تاريخ تطور حدود مصر الشرقية
تاريخ تطور حدود مصر الشرقية وتأثيره على الأمن القومي المصري 1892-1988، هو كتاب من تأليف ألفت أحمد إمام، طبعته دار الشروق في 2008.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التمهيدي: الحدود السياسية وشبه جزيرة سيناء
مقدمة
1- تعريف مفهوم الحدود السياسية
2- أنواع الحدود السياسية
3- تصنيف الحدود السياسية
4- الحد الفاصل والخطوط الأخرى
5- وظائف الحدود السياسية
6- العولمة والحدود والأديان السماوية
- الحدود في المفهوم الديني اليهودي
- الحدود في المفهوم الديني المسيحي
- الحدود في المفهوم الديني الإسلامي
7- شبه جزيرة سيناء المصرية
(أ) خلفية تاريخية لشبه جزيرة سيناء
(ب) خلفية جغرافية لشبه جزيرة سيناء
الفصل الأول: خلفية تاريخية
المسألة الشرقية ونظام توازن القوى الأوروبية
قامت الدولة العثمانية في شمال غرب الأناضول في أواخر القرن الثالث عشر، واستطاعت أن تتوسع على حساب الدولة البيزنطية المتداعية، واستولت على هضبة الأناضول والدردنيل وبحر مرمرة وامتد التوسع في البلقان، واحتلت حزءاً كبيراً في شرق وجنوب شرق أوروبا، إلى جانب ممتلكاتها في الشام وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. كانت الدولة العثمانية التي حققت توسعات هائلة تحكم مقاطعات أوروبية هامة مثل اليونان وبلغاريا وصربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك. أي امتدادات الدول العثمانية من شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى برقة وطرابلس ونهر النيل وصولاً إلى تونس والجزائر، وكذلك من البصرة قرب الخليج العربي، وصولاً إلى الهضبة الإيرانية في الشرق، حتى جبل طارق في الغرب، ومن أوكرانيا حتى أسوار فيينا في الشمال. استطاعت الدولة العثمانية من القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن السابع عشر أن تسيطر على أهم الممرات المائية في إطار دولة ضخمة مترامية الأطراف، مثل البحر الأسود، بحر إيجا، البحر المتوسط، البحر الأحمر، وبحر قزوين (Caspin) أيضاً في القرن السادس عشر امتدت في عميق آسيا وصولاً إلى خليج البنغال وإيران والهند.
لقد كانت الدولة العثمانية دولة كبرى وهامة، ومثلت ركيزة أساسية في النظام الأوروبي. كانت الدول الأوروبية الكبرى تدرك أهمية الدولة العثمانية، ودورها المحوري في المن الأوروبي وكذلك دورها القوي في هيكل توازن القوى الأوروبية.
ويمكن طرح بعض مظاهر أهمية الدولة العثمانية من المنظور الأوروبي: 1-ضبط واستقرار شرق أوروبا والبلقان. 2-الدولة العثمانية الفتية المدعومة بالقوة العسكرية تمثل حاجزاً فاصلاً بين روسيا القيصرية التوسعية والدول الأوروبية. 3-الدولة العثمانية عنصر فعال ومانع من وصول روسيا القيصرية إلى المياه الدافئة. 4-الدولة العثمانية عامل تحجيم وآلية لوقف الطموحات الروسية في شرق أوروبا بحكم التوصل الجغرافي والثقافي والعرقي مما يهدد نظام التوازن القوي في أوروبا والذي استقر منذ اتفاقية وستفاليا عام 1648. 5-في حالة تفتت أو انهيار الدولة العثمانية، فإن شرق أوروبا سوف ينهار وتنتشر الفوضى والحروب كمحاولة للإستيلاء على ممتلكات لتعضيد قوى الدول المتنافسة، أي خشية التحالفات السياسية والعسكرية، والتحالفات المضادة. 6-إن أي مساس بوحدة وتكامل الدولة العثمانية يعني: أ-عودة إلى الحروب الأوروبية. ب-سقوط مبدأ توازن ا لقوى. ج-انهيار السلام سيؤدي إلى تراجع في عمليات التجارة والإستثمار والتنمية والتصنيع، وتأجيل للخطط الموجهة للعالم الثاني والعالم الثالث. د-روسيا التوسعية في مواجهة أوروبا. 7- أهمية الممرات المائية مثل مضيق البسفور والدردنيل والذي يربطهما بحر مرمرة، والبحر المتوسط والأحمر والأسود، والخليج العربي والمحيط الهندي.
كان الدور الأكبر من منظور توازن القوى الأوروبية هو دور الدولة العثمانية في موادهة وتحجيم روسيا التوسعية، أي ضرورة إستراتيجية، ولكن منذ بداية القرن السابع عشر لأسباب داخلية وخارجية بدأ التدهور يدب في الدولة المترامية الأطراف التي تضم أعراقاً، وثقافات وديانات مختلفة ممتدة على ثلاث قارات. وواجهت الدولة العثمانية أزمات داخلية، وواجهت أزمات دولية مما يعين:
1-بروز عالم جديد في أوروبا بفضل الثروات وحركة التجارة الدولية.
2-اختلاف التوازن العسكري بين الدولة العثمانية وأوروبا.
3-فشل الدولة العثمانية في مواجهة أزمات دولية بمفردها.
4استعانة الدولة العثمانية بمنافسيها من خلال التحالف والتعاقد لمواجهة أزمة دولية.
5-منيت الدولة العثمانية بهزائم عسكرية وسياسية في مقاطعات تحكمها مما يعني تراجع قدرة الدولة الأممية على السيطرة والتحكم.
6-تخلف الدولة العثمانية على مستوى الحكم والإدارة والإقتصاد والتجارة والجيش والتسليح، والفكر الحضاري الحديث بشكل عام.
إن هذا الضعف النسبي للدولة العثمانية – مثل هاجساً أمنياً للقوى الأوروبية خشية قيام أي طرف أوروبي باستغلال ضعف الدولة العثمانية والتوسع على حسابها وهو ما يشكل تهديداً لتوزيعات القوة مقابل عدم قدرة الدولة العثمانية على حماية ممتلكاتها، ومن ثم أصبح تدهور قوة الدولة العثمانية مسألة دولية وأطلق عليها المسألة الشرقية. إن مفهوم المسألة الشرقية من المنظور الغربي هو عدم المساس بتكامل ووحدة أراضي الدولة العثمانية، أما المسألة من المنظور التركي فيطلق عليها المسألة الغربية وهو كيفية منع التدخل الأوروبي في الشئون الداخلية العثمانية ومدى نفوذ القوى الكبرى على ولايات الإمبراطورية العثمانية. أياً كان تفسير المفهوم فالأمر هو أن الدولة العثمانية في مرحلة تدهور، وإن استمرار وجود الدولة العثمانية ضرورة إستراتيجية لحفظ النظام الأمني الأوروبي، والنتيجة المتفق عليها أوروبياً أنه لا مساس بتكامل الدولة العثمانية، أي الأخذ بمبدأ الوحدة الإقليمية لها بجميع الوسائل الدبلوماسية، السياسية، العسكرية.
المسألة المصرية كأحد معطيات النظام الأمني الأوروبي
ظلت مصر – وفق المفهوم الإسلامي للأمة ووفق الفكر الإمبراطوري التوسعي في القرون الوسطى – ولاية تابعة للدولة العربية الإسلايمة، وما تفرع عنها مثل الدولة الطولونية في مصر منذ عام 868-905م، والدولة الإخشيدية منذ عام 935-969م، والدولة الفاطمية منذ عام 969-1117م، والدولة الأيوبية 119-69-1250م، والدولة المملوكية 1250-1517م. ولأرعة قرون منذ 1517م أصبحت مصر ولاية عثمانية وذلك:
-بحق الغزو.
-بحق حماية دار المسلمين.
حكمت مصر بأيد غير مصرية حيث كانت مختلفة الأعراق والثقافات واللغات والإنتماء، مما أصاب مصر بتراجع شديد في النظم السياسية الإقتصادية والإجتماعية واثقافية وأيضاً الدينية. لجأ العثمانيون في إدارة البلاد إلى المماليك، واختصوا بالشئون الخارجية، وشئون الدفاع واستلام الضرائب المفروضة على الولاية.
إن مسئولية التدهور إنما تردع لأسباب كثيرة سبق أن تناولتها دراسات عديدة، نذكر أهمها:
1-الدولة العثمانية ليست دولة ذات حضارة.
2-الستار الحديدي الذي فرض على الولايات العثمانية أدى إلى عزلة عن كل مقومات التطوير والتحديث.
-ترجع قوة الدولة العثمانية السياسية والعسكرية إضافة إلى عوامل هامة نذكر بعضاً منها:
1-أهمية الدولة العثمانية كقوة رادعة لأي توسع أوروبي.
2-أهمية الدولة العثمانية في الحفاظ على التوازن الأمني الأوروبي.
3-مبادئ نظام تواظن القووى طبقاً لإتفاقية وستفاليا 1648، ثم مؤتمر فيينا عام 1815 في أعقاب الحروب الفرنسية.
4-عدم نضج حركة الرأسمالية الوروبية وتطورها إلى حركة الإستعمار نحو العالم الثالث.
هذه العوامل منعت القوى الأوروبية من الالتفافات إلى أهمية موقع مصر الجغرافي الإستراتيجي، والدور الذي يمكن أن بلعبه في دعم وتنشيط حركة التجارة الدولية، وفي أهمية ربط القارات، وفي حسم العلاقة الصراعية بين انجلترا وفرنسا وغيرهما من القوى الأوروبية الكبرى، وبذلك يمكن وصف علاقة أوروبا بمصر حتى نهاية القرن الثامن عشر بأنها علاقة تجاهل، علاقة عدم إدراك لأهمية مصر بأنها دولة الحضارة الفرعونية أي مخزن العلم والمعرفة، لأهمية موقع مصر الإستراتيجي وهو ما يمد مصر بقدرات هائلة في حال توظيفه بالشكل الأمثل.
قدر نابليون بونابرت قيمة العامل الجغرافي كعامل حاسم في الصراعات الدولية، وأيضاً في إطار:
- محاولات فرنسا المستمرة لبسط وتقوية نفوذها في أوروبا.
- التوجه نحو الجنوب كرد فعل للتطورات السياسية والعسكرية في أوروبا.
- استباق بريطانيا في إطار التنافس الفرنسي-البريطاني.
كانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 خروجاً على قواعد ومبادئ توازن القوى الأوروبية، وكانت مساساً شديداً بمبدأ الوحدة الإقليمية وتكامل الدولة العثمانية التي تمثل عاملاً رادعاً للقوى التوسعية، بالتالي فقد شكلت تهديداً مباشراً لأمن واستقرار أوروبا، وكذلك تمثل إهانة كبرى للدولة العثمانية التي فشلت في مواجهة الحملة الفرنسية ومنيت بهزائم عسكرية وتراجع. فسارعت إنجلترا – العامل الموازن – إلى:
1-إشهار تحالف رسمي عام 1799 ضد فرنسا.
2-إالحاق الهزيمة العسكرية بحملة نابليون وطردها وإفشال أهدافها المتعددة.
وبالفعل انسحبت فرنسا وإنجلترا من مصر بمقتضى إتفاقية إميان عام 1801 وغيرت فرنسا وإنجلترا من منهجهما العسكري التوسعي، إلأى منهج وآلية توظيف العناصر الداخلية لتكون عناصر موالية لهما، مما دفع إلى المزيد من التنافس الداخلي والفوضى والإضطراب.
نستخلص مما سبق عدة ملاحظات تخدم موضوع الدراسة والبحث وهي:
1-أن أي خروج على مبادئ نظام توازن القوى الأوروبية يواجه بمنتهى الحسم والعنف عن طريق اعمل السياسي والدبلوماسي والعسكري.
2-أن الوحدة الإقليمية وتكامل الدولة العثمانية عنصر حاسم، وغير مسموح بالمساس به.
3-أن الدولة العثمانية مهددة بنهم القوى الكبرى في أراضيها.
4-محاولات لتطهير أوروبا من الوجود العثماني.
5-إعادة رسم الخريطة السياسية لأوروبا الشرقية في ضوء:
-ضعف وتراجع الدولة العثمانية مقابل بروز القوى الأوروبية الكبرى.
-عدم قدرتها على حماية ممتلكاتها.
-التيارات الفكرية التحررية، وبروز مفاهيم مثل: الحرية، الوطنية، الليبرالية، القومية.
-تزايد حركات المعارضة، ومحاولات الإنفصال عن الدولة العثمانية مثل: اليونان، بلغاريا، صربيا . . . إلخ، وفي المنطقة العربية في الحجاز، واليمن وفي مصر.
وبذا انطوت اول محاولة لإحتلال مصر في التاريخ الحديث ولكن:
1-ظهرت أهمية موقع مصر الجغرافي، وهو ما يستحق محاولة احتلالها حين تسنح الفرصة.
2-أصبح مستقبل مصر السياسي أمراً يخص الدول الأوروبية الكبرى.
3-قدم نابليون رؤية استراتيجية عن أهمية فلسطين، وربط فلسطين ويهود العالم وفكرة العودة.
4-حاولت إنجلترا – حملة فريزر – احتلال مصر عام 1807.
أما المتغير الذي لم يتوقعه أكبر الساسة الأوروبيين، ألا وهو ظهور شخصية لها قدرات سياسية وإدارية فائقة، شخصية رجل جولة سياسي بالفطرة، هذا المتغير هو محمد علي الذي تولى حكم مصر مستنداً على شرعية حقيقية من الشعب المصري. ظهر محمد علي كأحدى النتائج الطبيعية لحملة بونابرت على مصر واستوعب ودرس الحملة الفرنسية علىمصر والشام. استطاع بفطرته السياسية وقدرته على المناورة الوصول إلى حكم ولاية مصر مدعوماً من القيادات الشعبية وعلماء وشيوخ الأزهر، ومؤيداً من الشعب المصري الذي طالب بتوليته في 13 مايو 1805، وبالفعل استجاب السلطان العثماني – وعلى مضض – للمطلب الشعبي، وأصدر فرماناً بالتولية في 9 يوليو 1805. إن عملية الإختيار الشعبي للوالي، وقبول السلطان العثماني بالمساندة الشعبية، خروج عن المألوف بالنسبة للدولة العثمانية، وأيضاً غير عادي بالمنسبة للوالي نفسه حيث أدرك أهمية استناد شرعيته على الشعب الذي سياسنده في تحقيق الإصلاحات الداخلية، وتكفل الإصلاحات الداخلية، وتكفل له مقومات هامة لبناء سياسة خارجية مع القوى الأوروبية.
حرص محمد علي على الإستفادة من التناقضات الشديدة بين المماليك بعضهم البعض، وبين المماليك والوالي العثماني، وبينهم جميعاً وبين الشعب المصري الذي أرهقته الفوضى والتعسف الإداري، وثقل كاهله من الضرائب والمكوس.
وشرع محمد علي في اتباع سياسة إصلاح واسعة النطاق في مصر مثل إعادة ترتيب دواوين الحكومة والإهتمام بالزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والصحة وغيرها، إضافة إلى تشكيل الجيش المصري، والإهتمام بتطوير البحرية المصرية، باختصار شديد أقام دعائم دولة حديثة، وحقق نهضة حقيقية بأيد مصرية وبمساعدة فرنسية في شتى المجالات الحيوية.
اجتهد محمد علي في تعزيز سلطته السياسية والعسكرية، وسعى لإتباع سياسة خارجية لتخرج مصر من العزلة السياسية، وتتخلص من سياسة تجاهل أهمية مصر وقدرتها على ممارسة دور دولي فعال.
إن محمد علي الذي تكون فكرياً وسياسياً في ظل وجود الحملة الفرنسية عام 1798، واشترك في مواجهة حملة فريزر 1807 والتي انسحبت من مصر – لظروف أدبية – قد توصل إلى نتائج عديدة نذكر بعضاً منها:
1-إن الدولة العثمانية في مرحلة تدهور لأسباب داخلية وخارجية.
2-إن الدولة ا لعثمانية غير قادرة على حماية ممتلكاتها وبسك سلطانها.
3-إن الدولة الأهم في المنظومة الأوروبية هي بريطانيا، وهي ال عمود الفقري لأي تحالف أوروبي قوي.
4-لن تنتهي اطماع بريطانيا وفرنسا في مصر.
5-إن الفرص سائنحه لإقامة إمبراطورية جديدة – قاعدتها مصر – في الشرق، مرتكزة على نقاط إستراتيجية في البحر المتوسط.
6-إن الدولة المصرية الحديثة يمكنها أن تتعامل مع القوى الأوروبية على قدم المساواة.
7-إن الدولة المصرية الحديثة يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في السياسة الخارجية.
8-إن تحقيق الإستقلال عن الدولة العثمانية، وتحقيق طموحاته يحتاج إلى حليف أوروبي قوي يسانده دبلوماسياً وسياسياً داخل النظام الأوروبي، حتى لا تسعى أوروبا لتدمير أو إحتواؤ الكيان الفتي الوليد.
استطاع محمد علي في فترة وجيزة أن يجعل مصر أكثر منعة وحضارة، وأسس دولة حديثة قوية مركزية، كانت له رؤيته الإستراتيجية التي تنبع من الجغرافيا السياسية حيث إن المحافظة على الدولة الحديثة تحتاج إلى ال وصول إلى جبال طوروس في الشام، "الحدود الطبيعية"، وفي أعماق السودان هذه الرؤية كانت تمثل تياراً معارضاً وتحدياً لسيادة الدولة العثمانية، وتناقضاً شديداً أصاب النجاحات السياسية والعسكرية العثمانية منذ عام 1300م.
لم يكن محمد علي باشا أول من حاول الإنفصال عن الدولة المركزية العثمانية، فقد سبقته محاولات عدة مثل حركة علي بك الكبير في مصر، وضاهر العمر في فلسطين، وأحمد باشا الجزار في سوريا والمماليك في العراق. وكذلك التيار الزيدي في اليمن والحركة الوهابية في الجزيرة العربية.
إذن يمكن أن نستخلص بالنسبة للمشرق العربي – أنه كان يموج بالحركات المحلية التي تسعى للإنفصال، أو لتحقيق استقلال ذاتي، سواء كانت الحركات الإنفصالية لها طابع ديني، أم ديني مذهبي، أم طابع سياسي.
ويمكن إبداء بعض الملاحظات:
1-أن هذه الحركات اصطبغت بالنزعات الفردية.
2-لم يكن لهذه الحركات مضمون وطني قومي.
3-هذه الحركات انتهزت فرص انشغال الدولة المركزية بالحروب أو معاناتها من الهزائم المتكررة.
ولكن تظل هذه الحركة المحلية الإنفصالية مرتكزاً ومعيناً لحركة اليقظة العربية، وهي التي أمدت تاريخ المنطقة العربية بالمدد القومي حيث تبلورت التيارات الفكرية والثقافية نحو التيار العربي القومي.
إذن يمكننا – منذ البداية – أن نؤكد على مشروع محمد علي خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر لم يكن بعيداً ولا منفصلاً عن المحيط الإقليمي، الذي يسعى سواء لدوافع ونزعات فردية، أم لنزعات سياسية وإن كانت هناك ظلال قومية تسعى لتأكيد الذات والهوية والقومية العربية.
كان محمد علي يريد النهوض بالبلاد حتى يتمكن من بسط حدودها وتكوين دولة مستقلة، فشرع في إقامة دولة حديثة عصرية واتبع سياسة إصلاح داخلية واسعة النطاق في مصر مستعيناً بفرنسا في تنفيذها.
نجح محمد علي في فترة وجيزة في جعل ولايته أكثر منعة وحضارة من الدولة صاحبة السيادة. كان باشا مصر يرنو ببصره نحو الشام والمراكز الدينية في الجزيرة العربية، وفي السودان جنوباً، أي كان يهدف إلى حماية استقلاله بحدود سياسية لها بعد إستراتيجي قائمة على العامل القومي والذي يمثله العنصر العربي واللغة العربية والثقافة العربية السائدة، والعامل الثاني هو العامل الديني والذي يمثله المركزان الدينيان الأهم وهما مكة المكرمة والمدينة المنورة وكذلك القدس وبيت لحم. وسنحت الفرصة لوالي مصر حينما لجأت الدولة المركزية إلى الإستعانة بمحمد علي للقضاء على الحركة الوهابية التي استفحل أمرها باحتلال مكة والمدينة، وجنوب بلاد الشام، وأصبحت خطراً يمس الدولة.
استطاع محمد علي – بعد ترتيب شئونه الداخلية في مصر – القضاء على الحركة الوهابية بعد حروب طويلة، واستعادت الدولة العثمانية نفوذها في بلاد العرب مما مكن محمد علي على من تثبيت مركزه ووضعه في الدولة العثمانية، ومنح قائد جيوشه وابنه إبراهيم باشا فرمان تعيينه على الجزيرة العربية كمكافأة على خدماته الكبيرة في القضاء على خطر الوهابيين.
كانت الأهداف للدولة العثمانية، استعادة الجزيرة العربية نظراً ل:
1-المراكز الدينية المقدسة مكة مكرمة والمدينة المنورة.
2-مصداقية وجودها كحامية لدار الإسلام.
3-نجاح الحركات الإنفصالية سوف يشجع الولايات العربية، وغير العربية للإنفصال والإستقلال عن الدولة المركزية.
4-تراخي قبضة الدولة المركزية سيؤدي إلى تآكل سريع لأركانها ويؤدي إلى انهيارها وسقوطها.
توسعت دولة محمد علي وامتدت إلى الجزيرة العربية، بالإضافة إلى مصر التي تعبر شبه جزيرة سيناء وتمتد إلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر وبالتحديد في العقبة والوجه وضبا ومويلح – لتامين طريق الحج – بين مصر والحجاز.
أي توسعت الدولة المصرية في اتجاه الخليج العربي مما أثار حفيظة بريطانيا لكونه الطريق المؤدي إلى الهند، أدركت بريطانيا تهديد قوة محمد علي أولاً لمصالحها القومية الإستعماريةـ في تأمين الطرق التجارية الدولية في آسيا، وثانياً قوة محمد علي العسكرية المتنامية، وثالثاً أهدافه الحقيقية التوسعية ٌلإقامة دولة كبرى قاعتدتها مصر.
استشعرت بريطانيا – بالتحديد – والقوى الأوروبية خطورة:
1-مشروع محمد علي في بناء دولة حديثة متطورة.
2-بناء جيش وطني قوي، وبناء أسطول بحري متقدم.
3-التوسع الجيوسياسي لمحمد علي في الجزيرة العربية، واليمن، والسودان.
4-السيطرة على الممرات المائية الحاكمة مثل البحر الأحمر، والخليج العربي، المحيط الهندي، إضافة إلى البحر المتوسط شمالاً.
5-التواجد الفرنسي – الداعيم – ثقافياً في مصر ومن ثم في حوض البحر المتوسط.
6-محاولات محمد علي إقناع الدول الأوروبية بدور مصري له بعد إستراتيجي وتجاري في إطار دولة مصر المستقلة عن التبعية العثمانية.
7-امتداد مصر نحو الشرق أي إلى الشام باعتبار جبال طوروس حدوداً طبيعية تحمي المشروع، وهو ما يعتبر بعداً سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً طبيعياً ضرورياً لصيانة مشروع دولة كبرى قائمة على العنصر العربي.
إن هذه المنظومة المتكاملة تمثل تهديداً صارخاً للدولة العثمانية، وللقوى الكبرى، وتمس التواظن الأمني الأوروبي، وهو ما يستوجب مواجتهت للقضاء على هذا المشروع القومي، وانتهاز أول محاولة لمصر تمس ترتيبات الأمن في القارة الأوروبية وتقويضها لتصفيتها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحرب في اليونان، وأولى خطوات تقويض مشروع محمد علي
بدأت مصر تتفاعل مع النظام الأوروبي مبارة، وتمس ترتيبات الأمن في القارة الأوروبية كلاعب دولي في الثورة اليونانية عام 1824. إن خطورة التواجد المصري في اليونان لقمع الثورة اليونانية – رغم أنه بناء على طلب ملح من السلطان العثماني – يعني أن شرق البحر المتوسط سيكون بحيرة مصرية، وأن جزيرة كريت والمورة منحهما السلطان العثماني بفرمان في 6 مارس 1824 لإبراهيم باشا – ستكون مركزاً بحرياً مصرياً بشكل مباشر مع سواحل مصر الشمالية وسواحل اليونان الجنوبية.
معنى هذا أن الدولة أو الإمبراطورية التي يشرع محمد علي باشا في إعدادها سيكون لها مرتكز إستراتيجي في اليونان أي في أوروبا، وستكون عضواً فاعلاً ومساهماً ومؤثراً في التوازنات الأوروبية، وذلك ما سيخل بمبادئ نظام تواظن القوى الأوروبية، وقد يدفع روسيا – التي لم تعترف بالدولة العثمانية كدولة أوروبية – إلى استغلال الأحداث الجارية في اليونان وتقدم على حرب ضد الدولة العثمانية أو إلأى المطالبة بمزيد من الإستقلال الذاتي للولايات العثمانية في شرق وشمال أوروبا بسبب التقارب العرقي والثقافي والمذهبي.
إن انتصارات الجيش المصري في اليونان أدت إلى تدويل الأزمة اليونانية، رغم أن الدولة العثمانية كانت تعتبرها أزمة داخلية، وشأناً جاخلياً في الدولة الواحدة. وأن تدويل الأزمة من المنظور الأوروبي كان ضرورة حتمية خشية التدخل الروسي، وأيضاً خشية انتصار الحركات القومية ف يأوروبا والثورة على الأنظمة الملكية الحاكمة. فتحركت القوى الأوروبية وعلى رأٍها بريطانيا التي تعاني من فوبيا روسيا، وظهرت معاهدة لندن في 6 يوليو 1827 بين القوى الكبرى إنجلترا وفرنسا وروسيا لفرض منهج التفاوض لإحلال السلام ووقف إطلاق النار، أي أنها معاهدة تتفق مع آليات توازن القوى لفرض تسوية للمسألة اليونانية، وبالفعل انتشرت الأساطيل البحرية في المنطقة لبدء المفاوضات بين ممثلي الدول الأوروبية الموقعة على اتفاقية لندن 1827، والسلطان العثماني، وكذلك مع محمد علي باعتباره صاحب الإنتصارات العسكرية في حرب اليونان، وباعتبار مصر دولة تمارس سياستها الخارجية في الأغلب – باستقلالية عن الدولة العثمانية، أي تتمتع مصر بتبعية اسمية دون تبعية فعلية في ممارسة سياستها الداخلية والخارجية.
ولكن رغم أن محمد علي رجل دولة من الطراز الأول، ورجل سياسة بالفطرة، أجاد في توطيد علاقة مصر الخارجية بالقوى الأوروبية، إلا أنه لم يوفق في قراءة قدراته الحقيقية مقابل القدرات الأوروبية مجتمعة، ولم يوفق في قراءة عدم قبول القوى الأوروبية بلاعب دولي جديد يشاركها النظام الأوروبي، أو يمكنه أن يهز توازن القوى القائم على مبادئ منذ اتفاقسة وستفاليا عام 1648 وما تلتها من اتفاقيات من خلال المؤتمرات الأوروبية، ولم يقرأ التحالفات الأوروبية في حال المساس بالوحدة الإقليمية للدولة العثمانية، إضافة إلى ذلك عدم قراءته لرد الفعل الأوروبي تجاه صعود قوة عربية جديدة تسيطر على المراكز البحرية الحاكمة، بينما ترغب القوى الأوروبية في ضرورة استمرار العالم العربي في نومه العميق.
كانت اليونان من الممتلكات العثمانية منذ عام 1503، كما احتلت الدولة العثمانية بحر إيجا عام 1522، وجزيرة قبرص عام 1571، وجزيرة كريت 1659 حتى عام 1821، منذ اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، فإن اليونانيين بدءوا يتأثرون بالتيارات الفكرية والتحررية، إضافة إلى ذلك، نموذج الثورة الصربية ضد الحكم العثماني في عام 1804، قد ساهم بشكل فعلي في إذكاء روح الحماسة الوطنية، وروح التحرير، مما دفعهم إلى إنشاء نواد أدبية، وخلايا سرية تهدف إلى التخلص من حكم الدولة العثمانية التي أصابت البلاد بكثير من التدهور والتراجع بعد أن كانت اليونان منبع الفكر القيمي والحضاري لأوروبا وللعالم.
وقد مثلت الثورة اليونانية أزمة حقيقية على الساحة الأوروبية لأسباب عديدة يمكن تلخيص بعضها في نقاط سريعة:
1-الثورة اليونانية ثورة شعبية هدفها الخروج من الدولة العثمانية وهو ما يمثل تهديداً صريحاً لتكامل الوحدة الإقليمية للإمبراطورية العثمانية.
2-الثورة الشعبية هي خروج على النظام الإمبراطوري، أو الملكي أو القيصري الذي يحكم أوروبا، أ] أنها تمثل نموذجاً يمكن تطبيقه في أوروبا وروسيا مما يهدد الأنظمة الملكية الحاكمة، وبالتالي يهدد النظام الأمني الأوروبي.
3-قد تدفع الثورة اليونانية، روسيا الأرثوذكسية إلى مناصرة هذه الحركة التحررية، ومن ثم يمكن لروسيا تهديد الإمبراطورية العثمانية وتهديد سلامتها الإقليمية، بتقديم العون للثوار اليونانيين بحجة المذهب الديني وبذا يكون:
أ-قد يحدث خلل في التوازن الأمني الأوروبي بالتوسع الروسي.
ب-وصول روسيا القيصرية إلى حوض البحر المتوسط، المغلق عنها.
ج-إذا تم ذلك، فأوروبا في حاجة ملحة إلى إعادة رسم الخريطة السياسية وإلى وضع نظام أمني على أسس ومبادئ تخالف اتفاقية وستفاليا، واتفاقيات فيينا وباريس.
د-أوروبا لم تكن جاهزة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لأي وضع جديد.
ه-لم تتضح بعد ولم تتبلور الحركة الإستعمارية تجاه ممتلكات الدولة العثمانية، أي لم تظهر المتغيرات الدولية التي تدفع بالحركة الإستعمارية، ولم يأت الوقت المناسب.
ساهمت هذه الأسباب والمتغيرات في تدويل الثورة اليونانية فكان تقدير الدول الأوروبية الكبرى أن الآلية المناسبة لتجنب الموقف الروسي هو التجخل الدبلوماسي والهدف منه هو:
-منع التدخل الروسي.
-عدم تحقيق الهدف من الثورة اليونانية، ألا وهو الخروج على الشرعية والتحرر من النظام الإمبراطوري العثماني.
-إحراز قدر من الحقوق السياسية دون الخروج على الشرعية القائمة، ودون الإضرار الشامل بالشعب اليوناني، أي إحراز نجاح دون المساس بوحدة الدولة العثمانية الإقليمية، وبمعنى آخر تحقيق توازن مابين الأطراف.
أما على الجانب الآخر وهو الإمبراطورية العثمانية فقد كانت تعتبر الثورة اليونانية شأناً داخلياً ولا ترغب في التدخل الأوروبي. ولم تستطع الدولة العثمانية قمع هذه الثورة، فاضطر السلطان العثماني إلى طلب النجدة والمساعدة من محمد علي باشا والي مصر – كحليف وليس كتابع – ووعده بضم ولاية كريت بعد إخضاعها،
وهو ما تمت عام 1822، ومن ثم طلب السلطان العثماني إخماد الثورة في شبه جزيرة المورة. بعدها أصدر السلطان العثماني في 1 مارس 1824 فرماناً إلى محمد علي باشا بتعيين إبراهيم باشا والياً على جزيرة كريت والمورة، وأصدر فرماناً ثانياً بإرسال نجدة مصرية للمساعدة في حرب اليونان واستطاع محمد علي باشا، وإيراهيم باشا ابنه في أوائل عام 1825 من الوصول إلى المورة، ثم علي مسولنجى في عام 1826 ثم سقطت أثينا في يوينو 1827، وبذلك خضعت اليونان للدولة العثمانية.
