صورة محمد علي باشا بأقلام مصرية
صورة محمد علي باشا بأقلام مصرية *: (دراسة في تأثير المناخ السياسي على كتابة التاريخ)
د. عاصم الدسوقي
قبل أن ينشر هنري ددويل Dodwell, H. كتابه "محمد علي مؤسس مصر الحديثة" The Founder of Modern Egypt: a study of Muhammed Ali في 1931 (Cambridge) كان عبد الرحمن الرافعي قد نشر كتابه "عصر محمد علي" في ديسمبر 1930 مزودا بصورة شهيرة ومتداولة لمحمد علي كتب تحتها "مؤسس الدولة المصرية الحديثة وباعث نهضتها واستقلالها" ، مع فارق جوهري بين العملين يتمثل في أن هنري ددويل وضع كتابه في إطار توجيه التاريخ بدعوة من الملك فؤاد الأول له ولغيره من الفرنسيين والإيطاليين للدفاع عن والده الخديو إسماعيل وبالجملة تحسين صورة الأسرة أمام هجوم العناصر الوطنية في مصر عليها آنذاك وبصفة خاصة فيما يتعلق بمسئولية الخديو توفيق عن الإحتلال البريطاني.
وأما عبد الرحمن الرافعي فقد كتب كتابه في إطار دراسة "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" وهو الكتاب الثالث في سلسلة أولها "عصر مقاومة المصريين للحملة الفرنسية"، وثانيها "تطور الحياة القومية بعد خروج الفرنسيين حتى إرتقاء محمد علي أريكة مصر بإرادة الشعب". ومع اعتراف الرافعي بأن محمد علي مؤسس مصر الحديثة وأن عصره "دورا من أدوار الحركة القومية" ، إلا أن ذلك لم يمنعه من إنتقاد بعض تصرفاته في الحكم من منظور أخلاقي. ولعل هذا ما دفع القصر الملكي إلى إستقدام الأجانب لكتابة تاريخ الأسرة فجاءت كتاباتهم في إطار البطولة والعظمة والتفرد.
وقبل أن ينشر الرافعي كتابه هذا لم يكن محمد علي موضوعا لدراسة تاريخية مستقلة فيما عدا ما جاء عرضا في حوليات عبد الرحمن الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" ، الجزء الرابع الخاص بزمن الحملة الفرنسية وعصر محمد علي والذي توقف فيه عند حوادث عام 1821. ثم يأتي كتاب عمر الإسكندري وسليم حسن "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر" (طبع في سبتمبر 1916) ، وقد خصص الباب الثاني منه لدراسة عصر محمد علي في حوالي 120 صفحة ، وقررت وزارة المعارف العمومية تدريسه بالمدارس الثانوية ومدرسة دار العلوم. ثم كتاب محمد صبري الذي اشتهر بالسوربوني فيما بعد "تاريخ العصر الحديث : مصر / الولايات المتحدة / الإستعمار الأوربي" (الطبعة الرابعة للكتاب في 1930) ، وكان مقررا على تلاميذ الفرقة الخامسة ثانوي. وبينما حمل هذان الكتابان المدرسيان بعض النقد الموضوعي لمحمد علي بقدر كبير من الحذر ، تراوحت كلمات الجبرتي بين الإنتقاد والمديح حسب مقتضى الحال كما سوف نرى.
وفي الفترة نفسها كتب مصريون آخرون عن محمد علي ولكن بالفرنسية والإنجليزية خارج مصر ، ففي باريس 1919 نشر يوسف أصلان قطاوي كتابه "تاريخ العلاقات بين مصر والباب العالي من القرن الثامن عشر حتى عام 1841" ، ونشر محمد صبري "الإمبراطورية المصرية" (باريس 1930) ، ونشر شفيق غربال "تولية محمد علي" (لندن 1932). وبينما حمل كتاب محمد صبري إنتقادا لسياسة محمد علي وخاصة الخارجية جاء الكتابان الآخران في إطار البطولة والعظمة.
