تعالوا نقرأ الموازنة العامة بروح الثورة، عبد الخالق فاروق

من معرفة المصادر

تعالوا نقرأ الموازنة العامة بروح الثورة، مقال كتبها د. عبد الخالق فاروق، جريدة المصري اليوم، 12 مايو 2013.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقال

الجزء الأول

مثل نفقات الموازنة العامة للدولة فى مصر حوالى من ربع إلى ثلث الناتج المحلى الإجمالى تقريباً، وقد تزيد على ذلك فى بعض السنوات، وهى بهذا المعنى ذات أهمية خاصة فى دورة الإنتاج والاقتصاد وتوزيع الدخول.

وعندما تحدثنا عدة مرات فى وسائل الإعلام المختلفة حول السياسات المالية البديلة والضرورية لإنقاذ البلاد من حالة العسر المالى، والتدهور الاقتصادى الخطير الذى نعانى منه حالياً، ويكاد يقترب بنا من حافة الانهيار والإفلاس، وأشرنا فى سبيل إنقاذ الموقف إلى ظاهرة الإنفاق السفيه، وإهدار الموارد المالية المتضمن فى إدارة أجهزة الدولة المختلفة، وطالبنا بترشيد هذه النفقات، خاصة أن العجز فى الموازنة فى هذا العام (2013/2012) يكاد يقترب من 200.0 مليار جنيه - كان الرد الحكومى منذ عهد المجلس العسكرى غير المأسوف عليه وحتى يومنا هو التجاهل، وعدم الجرأة حتى على مناظرة أفكارنا، بما أكد لدىَّ حقيقتين:

- الأولى: أن هؤلاء المستوزرين طوال العامين الماضيين مصممون على نهج التخريب وإهدار الموارد المحدودة.

- الثانية: أن هؤلاء أضعف علمياً ونظرياً من أن يواجهوا أفكارنا، سواء بالمناظرة أو بكشف جوانب عدم صحتها.

وبينما حظيت أفكارنا بتضامن شعبى واسع فإن الوضع الراهن يستدعى الانتقال من هذه الحالة إلى تعميق هذه الأفكار لدى الجمهور الواسع من خلال العرض التفصيلى لمكونات الأزمة المالية، ومعرفة مكامن الخلل والسفه والإهدار المالى، ولنبدأ بتحليل أرقام موازنة العام المالى 2013/2012 ومقارنتها بالعام السابق عليها، بل السنوات السابقة كلها ثم بالموازنة الجديدة لعام 2014/2013 لنكشف عن الأداء النمطى المعتاد لمن يديرون سياستنا المالية والاقتصادية وكأننا لم نقم بثورة تطالب بتصحيح تلك السياسات الشاذة.

وتتجسد هذه العقلية المالية والاقتصادية فى ثلاث ركائز لم تتغير أبداً وهى:

الأولى: طريقة مواجهة العجز والفجوة التمويلية الكبيرة، سواء المتمثلة فى العجز فى الموازنة العامة للدولة، أو الفجوة الكبيرة والمتزايدة فى الميزان التجارى مع العالم الخارجى.

الثانية: طريقة وضع المخصصات المالية لمصروفات الجهات الحكومية المختلفة، وعدم العدالة المستمرة فى توزيع هذه المخصصات، خاصة ما يتعلق منها بالأجور والرواتب والمكافآت.

الثالثة: نمط الحصول على الإيرادات وتحميل الفقراء وكاسبى الأجور والرواتب عبء الحصول على هذه الإيرادات عبر ما يمكن تسميته «الضرائب السعرية»، أى التى ينتقل أثرها فوراً عبر الأسعار والأسواق.

خذ مثلاً ديوان عام وزارة الخارجية المصرية، لقد رُصد لها فى هذا العام (2013/2012) حوالى 2157.6 مليون جنيه، بزيادة عن العام الماضى حوالى 257.5 مليون جنيه، فى حين أن المجتمع المصرى يطالب بعد الثورة بترشيد نفقات هذه الوزارة، وتقليص بعثاتها الدبلوماسية فى كثير من دول العالم من خلال مفهوم السفير غير المقيم، ودمج بعض السفارات ضغطاً للنفقات، فهل يجوز أن يكون لدينا 35 سفارة فى دول أمريكا اللاتينية، بينما طبيعة ومستوى العلاقات السياسية والاقتصادية متواضعة مع معظم هذه العواصم، إن لم تكن قائمة أصلاً مع كثير من هذه الدول مثل السلفادور والأوروجواى والباراجواى وهاييتى وغيرها. ويكفى فى هذه الحالة أن يكون هناك عشر بعثات دبلوماسية وسفارات فى أهم العواصم اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلى وبوليفيا ونيكاراجوا وكوبا، ليتولى السفراء المصريون فيها تمثيل بلدهم فى بقية العواصم المجاورة الأقل شأناً.

يكفينا أن نعرف أن باب الأجور والرواتب والمكافآت فى ديوان وزارة الخارجية قد تجاوز 1.8 مليار جنيه فى ذلك العام ناهيك عن بقية أبواب الإنفاق من شراء السلع والخدمات (331.5 مليون جنيه) والاستثمارات (75.0 مليون جنيه أخرى)، ويعمل فى هذه الوزارة حوالى ألفين وخمسمائة سفير وقنصل، بينما هناك حوالى ستة آلاف من العاملين المدنيين فى هذه الوزارة؟

خذ مثالاً آخر: مخصصات مصلحة الضرائب العامة التى حصلت على 2798.3 مليون جنيه فى ذات العام، بزيادة 333.6 مليون جنيه عن العام السابق، وتعانى هذه المصلحة كبقية الهيئات والمصالح التابعة لوزارة المالية من تشوهات كبيرة وتفاوت رهيب فى الأجور والرواتب والمكافآت، بينها وبين بقية المصالح التابعة للوزارة من ناحية، وداخل نفس الجهة من ناحية أخرى.