أدت الإنتصارات المصرية إلى مزيد من تدويل الأزمة اليونانية، وأدت إلى مزيد من الإنقسام داخل النظام الأوروبي حيث ظهرت متغيرات جديدة وهي التواجد المصري سواء كان عسكرياً أم سياسياً، أيضاً قمع الثورة اليونانية وهما عنصران كفيلان بإصابة موازين القوة في النظام بالخلل. ولاشك أن ظهور لاعب دولي جديد على الساحة الأوروبية إنما هو مؤشر خطير يهدد أوروبا في شرق البحر المتوسط، ومؤشر لظهور قوة إقليمية جديدة فتية يمكنها أن تلعب دوراً على الساحة الأوروبية، وعلى ال ساحة العربية المتوسطية، كما يمكنه أن يلعب دوراً سلبياً على مستقبل الإمبراطورية العثمانية، رأت بريطانيا أن إدراة الأزمة تتطلب عملاً دبلوماسياً تفاوضياً لضمان انسحاب محمد علي باشا من اليونان، ولضمان عدم استغلال روسيا القيصرية للأزمة العثمانية لتسوية خلافات حدودية. وأسفرت جهود بريطانيا عن التوصل إلى صيغة مقبولة مع روسيا تضمن مشاركة جميع الدول الأوروبية. تلك الجهود التي أسفر عنها توقيع برتوكول في 4 أبريل 1826 لتسوية الوضع في اليونان، والذي أدى إلى عقد معاهدة لندن في 6 يوليو 1827، وأن هذا البروتوكول الذي تحول إلى معاهدة كان بداية التصميم على إزاحة التواجد المصري العسكري في أوروبا، وبداية الإنتباه إلى خطورة قوة مصر الإقليمية التي لعبت دوراً مؤشراً على النظام الأمني الأوروبي، وأحدثت خللاً، قد يؤدي إلى انهيار لمابدئ النظام، وكان ممكناً أن تنشأ أوضاع جديدة.
إن مصر محمد علي ظهرت كقوة إقليمية فاعلة، تملك عناصر التفوق والتأثير، وتملك خطة طموحة، استطاعت أن تؤثر في النظام الأمني الأوروبي، واستطاعت أن تلعب دوراً يمكن أن يمس توازن القوى وبالتالي يمكنه أن يغير في توزيعات الخريطة السياسية الأوروبية. أصبحت المسألة المصرية أزمة شائكة تسوتجب الحل الدبلوماسي والحل العسكري.
أدارات بريطانيا أزمة الثورة اليونانية أي أزمة تعثرت الدولة العثمانية في مواجهتها وأزمة التواجد العسكري المصري في أوروبا لماذا؟ وكيف؟
1-ما هو موقع بريطانيا في المحيط الدولي؟
2-ما هو موقف بريطانيا تجاه الشرق الأدنى؟
3-ما هي سياسة بريطانيا تجاه الإمبراطورية العثمانية منذ عام 1827 حتى 1841؟
4-ما هي الوضعية في عام 1841؟
بعد الحروب النابليونية في 1815، كانت بريطانيا واحدة من القوى العظمى التي تدير الشئون الأوروبية وبخاصة التحالفات الأوروبية، وكانت لبريطانيا طموحات استعمارية عبر البحار، وكانت لفرنسا طموحات عبر البحار وأيضاً تجاه الراين باعتباره حدوداَ طبيعية، ولروسيا طموحاتها التوسعية لإكتساي أراض، وكذلك الحال بالنسبة للنمسا وروسيا. وتقوم العلاقات بين هذه الدول أو القوى الكبرى على أساس مبادئ حفظ توازن وتوزيعات القوى، ولا يسمح مطلقاً بتجاوز هذه المبادئ خشية الإخلال بتوازن النظام الأمني الأوروبي، وفي الأغلب الأعم كانت بريطانيا – لظروف خاصة بموقعها الجغرافي – هي العامل الموازن والحريص على إدارة التحالفات الداخلية لمواجهة الأزمات الأوروبية.
كانت أوروبا تمثل العالم الأول، لذا كانت بريطانيا لها اهتمامات كبيرة بالعالم الثاني وهي حريصة أِد الحرص على منع أي تجخل من القوى المبرى في هذا العالم الثاني ويمثله الولايات المتحدة الأمريكية وكندا لتأمين التجارة وللحصول على مزايا عديدة بعيداً عن العقبات الدولية.
أما عن العالم الثالث وهو يمثل أفريقيا، وآسيا، والجزر في المحيط الهادي، هذا العالم الثالث يمثل منطقة تجارة وحركة مرور وعبور إلى درة التاج البريطاني أي إلى الهند، لذلك حرصت على تأمين التجارة الدولية من خلال عقد اتفاقيات مع مشايخ الخليج، بداية منذ عام 1798 مع إمام مسقط ثم توالت الإتفاقيات، وكان هدف بريطانيا تأمين عدن، ومضيق هرمز وساحل الخليج العربي والبحر الأحمر، إضافة إلى نقاط أو مراكز إستراتيجية من البحر المتوسط مثل قبرص ومالطة.
اتجهت السياسة البريطانية من عام 1820 حتى 1830 نحو منحنى حاد، كرد فعل لإحتواء الثورة اليونانية التي لم تؤيدها – بالطبع – السياسة البريطانية لأسباب سبق تناولها – إلا أنها وتحت ضغوط المصالح القومية، والفوبيا من روسي Russophopia تمثل هذا التحول في توقيع اتفاقية لندن عام 1827 التي حرصت على:
-تحجيم النفوذ الروسي.
-المحافظة على الأمن الأوروبي.
-عدم المساس بمبادئ النظام الأمني الأوروبي وتوزيعات القوى.
-طرد المتغير الجديد – مصر – من التواجد في أوروبا.
-عدم منع اليونان استقلالها عن الدولة العثمانية.
ذلك هو الشق السياسي بالآلية الدبلوماسية، أما الشق الآخر فهو الألية العسكرية حيث نشرت أساطيلها في المنطقة، ومع إرسال مبعوثين إلى اليونان والآستانة للتفاوض لوقف الحرب بين اليونانيين والدولة العثمانية.
جعلت هذه التطورات محمد علي بين فكي الرحى، فالفك الأول أنه لاي قوى على مواجهة أساطيل القوى الكبرى، وأن المواجهة في حد ذاتها هي:
-وسيلة للقضاء على جيشه، وكموحاته في البحر المتوسط.
-توتر العلاقات المصرية – الأوروبية.
أما الفك الثاني وهو الإذعان بالإنسحاب، مما يزيد من سوء العلاقة مع الدولة العثمانية وقد يزيد من شكوكها تجاهه، وهو غير راغب في تصعيد توتر العلاقات المصرية – العثمانية لأن لديه الكثير من الطموحات والأهداف.
حاول محمد علي باشا أن يوظف تواجد أسطوله البحري وفرمان السلطان العثماني بتولية إبنه إبراهيم على جزيرتي كريت والمورة، بالمناورة – أن يحصل على مكاسب تعوضه خسائرة في الجيش، والنفقات، والولايات المنوطة له. رأى محمد علي أنه بالمناورة والمساومة السياسية وتخيل جدلاً أنه يمكنه تبادل المصالح والمنافع مع القوى الأوروبية. أراد مساعدات عسكرية من بريطانيا لتطوير قدراته العسكرية، وأراد الموافقة الأوروبية على امتداد حكمه إلى الشام، والموافقة على الإستقلال النهائي عن الدولة العثمانية.
إن التواجد السياسي والعسكري في اليونان، ومحاولات محمد علي باشا لتحقيق مكاسب مصرية بموافقة أوروبية، كانت سبباً مباشراً في نشوب معركة نافارين البحرية في 20 أكتوبر 1827 والتي انتهت بهزيمة شديدة للأسطول المصري والعثماني، تمثل هذه المعركة ذروة التحالفات الأوروبية بهدف:
-القضاء على المتغير السياسي الجديد في أوروبا.
-الحفاظ على تكامل الدولة العثمانية.
-القضاء على القوة الإقليمية الجديدة القائمة على العنصر العربي.
إن هذه الحقائق تستحق الدراسة ومحاولة استخلاص دروس هامة، وتلك إحدى مهام دراسة التاريخ، ومحاولة إعادة قراءة التاريخ. بالتأكيد، لم يستحدث محمد علي فكرة الدولة كنظام سياسي اجتماعي اقتصادي، فإن فكرة الدولة في مصر قديمة قدم التاريخ، فمصر أول من وشع وأسس ومارس نظام الدولة منذ أكثر من سبعة آلاف عام. معنى هذا أنه لدى المصري مخزون حضاري هائل، كان في حادة إلى الاستفاقة والاستنهاض من فترة كمون وتدهور وانحطاط أصابه، وأصاب البلاد. كان المصري في حادة إلى سلطة قوية قادرة على إعادة نظام الدولة ولكن على أسس حديثة تتناسب مع معطيات عصره. استطاع محمد علي بفطرته السياسية أن يدرك أن البناء لابد ان يبدأ من الداخل، حتى يمكنه أن يحقق سياسة خارجية ناجحة. وقد أجاد بدرجة عالية – وهو ليس موضوع البحث والدراسة – بالنهوض في مجالت داخلية بشكل شامل على أسس علمية مستعيناً بخبرات غريبة وبخاصة الفرنسية.
كان محمد علي باشا حاكماً طموحاً يسعى لتأسيس قوة إقليمية قاعدتها مصر، كان يدرك قيمة موقع مصر الحاكم وكيف يمكن توظيفه، كان يدرك امتداده الجغرافي الطبيعي وحدوده الآمنة جبال طوروس ويدرك قيمة البحر الأحمر، وأهمية البحر المتوسط والنقاط الحاكمة مثل جزيرة مالطة وجزيرة قبرص، وجيزرة كريت والمورة. باختصار كانت لدى حاكم مصر رؤية استراتيجية متكاملة، تبدأ بتأسيس دولة عصرية قادرة على أسباب القوة، وقادرة على توحيد بلاد المشرق العربي كقوة إقليمية تقوم على أٍس ومقومات تكفل لها النجاح والإستمرار.
ولكن في زخم الطموحات والأهداف، وبسبب بريق الرؤية الإستراتيجة الشاملة فات محمد علي باشا والي مصر كثيراً نذكر بعضاً منه:
-التأني في قراءة موازين القوى الأوروبية، ونمط التحالفات وفق مبادئ النظام الأمني الأوروبي.
-فهم طبيعة النظام الأمني الأوروبي وأسباب نشأته، وإصرار القوى الأوروبية الكبرى على تطبيقه.
-أهمية الدولة العثمانية كحاجز رادع لروسيا القيصرية التوسعية.
-دراسة تأثير دخول مصر كمتغير أثر بشكل هائل في نمط التحالفات، وما يمكن أن ينتج عنه من تغيير في نظام توزيع القوة.
-لا يمكن قبول أوروبا بعنصر مختلف في العرق والثقافة والعقيدة والأيديولوجية بدخول النظام الأوروبي.
-لا يمكن قبول ظهور قوة إقليمية جديدة تحل محل الدولةالعثمانية، فإنه رغم أهميتها الإستراتيجة، إلا أن لأوروبا هدفاً بعيد المدى وهو طرد الأتراك العثمانيين من أوروبا، وأيضاً وراثة ممتلكاتها الشاسعة، حين تسنح الفرصة.
-قياس قدراته وإمكانياته الحقيقية بالقياس إلى القوى الأوروبية الكبرى مجتمعة أو فرادى وبخاصة الدول البحرية منها. -بعد المسافة بين مصر – مصدر الإمداد – عن اليونان، مما يشكل عائقاً إدراياً وفنياً يقلل من فرص تحقيق انتصارات، وفرص المحافظة عليها.
-عدم قبول الدول الأوروبية الكبرى بتحويل البحر المتوسط إلأى بحيرة مصرية، مما يؤثر سلباً على المصالح القومية الأوروبية.
-سوء تقدير محمد علي باشا للهامش المسموح له بالمناورة السياسية والمساومة لتحقيق مكاسب مصرية.
-إن التواجد العسكري المصري في شرق البحر المتوسط، والسيطرة على البحر الأحمر ومن ثم الخليج الهندي، هو استقطاب للممرات الدولية العامة التي هي شريان التجارة الدولية، وهو ما لا يمكن السماح به.
-إن تحطيم الأسطول المصري في معركة نافارين إشارة قوية من أوروبا لتعقب وتقويض طموحات والي مصر في بناء قوة إقليمية، ترغب في المشاركة في صناعة السياسة الدولية.
-إن قيام قوة إقليمية تتمتع بأسباب القوة، ولديها رؤية إستراتيجية، تعني أنها صحوة في العالم العربي من نوم عميق، لها مدلولاتها، ولها تداعياتها على المصالح القومية الأوروبية.
مصر - محمد علي - والحدود الطبيعية طوروس
خرج محمد علي من الحرب اليونانية التي امتدت على مدار ستة أعوام مثقلاً بالخسائر البشرية التي تفوق ال30.000 جندي، وخسائر مالية أكثر من 20 مليون فرنك، إضافة إلى غرق أغلب الأسطول البحري المصري. لم تفت تجربة المورة القاسية في عضد طموحاته وأهدافه، بل سعى – بالإعداد الجيد العسكري والإقتصادي – إلى ضم سوريا لتوسيع ولايته – ما استطاع – لقيام قوة إقليمية قاعدتها مصر، ومن ثم يشكل كتلة لا يستهان بقوتها وقدرتها بوالتالي يمكنه أن ينال الإستقلال عن الدولة المركزية التي أصابها الكثير من الضعف والتدهور على مستوى الشأن الداخلي، وعلى مستوى الشأن الخارجي.
كان للرجل رؤيته الإستراتيجية الثاقبة حيال تأمين دولته العصرية – أدرك أن افمتداد الطبيعي لمصر هو الشام حتى حدودها الطبيعية جبال طوروس شمالاً. كان الرجل يقدر قيمة العامل الجغرافي باعتبار الشام ضرورة حيوية للأمن المصري، ومما لا شك فيه أن العامل الجغرافي عامل حاسم في صناعة تاريخ الأمم، وعامل فاعل في تشكيل الأمم من عرق وثقافة، وعادات وتقاليد، وأهداف ومصير.
كان الرجل يدرك أنه لابد أن تكتمل الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط لتدخل في إطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأميناً للضلع الآخر، أي ضرورة جغرافية وهي تمثل عبرة تاريخية.
إن موقع مصر الجغرافي المطل على البحر المتوسط يجعلها على اتصال غير قابل للإنفصال عن السهل السوري، وهما معاً يشكلان قوة تأثير كبيرة على المحيط العربي شرقاً وشمالاً، وغرباً وجنوباً. أي أن الموقع والأهمية الحضارية لمصر يمكناها أن تجخل أعماق أفريقيا وتؤثر بها، وأيضاً يمكناها أن تمد تأثيرها المتنوع المتعدد إلى الغرب حيث الساحل الشمالي العربي الأفريقي. أما سوريا وهي مركزة الدولة الأموية، أي معقل العروبة، على مقربة من بلاد الرافدين، الجزيرة العربية، والخليج العربي للوصول إلى قلب آسيا.
أدرك محمد علي باشا – من المنظور الإقتصادي – أن الشام إقليم غني بالثروات الطبيعية والزراعات المتنوعة، وهو ما يمثل ضرورة ملحة لتقوية دولته الموسعة، علاوة على أنها مصدر لإمداد الجيش بالعناصر الفتية وبخاصة أنه تتحد مع مصر في العروبة والعقيدة، وبالتالي فهذا المدد البشري يتصف بالتجانس والتشابه والتقارب إلى حد كبير، وهي مزية يفتقر إليها الجيش العثماني المتعدد الأعراق والثقافات والأهداف.
أعاد محمد علي باشا قراءة موازين القوى الأوروبية، وقراءة طبيعة النظام الأوروبي في ذلك الوقت، إضافة إلى تقديره للشأن التركي الداخلي. في أواخر عام 1831 جاء قرار الإتجاه شرقاً لضم الشام حيث الفرصة مواتية – من وجهة نظر والي مصر – كيف؟ باختصار. كانت أوروبا تعاني من انقسام داخلي بين الشرق الذي تمثله روسيا والنمسا وهو الجناح التقليدي المؤمن بالحلف المقدس، أي على المعطى الديني، وبين الغرب الذي تمثله إنجلترا وفرنسا وهو الجناح الليبرالي المؤمن بالمعطيات السياسية. كما كانت أوروبا تعاني من أزمات سياسية حادة مثل أزمة بلجيكا، وأزمة شبه جزيرة أيبريا، ثم استعداد فرسنا لإحتلال الجزائر 1830.
أما الدولة العثمانية – المنهارة داخلياً فقد خرجت من حرب اليونان خاسرة، إضافة إلى فقدان جزء كبير من جيشها، علاوة على ما ترتب على اتفاقية أدريانوبول مع روسيا 1829 من دفع تعويضات للأخيرة. وما أضاف ضعفاً جديداً على ضعف الدولة العثمانية – والأسباب عديدة – وهو إقدام السلطان محمود الثاني في غطار تحديث الجيش العثماني، على التخلص من أعداد كبيرة من فيالق الإنكشارية عام 1829، على غرار مذبحة القلعة التي أقدم عليها محمد علي في بدايات حكمة وذلك توطئة لحكمه والقضاء على أسباب الفوضى والشغب والإضطراب في مصر عام 1811.
معنى هذا أن الجيش العثماني في أضعف حالاته، وبخاصة أن عملية الإستعواض، والإعداد والتدريب تتطلب زمناً ليس بقليل.
أراد محمد علي باشا في غافلة من القوى الأوروبية الكبرى، وهي منشغلة بالإنقسامات الداخلية، والأزمات الكبيرة التي تواجهها، وفي ظل ضعف الدولة العثمانية، نشر قواته ودخل الشام. اقتفى إبراهيم باشا قائد الجيوش المصرية أثر نابليون في حملته على الشام، فاتجه إلى القسم الجنوبي من الشام للإستيلاء عليها عام 1831، ثم طلب محمد علي إلى السلطان محمود أن يقلده ولاية الشام. وكان رد فعل السلطان العثماني هو إصدار فرمان بخلعه في عام 1832 وقرر تجهيز جملة قوية بقيادة حسين باشا الذي تقرر أن يحل محل محمد علي في ولاية مصر.
لم يعر محمد علي باشا بالاً بفرمان الخلع، واستمر الجيش المصري في تقدمه حتى دخل طرابلس، ثم استولى على عكا مايو 1832، ودمشق في يونيو 1832، ثم حمص في يونيو 1832، وهزم الجيش التركي واستولى على حلب، ثم بيلان آخر يوليو فتم له فتح الشام. أى أن دخول وضم الشام استغرق من أكتوبر عام 1831 حتى 29 يوليو 1832، معنى هذا هو التفوق المصري سواء على مستوى القيادة والخطط وعلى مستوى الأداء المميز، إضافة إلى ذلك هو ان إبراهيم باشا لاقى تضامناً من أهل الشام، بعتبار ان:
-إبراهيم باشا لم يكن غازياً ولا فاتحاً إنما مخلصاً وبطلاً.
-رغبة أهل الشام في التخلص من الحكم العثماني.
-رغبة أهل الشام في إعادة ترتيب وتنظيم الداخل.
وإذا كان محمد علي باشا رجل دولة سياسي بارع، فإن ابنه إبراهيم باشا قائداً عظيماً لديه ال قدرة على إدارة المعارك بكفاءة، ولكن لم تكن لديه حنكة والده، ورؤيته الإستراتيجية وحمته الرصينة في إدارة العلاقات الخارجية، وفهم طبيعة النظام الدولي، وطبيعة العلاقات الأوروبية – الأوروبية، وماهية نظام توازن القوى الأوروبية ورؤيتها الإستراتيجية تجاه أهمية الدةولة العثمانية ككيان سياسي يقوم بدور حيوي في حماية توازن القوى في أوروبا.
اندفع إبراهيم باشا – غير مصغ لنصيحة محمد علي بعدم مس السيادة العثمانية نحو قونية في 21 ديسمبر 1832 واحتلها، ثم اتجه نحو كوتاهية وكان على بعد عشرات الأميال من الآستانة.
إن دخول جيوش محمد علي الشام تعني أنه سوف يتجه نحو بغداد والبصرة عبر شمال سوريا، وسوف يمد سلكته إلى آسيا الصغرى من شيراز إلى مسقط، وحتى البحر الأحمر مروراً بالجزيرة العربية. ومعنى هذا أنه يريد أن يشكل كتلة إقليمية سياسية قائمة على العنصر العربي وعلى الإتجاهات الفكرية القائمة على اللغة العربية والدين الإسلامي.
وبنظرة شمولية تجاه امتداد نفوذ مصر محمد علي في الشام والعراق وعلى مشارف الآستانة يمكن إبداء بعض الملاحظات:
-إن الوصول إلى كوتاهية على مشارف الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، يعتبر هزيمة ثقيلة، حيث هي الأولى من نوعها منذ بدايات هذه الإمبراطورية الضخمة أي منذ عام 1300.
-أن الإقتراب من الآستانة يعتبر تهديداً ليس لتكامل الوحدة الإقليمية للإمبراطورية، وإنما تهديد لبقاء وجود واستمرار هذه الدولة.
-_أن تهديد الإمبراطورية العثمانية هي تهديد مباشر للأمن الأوروبي، الذي يرى ضرورة أكيدة في بقاء هذا الكيان السياسي في حفظ توازن القوى الأوروبية.
-أن وصول القوات المصرية إلى كوتاهية يعني:
1-بزوغ قوة إقلمية فتية في المنطقة العربية.
2-أن هذه القوة تسعى للقضاء على الإمبراطورية العثمانية لتحل محلها دولة كبرى قوامها متجانس "العروبة"!
3-قد يفتح المجال أمام تحالف مصري –روسي.
4-قد يفتح المجال أمام صراع مصري – روسي.
5-قد يفتح المجال لتفوق روسي في أسيا الصغرى وأوروبا.
-استفادة محمد علي باشا من التخبط والإنقسامات السياسية الأوروبية، ليفرض أمراً واقعاً، ألا وهو تغيير الخرطية السياسية للمشرق العربي للحصول على استقلاله عن الدولة المركزية.
-أن قيام دولة أو قوة إقليمية كبرى يحتاج إلى موارد مادية وموارد بشرية، وهو ما يتوافر في الشام والعراق والخليج.
-أن اختلاف إبراهيم باشا ومحمد علي باشا، لم يكن اختلافاً جوهرياً، بقدر ما كان اختلافاً بين المنظور السياسي الذي يمثله محمد علي باشا، حيث إنه لا يرغب في إثارة القوى الأوروبية الكبرى في حال محاولة التخلص من الدولة العثمانية التي كان يعلم جيداً أهميتها ككيان سياسي، وضرورة حيوية للأمن الأوروبي، وبين المظور العسكري الذي يفرض على المقاتل أن ينقل المعركة داخل أراضي الأعداء، وليس على أراضيه، على أساس أن الحرب والقتال سجال، فربما يتمكن الأعداء منه، ففي حال تواجده على أرض الغير فإنه لن يخسر معركة ولن يخسر ما حققه من مكاسب، أما إذا كانت المعركة على أرضه فإن أي سوء تقدير أو أداء يعني انتقاصاً من النصر وربما هزيمة وخسائر.
أغلب الظن، أن إبراهيم باشا أراد تأمين انتصاراته، إضافة إلى إشارة في غاية الأهمية وهي انه بقواته التي حققت انتصارات كبيرة خلال عام يمكنه أن يصل العاصمة العثمانية، فربما أراد توجيه رسالة من أجل الحفاظ على انتصاراته ومكاسبه. وهناك احتمال آخر، وهو فخر وزهو القائد المنتصر قد يدفعه إلى الإستمرار والإقتحام دونما حسابات وتقديرات سياسية لقياس المكاسب على الأرض، والخسائر السياسية في إطار نظام تحكمه مبادئ وقوانين ومصالح واعتبارات حيوية.
ولكن هل كان محمد علي باشا وإبراهيم باشا مؤمنين بالفكرة العربية؟ هل كانا يرغبان ف يإ حياء القومية العربية، وإعطاء العهرب حقوقهم ويريدان لهم العافية والإستقلال؟ هل كانا يرغبان في التخلص من العنصر التركي وإحلال العنصر العربي – صاحب الأرض والوطن – بدلاً منه فقط؟
في حقيقة الأمر، اختلفت رؤى المدارس التاريخية بين:
الرؤية الأولى ترى أنها:
محاولة لإحياء الدولة العثمانية وتجديدها بعد أن أصابها الكثير من الترهل والضعف، أي هي حركة إصلاح وإعادة تأهيل.
الرؤية الثانية هي:
محاولة مصرية لبناء إمبراطورية مصرية قائمة على بعدها الإستراتيجي وحدودها الطبيعية جبال طوروس ومسيطرة على الممرات المائية الرئيسية الهامة مثل البحر المتوسط، البحر الأحمر، الخليج العربي، وتمتد إلى أرض الخير والنماء – بلاد الرافيدين – مروراً بحكم بلاد المراكز الدينية المقدسة في الجزيرة العربية.
الرؤية الثالثة وهي:
محاولة ربط الفكرة العربية بإحياء القومية العربية، وإدارة شئون البلاد على أيدي أبنائها لممارسة حقوقهم الطبيعية في أوطانهم.
هذه الرؤى الثلاث اعتمدت الفكرة الجوهرية وهي إقامة كتلة إقليمية متجانسة، أي إٌامة دولة فتية تمتلك مقوماتها التي تؤهلها ليكون لها ثقل حضاري وسياسي واقتصادي.
إن مصر، ورغم ما تعانيه من رتاجع حضاري بشكل شامل، إلا أنه لديها مخزون حضاري، وشعب فتي يمكن استنهاضه وتأهيله، ولديها إمكانيات طبيعية جعلتها أهم بل د في العالم – رؤية نابليون – ومن ثم دولة مقدر لها أن تقوم بدور قيادي مركزي ليس على مستوى المشرق العربي، فقط، وإنما امتدادها في المغرب العربي وقلب أفريقيا يؤهلها أ، تمد يمناها للمشرق لتحتضنه، وتمد يسراها للمغرب لتحتضنه، إن مصر هي واسطة العقد بين المشرق العربي وبين الغرب العربي، كما أن مصر تتمتع بكونها دولة آسيوية بفضل شبه جزيرة سيناء وهي أيضاً دولة أفريقية بامتدادها من أقصى شمال أفريقيا ممتدة إلى الشمال العربي الأفريقي، إضافة إلى امتدادها الطبيعي عن طريق نهر النيل الذي يربط بين مصر وقلب أفريقيا.
يمكن تفسير دخول الجيش المصري إلى الشام – وفق سياق ومعطيات العصر أي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر – على أساس المفهوم الإسلامي في الفقه السياسي الإسلامي، بمعنى أن ما ضمه محمد علي باشا إلى مصر هو من بلاد المسلمين وتسكنها أغلبية مسلمة، ويمكن أن يحكمها أي وال مسلم بغض النظر عن أصوله العرقية أو جنسيته. ليس هناك ما يفصل بين هذه البلاد من حدود طبيعية أي: تلك مساحة جغرافية متصلة، كما أنه لم تعرف الحدود السياسية في المنطقة العربية إلا أخيراً في القرن العشرين، وإنما ثمة حدود إدارة للتنظيم وحفظ الأمن العام. لاشك أنه من معطيات هذا العصر وهذا المفهوم هو أن التقسيمات والحدود الإدارية كانت من المرونة والغموض بمكان، فالحدود التي كانت تابعة لحاكم فترة وتتحول إلى آخر في فترة أخرى لا يمكننا الأخذ بها الآن، ولكن فقط لدراستها وفق عصرها الذي فرض مفاهيم خاصة بذلك العصر.
والسؤال الآن:
-ما هو رد فعل القوى الأوروبية تجاه بناء إمبراطورية عربية؟
-ما هو رد فعل القوى الأوروبية تجاه مصر بالتحديد؟
-ما هو رد فعل القوى الأوروبية تجاه الفكرة العربية؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الائتلاف الأوروبي ضد مصر
التدخل الأوروبي في مصر
معاهدة لندن 1840
فرمان أول يونيو 1841
الفصل الثاني: تعيين الحدود الشرقية لمصر
شبه جزيرة سيناء في عصر محمد علي
منذ الاقتحام العثماني لمصر عام 1516 حتى تولية محمد علي باشا ولاية مصر في يونيو 1805، لم تقترب الدولة العثمانية من شبه جزيرة سيناء بالإضافة أو الطرح أو الخصم باعتبارها جزءاً أصيلاً من مصر بشكل خاص، وفق ما جاء في كتابات الأولين - وأيضاً باعتبار أن الأراضي العثمانية مملوكة لها فجميع البلدان التي تحكمها الدولة العثمانية هي بلاد وأراضي ومواطنين عثمانيين بشك لعام، وإن كانت هناك حدود ادارية فاصلة بهدف التنظيم الاداري وتوزيع المهام لصيانة وحفظ النظام ولم يكن هناك ما يستوجب المساس بجزء من الإقليم الصمري من رفح شرقاً حتى السلوم غرباً على بعد مائة ميل غرب خط 27.
أسند إلى محمد علي باشا ادارة ولاية مصر بحدودها القديمة كما جاء في فرمان التولية 1841، كما أسندت إليه ادارة بعض المراكز على الساحل الشرقي لخليج العقبة وهي ضبا والوجه والمويلح والعقبة بهدف تأمين طريق الحج البري بين مصر والحجاز.
في حقيقة الأمر، فإن الفرمان لم يضف جديداً إلى ما سبق ذكره افي الفصل السابق - انما جاء ترسيم وتسكين محمد علي باشا في ولاية مصر، حيث إنه كان يمارس الادارة والحكم باعتبار أن حد مصر الشرقي خط مستقيم ممتد من رفع على نحو 28 ميلاً من العريش إلى جنوب قلعة الوجه، أي أن سيناء كلها وقلاع العقبة وضبا والمويلح والوجه ضمن الادارة المصرية بدليل أن التواجد المصري بأشكاله الادارية والتنظيمية والأمنية في سيناء قبل فرمان 1841. تسنى لمحمد علي باشا هذه الوضعية بعد أن نجح في القضاء على الحركة الوهابية عام 1818، واستولى على الحجاز وقلاعها بعد حروب طويلة وقاسية، وكلفت مصر غالياً. ولاشك في أن مركز محمد علي باشا منذ ذلك الحين قد عظم في نظر الدولة العثمانية فقد أنقذها من خطر الحركة الوهابية، وأعاد إليها نفوذها في بلاد العرب، بلاد المراكز الدينية التي تستمد الدولة العثمانية قيمتها ودورها ومكانتها من حكامها والسيطرة عليها.
وبالتالي فإن الفرمان لعام 1841 جاء إقراراً وترسيماً للأمر الواقع الذي تمارسه الادارة المصرية سواء على أرض مصر أم على الأراضي الحجازية. وبقى الجنود المصريون يحمون طريق الحج البري الذي يمر بطور سيناء والعقبة ومدائن صالح وقلاع الوجه والعقبة وضبا إلى أن استرجع السلطان عبد المجيد الحجاز واستخلصها للدولة العثمانية بعيداً عن الادارة المصرية بعد أن أهمل الطريق البري للحج وحل الطريق البحري بعد افتتاح قناة السويس.