وبعد هذه المجموعة الأولى من الكتابات عن محمد علي خلال الثلاثة عقود الأولى من القرن العشرين ، ظهرت ثلاثة أعمال في العقد الرابع الأول للأستاذ شفيق غربال بعنوان "محمد علي الكبير" نشره في عام 1944 في سلسلة أعلام الإسلام ، وهو كتاب صغير الحجم يتناول شخصية محمد علي باعتباره "علما من أعلام الإسلام عاش في القرن الثالث عشر الهجري رغم أنه ولى وجهه صوب الحضارة الأوربية .. وباعتبار أن مصر جزء من دار الإسلام". ثم أعاد نشره في عام 1949 بمناسبة الإحتفال بمرور مائة عام على رحيله. والعمل الثاني للدكتور محمد فؤاد شكري بعنوان "بناء دولة مصر محمد علي : السياسة الداخلية" (دار الفكر العربي 1948) ، وفيه يشير المؤلف في المقدمة إلى أنه اهتم بمعالجة الجانب الإصلاحي أو السياسة الداخلية بقدر من التفصيل على عكس غيره من المؤلفين الذين درجوا على أن يعالجوا سياسة محمد علي الداخلية على هامش سياسته الخارجية على حين أنها في رأيه لا تقل أهمية ، ومن هنا أقام كتابه ، وألحق به ترجمة كاملة لتقارير القناصل الأجانب الذين عاصروا محمد علي. والعمل الثالث كتبه في 1949 بالفرنسية الأخوان رينيه وجورج قطاوي وعنوانه "محمد علي وأوربا" وترجم للعربية ونشرته الجمعية الملكية للدراسات التاريخية (الجمعية المصرية بعد ثورة 1952). وجاءت شخصية محمد علي في هذا الكتاب في إطار معاني البطولة مع إلتماس الأعذار لبعض التصرفات وتبريرها كما سوف نرى. ولعله من المفيد أن نذكر هنا أن رينيه قطاوي كان يحمل رتبة البكوية وكان عضوا بمجلس النواب ثلاث دورات متتالية (1938-1949) ، وأما يوسف أصلان قطاوي فكان يحمل رتبة الباشوية وعضو مجلس النواب ثلاث دورات متتالية (1924-1928) وعضو مجلس الشيوخ بالتعيين (1924-1947).
ولقد تكفلت جميع تلك الكتب بتشكيل صورة محمد علي وعصره في ذهن أجيال متتالية من المصريين الذين تعلموا عليها في مرحلة الدراسة الثانوية وفي الجامعة وبصفة خاصة ما كتبه شفيق غربال ومحمد فؤاد شكري باعتبار أن كل منهما تولى تدريس التاريخ في الجامعة (كلية الآداب-جامعة فؤاد الأول) ، وتخرجت على أيديهما أجيال حملت صورة زاهية عن العصر ، وبقي كتاب الرافعي يمثل وجهة نظر المعارضة الوطنية. وقد تولى تلاميذ هذين الأستاذين مهمة نقل أفكارهما عن العصر لأجيال تالية إلا من أفلت من تأثيرهما وأخذ منهجا مستقلا في تفسير التاريخ تفسيرا إقتصاديا-ماديا وانتزاعه من عقال المثالية ، وذلك بتأثير مناخ التحولات السياسية الذي صنعته ثورة يوليو 1952. وقد انفرد شفيق غربال بتشجيع طلاب الدراسات العليا على دراسة موضوعات عصر محمد علي في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية على التتالي : الفلاح المصري في عهد محمد علي (ماجستير 1934) ؛ وتاريخ مطبعة بولاق ، وتاريخ التعليم في عصر محمد علي (رسالتا ماجستير عام 1936) ؛ والفتح المصري للسودان في عهد محمد علي (ماجستير 1939) ؛ وتاريخ الصحافة المصرية 1798-1882 (ماجستير 1940) ؛ والحكم المصري في بلاد العرب (ماجستير 1943) ؛ وتجارة مصر في عهد محمد علي ، وتطور الزراعة المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر (رسالتا دكتوراة عام 1946).
وبصرف النظر عن إختلاف وجهات النظر بشأن دور محمد علي في تاريخ مصر كما سوف نرى بين التأييد المطلق والمديح المفرط ، وبين التأييد الحذر واستنكار بعض أعماله ، إلا أن محمد علي يكتسب شهرته في التاريخ باعتباره الرجل الذي هدم أركان البناء الإقتصادي-الإجتماعي-السياسي القائم ردحا طويلا من الزمن ، وأقام بناء جديدا انتعشت بمقتضاه طبقات وقوى إجتماعية جديدة غير تلك التي ظلت سائدة في المجتمع المملوكي-العثماني ، وجعل من مصر "ولاية" متميزة بين الولايات العثمانية-العربية ، وسعى لتوسيع آفاقها بضم السودان وبلاد الشام لضمان الأمن القومي بحكم الجغرافية-السياسية. وأعاد تنظيم الإقتصاد بأسلوب "الإحتكار" Monopoly system وإشراف الدولة على كل المجالات وتوجيه كل الإمكانات. وفي محاولته لبناء القوة ذاتيا للتفوق كان لا بد من أن يصطدم بالغرب الأوربي الذي كان يبحث عن الأسواق الخارجية لحل مشكلة ضيق السوق النسبي عن طريق التصدير في الوقت الذي كان محمد علي يغلق السوق المصرية أمام الواردات الأجنبية لحماية مشروعه الصناعي الوليد ، ومن ثم كان التحالف الأوربي-العثماني للقضاء على مشروعه بمقتضى تسوية لندن في يوليو 1840 كما هو معروف.