ونفس الأمر ينطبق على مصلحة الجمارك التى حصلت على 1331 مليون جنيه، بزيادة 138.6 مليون جنيه عن العام الماضى، منها حوالى 1133.8 مليون جنيه فى صورة أجور ورواتب ومكافآت.

أما رئاسة الجمهورية التى يعمل بها أقل من ثلاثة آلاف موظف فتحصل على 290.4 مليون جنيه منها 263.8 مليون جنيه فى صورة أجور ورواتب، هذا بخلاف أموال سرية موجودة فى الصناديق والحسابات الخاصة التى لا يعرف عنها الشعب المصرى شيئاً حتى اليوم.

وبالمقابل فإن الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة الذى يعمل به حوالى ألفين وخمسمائة موظف حصل على 121.3 مليون جنيه فى صورة أجور ورواتب ومكافآت، أى أن العاملين فى رئاسة الجمهورية يحصلون على ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه زملاؤهم فى الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، والجهتان متجاورتان فى مدينة نصر بضاحية القاهرة الشرقية!!

أما وزارة الداخلية والشرطة فقد حصلت على 18.2 مليار جنيه عام 2013/2012 بزيادة عن العام السابق بحوالى 2.7 مليار جنيه، وكذلك المحاكم والقضاء الذى حصل هذا العام على 5.6 مليار جنيه بزيادة عن العام السابق بحوالى 1.5 مليار جنيه. أما مجلس الشعب المنحل فقد أدرجت له فى هذا العام 347 مليون جنيه بزيادة 31.1 مليون جنيه عن العام السابق، والمؤكد أن هذه المخصصات لا تقتصر فقط على الموظفين والعاملين الإداريين فى المجلس، وهنا يطرح السؤال: أين تذهب بقية المبلغ المرصود للمجلس؟ وهل هناك أعضاء- أو رئيس المجلس- يحصلون على مكافآت رغم انعدام المجلس قانوناً؟

هذه عينة من الاختلالات المالية التى تستدعى إعادة النظر فى طريقة إدارتنا لمواردنا المالية. أما كيف ندير الشأن المالى بطريقة تتناسب مع ظروفنا الصعبة، فلهذا حديث آخر نتمنى أن نتناوله فى المقالات القادمة.

الجزء الثاني

من أكثر القضايا والموضوعات المثارة فى الموازنة العامة للدولة، وفى المجتمع المصرى منذ سنوات بعيدة قضية «الدعم»، التى أخذت منحى أكثر خطورة منذ عام 2005/2006، حينما أدرج فيها لأول مرة فى تاريخ الموازنة العامة المصرية ما يسمى «دعم المشتقات البترولية» والبالغة فى ذلك العام 41.0 مليار جنيه، فقفزت مخصصات الدعم فجأة من 19.0 مليار جنيه فى العام المالى السابق 2004/2005 إلى 60 مليار جنيه دفعة واحدة.

ثم أخذت الأرقام المدرجة فى الموازنة العامة للدولة تزداد بوتيرة سريعة وغير مفهومة لدى الرأى العام، والمصيبة لدى كثير ممن يوصفون بأنهم باحثون اقتصاديون - فوصلت إلى 99.6 مليار جنيه للمشتقات البترولية والطاقة فقط فى الموازنة الجديدة لعام 2013/2014. وإذا أضفنا إليها بقية الأنواع الأخرى من الدعم كالسلع التموينية وفروق أسعار الفائدة والمصدرين وغيرها، فإن الرقم الإجمالى للدعم سوف يتجاوز 160.1 مليار جنيه، وفى حال إضافة بقية المنح والمزايا الاجتماعية مثل دعم نظم المعاشات والتقاعد بما فيها صناديق معاشات القوات المسلحة والشرطة، لأن الرقم سوف يزيد على 205.5 مليار جنيه.

والسؤال الذى أطرحه منذ عدة سنوات - حينما اكتشفت اللعبة المحاسبية التى قام بها يوسف بطرس غالى وحكومة أحمد نظيف منذ عام 2005/2006 - ولم يجرؤ أحد من المسؤولين على رده أو دحضه أو نكرانه، هو:

هل هذا الرقم حقيقى؟

الإجابة القاطعة الحاسمة والعلمية هو أن هذا الرقم يتضمن خداعا محاسبياً، ودعما افتراضيا لمعظم المشتقات البترولية التى ننتج معظمها محليا.

والحقيقة أن التعريف العلمى للدعم هو (تكاليف إنتاج سلعة أو خدمة محملة بهامش ربح مقبول وبين سعر بيعها للجمهور). هذا هو التعريف العلمى الدقيق للدعم ودونه هو تحايل مالى ومحاسبى لا يجوز.

على أى حال، حتى يتبين الحقيقة، انظروا معى إلى هذا الجدول الذى يتضمن ما يسمى دعم المشتقات البترولية فى مشروع الموازنة العامة الجديدة لعام 2013/2014 وسوف نكتشف ما جرى:

إذا تأملنا هذه الأرقام نكتشف مقدار ومناط المغالطة المالية والمحاسبية من عدة زوايا:

الأولى: أن هذه القيم هى قيم الإنتاج المحلى والمستورد معا والقيمة بالأسعار العالمية السائدة لهذه المشتقات البترولية، وبالتالى هناك خلط بين تكاليف إنتاج المنتج المحلى كالسولار والبوتاجاز والبنزين والمازوت وبين تكاليف توريد المماثل لها (المستورد) من الخارج.

