ساطع الحصري تجسيد تاريخي لفكر النهضة العربية
-- ساطع الحصري تجسيد تاريخي لفكر النهضة العربية ::
من عظمة الرسالة الخالدة، اكتشفت الأمة العربية ذاتها من جديد، بعد أن انهارت حضاراتها القديمة، وصعدت القوتين العظيمتين الروم والفرس، ذلك الاكتشاف أعاد للأمة حيويتها الخلاقة، فدمرت القوتين العاتيتين، بفترة وجيزة أذهلت المؤرخين والدارسين، وانطلقت لتقود العالم، وفق مقاصد شريعتها السمحة –بالحق والعدل والسلام، بعيداً عن حطام المكاسب ورغبة القتل والتدمير والإكراه.
وما إن تمت إزاحتها عن ساحة الفعل الحضاري في ظروف تاريخية متراكمة، ومتناقضة مع قيمها، حتى نهض الغرب تأسيساً على علومها وحضارتها، وتخلفت الإمبراطورية العثمانية، في سكونية تكشفت عن عجز واضح في عدم قدرتها على مجابهة التطور الغربي المتسارع في كافة المجالات العلمية والاجتماعية، فجنحت نحو الاستبداد والانغلاق، واستعانت بالغرب للقضاء على حركات الخلاص من ذلك الواقع الأليم، فأجهضت حركة محمد علي التوحيدية، ونهضته العلمية كما أجهضت ثورة عرابي، وكل الحركات السياسية والإصلاحية في مجابهات عسكرية وقمعية، وأحكام تعسفية، واغتيالات غامضة لرموز الإصلاح التي كانت تدعو إلى حرية العقل والبحث، والشورى الدستورية، ورفض التبريرات العقائدية للسلطة المستبدة، مما هيأ العقل العربي لتناول أفكار جديدة مستنيرة تقوم عليها نهضة الأمة من جديد, وكان لها الأثر القومي في نشوء الفكرة القومية.
في خضم ذلك الصراع ولد مصطفى ساطع الحصري في العام 1880 لأسرة حلبية مرموقة تقطن حي "بانقوسا" بحلب، وهو الابن الثالث لمحمد هلال الحصري، الذي ينتمي إلى أسرة عريقة في عروبتها، كريمة في محتدها، انتقلت إلى حلب على يد الشريف أحمد بن إدريس الحسيني، الذي قدم إلى حلب من الحجاز في القرن التاسع الهجري 1472م.
كان والده –محمد هلال الحصري- قد "تلقى أفضل ما أتيح من تعليم تقليدي، فتعلم العربية والشريعة في المدرسة الإسماعيلية بحلب، وقضى شطراً من شبابه في مصر، يدرس في الجامع الأزهر علوم الشريعة والعربية، ونال الإجازة على يد شيوخ مشهورين، وقد عاد إلى حلب، فعمل قاضياً في مختلف مدن الولاية، ونجح في الامتحانات الضرورية ليتأهل لمنصب رئيس محكمة الاستئناف في صنعاء.
ولكثرة تنقلات والده في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، فإن تعليمه في مراحله الأولى لم يكن مستقراً وقد تركت هذه التنقلات آثاراً عميقة من الذكريات والانطباعات المتنوعة.
فقد قدر له، أن ينتقل – خلال السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياته- بين المدن التي عُيِّن فيها والده للقضاء، فمن صنعاء إلى طرابلس الغرب، إلى أضنة وأنقرة واستنبول، وكان خلالها يستكمل تعليمه من إخوته الكبار، فقد تعلم القراءة والكتابة باللغتين التركية والفرنسية إضافة إلى اللغة العربية التي أولاها اهتماماً خاصاً فيما بعد.
وفي العام 1892 ألحقه والده بالقسم الداخلي في المدرسة الملكية باستنبول "التي كانت في ذلك الحين إحدى بؤر الاختمار الفكري" فقد كانت مخصصة للتدريب الحديث في الإدارة العثمانية وقضى فيها سبع سنوات، كان لها أثرها العميق في حياته الفكرية، لعنايتها بالمعارف العلمية والأساليب التربوية الحديثة وكان بين مدرسيها أنصار متحمسون للإصلاحات وفق الأفكار الليبرالية الغربية، وعلى أفكار الفلسفة الوضعية الفرنسية والقومية الأوربية كما استحوذت على اهتمامه: الطريقة العلمانية في تدريس المسائل الاجتماعية.
وقد كان ولعه شديداً بالعلوم الرياضية والطبيعية في المرحلة العليا من دراسته، فقد أخذ يواصل نهاراً الدراسات المقررة. وينفق الليالي في الغوص في دنيا العلوم، فكان يستعير من طلاب مدرستي الهندسة وأركان الحرب المتعلقة بالرياضيات العالية والهندسة التحليلية فينكب على حل المسائل الرياضية العويصة، حتى أصبح رفاقه في المدرسة يلقبونه بأرخميدس كما بلغ ولعه بالعلوم الطبيعية حد النهم، فصار يتوسع في مواضيعها توسعاً كبيراً، فيعنى بتشريح الحيوانات وتحنيطها، وبإجراء التجارب على زراعة شتى النباتات.
لم يكن اهتمامه بالعلوم الطبيعية اهتماماً أكاديمياً محضاً، وإنما كان يقترن بإيمانه العميق بأن نشر المعارف العلمية بين أوسع فئات الشعب، سيكون مقدمة ضرورية لإعادة تركيب الوعي الاجتماعي. الذي يجب أن يتقدم –في رأيه- على سائر الإصلاحات فلم يشأ بعد تخرجه بدرجة امتياز عام 1900. أن يشتغل بالوظائف الإدارية التي تخولها له شهادته. وإنما قدم طلباً لوزارة المعارف العثمانية لتعينه مدرساً للعلوم الطبيعية في المدارس الثانوية.
وقد تم له ما أراد، فالتحق بإعدادية مدينة يانينا –اليونانية حالياً- كمدرس للعلوم الطبيعية، حيث أمضى خمس سنوات أولى فيها مادته اهتماماً عظيماً متبعاً طرقاً مشوقة في تدريس مادته لقناعته بجدواها في توسيع الآفاق الفكرية، وكان "يؤكد أن العمل ليس مجرد واجب وطني. وإنما هو بهجة بحد ذاته، واندفع الشباب المشغوف بمربيه، يهب كل قواه للتعلم. أملاً في التعويض عما فات خلال عقود، وربما خلال قرون".