كانت شبه جزيرة سيناء في عهد محمد علي باشا تتمتع بتنظيم اداري، حيث كانت مدينة الطور تابعة في الادارة لمحافظة السويس، أما قلعة نخل فقد كانت ملحقة بديوان المالية المصرية، أما العريش فقد كانت تابعة لديوان الشؤون الداخلية.
حرص والي مصر في ادارة شؤون سيناء، وأول ما قام به هو استتباب الأمن في شبه الجزيرة. إضافة غلى ذلك قامت الادارة المصرية باعداد سيناء لتكون طريقاً ممهداً للمواصلات بين مصر والشام حيث تمثلان ضلعا زاوية البحر المتوسط القائمة مما أنشأ علاقة خاصة بينهما، فلعل الشام هي أكثر ما ارتبط بمصر وتفاعل معها على امتداد بعدها الآسيوي، فثمة الجوار الجغرافي المباشر ثم الرؤية الاستراتيجية الجذرية عبر التاريخ.
قبل دخول ابراهمي باشا الشام 1831، فقد رمم آبار قطية، وبئر عبد، وبئر الشيخ زويد، كما أنشأ بين مصر وغزة بريداً منظماً على الجمال، طريق ابراهايم باشا إلى الشام عبر سيناء عن طريق مدينة القنطرة ثم قطية ثم بئر عبد، ثم بئر الدار ثم العريش والشيخ زويد فخان يونس، إضافة إلى تجهيز شبه جزيرة سيناء لجيش ابراهيم باشا المتجه إلى الشام، فقد أولت الادارة المصرية مشكلة الأمن الداخلي اهتماماً كبيراً لفرض النظام العام لاخضاع القبائل المتحاربة، وبالفعل في عام 1830 قامت أزمة شديدة في العريش بين القبائل، مما استوجب ارسال فرقتين من الجيش المصري وتم تأديب القبائل المعروف عنها السلب والنهب ونشر الفوضى حتى تم الصلح وفرض الأمن في شبه الجزيرة، أي أن للادارة المصرية اليد الثقيلة في سيناء من حيث فرض الأمن، والتنظيم الاداري،حيث اعيدت الترتيبات الادارية والأمنية التي أنشئت من قبل الادارة المصرية في القاهرة.
كما تمتعت شبه جزيرة سيناء في عهد محمد علي بشهرة كبيرة، وبدأ رجال العلم والمفكرون يوجهون اهتمامهم نحو تلك المنطقة، وهو ما يبدو من نتائج هذا الاهتمام عند دراسة حركة المسافرين في القرن التاسع عشر وتتبع البعثات العلمية في سيناء في القرن التاسع عشر.
كان محمد علي باشا رجل دولة وسياسياً بالفطرة، ويتمتع برؤية استراتيجية شاملة، كان رجلاً مؤثراً ليس في تاريخ مصر الخديث، وإما لعب دوراً في غاية الأهمية والتأثير على الدولة العثمانية وعلى النظام الأمني الأوروبي. ولكن يمكننا القول إن موقف الدول الكبرى ذده ولصالح الدولة العثمانية، كسر داخل وإلى مصر الكثير من الطموحات، وحجم آماله وآمال ورثته. لاشك في أن اتفاقية لندن 1840 وفرمان 1841، كان لهما أشد التأثير على مسيرة مصر سواء على مستوى الشأن الداخلي أم الشأن الخارجي.
كان بإمكان القوة الجديدة البازغة في مصر إنشاء دولة عربية قوية، وبإنكانها تأمين قوة تتصدى للمحاولات الأوروبية لاقتسام التركة العثمانية، وبإمكانها أن تؤثر على موازين القوة في البحر المتوسط والبحر الأحمر، وبإمكانها أن تفرط عقد النظام الأمني الأوروبي.
توفى محمد علي باشا في أغسطس عام 1849، وسبقه ابراهيم باشا 1848، فتولى عباس باشا الأول ولاية مصر، الذي أوقف الحركة الاصلاحية الداخلية. كان والياً مستبداً عدواً لكل حركة اصلاح، واتصفت سنوات حكمه بالجمود والتراجع. ولكنه اهتم بشبه جزيرة سيناء التي زارها وشرع في تحويلها إلى مصيف، رأى أهمية الاستفادة من مواردها الطبيعية فشرع في بناء حمامات كبريتية قرب الطور. مد عباس باشا الأول طريقا من مدينة الطور إلى قمة جبل موسى، وأيضاً من مدينة الطور إلى جبل طلحة غرب جبل موسى، ولكن أهملت هذه المشروعات بعد مقتله عام 1854.
وخلفه سعيد باشا، الذي أبدى اهتماماً بسيناء بإنشاء محجر للحجاج في مدينة الطور، وإن محجراً بدائياً غير مجهز ولائق لاستقبال الحجيج. تقلد الحكم في عام 1854 وتوفى 1863 وخلفه إسماعيل باشا. انتهج إسماعيل باشا منهج جده محمد علي باشا الكبير الذي يهدف إلى تحقيق عظمة مصر واستقلالها، وإن كان ينقصه الكثير من مقوماته الشخصية من حيث الحزم وبعد النظر، وبخاصة مع زيادة المصالح الأجنبية بعد أن منح الخديوي سعيد امتياز حفر قناة السويس 1854، وازدياد حركة الانشاء والعمران مما شكل ضغوطاً داخلية وخارجية شديدة التي بدأت بالتدخل السلمي والتدخل السياسي الرسمي 1878 أي إنشأ نظارة للاشراف المالي عام 1878 ودخول ناظرين وهما ولسون ودي يلنير والذي أعقبه تدخل واحتلال عسكري عام 1882.
كان الرجل يرغب بشدة في نقل مظاهر الحضارة الأوروبية إلى مصر، وكان يرغب في أن يكون لمصر شأن عظيم ودور على الساحة الدولية، ولكن كانت أخطاؤه أكبر من آماله وينقصه الكثير من بعد النظر والحكمة.
كان من أكثر انجازاته العظيمة افتتاح قناة السويس للربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، مما جعل لمركز مصر الدولي ثقلاً. وإن منح امتياز حفر قناة السويس يعني بالتبعية الاهتمام بشبه جزيرة سيناء وبالفعل توافدت البعثات العلمية على سيناء، وأيضاً استوجب بناء مدينة في طريق العريش سميت القنطرة، وهي على بعد 35 كيلو متراً من الإسماعيلية و45 كيلو متراً من بورسعيد، وكانت مركزاً تجارياً يربط بين غزة والعريش والصالحية. تزايدت أهمية سيناء بعد افتتاح قناة السويس للملاحة العالمية، ولعبت دوراً مؤثرا ليس فقط في أهمية سيناء وإنما في تاريخ مصر الحديث.
وجاء خلفه الخديوي محمد توفيق، والذي اندلعت في عهده الثور العرابية، واحتلت إنجلترا مصر عام 1882. أولت ادارة الاحتلال أهمية كبرى لشبه جزيرة سيناء. كان من أولى أولياتها هو اجراء تعديلات ادارية في سيناء بما يتفق مع مصالحها ورؤيتها الاستراتيجية. ألحقت ادارة الاحتلال بلاد التيه بوزارة الحربية اداريا وماليا وعسكريا وكانت اتحت اشراف سردادر الجيش المصري وإمرة ادارة المخابرات بالقاهرة، أما منطقة الطور فقد ألحقت ادارية بادارة بلاد التيه برئاسة قومندان شبه جزيرة سيناء، واتخذو نخل مركزا لها حيث تتمع بموقع استراتيجي يحكم طرق المواصلات في سيناء.
أما منطقة العريش، ولأسباب خاصة بالتكوين الديموجافي وطبيعته، ألحقت بوزارة الداخلية، ولها محافظ يعين من القاهرة ويعاون رجال الشرطة.
وفي عام 1865 - كما ذكرنا - أدخل أول خط تلغراف في سيناء وهو خط العريش الذي يربط بين مصر والشام، كما أنشئ عام 1897 خط تلغراف آخر من السويس إلى الطور ثم إلى المحجر.
أي تم تنظيم شبه جزيرة سيناء واقتسامها بين الادارة المدنية والادارة العسكرية، وأصبحت كلها محافظة واحدة تخضع لنظام اداري، وقضائي واحد. وأضيفت نقاط بوليس في الطور والشط ونويبع ونخل والعريش ورفح والقصيمة، مشاش الكنتلة وثمد. كما خصصت الحكومة المصرية رواتب لشيوخ القبائل لاكتساب ولائهم، وللقضاء على ظاهرة النهب والسلب، كما فرضت النظام العام لاستتباب الامن والاستقرار بين القبائل في ربوع شبه جزيرة سيناء.
مما سبق عرضه يمكننا أن نستنتج بعض الملاحظات:
1- نجحت الدول الكبرى في فك ضلعي الزاوية المصرية-السورية باتفقاية 1840.
2- حصر مصر داخل حدودها الصمرية وراء شبه جزيرة سيناء.
3- ظهور أزمة ملء الفراغ، والسعي البريطاني للحل بإنشاء عازل حاجز يفصل بين مصر والشام.
4- استوعب أبناء محمد علي جيداً الدرس القاسي من اتفاقية لندن 1840 التعسفية التي هي دستور وآلية التدخل في المسألة المصرية.
5- استوعب أبناء محمد علي الدرس من فرمان 1841، والقيود والالتزامات على مصر تجاه الدولة العثمانية المتهالكة.
6- عايشوا التناقض السياسي ما بين التبعية للدولة المركزية بما لها من قيود والتزامات قهرية، وبين الاحتلال العسكري والسياسي البريطاني بما يمثله من قوة قهر وانتهاك لحقوق وكرامة مصر والمصريين.
7- إحكام عزلة مصر عن بقية الوطن العربي وصناعة توجهات مصرية مختلفة، مع ربط مصر اقتصاديا بأوروبا.
8- لم تغفل الدولة العثمانية عن مصر، مارست سياسات تعسفية، لدعم العزلة المصرية، ولتقليص وتحجيم تطلعاتها القومية، ومحاولات تقليص مساحتها الاقليمية.
شبه جزيرة سيناء ساحة الصراع الدولي وأزمة فرمان 1892
ظلت مصر بمقتضى اتفاقية لندن 1840 - الضمانة الدولةي - وفرمان 1841 تعاني من قيود قصرية، وليس كما تدعي بعد الأدبيات بانه أصبح لمصر وضع دولي متمايز ومتميز ولها حقوق تتمتع بها بشكل خاص - إلا وراثة الحكم من أبناء محمد علي، وظلت مصر تتلقى فرمانات التولية دون إضافة أو تغيير لعباس الأول (1848-1854)، ثم محمد سعيد باشا (1854-1863)، ثم الخديوي إسماعيل 1863 - وعزل في 1879، ثم الخديوي توفيق 1879-1892، ثم الخديوي عباس الثاني 1892.
ظلت مصر من الوجهة القانونية ولاية عثمانية، وأن مواطنيها عثمانيون ولم يتمتعوا بهوية مصرية منفصلة، ومن ثم تجمع الضرائب لصالح الدولة العثمانية وتسك العملة باسم السلطان العثماني، لم يمنح أي خديوي - أي والي على مصر حق عقد اتفاقيات سياسية مع دول أجنبية، ما عدا بعض الاتفاقيات المالية والتجارية الخاصة بالادارة الداخلية المصرية. لم يكن مسموحا لخديوي مصر المساس بموضوع أرض الاقليم الصمري، ليست له قدرة على اعلان حرب أو عقد اتفاقية سلام وقد ترتب على ذلك وكنتيجة طبيعية لشكل العلاقة، فلم يكن لدى الخديوي حق تعيين الممثلين الدبلوماسيين، وإنما يمثل مصر في المحافل الدولية ممثل ومفاوض عثماني.
ومن ناحية أخرى هناك الغيرة التركية التقليدية من مصر، مما دعتها إلى فرض حظر على زيادة عدد أفراد الجيش المصري على 18.000 جندي، وهم جميعاً تحت الطلب العثماني، في أي لحظة لمشاركة مع الجيش العثماني في أي من الممتلكات العثمانية المترامية الأطراف. هذا الجيش المصري يسير تحت العلم العثماني، وكذلك لم يمنح الخديوي حق منح الترقيات لكبار رجال الجيش المصري، علاوة على ما تورده الحكومة المصرية للخزانة التركية سنويا دون وجه حق، مقابل دورها الديني والعسكري في حماية دار الإسلام رغم احتلال مصر من قبل الجيش البريطاني عام 1882.
إن وضعية مصر القانونية وفق معاهدة لندن 1840 هي ولاية عثمانية ليست لها صفة قومية، ووضعية مصر الفعلية فهي دولة ترزح تحت الاحتلال البريطاني وهي السلطة الفعلية ، ويتولى ادارتها خديوي ألباني سلسل أسرة محمد علي باشا.
شبه جزيرة سيناء البعد الاستراتيجي لحماية قناة السويس
كانت بريطانيا تسعى إلى توطيد مركزها في مصر، وبخاصة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، تلك القناة التي تلعب دورا رئيسيا في حركة التجارة والاقتصاد العالمي، وبالتالي لعبت دورا مهما في السياسة والاستراتيجية البحرية الدولية.
إن قناة السويس أضافت مزيداً من الأهمية السياسية والاستراتيجية والتجارية لحوض البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي.
سهلت قناة السويس الطرق البحرية أمام الأساطيل التجارية والحربية، مما أدى إلى:
- تصاعد الصراع البحري بين القوى البحرية الاوروبية.
- تزايد التنافس بين الدول الاستعمارية على نقاط ارتكاز بحرية.
- نمو حركة الاستعمار في آسيا وأفريقيا.
- تراجع نسبي لبعض القوى البحريى الأوروبية مقابل ارتفاع نسبي للبعض الآخر.
اشتد التنافس الدولي بين القوى البحرية الدولية التي تهمها قناة السويس، وتبعا لأهميتها وكثافة العبور فيها تأتي بالترتيب؛ إنجلترا، فرنسا، إيطاليا، روسيا، وتركيا.
سوف تركز الدراسة على إنجلترا بسبب احتلالها لمصر عام 1882، وباعتبارها السلطة الفعلية في مصر، وعلى تركيا باعتبارها السلطة الاسمية والتبعية القانونية على مصر.
أهمية قناة السويس من المنظور البريطاني
إن اهتمام إنجلترا بمصر سبق افتتاح قناة السويس، بعد حصولها على الهند في معاهدة باريس 1763، وزاد من انتباهها بعد غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798. فقد كان لبونابرت رؤية استراتيجية شاملة، لكن لم يتمكن من تحقيقها لأسباب دولية ولأسباب فرنسية. أخذت إنجلترا عن امبراطور فرنسا نابليون وتعلمت منه الكثير، وتلك كانت دائماً أفضل ميزة بريطانية في فترة صعودها، تحفظ الدرس من اعدائها وتطبق الرؤية بأدواتها وأساليبها على أفضل ما يمكن.
ظهرت أهمية موقع مصر الجغرافي حتى قبل افتتاح قناة السويس، عندما اضطرت إنجلترا لإرسال حملة عسكرية إلى الهند للقضاء على ثورة سيبوي في مايو 1857، التي كادت أن تقضي على الحكم البريطاني. لم يكن متاا إلى الطريق البحري الطويل الشاق وهو طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما يتسبب في خسائر كبيرة لطول المسافة. لجأت إلى السلطان عبد المجيد، طالبة الإذن بعبور القوات العسكرية الإنجليزية الأراضي الصمرية، وسمحت تركيا لإنجلترا بذلك. وتحركت القوة العسكرية البريطانية إلى الهند عن طريق الإسكندرية، ومنها إلى الاقهرة، ثم السويس باستخدام الخط الحديدي.
أيضاً ظهرت ضرورة ملحة لاستخدام بريطانيا الطريق البري عبر مصر عام 1867، لإرسال حملة تأديبية إلى الحبشة، قدم الخديوي إسماعيل مساعدات وخدمات لوجستين عن طريق السفن المصرية المرابطة في قناة السويس، وسمحت مصر وتركيا للقوات الإنجليزية بالنزول للساحل.
وما زاد من أهمية موقع مصر الجغرافي، وأهمية قناة السويس، ما شهدته القارة الأوروبية من اتغير في موازين القوى الاوروبية بعد:
- هزيمة فرنسا أمام بروسيا في معركة سيدان.
- قيام اتحاد القياصرة الثلاثة "بروسيا-ألمانيا-إيطاليا".
وبتغير موازين القوى الأوروبية، تأثر مركز إنجلترا في شرق البحر المتوسط، وتأثرت خططها الاستعمارية التوسعية في شرق أفريقيا. تبنت إنجلترا توجهات استراتيجية بهدف تأمين ممتلكاتها في الشرق، واستعادة مركزها البحري في شرق البحر المتوسط، والبحر الاحمر، والخليج العربي، ويمكننا رصد الاتجاهات السياسية والعسكرية بوجه عام:
1- تبنت سياسة حماية الامبراطورية العثمانية وسلامة وحدتها الاقليمية.
2- تبنت سياسة تدعيم روابط التبعية بين السلطان العثماني والولاة.
3- الدعم والمساندة السياسية والعسكرية لتركيا في حرب القرم 1856.
4- افرض حياد البحر الأسود.
5- إعادة بناء البحرية البريطانية ليكون لها التفوق البحري.
6- تدعيم الأسطول التجاري البريطاني، وحماية الجزر البريطانية من الغزو.
7- تدعيم صناعة بناء السفن الحربية لفرض سيادة بحرية لتوسيع رقعتها الاستعمارية.
8- نقاط ارتكاز بحرية، وتعتبر مصر وقناة السويس أهم النقاط التي تنتشر في جبل طارق، مالطة، قبرص للسيطرة على عوض البحر المتوسط.
كذلك يمكننا رصد التوجهات السياسية والعسكرية تجاه مصر وقناة السويس:
1- تطوير رؤيتها السلبية نحو قناة السويس التي تمثل همزة الوصل بين مرتكزاتها البحرية.
2- إعطاء أهمية قصوى لقناة السويس كطريق بحري حيوي، ووضع يدها عليها، وتأمينها، ومنع أي قوة دولية من الاستيلاء عليها، أو الاقتراب منها لأي سبب سياسي أو عسكري.
3- تطوير سياستها الاستعمارية بالانتقال من الساحل إلى الداخل واحتلال مصر عسكريا 1882.
4- المحافظة على الوظيفة القانونية والسيادة الاسمية العثمانية على مصر، مع فرض حق إنجلترا في ممارسة السلطة الفعلية.
5- تأمين حدود مصر الشرقية بصناعة أول خط حدودي في المنطقة العربية.
6- إرغام مصر على توقيع معاهدة إلغاء الرقيق في مصر والسودان في 14 أغسطس 1877 للحد من التوسع المصري في الساحل الشرقي الأفريقي.
7- وقعت إنجلترا ومصر معاهدة في سبتمبر 1877 تعترف فيها الأولى بسيادة مصر على الساحل الصومالي، بهدف إبعاد المطامع الفرنسية والإيطالية.
8- اتباع سياسة عزل مصر عن الشرق العربي.
9- تهويد فلسطين بالتغيير الديموجرافي، وخلق عازل بشري غريب لفصل المنطقة العربية، وبخلق تناقض على الحدود المصرية الشرقية.
10- نيابة سفير إنجلترا "السير هنري إليوت" سفير بريطانيا في الأستانة عن سلطان تركيا في حفل افتتاح قناة السويس، وهي إشارة مغزاها السياسي متعدد الأبعاد.
لاشك، أن قناة السويس - من المنظور الاستراتيجي الشامل - هي المفتاح الشرقي لحوق البحر المتوسط الذي يصل غرباً إلى مضيق جبل طارق. إضافة غلى ذلك فهي المفتاح الشمالي للبحر الاحمر ، حيث يقابلها في الجنود عدن المتفاح الجنوبي، والمتركز البحري للسيطرة على البحر الاحمر - الخليج العربي والمحيط الهندي.
أي أنه بتأمين السيطرة على قناة السويس يمكن تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة بريطانية، وتخترق المحيط الهندي وصولا إلى الهند خاصة، وآسيا عامة، وبالخصوص إلى الصين وهو ما يفتح آفاق التوسع الاستعماري والتجاري ويحقق لها التفوق والسبق في اطار اشتداد التنافس الاوروبي -الاوروبي لتأكيد مركزها في ادارة النظام الدولي على المستوى السياسي والاستراتيجي والتجاري.
إذاً شكلت قناة السويس الشريان التجاري محوراً مركزياً في المصالح القومية البريطانية، ومن ثم مارست سياسة احكام السيطرة، وبدأت في تأمين البعد الاستراتيجي لقناة السويس بتأمين "شبه جزيرة سيناء" التي هي خلفيتها، والتي أشعلت الصراح الدولي بين القوى الكبرى.
أهمية قناة السويس من المنظور العثماني
إذا كانت هزيمة فرنسا أمام بروسيا في معركة سيدان في صيف 1870، قد ألغت حياد البحر الأسود، فهو يعني بالتبعية أمرين من المنظور الاستراتيجي:
1- ضرورة ملء الفراغ في منطقة البحر المتوسط.
2- ضرورة تأمين قناة السويس، أي ضرورة عدم وقوع مصر تحت سلطة أية دولة أوروبية.
لذلك رأى الخديوي إسماعيل ضرورة ملحة في تحديث تسليح الجيش المصري بمعدات حديثة، وبناء ثلاث فرقاطات مدرعة، كما أمرت الحكومة المصرية بترميم الحصون والقلاع والاستحكامات وتحصينها، وتدريب الجيش. كما للخديوي إسماعيل رؤية في الغاء حياد البحر الأسوط، فقد اعتقد أنه في حالة نشوب حرب بين تركيا وروسيا، فإن الشرق وبخاصة مصر سوف تتأثر تأثيراً مباشراً وبخاصة بسبب افتتاح قناة السويس، التي كان يرغب بشدة فيها "إني إنما أريد القناة لمصر، لا مصر للقناة". ما يعتقد أن أول خطوة ستكون هي احتلال إنجلترا لمصر لتأمين مستعمرة الهند في حال سقوط الدولة العثمانية.
في حقيقة الأمر، فبقدر خشيته من حياد البحر الأسود، بقدر ما كان يسعى الخديوي إسماعيل لاقتناص فرصة لاعلان استقلاله بمصر، وبخاصة بعدما نجح في ازالة بعض القيود التي تكبل حرية مصر:
القيد الأول: حق الامتياز الذي منحه محمد سعيد باشا لشركة قناة السويس.
القيد الثاني: السيادة العثمانية الثقيلة.
القيد الثالث: الامتيازات الأجنبية والقضاء المختلط.
رأت الدولة العثمانية خطورة تحديث وتدريب الجيش المصري، وفي تحصين ميناء السويس وبورسعيد وسواحل جنوب سيناء. أدى هذا الأمر إلى توتر العلاقات التركية المصرية، إضافة غلى ما أضفته حرب سيدان من نتائج غير مباشرة على هذه العلاقات. لذلك رغبت تركيا بشدة في أن تقوم بحماية قناة السويس بنفسها وتحصينها بقلاع تحتلها القوات التركية.
أرسلت تركيا مبعوثا في 21 أبريل 1871 للتفاهم مع الخديوي إسماعيل في مسألة قيامه بتحصينات في السويس. اضطر الخديوي إسماعيل إلى الامتثال لطلبات السلطان العثماني بتقليل التسليح، وتسريح بعض القوات، تفادياً لمزيد من التوتر في العلاقات التركية المصرية.
هل كانت الدولة العثمانية مستفيدة من قناة السويس؟
لاشك في أن تركيا كانت من القوى البحرية الدولية التي تهمها قناة السويس، وتعي جيداً أهميتها، لذلك كانت قناة السويس جزءا مهما وعنصرا فاعلا في استمرار سيطرة وبسط نفوذها في المنطقة العربية وبخاصة أنها قربت المسافة بين الأستانة وسواحل البحر الاحمر، وهو ما مكن الدولة العلية من بسط نفوذها على الحجاز التي لها أهمية قصوى حيث مكةة المكرة والمدينة المنورة، وهما مركزان دينيان تستمد منهما الدولة العثمانية دورها في العالم الإسلامي. أيضاً عن طريق قناة السويس، أستطاعت الدولة العثمانية القضاء على ثورة عسير 1870-1871 التي هددت التواجد العثماني في اليمن.
وهكذا لعبت قناة السويس دورا مهما في السياسة والاستراتيجية البحرية الدولية. وقامت بدور تفاعلي متبادل بين القوى البحرية الدولية إنجلترا-تركيا وأثرت بشكل مباشر في موازين القوى الدولية. كما لعبت قناة السويس خاصرة مصر الاستراتيجية، والأمر يتوقف على الظرف والحدث التاريخي، وقدرة مصر قيادة وشعبا على ادارة وتوظيف مواردها، أي ادارة التنسيق الدقيق والفاعل بين قوة الموضع وقيمة الموقع في مصر.
بداية الأزمة وأصولها
كانت ضمن الأراضي التي اسندت إدارتها إلى ولاية مصر بحدودها القديمة - كما سبق الإشارة إليها بعض المراكز على الساحل الشرقي لخليج العقبة وهي الوجه وضبا والمويلح والعقبة بهدف تأمين طريق الحج البري بين مصر والحجاز.
وبعد افتتاح قناة السويس في 1869، أهمل الطريق البري، ونشط الطريق البحري، ولكن ظلت تلك المراكز في حوزة الادارة المصريةة حتى 1892، وحيث التواجد المصري من خلال نقاط الحراسة، والمخافر لحراسة وتأمين الطريق، وقبلت الدولة العثمانية بالأمر الواقع رغم فرمان 1841 ولم تقدم احتجاجاً أو رافضاً أو فرماناً بتخلي مصر عن هذه المراكز، حتى نشبت أول أزمة بشأن شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة.
تهيأت أحد أسباب أزمة فرمان 1892، ومنحتها فرصة استعادة واسترجاع تلك المراكز الحيوية على ساحل البحر الأحمر من مصر وضمها إلى ولاية الحجاز. بدأت أزمة فرمان 1892 من محاولات صهيونية مبكرة 1890 في شرق خليج العقبة على مقربة من فلسطين. زار مصر عام 1890 رجل يدعى بول فريدمان الذي اتصل بسلطات الاحتالال البريطاني في مصر وأبلغها نيته في استعمار بعض الأراضي في جزيرة العرب، لم تكترث سلطات الاحتلال، ورجال الحكومة المصرية بالمسألة كثيراً، وبالتالي لم يمانعوا أو يمنعوا الرجل من طلبه. وفي أواخر عام 1890 عاد الرجل ويرافقه نحو ثلاثين عائلة من اليهود المهاجرين، وفي بعض المراجع عشرون، واشترى أرضاً في جهة المويلح على ساحل البحر الاحمر وعلى مقربة من خليج العقبة.
كانت محاولة صهيونية مبكرة للاستيطان، وكانت محاولة يائسة وقد فشلت لعدة أسباب منها أن هذا الجماعة - الإسرائيلية لم تحسن معاملة الأهالي، إضافة إلى تشكك الأهالي في نية هؤلاء الأوروبين الأغراب تجاه أراضيهم، وقد سبق في عام 1882 أن انقضو على بعث بالمر الذي اتجه نحو سيناء وتوغل بها مما أثار شك وحفيظة الأهالي، فقد كانوا جواسيس أثناء الثورة العرابية، ومن ثم قتلوا أعضاء البعثة. ولاشك في أن هناك تشابهاً شديداً في سلوك ورد فعل البدو بين أهل شبه جزيرة سيناء وبين أهل الحجاز، حيث يرفضون الغربي، ويغارون على بلادهم. والأمر الثاني أن الدولة العثمانية تحظر بيع الأراضي للأجانب في شبه جزيرة العرب. أثار هذا الأمر الحكومة العثمانية على مستويين أولاً من والي الحجاز الذي أصدر أمره لأحد الضباط مع عدد من الجنود العثمانيين ليتولوا حراسة قلعة المويلح وما يليها من مراكز، حيث هي أراضي حجازية وليست مصرية، بل هي من أملاك الدولة العلية. وفي تلك الأثناء توجه بعض الجنود المصريين تحت قيادة ضابط إنجليزي بهدف طلب إخلاء الجنود العثمانيين؛ لأن تلك المراكز هي أراضي في عهدة الحكومة الصمرية. والمستوى الثاني في محادثات فض أزمة فريدمان، كانت بين الغازي مختار باشا والحكومة المصرية، وبين رستم باشا السفير العثماني بلندن - واللورد سالسبري. وانتهت تلك المحاولة اليائسة بالفشل، وأخفق مشروعه الوهمي بتأسيس مملكة إسرائيلية في أرض إسرائيل الأولى.
اتلك ارهاصات فكرية، ومحاولة استيطان مبكرة، لم يكتب لها النجاح، ولكناه تركت صداها على المحاولات المتكررة لاستيطان سيناء أو فلسطين في المستقبل، وقد تواءمت المطامع الاستعمارية في سيناء مع المطامع الصهيونية.
يتضح من هذه الحركة الإسرائيلية المبكرة أنها تهدف إلى التسلل إلى فلسطين لتحقيق حلمهم في فلسطين. فهل كان اختيار فريدمان وجماعته للمويلح هو الاستيلاء واستعمار مراكز حيوية على ساحل البحر الأحمر لاحياء مملكة سليمان القديمة، أم محاولة الاستيطان للمقايضة على فلسطين - الحلم النهائي - أم لسهولة الوثوب منها إلى فلسطين والتوسع في اتجاه شبه جزيرة سيناء؟
نبهت تلك المحاولات المبكرة للاستيطان الدولة العثمانية إلى ضرورة عدة أمور منها:
1- خطر اليهود وهدفهم النهائي هو تشكيل حكومة يهودية في فلسطين.
2- اعادة رسم خط الحدود الشرقية لمصر.
أدرك السلطان عبد الحميد خطر اليهود، حيث أن قبولهم أو قبول التسلل إلى الممالك العثمانية سيؤدي في المستقبل إلى تشكيل حكومة يهودية. ورفض فكرة قبول هؤلاء اليهود واعطائهم حقوق المواطنة، لأنها تؤدي إلى اثارة مسألة يهودية تطرح على الساحة الدولية. كان السلطان عبد الحميد بحسه السياسي والديني يدرك خطورة تسلل اليهود إلى أي من الممالك العثمانية لأن:
1- الممالك الشاهانية ليست أراضي خالية أو متروكة.
2- سيلحق اليهود الضرر بأهل البلاد كما فعلوا في البلاد التي طردوا منها.
3- سيتحول الأمر إلى مسألة يهودية تحظى بدعم أوروبي.
أصدر السلطان عبد الحميد (1876-1909) ثلاثة فرمانات متتالية عام 1891 لكي يمنع استيطان اليهود، ويمنع تسللهم إلى فلسطين خشية اقامة حكومة، وبذلك يتضح موقف السلطان عبد الحميد من دراسة وتحليل الفرمانات الثلاثة.
الفرمان الأول 21 ذو القعدة 1308هـ (1891)
إن قبول الذين طردوا من كل مكان في الممالك العثمانية سيؤدي في المستقبل إلى تشكيل حكومة يهودية، لذا فإن اجراء هذه المعاملات غير جائز وبخاصة أن الممالك الشاهانية ليست من قبيل الأراضي الخالية والمتروكة.
ولما كان من المفروض إرسال هؤلاء إلى أمريكا، لذا فلا يقبل هؤلاء ولا أمثالهم، بل يجب وضعهم في السفن فوراً لإرسالهم إلى امريكان. وينبغي أن يتخذ مجلس الوزراء العثماني قرارا قطعيا بخصوص تفاصيل هذا الأمر وعرضه علينا. إذا ما الداعي لقبول من طردهم الأوروبيون المتمدنون ولم يقبلوهم في ديارهم وفضلاً عن ذلك فإن هناك دسائس كثيرة، لذا فإن هذا الأمر غير جائز على الإطلاق.
