عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: ثنا سليمان عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وإن في الزنا من إباحة الحريم، وإفساد النسل، والتفريق بين الأزواج الذي عظم الله أمره، مالا يهون على ذي عقل أومن له أقل خلاق، ولو لا مكان هذا العنصر من الإنسان وأنه غير مأمون الغلبة لما خفف الله عن البكرين وشدد على المحصنين. وهذا عندنا وفي جميع الشرائع القديمة النازلة من عند الله عز وجل حكما باقياً لم ينسخ ولا أزيل، فيترك الناظر لعباده الذي لم يشغله عظيم ما في خلقه ولا يحيف قدرته كبير ما في عوالمه عن النظر لحقير ما فيها، فهو كما قال عز وجل: "الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم". وقال: "يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منا وما يترل من السماء وما يعرج فيها". وقال: "عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء".
وإن أعظم ما يأتي به العبد هتك ستر الله عز وجل في عباده. وقد جاء في حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ضربه الرجل الذي ضم صبيا حتى أمنى ضرباً كان سبباً للمنية. ومن إعجاب مالك رحمه الله باجتهاد الأمير الذي ضرب صبياً مكن رجلاً من تقبيله حتى أمنى الرجل، ضربه إلى أن مات، ما ينسى شدة دواعي هذا الشأن وأسبابه. والتزيد في الاجتهاد، وإن كنا لا نراه فهو قول كثير من العلماء يتبعه على ذلك عالم من الناس. وأما الذي نذهب أليه فالذي حدثناه الهمداني عن البلخي عن البخاري عن الفربري عن البخاري قال: ثنا يحيى بن سليمان، ثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن بكيراً حدثه عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله عز وجل".
وبه يقول أبو جعفر محمد بن علي النسائي الشافعي رحمه الله.
وأما فعل قوم لوط فشنيع بشيع قال الله تعالى: "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين". وقد قذف الله فاعليه بحجارة من طين مسومة. ومالك رحمه الله يرى على الفاعل والمفعول به الرجم أحصنا أو لم يحصنا. واحتج بعبض المالكيين في ذلك بأن الله عز وجل يقول في رجمه فاعليه بالحجارة: وما هي من الظالمين ببعيد. فوجب بهذا أنه من ظلم الآن بمثل فعلهم قربت منه والخلاف في هذه المسألة ليس هذا موضعه. وقد ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن السري أن أبا بكر رضي الله عنه أحرق فيه بالنار. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى اسم المحرق فقال: هو شجاع بن ورقاء الأسدي أحرقه بالنار أبو بكر الصديق لأنه يؤتي في دبره كما تؤتى المرأة.
وأن عن المعاصي لمذاهب للعقل واسعة، فما حرم الله شيئاً إلا وقد عوض عباده من الحلال ما هو أحسن من المحرم وأفضل، لا إله إلا هو.
وأقول في النهي عن إتباع الهوى على سبيل الوعظ: قالب:قصيدة10 قالب:قصيدة10
طوق الحمامة (المخطوط) | |
---|---|
المقدمة | تقسيم الرسالة | الكلام في ماهية الحب | علامات الحب | من أحب في النوم | من أحب بالوصف | من أحب من نظرة واحدة | من لا يحب إلا مع المطاولة | من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها | التعريض بالقول | الإشارة بالعين | المراسلة | السفير | طي السر | الإذاعة | الطاعة | المخالفة | العاذل | المساعد من الإخوان | الرقيب | الوشي | الوصل | الهجر | الوفاء | الغدر | البين | القنوع | الضنى | السلو | الموت | قبح المعصية | فضل التعفف |