وقد أوغل عميقاً في العلوم الطبيعية بحثاً ودراسة واستقصاء وإضافة إلى طرق مبتكرة في التعليم، وقد أثمرت جهوده خمسة كتب في مجالات العلوم كان يعتمدها في التعليم، كما تقدم بها إلى وزارة المعارف فأقرتها في جميع مدارس السلطنة. وهي "معلومات زراعية" "دروس الأحياء" "علم الحيوان" "علم النبات" "التطبيقات الزراعية".
ومع كل الحماس الذي أبداه في عمله أصيب بخيبة أمل كبيرة بعد أن اصطدم بمعوقات كبيرة حالت دون طموحاته العريضة، فقد ازدادت الأوضاع سوءاً. وازدادت الرقابة على المدارس والصحف التي كان يكتب فيها، وعلى الكتب التي كان يؤلفها على الرغم من تركيزه على القضايا العلمية والتربوية "وقد انعكس الجو الذي كان سائداً آنذاك في نظام التعليم العثماني في عبارة هاشم باشا وزير المعارف في عهد عبد الحميد الشهيرة "ما كان أحسن عمل الوزارة لو لم تكن هناك مدارس أبداً".
كان ساطع الحصري يدرك المخاطر التي تعصف بالإمبراطورية العثمانية، من جراء الفساد المستشري في بنية الدولة ومؤسساتها. وسوء معالجة الأوضاع، إضافة إلى أطماع الدول الكبرى. فقد لمس عن قرب خلال السنوات التي أمضاها في أقصى الغرب من الإمبراطورية تلك النزاعات الدامية ودوافعها وأغراضها. "وكان ومعاصروه من شباب الدولة العثمانية المتنورين، يرون أن المساهمة النشطة في القيام بإصلاحات لتحديث البلاد والحفاظ على الجامعة العثمانية هما الأداة الوحيدة لدرء خطر الدول الكبرى الطامعة" بعد تدخلها في الشؤون الداخلية للدولة وفرض اتفاق "مورستيج" أخضعت من خلاله ولايات البلقان لنظام دولي خاص، وضعته روسيا والنمسا بالاتفاق مع الدول الكبرى، غير أنه لم يفقد الرغبة والأمل بالإصلاح، فتقدم بطلب إلى وزارة الداخلية يبدى فيه رغبته بالعمل في إحدى الولايات التي تدار باتفاقية مورستيج" فعين قائمقاماً في المنطقة الإيطالية في المنطقة النمساوية من الأشراف الدولي، واستمر في عمله هذا مدة سنتين حاول خلالهما القيام بالعديد من الأعمال الإصلاحية. ثم نقل بعد ترفيعه إلى قضاء فلورينا داخل المنطقة الإيطالية من الأشراف الدولي، وهناك "رأى شعوب البلقان تتقاتل فيما بينها حول قضايا قومية بظروف أشد من قتالها مع الأتراك، فاستخلص من ذلك: أن فوارق اللغة والثقافة أعمق بين الأمم من فوارق الدين" وهكذا اشتد وعي ساطع الحصري بعمق الفكرة القومية في النفوس، هذه القوة القادرة المحركة في التاريخ" بعد ثماني سنوات قضاها في البلقان ساهمت في نمو وعيه السياسي والفكري، وفي هذه الأثناء حدثت ثورة 1908 بقيادة (الشبان الأتراك) أو ما عرف بـ (تركيا الفتاة) و (جمعية الاتحاد والترقي) وكان ساطع الحصري معجباً بآراء مدحت باشا الدستورية، وبشعارات التنوير التي أطلقتها الحركة ظناً منه أنها الحل الأمثل للإصلاح والنهوض وتحقيق فكرة الجامعة العثمانية التي تقف في وجه الأطماع الدولية، فعاد إلى العاصمة وتولى التعليم في معاهد عالية، وعاد إلى التأليف في مجالات التربية وعلم الاجتماع، كما عهد إليه بإدارة مدرسة (دار المعلمين) بالقسطنطينية فأعاد بناءها على أسس جديدة تتفق مع آخر إنجازات العلوم التربوية.. وراح يشيع بين التلاميذ مبادئ كانت غريبة على تركيا آنذاك، ومبادئ التعمق في التفكير والجدية في العمل، وصار نداؤه (العمل بدون فتور) أشبه بأنشودة تترنم بها شفاه كل تركي متعلم، كما قام بجولة في البلدان الأوربية للإطلاع على منجزات العلم والفكر والتربية، فزار جنيف ولوزان وزيورخ وباريس ولندن وبروكسل وميونخ وبرلين، واطلع على أحوال التعليم في مدارسها ودور معلميها وما يطبق منها من نظم تربوية جديرة بأن تحتذى" غير أنه سرعان ما اصطدم بسياسة التتريك والطغيان الاتحادي الذي فاق ما قبله، فبدأ اتصالاته مع العناصر العربية في جمعية المنتدى الأدبي، كما جاءت استقالته من منصب مدير (دار المعلمين) بعد سجال في الصحافة مع (ضيا كوك آلب) الدماغ المفكر للقومية التركية كان محط اهتمام إلانتلجنسيا العثمانية، وتحول –على حد تعبير مؤرخ تركي إلى واحد من أكثر معارك العصر إثارة وأبعدها صدى وجاءت جريمة جمال باشا السفاح لتضع حداً نهائياً للرابطة العثمانية التي كان يؤمن بها الكثيرون، لأن الذين لقوا حتفهم على أعواد المشانق كان ثمة أصدقاء مقربون له، ومنهم المؤمنون بالدعوة العثمانية مثل (عبد الكريم خليل) الذي اقتصر نشاطه في سنوات الحرب العالمية الأولى على المضمار التربوي، فغادر ساطع أرض الدولة التركية بعد انتهاء الحرب، لينضم إلى الركب القومي العربي رافضاً كل النداءات والإغراءات لبقائه في تركيا حينها كتب أحد الكتاب المشاهير من الأتراك في صحيفته (وقت) بعد أن غادر ساطع تركيا، كتب يقول: (اليوم شعرنا بانفصال سورية عنا) كان ساطع الحصري في التاسعة والثلاثين من العمر حين وصل إلى دمشق التي كانت تعيش أفراح قيام الدولة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، وكانت شهرة الحصري قد سبقته إلى وطنه، فاستقبله الأمير فيصل قائلاً: (كلما كنت أقرأ لك وأسمع عنك كنت أتخيلك شيخاً متقدماً في السن، ولقد سررت جداً من مشاهدتك هكذا، من حسن حظ الأمة العربية، سيكون أمامك مجال واسع لتخدمها في حياتها الجديدة.