وبناء على ذلك وحتى لا يبقى هناك أي مجال بعد الآن لأي معروضات أخرى في هذا الخصوص، تعاد هذه المذكرة للصدارة العظمى لاتخاذ قرار عام في هذا الموضوع.
الفرمان الثاني 28 ذو القعدة 1308هـ (1891)
إلى اللجنة العسكرية للمعية السنية
إن قبول هؤلاء اليهود وإسكانهم أو اعطائهم حق المواطنة شيء ضار جداً فقد يتولد عن هذا في المستقبل مسألة حكومة يهودية. لذا يجب عدم قبولهم، وينبغي أن يؤخذ هذا في الحسبان عند عرض المسألة، ويعرض هذا القرار بسرعة اليوم، وتعطى المعلومات للصدارة العظمى من السكرتارية الخاصة.
ويعترض السلطان عبد الحميد في الفرمان الثالث على الذين يلومون لعدم قبوله استيطان اليهود في فلسطين بعد أن طردوا من بعض البلاد. ويؤكد بأنهم لو استوطنوا أي مكان في الامبراطورية العثمانية، فإنه سيتسللون إلى فلسطين بالتدريج، وينشئون حكومة يهودية لهم فيها بتشجيع من الدول الاوروبية.
الفرمان الثالث 29 ذو القعدة 1308هـ (1891)
لا يحق لأي دولة أن تعترض على عدم قبولنا اليهود الذين طردتهم دول متمدنة ولم تقبلهم الدول المتمدنة الأخرى. وهؤلاء الذين يحتجون ويعترضون علينا، كان الأحرى بهم الاحتجاج على الدول التي طردتهم ورفضت قبولهم.
وبناء على ذلك فإن هؤلاء اليهود لو أسكنوا في أي مكان من أجزاء الامبراطورية، فإنهم سوف يتسللون إلى فلسطين شيئاً فشيئاً مهما اتخذت من تدابير. وسيسعون لتشكيل حكومة يهودية بتشجيع الدول الاوروبية وحمايتها. ولن يعمل هؤلاء في الزراعة والفلاحة، بل سيحاولون الاضرار بالأهالي كما فعلوا في البلدان التي طردوا منها. وما دام هؤلاء كانوا بصدد الهجرة إلى أمريكا، فمن المناسب أن يهاجروا إلى هناك.
ونرى وجوب التباحث بشكل مفصل في هذا الموضوع في اللجنة العسكرية.
وكذلك وكنتيجة لتراخي الحكومة المصرية ولموقف ادارة الاحتلال من عدم الرفض، والسماح لفريدمان وجماعته الإسرائيلية لاستيطان واستعمار جزء من الأراضي العثمانية المحظور بيعها، والتي كانت في حوزة وحماية الحكومة المصرية، فأصدر السلطان عبد الحميد الاثني فرماناً باسترجاع هذه المراكز المهمة بشرق خليج العقبة، وحرمان مصر من حراستها وادارتها ووجودها الاداري والعسكري فيها. وبالفعل صدر الفرمان عام 1891 بمثابة عقاب لمصر على تهاونها ازاء ما بعهدتها على سبيل الأمانة والعهدة وبمثابة استرجاع حقوق الدولة العليا وبخاصة هذه المراكز الحيوية التي تتوسط الأماكن المقدسة في الحجاز وفلسطين. كذلك نبهت المحاولات الصهيونية التي جرت في نفس الفترة الاستيطان في فلسطين أو في سيناء الدولة العثمانية إلى إعادة تعيين خط الحدود الشرقية لمصر.
والسؤال هل حقاً أن حادثة الإسرائيلي فريدمان وجماعته هي السبب الحقيقي لاعادة ترسيم حدود مصر؟ أم كانت نتيجة لأسباب أخرى سياسية واقتصادية؟
في حقيقة الأمر، لا يمكن نسبة عنصر أو مصلحة واحدة لامبراطورية بأسرها، فمن الطبيعي أن هناك عناصر ومصالح متشابكة بحيث تقدم تصورا استراتيجيا كاملا. بمعنى أنه من غير المنطقي أو المقبول، أن السبب هو محاولة يائسة من الإسرائيليين تدفع السلطان العثماني إلى إعادة تعيين خط الحدود الشرقية لمصر، فبالتأكيد هناك مصالح وأسباب متعددة ومتنوعة استراتيجية وسياسية واقتصادية وراء هذا التعسف العثماني ضد الاقليم المصري.
أزمة فرمان 1892 والصراع البريطاني المصري-العثماني
إن الصراع في الحقيقة هو صراع بين قوى سياسية واقتصادية وثقافية، لذا فالصراع له أدواته ووساائله وقواعده.
كانت تولية الخديوي عباس الثاني، عقب وفاة والده الخديوي توفيق عام 1892، هي بداية الصراع بين الدولة العثمانية المتهالكة والتي لها حق الملكية، وبين بريطانيا وهي الامبراطورية التي تملك أسباب القوة والتفوق.
أصدر السلطان العثماني فرمان التولية في 17 يناير 1892 مخالفاً لفرمانات التولية، ومخالفاً لبنود معاهدة لندن 1840 حيث اقتطع شبه جزيرة سيناء من مصر واعتبر الحدود الممنوحة من السلطان عبد الحميد لخديوي مصر من العريش إلى السويس، أي أن مصر هي الجزء الغربي للخريطة التي أرفقت بالفرمان. في حقيقة الأمر لم يعثر على هذه الخريطة. أي أن السلطان العثماني بوصفه صاحب البلاد وطبقا للمفهوم الديني أنها جميعها أرض الإسلام - قد سلخ من مصر شبه جزيرة سيناء بضمها إلى الأراضي الحجازية على أم أن تمر هذه المسألة دون اعتراض، وبالتالي يمكن للدولة العثمانية أن تضع يدها على شبه جزيرة سيناء بجرة قلم، ولكن باسم الحقوق الشاهانية.
ما هي الأسباب الحقيقية وراء اصدار فرماان 1892؟ ما هو موقف إنجلترا تجاه محتوى الفرمان؟
أزمة الحدود الشرقية الأولى 1892
قبيل إصداار فرمان تولية الخديوي عباس حلمي الثاني في 8 يناير 1892، دارت مفاوضات بين المعتمد العثماني في مصر أحمد مختار باشا والحكومة المصرية، بهدف استبعاد العقبة من الحدود المصرية. وبالفعل بعد مشاورات مع إيفلين بارنج "اللورد كرومر"، تقرر نهائياً أن تتخلى مصر عن العقبة للدولة العلية لتضمها إلى ولاية الحجاز. قبل الخديوي بما توصلت إليه المفاوضات العثمانية المصرية وكان يرمي بهذا التسااهل إلى استمالة السلطان العثماني وإظهار ولائه وتقربه للدول العليا.
وقبيل قراءة فرمان التولية ظهر طلب آخر للدولة العلية وهو الاستيلاء على الطور بعد التسليم لها في العقبة.
ويمكن عرض جزء من الفرمان الخاص بموضوع الدراسة:
"وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المبينة في الفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ 2 ربيع الأول 1257، والمبينة أيضاً في الخريطة الملحقة بالفرمان المذكور مع الأراضي المنضمة إليها للفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ 15 ذي الحجة سنة 1281 هجرية وذلك بمتقضى ارادتنا الشاهانية الصادرة في 7 جمادى الثاني سنة 1309 هجرية.."
يمكن ابداء بعض الملاحظات:
1- أن الدولة العلية قررت سلخ شبه جزيرة سيناء من ولاية مصر.
2- أن الدولة العلية قررت ضم سيناء إلى ممتلكاتها نظراً لأهميتها الاستراتيجية بهدف:
- تعظيم مكاسب الدولة العثمانية.
- الاقتراب من قناة السويس الشريان الحيوي.
- تعطيل أهمية موقع مصر ودورها.
3- تأكيد تبعية مصر كولاية عثمانية تابعة للدولة المركزية، أي لاسترجاع كرامتها وهيبتها التي ضاعت على يد محمد علي باشا، أيضا لتأكيد أنه بإمكان الدولة ذات حق الملكية تعيين حدود ممالكها وفق مصالحها العليا، فالحق والسيادة لها وليست لسلطات الاحتلال.
4- وفي إطار الحركة الاصلاحية التي شهدتها الدولة العثمانية، وأهم جوانبها الحكومة المركزية مما يستتبع ذلك من تنظيم الولايات العربية على أساس هذه المركزية.
إضافة غلى ما سبق من ملاحظات، فهناك أبعاد تخص الصراع العثماني البريطاني ومنها:
1- الاقتراب من قناة السويس، أي لتهديد المصالح البريطانية العليا.
2- محاولة تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عثمانية باسترجاع المراكز بحكم دورها الاستراتيجي في المجال العسكري.
3- مشروع سكة حديد الحجاز مع معان إلى العقبة واحتمال امتداده إلى قناة السويس. هذا المشروع نتيجة من نتائج سياسة التحديث الساعية إلى ربط أنحاء الامبراطورية العثمانية وتقوية قبضة الحكومة المركزية.
4- هذا المشروع العثماني - الألماني يعني:
أ- قرب التواجد الألماني في سيناء (خلفية قناة السويس) وهو ما يتعارض مع المصالح البريطانية.
ب- التواجد العثماني الكثيف في سيناء، في حين تعتبرها بريطانيا البعد الاستراتيجي لحماية القناة.
ج- قرب التواجد الألماني في البحر الأحمر مما يكسبهم مركزا بحريا ينافس التفوق البحري البريطاني، وربما يؤثر على نفوذها في الهند.
إذن بسبب فرمان تولية الخديوي عباس الثاني أصبحت سيناء وسيلة للضغط على مصر ووسيلة لتحجيم دورها، وأصبحت سيناء إحدى أدواات اللعبة السياسية وأصبحت مسرحا للصراعات الدولية، ساحة للتنافس الدولي، ومصدرا للأطماع.
ما هو موقف سلطات الاحتلال البريطاني من محتوى فرمان التولية؟
علم اللورد سالسبري رئيس الوزارة البريطانية بمحتوى الفرمان، فأرسل غلى السير غفلن بارنج بالمعارضة في تلاوة الفرمان قبل الاطلاع عليه، وحتى تصدر إرادة سلطانية بترك ادارة الطور لمصر.
تدخل السيد إفلن بارنج (اللورد كرومر) المعتمد البريطاني في مصر بالايعاز للخديوي بالامتناع عن تلاوة الفرمان الذي ينتقص من حقوق مصر الثابتة في اقليمها، ولحين اجراء تعديل بارادة سلطانية لعودة ما تقرر اقتطاعه من مصر. كما مارست بريطانيا ضغطا دبلوماسيا على استنبول لتعديل الفمران المجحف. حرصت على ألا تكون دائرة الخلاف محصورة بين السلطان العثماني وتابعه الخديوي، وإنما أرادت تدخل الدول الكبرى على اعتبار أن محتوى فرمان 1892 هو خرق لتسوية 1840 والتي ضمتها تلك الدول.
وبالفعل شاركت كل من فرنسا وروسيا في المساعي الدولية، فاجتمع فنصلاها مع الخديوي عباس الثاني وتشاورا في مسألة شبه جزيرة سيناء. ثم اجتمع تيجراان باشا وزير خارجية مصر بالمعتمد التركي أحمد مختار باشا، ورفعت المباحثات إلى السلطاان عبد الحميد. وكنتيجة لرد فعل اللورد كرومر للضغوط الدبلوماسية على استنبول، ونتيجة المساندة الفرنسية الروسية، أحست الدولة العثمانية بحرج موقفها، فبدأت تتراجع.
تدخل اللورد كرومر لعدة أسباب نذكر منها:
1- للضغط على الدولة العثمانية بإظهارها دولة لا تحترم اتفاقياتها الدولية باعتبار أن فرمان 1892 خرق لتسوية 1840-1841 بضمانة أوروبية.
2- للتأكيد على أن تبعية مصر في اطار معاهدة 1840 فقط، وليس للدولة العثمانية حق التدخل باقتطاع أجزاء من الاقليم المصري.
3- للتأكيد على أنه لا يمكن حدوث أي تغييرات بين مصر والباب العاليم دون موافقة الحكومة البريطانية.
4- قدرت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر، أن الدولة العثمانية توظف:
- ولاء الخديوي عباس لها.
- التيارات الدينية الفكرية السائدة الجامعة الإسلامية ، الولاء الديني.
- التيارات السياسية والتي يقودها مصطفى كامل والتي تتفق مع الانتماء للدولة العثمانية.
5- موقف الخديوي المناور ما بين الولاء للدولة العثمانية، واعتماده على الرأي العام المصري من الاحتلال، والتأرجح ما بين الصداقة والعداء لسلطات الاحتلال البريطاني.
6- بتحويل مسألة فرمان التولية إلى مسألة دولية، فإنه لا يمكن للدولة العلية أن تتراجع إزاء ما أقرته هي ذاتها بضمانة دولية، ووضعها في موقف حرج إزاء أي خروج عن الاجماع الدولي والتسوية الدولية لعام 1840/1841.
وإزاء موقف الخديوي عباس الرافض لمحتوى الفرمان، وإزاء الضغط السياسي الشديد الذي مارسته الحكومة البريطانية، وإزاء الموقف الفرنسي -الروسي، أرسل الصدر الأعظم برقية للخديوي عباس الثاني في 8 أبريل 1892 لتصحيح الوضع.
ونص الفقرة الخاصة بشبه جزيرة سيناء: أما فيما يتعلق بشبه جزيرة طور سيناء، فإن الحالة الحاضرة تبقى فيه كما هي عليه، وتكون ادارته بيد الخديوية المصرية، كما كانت في عهد جدكم إسماعيل باشا، ووالدكم محمد توفيق باشا.
ويمكن تفسير وتحليل محتوى البرقية الملحقة بفرمان 1892، باعتبارها مذكرة تفسيرية لأناه توضح الغموض الذي اكتنف الفرمان. إن نص البرقية يعني أنه فيما يتعلق بوضعية شبه جزيرة سيناء أي الأراضي المحددة شرقا بخط يمتمد من نقطة رفح شمالا إلى رأس خليج العقبة، فإن الحالة الحاضرة أي أن شبه جزيرة سيناء التي هي جزء أصيل من مصر وتمارسون عليه السيادة والتواجد الفعلي تبقى بوضعيتها التاريخية لمصر كما هي عليه، دون أدنى تغيير أو طرح، وتستمر الادارة بيد الخديوي المصري، كسابق عهد ادارة شبه جزيرة سيناء لمصر على يد السلف سواء الخديوي محمد توفيق، أم الأبعد زمناً الخديوي إسماعيل.
السؤال: هل أضافت برقية الصدر الأعظم في 8 أبريل 1892 سيناء إلى مصر؟ بالتأكيد لم تضف شبه جزيرة سيناء إلى مصر، وإنما هي تراجع للدولة العثمانية عن محاولة سلخ واقتطاع جزء أصيل يمثل الجناح الشرقي الجغرافي للاقليم المصري وهي بمثابة اعادة الوضع الطبيعي بحقوقه إلى أصحابه الحقيقيين، وهي بمثابة تأكيد حق مصر التاريخي في شبه جزيرة سيناء.
أما البرقية هي تراجع وتصحيح الوضع بالنسبة لشبه جزيرة سيناء، وهو ما يعني من المنظور التركي، وضعا مهينا لدولة الخلافة الإسلامية. تعتبر الدولة العثمانية أن الضغوط الدبلوماسية التي واجهتها، ومطالبة الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال برسم خط الحدود الشرقية تعديا على حقوقها وسيادتها. من المنظور التركي أيضاً ترى أن العلاقة بين السلطان العثماني والخديوي المصري هي علاقة بين التابع والمتبوع، ولا يصح للتابع الاعتراض أو الرفض والا اعتبر عصيانا وخروجا وشق عصا الطاعة. كما أنه - المنظور التركري - لا يحق لبريطانيا وهي دولة استعمارية تحتل مصر قصرا دون ارادة السلطان العثماني، ودون ارادة الخديوي - أن تشارك مصر في ادارة أزمة الفرمان، أو تمارس ضغطا دبلوماسيا على الدولة العثمانية، أو تشكل تحالفا اوروبيا دبلوماسيا، فالأمر شأن داخلي.
وفي نهاية التحليل، يمكن أن نصل إلى أن فرمان التولية 1892، الذي تم في اطار اعادة تنظيم الولايات العربية على أساس حكومة مركزية، هو من أحد أسباب تغلغل القوى الاستعمارية وزيادة نفوذها وتدخلها في الولايات العربية، وبخاصة مصر موضوع البحث والدراسة.
كما لفت الانتباه إلى أهمية سيناء في قواعد المعادلة الاستراتيجية، حيث إنها درع مصر الواقي التي يجب تأمينها والدفاع عنها حتى يمكن الدفاع عن مصر ككل. ولفت الانتباه إلى أن شبه جزيرة سيناء برمتها وحدة جيوستراتيجية واحدة، لكل جزء منها قيمته الاستراتيجية الحيوية.
كما لفت انتباه الحكومة المصرية، وسلطات الاحتلال البريطاني إلى ضرورة مراقبة تحركات الدولة العثمانية عند حدود مصر الشرقية. إضافة إلى ما سبق يعتبر رد الفعل المصري والبريطاني تجاه الفرمان بمثابة بداية لصناعة أول خط حدود في التاريخ الحديث بين مصر والجناح الشرقي للوطن العربي. وهو أيضاً بمثابة لون من تعيين الحدود بين الأقطار العربية التي لم تعرف حدوداً سياسية فاصلة بينها.
ما موقف الخديوي عباس الثاني؟
أصيبت الحكومة المصرية بصدمة من جراء انقاص حقوقها التاريخية والشرعية في شبه جزيرة سيناء. كان الخديوي يواجه ثلاثة مآزق:
1- ان اعتراض الخديوي عباس يعتبر تمرداً وعصياناً.
2- رغبته في الحفاظ على حقوق مصر الشرعية في أراضيها.
3- صغر سنه عند توليه ادارة مصر مما يعني قلة الخبرة والحنكة لادارة أزمة.
ولكن بايعاز من السير إفلين بارنج (اللورد كرومر) وافق على عدم تلاوة الفرمان والامتناع عن اقامة احتفال التنصيب الرسمي، كما وافق على جميع الاجراءات التي قام بها بارنج بالتنسيق مع تيجران باشا وزير خارجية مصر، أي أن الخديوي ورئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا ارتكنا تماما على بارنج.
وفي نهاية الأمر تلي فرمان التولية وتليت البرقية، ونشرت في جريدة الوقائع الرسمية الصمرية في نفس اليوم، وتم تنصيب الخديوي عباس الثاني في 14 يوليو 1892.
وانتهت الأزمة بفعل تواؤم مصالح بريطانيا مع المصالح المصرية، وأعقب تلك الأزمة أن زار الخديوي عباس الطور عام 1896، وفي عام 1898 قام بزيارة العريش، وتابع رحلته إلى رفح. وبمناسبة تلك الزيارة، أمر محافظ العريش عثمان بك فريد، بأن يسجل تاريخ تلك الزيارة على عمودي الحدود الفاصلة بين مصر وفلسطين. وانتهز عباس الثاني فرصة زيارته العريش لتجديد جامعها ورمم بئر قطية، وحفر بئرا جديدة عند النبي ياسر على ساحل العريش.
- تبعات أزمة الفرمان:
فرمان التولية 1892، ليس الأزمة الوحيدة، وأنما تراوحت الأزمات الداخلية ما بين التيارات الفكرية الوطنية، والتيارات الفكرية الدينية وسياسة الاحتلال البريطاني في مصر التي ترسخ قدمها، وتتشعب في الدواوين الحكومية بالمستشارين والموظفين الإنجليز، إضافة إلى فرض سياسة الخضوع والاذعان لسلطات الاحتلال.
نشط التيار الفكري الوطني ورفعوا لواء الوطنية، على أساس أن الخطر الحقيقي من المحتل البريطاني وبالتالي ضرورة التحالف مع الدولة العثمانية ومناصرتها، حتى يكونوا جبهة عريضة لتحرير العالم الإسلامي من الاستعمار الأجنبي.
كانت حركة التحرر الوطنية - آنذاك - متأثرة بتعاليم الشيخ جمال الدين الأفغاني التي تدعو إلى:
1- التوحد بين الدول الإسلامية في جامعة إسلامية لمحاربة الاستعمار الأوروبي.
2- التوحد والالتفاف حول الخلافة وتأييدها.
كان التيار الفكري الوطني يحظى بتأييد الخديوي عباس الثاني، وبتشجيع تركيا، على أساس انه ومؤيدي التيار الفكري اجتمعوا على هدف واحد وهو تحرير مصر من القبضة البريطانية.
لم تكن لدى هذا التيار الوطني رؤية شاملة وكاملة لما وراء هذا التشجيع التركي وأهدافه الحقيقية.
في حقيقة الأمر، كان الهدف الاصيل لتركيا هو استعادة نفوذها في مصر في اطار حركة الاصلاح والتحديث - كما سبق الاشارة إليها، كانت ألمانيا تلعب دوراً خلفياً ضد التحالف الروسي-الفرنسي، والوفاق الودي الإنجليزي-الفرنسي 1905، وهو ما يشكل حصاراً حول ألمانيا، وإغلاق طريق التوسع. استغلت الامبراطورية الألمانية الشعور العاد لدى الدولة التركية، وتقدمت بعروض اجراء اصلاحات داخلية، واعادة تنظيم الجيش، وشق طرق السكك الحديدية، ومن بينها سكة حديد الحجاز، فكان من بين هذه المشروعات مد طريق الحجاز بفرع من معان إلى العقبة ومن العقبة إلى قناة السويس. لذلك فإن عودة العقبة إلى الادارة التركية وتعيين ضابط برتبة لواء "رشدي باشا" إنما هو مقدمة مهمة لما خطط لمنطقة العقبة وشبه جزيرة سيناء. قامت القوات التركية بانشاء نقطة عسكرية عند عين قصيمة، وأخرى عند مشاش الكنتلا في وادي جرافي، وكلا الموقعين داخل حدود شبه جزيرة سيناء، وفي عام 1899، أنشأ السلطان العثماني قائمامية جديدة في بئر سبع، وهي ادارة مستحدثة لها مهامها في سيناء، تلك الأنشطة العسكرية والادارية حملت الحكومة المصرية على ضرورة مراقبة التحركات التركية في حدودها داخل سيناء.
وبالفعل وظفت الحكومة المصرية حادثة قتل وقعت في أوائل عام 1905، وقررت وزارة الحربية ارسال لجنة للتحقيق ومحاكمة المتهمين. لم يكن هدف اللجنة استتباب الأمن والاستقرار بقدر ما كان هدفها التحقق من نشاط القوات التركية على الحدود مع مصر.
نذر أزمة طابا الأولى 1906
استدعى المعتمد البريطاني في القاهرة اللورد كرومر السيد جننجز براملي الذي يجيد التحدث باللغة العربية واللهجة البدوية وملم بعادات البدو وعينته الحكومة المصرية 1905 في وظيفة مفتش في سيناء وكلفته بمهمة التحري والاستطلاع عن مدى صحة التقارير الواردة إلى القاهرة عن نية السلطان العثماني على مد فرع جديد لسكة حديد الحجاز من معان إلى العقبة وتقيم تقرير عام عن شبه جزيرة سيناء.
استعان الكولونيل براملي بقوة صغيرة من البوليس متوجهاً إلى نقب العقبة - تنفيذاً لأوامر وزارة الحربية المصرية - وشرع في إجراء بعض الاصلاحات الادارية، وتنظيم قوة من شرطة الهجانة والمشاة. وفي شهر يناير 1906 أصدرت وزارة الحربية أوامرها إلى براملي بالتوجه إلى نقب العقبة. ونظراً لقلة المياه فيها لاستيفاء حاجة أفراد القوة والذي يقدر عددهم بخمسة جنود حرس حدود مسلحين ، فتوجه إلى المرشرش على الجانب الغربي من رأس خليج العقبة، حيث تبعد مسافة نصف ساعة من العقبة على طريق غزة - مصر.
اعترض قائد منطقة العقبة على تواجد الكولونيل براملي وجنوده، ورفض السماح لهم بإقامة معسكر لهم، باعتبار أن المرشرش ونقب العقبة منطقة تابعة لادارة الحكومة السنية مباشرة. أذعن مفتش سيناء لرفض قائد العقبة التركي رشدي باشا، واضطر إلى الرجوع. وفور عودة براملي من سيناء وضع تقريراً بما حدث ولتفادي مزيداً من الشكوك من جانب السلطان التركي، فقد تقدمت الحكومة المصرية في تلك الأثناء بطلب إلى السلطان بتعيين لجنة من الأتراك والمصريين لتحديد التخوم بين سيناء والشام ولكن لم يحرك السلطان ساكناً.
فقد أرادت الادارة العثمانية إثارة مسألة سيناء وخليج العقبة مرة أخرى في عام 1906، وأرادت توظيف أدواتها المتعددة ومنها استثمار الصدى الكبير والرواج الممتد عبر العالم الإسلامي بسبب الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وذلك يمثل دعماً عاماً إسلامياً ضخماً يعضد من قوة وهيبة الدولة العثمانية، ويثبت قدرتها على استمرارها، ويثبت وضعها في الهيكل الدولي. وكذلك كان الرأي العام المصرية مهياً لخطوة قوية ضد الاحتلال البريطاني. واستطاعت جريدة اللواء إثارة مسألة سيناء بزعم أنها تعد لأعمال حربية مهمة. وتحذر المقالات من مغزى إرسال كولونيل بريطاني وتعيينه مفتشاً على شبه جزيرة سيناء، وتخصيص مبالغ ضخمة لإصلاحها. وغالت جريدة اللواء التي تمثل تياراً فكرياً وطنياً مؤيداً للدولة العثمانية، في أهداف ومقاصد وخطورة وجود سلطات الاحتالال البريطاني في شبه جزيرة سيناء، وصورت أن الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال ينويان اتباع سياسة تغلغلية في سيناء، ولديهم النية على اتخاذ سيناء كقاعدة للتدخل في الحجاز في المستقبل خاصة في أمور خط حديد الحجاز الذي وصل إلى معان، وعلى بعد 100 كيلو متر من العقبة، كما نشرت بعض الصحف أن الحكومة المصرية تنوي بناء تحصينات لها أهداف عدائية.
تلك المقالات لاقت رواجاً شدياً في القاهرة واستنبول، وهو ما يمثل جبهة مساندة عريضة للدولة التركية لإثارة مسألة سيناء وخليج العقبة.
كما عضد الوالي العثماني على سوريا الدولة العثمانية في شكوكها وموقفها من إثارة مسألة سيناء وخليج العقبة، حيث كتب إلى استنبول بأن الحكومة المصرية قررت بناء ثكنات عسكرية في المنطقة فيما بين العقبة والقصيمة، وأضافت أن قوات الاحتلال البريطاني سوف تشارك في بناء تلك الثكنات.
في حقيقة الأمر فإن الدولة العثمانية كانت ترمي إلى عدة أهداف نذكر منها:
1- اختبار مركز بريطانيا في مصر.
2- طرح المسألة المصرية على بساط المباحثات الدولية.
3- حماية مشروع سكة حديد الحجاز.
4- الاقتراب أقصى ما يمكن من قناة السويس.
5- قياس مدى الدعم الدولي لموقف بريطانيا.
6- تصعيد أزمة تركية-بريطانية بسبب موقف السلطات البريطانية من ثوار اليمن وإمدادهم بالسلاح والذخائر والأغذية.
لم يستجب السلطان العثماني عبد الحميد لطلب الحكومة المصرية التي تقدمت بطلب تعيين لجنة مشتركة من المصريين والأتراك لتجديد التخوم بين شبه جزيرة سيناء والممتلكات العثمانية في الحجاز والشام، وإنما تجاهل الطلب المصري.
كان الرد العثماني:
1- أمر اللواء رشدي باشا قائد حامية العقبة العثمانية باحتلال وادي طابا.
2- مذكرة احتجاج من الباب العالي للسفارة البريطانية في استنبول ففي 12 يناير 1906، على أن ضابطاً إنجليزياً يقود فرقة مصرية قد أقام معسكراً في العقبة وأعلن نيته على اقامة مراكز حراسة في هذه النقطة وفي غيرها من الأراضي التركية.
3- طلبت الحكومة العثمانية من السفير البريطاني في استنبول اتخاذ الاجراءات اللازمة لسحب هذه القوة من المركز الذي احتله خارج الأراضي المصرية.
اعتبرت الحكومة المصرية عدم رد السلطان على الاقتراح المصري رفضاً له، بينما اعتبرت سلطة الاحتلال البريطاني الرد العملي الذي أقدمت عليه تركيا يعني أن الدولة العثمانية معادية لفكرة تعيين حدود باعتبار أنه ليس هناك مشكلة حدود وإنما عدوان على الأراضي العثمانية. إضافة إلى ذلك وهو حيث إن مصر ولاية عثمانية فلا يمكن أن يوجد بينها وبين بقية الولايات الخاضة للادارة التركية مباشرة حدود وتخوم.
كان الرد العسكري العثماني، بمثابة إبطال تحركات براملي، ومنعه من ممارسة حق مصر في فرض السيطرة على أراضيها، وأن احتلال طابا والقصيمة ومشاش الكنتلا، هو من قبيل العمل العدواني ضد مصر وسيادتها على أراضيها ومن قبيل فرض أمر واقع على مناطق مهمة ذات قيمة استراتيجية حاكمة لسيناء.
لذلك رأت السلطات البريطانية في القاهرة نتيجة لعدم موافقة الحكومة التركية على تعيين الحدود، فإنه من الضروري تأمين المراكز المصرية على هذه الحدود. وتقرر إرسال قوة مصرية من خمسين رجلاً وعلى رأسهم ضابط مصري وهو سعد بك رفعت لمقابلة براملي على الحدود قرب العقبة لاحتلال طابا. كذلك صدرت الاوامر إلى المستر براملي لاحتلال نقب العقبة والقطار، وهما نقطتان مهمتان تتحكمان في الجبل الذي يمر خلاله الطريق من الساحل إلى داخل هضبة سيناء.
تقدمت القوة المصرية نحو طابا في سفينة خفر السواحل المصرية "نور البحر"، ولكنها لم تستطع تنفيذ مهمتها حيث أن القوات التركية قد انتشرت على التلال التي تطل على طابا من الشرق، ورفض القائد التركي السماح لهم بالنزول إلى الشاطئ باعتبار أن طابا في حد العقبة وجزء منها، وأصر على المقاومة في حال إنزال القوة العسكرية المصرية طبقاً وتنفيذاً للأوامر العليا الصادرة إليه.
اضطرت القوة الصمرية إلى التراجع تنفيذاً للأوامر بعدم الصدام إلا في حالة اطلاق النار عليها، فانسحبت إلى جزيرة فرعون الملاصقة للساحل الغربي جنوب طابا، انتظاراً لتعليمات جديدة من القاهرة.
استخدمت الادارة التركية عن طريق قائد العقبة العثماني القوة في احتلال أراضي مصرية، ومارست العنف والتهديد ضد القوة المصرية، وبذلك أفشلت مهمة هذه القوة التي كانت ترمي إلى:
- سد الطرق بين الأراضي المصرية والممتلكات العثمانية.
- منع القوة التركية من التغلغل داخل الهضبة.
- منع مبعوث الدولة العثمانية من الوصول إلى قبائل سيناء ومحاولة استمالتها.
لم تتكتف الدولة العثمانية باستخدام القوة والعنف العسكري فقط لخلق أمر واقع، وإنما تحركات الدبلوماسية العثمانية في محاولة لتثبيت هذا الأمر عن طريق الضغط السياسي على الخديوي عباس، واستغلال الأوضاع السياسية في ذلك الوقت حيث احتدم الخلاف بين الخديوي عباس ومصطفى كامل، لتقرب الأول من الإنجليزي بعد علمه بالوفاق الودي 1904 بين فرنسا وإنجلترا، وإدراكه عدم إمكانية نجاح سياسة المناهضة للاحتلال البريطاني في مصر. وهو:
هل يؤيد الخديوي عباس مع الحزب الوطني الموقف العثماني؟
هل يؤيد السياسة البريطانية في مصر؟
هل في ظل وجود الاحتلال العسكري والسياسي البريطاني يمكنه أن يتخذ قراراً سياسياً منفصلاً؟
وإزاء هذا المركز الحرج للخديوي عباس، مارست الدبلوماسية العثمانية عنفاً ضده لإجباره على الاصطدام بالإنجليزي أو فقد شعبيته التي يحظى بها لدى الرأي العام المصري الذي كان يؤيد السلطان العثماني تحت تأثير الحزب الوطني وأدواته. أبرق الصدر الأعظم ثلاث برقيات متوالية شديدة اللهجة وتحمل تهديدات واضحة.
تطلب البرقية الأولى في 10 يناير 1906 أن تمتنع مصر عن بناء المركز المزمع إقامته حيث ن الموقع تركي وعليه حامية عثمانية يقودها لواء، وهو منصب عسكري رفيع يتناسب مع أهمية الموقع - وتؤكد البرقية عدم رضاء بل ورفض الباب العالي لهذا السلوك، وتطلب التراجع فوراً للقوة المصرية، وتأمر الخديوي بالتحرك السريع الفوري ويعلن أنه لن يتم إرسال مبعوث تركي لتعيين الحدود.
أما البرقية الثانية في 12 يناير 1906 أيدت البرقية الأولى مع مزيد من التعسف ضد الخديوي لإحراجه ومزيد من التعسف ضد مصر وحقها الثابت تاريخياً في أراضيها، فتؤكد على أن الأراضي التركية تشمل العقبة والمناطق المجاورة بما فيها طابا، وأنها ليست ضمن الأراضي الممنوحة لمصر.
وبتحليل مضمون هذه البرقية يمكن استخلاص ما يلي:
1- أن تركيا تتراجع عن مضمون برقية الصدر الأعظم المؤرخة في 8 أبريل 1892.
2- ليس لدى تركيا نية الموافقة على تعيين لجنة مشتركة للحدود.
3- إن إصرار مصر على موقفها يعتبر خروجاً عن الأوامر وعصياناً واضحاً.
4- الخروج عن الطاعة سوف يواجه أشد الاجراءات لوقفه.
5- التأكيد على أن مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية، وهي قسم منها، أي أن الشأن داخلي لمنع التدخل البريطاني، وكذلك تأكيد على أنه لا حدود بين أجزاء أو أقسام الدولة العثمانية الواحدة.
وتصاعد الضغط العثماني على الخديوي بطلب سحب "نور البحر" والقوة المصرية من جزيرة فرعون والتوقف عن بناء نقاط عسكرية وإلا "سوف تحدث أزمة". معنى هذا، أن تركيا أرادت وضع يدها على المناطق الاستراتيجية في خليج العقبة والمناطق الحاكمة المجاورة، بغية تأمين مكاسب لها أسوة بما وقع على إثر فرمان أبريل 1892 أي حصولها على العقبة ومن ثم تزايد نفوذها وسيطرتها على البحر الأحمر، إضافة إلى التواصل الجغرافي بين الحجاز الشام، وأيضاً ما تمثله العقبة كبوابة شمالية للحجاز، وما يمثله رأس الخليج كأقرب نقطة للسيطرة عليها.
كان هذا التهديد يهدف إلى مساومة سلطات الاحتلال، واكتساب مواقع جديدة في سيناء وفي الضفة الغربية في خليج العقبة، على أساس عدم اكتراث السلطات البريطانية بالمصالح الوطنية المصرية، ولتفادي أزمة حادة بالتنازل عن بعض المواقع المصرية وهو ما لا يكلف بريطاني الكثير. لم تقرأ الدولة العثمانية جيداً المصالح المصرية - البريطانية المشتركة والمتمثلة في هدف إبعاد كل ما يهدد قناة السويس وهو ما يستوجب تأمين الحدود الشرقية، أي تأمين شبه جزيرة سيناء، باعتبارها خط الدفاع الأول عن القناة واعتبارها منطقة عازلة بين الممتلكات العثمانية وبين مصر - حسب المفهوم العسكري القديم حيث الصحراء أراض عازلة وفاصلة لتأمين البلاد.
وهكذا احتدمت أزمة طابا الأولى 1906 حيث:
1- قوة مصرية لديها تعليمات محددة بالتواجد على أراضيها.
2- قوة عثمانية سارعت باحتلال تلك الأراضي بالقوة.
3- الدولة العثانية تمارس العنف السياسي ضد مصر لاجبارها على التنازل عن أراضيها.
4- قوة سلطات الاحتلال البريطاني في مصر تعمل في الخفاء لتحقيق مصالحها في مصر.
5- حرج مركز الخديوي عباس أمام:
أ- الحزب الوطني وشعبيته.
ب- الدولة العثمانية وقدرتها على ممارسة العنف السياسي ضد مصر.
ج- سلطات الاحتلال المسيطرة على مقدرات البلاد.
د- ولاء الخديوي للدولة العثمانية.
التدخل البريطاني لادارة الأزمة
إزاء التهديدات التركية العنيفة لمصر بشكل مباشر، والتي تعني تجاهل سلطاات ومصالح دولة الاحتلال، وإزاء التعنت التركي، اتخذت بريطانيا مواقف على عدة مستويات منعاً لتكريس الأمر الواقع ولتحريك الأزمة في اتجاه الحل الإجباري. فقد اتخذت مواقف دبلوماسية متصاعدة، ومواقف عسكرية للتهديد باستخدام القوة، فلم يعد ثمة شك في أن الحكومة العثمانية ترفض الاستجابة للمطالب المصرية، واصبح من الواضع أن المسألة لن تحل إلا بالضغط المباشر على استنبول.
تقدم السير فندلي - القائم بأعمال كرومر أثناء تغيبه لافتتاح ميناء بورتسودان - باقتراحات محددة على المستوى الدبلوماسي، والمستوى العسكري. طالب القائم بأعمال المعتمد البريطاني في مصر بإرسال تعليمات إلى السفير البريطاني في استنبول "نيقولاس أكونر" للاحتجاج لدى الباب العالي لضمان انسحاب القوات التركية من طابا وغيرها من الأماكن التي قامت باحتلالها لأنها أراضاي مصرية، ولضمان العمل على تشكيل لجنة تركية - مصرية مشتركة لتعيين الحدود، كما اقترح السيد فندلي إبلاغ السلطان العثماني بأن مصر ترغب في ادارة أراضيها التي تقررت لها عام 1892 في سلام، وأنه إذا ما هددات المراكز المصرية، فإن الحكومة المصرية سوف تضطر إلى طلب المعونة من الحكومة المصرية.
وبناء على التعليمات الصادرة من القاهرة إلى السفير البريطاني، أبدى في لقاء مع وزير الخارجية التركية تحفظات على اللهجة غير اللائقة، والتي تحمل الكثير من التهديد التي اتسمت بها مراسلات الصدر الأعظم إلى الخديوي عباس الثاني، كما أبلغه بمطالب محددة دون تأخير في تنفيذها تجنباً إلى ما سيؤول إليه الأمر من نتائج وخيمة، كما طالب أن ترسل الأوامر للقائد التركي في العقبة "رشدي باشا" بالجلاء عن الأراضي المصرية.
وعد توفيق باشا وزير الخارجية التركية بأنه سيعرض الأمر على مجلس الوزراء التركي الذي سينعقد اليوم 28 يناير 1906، وأعرب عن أمله بتسوية الموضوع بشكل ودي ومرضي.
وفي صباح اليوم التالي 29 يناير اتصل توفيق باشا وزير الخارجية التركية بالسيد أوكنور ليبلغه بأن المسألة قد حسمت بعد وصول برقية من قائد العقبة بأن تفاهماً قد أمكن التوصل إليه بين مقابلة مع قائد القوة المصرية، وأن اتفاقاً مرضياً للمسألة قد تم.
في حقيقة الأمر لم يتم ترتيب أو اتفاق بين القواد العثمانيين والمصريينن ولم يحتل المصريون المراكز التي طالبوا بها، وإنما فهمت الادارة التركية من رسالة رشدي باشا قائد العقبة التركي إلى سعد بك رفعت قائد القوة المصرية "بأنهما أخوان يخدمان نفس السلطان، وحيث إن المقام العالي قد أتم شرح الأمر بالتفصيل لسمو خديوي مصر فليس هناك خلاف بيننا" ثم ناشده العودة إلى السويس وتسوية المسألة بين الإخوة. وراوغت الحكومة التركية المسئولين البريطانيين في تفسير وتأويل رسالة رشدي باشا، وهو ما نفته القاهرة لأن التقرير عار من الصحة. وما يؤكد ذلك أن السفير التركي في لندن موزورس باشا أوضح أن ما يسمى الاتفاق بين القواد العثمانيين والمصريين هو مجرد تبادل آراء وإيضاحات متبادلة بينهما لا أكثر. وفي مناسبتين، خلال الأيام الأخيرة من يناير عرض السفير التركي في لندن المسألة على وزارة الخارجية البريطانية، وطالب باستدعاء السفينة المصرية والقوات المصرية التي يقودها الكولونيل براملي بك، والمعسكرة في مكان قريب من العقبة، وصمم على تسجيل اعتاراض الحكومة العثمانية على أي تعيين للحدود بين مصر وبين الأجزاء الأخرى من الامبراطورية العثمانية متذرعاً بحجج بها التمييز بين الأراضي الممنوحة لمصر كحق وراثي وبين شبه جزيرة سيناء.
التصعيد العسكري العثماني
عزز العثمانيون خلال النصف الأول من فبراير 1906 مراكزهم في العقبة والمناطق المحيطة بلوائين من قوات المشاة التركية. كما أرسل رشدي باشا قائد العقبة بتهديدات للمركز المصري في جزيرة فرعون، رغم وجود سفينة خفر السواحل "نور البحر" التي تساهم في حماية المركز المصري إذا استدعى الأمر.
كما قطع قائد العقبة الاتصال بالقائد المصري والبريطاني والذي دام لأكثر من شهر مؤكداً عدم اعترافه بأحقيتهم في احتلال أراضي تركية مع مزيد من التهديدات بتحملهم عواقب عدم انسحابهم من جزيرة فرعون.
كان رأي كرومر أن تنتهج السياسة البريطانية أسلوب الضغط السياسي العنيف بهدف الوصول إلى حل جذري للمسألة على أساس:
1- عدم الاكتراث بالتهديدات التركية بطرد القوة المصرية من مواقعها سواء الأمر تركي، أو كان الألمان وراء التشدد العثماني.
2- جلاء القوات التركية عن طابا والأراضي التي تحتلها في أرض يعتبرها مصرية.
3- الإصرار على تشكيل لجنة مشتركة لتعيين الحدود بين مصر والسلطة العثمانية.
بناء على رأي كرومر الذي تقدم به إلى وزير الخارجية البريطاني، وعلى الموقف التركي المتشدد، قررت الحكومة البريطانية ممارسة الضغط الدبلوماسي لمواجهة التسويف وإضاعة الوقت، ولوقف عملية اختبار البريطانيين لمعرفة إلى أي حد قد يلجأون إلى استخدام القوة لحل الأزمة.
الضغط الدبلوماسي البريطاني
مارست الحكومة البريطانية الضغط الدبلوماسي على صعيدين:
1- الاحتجاجات شديدة اللهجة المتتابعة.
2- التصعيد السياسي بإرسال بارجة حربية بريطانية إلى مياه الخليج.
في 29 يناير قابل السير نيقولاس أوكونر الصدر الأعظم وقدم له احتجاجاً شديد اللهجة يتضمن:
- رفض حكومته احتلال القوات التركية لطابا.
- عدم السماح للقوة المصرية بالنزول بناء على تعليمات عليا.
- رفض مبدأ احتلال أراضي مصرية.
وختم احتجاجه بطلب الانسحاب السريع لتجنب أزمة حادة بدأت بوادرها وتداعياتها. وفي 21 يناير استدعى السير إدوارد جراي وزير الخارجية البريطاني السفير التركي موزوروس باشا في لندن وأبلغه بخطورة الوضع القائم وما سيترتب عليه من تعقيدات ذات طبيعة سياسية. وفي ذات الوقت قدم السير أوكونر اقتراحاً يتسم بشيء من اللين أو المرونة، وكان مؤاده سحب قوات الجانبين من المنطقة لحين إقرار تسوية بشأن المسألة. رفض كرومر التنازل عن موقفه وأصر على أسلوب الضغد الدبلوماسي، إضافة إلى إصراره على طلب تدعيمه سياسياً بالبوارج البريطانية.
استمرت الحكومة التركية في التسويف وإضاعة الوقت، ولم تتوصل إلى نتيجة مرضية للحكومة البريطانية، ومن ثم لم تتاون الحكومة البريطانية في مواصلة الضغط الدبلوماسي:
1- تقديم احتجاج رسمي للسفير التركي في لندن مع طلب الانسحاب الفوري من الأراضي التي يديرها الخديوي.
2- ضرورة تعيين لجنة مشتركة لتعيين الحدود الفاصلة.
3- الموافقة على طلب كرومر بوضع البارجتين "ديانا" في السويس، و"منيرفا" في بورسعيد تحت إمرته.
لم ترغب الحكومة البريطانية في ممارسة العنف العسكري، أو في المواجهة العسكرية وإنما سعت فقط لتعزيز وتدعيم الضغط الدبلوماسي لمواجهة التسويف التركي. وبالفعل تم إبلاغ السفير التركي في لندن بأن الحكومة البريطانية قد قررت إرسال بارجة حربية في الخيج، إذا لم يذعن الباب الالي للمطالب البريطانية - المصرية.
في 14 فبراير، صدر أوامر كرومر للسفن الحربية بالتوجه من السويس إلى جزيرة فرعون ومعه أمر بالتالي:
أ- منع القواات التركية من التوغ في سيناء.
ب- حماية القوة المصرية المرابطة في جزيرة فرعون.
ويمكننا رصد الأحداث على عدة مستويات:
- الموقف التركي.
- الموقف البريطاني.
- الموقف العسكري بين القوات التركية والقوة المصرية البريطانية.
- الموقف المصري.
- موقف الخديوي.
في 18 فبراير، بدأ من جانب السلطان العثماني التراجع التكتيكي، حيث أبدى موافقته على إرسال لجنة مهمتها التحري عن مواقع الأماكن المتناز عليها، وفي حال إثبات أناه مواقع مصرية، فسوف تنسحب القوات التركية. وبناء على قرار السلطان، قررت الحكومة الصمرية تشكيل لجنة مصرية. وبالفعل توجه المندوبان التركيان إلى القاهرة وهما مظفر بك وفهمي بك إلى مصر في 28 فبراير، ولكنهما لم يتصلا بالحكومة المصرية، وظلا حتى 3 مارس في ضيافة مختار باشا الغازي ثم سافرا إلى العقبة عن طريق بيروت ودمشق ومنها إلى العقبة.
أثار هذا السلوك استياء الحكومة المصرية، وريبة السلطات البريطانية. وكان واضحاً أنهما جاء كلجنة مكلفة بإجراء تحقيق، وللتشاور مع الغازي مختار بك وليس للتفاوض، وهو ما يتماشى مع قرار السلطان في 18 فبراير "التحري من موقع المراكز موضوع النزاع"، ويعني أن السلطان ما زال مصراً على موقفه المتعنت تجاه المطالب المصرية - البريطانية وترك الأمر في انتظار تقرير المندوبين. وما زاد الأمر تصعيدأً وتعقيداً، فإن قوة من الجيش التركي وصلت إلى منطقة الحدود في رفح، وأزالت عمودي الحدود، كما أزالت أعمدة التلغراف بين بئر رفح وطريق بئر رفح واستبدلت بالعمودين الفاصلين بين الحدود بأعمدة تركية ونصبت خياماً بين السدرة وطريق رفح.
ولمواجهة هذا التصعيد التركي، أمر اللورد كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة البارجة منيرفا والتي كانت مرابطة في بورسعيد بالتوجه إلى رفح للتحقق من الأمر، وما زاد التوتر تقرير المبعوثين التركيين في 2 أبريل 1906 والذي جه فيه أن طابا جزء من الأراضي التركية، مع مزيد من الضغط الدبلوماسي على مصر مثلة في الخديوي عباس الثاني حيث طلب إجراء مباحثات لحل الأزمة.
ويمكننا رصد المشهد العسكري حيث القوات التركية في مواجهة القوات المصرية التي ترغب في التمركز في أراضيها. في 18 فبراير قامت البارجة "ديانا" بقيادة الكابتن فيس هوربني، وبمرافقة الكابتن باركر بك مساعد مدير المخابرات المصرية ونعوم بك شقير من المخابرات المصرية بالتوجه نحو العقبة، وعند المرور بطابا كانت القواات التركية المحتلة وادي طابا، وأيضاً كانت تتمركز في مواقعها قرب الشاطئ وفي الخنادق وفي حالة استعداد لإطلاق النار، ويقدر عددهم بحوالي ألفي جندي.
وبعد الحصول على إذن من اللواءرشدي باشا قائد العقبة التركي بالسماح لهذه القيادات بالنزول إلى الشاطئ لمقابلة ودية، دار حوار بصفة غير رسمية بين الطرفين حيث أكد رشدي باشا أن نزول براملي بك في المرشرش إنما هو ترش بالدولة العلية، وأكد على رؤيته بالنسبة لطابا والنقب بأنهما نقاط حاكمة في العقبة ولابد من ضمهما معاً. أما الجانب المصري-البريطاني فأكد على أن هذا الحديث يعارض الحقيقة على أساس أن شرق الخليج تابع للعقبة، وغربه تابع لسيناء بدليل أن القوة المصرية كانت مقيمة ومتمركزة في طابا بعد إخلاء العقبة، ولكن مصر تركتها لفترة لبعدها ووعورة طرقها، ولا يعني أنها جزء من الأراضي التركية، ولا يعني أن مصر خلت عنها، وأكد الجانب المصري-البريطاني أنه لهذا يعتبر احتلال القوات التركية لطابا تحرش بمصر.
أما مشهد حادثة رفح فيمكن رصده سريعاً، حيث توجهت قوة عسكرية تركية من خمسين فرداً، عليهم ملازم، "إسماعيل أفندي" ومعهم موظفم ملكي مأمور الجفالك "مصطفى أفندي"، وقائدهم يوزباشي (نقيب) أركان حرب "مفيد بك"، واحتلوا رفح وسكنوا في خمس خيام في حد مصر عين السدرة، حيث كان عمود الحدود وطريق رفح. أزالت هذه القوة العسكرية التركية عمودي الحدود في 12 أبريل 1906 من مكانهما تحت السدرة، واقتلعوا أعمدة التلغراف المصري بين بئر رفح وطريق بئر رفيح، وأقاموا أعمدة تركية في 28 أبريل كما قامت القوة التركية بانتزاع أراضي رفح كلها التي كانت بيد السكان من خان يونس ولم يكن لديهم عقود ملكية وضموها إلى ادارة الجفالك باسم السلطان العثماني، وسمحوا لهم فقط بزراعة الأراضي مقابل العشور المقررة عليهم وفق النظام المعمول به.
أمرت الحكومة المصرية السفينة الحربية منيرفا بالتوجه من بورسعيد إلى رفح للتحقق من صحة الأمر وعينت نعوم بك شقير معتمداً للدولة المصرية، والكابتن ويموث معتمداً للدولة البريطانية، وفي حالة صحة خبر الاعتداء التركي واحتلال رفح، عليهما تاقديم احتجاج رسمي باسم مصر وبريطانيا معاً. وهو ما تم خلال لقاء بين المعتمدين المصري والبريطاني مع مفيد بك قائد القوة التركية، رغم أنه انكر تماماً وجود المعتمدين، وأنكر عملية تبديل أعمدة التلغراف المصرية بالتركية، رغم شهادة بعض أهالي من الرميلات الذين أكدوا على وجود أعمدة الحدود كحد فاصل بين مصر والشام، ودللوا على ذلك بأنه بعد زيارة الخديوي عباس الثاني عام 1898، فقد وضع العمود عليه تاريخ الزيارة وكانت وجهته نحو العريش.
ولكن أصر مفيد بك على الانكار، مما دفع المعتمد المصري أن يسدى له نصيحة ودية حيث أن مسألة الحدود دخلت في مأزق حرج، وأن النية معقودة على تنفيذ المطالب المصرية - البريطانية سواء بالتفاوض السلمي أو باستخدام القوة.
موقف الرأي العام المصري
وانقسم الرأي العام المصري على نفسه ما بين موال للاحتلال ويؤيد بريطانيا في حقها في الدفاع عن مصر وإلا فإنها تفقد السيادة الاحتلالية، ويكون بعد ذلك للدولة العثمانية الحق في أن تنقص ما شاءت من استقلال مصر الاداري، وذلك ما عبرت عن الصحف المؤيدة للاحتلال البريطاني لمصر.
أما الصحف الوسطية فقد عبرت عن شريحة عريضة من المصريين، وإطار فكري ثقافي عام استقر لعدة قرون كمعطى ثابت، ألا وهو الموافقة على أن لتركيا الحق في الدفاع عن مصر حتى تستطيع أن اتكره بريطانيا على الجلاء عن مصر. إن هذه الشريحة العريضة ما زالت تؤمن بدولة الخلافة الإسلامية كنظام سياسي ونظام عسكري قادر على حماية دار الإسلام. ولم تستطع هذه الشريحة أن ترى:
1- إن الدولة العثمانية كدولة خلافة قد أدت بدورها التاريخي، وأصبحت عبثاً لابد من إزاحته.
2- لم تستقر المفاهيم السياسية الحديثة مثل الوطنية، الوطن، القومية، الحرية، الاستقلال، التحرر.
3- إن الدولة العثمانية قد فقدت شرعيتها الحقيقية لعدم قدرتها على حماية ولاياتها وحماية دار المسلمين. ويمكننا التدقيق بالقول من حيث عدم قدرتها على حماية نفسها.
وما يزيد الأمر سوءاً فميا يخص تبعية شبه جزيرة سيناء، فقد اعتبرت هذه الشريحة أن سيناء ليست جزء من مصر ولا امتياز لها بل هي وديعة مؤقتة لتسهيل الحج إلى الأراضي المقدسة، وعليه فان احتلال طابا من قبل القوات العثمانية، إنما هو بمثابة استرداد جزء من سيناء وليس نقضاً للحقوق الوطنية لمصر في أراضيها، ودليلهم على ذلك أن الدولة العثمانية استردت من قبل الوجه وضبا والمويلح والعقبة سلمياً، وبناء على قرار (فرمان) عثماني فقط.
أما الفريق الثالث وهو يمثل طبقة المثقفين المستنيرين، فقد تمسك بمصرية مصر وبتمام الدولة المصرية بشبه جزيرة سيناء ودليلهم على ذلك آثار مصر القديمة الباقية في سيناء، واعتماداً على كتابات الأولين من المؤرخين والرحالة على مدى عصور التاريخ. وهذا الفريق يرغب في إزاحة الاستعمارين المحتلين سواء التركي أو البريطاني، سعياً وراء الاستقلال والتحرر الوطني.
وقد ظل الموقف العثماني متعنتاً ومتصاعداً ومتمسكاً برؤيته وهو ما أوضحه الغازي مختار باشا في مصر في مذكرة مطولة إلى بطرس باشا غالي وزير الخارجية المصرية يشرح فيها موقف السلطان العثماني، بناء على برقية مرفقة بمذكرة مطولة من الصدر الأعظم للمندوب السامي التركي في مصر.
أيضاً مارس الغازي مختار باشا ضغطاً جديداً على الخديوي عباس وبحضور رئيس الوزراء ووزير الخارجية ما يسمى اقتراح السلطان الذي ينص على:
1- عدم المساس بالفرمان وملحقه في 8 أبريل 1892.
2- تتكون سيناء من الأراضي الواقعة جنوب الخط المستاقيم بين العقبة والسويس.
3- شمال تلك المنطقة تشير إلى الحدود المصرية مع خط مستقيم بين رفح والسويس.
4- أما الأراضي التي يحدها من الشمال الغربي الخط بين رفح-السويس وجنوباً الخط من السويس إلى العقبة وشرقاً الخط من العقبة إلى رفح فهي أراضي تركية.
وبذلك اتضح الموقف العثماني الذي يعني:
1- أن الدولة العثمانية ترغب في الاستيلاء على شبه جزيرة سيناء وليس فقط طابا وما حولها ورفح.
2- أن الدولة العثمانية تتنصل من المعاهدات الدولةي دون التزام دولي أو أخلاقي.
3- تشتيت الأزمة ما بين أراضي احتلت في الجنوب، وأراضي احتلت ونزعت ملكيتها في الشمال للمقايضة وللمساومة لتحقيق مكاسب جديدة.
موقف الخديوي عباس الثاني المناقض لمصلحة مصر القومية
تباحث الخديوي عباس مع مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء، وبطرس غالي باشا وزير الخارجية بشأن مذكرة الغازي مختار باشا. قدم رئيس الوزراء ووزير الخارجية مشروع رد - يمثل موقف الحكومة المصرية الرسمي - على مذكرة الغازي. تقرر إرساله إلى الصدر الأعظم فريد باشا سراً بعد أن أضاف الخديوي تعديلات على الصياغة. اشتمل التقرير على موقف الحكومة تجاه حقوقه في أراضيه في شبه جزيرة سيناء التي تنتهي العقبة، أي تدخل في هذه الحقوق في موقع طابا وهو ما تتمسك به الحكومة المصرية، وبناء على طلب اللورد كرومر.
ولكن يستطرد الخديوي "وهو لما كان هذا التقرير مغايراً بالمرة لآرائي، وأن صداقتي ووجداني لا يقبلان الكتمان، فكنت أيضاً مجبراً على تقديمه، فقد فعلت ذلك بعد محو وإثبات تاركاً تقدير الواقع لشرف فخامتكم". ثم يقدم اقتراحات مناقضة لموقف ورؤية الحكومة المصرية "أن التفسير والايضاح هما من حق صاحب الأمر والفرمان دون سواه، وعلى كل حال فإنه من الأمور المسلم بها، إن الدولة التي تترك مؤقتاً لجهة ما من جهاتها، أمر ادارة جهة، لها فعند اللزوم والحاجة أن تستردها" فيقال في هذه الحالة قضت الضرورة بإلحاق الجهة الفلانية صورة قطعية إلى ولاية الحجاز، والحدود المصرية تعتبر نقطة "كذا"، ويكون تلغرافكم بصورة قطعية بغض النظر عن جوابنا الذي نص فيه على عدم القبول. هذا على ما أظن هو الحل.
وبتحليل مضمون هذه البرقية يمكن رصد بعض الملاحظات:
1- موقف الخديوي عباس يعتبر من أخطر المواقف السياسية التي يتخذها حاكم:
أ- تبني وجهة النظر العثمانية.
ب- تنازل عن مالا حق له فيه "أرض الوطن".
ج- اعتبر أن "مصر" ملكية خاصة يوظفها لمصلحته الفردية.
د- زايد مع الحزب الوطني بهدف زعزعة وضع سلطات الاحتلال في مصر.
هـ- لم ينتهج منهج المسئولين الشرفاء في ادارة الحكم كما يمكن وصفه بخائن أمانة الحكم لتفريطه في جزء من مصر.
2- الانفصال الشديد بين موقف الخديوي "السري" وموقف الحكومة المصرية الواضح.
3- تشجيع السلطان العثماني على اتخاذ موقف متشدد، دون الالتفات إلى مصالح مصر الحيوية وحقوقها الثابتة.
موقف بريطانيا من المواقف المتناقضة
علم اللورد كرومر بفحوى التقرير السري الذي أرسله الخديوي عباس إلى الصدر الأعظم، حيث تمكن من الحصول على صور من البرقيات والرسائل السرية بين الخديوي والصدر الأعظم. أصبح واضحاً للحكومة البريطانية والملك إدوارد السابع ملك إنجلترا، ووزير الخارجية، وسفير إنجلترا في الأستانة موقف الخديوي المخادع، وحيرة الحكومة المصرية وموقف مختار باشا الغازي. قررت الدبلوماسية البريطانية ادارة الأزمة على مستوى محور واحد وهو البريطاني العثماني أي بين السلطان العثماني وبريطانيا عن طريق اللورد كرومر وسير نيقولاس أوكونر من وزير الخارجية السيد جراي، واستبعدت محور الخديوي-الغازي.
مرة أخرى تصاعدت أزمة طابا 1906 واحتوت على مكونات متناقضة منها:
1- طلب الحكومة المصرية - بناء على طلب كرومر - تشكيل لجنة مشتركة - لتعيين الحد الفاصل بين سيناء والممتلكات العثمانية.
2- تبنى الخديوي عباس وجهة النظر العثمانية وتشجيعها على التمسك بجزيرة سيناء.
3- موقف الحزب الوطني المؤيد للدولة العثمانية باسم التضامن الإسلامي.
4- الانقسام الحاد للرأي العام المصري.
6- احتلال القوات العثمانية لطابا وما يجاورها من مواقع وفي مواجهتها البارجة ديانا في الخليج، وكذلك احتلال القوات العثمانية رفح وفي مواجهتها البارجة منيرفا في البحر الأبيض المتوسط.
لم يحظ هذا المقترح السلطاني بالموافقة المصرية والموافقة البريطانية، ومن ثم قدم الغازي مختار باشا مشروعاً آخر وهو أن تكون الحدود الفاصلة من رفح إلى رأس محمد علي البحر الأحمر بحيث يكون غربه تابعاً لمصر وشرقه تابعاً لتركيا.
أيضاً لم ينل هذا المقترح أو المشروع الموافقة من مصر أو من بريطانيا لعدة أسباب منها:
1- تقسيم شبه جزيرة سيناء ما بين تركيا، يهدد الطريق إلى الهند.
2- تباعد واختلاف رؤية الأزمة حيث مصر وبريطانيا تطالب بتعيين حدود فاصلة وتركيا ترغب في سلخ سيناء عن مصر.
كان المعتمد البريطاني - أو القائم على مصالح بريطانيا ويمثل رأس السلطات البريطانية المحتلة في مصر - يرى أهمية قصوى في إبعاد القوة الأوروبية التي تشجع وتدعم الدولة العثمانية - ألمانيا - وكذلك في إبعاد الأرتاك عن تهديد قناة السويس الشريان الحيوي إلى الشرق الأقصى، والتي تضمن لها تفوقاً إستراتيجياً وتجارياً واقتصادياً داخل النظام الأوروبي، ويحقق لها مصالح عليا في العالم الثاني.
كان رأي المعتمد البريطاني إلزام الدولة العثمانية بخط الحدود وفقاً لبرقية الصدر الأعظم في أبريل 1892، ومعتمداً على الموقف القانوني لمعاهدة 1840. وعلى الضمانة الجماعية الأوروبية، مع عدم المساس بحقوق السيادة العثمانية على مصر.
رفض كرومر كلا المشروعين اللذين قدمهما الغازي العثماني سواء رفح-السويس-العقبة، أم رفح-رأس محمد، فكلاهما من منظور المصالح الاستراتيجية البريطانية ضار. ورأى في ادعاءات المندوب السامي التركي والمشروعين محاولة تركية لتوسيع الحدود التركية ولمد الخطوط الحديدية ذات الطبيعة الاستراتيجية إلى السويس على شاطئ القناة أما لعرض الثاني فسوف يجعل الأتراك قريبين للغاية من كل ما يهدد الوادي "مصر" وأيضاً بما أن رأس محمد تقع على البحر الأحمر خارج المجرى الضيق لمدخل خليج العقبة، فإن ذلك الخليج سوف يكون من الناحية العملية بحراً مغلقاً في أيدي الأتراك، ومركز تهديد لطريق التجارة إلى الشرق. أي أن كلا المشروعين يمسان ويهددان مصالح بريطانيا وحرية الملاحة في قناة السويس.
لم تكن - بالتأكيد - مصلحة حصر في حسبان الرجل، إنما فقط ان ما يهدد مصر بالتبعية يهدد مصالح بريطانيا في مصر. إن مقولة اللورد كرومر إن بريطانيا احتلت مصر وسيناء جزء من مصر، وسوف يبقى ما بقى الاحتلال، إنما هي مقولة استعمارية ترعى مصالح بريطانيا فقط، وليس لمصلحة مصر نصيب مطلقاً.
اعتمد موقف اللورد كرومر على مرتكزات لها قيمتها العملية نذكر منها:
1- حق مصر التاريخي في شبه جزيرة سيناء التي تملكها منذ قرون عديدة وفقاً لكتابات الأولين.
2- ملكية مصر في شبه جزيرة سيناء وفق الممارسات الفعلية والتواجد المستمر لمحمد علي باشا وخلفائه.
3- الموقف القانوني لمعاهدة لندن 1840.
4- الضمانة الأوروبية الجماعية للمعاهدة.
5- حق بريطانيا في الموافقة أو الرفض فيما يخص العلاقات العثمانية-المصرية.
الفصل الثالث: تعليم الحدود الشرقية لمصر
ركائز عملية بناء خط الحدود الشرقية لمصر
عملية إنشاء الحدود
اللجنة المشتركة لتعيين ولتعليم مسار الحدود الشرقية
سير عملية مسح وتعيين الحدود من خلال الوثائق البريطانية
تقديم نظري للمفاوضات
سير مفاوضات تعيين الحدود والدعم الدبلوماسي من خلال الوثائق البريطانية
اتفاقية الجلاء في الأول من أكتوبر 1906
أعمدة الحدود
التعليم النهائي للخط
طبيعة الخط الحدودي
الفصل الرابع: تداعيات أزمة طابا الأولى 1906
طبوجرافية الحد الشرقي
إن عملية تعليم حدود مصر الشرقية والتي نتج عنها بناء خط حدودي فاصل، أثبتت أن شبه جزيرة سيناء هي أحد أهم ميادين الصراع الدولي، وقد مارست الدول الكبرى الارادات بكل أدواتها لتحقيق مصالحها القومية ولتعظيم مكاسبها في ظل نظام دولي متعدد الأقطاب ذي طبيعة تنافسية في عصر التمدد الاستعماري. ويتأكد من عملية التعليم أنها لم تكن مجرد عمل طبوجرافي، وإنما امتدت لتشمل الضغوطات السياسية وتحكيم لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والديموجرافيا وأيضاً الاعتبارات الاستراتيجية التي كانت العنصر الفاعل والحاسم في ادارة الصراع على أحقية شبه جزيرة سيناء المصرية.
يمكن عرض وصف طبوجرافي للحد الشرقي بتقسيم فرضي إلى أربعة قطاعات:
القطاع الأول: رأس طابا-جبل أم قف
يتبع الحد الحافة الشرقية لوادي طابا من رأس طابا قمة جبل فورت مارا بقمم جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا من الشرق. ومن ثم فهو حد جبلي في هذا القطاع. مع ملاحظة أن وادي طوبية يلتقي مع وادي طابا خلف جبال دنب العير، ويستمر قليلاً فيلازم الحد قمم الحافة الشرقية المطل عليه. وبعد ذلك يتجه الحد من قمة جبل فورت إلى نقطة تقع على مسافة 200 متر شرق قمة جبل فتحي، الأمر الذي يترك هذه القمة الجبلية داخل مصر. ثم يتجه الحد إلى نقطة إلى الشرق قليلاً من المفرق (766 متراً)، وبعدها ينحرف الحد قليلاً صوب الشمال الشرقي ليصل إلى قمة التل (726 متراً) الواقع إلى الشرق من الردادي بحيث يبقى هذا غرب الحد. وبعدها يتجه الحد شمالاً إلى قمة جبل رأس الردادي المدلول عليه بالنقطة A3A (834 متراً). ومن هنا يتجه الحد بميل قليلاً صوب الشمال الغربي إلى قمة جبل الصفر المدلول عليها بالنقطة A4A (879 متراً). ويستمر الحد في نفس الاتجاه حتى يصل إلى جبل أم قف المدلول عليها بالنقطة A5A (863 متراً). ويدل ما سبق على أن الحد في هذا القطاع هو حد جبلي يسير مع أعلى القمم الجبلية في المنطقة. كما سبق أن أشرنا إلى أن هذا الحد يعتبر متماً في بعض أجزائه مع خطوط تقسيم المياه التي تفصل بين الأودية التي تتجه إلى وادي العريش وتلك المتهجة نحو وادي عربة.
القطاع الثاني: جبل أم قف-جبل سماوي
يستمر الحد بعد نقطة A5 إلى نقطة A7A شمالاً ثميله سويملة (482 متراً)، ويستمر الحد من هذه النقطة الأخيرة في نفس الاتجاه الجنوبي الشرقي الشمالي الغربي إلى نقطة A8A غرب الشمال الغربي لجبل سماوي (1009 متراً). ويسير الحد هنا في وادي جريا، وينخفض منوسب الحد في هذا القطاع عما في سابقة حتى مشارف جبل سماوي. ويسير الحد هنا في أرض هضبة مفتوحة يتراوح منسوبها بين 400 - 600 متر فوق سطح البحر. وتشقها مجموعة من الوديان هي روافد وادي الجرافي الذي يتجه صوب الشمال الشرقي في فلسطين. وجبل سماوي بالكامل داخل الجانب الشرقي من الحد.
القطاع الثالث: جبل سماوي-جبل الطوال
يغير الحد اتجاهه من عند جبل سماوي قليلاً ولكنه في الاتجاه الجنوبي الشرقي صوب الشمال الغربي مع الاتجاه يميل نحو الغرب حتى يصل إلى قمة التل (802 متراً) الذي إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة حتى يصل إلى الفرع الشمالي من وادي ما بين بحيث يكون البئر شرق الحد الفاصل. وبعد ذلك يغير الحد اتجاهه ليصبح من الجنوب الغربي صوب الشمال الشرقي حتى يصل إلى نقطة A9A (868 متراً) وهي جبل المقراه. وبعدها يعود الحد إلى الاتجاه الأصلي الجنوبي الشرقي-الشمالي الغربي حتى نقطة A9A (1000 متر)، وهي الحافة الجنوبية لجبل خروف. ويسير الحد في وادي لوسان غرب جبل المقراه. ثم يستمر الحد في نفس الاتجاه مع ميل أكبر صوب الشرق حتى يصل إلى رأس العين A10A مكرر (661 متراً) على مشارف جبل الطوال.
مرة أخرى يسير هذا الحد مع قمم جبلية ويمكن تسميتها بالحائط الشرقي لشبه جزيرة سيناء حيث تتكون من منطقة جلية يحدها غربا الكنتلا-القسيمة، وهي تمتد شرقاً على الجانب الآخر من الحد في صحراء النقب.
القطاع الرابع: رأس جبل العين-تل الخرائب
يستمر الحد من نقطة A10A مكرر (رأس العين في اتجاه جنوبي شرقي-شمالي غربي حتى نقطة A11A على جبل أمم حوايط (250 متراً). ومن هناك إلى منتصف المسافة بين عمودين قائمين تحت شجر السدر، ويقعان على مسافة 390 متراً جنوب غرب بئر رفح A13A، وبعد ذلك يميل الحد بمقدار 80 درجة غرب الشمال الجغرافي لمسافة 420 متراً ثم 26 درجة غرباً متجهاً صوب البحر المتوسط ماراً بتل الخرايب. وينخفض ارتفاع الأرض من الجنوب إلى الشمال حتى تصل إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. تكثر في هذا الجزء الآبار المليئة بالمياه القريبة من السطح، ومن ثم تكثر الأراضي الزراعية.
إن غرض التوصيف الطبوجرافي للحد الشرقي لمصر، ليس من قبيل التكرار والاعادة وإنما بغرض التأكيد مراراً على:
- أحقية مصر الأكيدة عبر وثائق التاريخ وعبر الاحقية القانونية في حدها الشرقي بلا منازع.
- إن شبه جزيرة سيناء، لم تكن يوماً غير مصرية.
- لاشك في أن بريطانيا قدمت لمصر خدمة كبيرة بالضغط على تركيا لفتح باب المفاوضات لعقد اتفاقية أكتوبر 1906، ولكن يمكن إبداء بعض الملاحظات:
- أحقية مصر التاريخية والديموجرافية ثابتة في شبه جزيرة سيناء.
- لم تمنح اتفاقية 1906 صفة بأية حال، كما هو الأمر في كثير من اتفاقيات الحدود العربية-العربية، والتي هي بمثابة قنابل موقوتة تؤثر بشكل سلبي على طبيعة العلاقات العربية-العربية.
- تمت الاتفاقية بالتفاوض، ويمكن التأكيد على أنه في سبيل تمريرها، تنازلتا مصر عن أراضي لها على الجهة الغربية من الحد، حتى يكون الاتفاق مرضياً للطرفين.
- التأكيد على أن مصلحة بريطانيا العليا في عقد هذه الاتفاقية كانت هي الهدف الأصيل، وبالمصادفة، تطابقت مع الهدف الوطني المصري.
- إن مراحل التعيين والتعليم وصولاً إلى اتفاقية 1906 تثبت بالدليل القاطع أنه لا يمكن لأي طرف عربي أو دخيل أن يدعي أحقيته بأي شكل في أي جزء من شبه جزيرة سيناء.
- إن تنفيذ هذه الاتفاقية يعني بوضوح لا لبس فيه أن السيادة الكاملة والوحدة الاقليمية على كامل سيناء التي هي وحدة سياسية كاملة لا يمكن تجزئتها أو التفريط في جزء منها، لأنها جزء أصيل من مصر.
- إن ممارسة هذه الاتفاقية تفرض حقوقاً وواجبات على مصر وعلى دول الجوار، بغض النظر عن المفاهيم السائدة في ذلك العصر، فالمجتمع البشري في حالة تقدم وتطور وهو ما عبرت عنه هذه الاتفاقية مبكراً.
-أدى مردود هذه الاتفاقية على الشأن الداخلي المصري إلى تحولات سياسية كبيرة أثرت في مصر وتاريخ المنطقة العربية.
تحليل أزمة طابا الأولى 1906
لم تكن أزمة طابا 1906 وليدة سياست السلطان عبد الحميد الثاني الرامية إلى التضييق على الوجود البريطاني في مصر والساعية إلى إجلاء المحتلين الأوروبيين عن ولاية مصر، أو هي وليدة الصراع الدولي حينئذ، وإنما كانت نتيجة لأحداث تاريخية فارقة على مدار أكثر من نصف قرن. [بداية يمكننا أن ندعي أن جذور أزمة طابا الأولى جاءت كنتيجة لتلك العلاقة بين ولاية مصر والدولة العثمانية التي أخذت في التفكك والتحلل مقابل بناء مصر كدولة حديثة ذات توجهات مختلفة، وبالتحديد بدءاً من مشروع محمد علي خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر].
تلك التوجهات التي اختلفت حولها الآراء والاجتهادات الفكرية، حيث انقسمت هذه الاجتهادات إلى ثلاث مدارس، فمدرسة تضع هذه التجربة داخل المنظومة العثمانية، على أساسا أنها حركة اصلاح داخل الامبراطورية المتهالكة ومدرسة ثانية تنظر لهذه التجربة في سياق التاريخ المصري باعتبار الفكر الاستراتيجي المصري الذي يتجه دائماً إلى المشرق، والمدرسة الثالثة اعتمدت الفكرة العربية باعتبارها العامل الأساسي المشترك بين مصر ومحيطها العربي الشرقي، أي أن العروبة والخصوصية هي قوام هذه التجربة.
لاشك في أن كل مدرسة من المدارس الفكرية الثلاث قدمت ألدتها وبراهينها لتأكيد صدقية اجتهادها، ولكن هذه الدراسة ترجح إلى أنها تجربة في سياق التاريخ المصري، اعتمادا على البعد الاستراتيجي الطبيعي والمتصل بلا موانع طبيعية أو عوائق مانعة، مما يؤهل هذه الامتدادات إلى اعادة التجمع والتكاتل بتوجهات مختلفة ولكنها تنبع من خصوصياتها الثقافية والجغرافية، أي أن الفكرة الأساسية هي أن الجناح الشرقي العربي بلا حدود، وهو كتلة جغرافية ماتصل، ومحيط ثقافي له خصوصية تؤهله لتكوين امبراطورية عربية نواتها مصر منفصلا عن الكيان العثماني الهائل متعدد الاعراق واللغات.
كان هذا الهدف العظيم لباشا مصر العتيد هو أهم ما يؤرق حكومة لندن حيث انها تتعارض مع مصالحها لعليا في المنطقة، مع هدفها الآني وهو المحافظة على السلامة الاقليمية للدولة العثمانية. ويمكن التدليل على ذلك:
- دور بريطانيا في تصفية دولة عصرية مصري-عربية في الشام وانهاء دور مصر العربي.
- تحجيم دور مصر بتسوية 1840-1841.
بمعنى أن بريطانيا والقوى الاوروبية فرضت على محمد علي التسوية، الأولى خاصة بمصر وبها بعض المزايا لأسرته، وقد سبق الاشارة إليها باستفاضة، والثانية كانت في ظاهرها تحقيق خروج محمد علي من سوريا، أي لفك ضلعي الزاوية المصرية-السورية، وحصر مصر داخل الحدود المصرية وراء سيناء.
إن تجربة محمد علي نبهت حكومة لندن إلى خطورتها على المصالح البريطانية العليا، لذا اتبعت سياسة:
أ- فرض العزلة العربية على مصر بهدف:
- تفتيت الفكرة العربية، ووأدها في مهدها.
- تقطيع أواصر وروابط العلاقة بين مصر والمشرق العربي.
- صناعة توجهات مصرية قطرية بعيداً عن الخصوصية العربية.
- ربط مصر اقتصادياً باوروبا.
- تشجيع الجامعة المصرية مقابل الجامعة الإسلامية.
ب- تهويد فلسطين:
أصبح في حكم البديهية التاريخية أن ما جرى من تغايير أثنوجرافية فلسطين بفتح أبوابها للهجرة اليهودية، وما يترتب عليه من طمس هويتها العربية، قد شكل أحد ملامح السياسة البرطيانية منذ أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وذلك بهدف:
1- حماية قناة السويس الشريان الحيوي للامبراطورية البريطانية.
2- إضعاف الوجود العثماني في فلسطين وهي لصيقة بمصر، وأقرب تهديد لقناة السويس.
3- إحكام عزلة مصر عن المشرق العربي.
4- إقامة عازل ديموجرافي وثقافي مختلف، يمنع أي حاكم مصري من إعادة محاولة تجربة محمد علي.
5- ملء الفراغ بعد طرد محمد علي وفق المصالح البريطانية في المنطقة.
6- حل المسألة اليهودية بعيداً عن اوروبا.
تلك هي العلامة الفارقة في تاريخ مصر، وهي أهد أساس لأزمة طابا 1906، والتي أثارته الركيزة الأساسية ألا وهي أزمة فرمان 1892 والتي تمت دراستها بقدر من الاستفاضة في الفصل الثاني، فقط يمكن التأكيد على أن هذه الأزمة صنعت وعينت حدود مصر الشرقية لأول مرة، بخط يبدأ من شرق العريش بمسافة قصيرة باتجاه جنوبي شرقي إلى رأس خليج العقبة، وبالتالي تم وقف ادعاءات الحكومة العثمانية لاقتطاع أجزاء من شبه جزيرة سيناء. ويمكننا التأكيد على أن انتهاء هذه الأزمة أدى إلى:
1- وضع الدعامة الأولى لبناء خط حدود مصر الشرقية.
2- استكمال أسباب القطيعة بين مصر والعرب.
3- صناعة أول خط حدودي في التاريخ الحديث بين مصر والمشرق العربي.
4- كرس العزلة المصرية عن المشرق.
وبالفعل تكرس هذا الخط بعد أزمة طابا 1906، والتي تم عرضها في الفصل الثالث، وقد كانت تداعيات أزمة طابا الأولى عميقة الأثر في استكمال أسباب عزلة مصر، وفي استكمال أسباب القطيعة بين مصر والمشرق العربي، وامتدت آثارها بشكل مباشر على الشأن الداخلي المصري، فقد تنازعت مصر تيارات فكرية متوازية ما بين التيار التقليدي القائم على مفهوم التضامن الإسلامي، بهدف مقاومة خطر التغلغل الاستعماري الأوروبية في العالم الإسلامي، ووسيلة المقاومة هي التكتل تحت راية السلطان العثماني وتحت مظلة دولة الخلافة الإسلامية، وفي إطار الجامعة الإسلامية. وفي ظل هذا التيار التقليدي ظهر تيار فكري شديد الالتحام بالتيار الأصلي حيث يؤكد حركة الجامعة الإسلامية تحت لواء السلطان التركي، ولكنه ينادي بالاستقلال الذاتي المحلي ويطالب بجلاء القوات البريطانية عن مصر. وكان هذا التيار التقليدي مدعوما من السلطان التركي، وممولا من قبل المعتمد التركي في مصر، وبتأييد وتحالف مع الخديوي عباس الثاني.
أما التيار الفكري الآخر فقد كان تيارا وطنيا تحريريا له ايديولجية مختلفة تماما، ويمكن أن نطلق عليه حركة وطنية موجهة ضد الاستعمار البريطاني في مصر، وهيمنته على سياسة ومقدرات مصر. كان لهذه الحركة الوطنية مرتكزات مهمة منها عملية حراك سياسي وحراك اجتماعي ثقافي. كان هدف الحراك السياسي هو القضية الوطنية والتي سرعان ما تحولت إلى حركة وطنية يقودها المتعلمون والمثقفون أمثال (أحمد لطفي السيد، ومحمد حسنين هيكل)، وقد حسم الأمر لصالح التيار الوطني بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر في 1914 لعدة أسباب يمكن ذكر بعض منها:
1- شحوب الوجود العثماني في مصر منذ قدوم الحملة الفرنسية 1798.
2- الدولة المركزية القائمة على تحديث الأنظمة الاقتصادية والتعليمية والادارية والعسكرية، ارتبطت بالثقافة الأوروبية التي تمد الايديولوجية الوطنية، وأن من حق كل قومية أن يكون لها وطن مستقل.
3- اضمحلال الحزب الوطني بسبب:
أ- أدرج الخديوي عباس الثاني أنه لا فائدة من التعويل على الباب العالي لمقاومة الاحتلال البريطاني، وبالتالي فترت العلاقة بين المركز والوسيلة.
ب- لم يستطع تفسير موقفه تجاه رغبته في التنازل عن أرض مصرية إرضاء لدولة الخلافة الإسلامية على حساب حق الاقليم الأصيل في كامل أراضيه.
ج- لم يستطع الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أن يعترف بأن الدولة العلية والغازي مختار باشا، كانا يمدانه بالمال للقيام بالدعاية ضد الاحتلال البريطاني.
د- انهيار الحزب الوطني بوفاة زعيمه مصطفى كامل، مقابل ظهور أحزاب سياسية ذات برامج وطنية أكثر تحررا وانفصالا من الجامعة الاسلامية.
4- تنامي مشاعر الوطنية في مصر وتأكيد هويتها القطرية، في ضوء الانقلاب الدستوري العثماني وما أعقبه من التحول من الجامعة الإسلامية إلى الجامعة الطورانية.
5- حادثة دنشواي في 13 يونيو 1906 التي نبهت الشعور الوطني تنبيها عنيفا ضد سلطات الاحتلال في مصر. وأدرك الشعب المصري أن الحادثة كانت مظاهرة للقوة، ولترويع الشعب المصري، حتى ينكفئوا على ذاتهم ويؤثرون السلامة. فهم - ولم يستكن - الشعب المصري أن كل من يتحدى السلطات المحتلة يكون أمثولة لإدخال الخوف والفزع في نفوس المصريين.
6- خلع الخديوي عباس الثاني عن عرش مصر، بعدما فقدت السلطات البريطانية في مصر الثقة فيه، على إثر اطلاعهم على المراسلات السرية بينه وبين السلطان العثماني أثناء أزمة طابا، فكانت فرصة سفره ونشوب الحرب العالمية الأولى فرصة مواتية.
7- تغير السياسة البريطانية إزاء مصر لاستيعاب الرأي العام.
8- تحولات داخلية تلبية للرأي العام المصري المطالب بنظام يكفل اشتراك الأمة مع الحكومة في ادارة شؤونها الداخلية، أي انشاء نظام دستوري.
9- القضاء على نفوذ المندوب التركي في مصر، مقابل الهيمنة البريطانية، إلى أن اضطرت سلطات الاحتلال في أول عهد وزارة بطرس باشا إلى الاعتراف لمصر بحقها في ادارة شؤونها وتخويل مجلس شورى القوانين سلطان البرلمان مع حقه في مراقبة أعمال الحكومة.
10- رغم مواقف اللورد كرومر من أزمة طابا، فإن حادثة دنشواي وتنامي المشاعر الوطنية كانت من أهم أسباب إقالة الرجل من منصبه.
كان الحراك السياسي، والحراك الاجتماعي - الثقافي من معين التيارات الفكرية الوطنية التحررية، وإن كان الحراك السياسي يتسم بالفاعلية والنشاط، فإنه على النقيض من الحراك الاجتماعي لأنه يواجه مشكلات شديدة التعقيد، إضافة إلى أنه يتسم بالبطئ الشديد، ويواجه بمقاومة عنيفة بسبب المتراكم العقائدي المغلوط والموروث الثقافي مع ضيق أفق الحياة الاجتماعية التي ترفض التغيير لما سيترتب عنه من تغير الأنساق الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى موقف سلطات الاحتلال لكل ما يتعارض مع مصالحها في مصر. كان الحراك الاجتماعي-الثقافي متمثلا في:
- الدعوة إلى التفكير الحر، وفتح باب الاجتهاد في المسائل الدينية.
- دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، وحقها في التعليم ورفع الحجاب والمشاركة في الحياة العامة.
- الدعوة إلى مراجعة النظم السياسية وكتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم".
- الدعوة إلى إنشاء جامعة مصرية أهلية.
- الدعوة إلى تعريب التعليم في مراحله المختلفة.
تلك بعض ملامح الحراك السياسي والحراك الاجتمااعي التي انعكست نتيجة حدة الصراح الذي احتدم بين الدولة العثمانية التي لها حق الملكية وبين سلطات الاحتلال البريطاني الذي يمثل السلطة الفعلية، والتي سرعان ما تحولت إلى تيارات فكرية ساعدت المجتمع المصري على التحول الجذري، وبالفعل أتت ثمارها.
لاشك في أن لأزمة طابا الأولى 1906 انعكاساتها على الحياة السياسية والقوى السياسية والاجتماعية في مصر، تلك الأزمة التي وضعت بذور نشوء القومية المصرية - دون العربية - والانتماء المصري والولاء الوحيد لمصر، أو بعبارة أخرى، تحديد الذات والهوية والشخصية المصرية بعيدا عن الهيمنة العثمانية التي سيطر عليها عامل الدين أو عامل الجامعة الدينية. أيضا للأزمة انعكاساتها في المجال الدولي، فقد كانت الأزمة احدى وسائل تكريس وتطبيق الاتفاق الودي الإنجليزي الفرنسي 1904، فقد كانت محك الاختبار لبيان صلاحيته، ومصداقية أطرافه، إضافة ألى قياس مدى المكاسب التي يمكن جنيها من تضامنها.
وانعكست الأزمة على العلاقات العثمانية-الألمانية، فلم تتمكن ألمانيا من مساندة الدولة العثمانية في مواجهة التحالف الفرنسي-الروسي، والاتفاق الفرنسي الإنجليزي، وهذا الموقف سيدفع تركيا للانضمام لدول الوسط "ألمانيا والنمسا" في مواجهة تكتل دول الوفاق عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى.
أيضا أوضحت أزمة طابا - دوليا - أن الدولة العثمانية التي تبدو متشددة، هي دولة ضعيفة في ذاتها، أشد ضعفا في مواجهة التحالفات الأوروبية، أن هذا الضعف الواضح والبادي للعيان، أثار الدولة البلقانية التي كانت لا تزال خاضعة للنفوذ العثماني لفتح باب الحروب البلقانية للتخلص من السيطرة العثمانية لاسترداد حريتها واستقلالها.
أي أن أزمة طابا الأولى 1906 كانت نموذجا لتعاون القوى الكبرى ضد الدولة العثمانية، وكانت بمثابة انكشاف لضعف هذه الدولة مما أدى إلى:
- الحروب البلقانية، أي تراجع النفوذ التركي من أوروبا.
- محاربة مشروع الجامعة الإسلامية لتفتيت الممتلكات التركية.
في حقيقة الأمر، فإن موقف بعض التيارات السياسية المصرية المؤيدة لمشروع الجامعة الإسلامية، وما بدا من أن الوطنيين المحليين يفضلون في البلاد الإسلامية التضحية ببلادهم وحقوقهم في أراضيهم، من الوقوف موقف العداء من دولة الخلافة الإسلامية، مما أظهر تلك الحركات أو التيارات السياسية الوطنية على أنها ليست حركات سياسية تحررية، إنما هي حركات دينية مبنية على الولاء الديني، مما سهل على الدول الاستعمارية (إنجلترا وفرنسا) ضرب الحركات الوطنية، وضرب فكرة الجامعة الإسلامية بحجة مقاومة التعصب الديني، وبنتا سياستهما في العالم العربي على هذا الأساس مما ثبت وقوى نفوذهما ووجودهما لفترة طويلة في المنطقة العربية.
وما يخص موضوع الدراسة، أنه نتيجة للحياة السياسية ودور القوى السياسية المصرية، إضافة إلى سياسة سلطات الاحتالال التحكمية، فإن الخط الفاصل الذي لم يرق إلى مرتبة حدود دولية بحكم وضعية مصر القانونية واستمرار تبعية مصر الاسمية للدولة العثمانية، قد أخذ يزداد صلادة حتى عام 1914، وتحول الخط إلى حدود دولية في شرق مصر بعد أعلان الحماية البريطانية عليها.
ورغم تحوطات الدولة العثمانية في استمرار تبعية مصر لها كاحدى ولاياتها بحق الملكية، فإن حكومة لندن كانت تتحين الفرصة الملائمة ل:
1- خلع الخديوي عباس من خديوية مصر.
2- الاستئثار بمصر كمستعمرة بريطانية.
3- شل فاعلية المندوب السامي التركي في مصر.
وبالفعل مع نشوب الحرب العالمية الأولى في يوليو 1914، وأثناء وجود الخديوي عباس الثاني في الأستانة لقضاء الصيف كعادته كل عام، فقد رفضت الحكومة البريطانية مساعدته في العودة إلى مصر، ونصحته بالاتجاه إلى بلد محايد وليكن إيطاليا. والواقع أن بريطانيا لم ترغب في مساعدة الخديوي في العودة إلى مصر لأنه لم يكن في توجهه السياسي بالنسبة لبريطانيا ما يشجعها على أجابة طلبه، خشيت أن يزداد مركزها حرجا في هذه الظروف خلال فترة الحرب، فقررت عزله وعينت بدلا منه السلطان حسين كامل في 19 ديسمبر 1914.
وقد عينت الحكومة البريطانية مندوبا بريطانيا ساميا وهو السير هنري مكماهون، وبدلت اسم الوكالة البريطانية بدار الحماية البريطانية، وقد طرح السيد ملن شيتهام نائب الحكومة البريطانية في القاهرة سياسة حكومة لندن في عهد مصر الجديد في ظل الحماية البريطانية من خلال بلاغ أرسله إلى البرنس حسين كامل. من تحليل مضمون هذا البلاغ يمكن تحديد التالي بالترتيب وفق ما جاء بالبلاغ:
1- أن نشوب الحرب ودخول تركيا إلى جانب دولتي الوسط، نتج عنه تغير في مركز مصر.
2- أن بريطانيا ودول الحلفاء حريصون على عدم انتهاك حقوق الدولة العثمانية. إلا أن تركيا أعلنت الحرب واجتازت الحدود المصرية، وهاجم الأسطول التركي الموانئ الروسية بقيادة ألمانية.
3- لدى حكومة لندن الادلة الكافية على أن الخديوي عباس قد انضم إلى أعداء بريطانيا منذ نشوب الحرب.
4- سقوط جميع حقوق سلطان تركيا والخديوي عباس على مصر، وآلت إلى البرنس حسين كامل الذي اعطته لقب سلطان مصر.
5- جيوش بريطانيا هي المعنية الوحيدة بمسئولية الدفاع عن مصر.
6- ضرورة تشكيل حكومة جديدة في ظل الوضعية الجديدة بعد استرداد حقوق السيادة وجميع الحقوق الاخرى.
7- أن خير وسيلة للدفاع عن مصر هو إعلان الحماية البريطانية، واعتبار مصر محمية بريطانية، ولكن سيظل حكم مصر في أسرة محمد علي.
8- أن بزوال السيادة العثمانية، تزول جميع القيود المفروضة بمقتضى الفرمانات والخاصة بعدد الجيش المصري، وحق السلطان في منح الرتب والنياشين.
9- إلغاء وزارة الخارجية المصرية، لأن دار الحماية البريطانية هي المعنية بشؤون العلاقات الدولية.
10- فيما يخص ادارة البلاد الداخلية، فإن التدرج في إشراك المحكومين في الحكم مشروط بمقدار ما تسمح به حالة الأمة من الرقي السياسي، وأن حكومة بريطانيا ترى أن تحديد مركزها في مصر سيؤدي إلى التقدم سريعا نحو الحكم الذاتي.
11- تؤكد على احترام العقائد الدينية ومذاهبها، مع التأكيد على أنه لا علاقة بين الروابط السياسية والروابط الدينية.
12- ضرورة اجراء اصلاحات لتهيئة المصريين لتسهيل مهمة قائد الجيوش البريطانية المكلف بحفظ الأمن داخل البلاد وبمنع كل عون للعدو.
هذا البلاغ يحتوي على أمور متعددة ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الأول يتناول تبريرا وتوضيحا لما طرأ على وضعية ومركز مصر. يوضح البيان أنه بسبب دخول تركيا الحرب في جانب ألمانيا، أي الجبهة المعادية لإنجلترا وحلفائها، وبسبب اجتياز القوات التركية الحدود الشرقية المصرية، والاعتداء عليها ودخول سيناء، لذا سقطت جميع حقوق تركيا في مصر.
وأيضاً بسبب الأدلة التي تؤكد انحياز الخديوي عباس إلى ألمانيا منذ نشوب الحرب، فقد سقط عنه حق حكم مصر وتم عزله، واستبداله بالبرنس حسين كامل، الذي منح لقب سلطان مصر. فقد رفضوا استخدام لقب خديوي باعتباره مسمى تركياً ويشير بشكل ما إلى الدولة العثمانية، لذا استبعدوا استخدام هذا المسمى لإزالة أي لبس أو أي شكل من أشكال الارتباط بالدولة العثمانية، وكذلك لم يخلعو عليه لقب ملك مصر، حتى لا يتساوى جلالة ملك مصر مع جلالة ملك بريطانيا العظمى. ولكن حافظت حكومة لنن على أن يكون الحكم من أمراء العائلة الخديوية طبقا للنظام الوراثي المعمول به.