ولنبدأ بصورة محمد علي الشخصية (بورتريه) كما رسمتها تلك الأقلام المصرية .. فهو عند شفيق غربال (1944) ذلك الرجل "الذي لم يصطنعه أمير ولا وزير ولا سلطان ، ولم يقدمه سفير أو قنصل بل ولا إمبراطور ، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة ، ولم يدبر حوادث إرتقائه ولم يرتب فصولها ترتيب المؤلف المسرحي ، ولم يداهن ولم يتظاهر بما ليس في نفسه ولا من طبعه لكنهم هم الذين يتجهون إليه .. هم الذين يرون فيه رجل الموقف .. لقد قبل إجماع الناس عليه أو شبه إجماعهم وتولى أمر الباشوية على شكاتها وميزاتها"(ص 44). فنحن والحال كذلك أمام بطل أسطوري هبط من السماء أو جاء من العدم ، يملك مقومات وقدرات غير متوفرة في سائر البشر ، وليس للظروف الموضوعية المحيطة أي أثر فيما وصل إليه. وهذا الوصف يتفق مع روابط شفيق غربال بالأسرة الملكية فقد كان مقربا من القصر الملكي ومعاديا لحزب الوفد ، وأنعم عليه الملك برتبة البكوية ، واختير نائبا لرئيس الجمعية الملكية للدراسات التاريخية عند تأسيسها في 1949 ورأسها أحد أفراد الأسرة الملكية (طاهر باشا) ثم خلفه في رئاستها حتى وفاته 1961. وقد استقبل الملك فؤاد كتاب غربال استقبالا حسنا على حد قول أحمد عبد الرحيم مصطفى في تقديم الكتاب بعد إعادة نشره في عام 1986 في كتاب الهلال. ويتمشى من ناحية أخرى مع إيمانه بنظرية البطل في التاريخ الذي هو إصطفاء إلهي. ولأن محمد علي عند شفيق غربال هو البطل التاريخي فلا بد وأن تسير حياته من الطفولة والصبا في طريق العظمة بشكل متصاعد. فيقول عن حياته في مدينة قوله مسقط رأسه في ألبانيا أنها "حياة مرح ونشاط ومغامرات وسعادة .. تعلم أصول دينه وركوب الخيل واستعمال السلاح .. ولما ترعرع كان يشترك في التجريدات التي توجهها حكومة المدينة لتعقب قاطعي الطرق أو لتحصيل أموال الدولة .. وقد تولى قيادة بعض هذه التجريدات وأظهر فهما لفن المباغتة ، وإدراكا لصفات الرياسة ، وقوة قلب ، وقوة إحتمال بدني يسترعي النظر" (ص 26/27).
أما الأخوان قطاوي اللذان وضعا كتابهما بعد كتاب شفيق غربال فقد رسما صورة مشابهة ولو أنها أقل مبالغة فقد قالا عن محمد علي "أنه كان محبا للعظمة في مقاصده ، شريفا في اختيار وسائله ، دقيقا في طريقة آدائه ، تلمح فيه وداعة الشرقي المستسلم في نشاط الغربي الطموح .. كما تبهرك فيه شجاعة الجندي الباسل في عبقرية الإداري الرشيد .. وإن استمراره في الحكم دليل على تمتعه بأوفى نصيب من العبقرية الشخصية والتفوق الذاتي" (ص 25 /61). ثم يتحفظ الأخوان قطاوي على هذه الصورة المثالية فيطرحا سؤالا سقراطيا عما إذا كان محمد علي "نائيا عن العيوب ومترفعا عن النقائص" .. وتجيء إجابتهما بدرجة من المبالغة .. إذ يقولا "ليس في وسع أي إمرىء أن يؤكد هذا الزعم "!! ويضيفا .. "كان طيب إستعداده مضرب الأمثال بل لقد أجمع معاصروه وفي مقدمتهم خصومه ومنافسوه على إطراء حسن نيته ، وامتداح سلامة طويته رغم أنهم حملوا أحيانا على طموحه ودهائه.." ، وخير وسيلة في رأي الأخوان قطاوي لإدراك عظمة محمد علي إجراء مقابلة بين أعماله وأعمال أشهر معاصريه وهو علي باشا والي يانينا Janina (في البلقان التابعة للدولة العثمانية) حيث يتفوق محمد علي في الروح الإنسانية وثبات الرأي ونجاحه في تأسيس مملكة عظيمة خالدة على حين أن باشا يانينا "لم يترك إلا الخراب والدمار ولم يترك في طريقه إلا الجثث والرمم.." (ص 203).
وربما كانت مناسبة الإحتفال بمرور مائة عام على وفاة محمد علي باشا (1949) مسئولة عن رسم تلك الصورة المفرطة في مثاليتها عن شخصية الرجل ، ذلك أن الكتابات المصرية السابقة على تلك المناسبة لم تحفل برسم ملامح لشخصية محمد علي بهذه الصورة مع إستثناءات قليلة واهتمت أكثر بأعماله ومظاهر بناء الدولة. ومن ذلك ما قاله محمد صبري من أن محمد علي "كان طموحا جريئا ، عالي الذكاء ، بعيد الهمة ، حلال مشكلات ، لا تهادنه المصاعب ولا يهادنها رغم أميته التي كان يعترف بها وقوله –أي محمد علي- إنه ما قرأ من الكتب إلا وجوه الرجال ، وأنه قلما كان يخطىء في قراءتها .. (ص 38) ، ومن ثم فإن خطأه في بعض الإصلاحات والمشروعات لا ينبغي في رأي الإسكندري وسليم حسن "أن يؤاخذ عليه بل يغتفر له غلطاته شفاعة أعماله النافعة .." !!. (ص 148).
أما الرافعي ابن الحركة الوطنية زمن مصطفى كامل ومحمد فريد فلم يشأ أن يعطي صورة مثالية لمحمد علي منقطعة الصلة بالظروف الموضوعية مثلما فعل غيره ، فنراه ينسب فضل عبقرية محمد علي إلى مواهب الأمة المصرية وحسن إستعدادها للتقدم بحيث أن محمد علي لو تولى حكم بلد آخر من بلاد السلطنة العثمانية آنذاك لدفنت فيه عبقريته ، بل إن محمد علي وأسرته استمدوا قوتهم ومجدهم من قوة الأمة المصرية (ص 641).
وأما فيما يتعلق بدور محمد علي في إقامة نظام دولة في مصر فيلاحظ أن تلك الكتابات في مجملها تعترف بأنه "هو الذي وضع أساسا متينا لحكومة عادلة منتظمة ، وأنقذ البلاد من نظام اقتسام السلطة بين الوالي العثماني وبين المماليك الذي وضعه السلطان العثماني سليم الأول" (الإسكندري وسليم ص 147) ، خاصة وأن المماليك كما لاحظ الرافعي بحكم شرائهم أصلا من أسواق الرقيق وإحاطة أنفسهم ببطانة وعساكر من الرقيق أيضا ، كانوا يستمدون قوتهم وكيانهم من مصدر خارجي وبالتالي لم يندمجوا في الهيئة الإجتماعية المصرية (ص 640/641). كما أن محمد علي هو الذي أنقذ مصر من جور الجند العثمانيين الذين كانوا يغيرون على البلاد إذا ما تأخرت رواتبهم. وأن نجاح محمد علي في إقامة نظام حكومة جديدة في بلاد كمصر أمر يستحق عليه أعظم ثناء ، ويجعله في عداد كبار المصلحين على قلة عددهم وبخل الزمان بأمثالهم (الإسكندري وسليم ص 147/149).
فعلى يد محمد علي كما ذهب الرافعي تم تأسيس الجيش المصري والأسطول المصري والثقافة المصرية ، ووضعت أسس النهضة العلمية والإقتصادية في البلاد ، وتحقق الإستقلال القومي ووضع دعائم صيانته ، ورسم السياسة الحكيمة التي تحميه من الخطر .. ولو أن خلفاءه حذوا حذوه واتبعوا سياسته لما تصدع بناء الإستقلال في عهدهم .. (ص 660).