تركزت جهود ساطع الحصري في دمشق على تعريب التعليم بعد أن عين مديراً عاماً للمعارف، فقد فعلت سياسة التتريك فعلها، ولا بد من جعل اللغة العربية لغة رسمية في المدارس والدوائر والدواوين، وتم ذلك التحول بسرعة بعد أن أحدثت الحكومة العربية دورات خاصة للموظفين يتعلمون من خلالها الكتابة بالأسلوب العربي وألفت لجاناً مهمتها البحث في أمهات الكتب العربية ووثائق الحكومة المصرية لتثبيت مصطلحات عربية خالصة، كما تم إنشاء شعبة للترجمة والتأليف تتولى ترسيخ اللغة العربية ونقل العلوم الهامة من الثقافات الأخرى.
"واستعانت بأساتذة اللغة العربية وأدبائها من جميع أنحاء البلاد العربية".
لقد وجد ساطع الحصري نفسه، فانكب بعمل دؤوب لا يعرف الكلل، على إصلاح التربية وإشادة مؤسساتها. فوسع أعمال ديوان المعارف وأحدث المجمع العلمي العربي وألحقه بالديوان. وأسند رئاسته إلى محمد كرد علي، وأعاد افتتاح المعهد الطبي ومدرسة الحقوق "وأحدث انقلاباً فكرياً تربوياً مصطبغاً بصبغة عربية خالصة تناسب ذلك العهد".
بعد أن أصبح وزيراً للمعارف في أول حكومة عربية دستورية بدمشق، تعمل على قيام الدولة العربية الواحدة، لكن الطغيان كعادته أبداً يتربص بقيم الخير والأحلام الجميلة.
فما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى أصبحت بريطانيا وفرنسا القوتين المؤثرتين اللتين تسيطران على الأوضاع في الشرق الأوسط والوطن العربي، وتقتسمان النفوذ حسب مصالحهما الاستعمارية، وبدت المنطقة العربية مكشوفة تماماً أمام الهيمنة الاستعمارية بلا نصير يناصرها داخلاً وخارجاً غير الحكومة العربية الوليدة في دمشق إلا التي لم يترك لها المجال للتنفس، وجيشها الناشئ الذي لم يستكمل بناءه، فما إن أعطى مؤتمر "سان ريمو" الحق لفرنسا بالانتداب على سورية ولبنان حتى تحرك الجيش الفرنسي لاحتلال البلدين وعلى مشارف دمشق جرت واحدة من أغرب المعارك، حين قرر وزير الدفاع يوسف العظمة أن لا يدخل الفرنسيون دمشق إلا على جثته، وبعد معركة يائسة وغير متكافئة أشهر سيفه وهجم على إحدى الدبابات الفرنسية وراح يهوي عليها بسيفه بينما كان رصاص رشاشها يمزق جسده.
ودخل الفرنسيون دمشق، وأمروا فيصلاً بمغادرة البلاد، فاصطحب معه وزيره ساطع الحصري حيث أقاما في روما عدة شهور يدبران أمور مقاومة المستعمرين والدفاع عن القضية العربية في المحافل الدولية.
وكان فيصل قد كلف أحد أبرع ضباطه بالتوجه بالمؤن والذخائر والأموال إلى الشيخ صالح العلي في شمالي البلاد وبدء المقاومة من هناك، وكان يتطلع إلى التعاون مع الأتاتوركيين في مواجهة أطماع الدولتين الاستعماريتين، وفي هذه الحالة تكون خطوط إمداد الثوار بالأسلحة والمقاتلين والمؤن قريبة ومضمونة، وقد أوفد وزيره ساطع الحصري لهذه الغاية "ولكنه علم- حين وصل إلى أرض الدولة التركية- أن الكماليين كانوا في ذلك الحين مغلوبين على أمرهم، وأنهم بدؤوا يسعون للتفاهم مع الفرنسيين، كي يتمكنوا من مقاومة الإنكليز".
فعاد ساطع الحصري إلى إيطاليا وهناك كلفه فيصل بالاتصال بالأستاذ "بونفانتي" أستاذ الحقوق الدولية في روما، وتزويده بالوثائق والمعلومات اللازمة التي يحتاج إليها من أجل إعداد التقرير القانوني في القضية السورية، وقد أنهى مع الأستاذ "بونفانتي" التقرير المطلوب بعد جلسات طويلة.
وبعد أن استجاب فيصل لدعوة البريطانيين في التوجه إلى لندن توجه ساطع الحصري إلى القاهرة ليبدأ فصلاً مهماً من فصول حياته المثيرة، وكفاحه في سبيل قضية أمته ووحدتها، فقد لجأ إليها قبله جماعة من مجاهدي ميسلون، فشكوا إليه –كما لمس ذلك بنفسه- أن المصريين لا يؤمنون بالقضية العربية، ويستنكرون الثورة العربية ضد العثمانيين، وكان لهذه القضية مبرراتها يومئذ، فقد كشفت الثورة الروسية وثائق الاتفاقيات الغربية والمعاهدات السرية "سايكس بيكو" وسربوها إلى مصر، وقد توصل بعد تفكير إلى أن هذه المواقف "نتيجة طبيعية للانعزال المادي والمعنوي الناجم عن الظروف التاريخية، وأن هذه المواقف لا بد من أن تتغير وتزول بتغير ظروف الحياة الجديدة".
