زاوية جروان تحرير عباسية
زاوية جروان تحرير عباسية، للصحفي المصري مصباح قطب، 1 ديسمبر 2011.
كان والدي يقول لنا دائما وساخرا : "شر امتى فى العزب" اى القرى الصغيرة . كنا نحن من سكان إحدى تلك القرى والتى تسمى التوابع فى محافظة الغربية ، واذكر جيدا بعد حرب 1967 وتردد أسماء دول كثيرة فى أخبار الراديو، ان رجلا معمرا من القرية هو ضيف جمعة، قد اقسم بالله أمامنا انه لم يكن يعرف من قبل ان الدنيا فيها دول أخرى غير بر مصر. عرفت لاحقا إذن ان أبى كان يقصد ان أهل القرى الصغيرة أنا س طيبون نعم لكنهم محدودو الأفق حتى فى مناوراتهم وخباثاتهم وعادة يبدأ العالم وينتهي عندهم على أخر الشوف وخط أفق الشمس. وقد حكمتنى هذه النظرة فى تقييم الدكتور الجنزورى المولود فى تابع مثلى هو " زاوية جروان " بالمنوفية وذلك عند توليه منصب رئيس الوزراء عام 1996 . للأسف العنيف لم يخيب الجنزورى ظني فقد ارتكب ما لا يحصى من الأخطاء التى تبين كلها انه رجل محدود الأفق فعلا وفيه قدر كبير من اندفاع القرويين وسأشير الى تصرف واحد بسيط هو قراره بإجبار الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم حينذاك على قطع رحلة له الى الخارج وكان معه الدكتور رمزي الشاعر رئيس جامعة الزقازيق وقتها والعودة فورا دون اى مبرر اللهم إلا ان الجنزورى لم يعلم ان حسين كامل سيصطحب معه رمزي . كانت اهانة سخيفة للرجلين اللذين يفترض أنهما آخر من يمكن ان يكونا خصوما للجنزورى بحكم التركيبة السياسية لهما وله كما كان تصرفا ضيق الأفق من رجل كان قد فتح معارك واسعة مع صفوت الشريف وكمال الشاذلي ويوسف بطرس غالى وأطراف أخرى فى النظام اى انه بحاجة الى ان يرتب أولوياته ومعاركه لا ان يفتح النار تلويشيا فى كل الاتجاهات وفى وقت واحد . لقد كتبت فى الاهالى كثيرا عن مزايا وعيوب الجنزورى وكان من العيوب الظاهرة ميله الى التكويش وعدم الثقة فى الآخرين وكراهة الجدل والنقاش والضعف أمام أضواء الكاميرات والمظهرية الشديدة ( فى اى تحرك كان يجر وراءه 8 - 10 وزراء فى العادة ) ومعالجته للأمور الفنية – كسعر الصرف – بقرارات إدارية خسرتنا مليارات الدولارات لصالح مافيا الاتجار فى الدولار من قيادات الحزب الوطني وتركيزه على جانب واحد من جوانب التنمية هو مراكمة الأصول المادية دون اهتمام ببناء البشر والمؤسسات وهنا اضرب مثلا لقد فجر الجنزورى قضايا فساد كبيرة لكنه مثلا لم يهتم مطلقا ببناء رقابة إدارية من نوع جديد أو مباحث أموال من نوع جديد أو جهاز محاسبات من نوع جديد اى لم يعنى بخلق آليات ومؤسسات من نوعية مختلفة لمنع الفساد ومكافحته وثمة مثل آخر فحين جاء الجنزورى اعلن عن خطط كبيرة لبناء مصر القرن الواحد والعشرين وقد علق الدكتور إبراهيم العيسوي مستشار معهد التخطيط القومي والذى عمل تحت رئاسة الجنزورى للمعهد بان الجنزورى فشل فى بناء معهد تخطيط عصري وكان يتسامح بل ويوجه الى تلفيق نسب الفقر فكيف سيبنى مصر القرن 21 ؟ . وقد أطلق الجنزورى عدة مشاريع تستحق الاهتمام وان أخذنا عليه ضعف الدراسات والاندفاع بصفة خاصة فى توشكي لكنه قدم مشروعين بالغي الأهمية لمصر وهما شرق التفريعة وشمال غرب خليج السويس انطلاقا من فهم صحيح بان هذا المحور التنموي يمكن ان يكون قاطرة جبارة للاقتصاد المصرى كما قدم مشروعا باسم الخطة القومية لتعمير سيناء حتى 2017 ولم يحدث فيه تقدم يذكر لأسباب ليست كلها من شانه كما لم يحدث تقدم كبير فى شرق التفريعة وشمال السويس بسبب الحروب الضارية من معسكر اليمين الجهول (عاطف عبيد وأمثاله وفريق جمال مبارك فى بداياته )على الجنزورى ، وقد كان آخر ما كتبت فى تقييم الجنزورى مقالا بعد رحيله عن رئاسة الحكومة فى أكتوبر 1999وقد نقله الزميل عادل حمودة بالكامل تقريبا فى