الثانية: أن ما ننتجه من السولار محلياً يعادل 63% من احتياجاتنا، وتكاليف إنتاجه لا تزيد على جنيه واحد للتر من السولار بينما يجرى بيعه بحوالى 1.4 جنيه للتر، ومن ثم فإنه ليس هناك دعم حقيقى لهذا المنتج . ويبقى أننا نستورد حوالى 37% من الخارج وهو ما يكلفنا أزيد قليلا من تكاليف المنتج المحلى، ومن هنا فإن القول بأن دعم السولار يعادل 40.0 مليار جنيه هو تلاعب محاسبى لا يجوز أن تقوم به دولة وحكومة تحترم مواطنيها .

الثالثة: بالنسبة لأنبوبة البوتاجاز فنحن ننتج محليا حوالى 50% من احتياجاتنا والباقى نستورده من الخارج، وهنا نتحدى الوزراء - التموين والبترول - الذين يصدعوننا كل يوم بأن تكاليف إنتاج أنبوبة البوتاجاز تعادل 63.0 جنيه تباع الآن بحوالى ثمانية جنيهات، ونطالبهم بأن يعلنوا بوضوح التكاليف الفعلية لإنتاج أنبوبة البوتاجاز المحلية وهى لن تزيد أبدا عن ثمانية جنيهات، والباقى المستورد يكلفنا أكثر إلى حد ما، والسبب سوء إدارة قطاع البترول كما سوف نشرح بعد قليل.

الرابعة: بالنسبة للبنزين فنحن ننتج حوالى 60% من احتياجاتنا محليا، وهى لا تتكلف هذا الرقم الضخم المعلن عنه، ويجرى هنا التلاعب باحتساب الكمية كلها وكأنها مستوردة من الخارج، والهدف بالطبع رفع أسعار المنتج المحلى إلى مثيله عالميا .

الخامسة: الحقيقة التى تسجلها كل البيانات الرسمية والحكومية بشأن وارداتنا من المشتقات البترولية لعام 2012/2013 لم تزد على 6.0 مليارات دولار، أى ما يعادل 42.0 مليار جنيه مصرى، يتم بيعها فى السوق المحلية بحوالى 7.0 مليارات جنيه تقريبا، وبالتالى يصبح الدعم الحقيقى الذى تتكلفه الخزانة العامة حوالى 35.0 مليار جنيه فقط لا غير .

السادسة: بسبب سوء إدارة قطاع البترول الذى احتلته عصابات من المرتشين، فقد كان يجرى توريد الغاز الطبيعى للدول الأجنبية بأقل من 3.0 دولار للمليون وحدة حرارية B.T.U وهى وحدة القياس المعمول بها دولياً، وعندما حدث نقص فى الغاز المورد لمحطات الكهرباء المصرية اضطررنا لاستيراد المازوت لمحطات الكهرباء فبلغ سعرها علينا حوالى 12.0 دولار للمليون وحدة حرارية!!

السابعة: لو جرى إعادة هيكلة قطاع البترول وسياسات تشغيله سوف يوفر علينا الكثير من هذه المشتقات من خلال التوسع فى البحث والتنقيب مع الشركات الصينية والماليزية والروسية بديلا عن الشركات الاستعمارية البريطانية والأمريكية والهولندية، ومن ناحية أخرى لو جرى التوسع فى الاستثمار فى معامل التكرير سوف تنخفض وارداتنا من الخارج، وكذلك لو أخذت الحكومة المصرية بآرائنا منذ 25 يناير بإعادة فتح باب التفاوض مع شركائنا فى الغاز الطبيعى والبترول لإعادة اقتسام الحصص، وإعادة النظر فى بند استرداد التكاليف وطريقة حسابه الإجرامية والمهدرة للثروات والأموال المصرية، لوصلنا إلى اتفاقات توفر لنا ما بين ثلاثة إلى خمسة مليارات دولار سنويا .

الثامنة: أدى إهمال قطاع الثروة المعدنية، وإلحاقه قسرا لقطاع البترول تارة وقطاع الصناعة تارة إلى ضياع ثروة حقيقية على الاقتصاد المصرى لا تقل وفقا لأدنى التقديرات عن عشرة مليارات جنيه مصرى سنويا، لقد ترك هذا القطاع لتتحكم فيه «مافيا» شديدة البأس والقوة تشارك فيها مسؤولون بالمحافظات ووزارة البترول ومجموعة من المقاولين المغامرين حققوا من ورائه أرباحا طائلة على مدى عقود الفساد الماضية .

ويستسهل المسؤولين منذ ما قبل الثورة وحتى اليوم الحل الضار والمتمثل برفع أسعار هذه المشتقات البترولية ومصادر الطاقة (كالكهرباء)، وهو ما سيؤدى إلى أضرار يصعب السيطرة عليها فى الأسواق المصرية، خاصة أن المصانع الأربعين كثيفة استخدام الطاقة (كالأسمنت والحديد والأسمدة والألومونيوم وغيرها) تدخل منتجاتها فى الكثير من المنتجات والسلع، ومن ثم فإن رجل الدولة وصانع السياسة الاقتصادية الذكى، عليه أن يضع خيارات متعددة ولا يحصر نفسه فى خيار وحيد، وهنا فإن طرحى يختلف ويتحدد فى محورين:

الخيار الأول: أن يجرى تقديم المشتقات البترولية المحلية ومصادر الطاقة لهذه المصانع بأسعار مناسبة (تكاليف إنتاجها الفعلية محملة بهامش معقول من الربح)، وكذلك المشتقات المستوردة بأسعارها الفعلية، مقابل الاتفاق مع هذه الشركات على بيع منتجاتها فى السوق المصرية بأسعار لا تزيد هوامش أرباحها عن 40%، ويتميز هذا الخيار بالتحكم فى الأسواق والأسعار المحلية فى جميع القطاعات التى تدخل منتجات هذه المصانع فيها.

الخيار الثانى: أن تقدم إليها المشتقات البترولية والكهرباء بأسعارها العالمية، مع التحوط بشأن مخاطر ذلك على هياكل الأسواق والأسعار فى الداخل ومدى قدرة الحكومة المصرية على حماية المواطنين من لهيب الأسعار المتوقع.

هكذا يفكر رجال الدولة وليس هواة المناصب والرجال الصغار وللحديث بقية.

الجزء الثالث

الجزء الرابع

على مدار العام الماضى، ومنذ تولى الرئيس محمد مرسى مقاليد الحكم والإدارة فى الدولة فى الثلاثين من شهر يونيو عام 2012، حرصت جماعة الإخوان المسلمين، وحزبها العلنى «الحرية والعدالة»، ورموز وقيادات هذه الجماعة، على إنكار علاقتهم بالأداء المالى والاقتصادى السيئ لحكومة «هشام قنديل»، تارة بحجة أن أعضاء حكومته ليسوا جميعا من الإخوان المسلمين، وتارة أخرى بالزعم بأن الموازنة المالية لعام 2012/2013 هى من بنات أفكار المجلس العسكرى السابق وحكومة الدكتور كمال الجنزورى.

وبرغم عدم صحة هذه المبررات والأعذار، فى مواجهة حالة فشل كاملة فى أداء حكومة هشام قنديل، التى أتى بها الرئيس محمد مرسى، وتمسك بها بعناد يكاد يماثل ويشابه عناد الرئيس المسجون «محمد حسنى مبارك»، فإننا سوف نذهب إلى القبول الشكلى بهذه الأعذار والمبررات، وسوف نكتفى بمشروع الموازنة المقدم من حكومة الإخوان المسلمين للعام المالى 2013/2014، لتصبح هى الاختبار الحقيقى لقياس ثلاثة عناصر فى تقييم أداء الدكتور محمد مرسى ورئيس وزرائه وهى:

الأول: نمط التحيزات الاجتماعية التى عبرت عنها الموازنة العامة الجديدة.

الثانى: رؤيتهم تجاه إدارة المالية العامة والسياسة المالية ومعالجة اختلالاتها الهيكلية.

الثالث: درجة كفاءتهم المهنية والسياسية فى إدارة هذه السياسة المالية (إنفاقا وإيرادا).

فالحقيقة أن المتأمل «لبناء» مشروع الموازنة العامة الجديدة من ناحية، وطريقة إعداد بياناتها وتقديراتها «كأهداف» مالية، سواء فى مجال الإنفاق العام، أو فى مجال الحصول على الإيرادات العامة، خصوصا الإيرادات الضريبية، يكتشف أننا بصدد الطريقة ذاتها التى كانت تدار بها السياسة المالية والموازنة العامة طوال الثلاثين عاما الماضية.

والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن هو: كيف؟

نستطيع أن نشير إلى أن أهداف وإجراءات الموازنة العامة الجديدة لعام 2013/2014 سوف تعمق الأزمة الاقتصادية والمالية، وتزيد من التأثيرات السلبية على مستوى معيشة المواطنين الفقراء ومحدودى الدخل والطبقة المتوسطة من عدة زوايا، أهمها:

1 - استمرار اختلال البناء الهيكلى فى الموازنة العامة المصرية.

2 - تعاظم العجز فى الموازنة، وضعف وسائل معالجته.

3 - زيادة الاقتراض الداخلى والخارجى ومخاطره.

4 - التحيزات الاجتماعية للأغنياء.

دعونا نبدأ بالبداية.

أولا: استمرار اختلال البناء الهيكلى فى الموازنة العامة المصرية.

يتمثل هذا الاختلال الذى استمر منذ عام 1981، وازداد أثره السيئ بعد تعديل قانون الموازنة عام 2005، وتقديم وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالى موازنته الأولى فى العام 2005/2006، ويتجسد هذا الاختلال فى العناصر التالية:

1- استمرار الوضع الشاذ والاستثنائى الذى بدأ منذ عام 1980/1981 باستبعاد الهيئات الاقتصادية وشركات القطاع العام والأعمال العام والشركات القابضة من حسابات ومكونات الموازنة العامة للدولة، والذى أدى إلى حدوث خطيئتين اقتصاديتين وماليتين كبيرتين هما:

الأولى: إخراج كميات مالية هائلة من رقابة وتقدير وسياسات صانع وراسم السياسة الاقتصادية المصرية، بما لذلك من أثر سلبى وانعدام قدرته على التنبؤ والتحسب لحركة هذه الكميات المالية فى الأسواق المحلية أو من خلال الاستيراد من الخارج، وبالتالى ضعف قدرته على وقف الميول التضخمية فى الاقتصاد من ناحية ولجم التوسع الاستيرادى لهذه الهيئات من ناحية أخرى.

الثانية: تحول هذه الهيئات الاقتصادية- خصوصا تلك ذات الفوائض المالية الكبيرة- إلى إقطاعيات خاصة لمن يديرها، مثل هيئة البترول وهيئة قناة السويس والبنك المركزى والبنوك الحكومية التابعة، فزاد فيها الفساد وانتشر، كما ضعفت عمليات الرقابة المزدوجة من وزارة المالية والجهاز المركزى للمحاسبات، كما أدى ذلك إلى تحول الكثير منها إلى عبء على الخزانة العامة والانتقال من حالة الفائض إلى حالة الخسارة مثل هيئة السكك الحديدية واتحاد الإذاعة والتليفزيون وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وغيرها كثير.

ومن شأن استمرار بقاء هذه الهيئات الاقتصادية خارج الموازنة العامة للدولة أن يؤدى إلى أضرار متعددة وغل يد راسم السياسة المالية والاقتصادية فى وقف الميول التضخمية فى الاقتصاد المصرى.

2 - مع تقلص دور الدولة الإنتاجى منذ عام 1991، وتنفيذ برنامج بيع الأصول العامة (الخصخصة) وبيع المصانع، ضعفت موارد الدولة الأخرى، وتكاد تنحصر فعليا فى الإيرادات الضريبية التى باتت تشكل حوالى 75% من إجمالى إيرادات الموازنة العامة لعام 2013/2014، ومن شأن إصرار المجموعة الإخوانية الحاكمة على معاداة فكرة الدور الإنتاجى للدولة والقطاع العام، من منطلق أيديولوجى أعمى، أن يؤدى إلى إضعاف القدرات الاقتصادية الشاملة للاقتصاد المصرى ويعرضه للانكشاف أمام مجموعات من السماسرة العرب من أصحاب الفوائض النفطية، ومن يدرس تجارب التنمية الحقيقية فى دول جنوب شرق آسيا واليابان وماليزيا، سوف يكتشف أن دور الدولة الإنتاجى كان حاسما فى إحداث التطور والتنمية، ومن ثم فإن استمرار تآكل «الإيرادات الإنتاجية» للدولة، واستمرار دورها كسمسار أراض وبيع شركات، وجباية ضريبية، يؤدى إلى أوجه الخلل فى السياسة المالية والاقتصادية المصرية التى نعيشها منذ عام 1991، والمؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة، وممثلها سوف تستمر فى هذه السياسة الضارة.

3 - أدى توافق حكومة الدكتور أحمد نظيف ووزير ماليته يوسف بطرس غالى، منذ عام 2001 مع بعثات صندوق النقد الدولى، على «إعادة تصنيف وتبويب الموازنة العامة للدولة المصرية» إلى إصدار قانون الموازنة الجديد رقم (87) لسنة 2005، وإعداد الموازنة العامة لعام 2005/2006 وفقا لها، الذى أظهر لأول مرة فى تاريخ الموازنة العامة المصرية ما يسمى «دعم المشتقات البترولية» بقيمة 41.2 مليار جنيه، بما أدى إليه من تشوهات مالية عميقة فى بنية الإدارة المالية الحكومية، فمن ناحية تفاقم وضع المديونية فى هيئة البترول ومتأخراتها الضريبية، ومن ناحية أخرى تفاقم العجز الحسابى فى بقية قطاعات الدولة والجهاز الحكومى (قطاعات الكهرباء- الجهاز الحكومى.. إلخ)، وهى مسألة خطيرة يدهشنى أن من أداروا السياسة المالية لمصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم يتوقفوا عندها طويلا، ويتم تنظيم ورش عمل جادة من المتخصصين والخبراء- بعيدا عن وصاية صندوق النقد الدولى- لإعادة تقييم هذه التجربة الضارة ماليا واقتصاديا منذ عام 2005.

4 - كما أدى هذا التوافق مع بعثات صندوق النقد الدولى إلى إصدار قانون الموازنة الجديد المشار إليه (رقم 87 لسنة 2005) الذى وضع فى بعض مواده ما يسلب المجلس التشريعى سلطته الرقابية الحقيقية، فقد نصت المادة (24) من هذا القانون على سلطة وزير المالية أو من يفوضه فى (النقل داخل اعتمادات الباب الواحد لكل جهة، أو النقل من باب فى جهة إلى نفس الباب فى جهة أخرى)، بما يخل واقعيا بسلطة المجلس التشريعى فى الرقابة على التصرفات المالية للسلطة التنفيذية، خاصة إذا عرفنا أن مجمل هذه التحركات فى الأبواب قد يصل إلى 10% إلى 15% سنويا، علما بأن الحكومات المتعاقبة كانت قبل صدور هذا القانون تقوم بعمليات تهريب الاعتمادات والتحايل على المجلس التشريعى من خلال تضمين قانون إصدار الموازنة مواد تسمى «التأشيرات العامة» تحايلا على المجلس التشريعى، فإذا بها بعد صدور هذا القانون يصبح أمر النقل فى الاعتمادات من سلطات وزير المالية دون الرجوع إلى مجلس النواب ضاربا بذلك عرض الحائط بالدستور.

5 - يضاف إلى ذلك ما نصت عليه المادة (10) من القانون المسكون بالشياطين هذا بأنه (يجوز لاعتبارات خاصة تقتضيها المصلحة العامة للبلاد، أن تدرج فى أبواب الاستخدامات بالموازنة العامة للدولة اعتمادات إجمالية لبعض الجهات أو الاحتياطيات العامة دون التقيد بالتصنيفات الاقتصادية لهذه الأبواب).

وهنا نتساءل: من يقدر هذه الاعتبارات؟ ومن يقدر المصلحة العامة للبلاد؟ لا شك بالطبع أنها الحكومة ووزير ماليتها، وقد كان باب «الاعتمادات الإجمالية» دائما ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضى بمثابة «بوابة إبليس» للفساد المالى الذى كانت تمارسه الحكومات المصرية فى عهد الرئيس المسجون محمد حسنى مبارك، حينما نما هذا الباب الخلفى الذى كانت اعتماداته تصل فى كثير من السنوات إلى 16.0 مليار جنيه، يذهب معظمها من خلف ظهر المجلس التشريعى لتعزز مصروفات ومكافآت لقيادات الشرطة والقوات المسلحة.

وقد زاد الأمر سوءا نص الفقرة الثانية من المادة العاشرة من القانون (87) لسنة 2005 حيث نص على (ويراعى أن ما يدرج كاعتمادات إجمالية للجهة الواحدة لا يتجاوز 20% من إجمالى الاعتمادات المدرجة لإنفاق هذه الجهة بالموازنة العامة للدولة، ويستثنى من ذلك مجلس الشعب ومجلس الشورى والجهاز المركزى للمحاسبات وجهاز المدعى الاشتراكى والقوات المسلحة والهيئات القضائية والجهات المعاونة لها).

6 - هكذا إفساد منظم ورشاوى مالية للأجهزة الرقابية والتشريعية فى الدولة، واسترضاء لأجهزة القوة فى الدولة مثل القوات المسلحة والهيئات القضائية.

7 - فهل هذه الاختلالات الهيكلية واستمرارها تشير إلى أن هناك رؤية جديدة لإدارة السياسة المالية والاقتصادية فى البلاد. الإجابة واضحة، وللحديث بقية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجزء الخامس

تحدثنا فى المقال السابق (بتاريخ 4/6/2013) عن استمرار الاختلال فى البناء الهيكلى للموازنة العامة للدولة الذى كان قائما منذ عام 1981، وازداد خطره بعد صدور قانون الموازنة العامة الجديد رقم (87) لسنة 2005، وأشرنا بوضوح إلى أن موازنة العام المالى الجديد لعام 2013/2014 التى قدمها وزير المالية الإخوانى، وحكومة هشام قنديل الإخوانية، ورئيس الجمهورية الإخوانى، قد أبقت وحافظت على هذا الاختلال الهيكلى فى الموازنة العامة للدولة، ونستكمل الآن تحليلنا لهذه الاختلالات.

ثانيا: زيادة الاعتماد على الاقتراض الداخلى والخارجى:

يعد اللجوء إلى الاقتراض الداخلى والخارجى من أخطر المشكلات والسياسات التى تواجه صانعى السياسة المالية المصرية منذ سنوات بعيدة.

والحقيقة أن هذا الميراث السيئ والثقيل لنظام الرئيس المسجون حسنى مبارك، قد بدأ بعد توليه الحكم فى العام 1981، حيث كان حجم الدين الداخلى حوالى 14.7 مليار جنيه، فتعاظم حجمه سنة بعد أخرى حتى بلغ فى نهاية عهده حوالى 888.0 مليار جنيه، ثم ها هو فى نهاية العام المالى 2012/2013 يقارب 1553.0 مليار جنيه.

هذا الاستسهال فى تمويل العجز والاستثمارات الحكومية من خلال التوسع فى الاقتراض الداخلى، قد أضر ضررا بالغا بالهيكل المالى والاقتصادى للدولة المصرية من عدة زوايا واعتبارات أهمها:

الاعتبار الأول: أن زيادة حجم الدين الداخلى يؤدى مباشرة إلى زيادة الاعتمادات المالية المرصودة سنويا لخدمة هذا الدين سواء فى صورة فوائد أو أصل الدين، بحيث تؤثر سلبا وتقلص المخصصات المالية الموجهة لصالح التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والبيئية، التى يطمح إليها المواطنون، خاصة ساكنى الأحياء الشعبية بالمدن المصرية، أو بالقرى والريف.

يكفى أن نشير إلى أن المبالغ المرصودة لدفع فوائد الدين الداخلى والخارجى فى الموازنة العامة الجديدة لعام 2013/2014 قد بلغت 182.0 مليار جنيه، بزيادة حوالى 44.0 مليار جنيه على العام الماضى. ومن شأن استمرار هذه السياسة أنها تؤدى لا محالة إلى حافة إفلاس الدولة المصرية وعجزها فى الأجل المنظور عن خدمة هذا الدين الضخم.

الاعتبار الثانى: أن زيادة اللجوء إلى هذه السياسة تؤدى إلى جذب جزء كبير من المحافظ الائتمانية للبنوك المصرية والأجنبية، لتلبية طلبات الحكومة فى الاقتراض بسعر فائدة كبير قد يصل أحيانا إلى 15% تقريبا فى بعض السنوات، فيزيد العبء المالى على الموازنة العامة من ناحية، ويضعف القدرة التمويلية لهذه البنوك فى توفير القروض والائتمان المطلوب لأصحاب المشروعات الاستثمارية، خصوصا المشروعات المتوسطة والصغيرة والمشروعات الزراعية، والتى هى مناط عمل البنوك فى كل بلاد الدنيا.

الاعتبار الثالث: أن معظم موارد الاقتراض الداخلى قد ذهبت لتمويل نفقات جارية، بأكثر من كونها بناء لأصول إنتاجية جديدة فى المجتمع، مما يعمق التشوه فى الهيكل الاقتصادى الكلى للدولة المصرية، حتى إن الجزء الذى ذهب لتمويل الاستثمارات الحكومية قد غلب عليه الاستثمار فى مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والكبارى ومحطات المياه والصرف الصحى ومحطات الكهرباء، التى أنفق عليها فى عهد الرئيس المسجون حوالى 420 مليار جنيه، واستفاد منها قطاع المقاولين وشركات المقاولات والتشييد، بكل ما صاحبه عادة من كثير من العمولات والرشى حملت على تكاليف المشروعات.

ووفقا لموازنة حكومة الإخوان المسلمين الجديدة للعام المالى 2013/2014 فمن المقدر أن تقوم الحكومة بالنزول إلى سوق الاقتراض بحوالى 311.7 مليار جنيه، مقابل 278.3 مليار جنيه فى العام الماضى، منها حوالى 70.0 مليار جنيه من أسواق الاقتراض الدولية (أى حوالى 10.0 مليارات دولار).

وبهذا فإن الدين المحلى الإجمالى سيصل فى 30 يونيو عام 2014 إلى حوالى 1750.0 مليار جنيه، علاوة على حوالى 50.0 مليار دولار دين خارجى، وهذه كارثة مالية إضافية.

ثالثا: استمرار تفاقم العجز فى الموازنة العامة للدولة

برغم تكرار البيان المالى الذى قدمه وزير المالية الإخوانى إلى مجلس الشورى، على هدف العمل على خفض العجز فى الموازنة العامة من 12.0% من الناتج المحلى الإجمالى G.D.P فى العام الماضى (2012/2013) إلى 9.6% من الناتج المحلى الإجمالى فى العام الجديد (2013/2014)، فإن الوقائع والإجراءات المتخذة تؤكد أن العجز فى الموازنة سوف يزداد عن هذه النسبة المقدرة لعدة أسباب:

الأول: أن هناك إسرافا ومبالغة شديدة من جانب واضعى الموازنة العامة تجاه إيرادات جديدة، مثلما هو الحال فى زيادة إيرادات الضرائب على المهن غير التجارية (المهنيون كالأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم) من 581.0 مليون جنيه فى العام الماضى إلى 2019 مليون جنيه فى العام الجديد (2013/2014). وكذلك إدراج ضريبة على الأرباح الرأسمالية Capital Gains Tax من 98.0 مليون جنيه فقط فى العام الماضى، إلى 4334.0 مليون جنيه فى العام المالى الجديد، وهى ما عادوا وتراجعوا عنها وألغوها بحجة عدم مواءمة الظروف الراهنة لفرضها، وإن ظل المبلغ مدرجا فى مشروع الموازنة الجديد!!

وكذلك المبالغة فى تقديرات عوائد الإيجارات من 3410.0 ملايين جنيه فى العام الماضى إلى 10.2 مليار جنيه فى الموازنة الجديدة دفعة وقفزة واحدة بنسبة زيادة تصل إلى 199.3% فى عام واحد!!

وكذلك مبالغته فى تقدير الإيرادات من المناجم من 187.8 مليون جنيه فى العام الماضى إلى 7.7 مليار جنيه فى الموازنة الجديدة لعام 2013/2014، دون أن تكون هناك إجراءات واسعة النطاق تشريعية وتنظيمية، لإعادة النظر فى وضع قطاع الثروة المعدنية ككل والمناجم والمحاجر خصوصا، مثل إخراجه من بيت الطاعة لوزارة البترول أو إصدار قانون جديد بدلا من القانون العتيق المنظم له منذ عام 1956.

عموما هناك الكثير من الأمثلة التى تؤكد المبالغة الشديدة فى إيرادات متوقعة تكشف عن عدم خبرة وقدرة صانع السياسة المالية على فهم معطيات الواقع الفعلى، مع استمرار سياسة التوسع فى الإنفاق الحكومى لتلبية مطالب بعض الفئات الاجتماعية، ومن ثم فإننا نتوقع استمرار الزيادة الكبيرة فى عجز الموازنة العامة للدولة لتصل بنهاية السنة المالية 2013/2014 إلى أكثر من 14.0% وربما تتجاوز حاجز الـ15.0% من الناتج المحلى الإجمالى.

لكل هذه الاعتبارات نؤكد أن موازنة حكومة الإخوان المسلمين للعام 2013/2014 سوف تزيد الأزمة المالية والاقتصادية فى البلاد، وهو ما سنستكمله فى المقالات القادمة.

الجزء السادس

إذا كان الخلل فى إدارة السياسة المالية ينصرف فى معظمه إلى طريقة وضع المخصصات المالية للإنفاق الحكومى، والذى يعكس نمطا غير رشيد Rationality فى إدارة مواردنا المحدودة، فأن الجانب الآخر من الخلل يأتى فى البعد الاجتماعى المفتقد للسياسة المالية والمتمثل فى زيادة الأعباء الضريبية وغير الضريبية على كاهل الفقراء والطبقة المتوسطة بصورة أساسية.

ووفقا لمشروع موازنة للعام المالى الجديد (2013/2014) فإن مصادر الإيرادات الحكومية ثلاثة هى:

1-الضرائب: التى زادت من 207.4 مليار جنيه فى العام 2011/2012 إلى 266.9 مليار جنيه فى العام التالى، ثم ها هى فى عام 2013/2014 يقدر لها أن تصل إلى 356.9 مليار جنيه، أى بزيادة 33.6% فى عام واحد.

2-المنح: التى من المقدر أن تنخفض من 9.0 مليارات جنيه فى العام الماضى إلى 2.4 مليار جنيه فى العام الجديد.

3-ثم أخيرا الإيرادات الأخرى التى هى فى معظمها إيرادات شبه ضريبية وإتاوات من الشركات العامة وهيئتى البترول وقناة السويس، والتى من المقدر أن تزيد من 117.5 مليار جنيه فى العام الماضى ( 2012/2013) إلى 137.9 مليار جنيه فى مشروع موازنة العام الجديد 2013/2014

ويهمنا هنا أن نتوقف عند «الضرائب» بكافة أنواعها، حتى يتبين للرأى العام أن السياسة المالية عموما والسياسة الضريبية خصوصا لم يطرأ عليها تغيير بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، اللهم مزيدا من الأعباء على كاهل الفقراء والطبقة المتوسطة المصرية.

فإذا تأملنا مكونات هذه الضرائب المقدرة لهذا العام وهى 356.9 مليار جنيه سوف يتبين لنا الحقائق التالية:

1-إن الضرائب على الدخول من التوظف قد زادت من 20.8 مليار جنيه فى العام الماضى إلى 21.4 مليار جنيه فى الموازنة الجديدة وبالتالى لم يتحسن دخول كاسبى الأجور والرواتب.

2-وأن الضرائب على دخول الأفراد بخلاف التوظف قد زادت بدورها من 9.8 مليار جنيه إلى 11.9 مليار جنيه مثل الضرائب على أصحاب المهن غير التجارية كالمهنيين.

3-وأن الضرائب على أرباح شركات الأموال وهى تأتى أساسا من هيئة البترول والشريك الأجنبى وقناة السويس وباقى الشركات الحكومية قد زادت من 89.7 مليار جنيه إلى 120.5 مليار جنيه.

4-وأن الضرائب على الممتلكات ومعظمها على عوائد الأذون والسندات الحكومية والسيارات قد زادت من 19.4 مليار جنيه إلى 24.1 مليار جنيه.

5-أما الضرائب على السلع والخدمات ومعظمها ضريبة المبيعات فقد زات من 100.7 مليار جنيه إلى 144.2 مليار جنيه ( أى بنسبة زيادة 44.0% مرة واحدة).

أى أن الأعباء الضريبية فى معظمها (90% تقريبا) تقع على عاتق الشركات والهيئات العامة والحكومية، وينتقل أثرها مباشرة إلى عموم المستهلكين والمواطنين، فيتحملها الفقراء ومحدودو الدخل والطبقة الوسطى بأكثر مما يتحملها الأغنياء والشركات الخاصة والاحتكارات الكبرى التى تحقق أرباحا كبيرة وتحظى غالبا بإعفاءات ضريبية منذ سنوات طويلة، ولدينا فى هذا الصدد قائمة تضم حوالى ألف شخص من كبار رجال المال والأعمال فى العهد السابق واللاحق وشركاتهم الكبرى، لم يزد نصيبهم من الأعباء الضريبية على 10.0% من الحصيلة الضريبية.

بل إن البيان الذى نشرته إدارة الفحص والتحصيل التابعة لمصلحة الضرائب العامة فى 28/2/2013 حول المتأخرات الضريبية التى زادت على 61.0 مليار جنيه، نجد معظمها (حوالى 41.0 مليار جنيه) لدى القطاع الخاص، والمصيبة أن 37.0 مليار جنيه منها مازالت تحت التنازع القضائى وغير القضائى، أى أنهم فعليا لا يدفعون الضرائب المتواضعة المفروضة عليهم، مثل رجال أعمال الكويز والمستوردين الكبار والمضاربين فى البورصة وسوق الأوراق المالية وغيرهم.

خذ مثلا الضرائب على السجائر والتبغ، لقد تضاعفت الضرائب المفروضة عليها من 18.9 مليار جنيه فى العام الماضى إلى 32.1 مليار جنيه فى العام المالى الجديد؟ !

أما تذاكر السفر فقد زادت بدورها من 290.0 مليون جنيه إلى 328.0 مليون جنيه، والمعروف أن أكثر من يتحملها هم العمال المصريون الذين يعملون بالخارج.

هذه العقلية الجبائية لم تتغير أبدا من عهد وزير المالية الدكتور محمد الرزاز فى منتصف التسعينيات مرورا بيوسف بطرس غالى إلى وزراء جماعة الإخوان المسلمين، ومن يحلل بنود الموازنة العامة للدولة، سواء فى جانب النفقات أو فى جانب الإيرادات طوال هذه الفترة الطويلة – وقد قمنا نحن بهذا العمل – يكتشف نمطا واحدا يسير من عام إلى آخر، وجوهره يقوم على ثلاثة ركائز هى:

الأولى: زيادة مستمرة فى النفقات الحكومية دون مراجعة جادة لترشيد النفقات ومراجعة سياسة الإنفاق العام أو إعمال مبادئ فاعلية النفقات العامة Efficiency Of Public Expendature.

الثانية: زيادة مقابلة ومطردة فى الأعباء الضريبية على بنود بعينها تمثل ضرائب مباشرة أو غير مباشرة تمس دخول محدودى الدخل وكاسبى الأجور والرواتب والشركات العامة والهيئات العامة، ينتقل أثرها السعرى غالبا إلى جمهور المستهلكين دون تمييز فيكون ضررها أكبر على الفقراء والطبقة الوسطى.

الثالثة: التحفظ الشديد والتراجع المستمر فى إضافة أعباء ضريبية على كاسبى الأرباح والشركات الخاصة وكبار الأغنياء تحت لافته مضللة هى «تحفيز الاستثمار» و«تشجيع المستثمرين»، كما حدث فى قانون الضرائب على الدخل رقم (91) لسنة 2005 الذى خفض الوقع الضريبى على الأغنياء وكبريات الشركات من 40.0% إلى 20.0% كحد أقصى، ولم يتحرك بعد الثورة المصرية إلا بوجل وتردد إلى 25% على شرائح الدخل الأعلى من 250 ألف جنيه، حتى عشرة مليارات جنيه بنسبة واحدة، وتدليلا على استمرار السياسة نفسها فى عهد الدكتور محمد مرسى ورئيس وزرائه متواضع الأداء فقد ألغيت ضرائب الأرباح الرأسمالية التى كانت قد فرضت فى فورة حماسة والمقدر لها أن تأتى بحوالى 4.3 مليار جنيه وأدرجت فعلا فى الإيرادات المتوقعة لهذا العام، بعد أن كانت هذه الضريبة لا تحقق فى العام الماضى سوى 98.0 مليون جنيه.

إذن نحن بصدد خلل بنيوى فى المدركات السياسية ونمط التحيزات الاجتماعية لمن يديرون السياسة المالية والضريبية قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعدها، ومن ثم فإن ترديد هذه الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين التى تقف خلفها وأمامها أنهم من أنصار العدالة الاجتماعية، هى مجرد أكذوبة كبرى كغيرها من الادعاءات التى طارت مع أول ريح خفيفة جاءت على مقاعد الحكم.

المصادر