وبما أن مصر سبقت البلدان العربية في مجالات التعليم باللغة العربية التي يعتبرها الحصري ركناً هاماً من أركان دعوته؛ فقد انصرف إلى دراسة النظم التربوية فيها، فتكشف له خللاً اعتبره خطيراً وهو إهمال تدريس مادة التاريخ في المدارس الابتدائية وهو الذي يعتبره الركن الثاني من الأهمية في تكوين شخصية الأمة، وكذلك إهمال العلوم الطبيعية التي يعتبرها من العلوم التي تساعد على تفتح المدارك العقلية وتنمية القدرات، وقد علل ذلك في مذكراته: لأننا نحن الشرقيين ميالون إلى الخيالات والكلاميات بعوامل عديدة، أثرت –ولا تزال تؤثر- في تربيتنا منذ قرون، وهذا ما يجعلنا أشد افتقاراً من سوانا إلى العلوم التي تعدل هذا الميل فينا، وقد آثر –حرصاً على مصلحة مصر وحبها- أن يقدم للمسؤولين فيها اقتراحاته بخصوص ما يراه واجباً من إصلاحات.
وفي العام 1921 لبى ساطع الحصري دعوة الملك فيصل بعد أن عين ملكاً على العراق فتوجه إلى بغداد ليعمل معاوناً لوزير المعارف، وكان يترقب هذه الدعوة، لذلك عمد إلى دراسة تاريخ العراق وقابل العديد من الثوار العراقيين في القاهرة، كعادته في الدراسة والاستكشاف قبل المبادرة. وحينما وصل إلى العراق ظل ستة أشهر يدرس ويستكشف ويقوم بجولات في العراق وحدد بدقة واقع البلاد، والمشاكل التي تحتاج إلى حلول جذرية للنهوض في مجتمع سكوني يتحرك العالم خارجه باطراد"، كما تصور الحلول الممكنة والعقبات التي تواجهها.
فالبريطانيون كعادتهم عمدوا إلى تمزيق المجتمع العراقي، ووزير التعليم يعارض تعليم البنات والمستشار البريطاني لوزارة المعارف العراقية "جامد الفكر متعجرف الطبع" وقد عارض تعيين الحصري معاوناً لوزير المعارف لعلمه أنه سينتهج خطة في التعليم تتعارض مع النظام التعليمي الذي وضعته الإدارة البريطانية. ورفض الحصري تولي منصبه إلا بعد إبعاد المستشار البريطاني إلى فلسطين، فتدخل فيصل لدى المندوب السامي البريطاني الذي أمر بنقل المستشار البريطاني إلى فلسطين غير أن المستشار البريطاني لوزارة المالية ووزيرها "صاصون حسقيل" تآمر على الحصري، وأقنع مجلس الوزراء بإلغاء وظيفة معاون الوزير بحجة توفير النفقات، وإحلال وظيفة مدير المعارف العام محلها على ألا يشغلها إلا عراقي، غير أن الملك اعتبر الحصري عراقياً وعينه في هذا المنصب، فدأب على رفع مستوى التعليم بهمة لا تعرف الفتور فوحد التربية والتعليم في مدارس الحكومة والمدارس الأجنبية والطائفية ووجه التعليم وجهة وطنية قومية ووضع العديد من الكتب من تأليفه بين يدي الطلاب، كما ألف كتاب "أصول التدريس" وفق أحدث النظريات التربوية وطرائق التعليم، واستقدام المعلمين العرب من خارج العراق، وأثارت إصلاحاته العديد من الناقمين المتضررين إضافة إلى الدوائر البريطانية، فقرر الانصراف إلى التعليم في دار المعلمين العالية. وكان يهدف رفع كفاءة الخريجين منها، وهو الذي بادر بتأسيسها من قبل لتأهيل المعلمين. لكن البريطانيين رأوا في دار المعلمين بؤرة الاختمار الوطني. فألحوا على إغلاقها إلى أن أغلقت، فتولى رئاسة كلية الحقوق وبدأ العمل على تطويرها، غير أن وفاة الملك فيصل حدت من نشاطه، وأفسحت المجال أمام الناقمين عليه، فتم تعيينه مديراً للآثار القديمة والقصد إبعاده عن النشاط التربوي، كما بدأ الخلاف بينه وبين نوري السعيد وعبد الإله المتواطئين مع البريطانيين، وبعد ثورة رشيد عالي الكيلاني وإخفاقه، انصبت عليه النقمة، فاقتيد إلى قطار متوجه إلى حلب فوصلها مجرداً من حقوق التعاقد والمعاش.
أمضى الحصري عشرين عاماً في العراق، بعد أن درس قواعد النهضة التعليمية والثقافية وفجر النزوع القومي في أجياله، وقد سجل تجربته في كتابه الضخم بمجلديه والبالغ ألفاً ومئتين وخمسين صفحة، والذي استقينا منه هذه المعلومات.
استقر ساطع الحصري في بيروت مخلفاً وراءه في العراق مكتبته الخاصة، على غناها ووفرة مصادرها ومراجعها التي يحتاج إليها، والتي وصفت بأنها من أغنى المكتبات، كان يشعر بالمرارة لفقدها، خاصة بعد أن قرر إعادة الاعتبار لعالم الاجتماع العربي "ابن خلدون" الذي كان من أحب الشخصيات التاريخية إليه، وكان ابن خلدون قد تعرض لحملة ظالمة من الدارسين الغربيين والعرب على السواء، ففي خطبة ألقاها وزير المعارف العراقية على المعلمين العراقيين، دعا فيها "إلى نبش قبره وإحراق كتبه" لأنه نعت العرب بأوصاف تحقر من شأنهم، وقد كتب الحصري يومها عدة مقالات نشرها في العراق ولبنان، نفى هذه التهمة عن العلامة العربي الذي هاجمه لصوص البادية وقطاع الطرق في أسفاره. وذكر هذه الحوادث في مقدمته، وبين الحصري أن أوصاف العرب في المقدمة إنما تعني هؤلاء الأعراب الذين أثرت فيهم قسوة البادية ولم يعرفوا الحياة الحضرية، أما الغربيون ومن خلال تمركزهم ونكرانهم لجهود الآخرين الحضارية وتعاليهم على علوم الأقوام الأخرى فقد كانوا يقللون من شأن ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع، متهمينه بالجبرية، وقد فند الحصري هذه المزاعم الظالمة: "ففي بحثه المقدم إلى المؤتمر الخامس عشر لعلم الاجتماع –اسطنبول 1925- انتقد الحصري آراء الباحث الفرنسي "جاستون بوتول" الذي اتهم ابن خلدون بالجبرية بالاعتقاد أن الأمور في الطبيعة والمجتمع تحدث بحكم القضاء والقدر، وبتصديق الروايات التاريخية الشائعة بين عامة الناس".