أما القسم الثاني من البلاغ، فقد كان بهدف إعلان الحماية على مصر، أي أن مصر مستعمرة بريطانية، وأن القوات البريطانية لها لحق ومسئوله - وحدها - عن الدفاع عن أمن مصر. وكذلك معنى الحماية أن جميع الرعايا المصريين مشمولون بحماية حكومة ملك بريطانيا: لاشك في أن هذه العبارة الأخيرة هي من قبيل الأساليب الدبلوماسية الفارغة المضمون، وهو ما ستشهد به الأحداث حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
وأيضاً بتضمين هذا القسم، أن وكيل الحكومة البريطانية هو فقط المعني بالعلاقات الخارجية، وبالتالي لا داعي لوزارة الخارجية المصرية، فهناك الوكيل المعني بتمثيل مصر دولياً.
ويشير القسم الثاني من البلاغ، على ضرورة طرح ومناقشة المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية فيما بعد أن تضع الحرب أوزارها.
أما القسم الثالث، والقسم الذي يكمل الصورة الاستعمارية في أسوأ صورها، حيث تدعى أن بريطانيا وتقاليدها السياسية الراسخة وبالاتحاد مع حكومة مصر سوف تضمن الحرية الشخصية، وترقية التعليم، وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، واتقدم الوعد بالتدريج - فيما بعد - في إشراك الشعب في الحكم ولكن الامر مشروط بدرجة الرقي السياسي للشعب المصري حتى يكون قادرا على ادارة الحكم وصولا إلى الاهدف وهو الحكم الذاتي. أن صياغة البيان ليس بجديد على الدول الاستعمرياة، فهي وسيلتها كمحاولة لتبرير وجودها غير الشرعي، وسيلة قد يصدقها البعض لحين، ومن أسوأ الصياغات هي الوعد بمنح مصر الحكم الذاتي، رغم رؤيتها لنمو الحركة الوطنية، وتزايد مشاعر الوطنية، والمطالبة بالاستقلال التام، لم تكن تهدف إلى الوصول إلى الحكم الذاتي تحت اشراف هيمنة بريطانية، وإنما يريدون عودة الوطن إلى أهله الأصليين.
وفي إطار البلاغ، يؤكد ملن شتيهام أن حرية واحترام العقائد والمذاهب مكفولة، مع التأكيد على أن اخلاص المسلمين المصرييين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي تربط بين مصر والأستانة.
وكذلك يطلب البلاغ من سلطان مصر حسين كامل اجراء اصلاحات داخلية من شأنها تسهيل مهمة قائد الجيوش البريطانية، ومنع كل عون للعدو، كان المقصود بالعدو الأول تركيا حيث المشاعر الدينية التي تجذب المواطنين البسطاء.
والعدو الثاني ألمانيا والنمسا، حتى لا تنجذب إليها قوى سياسية مصرية مؤيدة لألمانيا باعتبارها الدولة القوية المنتصرة التي تجتاح أوروبا، مما يسبب بلبلة في الشأن الداخلي، ويفتت الجبهة المصرية باعتبارها محمية بريطانية لابد أن تلعب دور المؤيد والمساند والمعاون لها.
أي أن الأمر تراوح ما بين التهيئة الداخلية، وما بين التهديد وهو ما يعني أن الأمر يحتاج إلى اجراءات استثنائية وفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية وفرض الرقابة على المطبوعات، إضافة إلى اجراءات أمنية مشددة داخل البلاد.
تلك طبائع الأمور في حالة دولة مستعمرة من قرون عديدة، وتواجه مستعمراً جديدا يطمع في فرض سيطرته على البلاد ومقدراتها، ولكن يظل البلاغ هو الصيغة الاستعمارية بادعاءاتها، التي تكرر نفسها حتى يومنا هذا.
وأهم ما يخص موضوع الدراسة، أنه سقطت حقوق الدولة العلية في مصر، ولم يعد الخط الاداري الفاصل في إطارة حوزة الدولة العثمانية، ولكنه أصبح حداً دولياً، ويتأكد ذلك من خلال مجموعة اجراءات مهمة تمت فيما بين الحرب العالمية الأولى 1914-1918، ثم في فترة الانتداب على فلسطين 1923-1948، ثم فيما بعد 1948.
التطورات التاريخية اللاحقة بشأن الحد الفاصل
بعد الانتهاء من العمل الطبوجرافي الفني بوضع العلامة الأولى في 31 ديسمبر 1906 عند رأس طابا ووضع رقم 91، حتى بناء العلامة الأخيرة رقم 1 في فبراير 1907، فقد استمرت عملية المتابعة الفنية لتلك العلامات. ذكر باركر في تقريره الشهري عن نوفمبر 1908 المرسل إلى ادارة المخابرات في الخرطوم أنه وصلت تقارير تفيد بان عددا من العلامات بالقرب من رفح أصبحت غير ثابتة بسبب تحرك الرمل. وجاء في تقريره عن شهر مايو 1909، أنه تم عمل الترتيبات مع السلطات التركية، وأنه في نهاية أبريل 1909، كان أحد الضباط الأتراك موجودا للقيام باعادة بناء أو اصلاح ثماني علامات حدد ستا منها وهي العلامات من 8-13 القريبة من رفح. أرسل أيضاً - القنصل البريطاني في القدس في 26 مايو 1909 إلى وزارة الخارجية البريطانية تقريرا مماثلا، ومرة أخرى أرسل القنصل البريطاني في القدس في فبراير عام 1911 تقريرا يقول فيه: إن وفدا مشتركا من المصريين والأتراك كان موجودا في منطقة بير سبع أثناء اعادة بناء بعض علامات الحدود التي سقطت بين الأمطار الغزيرة في ذلك الموسم. أي أن هاك عمليتين مشتركتين بين السلطات المصرية والعثمانية لاصلاح المعلومات وذلك في اطار تثبيت قيمة وفاعلية الخط الفاصل بين مصر والممتلكات العثمانية ويعني ثبات هذا الخط الفاصل تطبيقا للمادتين الرابعة والخامسة من الاتفاقية.
ورافق العمل الطبوجرافي، رسم خرائط عامة تخص الخط الفاصل وتخص عموم شبه جزيرة سيناء. أصدرت مصلحة المساحة العمومية في مصر ست خرائط، أولاها تلك الصادرة عام 1906، بمقياس رسم كبير هو 1:4000 وهي خريطة موضوعة في أعقاب الاتفاقية وقبل بناء العلامات، وهي أكبر من خريطة اتفاقية 1906 بإثنى عشر ضعفاً، ثم خريطة الاتفاقية ذاتها عام 1906، ثم الخريطة الثالثة والصادرة عام 1911 بمقياس رسم 1:100000 والخريطة الرابعة صادرة عام 1926 بمقياس رسم 1: 100000 والخامسة بمقياس 1:10000 وصادرة بين عامي 1935 و1938 وتحدد فيها المعالم والاحداثياات الشبكية بالترقيم المصري، وهناك خريطة سادسة صادرة في تلك الفترة ولكنها بالترقيم الفلسطيني، فقد اختلف نظام الترقيم على كل من الجانب المصري عن الجانب الفلسطيني.
وقد ساهمت وشاركت وزارة الحربية البريطانية، وهي ثاني الجهات المعنية بسيناء وحدودها بعد المساحة العمومية المصرية، فقد اصدر القسم الجغرافي بهيئة الأركان في وزارة الحربية البريطانية خريطة صادرة عام 1907 عن كامل شبه جزيرة سيناء. وفي 16 مايو 1908 اقترحت وزارة الحربية البريطانية على كل الحكومة المصرية أن تتعاون الحكومتان في وضع خريطة لشبه جزيرة سيناء على أن تقوم ادارة المساحة المصرية بالأعمال الهندسية في حين تقوم فرق المهندسين الملكية لوزارة الحربية بعمل المسح التفصيلي، وتمت الموافقة على ذلك. واعتبارا من 1908 حتى 1914 عمل الفريق في الموقع اعدادا لتفاصيل الخرائط على أساس القياسات الهندسية لمصلحة المساحة المصرية التي انتهى العمل فيها في 1911، وبدأ العمل بالقرب من منطقة الحدود شمالا في عام 1911 وانتهى في منطقة طابا في 1914. هذه الخريطة تحمل عنوان "شبه جزيرة سيناء" بمقياس رسم 1:125.000، وتتكون من خمس لوحات تبين خطوط الحدود بأكمله.
كما أصدرت عام 1915 خريطة ثالثة تحت نفس العنوان "شبه جزيرة سيناء" (العقبة) أعهدا القسم الجغرافي بهيئة الأركان بوزارة الحربية البريطانية، ثم أصدرت خريطة عام 1943 تحت عنوان بمقياس رسم كبير 1:250.000، مما أظهرت بوضوح المعالم الجغرافية بوضوح.
إن لهذه الخرائط - الوثائق الناطقة بوضوح شديد - أهمية قصوى في تأكيد ثبات الخط الفاصل واستمراريته دون منازع عليه. وبالفعل فقد تلقى الصدر الأعظم تقريرا من المخابراات في 5 سباتمبر 1911، بشأن المسح التفصيلي الذي تقوم به ادارة المساحة المصرية بالتعاون مع وزارة الحربية البريطانية، يفيد بأن البريطانيين حفروا حفرة على الحدود وقاموا بعمل مسح، وأن أحد المندوبين الأتراك ادعى أن أحد البريطانيين نقل سرا بعض علامات الحدود. وفي الوقت نفسه طلبت السلطات المصرية السماح لرجال المساحة بالسير عبر الأراضي التركية لتيسير وتسهيل عملهم، ووافقت القدس على هذا الطلب. ولكن بناء على تقرير تلقاه الصدر الأعظم فقد قررت السلطات العثمانية في نهاية أكتوبر 1911، إرسال أحد الضباط الاتراك للتأكد من أنه لم يطرأ أي تغيير أو تعديل على خط الحدود.
ومن هذه الأهمية للوثائق الناطقة - الخرائط - أنه يمكن للحكومة المصرية إجراء مسح لشبه جزيرة سيناء دون عوائق أو موانع ادارية أو تنظيمية تمنعها أو تقيد عملها، ففي النصف الأخير من عام 1914 تقرر اجراء مسح تحت اشراف صندوق استكشاف فلسطين مع الجانب التركي للحدود في النقب، من رفح حتى البحر الميت وجنوب العقبة، وهذا الصندوق منظمة غير حكومية سبق لها الاشتراك في مسح المناطق الفلسطينية الشمالية. ترأس فريق العمل الكابتن نيو كومب وقد شارك سابقا في أعمال المسح من جانب وزارة الحربية البريطانية في سيناء، ولكن أثناء وجود فريق العمل في منطقة العقبة في فبراير 1915، رفض قائدها العثماني التصريح للفريق بمسح المنطقة على طول الحدود في منطقة العقبة. ولكن تم المسح التفصيلي لمنطقة جنوب الحد الشرقي المصري عام 1914 على الجانب المصري من الحدود. وفي أغسطس عام 1914 أقامت مصر في طابا ورأس النقب مراكز استخدمتها لمراقبة التطورات التي كانت تجري في العقبة حيث وردت التقارير بتحركات كبيرة للقوات التركية في المنطقة.
أيضاً بفضل الحد الفاصل الذي يزداد صلابة يوما بعد يوم، تمكنت الحكومة المصرية من ايفاد البعثات العلمية في ميدان الآثار والتاريخ والجيولوجيا والجغرافيا وفي مجالات الاستفادة من خيرات شبه جزيرة سيناء الطبيعية من معادن مهمة مثل النحاس والمنجنيز والكوبالت، وأحجار كريمة مثل الفيروز والشاذنج وغيرهم ولكن يظل السؤال المهم هو هل كان الحد الفاصل مجرد حد اداري تنظيمي بين الممتلكات العثمانية؟ أم هو حد فاصل له فاعلية الخط الحدودي الدولي؟ وكيفية تفعيل اتفاقية 1906 حتى ترتقي إلى مستوى الاتفاقية الدولية؟
كان المحط الحقيقي الأول لفاعلية الحد الفاصل هو موقف الحكومة المصرية والسلطات البريطانية في مصر من الصراح التركي الايطالي، والموقف الفعلي من الحرب الطرابلسية عام 1911.
في منتصف عام 1911 وفي اطار التنافس الأوروبي - الأوروبي، أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في برقة (بنغازي) وفي طرابلس الغرب، وهما ولايتان تركيتان تحكمهما السلطة العثمانية حكماً مباشراً.
ما هو موقف مصر من هذه الحرب، حيث إنها في نطاق السيادة التركية مع تمتعها بالاستقلال الداخلي؟
كانت الحكومة المصرية في موقف حرج وشديد الحساسية فهل تأخذ الجانب العثماني وتدفع بجيشها إلى جانب القوات التركية لتدعهما للدفاع عن هذا الجزء من الامبراطورية العثمانية؟ أم تقف على الحياد؟ أي لا تأييد أو تدعيم للجانب التركي، ولا تأخذ موقفا عدائياً من إيطاليا؟ هل تسمح الحكومة المصرية للقوات التركية عبور سيناء والساحل الشمالي المصري أم تمنع هذه القوات من استعمال واستغلال أراضيها بحجة الحياد حتى:
- لا تكون طرفا بين قوى كبرى تجارية.
- وحتى لا تتعرض لعمل عدائي من إيطاليا.
ولكن مصر مزالت تابعة اسمياً للسلطان العثماني، وبمقتضى هذه الوضعية هل لابد أن تفسح وتسمح للقوات التركية بالعبور دون المساس بمبدأ الحياد؟ أيضاً ما هو موقف السلطات البريطانية وهي محتلة مصر عسكرياً وسياسياً؟ فهل تسمح السلطة البريطانية للقوات التركية بعبور الأراضي المصرية وصولاً إلى برقة وطرابلس؟ أم تمنع تلك القوات مستفيدة من الحد الفاصل القائم على اتفاقية 1906 بمقتضى المادة السابعة التي تنص على "لا يؤذن للعساكر الشاهانية والجندرمة بالمرور إلى غرب الخط الفاصل وهم مسلحون". أيضاً ما هو موقف الرأي العام المصري؟
كان الأمر شديد الحساسية والتعقيدة بالنسبة للحكومة المصرية، التي أرتأت ترك ادارة هذه الأزمة برمتها للسلطات البريطانية ولممثلها في مصر اللورد كيتشنر الذي أدار هذه الأزمة بحزم ودبلوماسية هادئة فقد كان مدركاً بشكل واضح عدة حقائق منها:
1- تأثير الرباط الديني بين الشعوب العربية في ظل الولاء لدولة الخلافة الإسلامية.
2- وضحية مصر القانونية التي لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها.
3- حقيقة الصراع الإيطالي-التركي.
4- إعلان إيطاليا الحرب على تركيا، هو في جزء منه في صالح بريطانيا حيث يؤدي إلى تقويض الامبراطورية العثمانية المتهالكة.
5- النتائج المتوقعة من الحرب لصالح إيطاليا.
6- وجود إيطاليا، دولة محتلة عازلة بين:
أ- المستعمرات الإنجليزية، والمستعمرات الفرنسية.
ب- دولة عازلة باستعمار مختلف من الشعوب العربية.
7- ضعف إمكانية الجيش المصري الذي هو احتياطي لقوات الشرطة لغرض الأمن والنظام العام، وأيضاً هو جيش للتشريفات فقط.
8- المشاعر الوطنية والمشاعر الدينية التي تتحكم في الرأي العام المصري.
أدار كتشنر هذه الأزمة على محورين: "فالمحور الأول هو المشاعر الدينية وأعلن بصراحة للرأي العام المصري أن إيطاليا دولة معتدية على تريكا. لذا شارك في حركة لجمع التبرعات لتركيا. وإعانتها على نفقات الحرب. وكان أمراء البيت الحاكم قد قاموا بحركة كبيرة ونشطة في اقاليم مصر، مما شجع الشعب على المشاركة بسخاء، وبخاصة أن الحكومة المصرية لا تعارض، والأفارد يشجعون ويتبروع، والمعتمد البريطاني نفسه يشجع ويشترك. أي لقيت الدعوة قبولا شديداً لمعاونة دولة الخلافة الإسلامية.
أما المحور الثاني فلم يسمح اللورد كتشنر باشتراك الجيش المصري في هذه الحرب وهي ما يطلق عليها الحرب الطرابلسية. ولم يسمح بمرور الجيوش التركية من سيناء وعبور الأراضي المصرية، متعللا بأن مصر بلد مستقل داخلياً عن تركيا، وأن الاشتراك سوف يؤثر سلبا على استقلال مصر، وسوف تتضرر منه إنجلترا حيث لها مركز خاص بحكم الاحتلال. أيضاً رأى كتشنر أن مصر سوف تفقد مبدأ الحياد، وأن الاشتراك مع تركيا في الحرب بأي شكل من الأشكال ليس من ورائه مكاسب لصالح مصر.
وبذلك استطاع كتشنر أن يمتص المشاعر الدينية المؤيدة لمناصرة دولة الخلافة الإسلامية من خلال حملة جمع التبرعات، واستطاع تكريس اتفاقية 1906 وتفعيل المادة السابعة فاشتد الحد الفاصل صلابة وفاعلية.
لم يكن اللورد كتشنر المعتمد البريطاني صاحب هذه الرؤية والموقف فقط، وإنما هناك التيار الوطني التحرري الذي يؤمن بإيديولوجية تختلف عن إيديولوجية التيار الديني، وكان هذا التيار يدعو المصريين إلى التزام الحيااد المطلق في الحرب الإيطالية التركية، ويدعو أيضاً إلى جمع هذه التبرعات والأمال الطائلة لصالح مصر داخلياً بانشاء مرافق مصرية يستفيد منها الشعب المصري، بدالا من تبديدها في غير صالح مصر التي هي في أشد الحاجة إلى الاصلاح والتطوير. كان هذا التيار يؤمن بسياسة المنافع والمكاسب ولا يؤمن بسياسة العواطف والتشنجات التي لا طائل من ورائها، وكاان هذا التيار مؤمنا بالشعور القومي الوطني بعيداً عن الانتماءات الفضفاضة، والتي عفا عليها الزمن. إن من أهم مظاهر هذا التيار الوطني مقالات أحمد لطفي السيد "سياسة المنافع لا سياسة العواطف" ثم كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وإصلاح الحكم".
دور شبه جزيرة سيناء أثناء الحرب العالمية الأولى
كان للسياسة البريطانية تصوراه الاستراجيتي الكامل لامبراطورية ضخمة، وقد وضعتها من خلال عملية متواصلة على مراحل تتفاعل مع متغيرات دولية كانت من ضمن عناصر هذه الاستراتيجية مطالب السيطرة على طريق التجارة البحرية، ومطالب الصراع على البحر الأحمر والبحر المتوسط، ومطالب تأكيد مركزها المالي والتجاري الحاكم، وأيضاً تأمين خطوط المواصلات للامبراطورية إلى الهند. ولتحقيق المطلب الأخير، كان لابد من احتلال مصر لحماية طريق الهند المار من قناة السويس. ولما حققت ما تهدف إليه، وجهت جهودها نحو الدفاع عن قناة السويس وعن مصر، وقامت شبه جزيرة سيناء بدور أساسي في تاحقيق هذه السياسة وهو ما سبق عرضه في الفصول السابقة عن المواجهة المحتدمة بين بريطانيا وتركيا. وقد حسم الصراع لصالح بريطانيا.
مع بدايات القرن العشرين كانت هناك ظواهر سياسية تشير إلى تغير في موازين القوى الدولية، وتغير نمط التحالفات مما يؤدي إلى احتمال صدام كبير قادم. ففي عام 1904 توصلت بريطانيا وفرنسا إلى الوفاق الودي بينهما واستطاعت ألمانيا بناء قوة عسكرية ضخمة، ولذا سعت إلى بناء تحالفات عسكرية وسياسية جعلتها تسعى نحو تركيا التي كانت تشك كثيراً في نيات بريطانيا في المشرق العربي، رغم وعودها المتكررة بالجلاء عن مصر. في حقيقة الأمر، فإن بريطانيا كانت ترسخ وجودها السياسي والعسكري في مصر، وتحكم قبضتها على السودان، وتسعى سعياً دؤوباً وجاداً نحو بناء عشرات المستوطنات اليهودية في فلسطين. وكانت تركيا تخشى من عواقب الوفاق الودي على دمشق وولاية بيروت من النشاط الفرنسي تجاههما.
دفعت هذه الظواهر السياسية تركيا نحو التحالف مع ألمانيا، وذلك ما نشأ عنه خلل كبير وبخاصة أن ألمانيا تطالب باستحقاقااتها في توزيع المستعمرات.
دلت هذه الوقائع على أن أوروبا تقترب من حرب كبرى من أجل رسم خريطة جديدة لمواقف القوة والنفوذ، كما دلت على أن منطقة الشرق الأوسط هي أحد ميادين الصراع.
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، تأخرت تركيا عدة شهور قبل أن تقرر نهائياً دخولها إلى جانب ألمانيا. كان على الامبراطورية البريطانية - وهي الطرف الأقوى والأكبر في التحالف - أن تستعد سواء انحازت تركيا إلى ألمانيا ودخلت الحرب، أم امتنعت عن دخولها، ففي الحالتين كانت أملاك الخلافة العثمانية في المشرق العربي ارثاً حان استحقاقه مهما كان موقف تركيا.
كانت ادارة المخابرات السياسية البريطانية في القاهرة تعي حقيقة مهمة، وهي المكانة الخاصة لفكرة الخلافة والولاء لها، فقد التبس الفكر بسبب الاعتبار الديني من قبل الولاء للخليفة، مع الفعل وهو المطالبة بالاستقلال والتحرر، فلاشك في أن رد فعل الشعوب العربية الإسلامية سيكون مؤثراً إذا ما اعلن خليفة المسلمين الجهاد، وهي فريضة منوط بأدائها إذا ما تهدد المسلمين خطر أو واجهوا عدوانا.
عينت الادارة البريطانية السيد جون ماكسويل قائدا عاما لقوات الجيوش البريطانية في سبمبر 1914. وكان يرجح دخول تركيا إلى ألمانيا، وأن أول خطوة لها في ميدان الحرب سوف تكون هجوماً على فلسطين عبر شبه جزيرة سيناء للوصول إلى قناة السويس، مما يعني تهديد الوجود البريطاني في مصر، وبالتالي فإنه يرى ضرورة استباق خطوة الأتراك المحتملة والتقدم نحو العريش لمواجهة هجوم تركي، بعيداً عن قناة السويس، واستقر الأمر، باتخاذ قرار بالاستعداد الدفاعي يسمح له بحماية مصر وحماية قناة السويس.
قسمت القيادة العسكرية البريطانية دفاعات قناة السويس إلى أربعة محاور.
المحور الأول: القطاع الشمالي الموازي للبحر المتوسط، الكوبري-جنيفة.
المحور الثاني: الدفرسوار-سرابيوم.
المحور الثالث: المعدية-الفردان-البلاح
المحور الرابع: القنطرة وملاحات بورسعيد.
كانت خطة القيادة العسكرية البريطانية هي انهاك القوات التركية في الصحراء والاحتماء بالحاجز المائي - قناة السويس - لحين الهجوم المضاد.
في 28 سبتمبر 1914 قامت القوات العثمانية بهجوم مفاجئ على الموانئ الروسية في البحر الأسود ، وفي 31 أكتوبر 1914 أعلنت دول الوفاق بمن فيها بريطانيا، الحرب على الدولة العثمانية. رأت ألمانيا والدولة العثمانية ضرورة تهديد بريطانيا عن طريق الحدود المصرية سواء الشرقية للوصول إلى قناة السويس، ومن ثم استعادة أملاكها التي لم تجل عنها سلطات الاحتلال البريطاني رغم الوعود المتكررة بالجلاء والرحيل، أو من الحدود الغربية بالتحالف مع السنوسي، ومن الحدود الجنوبية بالتحالف مع سلطان دارفور علي بن دينار مع إثارة دسائس وقلاقل داخل مصر، والهدف تشتيت المواجهة العسكرية البريطانية في مصر، وبالتالي فإن فرص تحقيق نصر قد تكون أكيدة، وأيضاً لتخفيف وطأة الحرب في الدردنيل.
وبالفعل تمكن السنوسي بعد أن حصل على السلاح والمال من مهاجمة معسكر الاستراليين، والاغارة على الفيوم وقطع خطوط السكك الحديدية. وحشدت القوات البريطانية جيشها عند مرسى مطروح في 7 ديسمبر 1915 وهاجمت قوات السنوسي وانتصرت عليها، وتراجعت قوات السنوسي، إلا أنهم هاجموا مصر عبر حدودها ثانية واحتلوا الواحات البحرية، سيوة، الفرافرة، والداخلة والخارجة. ولكن استردتها القوات البريطانية. أما عن الحدود الجنوبية، فقد نجحت ألمانيا في اثارة سلطان دارفور علي بن دينار الذي أعلن الجهاد واتجه نحو الخرطوم، ولكن القوات البريطانية تمكنت من هزيمته في 22 مايو 1917.
أما الحدود الشرقية المصرية فقد كانت شبه جزيرة سيناء مسرحاً للمعارك القاسية للدفاع عن مصر، ففي 25 نوفمبر 1914 حدث أول اشتباك في سيناء في منطقة بين بير النصف وقطية التي تبعد 43 كيلو مترا شرق القنطرة. الاشتباكات بين قوة مصرية من الهجانة يقودها الكابتن تشوب والملازمة أول محمد أنيس وبين قوة من الهجانة التابعة للجيش التركي، وقضت عليها القوة المصرية، وأثناء التقدم نحو قطية اشتبكت مع فرسان من القوات التركية، فانسحبت القوة المصرية.
قررت القيادة العسكرية البريطانية الاستعداد لمواجهة تركية-بريطانية قادمة، وأن يكون خط قناة السويس هو خط الدفاع الأمثل.
معركة القناة في 3 فبراير 1915
اتخذ القائد التركي جمال باشا طرفا داخليا في قلب شبه جزيرة سيناء تفاديا لبحرية قوات الحلفاء، واتخذ طريق القدس-بئر سبع، وجعل بئر سبع مركز الحملة على مصر، وهناك قسم جيشه على ثلاثة محاور:
1- المحور الأول من المتطوعين السوريين والبدو لاحتلال العريش-قطية لمهاجمة القناة عند كوبري القنطرة.
2- المحور الثاني من المتطوعين عرب الحجاز، وفرق من الشام والمركز نخل في اتجاه السويس لمهاجمة القناة عند كوبري السويس.
3- المحور الثالث يقودها جمال باشا مع جيش كبير في اتجاه طريق الإسماعيلية لمهاجمة القناة عند كوبري الإسماعيلية مارا على: بئر السبع، الخلصة، العوجة، الروافعة، جبل لبني، الجفاجفة، فالخبرة شمال جبل أم خشيب.
وعند وصول القائد العثماني إلى الخبرة قسم جيشه إلى قسمين، قسم متجه نحو بئر المحدث لمهاجمة الإسماعيلية عند الكوبري، والقسم الآخر وهو الأكبر إلى كثيب النصارى في اتجاه سرابيوم والدفرسوار. هذا وفي أثناء زحفه على الإسمايعلية، زحف الجيش الذي أرسله بطريق العريش لمهاجمة القناة عند القنطرة، والجيش الذي أرسله بطريق نخل لمهاجمة قناة السويس، فهاجم القناة من القنطرة والإسمايعلية وسرابيوم والدفرسوار والسويس في وقت واحد.
في يناير 1915 وصلت القوات العثمانية إلى ضفة القناة، وحاولت العبور في الليل بين 2 و3 فبراير، إلا أن القوات المصرية - البريطانية صدت هذا الهجوم.
كانت القيادة العسكرية البريطانية على أهبة الاستعداد لصد الهجوم العسكري التركي - الألماني على مصر، فقد أمرت باخلاء سيناء لتستفيد من صحراء سيناء كحاجز قاسي يصعب اجتيازه بسهولة حيث:
1- بعد القوات التركية عن المركز القيادي ومركز الامداد والتموين.
2- طول وصعوبة الطريق في سيناء مما ينهك القوات.
3- صعوبة حمل المعدات العسكرية، والأسلحة والذخيرة والمؤن والمواد الأساسية للاعاشة، لمسافات كبيرة وصعبة الاجتياز.
كما أمرت باغراق الأراضي بمياه البحر قبالة بورسعيد على طول 45 كيلو متر، وحفرت الخنادق على ضفة القناة الشرقية من القنطرة في اتجاه الجنوب وعززت المواقع بقوات كبيرة، وحفرت الخنادق على ضفة القناة الغبية وعززت المواقع بخمسين ألف جندي، وحشدت 40 ألف جندي في الزقازيق، وكل هذا تحميه من الأمام متاريس متينة وأسلاك من الحديد على طول القناة من بورسعيد إلى بورتوفيق. وعضدت الجيوش ببعض المدرعات الحربية في بحيرة التمساح، وقطارات سكة حديد تمر من بورسعيد والسويس، واستعانت بالطائرات الاستطلاعية لكشف تحركات القوات التركية وللانذار المبكر.
وبذلك أصبحت مصر، وفيما يخص الدراسة، أصبحت مدينة بورسعيد والإسماعيلية والسويس مناطق حرب، ووضعت تحت الحكم العسكري، وكانت قناة السويس خط مواصلات الحلفاء، والإسماعيلية والقنطرة قواعد عسكرية للقوات البريطانية كخلفية استراتيجية لتحرير شبه جزيرة سيناء.
بدأت مشاة القوات العثمانية مهاجمة نقطتي الدفرسوار (طوسون) وسرابيوم فجر 3 فبراير سعياً إلى اجتياز قناة السويس على كباري نقالة تحت حماية نيران مدافع مكسيم. واجهتها المدفعية البريطانية بالتعاون مع قطع الأسطول الراسية في مياه قناة السويس، واضطرت القوات التركية إلى الانسحاب في الساعة الثالثة ظهراً، وأسرت عددا كيرا من الضباط والجنود الأتراك فضلا عن عدد القتلى. كان يقود القوة المصرية الأميرالاي أحمد حلمي، الذي ترك الجيش التركي يقترب منه حتى يكون في مرماه، وترك القوة التركية تنزل زورقين في القناة، ثم هاجم القائد وتمكن من هدم الكوبري، وضحى بنفسه ومات في هذه المعركة بعد أن أدى دوره الوطني. كان أشد هجوم للقوات العثمانية في سرابيوم، فقد وجهت نيرانها الكثيفة على مواقع القوات الوطنية والمدرعات في بحيرة التمساح، ونجحوا في اصابة السفينة هاردنج بقنبلتين ولكن ردت عليهم القوات البريطانية بعنف مما أجبرهم على الانسحاب والتقهقر. وأوقف الهجوم التركي إلى شهر أغسطس عام 1916 قاست القوات التركية الشدائد في اختراق شبه جزيرة سيناء، ولاقت مقاومة كبيرة واستعدادات ميدانية هائلة، لذلك قرر جمال باشا عدم معاودة مهاجمة القناة مرة أخرى إلا إذا أعد حملة قوية مجهزة بالمعدات والمدافع والعدد الكافي من الاتراك والألمان بعد مد سكة حديد بقدر المستطاع في الصحراء.
