طوق الحمامة/فضل التعفف
→ باب قبح المعصية | طوق الحمامة فضل التعفف ابن حزم |
عودة الى صفحة أبن حزم ← |
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا
يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعل له مكاناً وأهلا لأمره ونهيه: وأرسل إليه رسله وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا.
وإن من هام قلبه وشغل باله واشتد شوقه وعظم وجده ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه، ثم أقام العدل لنفسه حصناً، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكرها بعقاب الله تعالى وفكر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذرها من يوم المعاذ والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مدافع بحضرة علام الغيوب "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم". "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات". "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً". يوم "وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً". يوم "ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً". يوم الطامة الكبرى، "يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى". واليوم الذي قال الله تعالى فيه: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً". عندها يقول العاصي: يا ويلتي! ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فكيف بمن طوى قلبه على أحر من جمر الغضى. وطوى كشحه على أحد من السيف، وتجرع غصصاً أمر من الحنظل، وصرف نفسه كرهاً عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونها حائل، لحرى أن يسر غداً يوم البعث ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وأن يعوضه الله من هذه القرحة الأمن يوم الحشر.
حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شاباً حسن الوجه من أهل قرطبة قد تعبد ورفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مؤونة التحفظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المترل حاجة إلى بعض معارفه بالبعد عن مترله. فنهض لها على أن ينصرف مسرعاً. ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكنت غاية الحسن وترباً للضيف في الصبى فأطال رب المترل المقام إلى أن مشى العسس ولم يمكنه الانصراف إلى مترله، فلما علمت المرأة بفوات الوقت وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة تاقت نفسها إلى ذلك الفتى فبرزت إليه ودعته إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهم بها ثم ثاب إليه عقله وفكر في الله عز وجل فوضع إصبعه على السراج فتفقع ثم قال: يا نفس، ذوقي هذا وأين هذا من نار جهنم. فهال المرأة ما رأت، ثم عاودته فعاودته الشهوة المركبة في الإنسان فعاد إلى الفعلة الأولى. فانبلج الصباح وسبابته قد اصطمتها النار.
أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفرط شهوة قد كلبت عليه؟ أو ترى أن الله تعالى يضيع له المقام؟ كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلم. ولقد حدثتني امرأة أثق بها أا علقها فتى مثلها من الحسن وعلقته وشاع القول عليهما، فاجتمعا يوما خاليين فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله لا كان هذا أبداً. وأنا أقرأ قول الله: "الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين". قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعا حلال.
ولقد حدثني ثقة من إخواني أنه خلا يوماً بجارية كانت له مفاركة في الصبى، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: كلا. إن من شكر نعمة الله فيما منحى من وصالك الذي كان أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره ولعمري إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره.
وما أقدر في هذه الأخبار - وهي صحيحة - إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين ولا في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعهم وأجابوا هاتف الفتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك نظراً لهم وعلماً بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد. لا إله إلا هو.
وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد أن قمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عز وجل لصاحبه. جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه. آمين.
وحدثني أبو عبد الله محمد بن عمر وبن مضائ عن رجال من بني مروان ثقات يسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم أه ذكر أن الإمام عبد الرحمن ابن الحكم غاب في بعض غزواته شهوراً وثقف القصر بابنه محمد الذي ولى الخلافة بعده ورتبه في السطح وجعل مبيته ليلاً وقعوده نهاراً فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة. ورتب معه في كل ليلة وزيراً من الوزراء وفتى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح. قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدة طويلة وبعد عهده بأهله وهو في سن العشرين أو نحوها، إلى أن وافق مبيتي في ليلتي نوبة فتى من أكابر الفتيان، وكان صغيراً في سنه وغاية في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمواقعه المعصية وتزين إبليس وأتباعه له قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع فظلت أرقبه ولا أغفل وهو يظن أني قد نمت ولا يشعر باطلاعي عليه. قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيته قد قام واستوى قاعداً ساعة لطيفة ثم تعوذ من الشيطان ورجع إلى منامه. ثم قام بعد حين ولبس قميصه واستوفز ثم نزعه عن نفسه وعاد إلى منامه. ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلى رجليه من السرير وبقي كذلك ساعة ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابق في الفصيل الذي تحته. فقام الفتى مؤتمراً له. فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره. قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت ن الله فيه مراد خير.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور عن أحمد بن مطرف عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل؛ وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل؛ ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه؛ ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
وإني أذكر أني دعيت إلى مجلس فيه بعض من تستحسن الأبصار صورته وتألف القلوب أخلاقه، للحديث والمجالسة دون منكر ولا مكروه، فسارعت إليه وكان هذا سحراً. فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيي طرقني فكر فسنحت لي أبيات، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق؟ فلم أجبه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه وأمسكت عن المسير حيث كنت نويت. ومن الأبيات:
ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار وإتعاب الأبدان وإجهاد الطاقة واستناد الوسع واستفراغ القوة في شكر الخالق الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئقالها، وأمتن علينا بالعقل الذي به عرفناه، ووهبنا الحواس والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نهتد إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضلنا على أكثر المخلوقات، وجعلنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرضى لعباده أن يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبة لهم: قال الله تعالى: "جزاء بما كانوا يعملون". رشدنا إلى سبيلها وكصرنا وجه ظلها، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقاً من حقوقنا قبله، وديناً لازماً له، وشكرنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضله.
وهذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تكيفه الألباب. ومن عرف ربه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهية والحطام
الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعر لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم ينته إليه أمل فأين المذهب عن
طاعة هذا الملك الكريم، وما الرغبة في لذة ذاهية لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها، وإلى كم هذا
التمادي وقد أسمعنا المتادى، وكأن قد حدا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى نار، ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال
المبين، وفي ذلك أقول:
- أنتهى الكتاب
طوق الحمامة (المخطوط) | |
---|---|
المقدمة | تقسيم الرسالة | الكلام في ماهية الحب | علامات الحب | من أحب في النوم | من أحب بالوصف | من أحب من نظرة واحدة | من لا يحب إلا مع المطاولة | من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها | التعريض بالقول | الإشارة بالعين | المراسلة | السفير | طي السر | الإذاعة | الطاعة | المخالفة | العاذل | المساعد من الإخوان | الرقيب | الوشي | الوصل | الهجر | الوفاء | الغدر | البين | القنوع | الضنى | السلو | الموت | قبح المعصية | فضل التعفف |