ويعتبر الحصري: أن العرب المعاصرين مقصرون في حق ابن خلدون الذي يعتبر من أعظم المفكرين متأثرين بدعوات الشعوبيين الذين كانوا يهاجمون العرب تأسيساً على الفهم الخاطئ الذي ورد عند ابن خلدون، لذلك انكب على دراسة مقدمته دراسة مستفيضة ورائدة أثمرت كتاباً من جزئيين تحت عنوان "دراسات عن مقدمة ابن خلدون" وصفه الدكتور جميل صليبا بأنه، "قد أدى خدمة لذكرى مؤلفها العظيم، وأنه أثبت في دراساته النفسية: أن ابن خلدون هو مؤسس فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع معاً، وأنه جاء قبل عصره بأجيال، وأنه أول من عالج القضايا الاجتماعية بأسلوب علمي، وأول من تكلم عن أثر الحياة الاقتصادية في تطور التاريخ، وأول من قال بخضوع الحوادث الاجتماعية لروابط طبيعية ضرورية، وأول من تكلم عن الرابط الاجتماعي، وأوضح تكون الجماعات والدول وبحث عن طبائع الأمم وسجاياها" وبلغ من تقديره لابن خلدون أن سمى نجله باسمه، وكان من أحب الأسماء إليه ويشعر بالغبطة عندما ينادى "ابن خلدون".
وقد أسهب في الحديث البليغ عن مكانة ابن خلدون في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وقارنه بأعلام فلاسفة الاجتماع، كما قارن مقدمته بـ "روح القوانين" لمونتسكيو ولا يتردد قارئ ذلك الكتاب الأنفس في الحكم بأن ابن خلدون أحق من أوغست كونت بلقب مؤسس علم الاجتماع.
وعندما شرع في كتابة الجزء الثالث عن المقدمة، تلقى دعوة من الحكومة السورية للعمل على إصلاح معارف البلاد، وذلك في أواخر العام 1943 عندما بدأ الوطنيون يتسلمون مقاليد الحكم فلبى الدعوة مسروراً بعودته إلى وطنه، بعد أن انتزعت القوات البريطانية والفرنسية سوريا ولبنان من قوات الجنرال فيشي الموالي لدول المحور، وقررتا استقلال البلدين.
تسلم ساطع الحصري وظيفة مستشار لوزير المعارف. ومن ثم انهمك في دراسة كافة الشؤون المتعلقة بالتربية والتعليم والثقافة العامة والآثار، واتفق مع رئيس الوزراء آنئذ على توثيق وتنظيم العلاقات الثقافية ما بين سوريا والبلاد العربية لتحقيق الوحدة الثقافية التي كان يراها إحدى الخطوات نحو الوحدة الشاملة، وتعريب النظام التربوي تعريباً كاملاً. "واجتثاث ما علق به من شوائب الانتداب الفرنسي".
وقد أجرى مشاورات عامة مع كافة العاملين والمهتمين بالتربية والشؤون الثقافية، في الليل والنهار إلى أن أنهى ستة عشر تقريراً في إصلاح التعليم، وصفت بأنها أحدثت دوياً في أرجاء الوطن العربي، استفرغ فيها جهده وخبرته، وظل في عمل دؤوب مدة ثلاث سنوات استكمل فيها مشروعه التعليمي، اعتبرها كامل عياد "عملاً جباراً كان له أعظم النتائج وأعمق الآثار في تطوير سورية وتقدمها الثقافي" إلا أن الفرنسيين الذين ناصبوه العداء من قبل، أثاروا ضده المتغربين والناقمين، وخرجت مظاهرات طلابية ترفع شعارات العداء لإصلاحاته فقرر الاستقالة من منصبه وغادر البلاد نحو بيروت ومن ثم القاهرة، التي وصلها في الخامس والعشرين من شهر شباط 1947.
تركزت جهود ساطع الحصري في القاهرة على استكمال منظومته الفكرية في القومية العربية حيث ألف أهم كتبه، وإلقاء محاضرات هامة في هذا الموضوع، والرد على دعاة الإقليمية والانعزالية. والنزعة الفرعونية، وغيرها من الحركات، إضافة إلى أعماله الوظيفية في الجامعة العربية ولجانها، وإدارته لمعهد البحوث والدراسات العربية العالية الذي أنشئ بمساعيه والعمل على إصدار حوليات الثقافة العربية التي جاءت في ستة مجلدات ضخمة في كل منها أكثر من خمسمائة صفحة، وهي شبه موسوعة تضم مجموعة من المعلومات والوثائق الأساسية عن أوضاع التعليم والاتجاهات الثقافية في مختلف أقطار الوطن العربي، وكان هدفه من هذه الحوليات، إزالة الفوارق الثقافية بين البلاد العربية، لأن الوحدة الثقافية والتربوية عنده مقدمة لا بد منها للوحدة العربية، كما كان يؤلمه، أن الثقافة في الوطن العربي "متنوعة تنوعاً شاذاً" وبصورة خاصة تلك الأقطار التي كانت ترزح تحت نير الاحتلال ومن خلال هيمنته، يوجه الثقافة والتربية وجهة تخدم مصالحه على حساب المصلحة العليا للأمة العربية، وبالتالي فإن نظم التعليم واتجاهات الثقافة في تلك الأقطار، لم تكن نتاج طبيعة البلاد الأصلية، إنما كانت من نتاج السياسات الأجنبية المسيطرة. وأن المصلحة العربية تقتضي إزالة كافة الفوارق الثقافية والتعليمية، وأن نهوض الثقافة وتوحيد النظم التربوية المنتجة للثقافة سيؤدي بالضرورة إلى توحيد الأمة.
كما ساهم في إنشاء متحف الثقافة العربية، ومهمة المتحف عنده: إظهار الفروق القائمة بين نظم التعليم ومنهاج الدراسة في مختلف البلاد العربية، للسعي من أجل إزالة تلك الفروق. لتستفيد الدول العربية من تجارب بعضها من هذه الميادين.