أما بالنسبة لطبيعة سلطة الحكم عند محمد علي فإن أغلب الكتابات تتفق على أن الرجل كان يمثل الحاكم المستبد العادل ، ورغم أن سلطاته كانت مطلقة لكن حكمه لم يكن إستبداديا ، إذ أنه شكل لنفسه مجلسا خاصا كان يتداول مع أعضائه في جميع أعمال الحكومة قبل الشروع في تنفيذها (محمد صبري ص 39). لكن الفرق بين سلطته المطلقة وسلطة المماليك كما يقرر الرافعي أن محمد علي وضع نظاما لإدارة تلك السلطة مع ميله للمشاورة في الأمور قبل إبرامها ، وبالتالي لم يتطرق ذهنه لإنشاء نظام دستوري بالمعنى المفهوم بل إن الهيئات التي أسسها لم تكن إلا مجالس تنفيذية له فيها الكلمة العليا (ص 606/618).
والحال كذلك كان من الطبيعي أن يتخلص محمد علي من الزعامة الشعبية التي وضعته على كرسي السلطة ذلك أن هذه الزعامة كانت بمثابة سلطة ذات شأن تراقب أعماله مراقبة مستمرة وكانت ملجأ الشاكين ممن ينالهم الظلم. ومن هنا كان محمد علي يشعر بالغضاضة من تدخل العلماء وأهل الرأي في شؤون الحكم ، ولو أن الرافعي يعتقد أن الزعامة الشعبية هي التي هدمت سلطتها بيدها بسبب التنافس والتحاسد بين العلماء وبغضهم منزلة عمر مكرم فأخذوا يكيدون له عند محمد علي الأمر الذي استثمره الرجل لصالحه وجعله يستضعف العلماء بعد أن كان يعمل حسابا لهم (ص 80/81).
أما محمد فؤاد شكري الذي أصدر كتابه في مناسبة مئوية محمد علي فقد خلع عليه صفة الحاكم المصلح المستنير الذي أخذ على عاتقه الإضطلاع بأعباء الحكم وتحمل تبعاته ، لا حبا في إشباع غريزة السيطرة أو تحقيق مصلحة خاصة ، بل رغبة في الإشراف الجدي على كل ما له مساس بحياة الأفراد من قريب أو بعيد حتى يمكن توجيههم إلى ما فيه إعلاء شأن الدولة. وينتهي إلى القول بأن الإستئثار بالسلطة يعد من أقصى مميزات الحكومات المستنيرة حيث غلبت المركزية على طريقة حكم محمد علي فأصبح مصدر السلطة العليا في البلاد. والمغزى من تلك المركزية كما فهمها شكري "أن العاهل العظيم كان يريد تدريب رجال الحكومة وتعويدهم الإضطلاع بالمسئولية فكان يطالبهم بأن يعملوا الفكر ويتبادلون الرأي في المسائل والمشروعات التي تعرض عليهم أو تجيش بخواطرهم ، وأن يصلوا إلى قرار في المسائل التي يبحثونها ، كما سمح لهم بقدر محدود من حرية التصرف في شؤون الإدارة التفصيلية. ويعقب على هذا الأسلوب بقوله "إن أسلوب محمد علي مع رجال دولته في ذلك كله أسلوب الوالد المرشد ، والحاكم المصلح ، يتوعد بالعقوبة حينا ، ويعد بالمكافأة حينا آخر (ص 4/18).
والآن نتناول آراء أولئك الكتاب في أهم الحوادث التي تعد علامة في تاريخ محمد علي وسياساته في مصر وفي مقدمتها مذبحة القلعة في أول مارس 1811 التي تم تدبيرها عشية ذهاب ابنه طوسون إلى بلاد العرب للقضاء على الحركة الوهابية حيث تخلص محمد علي من قيادات الماليك باعتبارهم منافسين له على الحكم ، ولا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء المماليك كانوا منذ أيام علي بك الكبير (1763) ينفردون بحكم مصر بعيدا عن الوالي العثماني ، وأنهم بعد خروج الفرنسيين من مصر (1801) كانوا يتطلعون إلى إستعادة مكانتهم ، لكن الحكم وقع في يد محمد علي في 1805 كا هو معروف ، فلم يقتنع المماليك بهذا النصيب وأصبحوا مصدر إزعاج وقلق مستمر لمحمد علي ..
فالأخوان قطاوي يعتقدان أن مذبحة القلعة لا تعد شيئا يذكر ، فقد كانت حالة مشروعة من حالات الدفاع عن النفس ، وأنها الوسيلة المثلى للقضاء على الفوضى التي كانت تلك الطائفة المشاغبة تثيرها في مصر ، بل الطريق الوحيد للتخلص منها (ص 206). ولم يستطع شفيق غربال تجاهل الحادثة لكنه اكتفى بالقول أنه بهذه الحادثة الدموية انتهت السنوات الأولى من حكومة محمد علي وهي سنوات كفاح وعنف وهدم وتبديل وتعديل مؤكدا أنها سنوات لم يحبها محمد علي نفسه حسب إعترافه للأمير بوكلر موسكاو بقوله "إن هذه الفترة الأولى من حكمه في مصر لا تفيد العالم في شيء فهي سلسلة طويلة من المعارك والآلام والمخاتلات والدم المراق مما إضطرتني إليه الظروف القاهرة" (ص 66-67).
لكن الرافعي أعرب عن استيائه الشديد من مذبحة القلعة واعتبرها نقطة سيئة في تاريخه "لأن الغدر أمر تأباه الإنسانية .. ولأنه كان خيرا له ولسمعته أن يستمر في محاربتهم وجها لوجه حتى يتخلص منهم في ميادين القتال ، ولا يسوغ فعلته أن هذه الوسيلة كانت مألوفة في ذلك العصر. ويرفض تبرير تصرف محمد علي بأن المماليك كانوا يتآمرون عليه. ولم يكتف الرافعي بهذا الحكم بل إن المذبحة في رأيه "قضت على روح الحياة الديموقراطية إلى زمن طويل وأحلت بين المصريين روح الرهبة من الحكام" (ص 118/121). ورأى الأخوان قطاوي أن محمد علي أراد بها أن تكون "أحدوثة سائرة وعبرة ظاهرة وعظة بالغة" (ص 206). وأما عبد الرحمن الجبرتي فقد اكتفى بوصف الواقعة دون أن يشفع حديثه بعبارات لوم وتأنيب وتقريع مثلما فعل كما سوف نرى في تعليقه على قيام محمد علي بإلغاء نظام الإلتزام وتطبيق الإحتكار الذي تضرر منه الجبرتي نفسه.
فعندما ألغى محمد علي نظام الإلتزام في جمع الضرائب في عام 1814 وبدأ في تطبيق نظام الإحتكار بشكل شامل إبتداء من عام 1816 بعد أن كان يمارسه بشكل جزئي وإنتقائي من عام 1809 قال الجبرتي في حوادث نوفمبر 1816 إن محمد علي صرف كل همته وتفكيره في "تحصيل المال وقطع أرزاق المسترزقين والحجر والإحتكار لجميع الأسباب .." حيث يتم تسليم المحصول للشونة وعدم إستهلاك أي شيء منه وعقاب من يشاهد من الفلاحين وهو يأكل من الفول الأخضر والحمص والحلبة قبل الحصاد ، والتنبيه بتكميم أفواه المواشي التي تسرح للمرعى وسط الحقول. والجبرتي الذي لم يجد في مذبحة القلعة نوعا من الظلم ولم يبد أسفا عليها كما رأينا وجد في إلغاء الإلتزام وتطبيق الإحتكار ظلما كبيرا ذلك أنه كان أحد الملتزمين فشعر بالخطر المباشر على مصالحه ، وأصبح في مأزق بين إعجابه بإجراءات محمد علي التي تخلص بمقتضاها من السيد عمر مكرم والمماليك وإعادة الأمن للبلاد ، وبين الحجر على الأرزاق فقال "لو أن الله وفق محمد علي بشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه".
أما محمد صبري الذي حرص على أن يؤكد أن محمد علي لم يحتكر من الحاصلات إلا القطن والأرز والصمغ أو المحصولات التي تحتاجها الصناعة والسوق الخارجي وترك معظم الحبوب للفلاحين يتصرفون فيها ، انتهى إلى القول بأن إحتكار ملكية الأراضي والتجارة استهدف إشراف الحكومة على موارد الدولة وتنميتها لصالح المجموع ، "ولو أنه أمر لا يتفق مع تقدم البلاد المطرد" (ص 42/43). وفي هذا الإطار تم وضع أراضي الأوقاف تحت رعاية محمد علي بدعوى أنه الوالي المولى من قبل السلطان-الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين جميعا (الإسكندري وسليم حسن ص 151/152).
أما الرافعي فقد رأى أن إلغاء الإلتزام كان لا بد وأن يستتبعه تقرير الملكية الفردية وهو ما لم يحدث ، واعترض على دفاع بعض الكتاب عن هذه السياسة التي رأوا فيها نهوضا بالحاصلات الزراعية قائلا "إن تحسين الزراعة وإدخال زراعات جديدة لا يستلزم جعل جميع الأراضي الزراعية ملكا للحكومة" (ص 624) ، على حين أن فؤاد شكري لم يجد في سياسة محمد علي الإقتصادية إحتكارا أو حجرا على الأرزاق بل وجد فيها نوعا من المركنتيلية Mercantilism وهي السياسة التي اتبعتها دول أوربا إبتداء من القرن السادس عشر وتقوم على إشراف الدولة على الإنتاج والتجارة واستمرت سائدة حتى قيام الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر وهي الثورة التي أدت إلى تخليص الإقتصاد من يد الدولة وبداية الحرية الإقتصادية. ومغزى هذا القياس عند فؤاد شكري أن مصر لم تمر بالثورة الصناعية حتى تتخلص من المركنتيلية (الإحتكار) ولهذا فمن الطبيعي في رأيه أن تكون المركنتيلية/الإحتكار طريقا للسياسة الإقتصادية ، وأن تكون الإدارة الباترياركية (الأبوية) طريقا للمركزية فأصبح محمد علي "الزارع الوحيد والصانع الوحيد والتاجر الوحيد " وهي عبارة ذكرها البارون تشارلز بوالكونت Boislecomteالقنصل الفرنسي في مصر زمن محمد علي (ص 5).
أما فيما يتعلق بسياسة محمد علي في التعليم والبعثات فقد كانت محل تقدير مشترك بين الجميع فقد اعتبرها الإسكندري وسليم حسن "محاربة لجهل الأمة حتى قضى على ما عندها من خرافة أو عادة ممقوتة" (ص 148). ورأى فيها غربال نشر للإستنارة العامة ، وأداة خلق الفنيين "من رجال الأرستقراطية المحمدية العلوية التي قامت بنصيب ملحوظ في اصطناع قوة الحديد والعلم والمال" (ص 103). وأما الرافعي فقد رأي في البعثات "فكرة تدل على ناحية من نواحي عبقرية محمد علي من حيث نقل معارف أوربا لكي تضارع مصر أوربا في مضمار التقدم العلمي والإجتماعي ، ووجه العبقرية هنا أنه في ذلك العصر لم يفكر حاكم شرقي حتى السلطان العثماني نفسه في إيفاد مثل هذه البعثات (ص 476/477). واعتبرها الأخوان قطاوي نموذجا لسياسة عاهل مسلم أثبت أن الإسلام بسماحته يستطيع استيعاب حضارة الغرب وفنونه دون حساسية (ص 21). وفي هذا الخصوص لمس فؤاد شكري نقطة لم يلمسها غيره ألا وهي أريحية محمد علي وتسامحه مع من يختلفون عنه جنسا ولغة وعقيدة وقيامه بإلغاء كل ما لحق بالمسيحيين من إهانات في حياتهم اليومية مثل منعهم من ركوب الخيل ومنعهم من إرتداء الملابس ذات الألوان الخاصة بالمسلمين ، وسماحه للرهبان ببناء الأديرة ، وللكنائس بدق الأجراس وإقامة القداس علنا .. (ص 23).
فإذا انتقلنا إلى الحروب التي خاضها محمد علي وجدنا أنها كانت محل اهتمام من الكتاب من زوايا مختلفة ، فلولاها ما تكون استقلال مصر ولرجعت البلاد إلى عهد الحكم التركي المباشر (الرافعي ص 122) ، وهي تؤكد أن محمد علي تطلع لتأسيس دولة عربية واسعة الأرجاء قوية البنيان ثابتة الأركان (الأخوان قطاوي ص 91). وهذه الحروب استهدفت إحاطة إستقلال مصر بسياج من "الحدود الطبيعية" في الشام شرقا وفي السودان جنوبا مما أدى إلى نشوء المسألة المصرية كتعبير عن قلق الدول الإستعمارية أصحاب المصالح في البحر المتوسط وآسيا وأفريقيا (محمد صبري ص 58).
لكن .. من بين حروب محمد علي وتوسعاته حظى "فتح السودان" باهتمام خاص .. فالفتح عند الأخوان قطاوي يرتبط بوحدة وادي النيل السياسية المرتبطة بوحدته الجغرافية التي أدركها محمد علي حتى لقد فكر في غزو الحبشة (ص 75). وعند غربال لم يكن إلا "فتحا" ذلك أن محمد علي الحاكم المسلم بعث جيشا من المسلمين للفتح في بلاد إسلامية تجاورها بلاد الزنوج الوثنية .. وهو ليس إمتلاكا ولا إستعمارا .. فالمسلمون لا يملكون رقاب المسلمين .. والمسألة مجرد ضم جزء من دار الإسلام إلى الأمة الإسلامية .. (ص 131/132). وفي هذا المعنى نلاحظ أن الإخوان قطاوي اعتبرا الحروب الوهابية "دفاعا عن السنة المحمدية والشريعة الإسلامية" (ص 72). ولا يرى الرافعي أي غضاضة على أهل السودان من هذا "الفتح" إذ اعتبر الحرب دعامة للوحدة القومية قياسا على محاربة إنجلترا لإسكتلندة حتى أخضعتها وصارت جزء من المملكة الإنجليزية ، ولم يقل أحد إن إنجلترا كانت باغية على اسكتلندة ، ولا كانت هذه الحروب سببا لدعاية إنفصالية بين الإسكتلنديين الذي صاروا مواطنين بريطانيين مخلصين (ص 171).