وأعقبت ذلك معركة الطور، فقد حدث في شهر يناير 1915 أن وصل جيش جمال باشا - القائد العسكري التركي - إلى نحل بقوة حوالي 70 رجلا لحصار مدينة الطور، بقيادة ضابط ألماني "جورج قندس" ومعه البكباشي حسين فوزي من ليبيا - مدينة بني غازي. غير أنه عند وصوولهم الطور، وجدوا أن بها حامية تتألف من مائتي جندي وأنه ليس من السهل الاستيلاء عليها. فأرسلت تطلب امداداً من الأفراد والماء والعون. وعندما علمت القوة المصرية المرابطة بوصولهم هاجمت القوة العثمانية وفاجأتهم بالقتال وهزمتهم. كانت القوة المصرية تحت قيادة اليوزباشي مصطفى حلمي، وضباط آخرين مصريين وقوة قدرت بحوالي مائة وخمسين رجلاً.
تغيير وضع مصر السياسي
بإعلان بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية في 31 أكتاوبر 1914، رأت ضرورة السيطرة التامة على مصر والقضاء على التبعية الاسمية لها خاصة وهي تعلم جيداً أن الهدف هو استعادة الدولة العثمانية لسيطرتها الفعلية على مصر. وفي النصف الأول من سبتمبر 1914 كان الجيش العثماني على أهبة الاستعداد على الحدود الشرقية المصرية لاختلاق سيناء لاستعادة مصر. عملت بريطانيا منذ اليوم الأول لنشوب الحرب معها على جعل مصر أشبه بمستعمرة انجليزية، فأرسلت الحاميات العسكرية إلى الإسكندرية وضواحيها لحفر الخنادق واقامة التحصينات على السواحل المصرية عامة، ووزعت الجنود الإنجليزي لمراقبة الحدود المصرية، وكانت الأهم هي الحدود المصرية الشرقية. كما أصدرت الأوامر للأسطول البحري البريطاني في البحر المتوسط بالاقتراب من الساحل الشمالي المصري.
رغم ذلك، أعلنت مصر حيادها، وأصدر رشدي باشا رئيس الوزراء والقائم قام الخديوي بتعليماته بمراعاة حياد الموانئ المصرية لضمان حياد قناة السويس، وكان الرجل يرغب في استمرار حياد مصر حتاى لا يزج بمصر والشعب المصري في أتون حرب لا صالح لمصر فيها ولا مكاسب منها. ولكن مبدأ حياد مصر صنع إشكالية معقدة حيث كيف تكون مصر دولة محايدة تجاه أطراف الحرب الاوروبية - الاوروبية وهي في ذات الوقت هي أشبه بمستعمرة بريطانية يتدفق عليها جنود الامبراطورية البريطانية، وينتشرون في أرجائها، ولسلطات الاحتلال اليد الثقيلة في البلاد؟
لم يستطع رشدي باشا الاستمرار على مبدأ حياد مصر طويلا، فقد وضع على عاتقه مسئولية جسيمة مترتبة على قيامه بالحكم بالنيابة من الخديوي عباس الثاني وفي ظروف داخلية ودولية شديدة الخطورة والتعقيد.
لماذا؟
- لأن بالفعل مصر محتلة عسكريا وسياسيا منذ 1882.
- الاحتفاظ بوضعية خاصة، تمكن مصر من المطالبة بالجلاء أو الاستقلال الذاتي أو طلب عقد اتفاقية دفاعية هجومية مع الامبراطورية البريطانية.
- أراد أن ينجو بمصر من تغيير وضعية حالتها السياسية من ولاية تاابعة للدولة العثمانية إلى مستعمرة بريطانية تضم إلى الامبراطورية.
- مصر في أضعف حالاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية.
- القوى الأوروبية في أزمة حرب كبرى، وأن أية مناورة قد تودي بمستقبل مصر.
- لم يكن الرجل نفسه من أولى العزم والقوة والصلابة لتوظيف الفرصة لتحقيق مكاسب وطنية لمصر.
- ربما رأى رشدي باشا أن تعارض المصالح المصرية البريطانية ليس في مصلحة مصر، وإنما تواؤم المصالح، قد يمنح مصر فرصاَ أفضل.
جندت السلطات البريطانية في مصر بعض الصحف المصرية لتقوم بحملة عائية ضد حياد مصر وضرورة دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء. وقد مارس المندوب السامي في مصر ضغوطاً هائلة، وانتهى الأمر بتوقيع قرار في 5 أغسطس الذي أخرج مصر من حيدتها إلى جانب الحلفاء، وبذا أصبحت مصر رهن إشارة إنجلتراة كحليف حرب وكجزء من امبراطوريتها. وبذا أيضاً دخلت مصر الحرب مجاناً دون وعود لتحقيق مكاسب لمصر ولو في حدها الأدنى، أو دون وضع شروط أو حيازة وعود بالتعويضات المناسبة.
كما عطلت سلطة الاحتلال الهيئة النيابية خشية ظهور أحداث معارضة لها تجاه اجراءاتها التعسفية، وتجاه ما فرضته على مصر وكأناه قاعدة عسكرية بريطانية، فرأت إسكاتها نهائياً حتى نهاية الحرب. وكذلك فرضت الرقابة على المنشورات والبرقيات والرسائل، كما فرضت رقابة صارمة على الصحف، وعطل بعض منها، وظهرت بعض الصحف بفراغات بيضاء وهو ما يعني حذف الرقابة لها.
ولم تكتف بتكميم الأفواه بل أصدرت قانون التجمهر في 18 أكتوبر 1914، لمنع أي تجمع أو اجتماع، وخولت لرجال السلطة تفريق أي تجمع من خمسة أشخاص على الأقل في طريق عام أو محل عمومي، ومن لا يمتثل يتعرض للعقوبة. كما أعلنت الأحكام الرعفية في البلاد اعتباراً من 1 نوفمبر 1914.
بعد قرار 5 أغسطس 1914، وبع تلك الإجراءات، كان لابد من تغيير وضع مصر السياسي، لذا تلقى شيتهام نائب المعتمد البريطاني في مصر من السيد إدوارد جراي وزير الخارجية البريطاني في 27 سبتمبر 1914 برقية يبلغه فيها:
- انهاء السيادة العثمانية على مصر.
- وضع مصر تحت الحماية البريطانية في حالة اشتراك تركيا في الحرب.
- ضرورة عزل الخديوي عباس الثاني، وتعيين الأمير حسين كامل.
فمنذ بداية الحرب واجهت بريطانيا مشكلة الوضع الدولي لمصر، فكان لزاماً عليها أن تجعل تواجدها في مصر ذا صفة شرعية حيث من المنظور القانوني لا صفة تبرر تواجدها واحتلالها لمصر، كما أنه لم يكن هناك اتفاق أو معاهدة بين بريطانيا ومصر يعطي للقنصل البريطاني والموظفين المنتشرين في الدواوين الحكومية، أو التواجد العسكري الكثيف صفة أو سلطات في الدستور أو القانون. لذا فرضت الحماية البريطانية على مصر في 19 ديسمبر 1914 بعد جدل احتدم بين الادارة البريطانية ونائب المعتمد البريطاني في مصر حول اختيار فرض الحماية أم ضم مصر للامبراطورية البريطانية. رأى شيتهام أن الحماية أخف وطأة من الضم لأسباب جميعها تتعلق بمصالح بريطانيا، ومنها:
- مواصلة اتباع سياسة كرومر إلى إبقاء الحكم في أيدي المصريين ومن ورائهم الإنجليز.
- عدم إثارة رجال الدين ومن ورائهم الشعب في حالة رفع العلم البريطاني على مصر.
- فرض حاكم بريطاني يتعارض تماماً مع العزة الوطني لدى المصريين من أن حاكمهم وطني مستقل، وهو ما سيؤدي إلى انتشار الاضطرابات واختلال الأمن الداخلي.
- الحماية أقل تكلفة في عدد البريطانيين المتواجدين في مصر، إضافة إلى أن زيادة عددهم في الوظائف الحكومية سيؤدي إلى خلل اجتماعي واقتصادي.
- تبدو الحماية وكأنها خطوة في سبيل الحكم الذاتي لتسهيل تعاون المصريين مع بريطانيا، وخاصة أنها في حاجة ماسة إلى جهود وأموال وأراضي المصريين.
- الحماية نظام يحافظ على الشكل الظاهري لنظام الحكم في مصر، وخاصة أن الخطوة شديدة الخطورة من التحول من الخلافة الإسلامية إلى التاج الامبراطوري البريطاني.
- نظام الحماية يحافظ على هوية مصر وهوية المواطنين، والخشية من تحولهم إلى نظام الضم إلى رعايا بريطانيين وهو ما سيؤدي حتماً إلى قلاقل وخلل شديدين في الأمن الداخلي لا يمكن احتواؤه.
- الحماية أفضل - من المنظور البريطاني - خشية أثره في البلاد العربية التي بدأت في التمرد والوقوف ضد دولة الخلافة.
وقد عينت الحكومة البريطانية معتمداً بريطانياً سامياً لمصر وهو السيد هنري مكماهون، وبدلت اسم الوكالة البريطانية إلى دار الحماية البريطانية وتفاوضت دار الحماية مع الأمير حسين كامل، وأعلن سلطاناً على مصر في 20 ديسمبر 1914.
دور المصريين في شبه جزيرة سيناء أثناء الحرب العالمية الأولى
دفع الشعب المصري الثمن غالياً لقرار 5 أغسطس 1914، ونتيجة لقرار فرض الحماية البريطانية في 18 ديسمبر 1914. استغلت بريطانيا موقع مصر، وما لبثت أن تعدت هذا الاستغلال بالسيطرة على المصريين أي خيرة شبابها وساعدها في النمو الاقتصادي لخدمتها ولخدمة الحلفاء. وقد ساهمت مصر بمجهود حربي كبير في هذه الحرب ليس على أرض مصر في جبهتها الشرقية فقط، وإنما أيضاً على الحدود الغربية، وعلى الحدود الجنوبية، بل وصولا إلى ميادين القتال في فرنسا، والدردنيل، وجاليبولي، وشبه الجزيرة العربية والعراق.
بدأ استغلال بريطانيا للجيش المصري، وقد حسبته من قوة الجيش البريطاني على القناة، كما تم استدعاء الجنود الاحتياط للانضمام إلى الجيش المصري العام. كما استعانت القيادة العامة البريطانية بالقاهرة بالفلاحين والعمال، ونظمتهم في فيالق عمال تعتمد على العمل اليدوي والبندي لتعبيد الطرق، ومدن السكك الحديدية، وحفر الآبار وحفر الخنادق، ومد أنابيب المياه. كما استعانت أو على الأصح سخرتهم لإقامة التحصينات ونقل المعدات والمهمات والذخائر. كذلك سخرتهم كفيالق الجمالة لنقل المهمات من نهاية السكك الحديدية إلى الخطوط الأمامية.
منذ أواخر 1915، والعمال المصريون مسخرون في مضاعفة الخط الحديدي الممتد من الزقازيق-الإسماعيلية لتسهيل نقل القوات البريطانية والعتاد الحربي إلى منطقة القناة، واتسع نطاق عملهم في رصف الطرق في الأراضي الصحراوية على الجانب الشرقي لقناة السويس، وعبدوا الطرق وبنوا الخزانات، وأقاموا مخازن الأسلحة والذخيرة، وأقاموا خطوط البرق والتليفون وأنشأوا التحصينات، أي أعدوا أرض المعركة وجهزوها لتسير القوات الامبراطورية، وكان لهم الأجر الزهيد والنصيب الأوفر من القهر والسخرة.
في نهاية عام 1916، كانت قد تمت الاستعدادات الكاملة للهجوم على الجيش التركي الرابض على الضفة الشرقية لقناة السويس. ونجحت القوات البريطانية ومعها الجيش المصري وأمامهم فيالق العمال والفلاحين في استرداد سيناء ودخلت فعلاً إلى رفح عقب تقهقر القوات التركية عن القناة، واصلت القوات المدافعة خطواتها من سيناء، يسبقهم العمال المصريون والرديف المصري لتمهيد الطرق حتى أصبحت صالحة لسير المعدات العسكرية، وأمدوا سيناء بأنبوب مياه مأخوذ من ترعة الإسماعيلية، وأنشأوا خط سكة حديد يبدأ من قناة السويس محاذياً خط سير الجيش البريطانية لتموينه وتسهيل نقل قواته، واستطاع المصريون ترويض الصحراء القاسية في روف قاسية ونجموا بجدارة.
كان لهذا الدعم البشري المصري الهائل الذي قدم للمجهود الحربي البريطاني أثره الايجابي والفعال في تمكين القوات البريطانية في اختراق شبه جزيرة سيناء حتى وصل إلى سوريا وفلسطين. وكان يقدر عدد المصريين الذين شاركوا - كرها - في حرب هم ليسوا طرفاً فيها، فرضت عليهم وعلى أراضيهم - بحوالي مليون مصري. شارك الجيش المصري والعمال والفلاحون المصريون في الحرب على أرض سيناء، وشهد لهم الكتاب العسكريون، والمسئولون السياسيون بالشجاعة والاخلاص والقدرة على الانجاز في أصعب الظروف. لم تقدم الحكومة المصرية دعما بشرياً فقط، وإنما قدمت دعماً مالياً ضخماً على نفقة الحكومة المصرية رغم أن مفهوم الحماية في القانون الدولي هو أن تتعهد وتتكفل الدولة الحامية بالدفاع عن البلاد دون أن تحمل البلاد المحمية أية أعباء أو نفقات أو طلب مساعدات. وهو ما سارت على خلافه تماماً الامبراطورية البريطانية في مصر. والأكثر ايلاماً، أن هذا العمل العظيم الذي قدمه شعب مصر وقام به خيرة رجال مصر من العمال والفلاحين والجنود الرديف ورجال الجيش المصري، عبر شبه جزيرة سيناء، لم يحملهم على الاعتراف بالجميل وتحقيق مطالب مصر في التحرر والاستقلال، وإنما ألقت بريطانيا بهذه المساهمات المصرية الكبيرة في جب النسيان. واشتدت وطأة النفوذ البريطاني على البلاد تحت نظام الحماية المخزي.
كان من نتائج الحرب العالمية الأولى أن أعلن الانتداب البريطاني على فلسطين في 6 يوليو 1921، وبدأ تنفيذه في 29 سبتمبر 1923 بعد أن دخلتها واستقرت بها قوات اللنبي، فأصبح النفوذ البريطاني يمتد على مصر من أقصى نقطة لهاا على الحدود الغربية حتى آخر نقطة حدودية مصرية وامتد ليشمل فلسطين القطر المجاور والملاصق للحد الشرقي المصري.
والسؤال هل تأثر الحد الفاصل على إثر الحرب العالمية الأولى؟
لاشك في أن شبه جزيرة سيناء لعبت دورا استراتيجيا ومحوريا لحسم المعارك الأخيرة بين دول وسط أوروبا ودول الخلفاء. وكانت شبه جزيرة سيناء هي أهم المحطات العسكرية لإرث الممتلكات العثمانية في المشرق العربي.
فبداية، نظرا لاتساع شبه جزيرة سيناء ووعورة أراضيها وصعوبة اختراقها، رأت القيادة العسكرية البريطانية في بداية 1915 ضرورة اخلاء شبه جزيرة سيناء مؤقتا، وتركت القوات التركية تحتل معظم سيناء وظلت بها حتى الاستيلاء على العريش في ديسمبر 1916. أرادت القيادة العسكرية البريطانية أن تاجعل من قناة السويس حاجزاً مائياً يصعب اجتيازه، كما أرادت أن تكون الصحراء القاسية ضد القوات التركية، وبالفعل فإن الجنود الأتراك عانوا أشد المعاناة من صعوبة قسوة الصحراء التي انهكت القوات التركية إضافة إلى بعد مراكز القيادة ومراكز التموين والامداد، أي أن شبه جزيرة سيناء في هذه المعركة حاربت لصالح القوات البريطانية.
ثانياً رأت القيادة العسكرية البريطانية، أنه بعد أن يحسم الوضع العسكري بين الدول المتحاربة، يتم التفرغ للقوات التركية، وثالثا: عند بدء المعارك لطرد القوات التركية-الألمانية، لابد من اعداد التجهيزات الأساسية، فتكون فيالق العمال والهجانة والجنود المصريين، قد أعدوا ساحة القتال تماماً مثل بناء الحصون والاستحكامات العسكرية، وبناء مخازن للأسلحة والذخيرة، وبناء مخازن للمؤن، ومد أنابيب المياه وخلافه كثير.
أي تمهيد الميدان تمهيداً لادارة معارك مضمون الانتصار بها ومحسومة النتائج، إضافة إلى ماسبق، فإن شبه جزيرة سيناء كانت محطة انذار مبكر، ومركز مراقبة نشط يرصد التحركات العسكرية التركية، حيث أقامت القيادة العسكرية البريطانية في 14 أغسطس 1914، مراكز رصد ومراقبة في أقصى جنوب الحد الشرقي وبالتحديد في طابا ورأس النقب، حيث قدمت تلك المراكز تقارير بتحركات القوات التركية، مما ساعد بريطانيا على اتخاذ قرارات في صالحها، حيث أعلنت الأحكام العرفية في مصر وأعلنت شبه جزيرة سيناء، هي أرض العبور التي تقدمت عليها القوات المتحالفة نحو فلسطين في أواخر عام 1917، وذلك بعد أن سقطت العقبة في يوليو 1917 في يد عرب الحجاز. وبذلك احتلت القوات البريطانية بعد الحرب جانبي الخط الفاصل ولم يتمكن الأتراك من العودة. وبمقتضى معاهدة لوزان الموقعة في 24 يوليو 1923، والتي نسخت معاهدة فرساي التي وقعت في 28 يونيو 1919، والتي لم تدخل في حيز التنفيذ، تنازلت تركيا عن كل حقوقها وأسانيدها على جميع الأقاليم التي تقع خارج الحدود التركية وفق ما جاء بالاتفاقية، وأعلن أن هذا أصبح ساري المفعول بالنسبة لمصر والسودان اعتباراً من 5 نوفمبر 1914، وهو التاريخ الذي أعلنت فيه بريطانيا الأحكام العرفية في مصر.
كانت شبه جزيرة سيناء في الاستراتيجية البريطانية بين الحربين هي أرض العبور إلى فلسطين، وأداة الوصل والتواصل الجغرافي والعسكري الممتد من مصر إلى فلسطي، وأصبحت شبه جزيرة سيناء أي مصر بأكملها من المنظور السياسي - آمنة من أية تهديدات خارجية. أما التهديد الذي يؤرق بريطانيا فقد كان داخلياً، فقد قامت ثورة 1919، وسعت مصر للحصول على استقلالها من الحكم البريطاني بعد الحرب، وكانت الحجة البريطانية هي حماية قناة السويس، حتى قامت بريطانيا بانهاء نظام الحماية على مصر واعترفت لها بالاستقلال في 28 فبراير 1922، إلا أنها احتفظت لنفسها بأربعة بنود تتصل بمصالحها وهي الدفاع عن مصر، تأمين خطوط المواصلات، حماية الأقليات والأجانب، والسودان. كان البند الأول والثاني يعني حماية قناة السويس، وخلفيتها العسكرية شبه جزيرة سيناء.
أيضاً هناك أمر مهم، وقد سبق ذكره وهي أن الاستعدادات العسكرية استلزمت انشاء خط للسكك الحديدية امتد من منطقة قناة السويس إلى فلسطين، وعلى إثر الحرب كان هذا الخط يربط بين القنطرة وحيفا، والأمر المستغرب وهو أن الخط الممتد من القنطرة إلى رفح على حدود مصر الشرقية ظل ملكاً لحكومة فلسطين رغم وقوعه في الأراضي المصرية، وتم انشاؤه بأيد وأموال ومستلزمات الخط الحديدي من خطوط حديدية، والعربات والقطارت كلها مصرية.
كان من المفترض أن يرجع الخط لمصر، ولكن السلطات البريطانية تنازلت عنه لسلطة الانتداب في فلسطين، ولم تنتبه لذلك الحكومات المصرية لانشغالها بقضيتها الرئيسية وهي التحرر والاستقلال. أن لهذا الخط الحديدي أهمية كبيرة، حيث هو الخط الوحيد الذي يخترق شبه جزيرة سيناء، وله أهمية استراتيجية مهمة، حيث إن المطالبة بالاستقلال قد تنجح، وتطرد القوات المحتلة من مصر، لذا فقد تم التنازل عنه لسلطة الانتداب البريطاني في فلسطين حتى يكون كأداة استراتيجية هامة ضد مصر في حال نجاح مساعيها في الحصول على الاستقلال الوطني وطرد المستعمر البريطاني منها. ولتأكيد سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين، ولتأكيد عملية التنازل الفعلي عن الخط، فقد فرضت على المصريين المسافرين إلى العريش أو رفح أن يقدموا إلى السلطات الفلسطينية جوازات سفرهم لا على حدود مصر-فلسطين وإنما على حدود الدلتا في القنطرة. معنى هذا أن بريطانيا أرادت ربط مصير شبه جزيرة سيناء في مصر بفلسطين، وأن تكون شبه الجزيرة منطقة عازلة يمتد فيها النفوذ البريطاني لا من مصر المنادية بالاستقلال بل من فلسطين التي دخلت منطقة الانتداب البريطاني بعد مصادقة مجلس عصبة الأمم على ذلك في 24 يوليو 1922.
ولكن ظل الحد الفاصل بين مصر وفلسطين مصاناً ولم يمس، حيث اتصف هذا الخط بالقدسية ليس على امتداد سنوات الحرب العالمية الأولى، وانما منذ أن تم بناؤه عام 1906، فرغم امتداد الوجود العسكري البريطاني على مصر وفلسطين، إلا أنه في عام 1926 طلب المندوب السامي البريطاني في القاهرة اللورد لويد من رئيس الوزراء المصري أحمد زيور باشا، الاعتراف بالوضع الجديد للانتداب في كل من فلسطين والعراق، ومقابل هذا الاعتراف هو معاملة تفضيلية لأبناء مصر. ربط زيور باشا استجابته بالمطلب البريطاني بموافقة حكومة لندن على أن الحدود بين مصر وفلسطين لن تتأثر بتعيين حدود فلسطين من خلال مكاتبة من وزير الخارجية البريطانية في 25 يوليو 1926 إلى عبد الخالق باشا ثروت وزير خارجية مصر وهو ما يعتبر اعترافا بالحد الفاصل الدولي، وذلك ما يعني بوضوح بقدسية الحد الشرقي المصري وتمسك مصر بعدم المساس بحدودها تحت كل أنواع الضغوط أو المطالب العسكرية. كان موقف حكومات مصر هو أن الحدود الثابتة غير قابلة للتعديل، ولا تتأثر بأي مستجدات على الساحة السايسية أو الساحة العسكرية.
ولتأكيد ما سبق فعلياً فإن التقرير الذي قدمته بريطانيا عام 1935 إلى مجلس عصبة الأمم حول ادارة فلسطين وشرق الأدن، وصف بريطانيا حدود فلسطين تحت الانتداب كما يلي أمن نقطة على ساحل البحر المتوسط شمال غرب رفح، ماراً في اتجاه الجنوب الشرقي غلى جنوب غرب رفح، إلى نقطة شمال/شمال غرب عين المغارة إلى تقاطع غزة العقبة، نخل-العقبة، ومنه يمتد إلى نهاية الحدود في نقطة رأس طابا على الشاطئ الغربي لخليج العقبة ب وقد تكرر هذا الوصف في تقارير متعددة ابتداء من 1936، 1937.
اشتدت الحركة الوطنية في مصر، ولم تقبل الاستقلال الصوري، ودارت مفاوضات عديدة ومحاولات من عام 1920 إلى عام 1936، وكانت سيناء حاضرة في كل المفاوضات المصرية-البريطانية. كانت تلك المفاوضات التي استمرت منذ عام 1920 حتى عام 1929 هي محاولة للتوفيق بين المصالح الحيوية الاستراتيجية للامبراطورية البريطانية والمتمثلة في مصالح عدة، منها حق بقاء القوات العسكرية البريطانية على الأراضي المصرية من أجل حماية طرق المواصلات الامبراطورية، وبين الأهداف الوطنية المصرية، من المنظور الوطني آنذاك - والمتمثلة في عدة مصالح منها الاستقلال الوطني الفعلي، وأيضاً تخفيض عدد القوات البريطانية، وحصر نقاط وجودها في مناطق معينة تخص حماية قناة السويس بشرط عدم المساس بسيادة حصر، أيضا الاعتراف بالالتزام البريطاني بتوقيت محدد لأنه اتفاقية حتى تكون مصر حرة بعد انقضائها في تجديدها أو عدم تحديدها، بالاضافة إلى تمسك مصر بالسودان.
اصطدمت المصالح البريطانية مع الأهداف البريطانية المصرية بعقبة تحديد مناطق وجود القوات البريطانية والتي أصرت مصر على بقائها شرق القناة، في محادثات سعد زغلول - ملنر 1920، محادثات عدلي يكن-كرزون 1921. ولكن حققت محادثات سعد زغلول-رامزي مكدونلد 1924 نجاحاً، حيث رفضت مصر أن تكون قاعدة عسكرية لها حرية التنقيل وحرية المرابطة في كل مصر، وبالفعل تنازلت الحكومة البريطانية عن هذه الحريات المطلقة، وقبلت بمبدأ الحصول على منطقة مقابل مبلغ يقدر لاحقاً، وهذه المنطقة بين قناة السويس والحدود الفلسطينية أي شبه جزيرة سيناء، مع منح القوات البريطانية تسهيلات في حالة الحرب، وحالة التهديد بالحرب.
وظلت المفاوضات المصرية-البريطانية إما تصطدم بعقبة السودان، أو تصطدم بتراجع المفاوض البريطاني عما قدمه سابقاً. وظلت شبه جزيرة سيناء هي الملجأ والحل المؤقت للمفاوض المصري وهو ترحيل القوات العسكرية البريطانية عن الوادي والدلتا، وظلت هي الوسيلة التكتيكية والمرحلية لحين الجلاء النهائي عن مصر، حيث لم يكن لدى مصر أسباب القوة لتطالب بترحيل المستعمر عن أراضيها. ثم لاح في الأفق الدولي التهديد الألماني الذي ينذر بقرب وقوع حرب عالمية ثانية عام 1929. وأدى الوضع الدولي إلى الضغط على المفاوض المصري والبريطاني، مما ساعد في تقريب وجهات النظر، قدم الطرفان تنازلات متبادلة في معاهدة 1936، وهي اتفاقية دفاع مشترك لمدة عشرين عاماً، وكانت حلا مؤقتا للتوفيق بين الأهداف الوطنية المصرية والمصلحة البريطانية، ومقتضيات الدفاع عن القناة. ولكن مع نشوب الحرب العالمية الثانية، أصبحت الاتفاقية مجرد وثيقة قانونية بلا مضمون، حيث وضعت القيادة العسكرية البريطانية الأراضي المصرية كلها من أقصى الشرق على الحدود المصرية إلى أقصى غربها عن أبعد نقطة عند السلوم تحت سيطرتها. ولعبت شبه جزيرة سيناء دوراً عسكرياً هاماً في نقل القوات البريطانية من فلسطين إلى الصحراء الغربية لصد قوات المحور. فإذا كان دور شبه جزيرة سيناء أثناء الحرب العالمية الأولى دورا حيويا واستراتيجيا ساعد دول الحلفاء في احراز النصر، فإن دورها في الحرب العالمية الثانية اقتصر على كوها أرض عبور لتسهيل نقل الجنود البريطانيين لمواجهة زحف دول المحور التي عبرت الحدود الغربية المصرية، وقاربت مشارف الإسكندرة. كانت شبه جزيرة سيناء هي الطريق الأمثل والطريق الحيوي للمواصلات لواجهة دول المحور.
لم تفقد شبه جزيرة سيناء أهميتها، وواصلت مصلحة المساحة المصرية عملها الفني بالقيام بعمليات مسح في سيناء عام 1935-1938 لتحديث خريطة نيو كامب 1915، مع اضافة عمليات رصد تحديد مسار خط الحدود الدولية من النقطة رقم 1 في رأس طابا، وأيضاً تحديد مسار طريق طاب-المفرق بعد أن ادخلت عليه تحسينات في البنية التحتية ليصلح لسير السيارات، وقد امتد ذلك الطريق المحسن عبر الحدود إلى فلسطين لكي يتسنى الاستفادة من استخدامه حتى وادي المصري في نقب العقبة.
من مميزات عملية المسح، ووضع خريطة محددة أنها حوت تفاصيل طبوغرافية جديدة عن منطقة نقب العقبة، تلك المنطقة لم تسمح لنيوكامب عام 1915 أن يقوم بمسحها.
وأثناء الحرب العالمية الثانية، جمع الجيش البريطاني كل البيانات المساحية المتاحة عن نقاط المثلثات في فلسطين، وأضافت إليها معلومات حصلت عليها من مصلحة المساحة المصرية بخصوص نقاط على طول حدود سيناء، ونظمت هذه المعلومات في شكل قوائم تغطي أماكن محددة أطلق عليها القائمة الخاصة بحدود سيناء منها قائمة المثلثات الشبكية 144.
ولابد من التذكير مرة أخرى بأنه بعد الحرب العالمية الأولى وبعد فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، فإن الحدود المصرية لم تتأثر مطلقا أو تتغير أو يطرأ عليها جديد، فمنذ أن استقرت عام 1906، تم احترامها من قبل سلطة الانتداب البريطاني، والحكومة البريطانية بسبب اصرار الحكومات المصرية على أن للحدود الدولية قدسيتها ولا يمكن المساس بها. وأصرت الحكومة المصرية المتعاقبة على طبيعة الحدود الدولية المصرية الثابتة غير القابلة للتغيير.
ولكن على ضوء تفاقم المشكلة الفلسطينية التي استندت على وعد بلفور 1917، والتهديد الصهيوني، ومع نشأة، جامعة الدول العربية 1945، بمقرها الدائم على القاهرة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أدركت الحكومات المصرية الأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة سيناء كبعد دفاعي عن الدلتا والوادي، كما أدركت حجم الخطر المحيط بها جراء المشروع القومي الصهيوني الذي لا يهدد فلسطين العربية فقط، وإنما يترصد لتهديد مصر بفعل الجوار الفلسطيني-المصري حيث حقائق سياسية مهمة تواجه أهم طرف عربي في الصراع العربي-الصهيوني من هذه الحقائق نذكر بعضاً منها:
- الصعوبات البالغة بشأن المطالبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر.
- المخطط البريطاني الذي يرمي لتحجيم دور مصر، وعزلها.
- تهديد المشروع الصهيوني لشبه جزيرة سيناء.
- الحدود الشرقية المصرية في حالة تهديد بالعدوان.
- الحدود الشرقية المصرية في حاجة إالى حماية واعادة تأهيل وتسليح الجيش المصري.
- امتداد الوجود العسكري البريطاني في فلسطين ومصر، وهو ما يمثل تهديداً بالتواطؤ.
- تنامي المشاعر القومية لدى الرأي العام المصري، مما يشكل ضغطاً على الحكومات المصرية، والشعوب العربية ليس لديها كل الحقائق.
- المشروع الصهيوني يشكل تناقضا على الحدود الشرقية المرية يشغل الحكومات المصرية عن المطالبة بجلاء القوات المصرية عن مصر.
أصبح واضحاً أن من يسيطر على فلسطين فإنه يهدد شبه جزيرة سيناء، ومن يهددها يهدد أمن مصر. لاشك أن هناك ارتباطاً عضوياً تاريخياً جغرافياً بين مصير مصر والشام عامة وبخاصة فلسطين. والعكس بالعكس فإن قوة هذا الارتباط بين مصر والشام، يعني بوضوح فناء المشروع القومي الصهيوين، وهو في حقيقة الأمر قلب الصراع الذي دارت وقائعه وأحداثه على شبه جزيرة سيناء المصرية.