أما عن المحاضرات التي ألقاها بالقاهرة، فقد اعتبرت "فتحاً بيناً في تاريخ الدعوة القومية في مصر" التي تنبأ لها منذ الثلاثينات بأنها ستكون الرائدة والقائدة في هذا المجال وإن تأخرها من وجهة نظره التي تعتمد اللغة والتاريخ أهم عاملين في تكوين الأمة. ومما لا شك فيه أن مصر كانت سباقة في تعريب التعليم، أما من حيث التاريخ وتأخر فاعليته، فيعود لما كان يدرس في المدارس الثانوية والعالية "كان الاهتمام ينحصر بدورين من تاريخ مصر، في البداية تاريخ المصريين القدماء وفي النهاية تاريخ أسرة محمد علي، وأما ما حدث في مصر بين هذين التاريخيين، فكان يهمل إهمالاً غريباً".
وكان لا يفارقه الإيمان، بأن الأسباب التي أدت إلى عزلة مصر ستزول، وتعود مصر إلى عروبتها، وقد تحققت نبوءته، حين انتقلت مصر –بعد الحرب العالمية الثانية- إلى مكانة الصدارة في النضال من أجل الوحدة العربية.
ومع أنه استبشر خيراً حين تأسست الجامعة العربية في العام 1945، ورأى في تأسيسها –كما يقول في "صفحات من الماضي القريب": "منعطفاً جديداً في تاريخ الأمة العربية، وخطوة جادة في الطريق إلى الوحدة، وأنها تكونت تحت تأثير عوامل قومية عميقة" غير أنه رأى فيما بعد –أنها فشلت فشلاً ذريعاً في إنقاذ فلسطين وقد سئل في حينها: "كيف نهزم أمام إسرائيل ونحن سبع دول"؟
فأجاب سائله بمرارة: "لقد هزمنا لأننا سبع دول"!.
غير أن فرحه كان عظيماً حين قامت الثورة في مصر، ومصدر فرحه أن الذين قادوا الثورة، كانوا من المشاركين في حرب فلسطين، لأن حسهم القومي قد تعمق باشتراكهم في المعارك، وكان يرى: "أن كل تقدم يحصل في مصر لا يخلو من النفع لسائر البلاد العربية، كما أن كل نقص يعيش ويستمر في مصر لا يخلو من ضرر العدوى".
وقد أثبتت حركة التاريخ فيما بعد صحة ما قاله تماماً.
وفي تلك المرحلة أصدر أهم كتبه "العروبة أولاً" بعد أن أصبحت الوحدة نزعة واقعية في سياسة عدد من الحكومات العربية وخاصة بعد أن انتهت الثورة المصرية إلى اعتناق العروبة بصورة رسمية، ورحب بما جاء في ديباجة الدستور المصري ومادته الأولى "الشعب العربي في مصر جزء من الأمة العربية" ووصف هذا التحول "وكأنه القفزة الرائعة التي قفزها التفكير السياسي والعمل الوطني، والشعور العام في مصر من فوق متاهات اللا عروبة إلى مرتفعات العروبة الحقة".
وكانت فرحته في قيام الجمهورية العربية المتحدة بين القطرين الشقيقين "سورية ومصر في العام 1958" لا تعدلها فرحة، وبقدر هذا الفرح، كان حزنه عظيماً حين وقع الانفصال، فقد بدا يائساً حزيناً منفطر القلب "يكاد يحس أن حياته كلها أصبحت لا معنى لها".
ومع ذلك فقد كان إيمانه بمستقبل أمته العربية ووحدتها التي يرى أنها محتومة، لا يتزعزع، فقد هزته نكسة حزيران، لكنها لم تبلغ به حد اليأس، لذلك كانت سنوات عمره الأخيرة أكثر خصوبة وعطاء من عكف فيها على البحث والتأليف، وأصدر العديد من الكتب التي تتناول قضية أمته ومستقبلها بحب غامر، وإيمان عظيم.
كان في الثامنة والثمانين من عمره حين وضع لنفسه خطة عمل يستكمل فيها تسجيل تجربته الطويلة بثلاثة كتب عن مذكراته في تركيا وسورية ومصر، غير أن القدر لم يمهله فاختاره الله إلى جواره في الأيام الأخيرة من العام 1968. وبرحيله فقدت الأمة العربية واحداً من أخلص أبنائها أمضى عمره المديد في خدمة قضاياها بعزيمة لا تلين، ولا تعرف الكلل واليأس، امتاز بفكر ثاقب وعقل مستنير تمثل ثقافة عصره وعلومه، وكانت حياته جهاد واجتهاد ومقاومة عنيدة لقوى الهيمنة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وواجه الدعوات الانعزالية والإقليمية، ورسخ مفهوم الثقافة لتحقيق شخصية الأمة وهويتها، وكأنه يستشرف في أفاق المستقبل فيما نشهده الآن من محاولات الشرق أوسطية والعولمة، وعمق أهداف التربية بتسريع التحديث والنهوض واجتياز هوة التخلف، وخلص إلى نتيجة واحدة هي: "أن قوة العرب في وحدتهم" وبغير الوحدة لن تكون لهم قوة حقيقية، وآمن بالوحدة من خلال التعدد، فعندما تكون اللغة روح الأمة. والتاريخ ذاكرتها الجماعية، فإنه لم يسقط بذلك مساهمات العرب غير المسلمين في تشييد حضارة أمتهم والدفاع عنها حتى في الحروب الصليبية وهذا ما قاده إلى عقيدة قومية بعيدة عن التحزب والتعصب، وصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة حول القوميات ومكوناتها، والعوامل المؤدية إلى ترسيخها، حين اعتبر أن الاقتصاد عامل من العوامل، وليس العامل الأساسي. مع إيمانه بضرورة إزالة الجور والحيف الاجتماعي بأقصى سرعة ممكنة، وكذلك الدين الذي آمن به، واعتبره من العوامل المهمة، وكذلك العامل الجغرافي، وركز في مجالات البحث والتربية على المنهجية العلمية وركز على دقة المصطلحات وضرورتها في البحوث العلمية والأدبية، وتعريبها وضرورة إيجاد مصطلحات جديدة تواكب التطورات.
ولهذه الغاية تم تأسيس المجمع العلمي العربي بإشرافه، وأوكل إليه هذه المهمة، إضافة إلى تطوير اللغة العربية وترسيخها في الكيان المجتمعي عموماً.
وقد حاور معظم الأفكار في نشوء الأمم والقوميات من خلال ثقافته الموسوعية، واطلاعه على علوم عصره وأيديولوجياته من خلال الشروط التاريخية التي يجب أن تؤخذ بالحسبان، فقد وجهت إلى منظومته الفكرية بعض الانتقادات من مفكرين عرب وأجانب، وتحول بعضها إلى اتهامات تعيد أفكاره إلى مصادر غربية، وهذا ظلم كبير للرجل. حقاً إن منظومته الفكرية تخلو من أي حديث مباشر عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من وجهة نظر أيديولوجية، وتشكل هذه القضية أضعف حلقة في منظومته الفكرية، غير أننا لو نظرنا إليه من خلال مرحلته الزمنية وحساسيته من الانتماءات السياسية والحزبية الضيقة التي تسيرها الأيديولوجيات، وهو المفكر الحر والمتطلع أبداً نحو المصلحة العليا لأمته العربية ونهضتها، وتأسيس حداثتها بالقول والفعل، وانشغاله بتعميق الثقافة والتربية والعلوم الإنسانية، التي تشكل دعائم الانطلاق يتجاوز مرحلة التخلف واللحاق بالركب الحضاري من خلال حرق المراحل وشيوع التعليم، ورفع الظلم والحيف الاجتماعي، لهان الأمر.
أما عن رد الأفكار التي جاء بها إلى مصادرها الغربية، فإنه قول يجانبه الصواب، لأن المدرسة الفرنسية في القومية وعلى رأسها الفيلسوف الفرنسي رينان والتي نادت بضرورة اللغة تعتمد المشيئة والإرادة في التكوين القومي، أما المدرسة الألمانية على الرغم من اعتمادها اللغة أيضاً إلا أنها تعتمد الصفاء العرقي، وقد أثبتت العلوم الاجتماعية عدم صفاء الأعراق، فضلاً عن أنه يقود إلى العنصرية والتعصب، وكذلك المدرسة الإيطالية على الرغم من اعتمادها على التاريخ. ولكل أمة شرطها التاريخي ولا يمكن أن تنسحب هذه الأفكار على الأمة العربية في تاريخها الطويل، وأن التشابه في بعض الأفكار، ليس بالضرورة نقلاً عن الآخرين وقد تكون نابعة من الواقع، مع أننا نقر بالمثاقفة بين الحضارات والشعوب، ونعتقد أن الحضارة نتاج تراكم إنساني، وعلينا ألا ننسى: أن مؤسس علم الاجتماع العلامة العربي ابن خلدون يعتبر اللغة العربية الرابطة الدائمة للعرب، وبما أنها الحامل الثقافي عبر التاريخ كان تواشجها مع التاريخ في دعوة الحصري منطقياً وأصيلاً. ولا بد من الإقرار بأنه لا توجد قاعدة عامة في مثل هذه المواضيع. ولا بد من الاعتراف أيضاً، بأن لكل أمة شروطها التاريخية التي تؤثر في بعض العوامل من حيث القوة والضعف، وقد تعمق الحصري في دراسة كافة العوامل، وخرج بنظريته القومية التي كان يعتقد اعتقاداً جازماً بصحتها، وناضل في سبيل هذا الاعتقاد طوال حياته المديدة.
أما عن المفكرين غير العرب الذين كتبوا عن الحصري، فقد جاءت كتاباتهم ذاتية على أبعد الحدود، فالدكتورة الروسية "تاتيانا تنجونوفا" ومنذ عنوان كتابها حتى نهايته "ساطع الحصري" رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي" تحاول نفي التهمة عن الحصري التي ألصقها به كتاب الغرب "وليم كليفلاند" الأستاذ بجامعة "برنستون" في كتاب عن الحصري، إلى أنه بارتكازه إلى أفكار التنوير البرجوازي وليس إلى مذاهب الأفغاني وعبدو الإصلاحية قد شغل موقع المراقب الأجنبي، الذي حلق بعيداً فوق البيئة الاجتماعية المحيطة، أما نضال الحصري ضد دعوات الإقليمية والجامعة الإسلامية فيصفها الباحث الأمريكي بقوله:
"أن اقتراح مثل هذا التعديل الجديد والجذري في الولاء، لا يمكن أن يتقدم به إلا شخص لا يضرب جذوراً عميقة في المجتمع العربي، ولاتهمه الاعتبارات السياسية أو الارتباطات المحلية".
وعلى نحو مماثل نجد الباحثة الأمريكية "س. ج. هايم" ترد مآثر الحصري- في حقيقة الأمر- إلى تقديم "فيخته" و "هيجل" في صورة أساتذة للفكر العربي الإسلامي" وبنفس التعسف تخلص الباحثة إلى القول: "أن نزوع الحصري إلى صياغة نظريته في قوالب تتوافق شكلياً مع الإسلام، إنما جاء من كونه "قد اتخذ فيخته، لا القرآن، مصدر إلهام له".
وتعلق الباحثة الروسية قائلة: "وفي ضوء هذا الطرح يتبدى الحصري مجرد "مثقف موال للقيم الغربية"، وبذلك تغيب الرابطة العضوية الوثيقة، التي تجمع بين آرائه وبين الاتجاه العام لتطور أيديولوجية القومية العربية، انتقالها من الدفاع عن الدين والمبالغة بدوره في الحياة الاجتماعية إلى إعلان العلمانية سلاحاً فكرياً في النضال ضد القوى والتيارات السلعية المحافظة".
إن الفكر الغربي عموماً –ومنذ اليقظة العربية حتى الآن، يكيل الاتهامات لرجال الإصلاح لأسباب معلومة، فقد اعتبر الأفغاني الحكومة البريطانية –بعد احتلالها للهند وإطاحتها بالحكم الإسلامي، وكانت ممثلة للغرب –بأنها "ألحقت الأذى بكل الكائنات الحية على الأرض".
وكذلك فعل ساطع الحصري في تصديه بحزم للبريطانيين والفرنسيين، ولكن أن تتخلى الدراسات الغربية عن المنهجية العلمية وأخلاقها، فتلك مصيبة حقيقية، لأن أي متتبع لأفكار الحصري والأفغاني يرى بوضوح أن الأفغاني صاحب التأثير الأول في أفكار الحصري.
فقد ذكر المخزومي في كتابه "خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني" أن الأفغاني كان يمجد الأمة العربية ويشيد بمآثرها، وطالب بأن تصبح اللغة العربية لغة رسمية للإمبراطورية العثمانية. وأعرب عن استيائه من سوء معاملة العرب والعربية وسياسة التتريك في قوله "لقد أهمل الأتراك أمراً عظيماً وهو اتخاذ اللسان العربي لساناً للدولة، ولو أن الدولة العثمانية فعلت ذلك لكانت في أمنع قوة، ولكنها فعلت العكس، إذ فكرت بتتريك العرب، وما أسفهها من سياسة وأسقمه من رأي".
وقد أماط ساطع الحصري اللثام في كتابه "ما هي القومية" عن مقال كتبه الأفغاني ونشر في العام 1913 باستنبول، وترجم إلى اللغة الفرنسية يقول فيه: "لا سعادة إلا بالجنسية (القومية) ولا جنسية إلا باللغة، ولا لغة ما لم تكن حاوية لكل ما تحتاج إليه طبقات أرباب الصناعات والخطط في الإفادة والاستفادة".
يضيف الأفغاني بوضوح أكثر: "إن الروابط التي تربط جماعات كثيرة من الناس اثنتان، وحدة اللغة، ووحدة الدين، وحدة اللغة هي الأساس، الذي تقوم عليه الجنسية، واللغة أشد ثباتاً، وأكثر دواماً من الدين، لأننا نعرف أمماً غيرت دينها- خلال ألف عام مرتين، بل ثلاث مرات. دون أن يطرأ خلل على وحدتها اللغوية والقومية، نستطيع أن نقول: إن تأثير رابطة اللغة –في هذه الدنيا- أقوى من تأثير رابطة الدين".
وفي حديث الأفغاني عن الوحدة الإسلامية فقد ذكر بجلاء ووضوح "أن هدفه ليس إقامة دولة إسلامية موحدة في ظل حاكم واحد، لأن ذلك أمر غير عملي إلى حد بعيد".
ومن مراجعة أفكار رجالات اليقظة العربية يتجلى أنهم متفقون جميعاً في الآراء التي لا تخرج عن هذا الإطار فالزهراوي يرى أن الرابطة الأساسية بين العرب –يصرف النظر عن مذاهبهم وأديانهم، هي لغتهم وتاريخهم، ولا يرى الجامعة الإسلامية مقبولة كنظام سياسي، أو قابلة للتحقيق.
وكذلك كان عبد الغني العريسي الذي يرى أن اللغة العربية قاعدة العروبة، وأن القرآن رسخها ولا حياة للعرب إلا في حياة لغتهم "وإذا ماتت اللغة فالسلام على هذه الأمة".
أما محمد عبدو الذي استشهد به الكتاب الغربيون فقد اشترك في ثورة عرابي التي أطلق عليها "ثورة أولاد العرب" وبعد فشلها توجه نحو التربية والنهوض الثقافي والعلمي وهو نفس ما فعله الحصري، وكان محمد عبدو يرى أن الإسلام يرفض الدولة الدينية إذ لا ثيوقراطية في الإسلام، ولا كهنوت، ولا يعرف الإسلام تسلط رجال الدين فلا رجال دين في الإسلام وإنما علم وعلماء. لا يرون حقاً إلهياً في الملك كما كانت الحال في الغرب، وكان الكواكبي يرى أن الخلافة عربية اغتصبها الأتراك ويتفق في ذلك مع رأي الحصري، فهل خرجت آراء الحصري في القومية والدين عن فلكها ليوصم بأنه لا يضرب عميقاً في جذور المجتمع العربي، وهل جاء من قارة أخرى ليكون مراقباً؟ إن مثل هذه المقولات تستهين بالعقل، وتنم عن مخزون الكراهة في الغرب نحو أمة وحضارة لم تقدم إلا كل الخير للإنسانية، وعن تصفية حسابات مع رجالات نهضتنا الذين بصروها بالأخطار المحدقة التي تمارسها قوى السيطرة والاستلاب، والمفرغة من القيم والفضائل. كما أنه لا بد من الحديث عن العلمانية الغربية بشقيها الليبرالي والمادي، والمنهجية العلمية العربية التي يتبناها ساطع الحصري والتي لا تتعارض بحال من الأحوال مع العقيدة الإسلامية إذ "لا يمكن أن يوصف نهج الحصري بالعلمنة أو العلمانية في المطلق أيضاً ولقد نشير هنا –إلى مشكلتنا- على المستوى العربي والإسلامي- مع مصطلح العلمنة، أساساً من أنه يتصرف في الغرب إلى استبعاد العقيدة الدينية أو الدين من الحياة السياسية في المجتمع.
وبديهي أن هذا المفهوم للعلمنة، لم يخطر يوماً على بال ساطع الحصري، ولا هو يتفق مع ما كان يعرفه الرجل من صحيح الإسلام، بوصفه دين الغالبية للجماعة القومية العربية وكان يرى في الدعوة القومية مظلة شاملة وحماية تجمع بين الأغلبية المسلحة وسائر أبناء الطوائف والمذاهب والأديان من غير المسلمين في إطار المجموعة العربية الواحدة" والذي كان يرى – "والله أعلم حيث يجعل رسالته- أن العرب الذين حملوا الرسالة التي تنزلت بلغتهم. هم أقدر الناس على فهمها واستيعابها وتبليغها. وهم المؤهلون لقيادة المسلمين وإصلاح أمورهم، كما لاحظ أن أمجاد الإسلام مقرونة بأمجاد العرب، وتدهور الحضارة الإسلامية نتيجة إقصائهم، "إذا ذل العرب ذل الإسلام" مع ملاحظته أن إسناد الدعوة للوحدة العربية على الإسلام "في ظروف مواجهة الدول العثمانية المتردية. كان يمثل إشكالية حقيقية" مع إيمانه الكامل بفاعلية تضامن المسلمين، وقد نظر إلى هذه القضية (الوحدة الإسلامية) نظرة تنم عن وعي حقيقي ومتقدم في قوله: "إن فكرة الوحدة الإسلامية أوسع وأشمل من مفهوم الوحدة العربية، غير أنه ليس من الممكن أن نقول بالوحدة الإسلامية دون أن نقول بالوحدة العربية" .