بقي أن نتناول أزمة محمد علي مع السلطان العثماني ومع دول أوربا التي انتهت بتحجيم قوته وتقييد إرادته بمقتضى معاهدة لندن في يوليو 1840 ذلك أن السلطان العثماني كان يخشى من توسع محمد علي في بلاد الشام ، وأوربا الصناعية كانت تتخوف من ممارسة محمد علي للإحتكار الذي أغلق السوق المصرية والسورية في وجه المنتجات الأوربية في الوقت الذي كانت أوربا في حاجة إلى الأسواق الخارجية لتصريف الإنتاج الصناعي الكبير. وبدأت الأزمة عندما عقدت إنجلترا معاهدة بلطه ليمان مع السلطان العثماني في أغسطس 1838 تقضي بالسماح للمنتجات الإنجليزية بدخول السوق المصرية مقابل رسوم جمركية ، لكن محمد علي رفض تطبيق المعاهدة خشية تأثيرها على مشروعه الصناعي الوليد. وأعطاه السلطان مهلة عام للتنفيذ لكنه رفض ، ومن هنا إلتقت مصالح أوربا مع السلطان فتحالفا معا حتى وقعت الهزيمة بمحمد علي وفرضت عليه قرارات معاهدة لندن 1840.
وقد تناول الأخوان قطاوي هذه المسألة بوعي واضح إذ انتهيا إلى القول بأن إتفاقية بلطه ليمان كان غرضها "إيقاع الضير والضيم بباشا مصر" ، وأشارا إلى أن السفير الإنجليزي في الآستانة هو الذي لفت نظر السلطان العثماني إلى أن القضاء على الإحتكار سيؤدي إلى "تقويض الدعائم المالية للباشا وإلى نضوب أهم منهل لموارده فيضعف نفوذه" (ص 127). فلما فرضت تسوية لندن وحاول محمد علي التصدي لها ونصحته فرنسا بالتسليم والإمتثال اعتبره الأخوان قطاوي "إمتثال الرجل الحكيم ذي العقل الصائب والفكر الثاقب .. وأنه الوسيلة المثلى للنجاة من الخراب والمضيعة" (ص 189). وقد اعتبر الرافعي المعاهدة "دليل على قوة مصر وبأسها للدرجة التي جعلت أوربا تتكاتف وتتعاون معا ضد محمد علي (ص 336).
لكن محمد صبري أنحى باللائمة على محمد علي "لأنه كان يظن نفسه قادرا على مجابهة أوربا ومقاومتها" (ص 201). وحرص فؤاد شكري على إثبات أن معاهدة لندن لم يكن لها أي تأثير سلبي على مشروع محمد علي في بناء القوة والنهضة إذا لم تتوقف مشروعاته الإصلاحية ومنشآته العمرانية بتوقف مشروعاته العسكرية ، ولم يفتر نشاطه لحظة من 1840 وحتى وفاته في 1849 كما وقر في أذهان كثير من الناس "الذين اعتقدوا خطأ أن جميع إصلاحات محمد علي كانت تدور حول محور واحد وهو الجيش ، وفاتهم أن كافة أعمال الباشا ومن بينها الجيش كانت تدور حول محور آخر وهو بناء الوطن" (ص 202).
وهكذا يلعب المناخ السياسي دورا مهما وأساسيا في كتابة التاريخ أو مراجعته أو إعادة النظر فيه ، لأننا لو تابعنا الكتابات التي تمت عن محمد علي وأسرته بعد ثورة يوليو 1952 سوف نجد أنفسنا أمام تفسيرات مختلفة ومن هنا تتحقق مقولة كولنجوود الفيلسوف البريطاني "أن كل التاريخ تاريخ معاصر" ، أو أن التاريخ في تقديري صناعة كاتبه في النهاية.
نشرت في الهلال عدد يوليو 2005