مقدمة كتابه عن الجنزورى دون إشارة الى أسمى بل وأساء الى حمودة لأنه قدم ما كتبته فى سياق يفهم منه ان تلك كتابات تؤيد ما كان حمودة قد كتبه ضد الجنزورى فى عز سطوة الاخير بينما كتب من هم مثلى بعد ان رحل الرجل وهذ لم يكن صحيحا مطلقا بل وفى تقديري ان البعض – ومنهم الأستاذ عادل- يمكن تفسير جزء من هجومهم على الجنزورى بخلافاتهم مع نجيب ساويريس رئيس موبينيل بينما مثلى تعامل بكامل الموضوعية مع الجنزورى ونجيب معا واخذ ولازال على الجنزورى انه خلع المحمول من الشركة المصرية للاتصالات وكان بإمكانه ان يفتح سوق الاتصالات – وذلك مفيد وأفاد مصر فعلا – دون نزع شبكة المصرية للاتصالات منها ومنحها لموبينيل. المهم ان صمت الجنزورى لسنوات بعد الوزارة أضاف سببا آخر لانتقاده الى ان فاجأنا المجلس العسكري باختياره ليرأس حكومة الإنقاذ الوطني . وإذ رفض ثائرو التحرير هذا الاختيار، انبرى آخرون لمساندة المجلس العسكري واختياره فى العباسية ، وما يعنينى هنا ان أقول ان القضية ليست جنزورى أو لا جنزورى ولا عباسية أو تحرير لكن القضية هى أخلاق العزب التى أشرت اليها اى ضيق الأفق فى مواجهة أخلاق العصر المؤمنة بالتعددية والتنوع والرحابة . فالمجلس العسكري الذى يسد أذنيه عن سماع غيره ويعتبر نفسه الوحيد المؤتمن على الدولة المصرية ومستقبلها يثبت بذلك انه من مواليد زاوية جروان أو من مواليد قريتنا ، وميدان العباسية الذى لا يسمع إلا نفسه فى دفاعه عن الجيش والمشير ويتصور ان التحرير خونة الوطن وأعداء الجيش/ عمود البلاد، يثبت ايضا انه من فصيلة " شر امتى... " والثوار الذين لا يتخيلون ان فى بر مصر مكانا أخر وبشر آخرين غير بر التحرير ومن فيه ولا يعرفون طريقا للتأثير والتغيير سوى الاستشهاد فى التحرير – على جلال مثل هذه التضحية الفريدة – هم ايضا مواليد زاوية جروان ثالثة . لكن " الجراونية" ليست قدرا حتى على أبنائها فبإمكان الإنسان ان يحرر نفسه لو استهدى بالله وعقله والحل بسيط قدمه ويقدمه لنا نهر النيل الذى صاغ شخصية المصريين على مدار عشرات الاف السنين ... الترقرق الهادئ فى المجرى الفسيح مع المضي الثابت قدما الى الإمام. بعبارة أخرى الحكمة فى مواجهة الاندفاع والحرص على البناء للمستقبل (لو كان بيد أحدكم فسيلة..) و( الفاحت نازل والباني طالع ) فى مواجهة قوى للخلف در و للخليج وقطر والناتو انظر . الحل فى حوار عقلاني متزن وشجاع يستبعد فقط كل من هو ملوث السمعة أو الجيب أو القدرات العقلية أو ملوث اليد بالدماء والباقي سهل ..حنوصل لحل... حنوصل لحل. المصريون أساتذة فى صناعة التوافق الخلاق وأساتذة فى أكاديمية شوية علي وشوية عليك. العسكري يجب ان يفهم ان التحرير مش شوية شبان متهورين (أو بياخدوا تمويل من بره كما تقول أطراف فيه أحيانا ) . التحرير رمز لرؤية لمصر التى حلمنا بها وستكتسب قيمتها هى الأخرى من التحاور مع جيش مصر الوطني الذى لعب دورا لا يمكن نكرانه فى تحديث مصر منذ محمد على وليس فقط الدفاع عن شرفها وحدودها . حلف من ممثلى مؤسسة عسكرية من طراز جديد وشباب من طراز جديد هذا هو التحالف الذى لن تمضى مصر قدما إلا به لعقدين قادمين على الأقل بعدها يمكن الكلام عن دولة برلمانية يستقل البرلمان فيها بكامل السلطات فلماذا نضيع الوقت فى استبعاد كل منا للآخر؟ . ان هذا ايضا ما يجب الحكم به على الجنزورى : هل يستطيع ان يضع لبنة فى بناء هذا التحالف أم يلعب لعبة التحايل لاستبعاد اى بر آخر غير بر زاوية جروان وبرالعباسية المؤيدين السهلين له ؟ هل يستطيع ان يفتح خياله و صفحته كالنيل أم يعيد انتاج صنف جديد من أصناف ضيق الأفق أخشى عليه ان يصدمه انه لا مجال لتسويقه فى مصر الواعية الراهنة؟.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .