نهر النيل
كتاب نهر النيل، رشدي سعيد.
المؤلف | رشدي سعيد |
---|---|
فنان الغلاف | محمد أبو طالب |
البلد | مصر |
اللغة | عربية |
الموضوع | جغرافيا |
الناشر | دار الهلال |
الإصدار | 2001 |
عدد الصفحات | 342 |
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهرس
- مقدمة
- الجزء الأول: نشأة وتطور نهر النيل
- 1-مقدمة: موجز الجزء الأول
- 2-هضبة البحيرات الإستوائية
- 3-حوض السد والسودان الأوسط
- 4-أنهار المرتفعات الأثيوبية
- 4-1: العطبرة
- 4-2: النيل الأزرق
- 4-3: السوباط
- 5-النيل النوبي: المعبر من قلب أفريقيا إلى البحر الأبيض المتوسط
- 6-النيل في مصر:
- 6-1: الأنيال الأولى بمصر: خانق عظيم إلى نهر متدرج ومتوازن
- 6-2: نهر ما قبل النيل (البريانيل): تأسيس إتصال بأفريقيا
- 6-3: النيل الحديث: الإتصال بأفريقيا يصبح ضعيفاص ومتقطعاً
- 6-3-1: نهرا العصر الحجري القديم العارضان وما توسطهما من نهر النيونيل الأول
- 6-3-2: نيل العصر الحجري القديم المتوسط المتقلب
- 6-3-3: نهرا آخر العصر الحجري القديم المتوسط وأول العصر الحجري القديم المتأخر الموسميان
- 6-3-4: النيل الحديث (النيونيل)
- 7-اللاندسكيب الحديث لوادي النيل والدلتا والفيوم.
- 7-1: تركيب وسمك الأرض الطميية لوادي النيل والدلتا
- 7-2: سهل فيضان النيل
- 7-3: الدلتا
- 7-4: الفيوم
- 8-المناخ وتطور النهر:
- 8-1: التقلبات الجوية في سابق العصور:
- 8-1-1: تقلبات المناخ خلال عصور الجليد
- 8-1-2: تقلبات المناخ خلال فترة تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير
- 8-2: العوامل المؤثرة في دورية المناخ
- 8-1: التقلبات الجوية في سابق العصور:
- الجزء الثاني: هيدرولوجية نهر النيل
- 1-إيقاع النهر والطقوس المتعلقة به
- 2-البحث عن منابع النيل
- 3-كمية المياه التي يحملها النيل:
- جنجا (مخرج بحيرة فيكتوريا)
- بانيانجو (مخرج بحيرة ألبرت)
- منجلا (مدخل منطقة السد – أعلى بحر الجبل)
- الملكال
- المقرن
- الخرطوم
- 4-النيل عند أسوان
- 5-تقلبات نهر النيل في غابر الزمان:
- 5-4: فترة الهولوسين (النبطة) المطيرة
- 5-2: تقلبات النهر في مصر القديمة:
- 5-2-4-1: سجلات الدولة القديمة (3050 – 2480 ق.م)
- 5-2-2: إخفاق النيل وعصر الإضمحلال الأول
- 5-2-3: النيل وقت الدولة الوسطى وعصر الفيضانات العالية (1840 - 1770م)
- 5-2-4: إخفاق النيل وتدهور الإقتصاد – الأسرات 20 و 21 (1200 – 945م)
- 5-2-5: مناسيب النيل عند الكرنك – الأسرات 22 و 26 (945 – 525م)
- 5-2-6: النيل بين سنة 525 ق.م وسنة 600 ميلادية
- 5-3: تقلبات النيل في العصر الوسيط (مقياس الروضة):
- الفترة 640 – 930 ميلادية
- الفترة 930 – 1090 ميلادية
- الفترة 1090 – 1200 ميلادية
- الفترة 1200 – 1350 ميلادية
- الفترة 1350 – 1468 ميلادية
- الفترة 1468 – 1510 ميلادية
- الفترة 1510 – 1630 ميلادية
- 6-بعض النتائج المستخلصة
- الجزء الثالث: إستخدامات مياه النيل
- 1-المستوطنون الأوائل يواجهون نهراً صعب المراس
- 2-النهر يصبح أكثر عطاءً – الزراعة تأتي إلى وادي النيل
- 3-ري الحياض:
- 3-1: إدخال آلات الرفع وتعمير إقليم الفيوم
- 3-2: إستخدام الأرض في مصر القديمة والوسيطة
• ***3-3: سكان مصر القديمة والوسيطة
- 3-4: محاصيل نظام ري الحياض
- 4-الري المستديم:
***4-1: التخزين الموسمي ***4-2: مشاريع الري في السودان • ***4-3: التخزين المستمر (القرني):
- 4-3-1: مشروعات التخزين المستمر في أعالي النيل
- المرحلة الأولى
- المرحلة الثانية
- 4-3-1: مشروعات التخزين المستمر في أعالي النيل
- السد العالي:
- بعضاً من التاريخ
- السد
- الخزان
- تشغيل الخزان
- فوائد السد العالي
- الآثار الجانبية للسد العالي:
- أولاً: في منطقة الخزان
- ثانياً: في مجرى النيل شمال السد العالي
- نحر المجرى وفقدان الطمي
- تراكم كثبان الرمل
- تراجع الشواطئ وتآكلها
- زيادة إستخدام المبيدات والأسمدة
- إرتفاع منسوب الماء والأراضي ومشاكل صرفها
- تغير نوعية المياه
- 4-2-: محاصيل نظام الري المستديم
- الجزء الرابع: مستقبل إستخدمات مياه النيل
- 1- بعضاً من التاريخ
- 1-1: بعضاً من التاريخ
- 1-2: الإتفاقيات:
- 1-3: الإتفاقيات بين مصر والسودان
- 1-4: القانون الدولي ومياه الأنهار المشتركة
- 1-5: الموقف الراهن لإتفاقيات مياه النيل
- 2- إستخدمات الأرض والمياه في دول الحوض:
- 2-1: مصر والخطة القومية للمياه
- 2-1-1: إستخدمات المياه في مصر
- 2-1-2: مستقبل إستخدام المياه في مصر
- 2-2: السودان ومستقبل إستخدام مياه النيل
- 2-3: إثيوبيا نافورة المياه
- 2-4: الدول البحيرية
- 2-1: مصر والخطة القومية للمياه
- 1- بعضاً من التاريخ
- 4-الخاتمة
- هوامش الكتاب
مقدمة
هذا الكتاب هو جهد سنوات طوال من البحث وقد كتبته أصلاً باللغة الإنجليزية لكي أنشره على المتخصصين من المشتغلين بالعلم كما جرت عادتي خلال تاريخي الطويل في ميدان البحث اعلمي وعندما أوشكت على الإنتهاء من إعداد الكتاب للنشر قررت أن أشذ عن هذه العادة وأن أغير أسلوب الكتاب الذي كان مكتظاً بالمصطلحات العلمية إلى لغة يسهل فهمهاه على القارئ العادي غير المتخصص فقد أردت أن أصل إلى عدد أكبر من القراء لكي يشاركوني في بعض نتائج الأبحاث العلمية التي شغلتني لسنوات طوال بدلاً من كتابتها لعدد قليل من المتخصصينوفي هذا البحث بالذات كانت النتائج التي توصلت إليها مثير ومشوقة حقاً. وليس من قبيل المبالغة أن أقول إن القوت الذي قضيته في إعداد هذا الكتاب كان من أسعد أوقات حياتي.
وعندما إنتهيت من كتابة الكتاب خطر لي أن أقم بترجمته إلى اللغة العربية وبالفعل بدات = وفي تردد – ترجمة أجزاء منه كنت أقرؤها على بعض الأصدقاء فوجدت منهم إستجابة شجعتني على المضي في الترجمة إلا أن أكبر التشجيع جاءني من الصديق الحميم مطفى نبيل رئيس تحرير الهلال الذي يعود إليه الفضل في ظهور الكتاب باللغة العربية فقد حثني على الإنتهاء من الترجمة بإلحاح المحب لي وللنهر كما انه قضى وقتاً طويلاً في إعداد الكتاب للطبع وفي إنهاء رسومه على وجه مرض. وقد أزال آخر تردد لي حماس الصديق مكرم محمد أحمد رئيس مجلس إدارة دار الهلال لنشر الكتاب باللغة العربية على الرغم من معرفته بقلة العائد من مثل هذه الكتب الباهظة التكلفة في الإعداد والمحدودة الإنتشار بطبيعتها. فقد أحسست أنه يشعر بأن للدار رسالة تفوق النفع المادي السريع. ولا يسعني إلا أن أشكره لقبوله الدخول في ميدان النشر العلمي بالعربية فالكتاب الذي بين يدي القارئ وهو مرجع علمي ليست له نظاتئر كثيرة بالمكتبة العربية.
ولنهر النيل جاذبية خاصة فحول ضفافه الدنيا نشأت واحدة من أقدم وأعرق الحضارات التي تركت أثرها على تاريخ الإنسان كما أن للنهر من المظاهر الطبيعية الفريدة ما يجعله نهراً بلا نظير, فهو النهر الوحيد الذي إستطاع أن يحمل جزءاً من مياه أفريقيا الإستوائية إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الصحاري والقفار علىالرغم من قلة المياه التي يحملها بالنسبة لمساحة حوضه الكبيرة وطوله الهائل, كما أنه ينفرد من بين أنهار العالم الكبرى بإنتظامه الرتيب وإيقاعه المنتظم الذي جعل العيش في ظله آمناً والتنبؤ بأحواله سهلاً وبناء تقويم يبدأ عندما يفيض تحدد فيه الفصول والشهور والسنوات ممكناً.
وقد فتنني نهر النيل منذ شبابي وتقت لمعرفة أسراره وكانت رحلتي إلى منابعه هي أول رحلة أخرج فيها من مصر. أردت أن أعرف كيف نشأ هذا النهر ومتى كانت بداياته وكيف وصل إلى حاله الذي نراه عليه اليوم, وماذا كان شكل الوادي والدلتا قبل أن يصلهما الإنسان ويسويهما حقولاً منبسطة تخترقها الترع التي تنقل الماء إلى كل مكان وتتناثر فيهما القرى كالجزر, هل كان هذا السهل مليئاً بالأحراش والمستنقعات التي إحتاجت من الإنسان القديم أن يصرف مياهها على أمد آجال طوال قبل أن يستقر فيها؟ أم أن الوادي والدلتا كانا ممهدين وأرضهما خصبة تتناثر فيها الأشجار والنهيرات والبرك كجنة عدن الأولى التي حلم بها الإنسان منذ القدم؟ ومن هم هؤلاء الناس الذين إستقروا في وادي النيل؟ ومن أين أتوا؟ هذه وأسئلة أخرى كثيرة ظلت معي لسنوات طوال أحاول الرد عليها بالقيام بدراسات حقلية لمعرفة تاريخ النهر وقد إمتدت هذه الأبحاث بين سنة 1962 وسنة 1977 وكان مما ساعدني في معرفة بعض أسرار هذا التاريخ إنضمام فريد وندروف زميل الدراسة فس جامعة هارفارد وأحد رواد علم ما قبل التاريخ في العالم القديم إلى هذه الدراسة الحقلية: كان هو يقتفي آثار الإنسان القديم في الوقت الذي كانت إقتفى فيه التغيرات التي طرأت على بيئة النهر عبر تاريخه الطويل – وفي عام 1978 أتاح لي عملي الإستشاري معرفة أسرار دلتا النيل التي كانت قد دقت فيها أبار عميقة وراء البحث عن البترول وصلت لأول مرة إلى أعمق رواسبه مما فتح أمامي باباً كان مغلقاً عن تاريخ النهر وبدء نشأته التي حدثت قبل وصول الإنسان إلى وادي النيل بعدة ملايين من السنين.
وكان لابد لمذكراتي وملاحظاتي عن النهر والدلتا التي شغلتني طوال هذه الأعوام أن تنتظر حتى يحين الوقت الذي أستطيع فيه أن أجمعها في إطار كتاب واحد ومتسق. وقد تأخر هذا الوقت فقد شغلتني أمور معائشي بعد أن إضطررت لنقل نشاطي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب ذلك القرار التعس اذلي اصدره رئيس مصر السابق بالتحفظ علي في سبتمبر سنة 1981. وقد جاء هذا الوقت عندما تسلمت دعوة من معهد الدراسات المتقدمة ببرلين لقضاء العام 1989-1990 كزميل بالمعهد وهي دعوة توجه إلى أربعين أستاذاً من المشتغلين بالعلوم كل عام لكي يقوموا بأي عمل علمي يغبون فيه دون أن يكون عليهم أي إلتزام أو واجب يؤدونهز وبالإضافة غلى موقع المعهد الخلاب ومكاتبه الأنيقة ومساكنه المريحة ومطعمه الفاخر فإنه يعطي للباحث خدمات ممتازة في المكتبة والإتصالات والسكرتارية. وقد قررت أن أقبل العرض وأن أكرس كل وقتي في هذا العام لكتابة الكتاب عن نهر النيل, إلا أن الوقت اذلي أحتاج إليه لإعداد الكتاب كان أطول مما تصورت فلم أنته من الكتاب إلا بعد ذلك بسنتين كاملتين.
لقد شغل نهر النيل الناس منذ أقدم الأزمنة وكتب المؤلفون عنه الكثير حتى ليمكن القول بأن مجموع الكتب والمقالاتا التي كتبت عنه تربو على العشرين ألفاً, ومعظم هذه الكتب هي من كتب الرحلات لعل أشهرها هو ما كتبه الكاتب الألماني المشهور إميل لودفج بعد عودته من رحلته عبر النيل في سنة 1927 وما كتبه آلان مورهيد عن "لنيل الأبيض" و "النيل الأزرق" وهما كتابان يحكيان قصة إكتشاف ومن الكتب ما إنشغل بمياه النيل كمؤلفات مشاهير المصريين علي مبارك في كتابه "الخطط التوفيقية" الذي يقع في عشرين مجلداً والذي صدر في سنة 1899 وأمين سامي "تقويم النيل" الذي يقع في ستة مجلدات والذي صدر بين سنة 1915 وسنة 1930 وعمر طوسون في كتابيه اللذين صدرا بالفرنسية في سنتي 1922 و 1925 "تاريخ النيل" و "فروع النيل القديمة" وفي هذه الكتب ثبت بقياسات النيل التي جاءت من مقياس الروضة منذ إنشائه في أوائل الحمك العربي. ومن الكتب ما إنشغل بجغرافية النهر مثل كتاب محمد عوض محمد في كتاب جمال حمدان "شخصية مصر" ومنها من كتب عن تنظيم مياهه مثل رجال الري. وليم ولكوكس وكريج في كتابهما الشهير "الري المصري" الذي أصدر في ستة 1887 وأعيد إصداره في سنة 1913 وموسوعة نهر النيل التي بدأها هرست وشاركه فيها فيليبس وبلاك وسميكة والتي تصدرها وزارة الأشغال المصرية منذ أوائل القرن العشرين وقد أخرجت هذه المدرسة أساتذة كباراً في فنون الري في مصر. ومن الكتب ما تتناول قبائل أفريقيا أو حيواناتها أو رياضة الصيد فيها.
ولاموضوع الأساسي الذي يدور حوله الكتاب هو مياه النيل وهو أربعة أجزاء يتناول الجزء الأول موضوع نشأة النهر وتطوره حتى إتخاذه شكله الحالي وهذا الجزء شديد التخصص حاولت أن أكتبه بلغة سهلة على قدر ما إستطعت ومع ذلك فقد أعددت لأولئك, الذين سيجدون صعوبة في متابعة هذا الفصل, موجزاً لخصت فيه نتائج هذا الجزء يستطيع القارئ بعد قراءته أن يقفز مباشرة إلى الجزء الثانيإن رغب. ونتائج الجزء الأول مثيرة حقاً فهي تظهر أن النيل بدأ في مصر خانقاً عظيماً منذ ستة ملايين سنة ولم يتم إتصاله بأفريقيا الإستوائية إلا منذ 800 ألف سنة فقط وأن النيل الذي نراه اليوم هو نهر حديث ولد مع أمطار الفترة المطيرة التي أعقبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير منذ حوالي عشرة آلاف سنة, وقد قلت المياه التي يحملها النهر منذ أن إنكمشت جبهة أمطار هذه الفترة منذ خمسة ىلاف سنة حتى ليمكن القول إنه لولا عبقرية المهندس المصري القديم والحديث وجهد فلاح مصر ما أمكن لمصر أن تكون لها هذه الكعبة من المياه التي تصلها بل وربما ما وصل إليها النهر أصلاً!
ويتعلق الجزء الثاني من الكتاب بهيدرولوجية النهر وكمية المياه التي يحملها اليوم وتقلباتها وأسباب هذه التقلبات, وأعقبته بفصل رجعت فيه إلى غابر الزمان في محاولة لمعرفة تقلبات كمية المياه التي حملها النهر الحديث منذ نشأته منذ عشرة ىلاف سنة مستخدماً في ذلك بيانات مقاييس النيل القديم وما كتبه الأقدمون عن أحوال مصر التي كانت شديدية الحساسية لأحوال النيل وعن الهجرات الجماعية لسكان الصحارية وغير ذلك من الأدلة وغير المباشرة التي يمكن أن تساعد في معرفة كمية المياه التي حملها النيل في الماضيز
ويتناول الجزء الثالث موضوع إستخدمات مياه النيل منذ أن نزل الإنسان على ضفاف النهر منذ مئات الآلاف من السنين وكيف إستطاع أن يستغل بيئة النهر التي تغيرت عبر هذه السنوات الطوال لتطوير معائشه متنقلاً من الصيد وجمع النبات البري والدرنات وصيد الأسماك إلى الزراعة البدائية فالزارعة بإستغلال ظاهرة الفيضان ثم بترويض النهر حى تمام ضبطه بالكامل ببناء السد العالي. وقد حاولت في آخر هذا الجزء أن أقيم الآثار الجانبية للسد العالي بعد مرور أكثر من عشرين سنة على إتمام بنائه.
ويعالج الجزء الرابع مستقبل إستخدامات مياه النيل وموقف الإتفاقيات القائمة بين دول الحوض ومصادر المياه والأرض القابلة للزراعة المتاحة لهذه الدول وطريقة إستخدامها في الوقت الحاضر وخطط إستخدامها في المستقبل لكل دولة من دول الحوض.
ويمس هذا الكتاب بهذا التنوع في الموضوعات علوماً كثيرة كان علي أن أبدأ في معرفة مبادئها فضلاً عن تفهم نتائج آخر أبحاثها وقد ساعدني في هذا الكثيرون أخص منهم كلاوس فريدريش أستاذ الأرصاد الجوية بجامعة برلين الحرة الذي حضرت له أحد مناهجه في علم الأرصاد الجوية واذلي قرأ الفصل الخاص "بالمناخ وتطور النهر" وأجازه كما فعل نفس الشئ ولدونج وكلارا كروبر الأستاذان بمتحف برلين للمصريات فقد زوداني بالأبحاث المناسبة وقرآ الجزء الخاص بتقلبات نهر النيل في مصر القديمة ورأيا أن الإطار الزمني الذي إستخدمته كان صحيحاً أما في ميدان الري فقد إستفدت أكبر إستفادة من مناقشاتي الكقثيرة مع شقيقي نجيب فهمي الذي قضى عمره في خدمة الري في مصر والذي زودني بالكثير من المراجع وقرأ ما كتبته عن منشآت الري في مصر كما إستفدت بما زودني به محمد عبد الهادي راضي رئيس مجلس إدارة هيئة بحوث توزيع المياه وطرق الري بوزارة الأشغال المصرية من معلومات ومن أبحاثه القيمة عن مستقبل إستخدمات مياه النيل ومن مجلة علوم المياه التي يرأس تحريرها والتي تحتوي على بعض نتائج أعمال هيئات وزارة الأشغال المصرية البحثية أما في مجال علوم البيئة ونوعية مياه النهر فقد كانت لي مع الصديق محمد عبد الفتاح القصاص جولات من المناقشات المثيرة والمفيدة. وقد زودني عبد العظيم الجزار الملحق الزراعي بالسفارة المصرية بواشنطن ببعض البيانات لاتي طلبتها منه عن الإنتاج الزراعي في مصر. وبطبيعة الحال فإن أحداً من هؤلاء لايمكن أن يتحمل أي خطأ يمكن أن يكون قد حدث في نقل هذه المعلومات أو تفسيرها فإني مسئول مسئولية كاملة عما ورد في هذا الكتاب.
وأريد في نهاية هذه المقدمة أن أشكر من صميم قلبي شوقي عابدين رئيس شركة بترول خليج السويس وكذلكك شركة أموكو للبترول للمنحة المالية التي قدمتها لإتمام رسوم هذا الكتاب. "د. رشدي سعيد" "واشنطن – الولايات المتحدة يونيه 1992"
تمهيد
يشكل نهر النيل ظاهرة جغرافية فريدة في شمال أفريقيا, فهو النهر الوحيد الذي إستطاع أن يشق طريقه قيها وأن يحمل جزءاً من مياه أفريقيا الإستوائية إلى البحر الأبيض المتوسط عبر قفار الصحراء الكبرى. والنيل هو النهر الوحيد الذي يصب في جنوب البحر الأبيض المتوسط, وذلك بعد أن يقطع رحلة طويلة عبر الصحراء الكبرى ينساب فيها لمسافة 2700 كيلومتر, فيما بين العطبرة والبحر دون أن يتلقى رافداً واحداً أو أية كمية تذكر من المياه – وتعتبر مثل هذه الرحلة فريدة في بابهاو وظاهرة نادرة من الظواهر الجغرافية, إذ لا يكاد يكون هناك نهر آخر تمكن من الجريان لهذه المسافة عبر قفار دون أن تتبدد ميتهه وتتساقط الرواسب التي يحملها في دلتا داخلية قبل أن يصل إلى البحرو ومن أمثلة الأنهار التي لم تستطع أن تقطع أية مسافة تذكر بعد أن إنقطعت عنها منابع مياهها نهرا القاش والبركة اللذان ينبعان من المرتفعات الأثيوبية ثم يجريان إلى مسافة قصيرة عبر سهول أريتيريا والسودان القاحلة قبل أن تتبدد مياههما وتتوزع الرواسب التي يحملانها في دلتاوات داخلية, وسنرى فيما بعد أن نهري العطبرة والنيل الأزرق سلكا, في بعض الأوقات السالفة التي ساد فيها الجفاف, المسلك نفسه وتبددت في الصحراء قبل أن يصلا إلى النيل.
وقد أمكن للنيل أن يقطع رحلته عبر الصحراء الكبرى نتيجة أحداث جيولوجية فريدة, أهمها تلك التي سمحت له أن يكونله مصدران للمياه: واحد من هضبة البحيرات الإستوائية, حيث تتساقط الأمطار على مدار السنة وحيث الأنهار غيرالموسمية لا تتغير فيها كمية المياه التي تحملها من موسم إلى موسم لكثر من الضعفين, والثاني من المرتفعات الأثيوبية ذات الأمطار الصيفية, وحيث الأنهار موسمية تحمل من المياه في موسم الأمطار ما يزيد على أربعين ضعف ما تحمله في المواسم الأخرى. وقد تشكلت تضاريس هاتين المنطقتين نتيجة أحداث جيولوجية حديثة العهد نسبياًِ تسببت في توجيه تصريف المياه التي تسقط عليهما ناحية حوض نهر النيل, وإنه لمن اللافت للنظر حقاً أن معظم تصريف المياه التي تسقط على المرتفعات الأثيوبية يذهب إلى الغرب ناحية النيل ولا يذهب إلا أقله ناحية البحر الأحمر, الذي ينفرد من بين جميع بحار العالم بعدم وجود أي نهر يصب فيه. كما ادت هذه الأحداث الجيولوجية إلى شق وتشكيل ذلك الجزء من التهر الذي يخترق هضبة النوبة, تلك الهضبة التي تشكل معبراً تصل عن طريقه مياه النيل إلىالبحر الأبيض المتوسط, وسنتناول هذه الأحداث بشئ من التفصيل فيما يعد.
ويحمل نهر النيل كمية قليلة من المياه بالمقارنة إلى طوله أو مساحة حوضه. ومقارنة بأنهار العالم الأخرى على الرغم من طوله الكبير وحوضه المتسع الذي يغطي أكثر من عشر مساحة القارة الأفريقية. كما أن تصريف النيل يكاد يقترب من تصريف نهر صغير مثل "الراين" لا تزيد مساحة حوضه على 13:1 من مساحة حوض النيل. وتعود قلة تصريف النيل إلى الكمية الصغيرة من المياه التي تصل وحدة مساحة الحوض, ذلك لأن جزءاً كبيراً من الحوض يقع في مناطق قاحلة لا تطولها أمطار.
وينسبط النيل في بعض أجزائه التي يجري فيها سهول قليلة الإنحدار, وينحدر إنحداراً شديداً في أجزاء أخرى. ويمكن تمييز خمس بسطات قليلة الأنحدار هي من الجنوب إلى الشمالك بسطات بحيرة فيكتوريا, وبحيرة كيوجا, والإمتدار من بحيرة ألبرت إلى نيمولي, ومن جوبا إلى الخرطوم, ومن وادي حلفا إلى البحر الأبيض المتوسط. أما إمتدادات النهر التي تربط بين هذه البسطات فهي شديدة الإنحدار, يعترضها الكثير من الجنادل والشلالات, وتبدو من حيث الشكل والتكزين حديثة العهد. ويظهر أن بسطات النهر المختلفة كانت تشكل قبل نشأة هذه الإمتدادات الشديدة الإنحدار والحديثة التكوين أحواضاً مستقلة ومنفصلة بعضها عن بعض. وتختلف كل بسطة من البسطات الخمس عن الأخريات من حيث المساحة وشكل المقطع وكمية المياه التي تحملها, وكذلك في أصلها ونشأتها.
أما البسطات الأربع الجنوبية فيبدو أنها شكلت أحواضاً ذات تصريف داخلي لمدة طويلة من الزمان. فقد جاء إنفتاحها ووصول مياهها إلىالبحر حديثاً وفي فترات متقطعة – كما كان إتصال بعضها بالبعض متقطعاً, يحدث في الفترات التي تزداد فيها الأمطار حين يرتفع منسوب المياه في البحيرات فتفيض على جنباتها وتصل إلى الأحواض المجاورة. أما في الفترات التي كانت فيها الأمطار قليلة فقد تقلصت مساحة هذه البحيرات حتى جفت في كثير من الأحيان وإنقطعت صلتها بما جاورها من أحواض.
وتقع البسطات الثلاث الجنوبية في هضبة البحيرات افستوائية ذات الأمطار الغزيرة نسبياً (بمتوسط 1200 ملليمتر في السنة). أما البسطة الرابعة والتي تمتد من جوبا حتى الخرطوم فتكون حوضاً داخلياً هائلاً يغطي الجزء الأكبر من السودان تهطل عليه أمطار أقل غزارة. ويتصل هذا الحوض الأخير في الوقت الحاضر بنيل مصر فالبحر الأبيض المتوسط عبر هضبة النوبة سريع الجريان كثير الجنادل والشلالات.
لقد كان إتصال هذه الأحواض ببعضها وإدماجها في نهر واحد كالذي نراه اليوم حدذا حديثاً نسبياً. فنهر النيل الحديث ليس إلا مجموعة من الأحواض والأنهار التي إتصل بعضها بالبعض في عصر متأخر جداً لتشكل النهر الذي نعرفه الآن. ويبدو من الأدلة المتاحة أن نشأة النهر الحديث تعود فقط إلى حوالي عشرة آلاف سنة مضت. وتقع البسطات التي يخترقها نهر النيل الحديث في أحواض هي جزء من منظومة الأحواض الداخلية التي تمتلئ بها القارة الأفريقية. وقد نشأت هذه الأحواض نتيجة عملية التحات التي تعرضت لها القارة عبر تاريخها الطويل. وعلى الرغم من أن المياه التي تصل بعض هذه الأحواض قد إستطاعت أن تشق طريقها إلى البحر عبر المرتفعات التي تحيط بها, إلا أن المياه في الكثير منها بقيت دون أي إتصال بالبحر, ومن الأمثلة البارزة لهذه الأحواض الداخلية الأخرى التي لم تصل إلى البحر حوض بحيرة تشاد الذي يغذيها, والمستنقعات قليلة الغور المحيطة بها, نهر "شاري" الذي ينبع من المرتفعات الجنوبية للحوض, ومن أمثلة الأحواض الداخلية الأخرى حوض الجوف الذي يقع إلى الشمال من مدينة "تمبكو" التي تقع في أقحل مناطق الصحراء الكبرى, والتي كان الوصول إليها حتى منتصف هذا القرن صعباً وفي جنوب خط الإستواء يقع حوض "كالاههاري" الي تذهب مياهه في بحيرة "نجامي" والمستنقعات نصف المالحة التي تحدها.
ومن الناحية الأخرى هناك تلك الأحواض التي تقع في المناطق المطيرة من القارة والتي تصلها كميات كبيرة من المياه إستطاعت أن تشق طريقها عبر المرتفعات المحيطة بها وأن تصل إلى البحر. ومن هذه الأحواض حوض "الكونجو" الذي أمكن لمياهه أن تصل إلى المحيط الأطلنطي عبر حافته الغربية عن طريق عدد من الشلالات, وكذلك حوضا "الكوبانجو" و"الكارو" اللذان تنصرف مياههما عب نهري "الزمبيزي" و "الأورانج" إلى المحيط الهندي. وأنهار هذه الأحواض الثلاثة تتجه من الشرق إلى الغرب وكل منها يصرف مياه حوض واحد. أما نهر النيل فله تاريخ معقد, وإتجاهه من الجنوب إلى الشمال ويصرف مياه أكثر من حوض. ويمتد نهر النيل لمسافة تشغل 35 درجة من درجات العرض ويصرف مياه مساحة تقترب من ثلاثين ملايين كيلومتر مربع, ويصل بين مناطق يختلف بعضها عن بعض من حيث التضاريس والمناخ والتركيب الجيولوجي, ومنابع النيل الأساسية الآن هي في هضبة البحيرات الأستوائية التي تمثل الحافة الجنوبية لحوض السودان والمرتفعات الأثيوبية التي تشكل جزءاً من جبال شرق أفريقيا المتلاصقة, والتي يشقها اليوم الأخدود الأفريقي العظيم.
هضبة البحيرات الإستوائية
تقع أحواض بحيرات "فكتوريا" و "كيوجا" و"ألبرت" – المكونة للأحواض الجنوبية لوادي النيل – في هضبة البحيرات الإستوائية, التي إتخذت شكلها الحالي نتيجة الرحكات الأرضية التي كونت أخدود أفريقيا العظيم. ويعتبر هذا الأخدود واحداً من أبرز الظواهر الجغرافية على سطح الأرض. فهو يشكل غوراً يصل طوله إلى قرابة ثلاثة آلاف كيلومتر, إنخسفت فيه الأرض إلى أعماق كبيرة وكأنه شق طويل في قشرة الأرض, وعلى الرغم من أن عمق هذا الأخدود يختلف من مكان إلى مكان, بحيث يبدو وكأنه مكون من أحواض منفصلة, إلا أن هذه الأحواض تشكل في الواقع سلسلة متصلة تمتد على طول محور واحد وتعود إلى أصل واحد. ويمتد الأخدود الأفريقي إلى البحر الأحمر وإمتدادته في بلاد الشام. ويكاد يكون من المؤكد أن هذه الإمتدادات ذات صلة وثيقة بنشاة الأخدود الأفريقي الحقيقي.
ويكون الأخدود الأفريقي من قطاع جنوبي تحتله بحيرة "مالاوي" (نياسا) وقطاع شمالي يتكون من فرعين الفرع الشرقي منهما يبدأ عند بحيرة "رواها", والغربي عند بحيرة "ركوا" ويتميز الفرعان بوجود سلسلة من البحيرات تحتل الأجزاء الواطئة منهما. ويشق الفرع الغربي الهضبة التي تشكل الحد الغبربي لحوض النيل وتقع فيه بحيرات "تنجانيقا" و "كيفو" و "إدوارد" و"ألبرت", وبين البحيرتين الأخيرتين يقع جبل "روينزوري" العظيم. أما الفرع الشرقي نم الأخدود فإنه يشق الهضبة التي تشكل الحد الشرقي لحوض النيل وفيه تقع سلسلة البحيرات التي تبدأ من بحيرة "رواها" في الجنوب وتمتد حتى بحيرة "زوا" في الشمال بداخل أخدود أثيوبيا.
أما هضبة البحيرات نفسها فإنها تبدأ شمال نهر "الزمبيزي" حيث تقع بحيرة "مالاوي" ثم تمتد شمالاً لكي تغطي هضاب تنجانيقا وكينياوأوغندة. وقد تعرضت هذه الشاسعة لعملية تحات ونحر هائلة سوتها وتركتها سطحاً منبسطاً منذ حوالي 10 ملايين إلى 15 ملايين سنة. وقد تعرضت هذا السطح منذ ذلك التاريخ لحركات أرضية هائلة ومتقطعة رفعته إلى منسوبه الحالي الذي يصل إلى حوالي 2000 متر فوق سطح البحر. كما شقته بأخاديد عميقة تكون الآن جزءاً من الفرعين الغربي والشرقي لأخدود أفريقيا العظيم. وبين هذين الفرعين نشات نمطقة منخفضة هي التي تحتلها الآن بحيرة "فكتوريا" وتختلف هذه البحيرة لذلك عن بحيرات الأخدود في ان لها شواطئ متدرجة وغوراً صغيراً, وعلى الرغم من إتساعها الكبير فلا يزيد اكبر أعماقها على مائة متر.
ومن أبرز خواص ذلك الجزء من هضبة البحيرات الذي يقع فيما بين الأخدودين هو إرتفاع سطحه ناحية الأخدودين الشرقي واغربي. وتشكل هاتان الحافتان المرتفعتان اللتان تحدان هذا الجزء من الهضبة خط تقسيم المياه بين حوض النيل وأحواض الأنهار المجاورة في الوقت الحاضر. وفي الماضي, قبل أن ترتفع الحافة الشرقية للأخدود الغربي, كانت أنهار هضبة البحيرات تتجه إلى حوض "الكونجو" فالمحيط الأطلنطي, فلما إرتفعت الحافة في العصر الحديث نسبياً إنعكس مسار الكثير من هذه النهار إلى حوض النيل ومن الأمثلة البارزة لهذه الانهار التي إنعكس مسارها "كاتونجا" (الي يحمل مياه الجزء الشمالي الغربي للهضبة إلى بحيرة "فكتوريا") و "كافو" (الذي يصب في بحيرة "كيوجا") و "الكاجيرا". وكل هذه الأنهار كانت وحتى وقت حديث, تتجه إلى حوض الكونجو. وليس هناك من شك في أن الجزء الأكبر من مياه بحيرة فكتوريا, إن لم يكن وجود البحيرة ذاته, يعود إلى هذا الحادث المهم الذي رفع حافة الهضبة وعكس مسارها ناحية البحيرة فزادت من مياهها. ولا يعرف على وجه التحديد تاريخ هذا الحدث. ولكن الكثير من الباحثين يظنون أنه حدث ف يمنتصف عصر البليستوسين (أي منذ حوالي نصف مليون سنة).
وقد ظلت بحيرة "فكتوريا" بحيرة داخلية دون أي إتصال بأي جزء من نهر النيل لمدة طويلة بعد نشأتها. ولم يتم إتصالها بنهر النيل إلا منذ 12500 سنة قبل الآن. وقد أثبتت دراسة إحدى الجسات التي دقت في قاع البحيرة أن منسوب البحيرة كان أوطأ مما هو عليه الآن بمقدار 26 متراً منذ 14 ألف سنة. فقد تأكد من دراسة حبوب اللقاح التي فصلت من الطبقات التي ترسبت في هذا الوقت والتي لابد أنها تطايرت من نباتات المنطقة المحيطة أن هذه النباتات هي من حشائش "السافانا" مما يشير إلى أن المناخ في ذلك الوقت لابد أنه كان أكثر جفافاً وأقل مطراً مما هو عليه الآن, وأن كمية المياه التي كانت تصل إلى البحيرة كان تقليلة, وبعد ذلك بحوالي 1500 سنة إرتفع منسوب البحيرة نتيجة تزايد الأمطار ووصل إلى منسوبه الحالي تقريباً, فأتيح للمياه الإندفاع خارج البحيرة عبر نيل فكتوريا إلى مجرى النيل. وفي الوقت نفسه زادت الأمطار زيادة كبيرة فإختفت الحشائش وعادت الغابات مرة أخرى إلى للظهور. وقد ظلت الأحوال المناخية مطيرة حتى حوالي 6500 سنة قبل الآن, حين بدأت الأمطار تقل مما سبب زيادة الأشجار النفضية على حساب الأشجار دائمة الخضرة. ولا يوجد أي ديليل على أن بحيرة فكتوريا قد أسهمت بأي كمية من المياه لنهر النيل قبل 12500 سنة من الآن. ويؤكد هذا الإستنتاج وجود رواسب ملحية في النيل الأبيض ترسبت في الفترة بين 140 ألفاً و125 أف سنة قبل الآن, مما يدل على أن هذا النهر لم تكن تصله من هضبة البحيرات الإستوائية مياه عذبة كثيرة. وقد أكدت الدراسات الحديثة التي قامت بها جامعة "ديوك" بالولايات المتحدة على بحيرة فكتوريا هذه النتائج.
وتتصل بحيرة فكتوريا ببسطة بحيرة "كيوجا" بواسطة نهر سريع الجريان هو نيل فكتوريا, الذي يترك بحيرة فكتوريا عند شلالات "ريبون" ويدخل بحيرة "كيوجا" بعد 64 كيلومتراً. ويسقط هذا النهر من إرتفاع 1135 متراً عند طوله. أما بسطة بحيرة "كيوجا" التي تمتد حوالي 236 كيلومتراً فهي قليلة الإنحدار وتسقط من إرتفاع 1072 متراً إلى 1060 متراً عند مخرجها, أي يمتوسط إنحدار يعادل متراً واحداً لكل 20 كيلومتراً من طولها. وتتصل بحيرة "كيوجا" ببحيرة "ألبرت" بنهر شديد الإنحدار يصل طوله إلى 68 كيلومتراً وإنحداره 505 متر لكل كيلومتر واحد من الطول, ويعوق النهر عدد من الشلالات أهمها هو شلال "كاباريجا" (مرشيزون).
وتمتد بسطة بحيرة "ألبرت" إلى ما بعد مخرج البحيرة لمسافة 255 كيلومتراً حتى بلدة "نيمولي" على الحدود الأوغندية – السودانية, وإنحدار هذا الإمتداد الذي يبدو إنه إمتداد للبحيرة ذاتها صغير جداً, لا يزيد على 2سم في الكيلومتر الواحد, فهو يهبط من إرتفاع 619 متراً عند مخرج البحيرة إلى إرتفاع 614 متراً عند "نيمولي". ويتعرج المجرى الذي يبلغ إتساعه بين 100 و 300 متر في هذا الإمتداد وتسير المياه فيه ببطء وتحيط به المستنقعات التي تغطي مساحة تزيد على 380 كيلومتراً مربعاً.
وفي القوت الحاضر تتصل بحيرة "ألبرت" ببحيرة "إدوارد" عبر نهر "السمليكي" إلا أن هذا الإتصال حديث, ففي ماضي الزمان كانت البحيرتان مغلقتين ليس لأي منهما إتصال بأي رقعة مياه أخرى, مثلهما في ذلك مثل بحيرتي (كيفو) و (تنجانيقا) الآن. وقد إتصلت بحيرتا "ألبرت" و "إدوارد" ببعضهما ثم بوادي النيل في الفترات التي إزدادت فيها الأمطار. وهناك من الأدلة ما يثبت أن بحيرة "ألبرت" إتصلت بحوض النيل فيما بين 28 ألفاً و 25 ألف سنة قبل الآن ومن 18 ألفاً إلى 14 ألف سنة قبل الآن ومنذ 12500 سنة قبل الآن. أما في فترات الجفاف فقد هبط سطح البحيرة في قمة عصر الجليد منذ خمسة عشر ألف سنة قبل الآن إلى أقل من 23 متراً.
ومن الظواهر الجغرافية البارزة جبال "رويزوري" الشاهقة (التي عرفها العرب بإسم جبال القمر) والتي دفعتها إلى علوها الشاهق, اذلي يصل إلى حوالي 5122 متراً فوق سطح البحر أو حوالي أربعة كيلومترات فوق هضبة البحيرات, حركات أرضية حديثة نسبياً بين بحيرتي ألبرت وإدوارد. وتعتبر جبال روبنزوري أعلى جبال أفريقيا غير البركانية وتغطي الثلوج قممها. وفي الوقت الحاضر يوجد بها مالا يقل عن أربعين ثلاجة. وفي العصر الجليدي الأخير, الذي بلغ ذروته قبل 15 ألف سنة كانت هناك ثلاجات أكثر. وقد صاحب تراجع الجليد في هذه المنطقة إرتفاع في درجة الحرارة بلغ حوالي 4.2 درجة مئوية.
ويتم إتصال بسطة ألبرت – نيمولي بمجرى نهر النيل الرئيسي عند "جوبا" بواسطة نهر سريع الجريان شديد الإنحدار يبلغ معدل إنحداره متراً واحداً لكل كيلومتر من مجراه. وبهذا النهر الكثير من الشلالات – ويبلغ طول هذا الجزء من مجر النيل 155 كيلومتراً. وعند مبدئه في "نيمولي" ينعطف النهر بطريقة مفاجئة من الإتجاه الشرقي السائد إلى إتجاه شمالي غربي لمسافة 70 كيلومتراً يتبع النهر فيها الكسر الأرضي الكبير الذي يعرف بإسم فالق "أسوا" (والذي يسير فيه نهر يعرف بهذا الإسم ويصب في نهر النيل), وإنعطاف النهر بهذه الطريقة المفاجئة هو أوضح مثال لتأثير التركيب الجيولوجي في تحديد مجرى النهر.
وخلاصة القول إن شبكة التصريف التي تحتل هضبة البحيرات هي شبكة حديثة التكوين, وقد نتجت عن إتصال عدد من البحيرات والبسطات بواسطة أنهار سريعة لتكون شبكة متكاملة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجزء الأول: نشأة وتطور نهر النيل
موجز الجزء الأول
تلخص السطور التالية الجزء الأول من كتاب نهر النيل, وهو الجزء الذي يبحث موضوع نشأة النهر وتطوره منذ أن بدأ تاريخه قبل نحو 6 ملاييت سنة, وقد كتبت هذا الجزء بلغة يسهل فهمها على غير المتخصصين وفيه أعرض لتاريخ النهر دون الدخول في التفاصيل أو نوع الأدلة التي إستنتج منها هذا التاريخ, ويمكن لأولئك الذين يرغبون في الإستزادة أن يسكملوا قراءة هذا الجزء وأن يعودوا إلى المراجع الكثيرة المذكورة في هوامشه.
ولابد أن نتذكر بداية أن الأحداث الجيولوجية التي تشكل ظواهر الأرض مثل تلك التي ترفع الجبال أو تكون الأخاديد أو تسبب إرتفاع سطح البحر أو تقدم خط الجليد, لا تحدث فجأة وفي دفعة واحدة بل إنها بطيئة إلى حد أنها تستغرق الآلاف إن لم يكن الملايين لكي تكتمل أو لكي يظهر تأثيرها كما لابد أن نتذكر كل تواريخ الأحداث المذكورة في هذا الموجز تقريبية ونسبية فيما عدا تلك التي تقل عن الأربعين ألف سنة الأخيرة من عمر الأرض, فالتواريخ السابقة عن الأربعين ألف سنة ليست مطلقة, الكثير منها منسوب إلى أحداث معروفة التاريخ.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعالج نهر النيل في مجموعه إلا أنه يركز على الجزء الذي يمر بمصر بصفة خاصة وبالتفصيل. ولهذه الإستفاضة أسبابها: أولها أن الجزء المصري من النهر هو الذي يدرس أكثر من غيره. فقد كان موضوع بحوث عميقة لعدد من البعثات المشتركة ذات الخبرات المتعددة في الثلاثين عاماً الأخيرة. وثانيها أن ىباراً كثيرة قد حفرت فيه وصل بعضها إلى أعماق كبيرة مست أقدم رواسبه, وأعطت لنا سجلاً يكاد يكون كاملاً لرواسب النهر عبر تاريخه الطويل, هذا بالإضافة إلى أن الجزء المصري من نهر النيل يقع في أدنى النهر مما يجعله حساساً للتغيرات التي تحدث في أعلاه, وتصبح دراسته لذلك مفتاحاً لما يمكن قد حدث في منابعه.
وشكل نهر النيل الذي نعرفه اليوم بمنابعه في هضبة البحيرات والمرتفعات الأثيوبية هو شكل حديث التكوين إتخذه النهر بعد سلسلة طويلة من التغيرات التي مر بها, قبل أن يتخذ شكله الحالي, ويعتبر نهر النيل الحديث نهراً مركباً تكون نتيجة إتصال عدد من الأحواض المستقلة بعضها عن البعض بأنهار نشأت خلال العصر المطير الذي تلا تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام قبل الآن, فنهر النيل هو وليد هذه الفترة المطيرة في تاريخ الأرض, وكان النيل قبل تلك الفترة يتكون من عدد من الأحواض التي شكلت بحيرات داخلية غير متصلة بعضها بالبعض, وكانت هذه الأحواض تفيض فوق جوانبها وتتصل بما يجاورها من أحواض في العصور المطيرة, وتتقلص في مساحتها حتى تجف كلية أو تنكمش إلى مستنقعات متفرقة عندما يسود الجفاف الأرض, وووقد ربطت هذه اليسكات بأنهار ذات إنحدار كبير, ففي الجنوب تقع بسطات فكتوريا وكيوجا وألبرت وهي بسطات ذات إنحدار بسيط نحو الشمال يصل إلى حوالي المتر لكل 20 إلى 50 كيلومتراً, ففي الوقت الذي يصل فيه معدل إنحدار الأنهار التي تصلها ببعضها البعض حوالي متر واحد لكل كيلومتر واحد من المجرى, وإلى الشمال من هذه البسطات يقع إقليم السد الهائل الذي يمتد حوالي 1800كيلومتر بين منجلا والخرطوم, وهو بسطة هائلة مفلطحة ذات إنحدار يصل إلى المتر الواحد لكل 15 كيلومتراً من المجرى في الجنوب ولكل 100 كيلو من المجرى في الشمال. والنهر الذي يوصل هذه البسطة إلى إقليم مصر ذو الإنحدار الذي يصل إلى متر واحد لكل 12 كيلو متراً من المجرى هو النيل النوبي السريع, والملئ بالجنادل والذي لا يزيد متوسط إنحداره على متر واحد لكل ستة كيلومترات من مجراه.
وقد تميزت الملايين الستة من السنين, والتي تشكل فيها نهر النيل, بتطورات مناخية كبيرة أثرت على العالم كله ففي هذه الفترة إمتدت ثم عادت فإنكمشت مثالج القطبين والجبال وغطت الثلوج أجزاء كبيرة من سطح الأرض لعدة مرات, وصاحب هذا الإمتداد والأنكماش تغيرات كبيرة في درجة الحرارة وتدرجية الضغط الجوي وكمية الأمطار وتوزيعها وكذلك منسوب سطح البحر. وتركت كل هذه التغيرات أثرها على تاريخ النيل وبالإضافة إلى ذلك فقد شهدت هذه الملايين الستة من السنين حركات أرضية هائلة ونشاطاً بركاينياً كبيراً أثر بشكل اساسي على منطقة منابع النيل, فأعيد خلال هذه الفترة تشكيل الأخدود الأفريقي الكبير ورفعت الجبال من حوله, فتغيرت مجاري الأنهار التي كانت تنبع من الهضبة الإستوائية والمرتفعلا الأثيوبية, لكي تصل إلى وادي النيل, وكانت هذه الأنهار قبل هذه الحركات الأرضية, تتجه ناحية حوض الكونجو فالمحيط الأطلنطي أو الفترة تشكيل الأخدود الأفريقي الكبير ورفعت الجبال من حوله, فتغيرت مجاري الأنهار التي كانت تنبع من الهضبة الإستوائية والمرتفعلا الأثيوبية, لكي تصل إلى وادي النيل, وكانت هذه الأنهار قبل هذه الحركات الأرضية, تتجه ناحية حوض الكونجو فالمحيط الأطلنطي أو إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي على التوالي, كما كان للنشاط البركاني أثره على مجاري التصريف فوق هذه الجبال, فكثيراً ما حولت الطفوح البركانية التي كانت تخرج إلى السطح مجاري الأنهار, وفي الحقيقة فإن مجرى أنهار المرتفعات الأثيوبية قد حددته هذه الطفوح البركانية التي تعطي هذه المرتفعات في سمك كبير.
كان البحر الأحمر مجرد أخدود ضيق وكانت الهضبة الإستوائية عالية ودون بحيرات وكان تصريف المياه فيها يتجه شرقاً إلى المحيط الهندي وغرباً إلى حوض الكونجو, كما كانت هناك جبال عالية بأثيوبيا, كان معظم تصريف مياها يتجه إلى المحيط الهندي وأقله إلى حوض النيل الذي كانت تملأ معظمه بحيرة هائلة. كما كان إقليم مصر معزولاً عن أفريقيا بهضبة النوبة العالية فلم يكن لأنهارها أي إتصال بالجنوب, وقد حدث تصريف المياه عقب تكون الأخدود الأفريقي الكبير وإتخاذه شكلاً يقارب شكله الحديث الذي إنشقت على أثره أرض أفريقيا لتكون أخاديد عميقة إمتلأ الأخدود الغربي منها بسلسلة من البحيرات (تنجانيقا – كيفو – ألبرت) وإمتلأ الشرقي منها الذي إمتد حتى أثيوبيا فالبحر الأحمر بسلسلة البحيرات التي إمتدت من توركانا حتى بحيرات أثيوبيا. كما ظهرت ولأول مرة بين الأخدودين بحيرة فيكتورا. وفي هذا الوقت تحول جزء كبير من تصريف المياه ناحية حوض النيل.
وقد مر مر زمن طويل بعد أن تحول تصريف المياه إلى حوض نهر النيل لكي تصل هذه المياه إلى مصر فالبحر الأبيض المتوسط, فقد كان على هذه المياه أن تخترق هضبة النوبة . . وكانت تلك الهضبة عندما تحولت المياه إلى حوض النيل أكثر إرتفاعاً مما هي الآن وكانت هضبة النوبة حاجزاً هائلاً للمياه التي تكونت في أحواض الجنوب ولا يسع الناظر إلى نيل النوبة الحديث إلا أن يرى أن هذا النهر لا يزال يصارع الأرض التي يمر عليها فلا يزال مجراه الذي يجربي في تأرجحات كبيرة كبيرة مليئاً بالشلالات والمضايق والعقبات.
كان حفر مجرى النيل بمصر نتيجة ظروف فريدة وغير عادية تسببت في تجفيف حوض البحر الأبيض المتوسط وتحويله إلى صحراء جرداء منذ حوالي ستة ملايين ستة, وقد جف البحر بسبب إرتفاع مضيق جبل طارق المكان الوحيد الذي تصل منه مياه المحيط العالي إليه, فلما إمتنع وصول المياه إلى البحر الأبيض المتوسط إنقلب إلى بحيرة أخذت مياهها في التبخر حتى جفت, وقد تراوح عمق هذا الحوض الجاف بين ثلاثة وأربعة كيلومترات, مما أرغم الأنهار القليلة التي كانت تصب في هذا البحر على تعميق مجراها إلى هذا العمق. وفي حالة النيل فقد تعمق مجرى النهر مجرى النهر إلى حوالي أربعة كيلومترات في الشمال وقد شكل هذا النهر (الذي سنسميه بنهر فجر النيل أو الأيونيل Eonil) خانقاً عظيماً كان لايقل في روعته وعمقه عن خانق نهر كولورادو الشهير في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة, وقد غرق هذا الخانق بماء البحر الأبيض المتوسط بعد ذلك عندما وإمتلأ البحر بالماء منذ حوالي خمسة ملاييت وأربعمائة ألف عام. وأصبح الخانق خليجاً بحرياً لأكثر من مليونين من السنوات تلقى بعدها نهراً هائلاً هو ما سميناه النيل القديم (البالونيل Paleonile) وفي هذه الأثناء إمتلأ الخانق بالرواسب. ويبدو أن كلا النهرين الأيونيل والبالونيل كانا ينبعان محلياً من هضاب مصر والنوبة, ولم يكن لهما إتصال بأفريقيا, وقد إنتهت هذه الفترة من تاريخ النيل منذ حوالي مليونين من السنوات.
ولقد مرت فترة طويلة قبل أتن يقيم النهر المصري إتصالاً بافريقيا الإستوائية فمنذ حوالي 800 ألف سنة وقع الحدث الكبير وجاء النهر الذي وصل من أفريقيا, والذي سنسميه نهر ما قبل النيل (بريانيل Prenile) من منطقة منابع النيل الحديثة التي كانت قد تغيرت تضاريسها لكي تقارب شكلها الحديث فتحول تصريف أنهارها إلى حوض النيل وفي تلك الأثناء ولدت بحيرتا تانا بأثيوبيا وفكتوريا بالهضبة الإستوائية.
كان لة من الرمل والحصى التي ترسبها في سهله الفيضي ودلتاه اللذين كانا أكبر مساحة من سهل النيل الحديث ودلتاه, وتظهر الرواسب التي حملها هذا النهر في كل مكان على جانبي نيل مصر ودلتاه وتشكل عنصراً هاماً في المظهر الطبيعي لمصر الحديثة كملا نشكل واجهتها محاجر الرمال التي تزود مصر كلها برمال البناء.
وبعد أن توقف نهر ما قبل النيل من حوالي أربعمائة ألف سنة, وصل إلى مصر نهر أقل قدرة, وهو الذي أسميناه النيل الحديث أو نهر (النيونيل Neonile) وكان إتصال هذا النهر بافريقيا ضعيفاً, فكثيراً ما إنقطع إتصاله بها كل مرة عاد فيها هذا الإتصال كان النهر أقل تصرفاً وأقل عمراً من نهر عمراً ما قبل النيل. ولنهر النيونيل الذي يمتد حتى وقتنا الحاضر أهمية خاصة فقد شهد كل تاريخ الإنسان على أرض مصر إذ ظهر الإنسان في مصر مع بدء هذا النهر.
ويمكن تمييز ثلاث حقب في تطور نهر النيونيل: 1- في الحقبة الأقدم والتي إمتدت بين 400 ألف و200 ألف سنة قل الآن عاصر النهر حقبة مطيرة إنقطع فيها وصول النيل من أفريقا وإمتلأ واديه في مصر بأنهار محلية كانت تحصل على مياهها من جبال البحر الأحمر وهضاب النوبة, وقد تخللت هذه الفترة المطيرة فترة جفاف في مصر وصل فيها أو أنهار النيونيل من أفريقيا (المسمى ألفانيونيل أو النيونيل أ) والذي كان يختلف في رجيمه ونوع رواسبه عن نهر ما قبل النيل ويشبه إلى حد كبير جميع الأنهار ذات الصلة الأفريقية والتي جاءت بعده حتى نهر النيل الحديث, وقد شاهدت فترة الحقبة الأولى المطيرة ظهور إنسان العصر الحجري القديم في مصر.
2- وتميزت الحقبة الثانية والتي إمتدت بين 200 ألف سنة قبل الآن بنهر متقلب له صلة بأفريقيا كان يرتفع وينخفض في سرعة, كما كانت تصله مياه الوديان المحلية, فقد عاصر فترة مطيرة ثانية في مصر شاهدت ظهور إنسان العصر الحجري المتوسط في مصر.
3- أما الحقبة الثالثة والممتدة بين 70 ألف سنة إلى العصر الحديث فقد تزامنت مع العصر الجليدي الأخير ,lu tjvm ومع فترة تراجع ثلوجه منذ حوالي 10 آلاف سنة قبل الآن, وخلال فترة العصر الجليدي قلت أمطار الهضبة الإستوائية واختفت الغابات منها, وجفت منطقة السدو وسد مجرى النيل الأبيض بكثبان رملية سفتها الريح إليه, كما كانت مصر خلال هذا العصر قاحلة تماماً وإختفى الإنسان من صحراوتها بعد أن كان يسكن أمكنة كثيرة فيها. وخلال العصر الجيليدي الأخير وصل إلى مصر نهران وهما النيونيل ب (70 ألفاً إلى 25 ألف سنة قبل الآن) والنيونيل ج (20 ألفاً إلى 12 ألف سنة قل الآن) من المرتفعات الأثيوبية. وكان هذان النهران صغيران وموسمين يجفان خلال فصل الشتاءو وقد جاء النهران محملين برواسب كثيرة رسباها على إرتفاع كبير على جانبي النهر في النوبة وجنوب مصر وليس هناك تفسير مقبول لوجود هذه الرواسب على هذا الإرتفاع الكبير في جنوب مصر غير أن النيل في هذه المنطقة كانت تعترضه شلالات وجنادل تجبر المياه على الإرتفاع خلفها. لقد كان منسوب سطح البحر خلال عصر الجليد الأخير, عندما كانت هذه الأنهار جارية, منخفضاً بنحو مائة متر عن منسوبه الحالي, مما كان يحتم على النهر أن يعمق مجراه لا أن يبنيه على هذه الإرتفاعات التي تشير إليها رواسب هذه الأنهار بجنوب مصر.
وعندما تراجعت ثلوج العصر الجليدي الأخير زادت الأمطار على منابع النيل, وخاصة في الهضبة الإستوائية, فاختفت الحشائش التي سادت الغطاء النباتي لهذه الهضبة خلال عصر الجليد, وعادت الغابات والأشجار إلى الظهور كما زادت المياه في بحيرتي فكتوريا وألبرت حتى فاضت منهما وإتصلت لأول مرة بنهر النيل. وقد كان إندفاع المياه من هذه الهضبة عبر منطقة السدود الجافة شديداً إلى حد أن النيل فاض في مصر فيضاناً شديداً لم يحدث في أي وقت من تاريخه الطويل. وقد إمتدت فترة الفيضانات العالية لحوالي 500 سنة فيما بين سنة 12500 إلى سنة 1200 قبل الآن. ومنذ حوالي 10 آلاف سنة قبل الآن زادت أمطار الهضبة الأثيوبية, بل ومنطقة الساحل الأفريقي كلها كما إمتدت جبهة المطر شمالاً فغطت شمال السودان وجنوب مصر وظلت هذه المناطق ممطرة لمدة 4500 سنبعد ذلك. وبوصول المياه وبغزارة من مصدرين, وهما المرتفعات الأثيوبية وهضبة البحيرات جاء مولد النيل الحديث الذي أصبح مستديماً بعد أن كان موسمياً وقد زادت أمطار شمال السودان وجنوب مصر من مياه هذا النهر في فترته الولى والتي كان منسوب البحر فيها منخفضاً, فساعدت في إزالة الجنادل والعقبات التي كانت تعترض النهر قبل ذلك. وعندما تراجع الجليد وإرتفع منسوب النهر بدأ النهر في ترسيب الرواسب التي كان يحملها في واديه ودلتاه منذ ما بين ثمانية آلاف وسبعة آلاف سنة فتكونت بذلك أرض مصر الخصبة وقد دفعت عملية الترسيب هذه هيرودوت لأن يصف مصر بأنها هبة النيل.
حوض السد والسودان الأوسط
يشكل حوض السد والسودان بسطة هائلة قليلة الإنحدار تمتد لمسافة 1767 كيلومتراً بين جوبا والسودان, ويسمى الجزء الجنوبي من هذا الحوض والذي يمتد من جوبا وحتى المكال لمسافة 809 كيلومترات بإقليم السد. وينحدر هذا الجزء من الحوض بنسبة متر واحد لكل 15 كيلومتراً بالطول. وتصل إلى إقليم السد مياه كثيرة تأتيه من إقليم البحيرات الإستوائية ومما يتساقط عليه من أمطارغزيرة , ويفيض جزء كبير من هذا المياه حول جانبي النهر في هذا الإمتداد مكوناً مستنقعات كبيرة ذات غطاء نباتي كثيف. وقبل عام 1961 وهو العام الذي زادت فيه أمطار الهضبة الإستوائية فجأة كانت مساحة إقليم السد تتراواح بين 6500 و 8000 كيلو متر مربع إرتفعت فجأة بعد تزايد الأمطار إلى أكثر من ثلاثة أمثال مساحتها قبل هذا العام.
ويقع الجزء الشمالي من الحوض في منطقة السودان الأوسط ويمتد من الملكال إلى الخرطومم وهو يشكل سهلاً منبسطاً ذي إنحدار بسيط لايزيد عن المتر الواحد لكل مائة متر من المجرى - ويشكل هذا الجزء من النهر من ذلك الجزء الممتد حول بحر العرب إلى الغرب السهل الذي نشأ عند إمتلأ الأحواض العميقة التي شغلت هذه المنطقة منذ نشأتها في مبدأ العصر الجواري (130 مليون نسمة) بالرواسب التي جاءتها من المرتفعات المحيطة التي كانت النباتات تغطيها في معظم الأزمنة - وكانت هذه المنطقة قبل تسويتها بالرواسب التي جاءتها من المرتفعات المحيطة التي كانت بالأحواض العميقة التي شكلت بحيرات داخلية بلا تصريف خارجي كانت تصلها الرواسب من المرتفعات المحيطة بها فترسب في القاع الذي كان يهبط تحت وطأة ثقلها بمعدلات تراوحت بين أقل من المتر إلى المكائة متر لكل مليون سنة من تاريخها الطويل حتى وصل سمك عمود الرواسب الذي تراكم فوق قاعها إلى أكثر من ثلاثة عشر كيلومتراً ويثبت عمود الرواسب في هذه الأحواض القديمة والذي ‘خترقه عديد الآبار التي دقت وراء البحث عن البترول فيها أنها كاتنت تشكل بحيرات داخلية ترواح عمقها من بضعة أمتار إلى عدة مئات الأمتار ولم تنصرف مياهها إلى البحر وأن الرواسب التي ملأتها بحيرية خالصة أو رواسب المياه الآسنة والمستنقعات.
وكانت ذهه البحيرات تملأ أحواضاً نشأت في الأخاديد التي تكونت في هذه المنطقة وشكلت جزءاً من أخاديد الحزام الممتد عبر أفريقيا من نيجيريا في الغرب وحتى الصومال وكينيا في الشرق والتي نشأت عند إنفصال القارة الأفريقية من أمريكا الجنوبية وبدء ظهور المحيط الأطلنطي الجنوبي بين أول العصر الجواري والكديتاوي - وبالسودان أربعة أخاديد أمكن التعرف علهيا هي اخاديد النيل الأزرق وميلوت (والذي يحتل الجزء اكبر من إقليم النيل الأبيض) والمجلد (والذي يحتل الجزء الأكبر من بحر العرب) والبجارة والأخاديد الثلاثة الأول ذات إتجاه شمال غربي أما الأخير فيتجه إلى الجنوب الغربي,وتشكل هذه الأخاديد أحواضاً ذات إمكانيات كبيرة لتواجد البترول والذي إكتشف بالفعل في أخدود المجلد (حقلي بترول الوحدة وهجليج) وأخدود ميلوت (حقل بترول خور أدار).
وتصعب معرفة التفاصيل الكاملة للتاريخ الأخير لهذه الأخاديد بعد أن سوت أرضاً منخفضة ومنبسطة بعد أن إمتلأت بالرواسب وتحديد زمن إنفتاحها على البحر كجزء من نهر النيل الحديث . . ويمكنالقول أن إنفتاح أخدود النيل الأزرق إلى البحر الأبيض المتوسط كان سابقاً لإنفتاح الأخاديد الأخرى والتي يبدو أنها شكلت بحيرة واحدة متصلة خلال عصري البليوسين والبايستوسين - وكان الكثيرون منالباحثين الأوائل قد ضمنوا وجود هذه البحيرة بسبب إنبساط إقليم السودان الأوسط إنبساطاً دفعهم إلى الإعتقاد بان هذه الأقليم لابد وأنه شكل بحيرة مقفلة ومن هؤلاء ولكوكس مهندس الري المشهور ولوسون وجون بول. وقد رسم الأخير حد هذه البحيرة عند خط كونتور 400 وهو الإرتفاع الذي يتوقف عنده نمو حشائش إقليم السد في الوقت الحاضر - وإذا أخذنا أبعاد البحيرة كما إقترحها جون بول فإننا أمام بحيرة هائلة طولها حوالي 1050 كيلومتراً وعرضها حوالي 530 كيلومتراً - وهناك منالدلائل ما يؤيد أن هذه المنطقة لابد وأنها كانت بالفعل وحتى وقت قريب بحيرة واحدة أو عدد من البحيرات الداخلية - ويبدو من نتائج دراسة بقايا حفريات الرواسب القديمة لوادي النيل بمصر أن أحوال هذه البحيرة بعد هذا الإتصال الذي صفى معظم مياهها حسب تقلبات المناخ - ففي خلال عصر الجليد الأخير واذلي بغلت ذروته منذ حوالي 15.000 سنة مضت تقلصت هذه البحيرة وتحولت لى برك صغيرة متفرقة نتيجة الجفاف اذلي حل بالمنطقة وتناثر فوقها الكثير من الكثبان الرملية وربما حدث الشئ نفسه في العصر الجليدي السابق للأخير والذي إمتد للفترة بين 120, 180 ألف سنة مضت - ويبدو أن الأملاح التي تكونت في قاع البحيرة خلال هذين العصرين عندما حل الجفاف قد تركت أثرها على خزنات المياه الأرضية التي أملحت وخاصة في منطقة السودان الأوسط.
ويبدو أن البحرة قد إتسعت خلال الفترة المطيرة التي تلت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير, وأن اٌصى إتساع لها كان منذ 12500 سنة. ومن الملاحظ أن كل بحيرات أفريقيا الإستوائية في ذلك الوقت كانت في أقصى إتساعها ففي ذلك الوقت إرتفع منسوبها وفاضت مياهها فوق ضفافها ووصلت مياه الكثير منها إلى إقليم السد الذي وصل إلى أقصى إتساع له حينئذ. ويبدو أن هذا الوقت قد تميز أيضاً بإنفتاح بحيرة السد والسودان الأوسط ووصل كميات هائلة من مياهها إلى مصر فالبحر الأبيض المتوسط عبر منطقة النوبة. ويجدر أن نذكر هنا أن مياه بحيرة السد - السودان الأوسط كانت قد وجدت طريقها إلى البحر عبر النوبة في أوقات متقطعة سابقة وسنأتي على وصف بعض هذه الأوقات في الفصول التالية.
وكان مجئ مياه بحيرة السد - السودان الأوسط إلى مصر عبر منطقة الشلبوكة التي تقع على عبد 85 كيلومتراً إلى الشمال من الخرطوم والتي تعرف بإسم الشلال السادس ولو إنها في الحقيقة ليست شلالاًعلى الإطلاق, بل هي ضيقة في مجرى النهر تعترضا نتوءات صخرية في القاع مما يجعلها عائقاً ملاحياً وخاصة في غير أوقات الفيضان عندما يكون النهر واطئاً, وعندما يكون يدخل النهر منطقة الشلبوكة فإنه يمر في منطقة مفتوحة ثم في منطقة جبلية إلى الشمال من جزيرة رويان حيث يمر في خور ضيق تحده الجبال على الجانبين ويبدو أم مجرى الشلبوكة الذي جرت المياه فيه لعدة مرات خلال تاريخ النيل قد أخذ شكلح الحالي منذ 12500 سنة في وقت الفيضانات العالية الت يميزت نهر النيل آنئذ.
أنهار الأساسية التي تنبع من المرتفعات الأثيوبية هي الأزرق والعطبرة والسوباط وهي أنهار موسمية في الأساس, تبلغ كمية المياه التي تحملها وقت موسم الفيضان أربعين مثل تلك التي تحملها عندما يكون النهرواطئاً - كما تبلغ كمية الرواسب التي تحملها إلى مصباتها حوالي 4000 ملليجرام في كل لتر في شهر أغسطس في حين لا تزيد هذه الكمية على 100 ملليجرام في كل لتر في شهر يونية. وتعكس موسمية الأنهار طبيعة الأمطار فوق المرتفعات الأثيوبية والتي تسقط فيما بين شهري يونية وأكتوبر من كل عام وتصبح في ذروتها في شهري يولية وأغسطس ويبلغ متوسط سقوط الأمطار فوق المرتفعات الأثيوبية بين 1000, 1400 ملليمتر في العام وهي أغزرفي الجنوب الغربي لأثيوبيا حيث ينبع نهر بارو روافد السوباط الأساسي حيث يصل متوسطها إلى 2200 ملليمتر في العام.
وتنبع الروافد الثلاثة من المناطق العالية من المرتفعات الأثيوبية بين خطي كونتور 2000 و 3000 متر فوق سطح البحر ويقع أكثر من نصف مساحة المرتفعات على إرتفاع يزيد على الألفي متر وأعلى نقطة فيها هي إحدى قمم جبال سيمين والتي يصلها إرتفاعها إلى 4620 متراً فوق سطح البحر أي أقل قليلاً من إرتفاع جبل "مونت بلان" الشهير بجبال الألب بأوروبا, وهناك قمم أخرى في سلسلة جبال سيمين وكذلك في جبال شوكاي يزيد إرتفاعها على 4000 متر فوق سطح البحر وكل هذه القمم تتغطى بالثلوج عندما تتساقط عليها والثلوج فوق هذه القمم غير دائمة ولا تكتب كثيراً في مياه النيل, وتقطع الوديان العميقة والخوانق المرتفعات الأثيوبية ويتعبر خانق النيل الأزرق من أعمقها الذي يصل عمقه إلى أكثر من 1300 متر عن منسوب الهضبة المحيطة به, ومعظم الأنهار التي تشق الهضبة دائمة الجريان على مدار السنة وإن كان منها ما يتوقف عن الجريان خلال موسم الجفاف, وبإستثناء روافد النيل الثلاثة الت يتصب في النيل فإن كافة الأنهار الأنهار الأخرى التي تنبع من المرتفعات الأثيوبية وتتجه ناحية الغرب لا تصل إلى البحر ومن أشهر هذه الأنهار خور القاش الذي يتوقف عند كسلا وخور بركة الذي ينتهي عند طوكر والأواش الذي يصب في بحيرة آبي وهذه الأنهار وغيرها التي تنبع من الهضبة الإرتيرية تختفي في رمال السهول التي تحد سفح المرتفعات من الغرب وفي الوقت الحاضر فإن الجزء الإريتري المرتفعات أقل أمطاراً من الهضبة الأثيوبية,ومن المؤكد أن هذه الأنهار كانت تتصل بالنيل عن طريق العطبرة في غابر الزمان عندما كان الجو أكثر رطوبة ومطراً.
وتنبع روافد النيل الثلاثة من منطقة طفوح بركانية تكونت نتيجة نشاط بركاني فيما بين عصري الميوسين والبليستوسين (أي منذ ما بين 27 مليوناً و2 مليون سنة مضت) وتقطع الروافد مجاريها وسط هذه الطفوح البركانية مما يعني أنها لابد قد نشأت وتشكلت في وقت لاحق لظهور هذه الطفوح البركانية التي غيرت تضاريس المنطقة ةساعدت في توجيه تصريف مياهها ناحية حوض النيل, وكان تصريف المياه فيما قبل ظهور هذه الطفوح يتجه ناحية البحر الأخمر, ولا يعرف عن وجود نظام قديم لتصريف المياه ناحية حوض النيل قبل النظام القائم الآن, وقد تزامن ظهور الطفوح البركانية التي غيرت تضاريس المنطقة مع نشأة الأخدود الأثيوبي, ذلك الجزء في أخدود أفريقيا العظيم الذي يشكل في الوقت الحاضر خط تقسيم المياه بين تلك الحواض التي تتجه في تصريفها ناحية البحر الأحمر وهي أحواض الشبيلي وجوبا وسواحل البحر الأحمر وتلك التي تتجه ناحية حوض النيل وهي البركة والقاش والعطبرة والنيل الأزرق والسوباط. أما الأخدود الأثيوبي ذاته فإن مياهه تنصرف في أحواض داخلية ولا تصل إلى البحر وهذه الأحواض الداخلية هي أحواض أنهار الأسالي الذي ينتهي في منخفض الدناقيل والأواش الذي ينتهي في بحيرة آبي وأنهار الأخدود الأعلى التي تنتهي في البحيرات التي تمتد من ستيفاني حتى زواي واومو الذي ينتهي في بحيرة توركانا - وقد نشأت أحواض التصريف الداخلي للأخدود مع ظهوره. كما تسبب ظهور الأخدود إلى تحويل تصريف المرتفعات الأثيوبية الواقعة إلى غربه ناحية النيل ولم يحدث أبداً أن أتجه تصريف مياه المرتفعات الأثيوبية ناحية النيل قبل ظهور الأخدود الذي يعرف بالضبط تاريخ نشأته وإن كانت الدلائل تشير إلى أنه حديث التكوين بدليل أن الأنهار المتجه منه إلى النيل حديثة الشكل لم تحمل من الرواسب إلا كميات صغيرة كما يتبين من صغر سمك الرواسب التي حملتها هذه الروافد منذ نشأتها ورسبتها في سهول السودان بعد أن كانت تترك مجاريها الشديدة الإنحدار. ومما يؤكد حداثة هذه الروافد مسار النيل الأزرق ذاته فهو ينحني في شبه دائرة قبل أن يأخذ طلايق المنحدر العام ناحية الشمال الغربي, وفي هذا المجال تختلف روافد النيل عن أنهار المرتفعات الأثيوبية التي تصب في المحيط الهندي كنهري الجوبا والشبيلي وغيرهما فكلها تجري مباشرة ناحية البحر في إتجاه جنوبي شرقي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنهار المرتفعات الإثيوبية
العطبرة
العطبرة نهر موسمي تقع منابعه إلى الشرق والغرب من بحيرة تانا بالقرب من منابع الأزرق فيما بين خطي عرض 12, 15 درجة شمالاً وخطي طول 36, 40 درجة شرقاً. ويختلف العطبرة عن النيل الأزرق في أنه لا ينبع من بحيرة تساعد في تنظيم خروج المياه إليه بل أنه يعتمد على عشرات الروافد التي تمتلئ بالمياه خلال موسم الأمطار بين يولية وأكتوبر ثم تندفع في أخور عميقة إلى فرعي النهر الأساسيين: الجانج الذي يمثل إمتداد النهر والستيت-تكازي- وفي خلال موسم الجفاف تقل المياه في الكثير من الروافد فيما بين شهري نوفمبر ويناير وتجف تماماً فيما بين شهري مارس ومايو من كل عام. وفي الحقيقة فإنه لم لولا وجود عدد كبير من الروافد التي تزود نهر العطبرة بالماء لما إستطاع النهر أن يندفع حتى يصل إلى النيل ولأصبح مثل نهر القاش الذي يختفي في الصحراء قبل أن يصل إلى نهر العطبرة, ويلاحظ أن نهر القاش يصل في سنوات المطر الغزير إلى العطبرة حيث يتصل به.
ولا يعرف إلا القليل عن التاريخ الجيولوجي لنهر العطبرة وهناك ما يشير إلى أن النهر حمل وقت عصر البلستوسين الأوسط (منذ 500000 سنة) كميات كبيرة من المياه وأنه كان يجري على إرتفاع يزيد 25 متراً على إرتفاعه الحالي.
النيل الأزرق
يغطي حوض النيل الأزرق معظم أثيوبيا إلى الغرب من خط طول 40 درجة شرقاً بين خطي عرض 12.9 درجة شمالاً. وبالإضافة إلى النبع الذي يقع إلى الجنوب نم بحيرة تانا والي يخرج منه الآباي الصغير الذي يتجه إلى بحيرة تانا فإن للنيل الأزرق منابع أخرى كثيرة. وفيما يلي بعض أهم الروافد التي تجلب المياه للنهر ومساحة أحواضها بالكيلومترات المربعة.
ويتجه نهر آلاباي ناحية الشمال حتى يصل إلى بحيرة تانا التي تقع على إرتفاع 1829 متراً فوق سطح البحر. وبحيرة تانا بحيرة ضحلة الغور يبلغ متوسط عمقها أقل من تسعة أمتار ومخرج البحيرة حديث فقد ظلت البحيرة لمدة طويلة بعد نشأتها مسدودة عند مخرجها بطفوح بركانية لا تفيض منها المياه ولم تقطع هذه الطفوح إلا في عصر البليستوسين الأوسط (منذ 500000 سنة تقريباً) فكونت مخرجاً ضيقاً يقع جزيرة دبري مريام وشيمابو البركانيتين الواقعتين عند مخرج البحيرة حيث يبدأ النيل الأزرق أو الآباي الكبير رحلته الكبيرة - ويبدأ النهر مسيرته لثلاثين كيلومتراً في الإتجاه الجنوبي الشرقي حتى شلالات تسيسات حيث يسقط حوالي خمسين متراً يدخل بعدها في خانق يزداد عمقه تدريجياً حتى يصل إلى أكثر من 1500 متر عند قنطرة دبري مرقص. ولا يزيد إتساع النهر في هذا الإمتداد على 30 كيلومتاً - وخلا مسيرته بعد ذلك يلتف النهر في إتجاه جنوبي شرقي ثم جنوبي غري ثم غربي مع شمال ليتفادى جبال شوكاي البركانية العالية والتي يبلغ إرتفاع أعلى قممها 4413 متراً. وتصب في النهر في هذا الإمتداد روافد بشيلي وجاما والموجر والجودر والفنشا وكلها تنبع من حافة الأخدود الأثيوبي ويبدو أن هذه الروافد كلها أنهار عكست إتجاها ناحية النيل بعد أن تغيرت التضاريس بظهور الأخدود. وبين بحيرة تانا والحدود الأثيوبية - السودانية مسافة 850 كيلومتراً ينحدر النهر فيها إنحداراً شديداً يسقط فيها حوالي 1300 متر أي بمعدل إنحدار متر ونصف المتر لكل كيلومتر من المجرى. وفيما بين الحدود السودانية الأثيوبية وبلدة الرصيرص بالسودان يقل إنحدار النهر الذي لا يزال يجري في هذا الإمتداد بين الصخور في خانق أقل عمقاً من الخانق الذي كان يجري فيه إذ لا يزيد عمقه على 40 متراً أما بعد الرصيرص فإن النهر ينبسط ويقطع مجراه وسط رواسبه. وفيما بين الرصيرص وسنار (التي تقع على بعد 280 كيلومتراً إلى الشمال) يسقط النهر 60 متراً منمنسوب متراً إلى 420 متراً فوق سطح البحر, ومن سنار وحتى الخرطوم (التي تقع على بعد 350 كيلومتراً) يسقط النهر 65 متراً أخرى ويبلغ طول النيل الأزرق في السودان حوالي 900 كيلومتر يسقط فيها بمعدل متر واحد لكل سبعة كيلومترات.
وقد تسبب إنبساط مجرى النيل الأزرق في اسفله إلى تقليل قدرة النهر على حمل الرواسب العالقة بمياهه فترسب منه لتكون السهل الذي يقع بين النيل الأزرق والنيل الأبيض والمسمى بإقليم الجزيرة, وهو من أخصب مناطق السودان وقد تكون هذا السهل من الرواسب التي سقطت من النيلالأزرق وترسبت طبقة فوق طبقة على مر السنين - وقد كانت رواسب الجزيرة موضوع دراسات مستفيضة في العقد الأخير. وتبين هذه الدراسات أن سمك هذه الرواسب يختلف من مكان إلى مكان ولكنه يبلغ في متوسطه حوالي 60 متراً. وإذا حسبنا الكمية الهائلة من الرواسب التي يحملها النهر كل عام فإن هذا السمك يعتبر صغيراً جداً ودليلاً على حداثة النهر ذاته الذي لابد أنه إتخذ مجراه. كما بينا في السابق, بعد أن طفحت البراكين التي صاحبت تكوين الأخدود الأثيوبي فأمالت حوافه ووجهت بذلك مياه المرتفعات الأثيوبية إلى الغرب بعد أن كانت تتجه إلى الشرق ناحية البحر الأحمر, وتظهر دراسة الآبار التي دقت في سهل الجزيرة وجود عدد كبير كبير من فروع النيل الأزرق المدفونة تحت السطح والتي يبدو أنها لم تكن تصل إلى النيل الأبيض وهي مروحية الشكل كانت الرواسب تنتهي عندها وكما سنرى فيما بعد فإن رواسب النيل الأزرق لم تصل إلى مصر إلا في وقت متأخر (حوالي 800000 سنة قبل الآن). أما قبل ذلك فيبدو أن النهر كان يلقي برواسبه في سهل الجزيرة أو أنه كان يصل إلى بحيرة داخلية كبيرة بالسودان كما كان وصول مياه النيل الأزرق إلى مصر منذ ذلك الوقت متقطعاً كما سنبين فيما بعد.
السوباط
تبلغ مساحة السوباط حوالي 224000كم2 ويحصل الرافدان الأساسيان لهذا النهر البارو والبيبور على معظم مياهها من المرتفعات الأثيوبية وبعد أن يتركا هذه المرتفعات ويلتقيان ينبسط مجرى النهر مكوناً مستنقعات ماشار التي تبلغ مساحتها 6500كم2 وإلى الشرق من منابع السوباط يوجد حوض نهر أومو الأخدود الأثيوبي الأعلى الذي يحتوي على عد من البحيرات التي تمتد من بحيرة شامو في الجنوب جزءاً من حوض نهر أومو وذلك قبل ظهور الخدود وقبل أن يتشكل خط تقسيم المياه الحديث الذي يمتد في إتجاه شمالي - جنوبي على طول خط طول 36 درجة شرقاً وخط تقسيم المياه هذا كثيراً ما تغير مكانه وخاصة في الفترات المطيرة التي كان يرتفع فيها منسوب بحيرة توركانا وينحدر فيها نهر أومو ناحية النيل, ويبدو أن ذلك قد تكرر لعدة مرات وكانت آخرها فيما بين سنة 7500 وسنة 2000 قبل الآن عندما إرتفع منسوب بحيرة توركانا إلى أكثر من 80 كتراً فوق منسوبها الحالي وإتجهت مياهها ونهر أومو ناحية النيل. ومن الأدلة على إرتفاع منسوب البحيرة في هذه الفترة وجود شواطئ بحيرية قديمة على هذا الإرتفاع كما أن أنواه الأصداف التي تعيش اليوم في كل من البحيرة وحوض النيل متشابهة مما يدل على أن الحوضين كانا متصلين في ماضي الزمان. ومرة أخرى وكما وجدنا في أنهار المرتفعات الأثيوبية الأخرى فإننا نجد أن هناك من الأدلة ما يدل على حداثة نهر السوباط.
النيل النوبي - المعبر من قلب أفريقيا إلى البحر المتوسط
تمتد الهضبة اليت تفصل حوضي السودان ومصر من الشلبوكة (85 كم إلى الشمال من الخرطوم) إلى أسوان وهي تشكل القنطرة التي تمر منها المياه التي تتجمع في احواض قلب أفريقيا إلى مصر فالبحر الأبيض المتوسط, وتتكون هذه الهضبة من صخور عارية دون كساء نباتي شاب تعوق مجراه في الكثير من المواقع شلالات وجنادل. وقد أصبح النهر في هذا ومنذ بدء هذا الجزء ومنذ بدء هذا القرن مخزناً للماء ولم يعد على حاله الطبيعي عندما كان نهراً سريعاً يمر في طور تعديل إنحدار مجراه وحت العوائق فيه. وكانت الهضبة النوبية تشكل حاجزاً بين أحواض أفريقيا والبحر المتوسط لمدة طويلة قبل أن يخترقها النيل النوبي.
وحتى بعد هذا الإختراق وإتصال أفريقيا بالبحر المتوسط عبر هذا النيل فإن الهضبة كثيراً ما عادت لكي تكون حاجزاً بين أحواض أفريقيا والبحر ذك لأن النيل النوبي كان ينقطع بين الوقت والآخر فيمتنع الإتصال.
وقد أصبح النيل الآن وبعد تحويله إلى مخزن كبير للماء بعد بناء سد أسوان (1902) ثم السد العالي (1970) على شكل بحيرة كبيرة صالحة للملاحة. وقبل ذلك لم تكن الملاحة ممكنة في المجرى الطبيعي إلا في وقت الفيضانفقد كانت العوائق التي تعترضه تشكل عقبات ملاحية كبيرة. وتحتوي الكثير من الكتب التي تصف الحملات العسكرية للسودان في القرن التاسع عشر على وصف المخاطر المهلكة التي تعرضت لها هذه الحملات وهي تبحر في النيل في هذه المنطقة.
ويعتبر جزء النهر من وادي حلفا حتى عمارا والذي يمتد حوالي 120 كيلومتراً واحداً من أكثر أجزاء النهر وحشة, إذ يحد النهر من ناحية الشرق جرف من صخور نارية داكنة أعطت لهذا الجزء من إسم بطن الحجر. ويعترض هذا الجزء عدد من الجنادل التي تشكل في مجموعها الشلال الثاني ومن أهم الثاني هذه الجنادل جندلاً سمنة ودال. وعلى إمتداد هذا الجزء قلاع ومعابد بناها المصريون القدماء والرومان لتحصين مدخل الجنوبي ويهمنا من هذه القلاع قلعتا سمنة وكوما اللتان ترتفعان فوق النيل بحوالي 123 متراً فقد نقشت على جانبي النهر مناسيب النيل في عصره القديم (أنظر الجزء الثاني من الكتاب).
وفيما بين الخرطوم التي يبلغ إرتفاعها 378 متراً فوق سطح البحر إلى أسوان اليت يبلغ إرتفاعها 91 متراً فوق سطح البحر مسافة 1847 كم ينحدر فيها النيل بمتوسط متر واحد لكل 6.5 كم من المجرى. على أن هذا الإنحدار ليس منتظماً على طول المجرى ولكنه يصبح كبيراً عند الشلالات الستة التي تعترض النيل النوبي. وأكبر إنحدار هو عند الشلال الرابع الذي يمتد لمسافة 110 كم من نقطة تبدأ عند حوالي 97 كم من الغرب من أبو حمد وحتى بلدة كريمة. وفي هذا الإمتداد يسقط النيل من إرتفاع 297 متراً إلى إرتفاع 248 متراً فوق سطح البحر أي بمعدل متر واحد لكل 2.25 كم من المجرى - ويلي هذا الشلال في درجة الإنحدار الشلال الخامس الذي يمتد من بربر حتى أبو حمد لمسافة 160 كم وفيه يسقط النهر من منسوب 361 متراً إلى منسوب 306 فوق سطح البحر بمعدل متر واحد لكل 3 كم من المجرى. أما الشلال الثاني الذي يمتد لمسافة 200 كم إلى الجنوب من وادي حلفا فله معدل إنحدار يقارب معدل الشلال الخامس فهو يسقط في هذه المسافة من إرتفاع 194 متراً في أقصى جنوبه إلى إرتفاع 128 متراً عند وادي حلفا. وفيما بين الشلالين الرابع والخامس يقع السهل الفيضي الذي يمتد فيما بين دنقلة وكريمة حيث توجد الزراعة وحيث ينبسط النهر فيسقط بمعدل متر واحد لكل 12.5 كم من المجرى. ويلاحظ أن المنطقة التي تفصل شلال أسوان من وادي حلفا والتي تمتد لمسافة 345 كم لها نفس معدل هذا الإنبساط وإن كانت هذه المنطقة صخرية تحدها من الجانبين صخور رملية لم تكن تعرف فيها الزراعة إلا في جيوب صغيرة.
وهضبة النوبة قاحلة في الوقت الحاضر وبها شبكة تصريف تتكون من عدد كبير من الوديان الجافة. وفي القوت الحاضر فإن هذه الوديان لا تحمل للنيل إلا كمية ضئيلة من المياه ولكن هناك من الأدلة ما يقطع بأن هذه الوديان حملت للنيل في الماضي البعيد كميات كبيرة من الماء. وقد أثبتت الأبحاث الحديثة اليت قامت بها البعثات العلمية أن أحد هذه الوديان الجافة في القوت الحاضر وهو وادي هور كان نشطاً وحاملاً لكميات كبيرة من الماء فيما بين سنة 9400 وسنة 4800 قبل الآن, وأنه كثيراً ما تكونت به وفي أماكن كثيرة منه بعد موسم أمطار الصيف برك كانت تعيش فيها الأسماك والتماسيح وأفراس البحر والسلاحف. وسنبين في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن كميات المياه التي كانت تأتي من هذه الوديان في تلك الزمان السحيقة قد رفعت منسوب النيل وتسببت في فيضانات ضخمة في مصر نتيجة إتساع الحوض الذي كانت منه مياه النهر بالإضافة إلى أن مياه هذه الوديان لم تكن عرضة لأن تفقد في مستنقعات أو أن تفيض فوق ضفاف الأنهار كما كان الحال بالنسبة للمياه التي كانت تأتي من الهضبة الإستوائية أو المرتفعات الأثيوبية.
وتشكل هضبة النوبه المعبر الذي يوصل إلى مياه النيل إلى البحر وقد تعرض هذا المعبر لحركات أرضية كثيرة وقد أثرت هذه الحركات في شكل النيل وكمية المياه التي حملها عبر تاريخه. ويقع شلال شلبوكة الذي تبدأ منه رحلة النيل عبر النوبة على فالق عظيم يمتد من الشرق إلى الغرب, كما تقطع النيل النوبي على إمتداد فوالق أخرى كثيراً ما سببت كسوراً وميولاً أعاقت المجرى أو غيرته أو تسببت في إيقاف إيصال المياه إلى مصر. ومن أهم هذه الفوالق فالق كلابشة بنيل النوبة بمصر والذي يعرف بنشاطه الزلازالي المستمر عبر التاريخ وقد أثبتت الأبحاث أنه كان نشطاً وقت الرومان وفي العصر الحديث.
النيل في مصر
يجري النيل بين أسوان والبحر الأبيض المتوسط بإنحداريتراوح بين متر واحد لكل 15 كيلومترا من المجرى عند منطقة قنا إلى متر واحد لكل 11.4 كيلومتر عند منطقة بني سويف ويقطع النهر مجراه خلال هذه الرحلة في رواسبه التي بناها بنفسه وتكونت عاماً وراء آخر في واديه وهي الرواسب التي إنقطع وصولها بعد بناء السد العالي ويتفرع النهر إلى الشمال من القاهرة إلى فرعي دمياط ورشيد اللذين يشقان دلتا النهر في الوقت الحاضر أما في الماضي فقد كا للدلتا عدد أكبر من الفروع كان أقصاها شرقاً الفرع البيلوزي الذي كان يصب إلى الشرق من بورسعيد في سيناء كما كان أقصاها غرباً الفرع الكانوبي الذي كان يصب إلى الغرب من الإسكندرية.
وكما سبق القول فإن نيل مصر - النوبة ينفرد من بين جميع الأنهار بأنه إستطاع أن يشق طريقه عبر الصحراء الكبرى لقرابة 2700 كم في أرض قاحلة دون أن تصله أية مياه. وسنحاول في هذا الفصل أن نشرح سبب هذه الرحلة الفريدة التي أمكن فيها للنيل أن يصل إلى البحر بدلاً من أن يلقي بمياهه ورواسبه في دلتا داخلية كما هو الحال في الأنهار التي تجاببها ظروف مماثلة.
إن تاريخ نيل مصر معقد وصعب البناء فهو ينبسط أساساً من معاينة مجارية القديمة وما تركته من مصاطب وسطوح ففي إرتفاعها عن النهر الحديث وفي طبيعة رواسبها وما تحتويه من حفريات أو أدوات صنعها الإنسان فهم لمسار النهر القديم وأحواله والظروف التي تكونت فيها هذه الرواسب والمنابع التي جاءت منها. ولما كان الجزء الأكبر من هذه الرواسب والسطوح التي تركها النهر تجرف بعد تكونها وتزال بالأمطار وعوامل التعرية الأخرى. فإن التاريخ الجيولوجي للنهر الذي يمكن أن يستنبط مما بقى من رواسب وسطوح هو بطبيعته ناقص يحتاج إستكماله إلى إعمال الخيال. فإذا أضفنا إلى ذلك أن جزءاً كبيراً من رواسب النهر الباقية توجد مدفونة تحت السطح بعيدة عن الفحص والمشاهدة فإننا يمكن أن نرى مقدار الصعوبة اليت يقابلها من يتصدى لمحاولة بناء تاريخ النهر . . وفي حالة نيل مصر فإن جزءاً كبيراً من رواسب النهر القديمة والمدفونة تح السطح قد أصبحت متاحة للدراسة بعد أن إخترقتها آلات الحفر التي إستخرجت الكثير من العينات من الآربار التي دقت بغرض البحث عن البترول أو بغرض إستخراج المياه الجوفية في الدلتا ووادي النيل.
ومن أكبر الصعوبات التي تقابلنا في محاولتنا حل أسرار تاريخ النيل هي عدم إستطاعتنا تأريخ رواسب النهر تأريخاً مطلقاً. فباستثناء الرواسب الحديثة جداً فإن كل الرواسب القديمة الأخرى لا تحمل أية مواد قابلة للتأريخ بالطرق الراديومترية . . كما أنه لا توجد بها طفوح بركانية أو صخور حاملة لمواد إشعاعية قابلة للتأريخ المطلق يمكن عن طريقها إيجاد سطوح معروفة التاريخ تصلح للرجوع إليها عند بناء تاريخ النهر. وتختلف رواسب النيل في ذلك عن رواسب أفريقيا الشرقية وبلاد الشام التي تتخلل رواسب عصورها الحديثة فترات من النشاط البركاني الذي تحمل طفوحه مواد قابلة للتأريخ المطلق.
وبإستثناء الرواسب الحديثة التي إستخدمت فيها طريقة الكربون المشع لتأريخها فإن كل التواريخ المعطاة لأطوار النهر القديمة هي تواريخ نسبية ومقدرة.
ولنعد قليلاً لكي ننظر في التاريخ الجيولوجي لمصر حتى تتكون لنا صورة واضحة عن شكلها قبل أن يصلها نهر النيل, كانت أرض مصر في ذلك الوقت مغطاة ببحر كان قد جاءها من الشمال وأخذ يزحف عليها حتى بلغ أقصى حد له في الجنوب منذ حوالي 60 مليون سنة عندما غطى مصر كلها وإمتد لكي يغطي جزءاً كبيراً من شمال السودان, وبعد ذلك التاريخ بدأ البحر يتراجع بإنتظام حتى أصبح شاطئه على خط يمتد فيما بين الفيوم وسيوة منذ حوالي 30 مليون سنة وبعد ذلك بعشرين مليون سنة أصبح شاطئ البحر قريباً من وضعه الحالي, وفي هذه الأثناء تكونت شبكة لتصريف مياه الأرض التي إنحسر عنها البحر نتيجة هذا التارجع وقد إنتهت أنهار كثيرة من أنهار هذه الشبكة في دلتاوات بقيت آثارها حتى الآن وهي مليئة ببقايا النباتات والحيوانات التي عاشت عليها أو جرفت إليها - من هذه الدلتاوات دلتا الفيوم القيدمة التي جذبت الإهتمام لأحتوائها على بقايا حيوانات فريدة من بينها أقدم القردة الإنسانية. وكذلك دلتا واحة المغرة بشرق منخفض القطارة. ولم يكشف أحد حتى الآن عن أي أثر لمجاري الأنهار التي كونت هذه الدلتاوات إذ يبدو أنها كانت ضحلة العمق كثيرة المنعطفات زال كل أثر لها بعوامل التعرية التي كسحتها بكاملها.
على النقيض من هذه الأنهار الضحلة التي زال آثارها نجد نهر النيل الذي نشأ في منخفض طولي بسطح مصر وحفر لنفسه فيه مجرى عميقاً ملأه بعد ذلك برواسبه التي حملتها مياهه فكونت فيه عموداً سميكاً من الرواسب التي مازالت محفوظة حتى الآن. وقد أصبحت هذه الرواسب التي تركها النيل وراءه وعلى طول تاريخه متاحة للدراسة بعد أن إخترقها آبار كثرة وعميقة خاصة في منطقة الدلتا.
ويستطيع المرء أن يتصور شكل القاع الذي ترسبت عليه أول رواسب الأنهار التي تتالت على مجرى النه رالحالي بدراسة الآبار الهميقة التي دقت في دلتا النيل وراء البحث عن البترول وإستخدامها لبناء مقاطع طولية وأخرى عرضية في الدلتا. والناظر إلى هذه المقاطع يرى أن قاع الدلتا لم يكن مستوياً عندما جاءها النيل وبدأ ترسيب أول الرواسب عليه فقد كان القاع الذي يمثل الجزء الشمالي من الدلتا وحتى مدينة طنطا واطئاً ومغموراً بمياه البحر حتى بدء ترسيب أول الرواسب النهرية للنيل بينما كان الجزء الجنوبي من الدلتا في ذلك الوقت مرتفعاً عن سطح البحر. كان الجزء الشمالي من الدلتا خليجاً تصله الرواسب البحرية وقت بدء نشأة النيل في القوت الذي كان فيه الجزء الجنوبي هضبة عالية من الحجر الجيري المغطاة بطفوح بركانية سميكة من البازلت التي كانت قد بثتها براكين كثيرة قبل تاريخ بدء النيل بحوالي عشرة ملايين سنة. وكانت الحافة الشمالية لهضبة الدلتا الجنوبية شديدة الإنحدار تشكل جرفاً عالياً كان يطل على الخليج الشمالي من على إرتفاع لا يقل عن ألف متر.
وعندما بدأ النهر تاريخه فإنه كان يقطع مجراه ويعمقه في الكتلة الجنوبية العالية ويرسب ما كان يحمله من رواسب في الخليج الشمالي. ولذلك وكما هو فإن أسمك وأكمل عمود للرواسب النيلية يوجد بالخليج الشمالي. ففي الوقت الذي كان فيه هذا الخليج يتلقى رواسب النهر كان مجرى النيل في الهضبة الجنوبية للدلتا وكذلك على طول إمتداده بمصر يتعمق ولم يكن يتلقى أي رواسب وقد إستمر الحال كذلك في أطوار نشأة النهر ولم يبدأ الوادي والكتلة الجنوبية للدلتا في تلقي روسب النهر إلا بعد أن إمتلأ الخليج الشمالي بالرواسب وإرتفع حتى أصبح بسواء كتلة الدلتا الجنوبية وشكل جزءاً من نهر سهل الإنحدار على طول مساره في الدلتا.
إن عمود رواسب النهر الذي يصل سمكه في الخليج الشمالي للدلتا إلى أكثر من أربعة كيلومترات مكون من وحدات تختلف عن بعضها البعض في نسيجها وتركيبها. وقد ترسبت كل وحدة من هذه تحت ظروف خاصة بها تعكس التغيرات التي لابد أن النهر مر بها. وينقسم عمود الرواسب الموجودة بمجرى النيل ودلتاه إلى خمس وحدات مثلت كل وحدة منها رواسب نهر متميز من حيث هيدرولوجيته ومنابعه. لقد مر النيل منذ نشأته بخمسة أطوار على الأقل, تغير في كل منها شكله وكمية المياه التي يحملها ومنابعه التي جاءته بالمياه, أما الأطوار الثلاثة القديمة فقد كانت منابع النهر فيها محلية تقع بمصر وبلاد النوبة وفي طور واحد منها ربما إمتدت منابع النهر إلى داخل أفريقيا وإن كان الدليل هنا ليس قاطعاً تماماً. أما الطوران الأخيران فقد إتصل نيل مصر فيهما بأفريقيا. وكان النهر عند بدء إتصاله بالمنابع الأفريقية صاخباً وحاملاً لكميات هائلة من المياه كما كانت منابعه في أفريقيا دائمة ولم تنقطع طيلة عمره, ولكن سرعان ما راح هذا النهر الذي أسميناه نهر ما قبل النيل ليحل محله نهر آخر هو النيل الحديث الذي لم يكن إتصاله بمنابعه الأفريقية دائماً ومستمراً كالنهر الذي سبقه كما كانت كمية المياه التي يحملها أقل بكثير.
وسنتناول في الفصول التالية مختلف هذه الأنهار التي شغلت مجرى النيل وكونت دلتاه تحت العناوين الآتية: 6-1: الأنيال الأولى بمصر: من خانق إلى نهر متدرج ومتوازن. 6-2: نهر ما قبل النيل (البرينيل): تأسيس إتصال بأفريقيا. 6-3: النيل الحديث (النيونيل): الإتصال بأفريقيا يصبح ضعيفاً ومتقطعاً. ويصف الفصل 6-1 الظروف التي أدت إلى حفر مجرى النيل الخانق عميق, وكذلك الأطوار التي مر بها هذا الخانق حتى إمتلأ برواسب الأنهار التي جرت فيه. وهناك من الأدلة ما يرجح أن هذه الأنهار كانت ذات منابع محلية وأنها لن تنشئ إتصالاً مع أفريقيا الإستوائية. وقد إستمرت هذه الفترة حوالي خمسة ملايين سنة وكانت نهايتها منذ ميلونين من السنين من وقتنا الحالي.
ويصف الفصل 6-2 أول الأنهار ذات الإتصال بأفريقيا والتي جاءت إلى مصر منذ ما بين 800 ألف, 700 ألف سنة قبل الآن. وقد جاء إتصال بأفريقيا نتيجة التغيرات في تضاريس المرتفعات الأثيوبية وهضبة البحيرات وإقترابها من شكلها الحالي نتيجة الحركاتت الأرضية والطفوح البركانية المصاحبة للطور الأخير من عملية بناء الأخدود الأفريقي الكبير وهي التي تسببت في نشأة بحيرتي تانا وفكتوريا وتحويل تصريف مياه المرتفعات الأثيوبية ناحية النيل. وكالن النهر الذي وصل إلى مصر نهراً هائلاً حمل رواسب ضخمة من الرمال التي بدات تترسب في وادي النيل بمصر وساهمت في تشكيل لاندسكيب مصر الحديثة الذي بدأ يتخذ شكله الحديث منذ ذلك الزمان.
ويصف الفصل 6-3 النيل الحديث الذي شهد ظهور الإنسان وتارخه في مصر وقد إمتد عمر النهر لحوالي 400.000 سنة وكان إتصاله بأفريقيا ضعيفاً في عمومه ومتقطعاً, فقد كانت مياه النهر تصل منها في بعض الأوقات في قوة مناسبة وفي أوقات أخرى بقوة أقل, وكانت أحوال المناخ متقلبة, وقد تشكل نهر النيل الذي نعرفه الآن في الفترة الأخيرة بعد أن مر بأطوار كان فيها موسمياً ومتقطعاً ثم عاد ليصبح كما نعرفه جارياً على مدار السنة وكان ذلك نتيجة إزدياد المياه التي وصلت النهر في أعقاب تراجع الجليد عن نصف الكرة الشمالي منذ حوالي 10.000.
الأنيال الأولى بمصر
من خانق إلى نهر متدرج ومتوازن يرجع تكوين مجرى النيل في مصر إلى حادث فريد حدث في التاريخ الجيولوجي منذ حوالي ستة إلى سبعة ملايين سنة عندما إنقطع إتصال البحر الأبيض المتوسط ببحار العالم نتيجة إنسداد فتحة بوغاز جبل طارق التي تشكل الوصلة الوحيدة لهذا البحر مع بحار العالم. ويرجع سبب هذا الحدث الفريد إلى إرتفاع السد أسفل البوغاز نتيجة حركات أرضية فصلت البحر عن المحيط الأطلنطي ومنعت وصول مياه المحيطات إليه. وقد غير هذا الحدث البحر الأبيض المتوسط وحوله هائلة بدأت مياهها في التبخر وملوحتها في الإزدياد نظراً لوقوعها في إقليم دافئ لا تصله أمطار غزيرة وفي ظروف عدة آلاف من السنين تعري قاع البحر بعد أن تغطي بطبقة سميكة من الأملاح التي أخذت تتراكم فوق قاع القاع عاماً بعد عام حتى بلغ سمكها عدة آلاف من الأمتار - ونحن مدنيون بهذا الإكتشاف المذهل للمشروع العالمي لدراسة أعماق البحار الذي كان من ضمن برنامجه في عام 1972 دق عدد من الآبار في قاع شرق البحر الأبيض المتوسط في محاولة لمعرفة طبيعة الرواسب التي ستخترقها هذه الآبار وما يمكن أن تعطيه من فهم للبيئات القديمة التي مر بها البحر خلال نشأته.
كان لإنخفاض منسوب البحر الأبيض المتوسط ثم جفافه خلال ما يسمى بأزمة نهاية عصر الميوسين وهو العصر الذي حث فثه إنقطاع وصول مياه المحيط إلى البحر تأثير كبير على الأراضي المجاورة. فقد سبب ذلك الإنخفاض من بين ما سبب تعميق مجاري الأنهار التي كانت تصب في البحر حتى تتواءم وهذا الإنخفاض وقد تم الآن إكتشاف عدد من الأنهار ذات المجاري العميقة في شمال أفريقيا وجنوب فرنسا والتي كانت قد حفرت مجاريها إلى هذه الأعماق الكبيرة خلا هذه الفترة. ولم يكن إكتشاف هذه الأنهار سهلا ًلأنها لم تكن ظاهرة على سطح الأرض فقد إمتلأت مجاريها بالرواسب وسوي سطحها بباقي السطوح المجاورة بحيث لم يعد من الممكن تمييز مجاريها القديمة إلا بإستخدام الطرق الجيوفيزيقية أو بحفر الآبار. ومن الأمثلة على ذلك نهر النيل نفسه فقبل البدء في عمليات البحث عن البترول في دلتاه وحفر الآبار فيها وبإستخدام الطرق الجيوفيزيقية المعقدة لمعرفة عمقه فإن أحداً ما كان ليتصور العمق الهائل الذي كان عليه مجرى النيل.
وكان ليتصاعد بخار الماء من سطح البحر خلال أزمة آخر الميوسين أثره في زيادة الأمطار على سطح مصر, إذ يبدو أنه تكثف مطراً عندما قابل جبال الصحراء الشرقية المصرية العالية التي كانت قد إرتفعت قبل ن تنحسر المياه عن البحر المتوسط بعدة ملايين من السنوات, وكانت هذه الجبال عند نشأتها أعلى مما هي عليه الآن بعدة آلاف من الأمتار. وقد سببت هذه الأمطار بناء شبكة تصريف فوق هذه الجبال إلتقت كلها في ذلك الحوض الطوالي الذي يقع بين هذه الجبال وهضبة الصحراء الغربية لتكوين النيل الأول أو ما أسميناه بنهر فجر النيل (أيونيل). وفي هذه الفترة حفريات وديان الصحراء الشرقية التي كونت جزءاً من شبكة التصريف التي إمتدت فجر النيل بمياهه بل وبرواسبه التي جاءت من طبقات الصخور التي كانت ترسو فوق جبال الصحراء الشرقية في ذلك الوقت, أما الروافد التي كانت تغذي النهر من ناحية الغرب فإننا لا نعرف الكثير عنها لأنها إمتلأت بالرمال التي كانت تتحرك في هذه الصحراء المنبسطة دون عائق في عصور الجفاف التي تلت هذه الوديان فسوتها وأخفت مجاريها وإن كانت صور فضاء الرادار الحديثة قد أظهرت البعض منها, على ا،ه من المحتمل أن العديد من منخفضات الصحرراء الغربية الكبيرة كمنخفض القطارة أو الواحات تمثل بقايا المجاري الأساسية لشبكة تصريف هذه الصحراء. وفي الحقيقة فإن موضوع نشاة هذه المنخفضات الكبرى هو أمر مثير للجدل التكهنات فهناك الكثير من المؤلفين من يعزون نشاة هذه المنخفضات إلى فعل الرياح ولكن وجه الإعتراض هنا هو أن معظم هذه المنخفضات كان لها غطاء من الحجر الجيري الصلب الذي يصعب نحره بالريح. وهناك من المؤلفين من يعتقدون أن هذه المنخفضات تكونت بفعل المطر الذي رشح في الصخور الجيرية التي تغطي العروض الوسطى فأذابتها وكونت فيها حفراً وكهوفاً بل وتصريفاً تحت السطح وعندما إتسعت هذه الكهوف إنهارت سقوفها وإتصلت ببعضها فكونت منخفضات طولياً كانت في بدئها مغطاة بحطام الأسقف الذي تراكم على قاعها ولكن الرياح التي تميزت بها فترات الجفاف ذرت هذا الحطام إلى أماكن بعيدة أما في الفترات المطيرة فقد كان لهذه المنخفضات إتصال بالنيل. وقد تم حديثاً التعرف علىالمجاري التي كان يتم بها هذا الإتصال والتي لم تكن معروفة أو واضحة على الخرائط من قبل نظراً لإمتلائها بالرمال التي سوتها مع باقي الأرض المجاورة وطمست بذلك معالمها. ومن هذه الوصلات رافد توشكا الذي إكتشف حديثاً في صحراء النوبة وكان يصل فيما بين منخفضات الواحات الخارجة والداخلة والنيل. وفي السابق عندما لم تكن هذه الوصلات معروفة فقد كان الرأي الشائع هو أن هذه المنخفضات داخلية ليس لها تصريف يصلها بالبحر. وقد كان إكتشاف الرافد الذي يوصل هذه المنخفضات بالنيل فالبحر سبباً يرجع إرجاع سبب تكوين هذه المنخفضات إلى فعل المياه الجارية. وقبل هذا الإكتشاف لم يكن هناك من عامل يمكن أن يشكل هذه المنخفضات غير الريح أما الآن لإغننا يمكن أن ننظر إلى هذه المنخفضات على أنها اجزاء من شبكة تصريف مائي فصلت وتوسعت بفعل ذوبانم الأحجار الجيرية بالأمطار وتذرية نواتج هذا الذوبان بالريح.
وقد كان للهبوط التدريجي لمنسوب البحر الأبيض المتوسط خلا أزمة الميوسين أثره على نهر النيل الذي أخذ يعمق مجراه ليتواءم وهذا المنسوب الجديد حتى بلغ عمقاً يزيد بكثير من منسوب البحر الحديث. وبدراسة الآبار التي حفرت على طول مجرى النيل ودلتاه فقد أمكن الآن معرفة عمق قاع فجر النيل في اماكن عدة فقد كان على عمق 170 متراً عند أسوان و 800 متر عند أسيوط و2500 متر إلى الشمال من القاهرة كما كان على عمق أكثر من 4000 متر في شمال الدلتا - وعلى هذا فقد كان معدل إنحدار النهر عند نشأته هو متر واحد لكل 1.7 كيلومتر من المجرى. بالمقارنة بالنهر الحديث الذي يبلغ متوسط إنحداره متراً واحداً لكل 12 كيلومتراً من المجرى ونهر بهذه الأعماق لابد أنه شكل خانقاً بلغ من العمق والطول ما يفوق أشهر الخوانق الحديثة وهو الخانق العظيم لنهر كولورادو بشمال أمريكا . لقد فاق نهر فجر النيل بلا شك أي نهر مماثل في العصر الحديث في روعته وبهائه. ويبدو منحدر مجرى فجر النيل والذي يبدو أنه كان مليئاً بالعوائق والإختناقات, فبالإضافة إلى الشلال العظيم الذي كان يقع بين كتلة الدلتا الجنوبية وخليج الدلتا الشمالية فقد كانت هناك شلالت عند القاهرة وملوي وجبل السلسلة (إلى الشمال من كوم أمبو) وأماكن كثيرة بالنوبة. أما الرواسب التي كان يحمله هذا النهر السريع فقد كانت تترسب عى شكل مروحة كبيرة عند مصب النهر أو مصبات فروعه التي كانت تنتهي عند الجرف الذي كان يحد كتلة الدلتا الجنوبية. وقد غطت هذه الرواسب قاع خليج الدلتا الشمالي ولا تعرف إلا عنده وعلى أعماق تتراوح بين 3500 و 4000 متر. أما متوسط سمكها وكما حسبت من الآبار فهو حوالي 700 متر أو قرابة 20% من السمك الكلي لعمود رواسب النيل منذ نشأته وحتى الآن,ويلاحظ أن أسمك رواسب فجر النيل توجد في شمال شرق الدلتا. لاشك أن نهر فجر النيل كان نهراً نشطاً حمل ما لا يقل عن 7000 كيلومتر مكعب من الرواسب في مدة مليونين من السنوات هي عمر هذا النهر.
ويمكن أن نتصور أن شكل نهر فجر النيل وحجمه كان مشابهاً لخانق كولورادو العظيم وإن كان, كما قلنا فيما سبق, أطول وأعمق منه. كان خانقاً فجر النيل والكواورادو متساويين تقريباً في عرضهما كما كانا يقطعان مجراهما في صخور طباقية وإن كان فجر النيل قد قطع مجراه في وقت يقل بكثير عن الوقت الذي إحتاجه قطع خانق كولورادو ويلاحظ أن كلا ً من النيل الحديث ونهر كولورادو يمران في صحاري قاحلة قبل أن يصلا إلى البحر وأن كليهما من مصادر المياه ما يمكنهما من الوصول إلى البحر دون أن تضييع مياههما في تيه الصحراء. وككل مكان آخر بالبحر الأبيض المتوسط فإن رواسب فجر النيل تتبادل مع طبقة من الأملاح تكونت عند تراجع البحر الأبيض المتوسط وتبخر مياهه وترسو تحتها وتشكل طبقات الملح هذه علامة مميزة وواضحة تربط بين السطوح ذات العمر الواحد في كافة آبار شمال الدلتا.
وبحلول عصر البليوسين منذ 5.4 مليون سنة عاد إتصال البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلنطي وأخذ الماء يتدفق فوق بوغاز جبل طارق فإمتلأ البحر مرة أخرى عند إمتلائه في خوانق الأنهارالتي كانت قد عمقت مجراها عندما كان منسوب البحر واطئاً. وقد أدى دخول البحر في خانق النيل إلى تحويه إلى خليج بحري طويل إمتد حتى أسوان كما أغرق مساحات كبيرة حول الدلتا - وقد ترك هذا الخليج رواسب تم رفعها على خرائط حددت بشكل واضح حدود هذا الخليج والذي إمتد بدوره في الوديان الجانبية حتى وصل إلى الجنوب. ولما بدئ في بناء السد العالي وحفرت الآبار لبناء الأساس وجد أن النهر عند موقع السد العالي بخلاف أسوان, ملئ برواسب نيلية بلغ سمكها أكثر من 170 متراً وأن صخور الأساس الجرانيتية عميقة وأ، الموقع يقع في مجرى قديم للنيل غمره خليج البحر المتوسط عند تقدمه داخل الوادي حتى وصله وترك فيه رواسبه التي وجدت على عمق 170 متراً من السطح.
أما عن الخليج ذاته فقد كان في أول أمره بحرياً خالصاً يشكل ذراعاً من البحر الأبيض المتوسط, ثم مالبث أن إنقلب إلى جونة صب فيها نهر تكون في فترة مطيرة فحول مياهها إلى نصف مالحة ثم إمتد النهر فيها إلى أن وصل إلى البحر المتوسط. وقد حمل هذ النهر الذي أسميناه نهر النيل القديم (الباليونيل) رواسب رفيعة ودقيقة لم تتغير في تركيبها كثيراً على مدى عمر النهر وهذا مما يعطي الإنطباع بأن منابع هذا النهر لم تتغير كثيراً عبر الزمان كما أنه لابد أنها كانت مغطاة بغطاء نباتي كثيف ساعد في تفتيت التربة التي كونت مصدر رواسب النهر الدقيقة التي حملها النهر في رتابة عبر تاريخه الطويل الذي قد يزيد على 2 مليون ينة حتى بلغ سمكها أكثر من كيلومتر ونصف الكيلومتر في شمال الدلتا.
وتوجد برواسب النيل القديم بقايا حفرية لحيوانات قديمة أثبتت الدراسات المبدئية أنها لا تنتمي إلى مجموعة حيوانات المياه العذبة لأفريقيا الوسطى مما يشير إلى ا، النهر لم يتصل بأفريقيا وأن منابعه ربما كانت في جبال مصر والنوبة. وتوجد رواسب النيل القديم في مجاري عدد من وديان الصحراء الشرقية مما يثبت أن هذه الوديان كانت نشطة وقت جريان هذا النهر. وإلى أن تتم دراسة أكمل لبقايا الحيوانات التي عاشت وقت النيل القديم فإننا سنقبل القول بأن للنيل القديم منابع محلية. وقد تثبت الدراسة المستفيضة للحفريات عن وجود مصدر أفريقي آخر للنهر وفي هذه الحالة فمن الممكن أن تكون مياه بحيرة السد بمنتصف السودان والتي سبق الكلام عنها هي مصر بعض رواسب هذا النهر الرفيعة بالإضافة إلى أسطح هضاب مصر والنوبة ذات الغطاء النباتي الكثيف كما أشرنا من قبل.
هذا وقد ملأت رواسب نهري فجر النيل والبالونيل وكذلك رواسب الخليج البحري الذي تخللهما خانق النيل وأعطت للنهر تدرجية منتظمة كما شكلت أكثر من 7% من جملة الرواسب التي حملها النهر منذ نشأته.
وفي مبدأ العصر البليستوسيني (الذي بدأ منذ ما بين 2 و 1.8 مليون سنة) توقف الباليونيل وبدأ في مصر عصر جفاف شديد لم يتوقف فيه النهر فقط بل والأمطار التي كانت تعم أرض مصر على مدار السنة . وبذا أصبحت مصر صحراء جرداء. وفي هذه الفترة هلكت النباتات التي كانت تغطي سطح مصر وتطايرت التبرة الدقيقة الحبيبات بواسطة الرياح واصبح سطح مصر عارياً إلا من جلاميد الصوان الشديد الصلابة والتي لم تستطع ملايين السنين من الرطوبة والأمطار تحطيمها فتاتاً. وقد تخلل فترة الجفاف الشديد هذه والتي ربما زاد طولها على المليون عام فترتان قصيرتان كثرت بهما الأمطار أولهما هي التي أدت إلى عودة المياه الجارية إلى نهر النيل لوقت قصير وتسببت في تكوين نهر إحتل مجرى النيل لفترة قصيرة وهو الذي أسميناه البروتونيل (أو النيل الأول) ويبدو أن هذا النهر كان قوياً قادراً على أن يكسح من السطوح العارية لصحاري مصر والنوبة جلاميد الصوان والرمال الخشنة التي كانت تغطي مصر بعد فترة الجفاف الطويلة في مبدأ البليستوسين. وتوجد رواسب هذ النهر على شكل مصاطب على جانبي النهر في هضاب النوبة وحتى البحر الأبيض المتوسط,وهي في أحسن شكل لها غلأى الغرب من إدفو حيث تغطي سهل درب الجلابة المتسع الذي يقع على إرتفاع 35 - 40 متراً فوق منسوب سهل فيضان النيل الحديث وهو سهل تغطيه جلاميد هذا النهر القديم الذي تكون خلال هذه الفترة المطيرة التي أسميناه بفترة إدفو.
أما الفترة المطيرة الثانية التي تخللت عصر الجفاف الكبير الذي عاصر مبدأ عصر البليستوسين فهي تلك التي سببت تكوين دلتاوات كثيرة عند مصبات الكثير من وديان الصحراء الشرقية التي يبدو أنها كانت نشيطة خلال هذه الفترة وفيها كسحت الأمطار رواسب كثيرة ترسبت عند مصبات الوديان عند مداخلها إلى النيل. ويبدو أن الأمطار لم تكن من القوة لتشكل نهراً دائماً بمجرى النيل. وتقع أهمية هذه الفترة التي أسميناها فترة أرمنت المطيرة في إحتواء رواسبها على أدوات حجرية صنعها الإنسان, وهذه الأدوات هي بالقطع أقدم ما تركه الإنسان بأرض مصر.
ولما كانت الرواسب المروحية والدلتاوية لفترة أرمنت مشابهة لدرجة كبيرة للرواسب التي حمله السيول الحديثة من نفس هذه الوديان فقد إستنتجنا النهر نقابل ربما كانت أيضاً مشابهة من حيث طبيعتها وموسميتها للمطار الحديثة وهذه هي أول مرة منذ نشأة النهر نقابل فيها فترة يسود فيها مناخ مشابه لذلك الذي نعرفه اليوم واذلي يبدو أن تارخ تأسيسه إنما يرجع إلى ذلك الوقت. كان مناخ كل الفترات السابقة مختلفاً عن ذلك الذي يسود أرض مصر اليوم حيث تتساقط الأمطار في فصل الشتاء فقط. أما الفترات السابقة فقد كانت الأمطار خلال الفترات المطيرة التي زامنت فجر النيل والنيل القديم والنيل الأول مستمرة طول العام.
وقد حدث تغيير شامل في طبيعة نهر النيل منذ حوالي 800 ألف إلى 700 ألف سنة بوصول نهر عظيم إحتل وادي النيل من قلب القارة الأفريقية لأول مرة. وقد صاحب هاذ الإتصال الأفريقي تغير كامل في مناخ مصر, فقد كان المناخ ومنذ نشأة النيل منذ حوالي 7 ملايين سنة وحتى بدء الإتصال الأفريي مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن فقد كان مطيراً بحيث زود النيل بكميات هائلة من الماء في فترات ثلاث لعل أكثرها مطراً كانت تلك التي كونت الباليونيل (النيل القديم). وقد إختلف هذا النمط من المناخ عند بدء الإتصال الأفريقي بل وقبل ذلك بكثير عندما أصبح مناخ مصر صحراوياً وإن إنقلب بعض الشئ لفترات قصيرة كما سنرى فيما بعد.
نهر ماقبل النيل (البرينيل)
تأسيس إتصال بأفريقيا:
في بدء عصر البليستوسين المتوسط منذ حوالي 800000 إلى 700000 سنة حدث الحادث العظيم ووصل إلى مصر ولأول مرة نهر عظيم من قلب أفريقيا. وقد إستمد هذا النهر معظم مياهه من المرتفعات الأثيوبية التي إندفعت عبر هضبة النوبة في مجرى إمتلأ بالشلالات. وربما نتج هذا الإتصال بسبب الحركات الأرضية التي شكلت المرتفعات الأثيبوبية والأخدود العظيم الذي شقها فسبب توجيه تصريف مياه هذه المرتفعات ناحية النيل بدلا ً من البحر الأحمر كما كان الحال فيما سبق. وفي خلال ذلك الوقت لابد أن وصل إلى السهل المنبطح بجنوب ووسط السودان تصريف هذه الأنهار التي جاءتها من المرتفعات الأثيوبية فأغرقته وكونت فيه بحيرة هائلة إرتفعت المياه فيها حتى فاضت فوق جوانبها ودخلت في حوض نهر أومو كما إندفعت عبر هضاب النوبة ناحية مصر. وفي هذا الوقت أيضاً أثرت الحركات الأرضية على بحيرة فكتوريا التي كانت لتوها فكبر مسطحها نتيجة لإنعكاس تصريف الكثير من فروع الكونجو ووصولها إلى البحيرة بدلاً من نهر الكونجو كما سبق تفصيله. وليس من المستبعد أن مياه بحيرة فكتوريا قد إرتفعت حتى فاضت وإندفعت إلى الشمال إلى منطقةالسد فمصر, فعلى الرغم من أن دراسة التكوين المعدني لرواسب نهر ما قبل النيل تثبت بما لا يدع مجالا ً للشك بأنه كان متصلا ً بالمرتفعات الأثيوبية فإن هذه الدراسة لا تنفي إمكان إتصال هذا النهر بهضبة البحيرات أيضاً.
كان نهر النيل أول نهر يؤسس إتصالأً بأفريقيا. وكان هذا النهر قوياً ونشطاً حمل كميات هائلة من الماء وإستمر على مدى حوالي 400000 سنة. وقد حمل هذا النهر كمية هائلة من الرمال التي ترسبت على جانبية وفي سهله الفيضي وفي دلتاه اللذين كانا أكبر بكثير من نظيريهما الحديثين. ورواسب هذا النهر خشنة تكونت عاماً بعد آخر حتى كونت رواسب سميكة وفي الجزء الأعلى والأحدث من هذه الرواسب توجد طبقات من الرمال التي حملتها الرياح, مما يشير إلى أن النهر ربما عاصر في آخر عمره فترة جفاف شديدة. وتظهر رواسب ما قبل النيل على جانبي الوادي في تلال ومصاطب تشكل جزءاً أساسياً من لاندسكيب وادي النيل الحديث, والكثير منها يستخدم لإستخراج رمال البناء في مدن الوادي وأطراف الدلتا. كما تبرز رمال ما قبل النيل وسط مسطحات الدلتا الواسعة على شكل تلال رملية متفرقة تعرف بإسم (ظهور السلحلفاة) وقد لعبت هذه الظهور دوراً هاماً في تاريخ إستيطان مستنقعات الدلتا في عصور ما قلب التاريخ, فقد كانت مرتفعة عما حوله من مستنقعات.
وتوجد رمال ما قبل النيل مدفونة تحت سطح أرض مصر الزراعية في كل مكان, وقد تم إختراقها في كل بئر حفرت في الوادي أو الدلتا وهي لمساميتها تشكل الطبقة الأساسية الحاملة للمياه الأرضية في أرجاء المعمور في مصر وفيها يقع خزان المايه الجوفية الأساسي تحت الدلتا وفي وادي النيل.
ويبلغ متوسط سمك رواسب ما قبل النيل 70 متراً في وادي النيل وما بين 300 إلى 400 متر في الدلتا ويصل السمك في بعض الأماكن إلى 250 متراً في الوادي وأكثر من 1000 متر في الدلتا. ويقع أقصى سمك لرواسب ما قبل النيل في الآبار المحفورة غرب الوادي في الجزء الأوسط من نيل مصر عند محافظة المنيا, حيث يبدو أن النهر في ذلك التاريخ كان يجري إلى الغرب من بحر يوسف. وقد كان مجرى نهر ما قبل النيل كان ينساب على طول الحد الغربي للوادي, أما في الدلتا فإن أسمك الرواسب تقع في الآبار المحفورة في الشرق والشمال الشرقي ويبدو أن مصبات نهر ما قبل النيل الأساسية كانت إلى ناحية الشرق.
وإمتدت دلتا ما قبل النيل في البحر الأبيض المتوسط حتى بلغت مساحتها ثلاثة أمثال مساحة الدلتا الحالية وقد سجلت بعثة مشروع الحفر الآلي العميق في شرق البحر الأبيض المتوسط رواسب رملية يعتقد أنها رواسب نهر ما قبل النيل في آبار دقت بداخل البحر الأبيض على بعد أكثر من 150 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من دمياط. ويبدو أن إتساع الرواسب وسمكها أن نهر ما قبل النيل كان نهراً هادراً وقوياً كان يحمل إلى البحر ما يقدر بحوالي 200 مليون متر مكعب في العام طوال 300000 إلى 400000 هي مدة وجود هذا النهر. وتمثل هذه الكمية حوالي ضعف الكمية التي يحملها النيل في الوقت الحالي. وتشير ضخامة حجم الرواسب التي كان يحملها نهر ما قبل النيل إلى قدرة هذا النهر القديم ذي السرعة العالية على حفر مجراه في مرتفعات أثيوبيا وهضبة النوبة المغطاة بالصخور الرملية والتي ربما كان تشكل مصدراً لجزء كبير من الرمال التي كان يرسبها هذا النهر بمصر. ولم يترك النهر لذلك أية رواسب في أثيوبيا أو النوبة فقد كان يعمق مجراه فيهما. أما في مصر فقد كانت هذه الرمال تترسب طبقة فوق طبقة حتى شكلت هذا السمك الكبير. وليس هناك من تفسير لهذا السمك الكبير إلا أن نفترض أن النهر قد عاصر زماناً كان منسوب البحر المتوسط فيه في إرتفاع مستمر مما يدفع النهر إلى ترسيب حمولته. وقد عرف مثل هذا الزمان في شرق البحر الأبيض المتوسط فيما بين الفترة التي إمتدت بين مليون ونصف المليون سنة قبل الآن. فقد كانت هذه الفترة فترة إرتفع فيها منسوب البحر بإستمرار على الرغم من أن عصرين جليدين (هما الجونز والمندل) قد تخللاهما. ومن المعروف أن عصور إنتشار الجليد تؤثر في منسوب البحر فتخفضه ذلك لأن الثلاجات تحتفظ بجزء من بخار الماء الذي يتجمد في صورة جليد يبقى على الأرض بدلأً من أن يعود إلى البحر. وليس هناك من دليل حتى الآن على أن منسوب شرق البحر الأبيض المتوسط قد تأثر بهذين العصرين فربما كان البحر منفصلا ً عن المحيط العالمي بغغلاق بوغاز مسينا.
ومن الصعب تحديد المدة التي إستمر فيها نهر ما قبل النيل. فرواسبه لا تحمل أية مواد يمكن إستخدامها في تحديد عمرها المطلق بإستخدام الطرق الراديومترية. كما أن أنواع الحياة التي عاشت وقت تكوين رواسبه وحفظت فيها قليلة ومعمرة عاشت على مدى أزمان طويلة, مما لا يساعد على تحديد عمر الرواسب التي تحملها وإن كانت مفيدة في معرفة مصدرها فجميعها ذات مصادر أفريقية مما يؤكد إتصال نهر ما قبل النيل بأفريقيا. وتقع رواسب ما قبل النيل تحت طبقة من رواسب الوديان تحمل أدوات حجرية لإنسان العصر الحجري القديم المبكر (البالوليثي) والعصر الحجري القديم المبكر عصر له إمتداد طويل في أفريقيا بين مليون ومائتي ألف سنة قبل الآن. والأدوات الموجودة بمصر هي من النوع المتطور الذي يعتقد أنها ذات عمر يترواح بين 350000, 400000 سنة قبل الآن. ولما كانت آخر رواسب ما قبل النيل تقع تحت هذه الرواسب الحاملة لأدوات العصر الحجري القديم المبكر فلابد أنها أقدم منها وليس من البعيد لذلك أن ما قبل النيل قد توقف عن الجريان منذ 400000 إلى 450000 سنة.
6-3: النيل الحديث (النيونيل)
أصبح إتصال النهر مع أفريقيا متقطعاً منذ اـ توقف نهر ما قبل النيل عن الرجيان منذ حوالي 400000 سنة مضت. وقدحدثت تغيرات مناخية كبيرة منذ ذلك التاريخ مما أثر على منابع النيل بل وكافة حوضه وستكون هذه التغيرات موضوع تفصيل أكبر في الفصل الأخير من ذها الجء من الكتاب ويمكن القول بصفة عامة إن إتصال النهر المصري بأفريقيا أصبح أمراً عابراً ومتقطعاً خلال الأربعمائة ألف سنة الأخيرة. وففي الفترات إلى كان النهر يتصل فيها بمنابعه في أفريقيا كان يجئ بقوة في بعض الأحيان. وبوهن شديد في معظم الأحيان وحتى في الحالات التي كان النهر يأتي فيها بقوة فإنه لم يعد أبدأً بنفس القوة التي كان عليها في زمن نهر ما قبل النيل. وقد حملت الأنهار التي كانت تجئ إلى مصر في هذه الفترة من أفريقيا رواسب تشبه تلك التي يحملها النهر الحديث الذي نعرفه الآن وعلى الرغم من أن هذه الأنهار قد إختلطت في حجمها ورجيمها إلا أن رواسبها كانت من التشابه لدرجة أنا صنفت في مجموعه واحدة سميت مجموعة أنيال النيل الحديث (النيونيل).
كان إتصال النهر مع منابعه في افريقيا متوقفاً على كمية الأمطار التي كانت تتساقط على منابع النيل والتي تغيرت بين الفينة والأخرى وكذلك على النشاط الزلزالي لهضبة النوبة تلك القنطرة التي كان على النهر أن يعبرها لكي يصل إلى مصر ولم تكن هذه القنطرة في حالة إستقرار فقد كانت وحتى العصر الحديث تهتز على طول فوالق عرضية كثيرة تمتد من الشرق إلى الغرب, وتقطعها في أماكن كثيرة وقد سبق القول إن فالق كلابشة الذي يمتد إلى أكثر من 150 كيلومتراً ويقطع النيل قد إهتز في عام 1981 وقبل ذلك أيضاً, كان لإستقرار هضبة النوبة أهمية كبرى في وصول المياه من أفريقيا إلى مصر.
ويمكن تمميز أربع فترات في تاريخ النيونيل وأقدم الفترات هي التي صاحب فترة العصر الحجري القديم المبكر المطيرة (والتي سميت بفترة العباسية المطيرة) وفيها إنقطع وصول المياه من أفريقيا ولكن الأمطار غطت سطح مصر وملأت مجرى النيل بصورة موسمية وقد تخللت هذه الفترة فترة جفاف قصيرة وصل مصر فيها نهر من أفريقيا هو النيونيل الأول أو نهر دندرة. وقد رجيم هذا النهر هو الرجيم الذي أصبح نمطاً لكل الأنهار التي جاءت من أفريقيا بعد ذلك التاريخ وحتى الآن.
وقد عاصرت الفترة التالية فترة مطيرة أخرى سميت فترة بير صحاري المطيرة وفي هذه الفترة كانت أمطار الشتاء على مصر تضيف إضافة طيبة لمياه نهر أفريقي الأصول متقلب كان يجئ ويروح بين الآن والآخر. وقد رأت هذه الفترة ظهور إنسان العصر الحجري القديم المتوسط بمصر.
وقد تزامنت فترة العباسية وبير صحاري المطيرتين مع عصري الجليد الأوربيين المعروفيين بإسمي الريس والمندل الذلين يبدو أنهما أثر على توزيع الظواهر الجوية وتدرجيتها وغيرا توزيع سقوط الأمطار على القارة بحيث إمتد نطاق أمطار البحر الأبيض المتوسط جنوباً لكي يشمل مصر كما تراجع نطاق الأمطار عن منابع النيل. وسنأتي على ذكر بشئ من التفصيل في آخر هذا الجزء.
أما الحدث الثالث فقد بدأ منذ 70000سنة قبل الآن وإمتد ليشمل العصر الجليدي الأخير عندما وصل إلى مصر نهران موسميان من الهضبة الأثيوبية. وقد حمل هذان النهران رواسب ضخمة تشبه الرواسب الحديثة للنيل رسباها في النوبة وجنوب مصر. وكان هذان النهران متشابهين في منابعهما ورجيمهما وكانا نشطين خلال عصر الجليد الأخير عندما كانت الأمطار أقل في أقاليم منابع النيل وفي مصر ايضاً. وتفصل النهرين فترة عمق النيل فيها مجراه وكان رجيم النهرين مشابهاً لدرجة كبيرة لرجيم نهر عطبرة الحديث الذي ترتفع مياهه دفعة واحدة خلال الفيضان ويكاد يجف خلال موسم الجفاف.
أما رابع الفترات التي بدأت منذ حوالي 10000 سنة في أعقاب تراجع ثلوج جليد العصر الجليدي الأخير وفيها وصل غلى مصر نهر هو الذي نعرفه الآن والذي نعيش في ظلاله. وقد حمل هذا النهر رواسب أسقطها على طول مجراه وفي الدلتا. وقد نشأ هذا النهر خلا فترة مطيرة سميت بفترة "النبطة المطرة" والتي صاحبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير. وقد تسببت أمطار هذه الفترة في زيادة كمية المياه لتي حملها هذا النهر عند نشأته مما جعله قادراً على الجريان على مدار العام. حقاً إن نهر النيل الحديث هو نتاج هذه الفترة.
نهرا العصر الحجري القديم المبكر
العارضان وما توسطهما من نهر النيونيل الأول جاء توقف نهر ما قبل النيل مفاجئاً ودون مقدمات. فقد إستمر يجري في حيوية تامة حتى حل محله نهر موسمي غذته أمطار محلية زاد سقوطها في خلال فترة مطيرة جاءت على أرض مصر. ولم يكن النهر الجديد الذي إحتلت مياهه نفس مجرى ما قبل النيل من مصدر للمياه غير المطار المحلية التي بدأت في فترة العباسية المطيرة الأولى فقد إنقطعت صلة النيل بأفريقيا في هذه الفترة وقد حمل هذا النهر الموسمي رواسب من الحصباء وهي حجارة مستديرة يزيد قطرها على 2سم جرفتها فروعه المتعددة من فوق جبال البحر الأحمر والنوبة التي كانت سطوحها قد تعرت في فترة الجفاف التي عاصرت فترة آخر ما قبل النيل, فرسبتها فوق الرواسب الرملية لهذا النهر الالقديم في جنوب الوادي. وتشبه الحصباء التي حملها هذا النهر القديم ما تحمله وديان الصحراء الشرقية في العصر الحديث بعد كل فترة أمطار أو سيول.
وقد تخللت فترة جريان هذا النهر الموسمي فترة قصيرة عاود النيل فيها إتصاله بافرييا. وقد إختلف هذا النهر الأفريقي عن نهر ما قبل النيل الذي كان ياتي من أفريقيا أيضاً, فحمل إلى مصر رواسب طميية رفيعة تشبه لحد كبير التي يحملها النيل الآن مما يشير إلى أن هذا النهر كان أقرب إلى النيل الذي نعرفه الآن عنه إلى نهر ما قبل النيل إذ يبدو أنهما جاءا من المنبع نفسه وفي الحقيقة فإن هذا النهر الجديد ذا الأصول الأفريقية كان أول الأنهار ذات رجيم النيل الحديث (النيونيل) الذي كثيراً ما كان يروح ويجئ منذ ذلك التاريخ. وقد سمي أول هذه الأنهار بالنيونيل الأول بنهر دندرة وهي البلدة التي تظهر بجوار معبدها الشهير رواسب هذا النهر في أحسن صورة. وتقع بلدة دندرة إلى الغرب من مدينة قنا بالصعيد.
كان نهر دندرة أقل قوة وحيوية من نهر ما قبل النيل, ولكنه كان نهراً قوياً إذا ما قورن بكافة الأنيال الحديثة التي تلته. وقد بدأ هذا النهر بحفر مجراه وتعميقه في رواسب نهر ما قبل النيل ثم عاد فبدأ في بناء سريره بطبقات من الطمي التي كان يحملها فإرتفع سريره إلى منسوب ما بين 23 و 25 متراً فوق منسوب النيل الحديث. ولابد أن النهر كان يحمل من المايه كميات أكبر مما يحمله النيل الحديث. وتعود كثرة مياه هذا النهر عما تلاه من أنهار ولو في جزء منها فيما يبدو إلى وصول كميات وفيرة من المياه من الهضبة الإستوائية والتي أمكن لها أن تعبر منطقة السدود دون فاقد كبير فلم تكن بمنطقة السدود في لذك الوقت حشائش أو أحراش, فقد ظلت لمدة طويلة قبل وصول نهر دندرة جافة أو قليلة الأمطار.
وعندما وهن النهر دندرة حل محله نهر محلي وموسمي تزامن مع فترة العباسية المطيرة الثانية.وقد حمل هذا النهر كميات هائلة من الحصباء التي كانت تجرفها الأمطار من هضاب وجبال الصحراء الشرقية المصرية وتتميز حصباء هذا النهر الجديد بوجود عدد كبير من الأدوات الحجرية للإنسان الحجري القديم المبكر الذي لابد أنه قد ظهر على أرض مصر على نطاق واسع في ذلك الزمان.
وتوجد أشهر مواقع حصباء فترة العباسية المطيرة الثانية في صحراء العباسية إلى الشمال من القاهرة وقد وصف هذا الموقع بوفيير لابيير في عام 1926 كما وصف أيضاً الدوات الحجرية للإنسان القديم التي إستخرجها منها والتي تفاوتت في عمرها بين أول العصر الحجري القديم وآخره.
وتنتشر حصباء العباسية في الكثير من المناطق الواقعة حول الوادي وتستعمل على نطاق واسع كمحاجر للزلط المستخدم في أعمال البناء. ويصل سمك حصباء العباسية في الكثير من الأماكن إلى أكثر من 30 متراً وإن كان متوسط السمك هو في حدود خمسة عشر متراً.
كان تكوين حصباء العباسية الثانية خلال عصر مطير تزامن الإنسان في أماكن كثيرة في أرض مصر, وقد إكتشفت بقايا الأدوات الحجرية التي إستخدمها هذا الإنسان في مناطق كثيرة في الصحراء الغربية وعلى طول وادي النيل وفي بعض وديان الصحراء الشرقية. أما في الصحراء فقد وجدت هذه الأدوات بجوار آبار إرتوازية نشطت في ذلك التاريخ البعيد أو في رواسب بحيرات قديمة كانت تزين الصحراء في هذه الفترة المطيرة أو في دلتاوات الوديان التي نشطت في هذه الفترة او في سفوح الكثير منالجبال, وتوجد الأدوات الحجرية لهذا العصر وسط حصباء العباسية الثانية حول وادي النيل. وقد تعرضت معظم مواقعها لعوامل التعرية فأزالت الكثير من ملابساتها ومعالمها مما جعل غعادة بناء شكل المستوطنات التي عاش فيها هذا الإنسان القديم صعباً. ولم يكشف في أي من هذه الأماكن عن بقايا أي منالحيوانات أوالنباتات التي عاشت خلال هذا الزمان كما لم يتم تأريخ أي من هذه الأماكن تأريخاً مطلقاً. على أن جملة الشواهد تؤكد أن العصر الحجري القديم المبكر الذي تزامن وفترة العباسية المطيرة الثانية كان عصراً مطيراً إرتفع فيه منسوب المياه الأرضية في الصحاري فتفجرت الآبار الإرتوازية في الكثير من الأماكن فيها وتجمعت المياه في الكثير من المنخفضات وشكلت بحيرات واسعة من أشهرها ما تم الكشف عنه ف يقلب جنوب الصحراء الغربية المصرية في منطقتي بير صحاري وبير طرفاوي, كما كانت الأمطار كافية لكي يجري في وادي النيل نهر عارض وموسمي وأن تتكون على جوانب الوادي أنواع من التربة التي لا تنشأ إلا في مناطق الأمطار تتراوح بين 250 و 600 ملليمتر في السنة.
نيل العصر الحجري القديم المتوسط المتقلب
تلت العصر الحجري القديم فترة طويلة إمتدت لحوالي 200.000 سنة هي مدة معظم العصر الحجري القديم المتوسط, وتميزت بنيل متقلب كانت كمية مياهه الواصلة من أفريقيا تأرجح ترتفع مرة وتنخفض مرة أخرى. كما كانت تصله مياه وافره منأرض مصر التي عمتها أمطار موسمية في هذه الفترة المطيرة التيتلت فترة جفاف فصلتها فترة العباسية الثانية المطيرة وتسمي هذه الفترة المطيرة اليت عاصرت إنسان العصر الحجري القديم المتوسط بفترة صحاري المطيرة. وعلى الرغم من وجود مصدرين لمياه نيل العصر الحجري المتوسط إلا أن النهري كان في عمومه ضعيفاً فقد كانت معظم الأمطار المحلية تصله في وقت الشتاء في غير موسم الفيضان. وقد إختلف هذا النهر لذلك عن كل أنهار النيونيل ذات الأصل الأفريقي في أنه عاصر فترة مطيرة ساهمت في زيادة مياه وبإستثناء هذه الحالة فإننا نلاحظ أن النيل كان يصل إلى مصر من أفريقيا عندما كان الجفاف يسود أؤضها. وسنحاول شرحها هذه الظاهرة المناخية في الفصل الأخير ({قم 8) من هذا الجزء من الكتاب. ويوجد إلى الجنوب من البلينا (إبيدوس) مقطع جيد لرواسب نيل العصر الحجري القديم المتوسط الآتية من أفريقيا متبادلة مع رواسب الوديان الناتجة عن الأمطار المحلية التي كانت تأتي في وقت الشتاء وفي غير موسم الفيضان.
وقد بدأ نيل العصر الحجري القديم المتوسط تاريخه بحفر مجراه وتعميقه في رواسب الأنهار التي سبقت فنرزل مجراه من منسوب 30 متراً فوق منسوب النيل الحديث والذي كان عليه منسوب نهر دندرة الذي سبقه إلى منسوب 23-25 متراً ثم منسوب ثمانية أمترا. وأخيراً إلى منسوب ستة أمتار فوق منسوب النيل الحديث وعند كل من هذه المناسيب كان النهر يثبت لفترة ليكون مسطحاً جانبياً على شكل المصطبة. وقد تم رفع مصاطب أطوار هذا النهر في الصعيد على خرائط. ويوجد بجميع هذه المصاطب حصى جرفة السيل من صخور جبال البحر الأحمر النارية وتحتوي المصطبة على إرتفاع 8 أمتار على أدوات حجرية لإنسان العصر الحجري القديم المتوسط المبكر (المسمى بالعصر الموستيري) وتمتد هذه المصطبة على جانبي الوادي من أسوان وحتى أسيوط. ولا يوجد للمصطبة أثر إلى الشمال من أسيوط إذ يبدو لأنها زالت بواسطة عوامل التعرية. أما المصطبة على إرتفاع ستة أمتار فتمتد على جانبي الوادي فيما بين أسوان والأقصر, ثم تهبط تحت رواسب النيل الحديث إذ يبدو إن نيل العصر الحجري القديم المتوسط في زمان تكوينها قد إتخذ تدريجية أكثر إنحداراً من النيل الحديث.
كان نيل العصر الحجري القديم المتوسط لذلك نهراً قاطعاً ومعمقاً لمجراه في معظم وقت سريانه,وقد يرجع ذلك لأن هذا النهر قد صاحب فترة طويلة من هبوط منسوب البحر العالمي فقد كان جو الأرض في الفترة بين 300000, 128000 سنة قبل الآن بارداً مما ساعد على تركم الثلوج فوق العروض العليا من الأرض وإمتناع المياه عن البحر وفي فترات هبوط منسوب البحر تحفر الأنهار مجاريها لكي تتجاوب وتتدرج مع منسوب البحر الجديد.
وقد عاصر هذا النهر ظهور إنسان العصر الحجري القديم المتوسط الذي إنتشر في صحاري مصر وحول وادي النيل, وقد وجدت الأدوات الحجرية التي إستخدمها الإنسان بين الحصى الذي ينتشر فوق مصاطب هذا النهر وعلى سفوح الكثير من الجيال التي تحف وادي النيل. ومن أهم هذه السفوح بلدة المخادمة, إلى الشمال من قنا, الذي تمتلئ بهذه الأدوات. وتعود أهمية سفح المخادمة الذي مازال محفوظاً بحصاه التي جرفت عليه حتى الآن في أنه يعطي الدليل على أن شكل النيل الحديث بسفوحه التي تحفه كان قد تشكل في هذه الفترة أما في الصحراء فهناك من الأدلة ما يقطع بأن هذه الفترة كانت محرجة وهامة أيضا في تشكيل تضاريس الصحراء التي نراها الآن.
وتشير دراسة رواسب العصر الحجري القديم المتوسط بالصحراء الغربية إلى أن كمية الأمطار التي عاصرته (أمطار فترة صحاري) تقلبت فإزدادت في أول الفترة وآخرها وقلت في وسطها. وكما عاصرت الفترة المبكرة منه الحضارة الموستيرية عاصرت الفترة الأخيرة منه الحضارة العاطرية. وقد إكتشف في صحاري مصر عدد محدود من موجودات هذه الحضارات وقد يعود ذلك لأن الكثير من هذه الموجودات قد تعرضت لعوامل التعرية فإنجرفت بقاياها وإختفت من مكانها.
وتعتبر صحاري المطيرة التي عاصرت حضارة العصر الحجري القديم المتوسط هي آخر الفترات المطيرة الكبيرة في مصر. وكما سبق القول فقد تشكل فيها لاند سكيب مصر الحديثة ففيها تعرت أراضيها وإختفت كافة سطوحها القديمة وتكونت سطوحها وسفوحها التي نعرفها الآن. ونظراً لشدة التعرية خلال هذه الفترة فقد إختفت السطوح القديمة إختفاء تاماً فلم يبق منها الآن شئ يذكر.
وعلى العكس ما تشير إليه دراسة الظواهر الجيومورفولوجية التي تحدثنا عنها فإن البقايا القليلة للحيوانات والنباتات التي وجدت في رواسب هذا العصر تشير إلى أن الأمطار لم تكن غزيرة للدرجة التي تعطيها لنا صورة التطور الجيوموفوجي للاندسكيب مصر. صحيح أن بعض هذه الحيوانات يحتاج إلى جو مطير للعيش مثل الخنزير البري الذي يوجد في أفريقيا الإستوائية, لكن معظمها لم يكن يحتاج إلى أمطار غزيرة للعيش. فقد كانت كلها من نوع الحيوانات القادرة على العيش في المناطق الجافة ومن هذه وحيد القرن الأبيض وبعض أنواع الجاموس البري وبعض أنواع الغزال والجمال. وكل هذه تعيش اليوم في منطقة الساحل الأفريقي التي لا تزيد كمية الأمطار فيها على 400 ملليمتر في العام.
نهراً آخر العصر الحجري القديم المتوسط وأول العصر الحجري القديم المتأخر الموسميان
شهد العصر الجليدي الأخير الذي غطت الثلاجات فيه أجزا كبيرة من أوروبا وآسيا عصر جفاف في أفرقيا قلت فيه الأمطار كما شهد هذا العصر وصول نهرين من المرتفعات الأثيوبية إلى مصر أسميناها - النيونيل ب والنيونيل ج - كان مصدر المياه الوحيد لهذين النهرين هو المرتفعات الأثيوبية أما منطقة البحيرات الإستوائية فقد شهدت عصراً قلت فيه الأمطار بدرجة كبيرة كما إجتاحت شمال السودان ومصر فترة جفاف شديد. وبتوقف وصول مياه الهضبة الإستوائية وإعتماد النهر على مصدر واحد للمياه أصبح النهر موسمياً لا يصل خلال فصل الفيضان فقط. وقد حمل النهران معهما كميات هائلة من الطني الذي رسباه على جانبي الوادي في النوبة وجنوب مصر في شكل مصاطب عالية مكونة من الطمي الذي تبادلت معه طبقات من الرمال التي سفتها الريح خلال عصر الجفاف الذي شهدته مصر خلال عمر النهرين. فقد كانت وديان مصر جافة تماماً فلم يحمل أي منها أي رواسب وديانية.
وفي فترة الجفاف هذه خلت صحاري مصر من السكان الذين كانوا يرومونها وقت أن كانت ممطرة, وهاجر منهم من إستطاع إلى جانبي النيل. وفي هذا الصدد فقد إختلف عصر الجليد الأخير عن العصور الجليدية التي سبقته والتي رأينا فيها أن المطار كانت تصاحبها فتحول صحاري مصر إلى مروج يمكن للإنسان أن يعيش فيها وسنحاول في الفصل الأخير من هذا الجزء منالكتاب (رقم 8) أن نضع تفسيراً لهذه التقلبات الجوية التي صاحبت العصور الجليدية المختلفة على أرض مصر.
كان من آثارالعصر الجليدي الأخير على منابع النيل الإستوائية هو قلة سقوط الأمطار عليها. وقد أثبتت الدراسات اليت أجريت على بقايا النباتات القديمة اليت وجدت في رواسب ذلك العصر في الهضبة الإستوائية أن أكثر الدراسات إنتشاراً فيه كانت الحشائش بأنواعها. فقد تقلصت غابات أفريقيا المطرية خلال فترة العصر الجليدي الأخير وربما إختفت تماماً ولم تعد هذه الغابات إلى حالها الذي نعرفه الآن إلا إبتداء من 12.500 سنة قلب الآنفقط بعد أن تراجع الجليد وعندما بدأت الأشجار تنتشر في الهضبة الإستوائية على حساب الحشائش أما عن بحيرتي فكتوريا وألبرت فقد كانتا خلال العصر الجليدي الأخير مقفلتين ولم يتصلا بالنيل إلا بعد نهاية عصر الجليد كما كان إقليم السد في هاذ الوقت جافاً تقريباً, إذ تقلصت مياهه إلى عدد من البحيرات نصف المالحة والمتفرقة أما عن مجرى النيل ابيض إلى الجنوب من الخرطوم فيبدو أنه كان مسدوداً بعدد من كثبان الرمل التي ملأت مجراه ولم تجر إقليم السد الجاف بكميات من 12.500 سنة عندما زادت الأمطار وإنفتحت البحيرات الإستوائية حتى وصلت مياهها عبر إقليم السد الجاف بكميات كبيرة إستطاعت أن تشق طريقها إلى الشمال. وفي الحقيقة فإ، النيل الأبيض لم يكتتب بأي كمية من المياه للنهرين الموسمين اللذين وصلا إلى مصر خلال عصر الجليد الأخير - فلم يكن لهذين النهرين من مصدر للمياه إلا المرتفعات الأثيوبية. وفي غير أوقات الفيضان كانت هذه الأنهار تجف كلية أو تتقلص كمية المياه فيها فتتحول إلى برك متفرقة - ولعل أقرب نهر حديث يشابه هذين النهرين هو نهر عطبرة الحالي الذي يجري هادراً وقت الفيضان ويكاد أن يجف تماماً وقت التحاريق.
أما عن الأمطار فوق الهضبة الأثيوبية فيبدو أنها لم تنح منحى الهضبة الإستوائية - إذ يبدو أنها كانت مطيرة خلا فترات طويلة وقت العصر الجليدي الأخير. وقد أمكن معرفة هذه الفترات بدراسة تذبذب منسوب بعض بحيرات التذبذبات هو الذي كان يرتفع عندما تزيد الأمطار وينخفض عندما تقل. ولعل أحسن البيانات عن هذه التذبذات هو الذي تم الحصول عليها من بحيرة آبي التي تقع في حوض الأواش في أخدود أثيوبيا (36) ومنها يتضح أنه كانت هناك فترة مطيرة رفعت منسوب البحيرة بين سنة 55.000 و سنة 31.000 قبل الآن (الفترة المسماة بفترة آبي 2) وفترة مطيرة أخرى بين سنة 29.000 و سنة 17.000 قبل الآن (الفترة المسماة آبي 3) تلتها فترة قلت فيها الأمطار بين سنة 17.000 و سنة 10.000 قبل الآن, ثم زادت الأمطار بعد ذلك في الفترة المسماة (آبي 4) - وهذه البيانات تجعل من السهل ربط نهري مصر بفترتي آبي 2 , 3 المطيرتين ففيهما إندفعت الأنهار الأثيوبية إلى مصر.
وقد يكون من المفيد أن نلفت النظر هنا إلى أن عدم تزامن أمطار الهضبتين الإستوائية والأثيوبية الذي نلاحظه في العصر الجليدي الأخير يسود الآن أيضاً ففي العصر الحديث هناك سنوات طويلة تزيد فيها الأمطار على الهضبة الأثيوبية في الوقت الذي تقل فيه على الهضبة الإستوائية كما أ، ناك سنواتت أخرى يحدث فيها العكس. وسنحاول في الفصضل الأخير من هذا الجزء (رقم 8) شرح أنماط المناخ وتذبذباتها في العصر الحديث في كلتا الهضبتين اللتين كان لكل منهما مساره الخاص.
ولابد أن كمية المياه التي حملها كل من النهرين الموسمين كانت أقل من تصرف النيل الحديث, كما لابد أ، مجراها كانا مضفرين ومليئين بالجزر والجسور أنهما لم يجفا تماماً في موسم الفيضان. إذ تثبت بقايا فرس البحر والماشية التي وجدت بين نفايات المستوطنات التي سكنها الإنسان بجوار هذه الأنهار أنهما لم يخلوا تماماً من المياه على مدار السنة.
وقد حمل النهران كميات كبيرة جداً من الطمي الذي كوماه في جسور هائلة تظهر الآن على شكل مصاطب على جانبي النيل في جنوب مصر. وقد أمكن تحديد عمر رواسب هذين النهرين بغستخدام تأريخ الكربون الذي إستخرج من نفايات مستوطنات الإنسان القديم الذي عاش حولهما. وفي وادي الكبانية إلى الشمال من أسوان منكشف هائل لطمي هذين النهرين به عدد من المستوطنات التي عاش فيها الإناسن القيدم فيما قبل التاريخ. كما توجد منكشفات أخرى لهذا الطمي بالصعيد توجد على سطوحها عدد من المستوطنات الأخرى. وقد تم تأريخ الكربون الذي إستخرج من هذه المستوطنات تأريخاً مطلقاً بواسطة طلايقةالكربون المشع, وبذا أمكن تأريخ أعمار هذين النهرين وتشير نتائج هذا التأريخ إلى أن النهر الموسمي القديم (النيونيل ب) ربما إمتد فيما بين 70.000 و 25.000 سنة قبل الآن. والعمر الأقدم (70.000) هو عمر تقديري, ذلك لأن أقدم رواسب هذاالنهر هي أقدم من أن تؤرخ بإستخدام طريقة الكربون المشع - أما رواسب هذا النهر في منطقة الكبانية فعمرها يقل قليلاً عن 30.000 سنة قبل الآن على ا، هناك إلى الشمال في بلدة الشويخات (محافظة قنا) طمي آخر ربما كان أحدث رواسب هذا النهر قدر عمره 24.700 سنة قبل الآن ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن طمي الكبانية وطمي الشويخات يحتويان على مجموعتين مختلفتين من الأدوات الحجرية التي صنعها الإنسان الذي عاش فوقهما إذ تحتوي طبقات طمي الكبانية على أدوات حجرية من آخر العصر الحجري القديم المتوسط بينما يحتوي طمي الشويخات على أدوات حجرية تنتمي إلى العصر الحجري القديم المتأخر.
وتقع رواسب النيونيل ب على إلاتفاع متراً فوق منسوب النيل الحديث في وادي حلفا ثم تقل إرتفاعاً كلما إتجهنا إلى الشمال حتى تصل إلى إرتفاع أمتار عند الأقصر وتصبح مطارقة تقريباً لمنسوب النيل الحديث عند نجع حمادي ولا توجد رواسب لهذاالعصر إلى الشمال من ثنية قنا. وقد وجدت رواسب نهرية لها نفس عمر رواسب النيونيل ب تحت السطح في بعض الآبار التي دقت في شمال شرق الدلتا.
ويمتد عمر النهر الحدث (النيونيل ج) لثمانية آلاف سنة تقريباً فيما بين سنة 20.000 و سنة 12.000 قبل الآن, وتحمل رواسب هذا النهر الكثير من بقايا الإنسان القديم التي تنتمي إلى آخر العصر الحجري القديم المتأخر.
ولرواسب النيونيل ج إمتداد جغرافي واسع فهي توجد على جانبي النهر حتى مدينة الفشن (على بعد 145 كيلومتراً إلى الجنوب من القاهرة) كما أنها توجد بمصبات عدد كبير من الوديان التي تصب في وادي حلفا وأبو سمبل وأسوان وكوم أمبو مما يدل على أن النهر كان عالياً ووفيراً. وتختفي رواسب النهر إلى الشمال من الفشن. وقد وجدت رواسب نهرية لها نفس عمر رواسب النيونيل ج في بعض الآبار التي دقت في شمال وشرق الدلتا تحت السطح وعلى أعماق غير كبيرة. ويصل إرتفاع رواسب نهر النيونيل ج إلى أقصى إرتفاع وصله النيل (بغستثناء نهر دندرة). فهي توجد على إرتفاع 21 متراً فوق منسوب التيل الحديث في النوبة و 12 متراً في دراو وبين ثمانية إلى ستة أمتار في وادي النيل إلى الشمال.
كان تفسير وجود هذه الكميات الهائلة من الطمي صعباً فقبل أن يعرف رجيم هذين النهرين الذي سمح نظامه بحمل هذه الكميات الكبيرة وترسيبها كانت هناك صعوبة في تصور الطريقة التي مكنت هذه الكميات الهائلة من الوصول إلى مصر. كان هناك من ظن أن هذه الرواسب لابد من أنها كانت مخزونة داخل بحيرة السد الكبيرة التي كانت تحتل منتصف السودان ثم إنطلقت دفعة واحدة إلى أرض مصر. وكان هناك من ظن أن هذه الكمية الكبيرة لا يمكن أن تنقل إلا بنهر قوي وقادر كما هناك من إعتقد على العكس من ذلك أن وصول هذه الكميات كان نتيجة نهر خامل وحامل لرواسب كثيرة. وهناك الآن شبه إجماع على أن هذه الكمية لابد وأن حملتها أنهار ذات فيضانات قوية ومتقطعة كانت تسير على مناطق عارية دون غطاء نباتي مما كان يسمح لها بإلتقاط مكية كبيرة من الرواسب. ومن المؤكد أن كمية الطمي هذه قد جاءت من جبال إثيوبيا التي تعرضت خلال العصر الجليدي الأخير إلى مناخ قارس البرودة أنقص درجات الحرارة فيما بين أربعة وثماني درجات مئوية في نشر الثلوج على قمم الجبال فإنخفض منسوب خط الأشجار بما لا يقل عن 1.000 متر وبذا تعرت قمم الجبال وسفوحها وتعرضت للتعرية. وقد ساعد هذا الحال على زيادة قدرة النهر على حمل الرواسب التي وصلت غزيرة إلى مصر.
ومن الأمور التي تحتاج إلى تفسير وجود رواسب نهري النيونيل ب والنيونيل ج مكومة في جنوب مصر على مناسيب أعلى من النهر الحديث, هذا على الرغم من أنهما تكونا خلال عصر جليدي كان منسوب البحر فيه أقل من منسوبه الحالي بأكثر من مائة متر. وفي مثل هذه الأوقات كان من المنتظر أن يحفر النهر مجراه وأن يعمقه لكي يتجاوب مع منسوب البحر, هذا ولكن الذي حدث هو أن الرواسب تكونت على مناسيب عالية وأغلب الظن أن ذلك قد حدث نتيجة إحتجاز الماء وراء عدد من الحواجز التي كانت تعترض النيل في منطقتي النوبة وجنوب مصر وحتى ثنية قنا. وفي مسار النهر الحديث أماكن كثيرة شيقة لابد وأنها كانت أكثر شيقاً في الماضي مما كان يرفع منسوب المياه خلفها ومن هذه الأجزاء الضيقة جبل السلسلة والعقبة الكبيرة. وكان وجود المياه خلفها ومن هذه العقبات السبب في إغراق سهل كوم أمبو ومصب وادي الكبانية الواسع مما جعلهما موقعين متميزين لسكنى الإنسان القديم. وبإستثناء هذا الجزء الجنوبي من وادي النيل فإن هذين النيلين القديمين كانا يحفران مجراهما إلى الشمال القديم. وبإستثناء هذا الجزء الجنوبي من وادي النيل فإن النيلين القديمين كانا يحفران مجراهما إلى الشمال لكي يتجاوبا مع سطح البحر المنخفض والذي وصل في قمة العصرالجليدي إلى أكثر من مائة متر أقل من منسوبه الحالي.
النيل الحديث (النيونيل)
وصل النيل الحديث إلى مصر في الفترة التي تلت تراجع ثلاجات العصرالجليدي الأخير التي كانت قد وصلت أقصى تقدم لها حوالي 15.000 قبل الآن عندما غطت أجزاء كبيرة من نصف الكرة الشمالي. وكان تراجع الجليد سريعأً وبلغ أقصى معدلات ترجعه في الفترة بين سنة 13.500 و 11.500 قبل الآن عندما إرتفعت درجة الحرارة بمعدلات كبيرة حتى ليمكن القول أن الجليد قد تم تراجعه كلية تقريباً خلال 3500 سنة تقريباً من تاريخ أقصى تقدم له - وفي فترة الدفء هذه تأثرت منطقة منابع النيل فتراجع خط الجليد في جبال أفريقيا العالية التي كانت تغطيها الثلاجات وخلا جبل رونزوري من الجليد حوالي عام 14.750 قبل الآن, وفي أعقاب هذا التراجع تزايد سقوطها الأمطار على هضبة البحيرات الإستوائية وخاصة في الفترة بين 12.500 و 10.000 سنة قبل الآن ثم بعد ذلك على الهضبة الأثيوبية ومنطقة الساحل في الفترة 10.000 و 4.500 سنة قبل الآن. ويعتقد أن ذلك يعود إلى أن المناطق التي زادت فيها الأمطار بعد تراجع الثلوج مباشرة (الهضبة الإستوائية) كانت تلك التي تأتي أمطارها من الأطلنطي والتي كانت محكومة بتيارات هذا المحيط التي تأثرت بفترة البرودة القصيرة التي كسرت إتجاه الدفء العام بعد تراجع الجليد منذ 11.000 سنة قبل الآن.
وفي الفترة بين 12.000 و 10.000 سنة قبل الآن إرتفع منسوب جميع البحيرات الإستوائية التي تشغل الأخدود الأفريقي إلى أكثر من 100 متر فوق منسوب البحيرتين الحديث – كما إرتفع منسوب بحيرتي فكتوريا وألبرت حتى فاضا ودخلت مياهما حوض النيل في لذك التاريخ فتساقطت المايه على شلالات كاباريجا (مرشيزون) التي أصبحت نشطة لأول مرة. وفي هذه الفترة تغيرت أنواع النبات على الهضبة الإستوائية فإختفت أنواع الحشائش التي سادت المنطقة وقت عصر الجليد وزادت الأشجار وعادت غابات أفريقيا الإستوائية إلى الإزدهار.
وقد أدت زيادة الأمطار على الهضبة الإستوائية حوالي 12.500 قبل الآن إلى زيادة في كمية المياه التي حملها النيل إلى مصر في ذلك الوقت. فقد دفعت المياه الدافقة التي أتت من هضبة البحيرات الرمال التي كانت تسد النيل الأبيض وأخذت تتدفق إلى مصر في كميات رفعت منسوب النيل في ذلك الزمان إلى إرتفاعات لم يصلها النيل عبر تاريخه الطويل إلا في أوقات قليلة. وكانت الخمسمائة سنة الأولى من هذه الفترة (فيما بين 12.500 إلى 12.000 سنة قبل الآن) ذات فيضانات عالية جداً مما جعل العيش في ظلها صعباً للإنسان. كما سنبين ذلك بالتفصيل في الجزء الثالث من هذا الكتاب. وقد كانت فترة الفيضانات العالية هذه هي ختام نهر النيونيل ج الي توقف بعد ذلك لبعض الوقت. . كما ساعدت هذه الفيضانات في نحت وإزالة العقبات التي كانت تعترض النهر في النوبة وجنوب مصر والتي كانت تعطل جريان المياه وترفع منسوب النهر إلى الخلف منها.
وفي خلال الأفلي عام التي تلت إزالة هذه العقبات أي (بين 12.000 و 10.000 سنة قبل الآن) بدأ النهر في بناء تدريجته الجديدة. ففي النوبة إستمر النهر في تعميق مجراه كما كان الحال منذ وصوله النيونيل ب وكما ظل الحال بعد ذلك وحتى عصر المملكة الحديثة في مصر القديمة عندما ثبت منحدر المجرى على منسوبه الذي بقى عليه الحال يعد لذك وحتى عصر المملكةالحديثة كما تشهد بذلك المعابد والقلاع التي بنيت في عصر المملكة الحديثة على مناسيب تقارب تلك التي كانت تسود النوبة قبل بناء السد العالي. وفي خلال هذه المدة الطويلة إنخفض منسوب النيل حوالي 30 متراً أو بمعدل متر واحد لكل ألفين من السنين. أما في المنطقة فيما بين أسوان وقنا فيبدو أن النهر أخذ يعمق مجراه أيضاً كما تشهد بذلك رواسب نهري النيل ب و ج المعلقة حول جانبي النهر أما في المنطقة إلى الشمال من قنا فإن الأمر غير واضح تماماً فمن المؤكد أن يكون النهر قد بدأ في بناء مجراه بعد عصور النحر الطويلة السابقة لكي يستجيب إلى الإرتفاع المستمر في منسوب البحر في الفترة التي أعقبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير. إلا أن عملية البناء هذه لم ترفع النهر ابداً فوق منسوبه الحالي. وفي أقصى الشمال فإن الآبار المحفورة في شمال الدلتا تشير إلى أن النيل كان يبني سريره أيضاً ولو أن سمك عمود رواسب النهر في هذه الفترة كان صغيراً جداً في معظم الآبار التي دقت في هذه المنطقة.
وعندما حل عصر الهولوسين منذ 10.000 سنة كان تأثير العوامل المناخية التي تسببت في زيادة أمطار الهضبة الإستوائية قد وصل إلى أثيوبيا ومنطقة الساحل الأفريقي ثم إمتد تأثير هذه العوامل إلى الشمال فتزحزحت جبهة الأمطار تدريجياً مع خطوط العرض حتى غطت شمال السودان وجنوب مصر. وتسمى هذه الفترة المطيرة التي أثرت على هذه المناطق بفترة الهولوسين (أو النبطة). وفي هذه الفترة إرتفع منسوب بحيرات أخدود شرق أفريقيا وبحيرة تشاد التي إتسعت إتساعاً كبيراً كما فاضت بحيرة توركانا وإتصلت بحوض نهر السوباط فوادي النيل حوالي سنة 9500 قبل الآن. وكان منسوب هذه البحيرة واطئاً قبل هذا التاريخ ولأكثر من 20.000 سنة. وكان تأثير هذه الفترة تغير بشكل المناطق القاحلة في شمال السودان والنوبة وجنبو مصروأجزاء كبيرة من الصحراء الكبرى وتحولها إلى مناطق غنية بالنبات جال فيها الحيوان وعاش فيها الإنسان وترصعت أرضها بالكثير من البحيرات العارضة التي كانت تمتلئ وقت موسم الأمطار. وتشهد بقايا مستوطنات الإنسان المنتشرة في أماكن كثيرة في قلب الصحراء خلا هذه الفترة المطيرة التي إستمرت لأكثر من خمسة آلاف سنة (والتي كانت نهايتها حوالي سنة 2500 ق . م) بعمق التغيرات التي حدثت في هذه المنطقة. وسنتكلم بشئ من التفصيل عن أحداث هذه الفترة وتأثيرها على تصرف نهر النيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
تسببت فترة الهولوسين المطيرة في زيادة كمية المياه التي حملها النيل وفي إتساع حوضه وفي تعدد المصادر التي حصل منها على مياهه ولذلك فقد إختلف عن النهرين اللذين سبقاه واللذين كانا يحصلان على مياههما من المرتفعات الأثيوبية فقط في أنه لم يكن موسمياً بل كان ينساب على مدار السنة. وفي الحقيقة فإن مياه الهضبة الإستوائية لها دور هام في هيدرولوجية النهر الحديث لأنها تضمن للنهر مورداً للمياه وقت فصل التحاريق عندما يتوقف وصول المياه من مرتفعات أثيوبيا.
إن رجيم النيل الحديث هو نتاج فترة الهولوسين المطيرة التي سببت جريانه على مدار السنة وحملته كمية كبيرة من الرواسب العالقة التي أخذت تترسب على جانبي الوادي إلى الشمال من أسوان لتكون أرض مصر الخصبة. أما في النوبة فقد إستمر النيل الحديث في شق مجراه وتعميقه خلال معظم فترة النيل الحديث كما بينا. وتوجد أقدم رواسب النيل الحديث والمؤرخة 10.600 سنة قبل الآن على إرتفاع 12 متراً فوق سطح النيل الحديث في النوبة على إرتفاع خمسة أمتار وقد ثبت النيل في منطقة النوبة على إرتفاعه الحديث (الذي كان عليه النهر الطبيعي قبل بناء السد العالي) منذ حوالي 3.000 سنة قبل الآن.
اللاندسكيب الحديث لوادي النيل والدلتا والفيوم
تركيب وسمك الأرض الطميية لوادي النيل والدلتا
تغطي سطح وادي النيل والدلتا رواسب من الطمي الذي حمله النهر الحديث ورسبه على جنبات الوادي والدلتا كل عام ولحوالي عشرة آلاف سنة مضت. وطمي النيل عند رسوبه طري ولزج وقابل للتشكيل ولكن حجمه يقل ويصبح أرضاً صلبة عندما يفقد ماءه. وتركيب التربة المصرية الحديثة معروف معرفة جيدة فهي موضوع دراسة اقسام بكاملها في كليات الزراعة المصرية. ولا يعرف بالضبط مقدار التغير الذي حدث في تركيب التربة عبر العشرة آلاف سنة التي تكونت فيها. فعلى الرغم من أن مظهر التربة وملمسها يبدو واحداً لم يتغير عبر هذه الأعوام إلا أن الدراسة الدقيقة لابد وأ، تظهر أن التغيرات أساسية لابد وأن تكون قد حدثت في تركيب هذه التربة في ماضي الزمان وخاصة خلال الفترات المطيرة التي عاصرت هذه الفترة عندما نشطت وديان مصر والنبوة وحملت إليها رواسب تختلف عن تلك التي تكونها الآن والتي تأتي في معظمها من الهضبة الأثيوبية (82% من النيل الأزرق و 14% من العطبرة). وفي أقلها من هضبة البحيرات الإستوائية (4%). وفي الماضي وخاصة خلال فترةالهولوسين المطيرة كانت هناك مصادر أخرى دخلت في تركيبة الطمي الذي وصل إلى مصر. إن الدراسة المتأنية والدقيقة لرواسب النيل الحديث عبر تاريخه ستعطينا فكرة طيبة عن تقلبات المطر التي صاحبت فترة الهولوسين المطيرة. وهناك الآن أدلة قاطعة على أن بعض وديان مصر كانت نشطة خلال هذه الفترة. وقد تم تحديد عمر أحد رواسب هذه الوديان من نجع البوص بوادي قنا والتي أرجع عمرها إلى سنة 9.500 قبل الآن. وقد صدر مؤخراً بحثان فيهما تحليل عن التركيب المعدني لعمود رواسب النيل في الفترة بين سنة 7.000 وسنة 4.000 قبل الآن كانت مختلفة في تركيبها المعدني عن الرواسب الحديثة. ولم يعز المؤلفون هذا التغير إلى ما إكتتبته وديان مصر, ولكنهم أرجعوه إلى زيادة أمطار المرتفعات الإثيوبية مما سبب في تكثيف الغطاء النباتي عليها وبالتالي قلة الرواسب التي جاءت منها – ومثل هذا التفسير يحتاج إلى خيال أكثر مما تعطيه الأدلة التي بين أيدينا – وكاتب هذه السطور يعزو التغيير إلى ما إكتتبته وديان مصر.
وقد إستخدم التحليل المعدني لرواسب النيل القديمة لمعرفة منابع هذه الأنهار التي سبقت النيل الحديث. وقد أثبت التحليل المعدني لرواسب كل من الروافد الثلاثة الأساسية التي تحمل الرواسب غلى مصر في الوقت الحاضر أنها تختلف عن بعضها البعض في تركيبها المعدني. وهناك أربع مجموعات من المعدني الثقيلة تدخل في تركيبها رواسب هذه الروافد بنسب مختلفة.
وقد حاول عدد من الباحثين إستخدام هذه الإختلافات في التركيب المعدني لرواسب مختلف روافد النيل الحديث في تحديد تاريخ وصولها إلى مصر وذلك بدراسة التركيب المعدني لرواسب النيل القديمة. فظهور مجموعة المعادن المميزة لأحد روافد فيها يدل على أن هذا الروافد قد وصل في وقت تكوينها. وتكتنف إستخدام هذه الطريقة صعوبات جمة, ذلك لأن توزيع المعادن الثقيلة في الرواسب النيلية تحكمه عوامل بيئية كثيرة غير معروفة على وجه التحديد, والمعروف منها صعب التفسير. كما أن النيل في تاريخه السابق كانت تأتيه رواسب من مصادر أخرى غير تلك التي يحصل منها على رواسبه في القوت الحديث. ولذا فقد يكون من الجائز أن يكون إختلاف نسب المعادن في الرواسب القديمة للنهر راجعاً إلى وصول رافد جديد تماماً, لا إلى تغيير في روافد النيل الحالية. ومن الوجهة العملية فإن التحليل المعدني فائدة محدودة. وقد إستخدمه كاتب هذه السطور لمعرفة أول الأنهار ذات الأصول الأفريقية التي وصلت إلى مصر فقد إختلف رواسب نهر ما قبل النيل عن رواسب الأنهار التي سبقتها وتشابهت إلى حد كبير مع رواسب الروافد التي كانت تأتي من جنوب الصحراء الكبرى.
ولعل أكث رالأبحاث شمولاً في ميدان التحليل المعدني هي تلك التي تمت على سلسلة من رواسب النيلين القديمين الموسميين (النونيل ب والنيونيل ج) والتي جمعت من وداي الكبانية إلى الشمال من أسوان والمعروفة العلاقة والعمر. وقد ظهر من هذه الدراسة أن كل رواسب النهر مهما إختلفت بيئة تكوينها متشابهة في تكوينها المعدني يتساوى في ذلك الرواسب التي تكونت فوق الضفاف أو في سهل الفيضان أو تأثرت بسفي الرمال الذي كان يصل سهل الفيضان بفعل الريح. فجميعها كانت ذات تركيب معدني متقارب وتشبه تلك التي تأتي من النيل الأزرق في الوقت الحاضر.
وقد يكون من المفيد أن نبين هنا أن التحليل المعدني لسلسلة أخرى من رواسب النيل والتي جاءت من ثلاثة آبار دقت في شمال شرق الدلتا ولها نفس عمر الرواسب السابقة أعطى تركيباً معدنياً مختلفاً, فقد زادت فيها نسبة معادن الأمفيبول ويادة كبيرة. وقد يعود ذلك إلى أن رواسب النهر في الدلتا قد تأثرت بما حملته من رواسب نحرتها من قاع النهر إلى الشمال من ثنية قنا - وقد سبق أن ذكرنا أن النهر خلال عصر النيونيل. ب والنيونيل ج كان يحفر مجراه في شمال مصر.
ويختلف سمك عمود رواسب النيل الحديث من مكان إلى مكان. ويبدو من دراسة مختلف آبار المياه التي دقت في وادي النيل والدلتا أن متوسط سمك طمي النيل الحديث يتراوح بين سبعة أمتار في المنطقة بين أسوان وقنا وبين خمسة عشر إلى عشرين متراً في شمال الدلتا وهناك تقارير تذكر سمكاً أكبر من تلك المتوسطات ف يمناطق كثيرة وعلى الأخص في الجزء الشمالي الشرقي للدلتا. وعلى العموم فإنه يمكن القول أن متوسط سمك الرواسب في الصعيد هو حوالي تسعة أمتار وفي الدلتا هو حوالي أحد عشر متراً.
ويذكر الباحث ستانلي وجود سمك كبير لرواسب النيل الحديث في الآبار المحفورة ببحيرة المنزلة قد يزيد عن الخمسين متراً ف يبعض الآبار وقد إستنتج الباحث من وجود هذا السمك الكبير في منطقة شمال الدلتا أن هذه المنطقة لابد وأ، تمثل منطقة هبوط مستمر. وعمر أقدم رواسب النيل الحديث والتي تقع الآن على منسوب خمسين متراً تحت سطح البحر هو حوالي 7.500 سنة وقد أمكن تحديد عمر هذه الطبقة بغستخدام طريقة الكربون المشع على مواد حاملة للكربون إستخرجت من هذه الطبقة. ولما كانت هذه الطبقة قد تكونت على منسوب قريب من سطح البحر لوجود رواسب تتكون بين خطي المد والجزر فيها, فإن وجودها على منسوبها الحالي الذي يقع تحت منسوب سطح البحر وقت تكونها منذ 7.500 سنة دليل على أنها هبطت منذ وقت تكونها بمقدار الفرق بين منسوبها الحالي ومنسوب سطح البحر وقت تكونها (والذي كان يقف على منسوب 26 متراً تحت البحر الحديث طباقاً لواحد من تقديرات منسوب البحر التي قبلها الباحث في بحثه المنشور سنة 1988) ومعنى ذلك أن المنطقة لابد وأن تكون قد هبطت بمقدار 24 متراً منذ تكونها أي أنها هبطت بمعدل 3 إلى 4 ملليمترات كل عام, وهو أمر يدعو إلى أشد الإنزعاج لأن هذا الهبوط سيؤدي إذا إستمر إلى غزو البحر الأبيض المتوسط لمناطق واسعة من أرض الدلتا في منتصف القرن الواحد والعشرين بل وإلى موتها كما جاء في عنوان مقال مثير ظهر بمجلة Science الشهيرة في سنة 1990. ويختلف مؤلف هذا الكتاب مع الباحث فيما وصل إليه من نتائج بنيت على فرضيات قابلة للجدل. فالعلماء يختلفون في تقدير منسوب البحر في ماضي الزمان. فعلى الرغم من إتفاقهم على أن منشوب البحر قد إرتفع بحوالي مائة متر منذ أن بدأت ثلوج العصر الجليدي الأخير ف يالذوبان منذ حوالي 18.000 سنة إلا أنهم يختلفون في معدلات سرعة هذا الإرتفاع خلا فترات هذا الزمان الطويل وفي منسوب البحر في أية لحظة فيه. وقد حسب الباحث نفسه منسوب البحر في سنة 7500 قبل الآن على أنه 26 متراً تحت سطح البحر في بحثه المنشور في سنة 1988 وعلى أنه 13 متراً تحت سطح البحر فقط في بحثه المنشور سنة 1990 - ولو قبلنا منطق الباحث بأن الرواسب الموجودة الآن تحت منسو بالبح رالقديم كانت نتيجة هبوط قاع الدلتا فإنه سيكون علينا أن نقبل أن الرواسب الموجودة فوق هذا المنسوب ه ينتيجة إرتفاعها في عملية رفع مضادة وهو أمر مستبعد. وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك من الأدلة ما يقطع بأن الدلتا كانت قرابة حالها الذي نرره الآن منذ أقدم العصور. فقد كانت حتى أطرافها الشمالية مسكونة منذ عصر ما قبل الأسرات بل وهناك مستعمرة تعود إلى هذا التاريخ في إحدى الجزر الشمالية ببحيرة المنزلة. ولا يمكن أن تكون الدلتا قد هبطت بمعدلات كبيرة منذ ذلك التاريخ. وسنعود لبحث هذا الموضوع في الفقرة 7-3 من هذا الجزء.
وتختلف كمية الطمي التي يحملها النهر والتي يرسبها في سهله الفيضي وفي دلتاه بين الوقت والآخر فهي تزيد عندما يقل تصرف النهر وفي وقت إرتفاع سطح البحر وتقل عندما تزيد كمية المياه التي يحملها النهر وفي وقت إنخفاض سطح البحر. والمكان الوحيد الذي تم فيه قياس معدلات ترسيب الطمي على مدى زمان طويل نسيباً هو بئر مقياس الروضة والتي سجلها بوبر Popper في كتابه عن مقياس الروضة الذي صدر عن جامعة كاليفورنيا سنة 1951.
فقد وجد أن معدلات تراكم الطمي ببئر المقياس قد تفيرت مع الزمان فكانت في حدود ثمانية سنتيمترات في كل قرن فيما بين سنة 641 وسنة 1330 ميلادية وفي حدود 65 سنتيمتراً في كل قرن فيما بين سنة 1330 وسنة 1630 ميلادية و 7 و 11 سنتيمتر في كل قرن بين سنة 1630 وسنة 1841 ميلادية وحوالي 68 سنتيمتراً في القرن التاسع عشر. وفي تقديري أن إختلاف هذه المعدلات عبر السنوات يمكن أن يعزى بدرجة أساسية إلى تقلبات منسوب البحر فقد كانت المعدلات تزيد وقت أن يرتفع وتقل وقت أن ينخفض ومعدلات الترسيب في الفترتين 1330 - 1630 و 1630-1841 يمكن أن تكون قد تأثرت بتقلبات سطح البحر العالمي التي حدثت خلال العصر الدافئ الذي يستقروا فيها. فقد كانت تنعم بدفء في ذلك الوقت وخلال عصر الجليد الصغير الذي حدث بين سنة 1600 وسنة 1850 ميلادية وفيه عم الصقيع أجزاء كبيرة من أوروبا وتقلصت المساحات القابلة للزراعة في سفوح جبال الألب عندما إمتد الجليد فوقها. وقد أثرت هاتان الفترتان على منسوب البحر وعلى كمية الطمي التي حملها النيل, وإن كان تأثير هذه التقلبات المناخية لم يظهر في النيل إلا بعد مائتي سنة من حدوثها - وعندما ينخفض منسوب سطح البحر ينحر النهر مجراه وتصبح معدلات ترسيب الطمي صغيرة وتكون على عكس ذلك يرتفع منسوب سطح البحر.
وقد أصبح من غير الممكن معرفة معدل تاركم طمي النيل في أراضي مصر بعد بناء مشروعات الري الكبرى فقد أعاقت سدودها ثم أوقفت وصول الطمي إلى مصر. على أنه في عشرينيات القرن العشرين أمكن حساب معدل تراكم الطمي في السنة فوق أراضي صعيد مصر التي كانت في ذلك التاريخ تحت نظام ري الحياض حين كان يسمح لماء الفيضان بإغراقها. وقد حسبت الكمية التي دخلت حياض الصعيد بطرح كمية الطمي المارة بالقاهرة من تلك التي كانت قد مرت من أسوان في نفس السنة وقد وجد أن 58 مليون طن قد وصلت إلى القاهرة من أصل 110 ملايين طن من الطمي الذي حمله النيل عند أسوان بما يعني أن 52 مليون طن منالطمي قد ترسبت في حياض الصعيد. وهذه الكمية تجعل معدل تراكم الطمي في حياض الصعيد هو 10.3 مم في العام أو حوالي 10.3 سم في القرن. ولا توجد قياسات مماثلة لتحديد معدا تراكم الطمي في الدلتا ذلك لأن أراضي الدلتا تحولت إلى الري المستديم في أوائل القرن التاسع عشر قبل تأسيس أجهزة البحث العلمي المكلفة بالقيام برصد النيل. وقد قل معدل ترسيب الطمي في أراضي الصعيد المروية رياً مستديمأً عما كان عليه الحال عندما كانت هذه الأراضي تحت نظام الري المستديم فإنه يمكنالقول بأن معدل الترسيب في الدلتا الطبيعية عندما كانت تغرق وقت الفيضان كان أقل من الصعيد بحوالي 50% . وبهذا الحساب تكون كمية الطمي التي كانت تصل إلى البحر كل سنة قبل إنشاءات الري الكبري هي حوالي 22 مليون طن في السنة في المتوسط فقط. ولاعجب لذلك أن كان سمكم رواسب النيل الحديثة في الآبار التي دقت في السهل الساحلي للدلتا صغيراً جداً. حقاً لقد إكتتبت رواسب النيل الحديث أقل القليل في تقدم الدلتا بداخل البحر كما سيجئ تفصيل ذلك فيما بعد (إنظر الفقرة 7-3 من هذا الجزء).
ومن الطرق التي إستخدمت لحساب معدل تراكم الطمي على أراضي مصر تلك التي يتم فيها قياس سمك الطمي الذي تجمع حول المباني القديمة والأثرية بعد إنشائها وقسمة ذلك السمك على عدد سنوات عمر المبنى. ويقع معبدا إسنا وإدفو اللذان بنيا منذ 2.000 سنة تقريباً أسفل منسوب المدينتين الحديثتين بحوالي أربعة أمتار مما يعطي معدل تراكم قدره 20 سنتيمتراً لكل مائة سنة.
وقد حسب فانثر باشا معدل تراكم الطمي في منطقة الأقصر بقيس كمية الطمي التي تجمعت حول معبد الكرنك الذي يقع الآن أسفل منسوب المدينة الحديثة بحوالي ثلاثة أمتار - ولما كان المعبد قد بني على إرتفاع مترين ونصف المتر فوق سهل فيضان النيل وقت بنائه في الدولة المتوسطة فإن أرض المدينة لابد وأن تكون قد علت بإضافة الطمي عليها بحوالي 5.5 متر في 3900 سنة اي بمعدل 14.3 سنتيمتر في كل قرن (وسيأتي تفصيل ذلك في الجزء الثاني من الكتاب).
وقد وجدت مسلتا هليوبوليس اللتان أقامهما الملك سيزوستريس) حوالي سنة 1950 ق.م. مدفونتين تحت عمود من طمي النيل بلغ سمكه 372 سنتيمتراً. كما وجد تمثال رمسيس الثاني الذي أقيم في سنة 1260 ق.م. (وقد نقل هذا التمثال من مكانه بمدينة منف إلى ميدان رمسيس بالقاهرة في خمسينيات القرن العشرين) مدفوناً تحت طبقة من طمي النيل بلغ سمكها 335 سنتيمتراً. ومن المنطقي أن نفترض أن تراكم الطمي حول المسلتين والتمثال حدث بعد أن هجر موقعهما, فلابد أنهما كانا موضوع العناية والإهتمام والنظافة المستمرة وقت إستخدامها. وفي تقديري أن المكانين هجرا في القرن الأول الميلادي. وإذا كان الأمر كذلك فإن معدل تراكم الطمي في المكانين يكون قريباً من المعدل الذي حسبه فانثر باشا لمنطقة الأقصر.
وتشير البيانات المتاحة إلى أن معدل ترسيب الطمي كان صغيراً جداً في الفترة المبكرة من تاريخ النيل الحديث والتي كان فيها منسوب سطح البحر أقل من منسوبه الحالي فلم يزد معدل تراكم الطمي في هذه الفترة على 50 سنتيمتراً في كل ألف سنة. فقد كان معظم الطمي يذهب إلى البحر الذي كان منحسراً عن أرض مصر بحوالي 20 كيلومتراً إلى الشمال.وفي تقديري أن سمك الرواسب التي تراكمت في وادي النيل ودلتاه خلا السبعة آلاف سنة الأولى من تاريخ النيل الحديث والتي إمتدت حتى قرابة القرن الأول الميلادي عندما إرتفع منسوب البحر عن منسوبه الحالي ولأول مة كان في حدود 3.5 متر فقط. أما باقي عمود الرواسب الموجود الآن في وادي النيل وهو في حدود 5 أمتار كما سبق القول فقد ترسب خلال الأفي سنة الماضية وعلى الأخص في فترات إرتفاع سطح البحر (القرون الست الأولى بعد الميلاد والسنوات بين سنة 1330 و 1630 وكذلك بين 1840 و 1890 ميلادية) عندما أرتفع معدل الترسيب وعلا منسوب الأراضي. وفي السنوات الستمائة الأولى من الميلاد أرتفع منسوب البحر وأغرق شمال الدلتا وأحدث أضراراً كبيرة حسب أقوال المؤرخين أما الفترة بين سنة 1330 و سنة 1630 فقد إرتفع منسوب البحر إلى أكثر من المتر بينما لم يرتفع لأكثر من 30 سنتيمتراً بعد عام 1840. ويقدر متوسط معدل إرتفاع الأراضي لكل الفترة بحوالي 26 سم في كل مائة سنة بينما يقدر معدل هذا الإرتفاع خلال فترات إرتفاع سطح البحر بحوالي 36 سم في كل مائة سنة.
فيضان وادي النيل
يتكون سهل فيضان وادي النيل إلى شالمال من أسوان من رواسب الطمي التي رسبها النيل خلال فيضاناته المتتالية وعندما كانت مياه النيل ترتفع فإنها كانت تفيض وتغطي السهل حول النهر.
وفي هذه الأثناء فإن الجزء الخشن من الرواسب التي يحملها الماء كان يسقط أولاً ويترسب على جانبي النهر مباشرة أما الجزء الرفيع فكان يبقى عالقاً في الماء ثم يترسب في سهل النهر بعيداً عن جانبي النهر.
وقد تسببت هذه العملية المتكررة في بناء جانبي النهر وإرتفاعهما بمعدل يزيد كثيراً على معدل إرتفاع سهل النهر ومن ثم تم تحويلهما إلى ضفتين عاليتين تحددان مجرى النهر عند إنكماشه. وتحدد هذه الضفاف سهل الفيضان من ناحية النهر الذي عادة ما يمثل حوضاً منخفضاً تحدده من الناحية الأخرى الصحراء. ولا تقتصر هذه الظاهرة على مجرى النهر الأساسي بل تمتد أيضاً إلى أفرعه. ومن هنا جاء وصف الدلتا الشهير بأنها كورقة الشجر التي تشكل فروعها عروق هذه الورقة التي عادة ما تكون بارزة عما حولها.
وبعد نهاية الفيضان وإنخفاض الماء فإن ضفاف النهر كانت أولى المناطق التي ينحسر عنها الماء فتبقى عالية وجافة في الوقت الذي كان فيه سهل فيضان النهر مغموراً ولوقت طويل. أما أوطى أماكن السهل فقد كانت تبقى في الوقت الذي يكون فيه عميقاً تحت الضفاف.
تسببت عملية بناء ضفتي النهر وسريره بمعدلات سريعة إلى إرتفاعهما عن منسوب حوض النهر وعندما كانت المياه تأتي بإندفاع شديد بين الحين والآخر فإن النهر كثيراً ما كان يقطع جسره ويتخذ مجرى جديداً بحوض النهر فيتحول بذلك جزء من الحوض إلى جزيرة. كان النهر لذلك في حركة دائمة يتخذ مجار جديدة ويهجر أخرى بعد أن يطميها ويترك خلفه ضفافً ويقتطع من الحوض جزءاً ثم ينعزل عنها تاركاً وراءه بحيرات منعزلة.
ومنذ مجئ النيل الحديث أصبح سهل النهرمكوناً من أحواض وضفاف. ونادراً ما كانت ضفاف النهر تغرق تحت الماء. ولذلك فقد كانت دائماً مكاناً مناسباً لسكنى الإنسان منذ أقدم العصور. ويكاد يكون من المؤكد أن معظم قرى ومدن مصر كانت مبنية أصلاً على هذه الضفاف التي دكت وزاد إرتفاعها من بقايا ومخلفات الإنسان على مدى آلاف السنين التي عاشها عليها. وتشكل ضفتي النيل الحديث حاجزاً يحمي حوض النهر. وفي العادة تكون الضفة أعلى من الحوض بين المتر والثلاثة أمتار, وقد عمل الإنسان على طول تاريخه على حماية هذه الضفة وتقويتها لإحتواء النهر.
وعلى الرغم من هذه الجهود فإن شكل النهر والحوض قد تغير تغيراً كبيراً على طول التاريخ المعروف. فقد قل تعرج النهر مع الزمان ومع نقص كمية المياه التي حملها النهر. كذلك فقد تحول مجرى النهر وتزحزح لمسافات قد تزيد على الكيلومترين والكثير من قرى الصعيد التي تقع الآن بعيدة عن النهر كانت أصلاً مبنية على ضفة النهر التي كان يمر بجوراها عندما سكنت. فقد كان المحور الأساسي لمجرى النهر بين أخميم والقاهرة في زمن الفراعنة يقع إلى الغرب من مجراه الحالي. فقد كان النيل في ذلك الوقت يسير بحزاء القوصية والأشمونين والقيس والبدرشين وكلها مدن قديمة بنيت أصلاً على مجرى النيل وكانت البلدتان الأخيرتان قائمتين على النهر حتى وقت البطالمة, ومنذ ذلك التاريخ تزحزح مجرى النهر إلى الشرق ففي عصر البطالمة أصبح محور النيل ماراً بغرب أخميم والمراغة وطهطا وطما.
ومن المرجح أن ترعة الإبراهيمية التي أعيد حفرها في منتصف القرن التاسع عشر كانت فرعاً أساسياً للنيل في ذلك العصر أما بحر يوسف, ذلك الفرع غرب النيل والذي يخرج (منذ سنة 1870) من ترعة الإبراهيمية عند ديروط فقد كان في سابق الزمان فرعاً طبيعيأً وأساسياً للنهر, إذ كان النيل عند نشأته يتفرع عند أسيوط إلى فرعين أساسيين. فقد كان مجرى النهر في ذلك الزمان البعيد منقسماً بظهر من الحجر الجيري إلى فرعين. أما الفرع الغربي الذي يمثله اليوم بحر يوسف اليوم يطمي, وقد تزحزح مجرى بحر يوسف خلال العصر الحيدث ناحية الشرق أما في وقت الفراعنة فقد كان بحر يوسف يطل على بلاد المحرق ومير ودشلوط وتونا الجيل وكلها بلاد بعيدة عن بحر يوسف اليوم.
وفي منطقة منف أثبتت الحفائر الحديثة أن النيل قد غير مجراه من الغرب إلى الشرق تاركاً واره جزراً متعددة. ولعل تغيرات مجرى النيل عند مدينة القاهرة هي من أكثر الغيرات توثيقاً فقد أثرت هذه التغيرات على حياة هذه المدينة المليئة بالحياة التي تحولت من موقع قلعة رومانية (حصن بابليون) إلى مدينة عظمى إتسعت على حساب الأرض الجديدة التي كانت تكسبها مع تزحزح مجرى النيل ناحية الغرب ومع إزدياد ضبط النهر. وتاريخ هذا التوسع وتغيرات النيل كانت محل دراسات عديدة. وعندما وصل إلى مصر في منتصف القرن السابع الميلادي كانت قلعة بابليون الرومانية على حافة النهر مباشرة كما كان كذلك الموقع الذي إختاره عمرو بن العاص القائد العربي الذي غزا مصر لبناء مسجده. أما اليوم فإن هذين الموقعين يقعان على بعد 525 , 450 متراً من النهر على التوالي. وفي ذلك الوقت كان معظم أرض القاهرة الحديثة تحت الماء فقد كانت ضفة النيل الشرقي تمر بشارع سيدي حسن الأنور إلى ميدان السيدة زينب ومنه عبر شارع محمد فريد إلى ميدان رمسيس (أو ميدان المحطة حيث تقع محطة القاهرة للسكة الحديد). وفي هذا الموقع كانت توجد ميناء القاهرة القديمة أو ما كان يسمى المقسى. ولم يتغير حال النيل كثيراً خلال القرون الخمسة التي تلت دخول العرب إلى مصر فيما عدا تغيرات قليلة حولت مجرى النيل عن مصر القديمة وأبعدت حصن بابليون وجامع عمرو عن نهر النيل بحوالي مائة إلى مائة وخمسين متراً. وعندما أراد صلاح الدين الأيوبي أن يمد أسوار القاهرة الفاطيمة في السنوات الأخيرة للقرن الثاني عشر كانت ضفاف النيل على حالها الذي كانت عليه عندما دخل العرب مصر - وبدأ مد السور الشمالي للقاهرة حتى ضفة النيل عند ميناء المقسى القديمة (ميدان المحطة) أما ناحية الشرق فقد مدت الأسوار الفاطمية إلى القلعة التي كان قد بناها صلاح الدين الأيوبي فوق هضبة المقطم على إرتفاع 80 متراً فوق المدينة.
وفي الفترة التي إنخفض فيها النيل لسنوات طويلة في أواخر القرن الثاني عر والقرن الثالث عشر (والتي سنتحدث عنها بشئ من التفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب) حدث تغيرات هائلة في مجرى النيل عند القاهرة. فقد بدأ النهر في الإطماء حول الميناء القديم عند بابا الحديد الذي ظهرت حوله جزيرة الفيل في حوالي سنة 1174 ميلادية وعند ظهورها كانت الجزيرة تغطي بالماء عند الفيضان ولكنها وبعد عقود إرتفعت ولم يعد يطولها الماء ثم دخلت في صلب المدينة عند طمي الفرع الشرقي للنيل الذي كان يفصلها عن المدينة في حوالي سنة 1280 ميلادية.
أماالجزيرة الثانية التي ظهرت في زمن إنخفاض النيل فقد كانت جزيرة بولاق التي بني عليها حي الجزيرة والزمالك الحديثين. وقد ترك تحول مجرى النهر ناحية الغرب سهلاً واسعاً مليئاً بالمستقعات والبرك حتى مجئ نابليون إلى مصر. وتظهر بعض هذه البرك والتي من أشهرها الأزيكية وبركة الفيل على الخريطة التي أعدتها الحملة الفرنسية للقاهرة.
كانت أرض جزيرة الفيل عندما برزت مليئة بالمستنقعات وقد تم صرف مياهها في منتصف القرن الرابع عشر عندما مد الخليفة الناصر قناة الخليج التي كانت تخرج من السيدة زينب غرباص لتصل إلى ضفة النهر الجديدة. وتعتبر قناة الخليج التي كانت حتى أواخر القرن التاسع عشر مكان الإحتفال السنوي بعيد جبر الخليج أو وفاء النيل من أهم معالم القاهرة القديمة قبل أن تردم وتسوى شارعا هو شارع الخليج (الذي أعيدت تسميته إلى بروسعيد أيام حرب السويس عام 1956). وفي القوت كان للقاهرة قناة ثانية هي قناة الإسماعيلية التي كانت تخرج من النيل قرب فندق هيلتون الحديث حتى تصل قناة الخليج عند غمرة وقد ردمت هذه القناة هي الأخرى وسويت شارعاً هو شارع رمسيس.
وفي أواخر القرن التاسع عشر صرفت الحكومة جهداً كبيراً لإيقاف تحول مجرى النهر إلى الغرب وكذلك لتثبيته وتقوية جسوره. وقد ألقيت ذلك حجارة كبيرة وكثيرة في فرع النهر الذي يجري إلى الغرب (بين جزيرتي الروضة والجيزة) لإرغامه على الجريان في معظمه في فرعه الشرقي كما تمت في القوت نفسه تقوية جسور النيل على طول شارع الجيزة. وقد أدت هذه الجهود إلى تثبيت النهر في مجراه الحالي ووقف تحوله ناحية الغرب. كما أدت إلى تثبيت سهل الفيضان الغربي للنيل الذي تم صرف مياهه ودمه وشق الشوارع والحدائق فيه وعلى هذا السهل تقف الآن أحياء العجوزة والدقي والجيزة.
الدلتا
تتكون دلتا النيل الحديثة من نواة من الرمل والحصى التي تغطيها طبقة رفيعة من طمي النيل ترسبت خلال السبعة إلى الثمانية آلاف سنة الأخيرة وقت الفيضان الذي كان يغمر الأراضي. ويترك ما يحمله من رواسب فوق سطح الدلتا التي كان النهر يتفرع فيها إلى فروع كثيرة كانت تحد كل منها ضفاف واطئة تسمح للمياه بغمر الأراضي التي كان البعض منها يبقى غارقاً لطول العام ليكون مستنقعاً دائماً أو بركة شبه مالحة, كما كان الحال في شمال الدلتا عندما تأثرت بعض أحواض الدلتا الشمالية بمياه البحر التي جاءتها في أوقات إرتفاع منسوب البحر أو إنكسار الضفاف التي كانت تحجزه عنها. وعلى الرغم من ذلك فقد أمكن للإنسان أن يعيش عليها. فبالإضافة إلى ضفاف فروع النهر العالية بالدلتا, كانت بها أماكن عالية أخرى مثل التلال الرملية الكثيرة التي كانت تقف كالجزر فوق منسوب الماء طول العام. ومن الجائز أن تكون هذه الجزر بقايا رواسب نهر ما قبل النيل الرملية التي لم تزلها أنهار النيونيل اللاحقة خلال فترة تعميق مجاريها. ومن الجائز أن يكون بعضها بقايا كثبان رملية قديمة تثبت عبر الزمان.
كانت فروع الدلتا أكثر عدداً خلال معظم التاريخ. فقد كانت هناك بين الفرع البيلوزي الذي كان يقع في أقصى الشرق والفرع الكانوبي الذي كان يقع في أقصى الغرب فروع كثيرة. هذه الفروع وأهم مدن الدلتا في العصور التاريخية. وتظهر الخرائط والمخطوطات القديمة سبعة فروع للنيل طمس منها خمسة, ولم يبق في العصر الحاضر إلا إثنان هما فرعي رشيد ودمياط - ويبدو أن فروع النيل قد تكونت خلال الغترة التي سبقت الإرتفاع الكبير الذي حدث في منسوب سطح البحر حوالي 5000 ق.ه والتي كان فيها سطح البحر واطئاً ومن المؤكد أ، فروع الدلتا كانت موجود خلال عصر ما قبل الأسرات. وقد أصبح عددها خمسة في وقت الرعامة كانت تسمى: النهر الغربي (الكانوبي) نهر الإله بتاح (البولبيتي) والنهر الكبير (السبنيتي), نهر الإله أمون (الفاطمي) ونهر الإله رع (البيلوزي).
وجاء إطماء هذه الفروع في الأوقات التي كان تصرف النيل فيها قليلاً, ففي هذه الأوقات يزيد معدل ترسب الطمي, ويصبح أمر تطهير الترع وفروع النيل صعباً وخاصة في هذه الأوقات العصيبة التي تصاحب سنوات الفيضانات الواطئة ففيها ينهار الوضع الإقتصادي وتتولى حكومات ضعيفة أمور مصر. وسنرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن الفرع البيلوزي بدأ في الإطماء خلال فترة الفيضانات الشحيحة التي مرت على مصر في الألف سنة الثانية قبل الميلاد. ففي هذا الوقت أطمى النهر عند مصبه وإنفصل عن البحر بعدد من الألسنة الرملية. أما الفرع الكانوبي فقد أطمى حوالي سنة 300 قبل الميلاد بسبب إعادة حفر الفرع البولبيطي (رشيد حالياً). وقد كانت تجئ للدلتا - ومما هو جدير بالذكر أن فرع رشيد يغتصب في الوقت الحاضر وللسبب نفسه أكثر من 70% من المياه التي تصل إلى النهر عند تفرعه إلى الشمال من القاهرة. وفي الحقيقة فإنه دون جهود وزارة الري المصرية فإن القرنين الحادي عشر والثاالث عشر عندما حمل النيل كميات أقل من المياه.
تطور دلتا النيل
تاريخ دلتا النيل معقد ويختلف عن النماذج المعروفة عن دلتاوات الأنهار الأخرى - فالدلتا الحديثة التي نعرفها اليوم ليست إلا واحدة من دلتاوات عديدة تعاقبت على هذا الموقع الفريد فقد كان لكل الأنهار التي سبقت النيل الحديث دلتاواتها والتي إختلفت كل واحدة منها عن الأخرى - وقد رأينا فيما سبق أن الأنهار التي إحتلت مجرى النيل منذ نشأته قد إختلفت عن بعضها البعض من حيث مصادر مياهها أو كمية المياه التي حملتها أو نوع الرواسب التي جاءت بها - ولذلك ليس غريباً أن دلتاوات مختلفة قد تعاقبت على موقع الدلتا الحديثة - وقد إستطعنا من دراسة جسات الأبار العميقة التي دقت بدلتا النيل للبحث عن البترول أن تتصور شكل هذه الدلتاوات المختلفة التي تعاقبت عليها. كانت دلتا فجر النيل أول الدلتاوات التي نشأت بتكوم رواسب هذه النهر الخشنة والتي ترسبت عليها على شكل مروحة في الجزء الشمالي من الدلتا والذي كان يشكل خليجاً بحرياً أمام الجزء الجنوبي من الدلتا الذي كان مرتفعاً وواقفاً كالجرف أمام هذا الخليج الشمالي.
وقد اعقب تكون هذه الدلتا أحداث كثيرة تسببت في ملء خليج الدلتا الشمالي برواسب بحرية فرفعت أرضيته وسوته مع جزئه الجنوبي المرتفع. وعندما جاء نهر النيل القديم (الباليونيل) بعد ذلك ذلك بأكثر من مليون سنة أخذت الدلتا موقعها الحديث وبدأ النهريتفرع عند حد الدلتا الجنوبي الحالي تقريباً - كانت مياه الباليونيل تحمل مواد رفيعة الحبيبات وكانت لذلك أقل كثافة من مياه البحر الذي كانت تصب فيه هذه الروافد مما مكنها من الطفو فوق المياه والإمتداد بداخل البحر - وقد شكلت هذه الإمتدات البحرية لمختلف الروافد النواة التي بنيت حولها دلتا الباليونيل التي كانت تشبه إلى حد كبير الدلتاوات الحديثة لنهري المسيسيبي والنيجر والتي تعرف بإسم "دلتاوات قدم الطير".
ويمضي وقت طويل بعد تكون هذه الدلتا ليأتي نهر ما قبل النيل حاملاً معه رواسب خشنة من الرمال فكانت مياهه لذلك أكثر كثافة من مياه البحر الذي كانت تصب فيه. فكانت رواسب الروافد تترسب على طول جبهته الدلتا دون أن تمتد بداخل البحر وقد تسببت ذلك في أن تكون جبهة الدلتا على شكل قوس منتظم دون بروز في البحر وهو نفس الشكل الذي بقي حتى اليوم.
وقد رأينا فيما سبق أن النيل الحديث لم يكتتب بشئ يذكر في كتلة دلتا ما قبل النيل أو في جبهة تقدمها في البحر, إذ لم يزد جملة ما ترسب على طول جبهة الدلتا من الرواسب التي حملها هذا النهر عن 22 مليون طن كل عام خلال السبعة أو الثمانية آلاف عام الماضية, كما شكلت الرواشب التي سقطت فوق الدلتا قشرة رقيقة فوق كتلة الرمال والحصى التي تمثل ما بقي من دلتا ما قبل النيل القديمة التي كانت عندما ترسبت منذ حوالي 400.000 سنة كبيرة المساحة تمتد داخل البحر وحول جنبات الدلتا الحالية كما كانت أعلى من الدلتا الحالية بخمسة عشر متراً على الأقل.وبعد أن توقف نهر ما قبل النيل الغزير وجاء نهر النيونيل تعرضت هذه الدلتا لفترات طويلة من التحات والهدم التي كانت تتخللها فترات قليلة من البناء والترسيب. وكانت محصلة هذه العميلات إزالة جزء كبير من هذه الدلتا القديمة وبقاء ذلك الجزء الذي أصبح يشكل الآن نواة الدلتا التي غطاها النهر الحديث برواسبه التي تجمعت فوقها خلال السبعة إلى ثمانية آلاف سنة الماضية ويمكن لذلك أن نصف ما يحدث للدلتا في عصرها الحديث بأنه وقفة في عملية الهدم المستمرة التي تعرضت لها الدلتا منذ إستكمال بنائها وقت نهر ما قبل النيل.
تأثير تغير منسوب سطح البحر
كان الجزء الشمالي من الدلتا ولا يزال تحت تأثير البحر الذي إرتفع منسوبه منذ إنحسار ثلوج العصر الجيلدي الخير عندما كان منسوب البحر الحديث بحوالي مائة متر - وقد كانت الدلتا خلال العصر الجليدي الأخير ولمدة طويلة بعد ذلك ممتدة بداخل البحر فقد كان الرصيف البحري الممتد أمامها يشكل جزءاً من أرضها التي لابد أن عاش عليها إنسان آخر العصر الحجري القديم المتأخر وإنسان العصر الحجري الحديث وكان هذا الجزء أكثر إنحداراً من أرض الدلتا (88 سنتيمتراً بدلاً من 27 سنتيمتراً في الكيلومتر). ويظهر شاطئ هذه الدلتا الواسعة عند نهاية العصر الجليدي قلب إنحسار ثلوجه وإرتفاع منسوب البحر.
ولم يأت إرتفاع منسوب البحر منتظماً. فقد صاحب تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير منذ 15.000 سنة إرتفاع مستمر في درجة الحرارة إلا أن هذا الإرتفاع إنعكس في الفترة بين سنة 10.500 وسنة 9.500 قبل الآن ثم عاودت درجة الحرارة إرتفاعها بعد هذه الفترة حتى بلغت أقصى إرتفاع وصلت إليه في سنة 5000 ق.م, عندما بلغ متوسطها أكثر من درجتين مئويتين عن متوسطها في العصر الحديث. وفي هذا الوقت كان منسوب البحر قد إرتفع حتى أصبح أقل من منسوبه الحديث بأربعة أو خمسة أمتار فقط. ومع ذلك فقد غرقت بعض أجزاء الدلتا الشمالية من ناحية الغرب, أما ناحية الشرق فقد ظلت الدلتا مرتفعة فوق البحر, فقد تجمعت فيها رواسب فروع الدلتا التي كانت تأتي في معظمها ناحية الشرق أما مباشرة أو عن طريق التيارات البحرية التي كانت تكسحها إلى الشرق كما تفعل اليوم, فأبقت هذا الجزء من الدلتا فوق منسوب البحر. وقد حدث إرتفاع آخر في سطح البحر حوالي سنة 2000 ق.م, عندما أصبح منسوب البحر أقل من منسوبه الحديث بحوالي متر واحد.
وقد إستمر منسوب البحر في الإرتفاع بعد ذلك حتى إذا ما جاء القرن الأول الميلادي كان البحر قد غمر الجزء الشمالي الشرقي للدلتا لأول مرة - وقد أثبتت الحفائر أن فم الفرع البيلوزي الذي كان يصب في سيناء إلى الشرق من بورسعيد كان يقف إلى الجنوب من شاطئ البحر الحديث بحوالي عشرة كيلومترات في سنة 25 ميلادية. أما فم فرع رشيد فقد كان على بعد أربعة عشر كيلومتراً بداحل الأرض حيث بنيت ميناء بلبوطيس في العصر الروماني والتي تقف أطلالها الآن في هذا الموقع البعيد عن البحر.
وكان هناك إرتفاع آخر في سطح البحر في منتصف الألف سنة الأولى بعد الميلاد والتي أثرت تأثيراً كبيراً على الجزء الشمالي الشرقي من الدلتا فأغرقت جزءاً كبيراً منها - ومن شائع القول أن الجزء الشمالي الشرقي للدلتا كان حتى الفتح العربي مأهولأً وعامراً بالسكان والمدن وأنه تعرض في منتصف القرن السابع الميلادي إلى كارثة أغرقته تحت مياه البحر تحول في إثرها إلى صحراء من الملح. ويبدو أن بحيرة المنزلة قد تكونت في هذه الفترة فقد ذكرت لأول مرة في أعماله المؤرخين العرب في هذه الفترة.
وقد غمرت مناطق شمال الدلتا مياه البحر في فترتي إرتفاع منسوب البحر البارزتين وهي المناطق التي تحتلها الآن بحيرات شمال الدلتا ومستنقعاتها والتي بقيت أحراشاً وبراري حى منتصف القرن العشرين. وفي الحقيقة فقد كان الجزء اكبر من الشمال الغربي للدلتا هامشياً على طول التاريخ, فلا توجد فيه باقيا لسكنى الإنسان إلا منذ العصر الروماني إن لم يكن العصر العربي فقد إختلفت منطقة الشمال الغربي للدلتا من مناطق الدلتا الأخرى لعدم وجود جزر الرمال العالية بها وهي الجزر التي كان يسكن عليها الإنسان في سهول الدلتا المنبسطة والتي كانت تغرق وقت الفيضان.
وبإستثناء هذا الجزء الشمالي فقد كانت الدلتا مسكونة وعامرة منذ عصر ما قبل الأسرات. وقد إستطاعت بعثة جامعة أمستردام الأثرية في موسم 1984-1985 أن تكشف عن باقاي 92 قرية قديمة من مختلف العصور في مساحة لا تزيد على 30كم *30كم في منطقة فاقوس بمحافظة الشرقية. كما كانت مدن بوطو وتل تنس وديوسبوليس والتي تقع في أقصى الشمال عامرة تماماً في أوائل عصر الأسرات إن لم يكن في عصر ما قبل الأسرات. وتقع تل تنس على لسان داخل بحيرة المنزلة ويشكل وجودها على السطح حتى الآن وفي حد ذاته دليلاً قاطعاً على أن الدلتا لم ينلها هبوط كبير منذ عصر ما قبل الأسرات. وقد أثبتت بعثات الآثار العاملة في تل الفراعين (بوطو) أن سكنى إنسان عصر ما قبل الأسرات كانت على منسوب يقل باربعة أمتار من منسوب الأرض الحديث مما يدل على أن هذه المنطقة لم تصلها إلا أربعة أمتار عن رواسب النيل منذ ذلك الوقت- أما في منشأة أبو عمر فقد وجدت قرى عصر ما قبل الأسرات على منسوب سطح البحر الحديث. ويمكن أن يؤخذ هذا على أنه دليل على أن معدل ترسيب النهر كان أقل في الشرق منه في الغرب منذ عصر ما قبل الأسرات.
ومن بين الذبذبات الحديثة لمنسوب البحر إرتفاعه خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر في أعقاب فترة الدفء القصوى وإنخفاضه في أعقاب فترة عصر الجليد الصغير بين القرنين السادس عشر ومنتصف القرن التاسع عشر وفي أعقاب هذه الفترة الأخيرة تراجع البحر عن شواطئ الدلتا فإمتدت داخل البحر حيث توجد بقايا الكثير من القلاع التي بنيت خلال العصر التركي وهي القلاع التي غمرها البحر عندما تقدم داخل البلاد منذ منتصف القرن التاسع عشر وهو التقدم الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.
الفيوم
الفيوم منخفض دائري الشكل يقع في الصخور الجيرية التي تقع إلى الغرب من النيل. وتحيط المنخفض من جميع جوانبه حوائط عالية وتقع أوطى نقطة فيه تحت سطح البحر. وتفصل المنخفض عن وادي النيل تبة من الحجر الجيري يشقها مسيل طبيعي هو مجرى الهوارة الذي كان النهر يركبه ويصل عن طريقه إلى منخفض الفيوم في سابق الزمان فيحوله إلى بحيرة هائلة. وينفرد إقليم الفيوم من بين جميع أقاليم مصر في أن المياه التي تأتيه من النيل لا تصرف في النهر فالبحر الأبيض المتوسط كباقي الأقاليم بل يتم صرفها في بحيرة نصف مالحة تقع بداخل المنخفض على منسوب البحر الحديث بحوالي 45 متراً وهي التي تعرف بإسم بركة قارون - وللفيوم لذلك أوجه شبه مع كلا من واحات الصحراء الغربية التي ليس لها صرف خارجي كأقاليم وادي النيل التي تروى بماء النيل.
وتنفرد الفيوم أيضاً بأن رواسب النيل الحديث تظهر على السطح في الوقتالذي توجد فيه مدفونة تحت السطح في وادي النيل ففي الوقت الذي كان النيل يرسب رواسبه في الوادي طبقة فوق طبقة كان النيل يركب المنخفض ويملأه ويحوله إلى بحيرة كانت تتراكم عند شواطئها الرواسب التي تظهر الآن على إرتفاعات مختلفة حول حوائط المنخفض. وللفيوم أهمية تاريخية خاصة فقد زارها هيرودوت حوالي سنة 450 ق.م. وذكر في كتابه "التاريخ" أنها عبارة عن بحيرة هائلة المساحة حفرها الإنسان قدر محيطها بأكثر من 3600 قامة وعمقها بما يزيد على 50 فرسخها كما ذكر أيضاً أن المياه كانت تنساب إليها من النيل خلال ستة أشهر ثم تنعكس فتذهب منها إلى النيل خلال الستة أشهر الأخرى من السنة وقد أسمى هيرودوت هذه البحيرة الهائلة بحيرة موريس.
وليس هناك من شك في أن بحيرة قارون الحالية هي كل ما بقي من البحيرة التي شغلت المنخفض في ماضي الزمان وقد أخطأ هيرودوت تماماً عندما ظن أن المنخفض قد حفره الإنسان, فكل الأدلة تقطع بما لا يدع أي مجال للشك بأن المنخفض ظاهرة طبيعية ومن المؤكد أنه كان مملوئاً بالماء وعلى شكل بحيرة كبيرة عندما زاره هيرودوت - وقد ساور الكثيرون شك كبير في مقولة هيرودوت من أن البحيرة كانت كبيرة وقت زيارته بعد أن نشر كاتون طومسون وجاردنر أبحاثهما عن آثار ما قبل التاريخ في منطقة الفيوم والتي ذكر فيها أنهما وجدا مستوطنات وأدوات إنسان العصر الحجري القديم المتأخر في رواسب الشواطئ العالية للبحيرات القديمة اليت كانت تملأ المنخفض, وأنهما وجدا مستوطنات وأدوات إنسان العصر الحجري الحديث في الشواطئ الواطئة لبحيرة الفيوم, مما جعلهما يستنتجان أن البحيرة كانت كبيرة ثم إنكمشت وأصبحت صغيرة منذ العصر الحجري الحديث. وقد بقيت على هذا الحال حى زيارة هيرودوت الذي لابد أنه أخطأ عندما أدعى أن البحيرة كانت كبيرة وقت زيارته كما أنه أخطأ عندما قال أن الماء كان ينساب إليها ومنها على مدار العام - على أن الأبحاث الحديثة التي قام بها وندروف وزملاؤه وضحت أن هيرودوت كان على حق عندما قال أن البحيرة كانت كبيرة وعالية عندما رآها, فقد بين وندروف أن الأدوات الحجرية التي وجدتها كاتون طومسون وجاردنر في شواطئ البحيرة المنخفضة هي الأقدم وأن البحيرة كانت منخفضة المنسوب عندما عاش على شواطئها هذا الإنسان القديم, ثم إرتفع منسوبها بعد ذلك وإنتقل الإنسان مع إرتفاعها لكي يعيش على شواطئها. وقد ظلت البحيرة مرتفعة وعالية حتى وقت هيرودوت.
أما عن أصل المنخفض ووقت نشأته والعوامل الطبيعية التي شكلته فهي أمور مثيرة للجدل - فهناك من يظنون أن المنخفض لم يتخذ شكله الحالي إلا منذ وقت قريب قد لا يزيد على المليون سنة ولما كان المنخفض لا يحتوي على رواسب عصر البليوسين فلابد أنه لم يكن موجوداً في ذلك العصر إذ لو كان المنخفض موجوداً لدخلته مياه البحر كما دخلت خانق النيل كما سبق القول ولابد لذلك أن المنخفض قد تكون بعد عصر البليوسين بمدة طويلة. أما عن العوامل التي شكلته فإن إحدث النظريات تقول أ، المنخفض نشأ نتيجة ذوبان الأحجار الجيرية التي تحيط به والتي حفر فيها بأمطار العصور المطيرة التي مرت على مصر في ماضيها القريب - وتوجد بمصر أماكن كثيرة يظهر فيها أثر المياه في أحجار الجير فكثيراً ما تسببت المياه في نشأة كهوف وشقوق كبيرة ولكن أحداً من هذه لا يصل إلى حجم الفيوم أو درجة إستدارته - والحقيقة ن الأحجار الجيرية المحيطة بالفيوم فريدة من حيث تركيبها الكيمائي والطبيعي فهي هشة وتحتوي على كميات كبيرة من الشوائب.
ولا يحتوي المنخفض على رواسب سميكة من طمي النيل. إذ لا يزيد سمك عمود الرواسب النيلية الذي يرسو فوق قاع المنخفض على ثمانية أمتار, كما لا يحتوي المنخفض على أية رواسب من فتات الحوائط المحيطة بالمنخفض مما يؤكد أن المنخفض, لابد وأنه مر بفترة جفاف شديدة قبل أن تصل مياه النيل, وفيها حمل الريح ما يمكن أن يكون قد تجمع من فتات بالقاع خلال العصور المطيرة.
ولابد أن المسيل الذي يصل النيل بمنخفض الفيوم قد تكون كفجوة أنشأتها الأمطار الغزيرة في فترة سابقة شقت طريقها حتى أوصلت بين المنخفض والوادي. وقد دلت الحفائر التي أجرتها المساحة الجيولوجية المصرية على أن هذا المسيل معلق يبلغ منسوب أوطى نقطة فيه 17 متراً تحت سطح البحر أي أنه أعلى من أوطى نقطة في المنخفض بحوالي 28 متراً.
كان أول إتصال للنيل بمنخفض الفيوم في وقت نهر ما قبل النيل الذي إرتفعت مياهه حتى ركبت التبة التي تفصل المنخفض عن الوادي وكونت بالمنخفض بحيرة هائلة وصل منسوبها إلى 43 متراً فوق سطح البحر (أي بحوالي 88 متراً عن أوطى نقطة بقاع المنخفض) - وتقع معظم بقايا رواسب شاطئ هذه البحيرة في الجزء الشمالي الشرقي من المنخفض. وهي خالية من أي أثر للإنسان القديم مما يجعل معرفة عمرها صعباً وإن كان من الممكن ربط هذه الرواسب الشاطئية بنهر ما قبل النيل. وفي مقطع الهوارة الذي يصل المنخفض بوادي النيل توجد رواسب مشابهة لرواسب نه رما قبل النيل في الجزء الأسفل من المجرى ومن الجائز أن يكون تراكمها هو الذي أوقف إتصال نهر ما قبل النيل بالمنخفض ولم يكن هناك إتصال بين النيل والمنخفض في مقت أنهار العصر الحجري المتوسط المتقلب أو وقت أنهار النيونيل. ولم يأت الإتصال إلا وقت النيونيل الحديث حوالي سنة 9000 قبل الميلاد حين دخلت المياه المنخفض لعدة مرات منذ ذلك التاريخ.
وقد تركت البحيرات المتعاقبة التي تكونت بالمنخفض منذ ذلك التاريخ رواسب شواطئها عند الإرتفاع الذي كانت تصله وقد أدت الرداسة المستفيض لهذه الرواسب المتتابعة إلى معرفة تاريخ المنخفض قد إنقطع الإتصال الذي حدث حوالي سنة 9000 ق.م. عندما أطمى مجرى الهوارة الذي يصل المنخفض بالنيل حوالي سنة 8000قبل الميلاد ثم عاد الإتصال بعد خمسمائة عام عندما علت فيضانات النيل حوالي سنة 7500 ق.م. وفي هذه الفترة وصل منسوب البحيرة إلى 18 متراً فوق سطح البحر ثم إنخفض بعدها إلى منسوب 12 متراً ثم عاد للإرتفاع إلى منسوب 23 متراً. وقد إستمرت هذه البحيرة التي تذبذب منسوبها حوالي 1500 سنة حتى سنة 6000 ق.م. وعلى شواطئ هذه البحيرة عاش إنسان العصر الحجري القديم المتأخر أو ما عرف إصطلاحاً بإسم إنسان الفيوم (ب).
وفي سنة 6000 ق.م. إنقطع إتصال المنخفض بالنيل لمدة 800 جف فيها المنخفض تماماً. وفي عام 5200 ق.م. عاد الإتصال مع النيل مرة أخرى وتكونت بحيرة بالمنخفض وصل منسوبها إلى 21 متراً فوق سطح البحر وقد إستمرت هذه البحيرة حوالي 1300 سنة, وعلى شواطئها عاش إنسان العصر الحجري الحديث الذي يعرف بإسم إنسان الفيوم (أ). وحوالي سنة 3900 ق.م. إنقطع إتصال البحيرة بالنيل وإستمر الإنقطاع فترة الفيضانات الواطئة التي إستمرت حتى عام 3000 ق.م. حين عاد الإتصال مرة أخرى وإستمر منذ ذلك التاريخ وإن كان قد إنقطع لفترات قصيرة (حول سنة 2000 وسنة 1200 ق.م.) حتى تم تنظيم ضبط دخول الماء إلى البحيرة إصطناعياً في العصر البطلمي. وسنتحدث بشئ من التفصيل عن تغيرات سطح البحيرة وتاريخها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
المناخ وتطور النهر
وضحنا في هذا الجزء أن نهر النيل قد تغير نظامه وشكله لعدة مرات خلال تاريخه الطويل - ولاشك في أن العوامل الجيولوجية التي أثرت في قشرة الأرض كان لها أكبر الأثر في تحديد مسار النهر وشكله الأخير, إلا أن الكثير من التغيرات التي إعترت النهر كانت تحكمها لدرجة كبيرة أحوال المناخ وتقلباته. فقد حددت هذه التقلبات كمية المطر التي تسقط علىمنابع النهر وبالتالي كمية المياه التي حملها عبر تاريخه.
وتأتي مياه النيل من الهضبة الإستوائية الأفريقية ومن المرتفعات الأثيوبية التي تتساقط عليهما الأمطار عندما تكون الشمس في سمتهما. وتهب الرياح التجارية من الضشمال الشرقي في نصف الكرة الشمالي ومن الجنوب الشرقي في نصفها الجنوبي وهي تهب من منطقة الضغط العالي (التي تقع حول خط عرض 18 شمالاًوجنوباً) إلى المنطقة الإستوائية ذات الضغط المنخفض. ويسمى النطاق الذي تتقابل فيه الرياح التجارية لنصفي الكرة بنطاق التجمع بين المداري Intertropical Convergence Zone(ITCZ(وهو النطاق الذي يسقط فيه المطر - ويتحرك نطاق التجمع بين المداري مع رحلةالشمس السنوية من الشمال إلى الجنوب فالشمال مرة أخرى. وبفضل هذه الحركة السنوية يمر النطاق على المنطقة الإستوائية مرتين في السنة ويكون لهذه لمنطقة لذلك فصلان للأمطار أولهما بين شهري مارس ومايو (فصل المطر الأساسي أو الطويل) الثاني في شهري أكتوبر ونوفمبر (فصل المطر القصير). أما في شمال المنطقة الإستوائية فإن معظم المطر يتركز في فصل واحد: هو الصيف في حالة نصف الكرة الشمالي.
ويتحور هذا النظام بعض الشئ في حالة القارات الكبيرة التي عادة ما تسودها مناطق الضغط العالي في الشتائ والضغط المنخفض في الصيف. وفي حالة القارة الأفريقية فإن الرياح التجارية التي تبدأ في التجمع في منطقة الضغط العالي بجنوب الأطلنطي وخليج غينيا تنجذب في فصل الصيف ناحية منطقة الضغط المنخفض فوق القارة فتأخذ إتجاهاً شرقياً بعد أن تعبر خط الإستواء وتسبب الأمطار الموسمية. وفي الحقيقة فإن أمطار أثيوبيا تنشأ عن هذه الرياح الجنوبية الغربية التي تمر شرقاً فوق القارة حتى إذا ما وصلت إلى المرتفعات الأثيوبية إرتفعت وبردت وأسقطت ما بها من رطوبة فيما بين شهري يوليه وسبتمبر.
ويختلف نظام أمطار المرتفعات الأثيوبية لذلك عن نظام أمطار الهضبة الإستوائية وتأتي مياه النيل الأبيض من الأمطار الإستوائية ذات الفصلين بينما تأتي مياه النيل الأزرق والعطبرة من الأمطار الأثيوبية الموسمية. ويتباين نظام أمطار المنطقتين وتحكمها ظواهر جوية مختلفة. ولا يوجد بين المنطقتين ترابط كبير فكثيراً ما تزداد أمطار الهضبة الإستوائية دون أن تزداد أمطار المرتفعات الأثيوبية والعكس صحيح.
وإلى الشمال من حزام التجمع بين المداري "ITCZ" يقع حزام الصحراء الكبرى الذي يقع شماله حزام البقحر الأبيض المتوسط الذي تتساقط فيه الأمطار في الشتاء ويكون فيه الصيف حاراً وجافاً - ويقع حزام البحر المتوسط تحت تأثير الأعاصير الحاملة للأمطار والبرودة والتي تأتي من خطوط العرض الوسطى على إمتداد جبهة عريضة تعرف بإسم الجبهة القطبية. وتؤثر هذه الجبهة في الوقت الحديث على شمال مصر وجنوب سيناء وسلاسل جبال البحر الأحمر حتى خط عرض 17 شمالاً, فتتساقط الأمطار فيها الأمطار في الشتاء الذي عادة ما يكون دافئاً.
ولذلك يمكن القول بصفة عامة أن أمطار حوض النيل الحديث تتحدد نتيجة موقع نطاقي التجمع بين المداري والجبهة القطبية. ففي الشتاء تتحرك كلتا الجبهتين ناحية الجنوب مما يضع شمال حوض النيل تحت تاثير الجبهة القطبية فتتساقط الأمطار فيه أما جنوب حوض النيل فإن نطاق التجمع بين المداري يبتعد إلى الجنوب مما يقلل من فرصة سقوط الأمطار عليه - وينعكس الحال في الصيف عندما تتحرك الجبهة القطبية إلى الشمال بعيداً عن حوض النيل في الوقت الذي يتحرك فيه نطاق التجمع بين المداري إلى الشمال ناحية الجزء الجنوبي لحوض النيل فتتساقط الأمطار الغزيرة فيه.
التقلبات الجوية في سابق العصور
يكتنف تصور شكل مناخ الأرض في العصور السابقة من تاريخ الأرض صعوبات كثيرة وتزيد هذه الصعوبات كلما أوغلنا في القدم وإبتعدنا عن الزمن الحديث. وتعود هذه الصعوبة إلى أن العناصر الأساسية التي شكلت مناخ هذه العصور القديمة غير معروفة على أي وجه من الدقة فتوزيع اليابسة والبحر ومقدار إرتفاع الجبال وشكل التضاريس القديمة وكثافة الغطاء النباتي وحركة التيارات البحرية في العصور السابقة هي أمور مجهولة تماماً أو على أحسن التقدير معروفة بصفة عامة. وسنحاول في هذا الفصل أن نقتصر في محاولاتنا لإعادة بناء مناخ الفترة الزمنية التي بدأ النيل فيها إتصاله بأفريقيا,وهي فترة زمنية وإن إمتدت لكثر من 400.000 سنة إلا أنها قصيرة بالنسبة لعمر الأرض أو حتى لعمر النيل نفسه - وبقصر محاولاتنا لهذه الفترة القصيرة نسبياً فإننا سنلغي أو سنقلل على الأقل من أثر بعض العناصر الهامة التي تؤثر في مناخ الأرض والتي عادة ما يصعب إعادة بنائها. ففي الفترة التي مرت منذ إتصال نيل مصر بأفريقيا لم يحدث تغير كبير في توزيع اليابسة والبحر في مقدار إرتفاع الجبال مثلا ً.
وعلى الرغم من صعوبة إعادة بناء مناخ الأزمنة السابقة إلا أننا نستطيع أن نفترض أن مناخ العصور القيدمة له صلة بأنماط مناخ العصر الحديث الذي لابد وأنه قد تطور من هذه الأنماط, ويمكن لنا لذلك أن نفترض أن مناخ الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل الإفريقي تأثر منذ منتصف عصر البليستوسين (أي منذ حوالي 500.000 سنة) بموقع كلا من نطاقي التجمع بين المداري والجبهة القطبية الذي نعرف أنهما تزحزحا نحو الشمال أو الجنوب خلال هذا التاريخ وفي التاريخ الحديث ما يؤكد أن جبهة أمطار الساحل الأفريقي كانت تتزحزح مع الحركة المستمرة لنطاق التجمع المداري عبر خطوط العرض - وقد تزحزح موقع خط تساوي المطر عند 400 ملليمتر عن موقعه بين 50 و 75 كيلومتراً إلى الجنوب فيما بين أكثر الفترات مطراً في القرن العشرين (الفترة سنة 1921 وسنة 1950) وأقلها مطراً (الفترة بين سنة 1956 وسنة 1985). وإذا أخذنا سنوات القرن العشرين فإننا نجد أن هذا الخط قد تزحزح بين مائتين إلى ثلاثمائة كيلومتراً بين أكثر السنوات مطراً (سنة 1929) وأكثرها جفافاً (سنة 1984). وفي مناقشتنا التالية عن المناخ في الزمان القديم سنفترض أن ما حدث في القرن العشرين لموقع جبهة الأمطار قد حدث أيضاً في ماضي الأزمنة. حيث هناك تصور لموقع خط تساوي المطر عند 400 ملليمتر في نهاية عصر الجليد منذ 18.000 سنة مضت عندما تراجعت جبهة الأمطار إلى الجنوب, وفي مبدأ عصر الهولوسين منذ 9.000 سنة عندما تقدمت جبهة الأمطار إلى الشمال.
تقلبات المناخ خلال عصور الجليد
كان لإتساع سطح الجليد العاكس للضوء وبرودة المحيطات خلال عصور الجليد أثراً كبيراً على المناخ. فقد تسبب yمتداد سطح الجليد فوق مساحات شاسعة على الأرض في تقصير التدرج الحراري لسطح الأرض وفي زحزحة نطاقي الجبهة القطبية وحزام التجمع بين المداري إلى الجنوب. وقد كان لهذه الزحزحة أثرها في تحديد المناطق التي ستتأثر بهذين النطاقين خلال حركتهما السنوية. ففي عصور الجليد لم يعد نطاق التجمع بين المداري يمس إلا أطراف المنطقة الإستوائية خلال حركته السنوية من الشمال إلى الجنوب مما ترك هذه المنطقة بأمطار قليلة. وقد رأينا فيما سبق أن المنطقة الإستوائية كانت بالفعل أكثر جفافاً وقت العصر الجليدي الأخير, وأن منسوب بحراتها قد هبط نتيجة قلة الأمطار, وأن غاباتها قد إختفت وحلت محلها أحراش السافانا, وفي الوقت نفسه إمتدت الكثبان الرملية التي كانت تذرو الرياح رماله إلى جنوب المنطقة المدارية فغزتها.
ويبدو أن مقدار زحزحة هاتين الجبهتين قد إختفت في كل عصر من العصور الجليدية الأساسية التي عاصرت أنهار النيونيل. ففي عصر الجليد المسمى ريس Rissالذي تزامن مع فترتي العباسية 1 و 2 المطيرتين بين 540.000 و 350.000 سنة قبل الآن يبدو أن الجبهتين قد تزحزحا إلى عمق الجنوب فلم تستطع جبهة الأمطار المدارية في حركتها السنوية ناحية الشمال أن تمس منابع النيل أو الهضبة الأثيوبية فتركتها قليلة الأمطار. وتوقف النيل بذلك عن الوصول إلى مصر. وفي الوقت نفسه كان لزحزحة الجبهة القطبية ناحية الجنوب أثر حميد على شمال أفريقيا ومصر فزادت الأمطار فيهما وملأت مجرى النيل خلال موسم الشتاء, كما تسببت الأمطار في ملء الخزانات الجوفية بالصحاري فزادت فرصة سكناها وإنتشر الإنسان فيها على نطاق واسع, وتوجد آثار الإنسان القديم في ذلك العصر في صحاري مصر وشمال أفريقيا بل ومجرى النيل ذاته.
وفي عصر الجليد الأخير لم تحدث زحزحة الجبهتين القطبية بين المداري إلى الجنوب بنفس المقدار الذي حدث خلال عصر جليد الريس.فقد كانت هناك أمطار كافية في أثيوبيا لكي يصل النيل إلى مصر خلال موسم الفيضان (النيونيل ب, ج). وفي الوقت نفسه فإن الجبهة القطبية لم تزحزح إلى الجنوب بالقدر الذي يوصل الأمطار إلى شمال شرق أفريقيا فبقيت جافة تماماً طوال هذا العصر. وهناك أدلة ما يشير إلى أن صحراء مصر قد هجرت تماماً أثناء عصر الجليد الأخير.
وفي عصر جليد المندل Mindel (بين 200.000 و 128.000 سنة قبل الآن) الذي ربطناه مع فترة الصحاري المطيرة, تزحزحت الجبهة القطبية إلى الجنوب فتزايدت أمطار شمال أفريقيا وإمتلأت خزانات المياه الأرضية في صحاريها وأضافت هذه الأمطار الشتوية بعض المياه لنهر النيل. أما حزام التجمع بين المداري فقد مست حركته الشمالية من موقعه الجديد منابع النيل فإستمر النهر في الوصول إلى مصر وإن لم تكن كمية المياه التي حملها كبيرة.
وهنا يلزمني أن أذكر القارئ بأن النموذج الذي نقترحه لحالة مناخ العصور الجليدية إنما هو نموذج ينبغي أن يؤخذ في إطاره العام فهو لا يدخل في تفصيلات التقلبات المناخية التي حدثت في كل فترة من الفترات التي تحدثنا عنها. وكمثال واحد لذلك فإننا نذكر ما حدث خلال فترة الصحاري المطيرة التي كانت أحوال المناخية فيها متقلبة تقلباً شديداً فلم يكن النيل متقلباً فقط بل كذلك كانت أحوال الصحراء المناخية. فقد أثبت البحث الحديث أن فترة الصحاري المطيرة قد تخللت فترات جفاف عديدة, ففي منطقة بير صحاري - طوفاي (جنوب الصحراء الغربية) وجدت رواسب خمسة إن يكن ست بحيرات متعاقبة إرتفعت مياهها لدرجة أن كونت بحيرات ضخمة وسط الصحراء وإنفصلت عن بعضها البعض بفترات جفاف شديدة.
تقلبات المناخ خلال فترة تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير
بدأت فترة من الدفء في العالم في أعقاب تراجع ثلاجات العصر الجليدي الأخير حوالي سنة 12.500 قبل الآن. وقد صاحب هذه الفترة إرتفاع في منسوب البحيرات وكذلك في زيادة الأمطار وعودة الغابات إلى المناطق الإستوائية. وكما بينا فيما سبق فإن النيل حمل كميات ضخمة من المياه في فترة الدفء التي أعقبت تراجع الجليد بدءاً من سنة 12.500 قبل الآن وقد جاءت هذه الأمطار من الهضبة الإستوائية أساساً.
ولم تزد أمطار المرتفعات الأثيوبية إلا منذ عشرة آلاف سنة قبل الآن أي بعد 2500 سنة من تزايدها في الهضبة الإستوائية - ويبدو أن المناطق التي زادت أمطارها في الفترة 12.500 - 10.000 سنة قبل الآن هي المناطق التي كانت تحت تأثير رياح الأطلنطي, أما المناطق حول المحيط الهندي فلم تتأثر كثيراً نظراً لتأخر وصول الدفء إلى هذا المحيط لوقت طويل. وحوالي سنة 10.000 قبل الآن تحرك جزام التجمع بين المداري إلى الشمال فزادت الأمطار فوق المرتفعات الأثيوبية ومنطقة الساحل في الفترة التي سميناها بإسم فترة الهولوسين المطيرة. ومع وقوع المرتفعات الأثيوبية في حزام التجمع بين المداري زاد تصرف النيل زيادة كبيرة - وفي هذا الوقت إمتدت جبهة الأمطار إلى الشمال تدريجياً فبدأت تغطي مناطق شمال السودان أولاً ثم جنوب مصر بعد ذلك وكان من أثرها تكون الكثير من البحيرات الموسمية التي تركت رواسبها في الكثير من الأماكن في صحاري شمال السودان وجنوب مصر وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن عمر رواسب البحيرات يقل كلما إتجهنا إلى الشمال مما يشير إلى أن جبهة المطر كانت تتحرك من الجنوب إلى الشمال وبإنتظام.
كانت أمطار فترة الهولوسين المطيرة لذلك صيفية وقد أثرت هذه الأمطار بصفة خاصة على مناطق جنوب مصر ولم تمتد كثيراً إلى الشمال من خط عرض أسيوط, فقد ظل هذا الجزء الشمالي جافا, ولعل هذا يفسر قلة بقايا مستوطنات الإنسان القديم فيه بالمقارنة إلى جنوب مصر حيث تنتشر المستوطنات وبقايا الإنسان القديم على طول الصحراء, كما يفسر أيضاً قلة الرواسب البحيرية ووجود الكثير من الرواسب الملحية فيه (والتي لا يمكن أن تتكون وقت عصور المطر). وقد دلت الأبحاث الأركيولوجية بشمال مصر في منطقة سيوة وسترة التي تقع على الطرف الجنوبي لمنخفض القطارة أن مستوطنات الإنسان القديم التي وجدت بهما تعود إلى الألف الخامسة قبل الميلاد وأنها كانت تعتمد على المياه الأرضية والآبار المتدفقة منهما بدلأً من الأمطار.
العوامل المؤثرة في دورية المناخ
يظهر أثر العوامل التي تؤثر على مناخ أي إقليم بعد أجل يطول أو يقصر, فمنها ما يظهر أثره مباشرة ومنها ما يظهر أثره بعد حين, ومن العوامل التي تهمنا على وجه الخصوص تلك التي تؤثر في تحديد كمية المطر على الإقليم لأن لهذه أكبر الأثر على كمية المياه التي يحملها النهر وبالتالي على شكل النهر ورجيمه - ومن العوامل التي يظهر أثرها على المدى البعيد تلك التي تخص التغيرات الفلكية والتي تتعلق بالتغير الدوري لموقع الأرض بالنسبة للشممس, مثل الذي يحدث نتيجة لاتمركزية مدار الأرض (Eccentricity of the orbit) والذي يحدث في دورة طولها 100.000 سنة, وكذلك الذي يحدث نتيجة البطئ في إتجاه محور الأرض والذي يؤدي إلى تحرك الإعتدالين الربيعي والخريفي (Precession of the equinoxes)نحو الغرب, وهذا التغير يتم في دورة طولها 23.000 سنة, وكذلك التغير الذي يتم نتيجة ميل دائرة الكسوف (Obliquity of the ecliptic)وهي إحدى الدوائر العظمى على الكرة السماوية وهي مدار الشمس الظاهري بين النجوم (وهي أيضاً مدار الأرض لو شوهدت من الشمس), وهذه الدائرة تميل على مستوى خط الإستواء السماوي فتقطعه في نقطتي الإعتدالين الربيعي والخريفي وتكمل هذه الدورة كل 41.000 سنة, وتسمى بالدورات المؤثرة على مناخ الأرض بالدورات الفلكية والتي تعرف بإسم دورات ميلانكوفتش وهو العالم الذي كان أول من لاحظها.
ومن الجائز أن تكون هذه العوامل الفلكية الطويلة الأجل هي التي تسببت في إتصال النيل المصري بمنابعه الأفريقية وإنقطاعه عنها خلال الأربعمائة ألف سنة الماضية - ونحن نعرف الآن أن نهري النيونيل ب, ج الموسمين نشطاً خلال العصر الجليدي الأخير الذي جاء نتيجة هذه التغيرات الفلكية طويلة الأجل. كما أن ميلاد النيل الحديث جاء مع تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير عندما ساد أفريقيا مناخ مطير مما جعل النهر مستديماً بعد أن أصبح له مصدران للمياه. ودورة محور الأرض التي سببت تراجع الجليد ومبدأ النيل الحديث هي قرب نهايتها فلم يبق أمام نهاية الدورة غير 5.000 سنة, ولذلك فإن مصير النيل الحديث مثل مصير عديد الأنهار التي سبقته هو التوقف والجفاف. وهذا التنبؤ لا ينبغي أن يكون مصدر قلق لنا. ذلك لأن ما يمكن أن يحدث بعد خمسمائة آلاف سنة هو أمر يفوق توقع الإنسان وإهتمامه فأقصى ما يشغل بال الإنسان هو أحداث أو الجيلين اللذين يتلوان جيله.
وعندما نأتي لنبحث مستقبل النهر في منظوره فعلينا أن نأخذ في الأعتبار عوامل المناخ المؤثرة قصيرة الأجل وهناك من هذه الكثير والتي يظهر أثرها على مدى العقد أو السنة أو حتى الموسم الواحد. ومن هذه تغيرات الغطاء النباتي للأرض وحركة التيارات البحرية, وتركيز غازات الصوبة الزجاجية وزحزحة التجمع بين المداري, وتأثير ظاهرة النينو. والكثير من هذه العوامل تؤثر في بعضها البعض - فحركة التيارات البحرية وموقع حزام التجمع بين المداري يتغيران مع أحداث النينو. وهناك الآن محاولات كثيرة لإعادة بناء المناخ في سابق الزمان وكذلك للتنبؤ بالتغيرات المستقبلية على الأجل القصير بإستخدام نماذج رياضية فيها إدخال العوامل المتغيرة التي تؤثر في المناخ والبيانات المستخلصة من الأرصاد الجوية أو من إستقرار التاريخ. ومن هذه المحاولات تلك التي تنظمها أكاديمية العلوم الأمريكية لإعادة بناء مناخ الهولوسين أو آخر عصر البليستوسين.
الجزء الثاني:هيدرولوجية نهر النيل
هيدرولوجية نهر النيل
"وعندما يفيض النيل فإن كل القطر يتحول إلى بحر وتبقى المدن وحدها فوق الماء كاالجزر في بحر إيجه". هيرودوت (حوالي 450 ق.م). أصبح موضوع هيدرولوجية نهر النيل موضع دراسات منظمة منذ بدء القرن التاسع عشر مع بزوغ مصر الحديثة فقد أدى التوسع الزراعي وإدخال المحاصيل النقدية إلى ضرورة إستخدام مياه النيل بطريقة أكثر كفاءة عما كان سائداًَ منذ أقدم الأزمنة. ولم يكن هذا الإستخدام الكفء ممكناً دون معرفة دقيقة لجغرافية النهر وشكل منابعه وكمية امياه التي يحملها مما دفع إلى القيام برحلات الإستكشاف الجغرافي الكبرى والدراسات المنظمة التي جعلت من النيل واحداً من أكثر الأنهار تعرضاً للرصد والمراقبة.
وقد ظل الناس في مصر لوقت طويل لا يعرفون المنبع الذي تأتي منه مياه النهر التي يعيشون عليها ولا سبب إرتفاعها كل عام فقد ظلت هذه أمور غامضة تغلفها الأساطير والطقوس. كانت ظواهر النهر بالنسبة لهم جزءاً لا يتجزأ من النظام الكوني فكما تشرق الشمس وتغرب كل يوم فكذلك كان النيل يرتفع وينخفض في مواسمه التي كانوا ينتظرونها في رهبة ويحتفلون بها في طقوس مقدسة لقرون طويلة.
وعلى الرغم من تقدم مصر الكبير وإعتمادها شبه الكامل على مياه النيل فإن أحداً لا يبدو أنه إستطاع أن يتتبع النهر حتى منابعه إلا في القرن التاسع عشر الميلادي.وفي الحقيقة فإن أقصى منابع النيل في الجنوب لم تعرف تحديداً إلا في عام 1937 حين تم إقامة نصب نقشت عليه كلمتي "أصل النيل" في قرية روتانا بدولة بوروندي التي تقع جنوب خط الإستواء بحوالي درجات أربع, حيث ينبع نهر لوفيرانزا أقصى فرع إلى الجنوب لنهر روفوفو أحد فروع نهر كاجيرا الذي ينساب إلى بحيرة فكتوريا.
إيقاع النهر والطقوس المتعلقة به
تعود خصوبة أرض مصر التي طبقت شهرتها الآفاق إلى الإرتفاع السنوي لنهر النيل الذي يترك ليغمر الأراضي لعدةشهور حتى ينحسر عنها عندما يقل إرتفاعه تاركاً وراءه طبقة من الطمي. وقبل بناء منشآت الري الكبرى خلال القرنين التاسع والعشرين في كل من مصر والسودان كان ري الأراضي معتمداً على ظاهرة إرتفاع مياه النيل السنوية والمنتظمة الإيقاع,والتي كان الناس ينتظرونها في ترقب وقلق كبيرين ذلك لأنه إذا جاء إرتفاع النيل ناقصاً أو زائداً على المنسوب المناسب لغمر الأراضي حل بالبلاد بلاء عظيم.
ويبدأ النهر في الإرتفاع بعد موسم الأمطار في أثيوبيا في شهر يونيه ويرتفع رويداً رويداً حتى يصل إلى أقصى إرتفاع له في نهاية شهر سبتمبر حين تغرق الأراضي وتبدو كما قال هيرودوت كبحر تبقى فيه المدن التي كانت تبني فوق الجسور العالية كالجزر كبيرة وفي شهر ديسمبر أو يناير يعود النهر إلى مجراه الأصلي ويظل ينقص في الإرتفاع بعد ذلك حتى يصل إلى أدنى مستوى له في شهر يونيه عندما يقل عرض النيل إلى أقل من النصف, وتتحول مصر تحت أشعة الشمس الحارقة والرياح العاصفة إلى شبه صحراء.
ووبملاحظة مقدار إرتفاع النيل وكمية المياه التي يحملها في وقت الفيضان في كل من أسوان وشمال الدلتا في سنة متوسطة من سني النصف الثاني للقرن التاسع شعر. وفي أسوان يرتفع منسوب المياه خلال موسم الفيضان فيما بين نهاية مايو ومنتصف سبتمبر حوالي 8.5 متر وتزيد كمية المياه في نفس المدة خمسة عشر ضعفاً - ويظهر أثر إرتفاع زيادة المياه وكميتها بعد ذلك بحوالي إثنى عشر يوماًً في القاهرة وبحوالي ستة أيام أخرى في شمال الدلتا.
ويعتبر نهر النيل واحداً من أنهار العالم القليلة ذات الإيقاع المنتظم والذي قلما تكون فيضاناته وأحداثه نتيجة أحداث مفاجئة أو عنيفة, ويرتفع في إنتظام وفي وقت مناسب من أوقات السنة حاملاً معه كمية من المياه عادة ما تكون كافية لزراعة الأراضي - ومن بين 820 فيضاناً سجلت إرتفاعاتها بمقياس الروضة بين القرنين السابع والخامس عشر الميلادي كان 73% منها "عادياً" أي كافياً لري الأراضي وإغراق حياضها بالماء اللازم لخصبها ولم يزد عدد الفيضانات الواطئة على 22% والفيضانات العالية والمدمرة على 5% كما كان هناك 7% من الفيضانات الواطئة التي تأخر وصول مياهها عن ميعاد الوفاء.
ويبلغ متوسط عدد أيام الفيضان 110 أيام, ومن بين 46 فيضاناً بين السنوات 1890, 1935 بغل عدد أيام الفيضان أقل من 75 يوماً في أربعة منها وأكثر من 125 يوماً في إثنتي عشر سنة.وكانت أطول الفيضانات في العصر الحديث هو فيضان سنة 1894 الذي إستمر لمدة 162 يوماً بين 17 مايو و26 أكتوبر. ومن بين 207 فيضانات عرفت أقصى إرتفاعاتها وأدناها حدث بدء الفيضان في شهر يونيه في 75% منها,وفي شهر مايو في 10% منها, وفي شهر يوليه في 15% منها. ولم يحدث أبداً أن بدأ الفيضان قبل 17 مايو أو بعد 6 يوليه في أي عام.
ويبغ النهر أقصى إرتفاعه في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر والأيام الأولى من شهر أكتوبر في 87% من السنوات, وفي 5% من الحالات يحدث أقصى الإرتفاع في شهر نوفمبر ولم يحدث أنبلغ النيل أقصى إرتفاع له قبل 7 أغسطس أو بعد 27 نوفمبر.
وحتى وقت قريب كان المصريون يحتفلون ببدء إرتفاع النيل في ليلة السابع عشر من شهر يونيه الذي يوافق الثاني عشر من شهر بؤونة بالتقويم القبطي وهو الإحتفال الذي يعرف بإسم ليلة النقطة لأن المصريين كانوا يعتقدون أن نقطة من الماء لها فعل الخميرة تسقط فتسبب في تلك الليلة إرتفاعه. ومن المرجح أن هذا الإحتفال قديم يعود إلى مصر القديمة - المصريون القدماء يعتقدون بأن زيادة النيل ترجع إلى دموع إيزيس التي كان تسكبها حزناً على زوجها أوزوريس الذي ذبحه أخوه ست - ويحتفل الأقباط المحدثون يوم 12 بؤونة من كل عام بعيد القديس ميخائيل - الذي يعتقد أنه يشفع للمصريين لزيادة نهر النيل - وكان المصريون يراقبون إرتفاع النيل بإهتمام كبير, ويعلنون من مدى إرتفاعه كل يوم في شوراع القاهرة بواسطة "منادي النيل" وعندما كان النيل يصل في إرتفاعه إلى منسوب 16 ذراعاً كان هذا نذيراً بقطع أو جبر الجسور والسماح لمياه النيل بالدخول إلى أحواض مصر الزراعية وإغراقها وكان إحتفال جبر الخليج هذا هو عيد وفاء النيل.
وكان وصول إرتفاع النيل إلى منسوب الستة عشر ذراعاً مناسباً تماماً لري الأراضي خلال العصر الروماني وكذلك عند الفتح العربي, عندما كان يتم تسجيل هذه المناسيب في مقياس الروضة الذي بني بقصى جنوي جزيرةالروضة بجنوب القاهرة - وفي القرن السابع الميلادي كان الفيضان حسناً عندما إرتفع النيل بمتوسط قدره 6.4 متراً فوق المتوسط الأدنى لإرتفاع الماء وهو 1.9 متراً فوق أرضية المقياس (أي عندما يصل منسوب الفيضان إلى 8.3 متر فوق أرضية المقياس) وكان هذا المنسوب هو علامة الستة عشر ذراعاً على مقياس ذلك الزمان - وقد كتب بليني (القرن الأول بعد الميلاد) أنه عندما يرتفع النيل لإثني عشر ذراعاً فإن (مقاطعة منف) تحس بالمجاعة,وكذلك عندماإرتفع إلى ثلاثة عشر ذراعاً, ولكن عندما يرتفع النيل إلى أربعة عشر ذراعاً تأتي الناس الفرحة وعندما يرتفع إلى خمسة عشر ذراعاً يتحرر الناس من الهموم إلى ستة عشر ذراعاً يجئ الخير والسعادة.
وقد ذكر عمرو بن العاص شيئاً مقارباً من هذا عندما أرسل إلى الخليفة عمر يصف أحوال مصر "إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعاً", والحد الذي يروى منه سائرها حتى يفضل على حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستى عشر ذراعاً والنهايتين المخوفتين في الزيادة والنقصان وهو الظمأ والإستبحار إثمنى عشر ذراعاً في النقصان وثمانية عشر ذراعاً في الزيادة".
وفي العصر الإغريقي - الروماني كان العدد 16 وماء فيضان النيل رمزين للحياة والرخاء ليس فقط لأهل مصر بل ولأهل جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط حيث نشأـ عبادة مياه الفيضان والنيل.
وقد وجدت في الكثير من معابد روما القديمة تماثيل للنيل لعل أشهرها ذلك التمثال الذي نقل إلى متحف الفاتيكان من موقع معبد روماني قديم لعبادة الإله سيرابس وإيزيس, وفيه يتمثل النيل كرجل متكئ وملتح بجوار تمثال لأبي الهول وتمثال لتمساح وحوله ستة عشر طفلاً طول ذراع وكان الأطفال الستة عشر يرمزون إلى الإرتفاع المناسب لغمر الأراضي بمصر كما كانت الأوسمة والنياشين تدق في عصر الإمبراطور تراجان وعليها تمثال النيل وملاك يشير بإصبعه إلى الرقم 16.
وعلى الرغم من إرتفاع الأرض الزراعية منذ ذلك التاريخ نتيجة تراكم الطمي الذي يحمله النيل فوقها عاماً بعد عام. وبالتالي إرتفاع المنسوب المناسب لغمر الأراضي عن منسوب الستة عشر ذراعاً على المقياس بحوالي المترين والنصف في أوائل سني القرن العشرين (حين أصبح هذا المنسوب عند علامة الذراع رقم 22 على المقياس الجديد للروضة اذلي تم تركيبه في منتصف القرن التاسع عشر), فإن منسوب الستة عشر ذراعاً ظل مستخدماً في تحديد موعد وفاء النيل في مصر حتى العصر الحديث, هذا على الرغم من أن النيل كان يصل إلى هذا المنسوب لم يكن ليغرق إلا الأراضي الواطئة فقط أما الأراضي المتوسطة الإرتفاع فلم تكن تغرق إلا في عيد النيروز (9 سبتمبر وهورأس السنة القطبية) ولم تكن الأراضي العالية الإرتفاع تغرق إلا في عيد الصليب (27 سبتمبر) من كل عام.
كانت عملية قطع الجسور وإدخال المياه إلى الحقول واحدة من أهم أحداث السنة الزراعية بمصر والتي كان يحتفل بها إحتفالاً كبيراً له طقوسه الخاصة فيما بين السادس والسادس عشر من أغسطس من كل عام. ففي القاهرة كان يقطع الجسر الترابي عند مدخل القنة التي كانت تعرف بإسم الخليج والتي كانت تخرج من مصر القديمة وتمر بشارع بورسعيد (الخليج المصري سابقاً) وقد ردمت هذه القناة في أواخر القرن التاسع عشر, ومنطقوس الإحتفال بناء كومة مخروطية الشكل أمام السد الترابي عند مدخل القناة تسمى العروسة تزرع فوقها حبوب الذرة وكانت الكومة تجرف أمام الماء عند إرتفاعه وقبل جبر جسر الخليج بحوالي الإسبوع وربما رمز هذا الطقس إلى عادة إلقء فتاة عذراء في النهر قيل أن المصريين القدماء كانوا يضحون بها حتى يجلب النهر الخير وليس هناك ما يؤكد أن هذه العادة كانت تمارس في مص رالقديمة. ومهما كان الأمر فإن الطقس يرمز إلى زواج النهر بالإرض وهي العروس التي كانت تنتظر قدومه لكي تخصب. وفي أوقات لاحقة أدخل طقس إلقاء النقود في الخليج عند الإحتفال بجبره فيتسابق الناس في الطقس في النهر للحصول عليها.
وتوجد بمعابد مصر القديمة تماثيل ونقوش كثرة تشير إلىأن فيضان النيل كان مقدساً,وكان يرمز إليه بالإله حعبي الذي كان وحتى العصر الروماني, إلهاً ثانوياً يأتمر بأوامر الألهة الأخرى وعلى الأخص الإله أوزوريس ولم يرق حعبي إلى مرتبة الإله الكامل إلا في العصر الروماني - وخلال التاريخ القديم كان الإله أوزوريس هو التجسيد الحي لفيضان النيل وللخير الذي كان يأتي منه وكان لأوزوريس مركز متميز بين آلهة مصر تحتفل الدولة والمعبد بعيده في أبهة وفخامة. فقد تغلب أوزوريس على الموت والشر فبعد أن قتله أخوه ست ومزقه إرباً قامت زوجته وشقيقته المخلصة وإبنه الشجاع حورس بجمع أطرافه وإعادته إلى الحياة وبذا أصبح أوزوريس رمزاً للبعث وتجدد الحياة والغلبة على الموت وإلهاً للموتى, ولما كان القمح والنبات عامة تموت ثم تعود إلى الحياة مرة أخرى كل عام مع مجئ الفيضان فقد أصبح أوزوريس رمزاً للفيضان والحياة التي تجيئ معه, فكلاهما قد تغلب على الموت. كان المصريون يتخذون من قصة بعث أوزوريس سنداً في الحياة وأملأً في الخلود. وتبين سلسلة النقوش الموجودة بمعبد دندرة الإله أوزوريس وهو راقد في مثواه ثم وهو يبعث رويدأً رويدأص حتى يقف منتصباً بين أيدي زوجته المخلصة وأمامه رجل يحمل مفتاح الحياة.
وتمثل عملية البذر والتي كانت تتم في فصل الخريف بعد أن تتراجع مياه الفيضان من الحياض الحادث الهام التالي في السنة الزراعية في مصر.وكانت هذه عملية مهيبة يعتقد الفلاحون أنها ستتم على أفضل صورة عندما يبدأونها بدفن تميمة على شكل تمثال للإله أوزوريس مصنوع من الطين المخلوط ببعض الحبوب في مراسم جنائزية - فقد كان الإعتقاد أن نبت الحبوب في التميمة يرمز إلى الخصب والحياة التي تأتي بعد الموت.
وفي معبد إيزيس بجزيرة فيلة بأسوان توجد نقوش على جدران الحجرة المكرسة لأوزوريس تبين جثة هذا الإله قد خرجت منها سيقان القمح, والكاهن يروي هذه السيقان منإناء يحمله في يده وبجواره النقش كتابة "هذا هو الشكل الذي لا يجرؤ أحد على الكلام عنه, أوزوريس الطلسم,الذي ينبت من المياه" ولا يترك هذا النقش أي شك في أن أوزوريس كان تجسيدأً لنبات القمح الذي كان ينبت أيضاً بعد أن تخصبه مياه الفيضان ويبدو من النقش أن هذا الرمز كان سر الأسرار الذي لم يكن يعرفه إلا ذوو الحظوة.
كان أوزوريس أيضاً ملكاً على الموتى وكانت مهمته هذه لا تقل أهمية عن مهمته كمانح للمحاصيل في مواسمها, فقد كان القدماء يعتقدون أنه قادر على بعث الموتى إلى الخلود تماماً كقدرته على إنابت البذور وإخراج المحاصيل من التراب.
لذا فقد كان القدماء يضعون في أكفانهم تماثيل لأوزوريس مصنوعة من الطين الذي كانت تعجن فيه البذور ويظهر أن فكرة الخلود قد نشأت منإستمرارية إنبات البذور.
وكان من طقوس الإحتفال بعيد الإله أوزوريس تذكر الموتى عامة وكان ذلك يتم بإشعال المصابيح خارج المنازل طول ليلة العيد حتىتهتدي على ضوئها أرواح الموتى التي كان يعتقد أنها تزور مسقط رأسها مرة في العام وكان الناس يضعون لها الطعام خارج المنزل لكي تقتات منه - وقد يعود أصب يوم الذكرىالمسيحي والذي يقع أيضاً في شهر نوفمبر والذي يتذكر فيه الإحياء موتاهم إلى هذه العادة المصرية القديمة.
البحث عن منابع النيل
"وهذاالنيل له خاصتان: الأولى بعد مرماه فغنا لا نعلم في المعمورة نهراً أبعد مسافة منه لأن مباديه عيون تأتي من جبال القمر وزعموا أن هذا الجبل وراء خط الإستواء بإحدى عشرة درجة . . . والخاصة الثانية أنه يزيد عند نضب سائر الأنهار ونشيش المياه لأنه يبتدئ بالزيادة عند إنتهاء طول النهار وتتناهى زيادته عند الإعتدال الخريفي وحينئذ تفتح الترع وتفيض على الأراضي" عبد اللطيف البغدادي حوالي سنة 1200 للميلاد من كتابه "الإفادة والإعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر".
كانت جغرافية نهر النيل قبل عصر الإكتشافات الكبرى في القرن التاسع عشر غير معروفة على وجه اليقين ذلك أنه على الرغم من أ، حدود مصر الجنوبية كانت تقف عند أسوان حيث تصبح الملاحة في النهر فيما روائها صعبة, فقد كان من أن أهم أهداف مصر الإستراتيجية لتأمين حدودها هو بسط نفوذها على النوبة والتوغل في أفريقيا. وتوجد بالنوبة دفنات لمصريين منذ عصر ما قبل الأسرات مما يقطع بأن هذه البلاد سكنها المصريون منذ أقدم الأزمنة - وفي وقت الدولتين المتوسطة والحديثة الفرعونيتين أصبحت النوبة جزءاً من الإمبراطورية التي إمتدت لبعض الوقت حتى الخرطوم. وقد أرسلت من مصر بعثات كثيرة للتجارة فيما وراء الحدود وإلى قلب أفريقيا قد سجل الكثير منها في نقوش مقابر أمراء جزيرة إلفنتين بأسوان ومن أهم هذه البعثات الأربع التي قام بها حرخوف (خوف - حر) حاكم الفنتين (جزيرة أسوان والتي كانت تسمى أيام الفراعنة آربو أو مدينة الفيل) والتي سجلت تفاصيلها على جدران مقبرته في أسوان (رقم 35) أيام حكم الملكين رع وبيبي الثاني (2281 - 2175 ق.م تقريباً) - وفي بعثته الثالثة التي كانت تتألف من ثلاثمائة حمار عاد حرخوف محملاً بالبخور والأبنوس والزيوت وجلود النمور والعاج وريش النعام "وكل شئ طيب" وفي بعثته الأخيرة عاد من بلاد يام ومعه قزم أعجب الملك بيبي الذي كان صغير السن عندما وصله القزم, ويعتقد الكثيرون أن بلاد يام هذه هي كردفان.
وكان من أولى المحاولات لتسجيل المعرفة المتاحة عن نهر النيل تلك التي قام بها بطليموس الإسكندري الذي عاش في اقرن الثاني للميلاد وعمل بمكتبة الإسكندرية وإكتسبت مؤلفاته شهرة واسعة ترجم العرب أغلبها, وأشهرها مؤلفاته المجسطي Almagest والمجموعة الجغرافية Geographike Syntax اللذان ظلا المراجع الأساسية لعلمي الفلك والجغرافيا حتى القرن السادس عشر. وقد ظلت خريطة نهر النيل التي تضمنها الأطلس الذي رافق المجلدات الثمانية للمجموعة الجغرافية الخريطة المقبولة للنهر حتى منتصف القرن التاسع عشر - وقد أعيد نشر هذه الخريطة مبنياً على ما كان يتردد بين الناس ولم يكن مبنياً عن مسح ميداني. وتظهر الخريطة النيل نابعاً من بحيرتين تقعان إلى الجنوب من خط الإستواء كان يعتقد أنهما تحصلان على مياهما من ذوبان الثلوج فوق "جبال القمر" التي تظهر بالخريطة ممتدة من الشرق إلى الغرب. وقد تردد إسم البحيرتين في الكثير من المؤلفات القديمة تحت إسمي بحيرةالتماسيح وبحيرة الشلالات. وتظهر الخريطة النهرين الخارجين من البحيرة وهما يلتقيان عند خط العرض 2 لكي يكونا نهر النيل الذي يلتقي عند خط العرض 12 برافد الأسطابوس (النيل الأزرق) الذي يظهر نابعاً من بحيرة كولو (تانا). وإلى الشمال من ذلك يصب في النهر فرع الأسطابورا (العطبرة) من الجنوب الشرقي.
وقد إخترق العرب القارة الإفريقية من ساحلها الشرقي عندما إستقروا فيها في العصور الوسطى وقد عرفوا شيئاً عن البحيرات الإستوائية التي أحسوا أن صلة بالنيل وإن لم يستطع واحد منهم أن يشق طريقه في الأنهار الخارجة منها لكي يثبت صحة حدسه - وقد تصور الإدريسي (1154 ميلادية تقريباً) أن هذه البحيرات هي منابع النيجر أيضاً وقد ظلت هذه الفكرة التي تربط بين نهري النيجر ونهر النيل سائدة لمدة طويلة وعندما وصل البرتغاليون إلى خليج السنجال بعد الإدريسي بثلثمائة سنة في سنة 1445 للميلاد ظنوا أن نهر السنغال هو فرع من فروع النيل.
ولابد أن المصريين القدماء عرفوا الكثير عن أثيوبيا فقد كانت لمصر علاقات تجارية كبيرة مع بلاد القرن الإفريقي التي تقع علىالبحر الأحمر ناحية بلاد يونت (بلاد الصومال) - وإبان حكم الدولة الحديثة أسس المصريون القدماء مراكز تجارية على سواحل البحر الأحمر وقد وصلت هذه لمراكز لداخل إثيوبيا إبان الحكم البطلمي. وقد دخلت المسيحية إلى إثيوبيا عن طريق تاجر سكندري هو فرومنتوس في سنة 33 ميلادية وظلت المسيحية رباطاً بين مصر وإثيوبيا حتى بعد دخول الإسلام إلى مصر.
وعلى الرغم من أن أحداً لم يستطع أن يمخر عباب خانقي النيل الأزرق والعطبرة إلى منابعهما إلا في الوقت الحديث فقد عرف المصريون لزمن طويل أن فيضان النهر يأتيهم من إثيوبيا. وكثيراً ما أرسل حكام مصر خلال العصور الوسطى رسائل إلى ملوك أثيوبياللسؤال عن الفيضان عندما يتأخر موعده أو يقل في حجمه. وفي سنة 1106 للميلاد أرسل المستعلي بالله سابع الخلفاء الفاطميين بمصر البطريرك القبطي إلى ملوك أثيوبيا لكي يطلب منه لأا يمنع الفيضان من المجئ إلى مصر.
وقد أدت الرحلات البحرية حول الأرض التي قام بها الملاحون البرتغاليون في القرن الخامس عشر إلى إكتشاف طريق بديل للتجارة مع الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح وكانت هذه التجارة تمر بمصر قبل إكتشاف هذا الطريق الجديد. وقد سبب تحويل مسار تجارة الهند بعيدأً عن مصر خسارة كبيرة لها ولكن هذا التحويل كان بالنسبة للبرتغاليين فرصة للتوسع في أعمال التجارة والإستقرار على الكثير من شواطئ السواحل الإفريقية وإقامة العلاقات معها. وكانت إثيوبيا في ذلك الوقت قد إنعزلت تماماً بعد أن تقلصت علاقاتها مع العالم الخارجي يعد إنسحابها مناليمن في سنة 575 ميلادية, ثم إنعزالها عن الدول المحيطة بها بعد ظهور الإسلام. وفي عام 1490 ميلادية جاءتها بعثة برتغالية بقيادة بدور كوفلهام وأسست معها بعض العلاقة. وقد تبعت هذه البعثة حملة عسكرية طلبها إمبراطور إثيوبيا من البرتغال لصد الهجوم الذي تعرضت له بلاده فيما بين سنة 1528 وسنة 1540 ميلادية من النيل الأزرق خلال زيارته لها بصحبة الإمبراطور في 1618 - ومن المرسلين الآخرين القائد الصومالي أجمد جران. وقد ساعد البرتغاليون الإمبراطور في صد الغزو عن بلاده وبقوا منذ ذلك الوقت في أثيوبيا وأصبحوا قوة مؤثرة في حياتها وكان يسمح لهم بالإقامة والترحال. وفي سنة 1633 ميلادية طرد البرتغاليون من أثيوبيا بأمر من الإمبراطور. ومن البرتغاليون الذين كتبوا عن أثيوبيا في هذه الفترة بدور باييز الذي وصف منابع النيل الأزرق عندما زارها بمصاحبة الإمبراطور في سنة 1618. ومن المرسلين الذين كتبوا وصفاً ممتعاً ودقيقاً لأثيوبيا جرونيمو لويو وعمانوئيل دالميدا. وقد إستفاد من كتابات هذين المرسلين دانفيل عالم الجغرافيا الشهير الذي إستطاع من قراءة مؤلفاتهم أن يرسم خريطة للنيل ألأزرق وأن ينشرها في كتابه الشهير "الجغرافيا" في سنة 1771 بعد 150 عاماً كاملة لزيارة القسيسين المرسلين لأثيوبيا.
وبعد طرد البرتغاليين بقيت أثيوبيا معزولة عن العالم الخارجي, وكان أول من وصلها من الأوربيين الجراح الفرنسي بوسينه Pincet في أوائل القرن الثامن عشر قادماً من القاهرة وفي مدينة جوندار قام بعلاج الإمبراطور الأثيوبي. وفي عام 1768 بدأ بروس الرحالة الإنجليزي رحلته الشهيرة والهامة غلأى أثيوبيا للبحث عن منابع النيل التي كان يعتقد أنها تأتي من النيل الأزرق كلية. وقد بدأ رحلته من القاهرة ومنها إلى القصير على بساحل ابلحر الأحمر ثم ركب البحر إلى جدة ومنها إلى مصوع حيث عبر السهل الساحلي ودخل جبال أثيوبيا ومر بعدوه وأكسوم, ثم إستقر في جوندار العاصمة حيث كان الملك ميخائيل يقيم. وقد إستطاع بروس أن يقيم علاقة صداقة وطيدة مع الملك وأن يزور منابع النيل ألأزرق وأن يتجول حول بحيرة تانا ثم يتجه إلى شلالات تسيسات. وكانت رحلة عودته إلى بلاده في سنة 1773 عن طريق النيل الأزرق الذي كان يعتبره المنبع الأساسي للنيل. وعندما عاد بروس إلى إنجلترا وجد أ، الجغرافي الفرنسي دانفيل قد سبقه ونشر خريطة للنيل الأزرق, كما وجد الجو في وطنه مناوئاً فقد كانت تقاريره التي يرسلها من إثيوبيا والتي كان يصف عادات الأهالي الفظة والغريبة تقابل. ببالتشكيك. وقد سبب ذلك تردده في نشر مؤلفه عن أثيوبيا والنيل ألأزرق واذلي ظهر في النهاية وتحت ضغط بعض أصدقائه في سنة 1790 وبعد سبع عشرة سنة من كتاباته في ثمانية مجلدات بعنوان "رحلات لإكتشاف مصدر النيل في السنوات 1786 - 1773".
وحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يستطع أحد أن يخترق مجرى النيل وراء مستنقعات السد, ليس فقط لصعوبة الملاحة خلال هذا الجزء من النيل ولكن أيضاً لإنتشار الأمراض التي كانت تجعل الحياة للإنسان والحيوان صعبة - ويعود الفضل الأول في التغلغل في هذه المنطقة إلى محمد علي مؤسس مصر الحديثة الذي قام بفتح السودان وإرسال البعثات لدراسة منابع النيل فقد قام محمد علي بحملة عسكرية لفتح السودان بغرض تأمين منابع النيل التي كان الإستعمار الغربي وهو في أوج توسعه يرغب في وضع يده عليها. وقد كان أمر تأمين منابع النيل هاماً لمصر التي كانت قد بدأت في إدخال نظام الري المستديم في التوسع في زراعتها. وبعد أنتم فتح السودان أرسل محمد علي سلسلة من البعثات تحت إشراف سليم قبطان لإستكشاف منابع النيل. وقد غادرت أولى هذه البعثات الخرطوم في سنة 1839 مارة بفم السوباط فبحيرة نو وخلت بحر الجبل حتى وصلت إلى خط عرض 30 6. عند مدينة بور. أما البعثتين الثانية والثالثة فقد تمتا في عامى 1840 و1842 ووصلتا إلى الرجاف عند خط عرض 4 42 ولم تستطع هذه البعثات أن تذهب إلى أبعد من ذلك. ولكنها أنهت تماماً على الفكرة التي كانت سائدة فب ذلك الوقت من أن منابع النيل الأبيض تقع إلى الغرب. وقد كانت هذه الفكرة متأصلة حتى أن معظم خرائط النيل التي صدرت في أوائل القرن التاسع عشر كانت تضع منابع النيل إلى الغرب وكذلك كان حال الخارطة التي صاحبت كتاب بوركهات الشهير "رحلات في بلاد النوبة".الذي صدر في سنة 1813.
وكان من نتيجة هذه البعثات إنشاء عدد من المستوطنات في أعالي النيل فتحت الطريق إلى الهجرة والإستيطان فيها والتبادل التجراي معها, كما ساعدت في فتح الطريق لإستكشاف منطقة بحر الغزال الذي تم عبور نهره الرئيسي وأنهاره الأخرى بواسطة جون بثريك مهندس المناجم وأنسة المجتمع تيني فيما بين سنة 1853 وسنة 1865. وبعد ذلك سنوات قام جروج شوينفورت الرحالة الكبير برحلة عبر بحر الغزال في السنوات 1869 - 1871 صدر عنها كتابه الشهير "قلب أفريقيا" وممن شاركوا في دراسة حوض بحر الغزال جسي باشا الإيطالي الذي عين حاكماً للمنطقة وقت جوردون.
وفي الوقت الذي إنهمك فيه المصريون في إستكشاف منابع النيل وتأمينها كانت عيون القوى الإستعمارية الجديدة قد تفتحت على أراضي أفريقيا العذراء, ففي سنة 1858 حاول المستكشفان البريطانيان سبيك وبرتون الوصول إلى منابع النيل في رحلة بدأها من شرق أفريقيا فوصلا بحيرة تنجانقا ثم عادا وفي منتصف الطريق حالت ظروف برتون الصحية دون الإستمرار في الرحلة التي واصلها سبيك حتى بلدة موانزا التي تقع جنوب بحيرة فكتوريا وقد نشر الأخير مقالا ً بعد عودته إلى إنجلترا في سنة 1859 عن هذه البحيرة التي أسماها بحيرة نيانزا والتي خمن أنها لابد وأن تكون منبع النيل وإن لم يكن قد عرف عنها الشئ الكثير أو رأى مخرجاً لها. وقد حصل سبيك على إثر ذلك على معاونة الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية للعودة إلى شرق أفريقيا لإستكمال إستكشافاته فعاد إليها في عام 1860 مع جرانت. وفي هذه الرحلة زار عاصمة بوجندا التي كانت تقع في شمال بحيرة كبيرة خمن سيبك أنها لابد وأن تكون البحيرة نفسها التي رآها في رحلته الأولى عند موانزا. وقد حام حول هذه البحيرة ليلاً ورأى لها مخرجأً يتجه إلى الشمال عند شلالات ريبون فخمن مرة أخرى أن النهر الخارج منها لابد وأن يكون منبع النيل على الرغم من أنه لم يستطع أن يخوض هذا النهر أو يركبه ليعرف أين يصب بسبب الحروب الأهلية التي كانت سائدة في المنطقة وقتئذ, إلا أنه إستطاع أن يسلك طريق البر وأن يتجه إلى الشمال فوصل إلى بلدة غوندوكورو التي تقع على بحر الجبل وفيها إلتقى بصمويل بيكر الرحالة الإنجليزي الذي كان يعسكر فيها وكان ذلك في سنة 1863. وقد نشر سبيك فور فور عودته مقالاً يعلن فيه إكتشافه لمنابع النيل وهو المقال الذي أثار ثائرة برتون وإعتبره تخميناً في تخمين. فلم يكن سبيك قد أبحر في البحيرة التي أدعة أن النيل ينبع منها أو تتبع مخارجها. وقد إمتد الخلاف بين الرجلين إلى الدوائر العلمية وإلى صحافة ذلك الزمان التي إنقسمت بين مؤيد ومعارض لأقوال سبيك حتى إستقر الأمر بترتيب عقد إجتماع في الجمعية البريطانية لتقدم العلوم لمناقشة هذا الموضوع. وقد وعد كلا ًمن سيبك وبرتون بحضور هذا الإجتماع الذي كان سيحضرة أيضاً كبار علماء الجغرافيا والعلماء عامة للحكم فيه.وكان ذلك في سبتمبر سنة 1864. ولكن سيبك لم يحضر الإجتماع وقد عثر عليه بعد ذلك منتحراً.
وفي الوقت نفسه كان صمويل بيكر قد عسكر في غوندوكورو وشق طريقه منها إلى بحرة ألبرت في عام 1864 فكان أول من رآها من الأوروبيين. وكان صمويل بيكر صياداً ماهراً وقد كتب الكثير عن رحلاته في السودان وأفريقيا والتي كان قد قام بها من قبل وخاصة في أدغال أثيوبيا وقد قام الخديوي إسماعسل بتعيينه في سنة 1869 حاكماً على أفريقيا الإستوائية التي كانت مصر قد فتحتها, ففتح أراض جديدة في المنطقة الإستوائية 1869 حاكماً على أفريقيا الإستوائية التي كانت مصر قد فتحتها, ففتح أراض جديدة في المنطقة الإستوئية وضمها لمصر.
وخلال سبعينات القرن التاسع عشر بلغ إهتمام مصر بإستشكاف منابع النيل فقد ارسلت مصر عدداً كبيراً من الخبراء من مختلف الجنسيات إلى الأرجاء التي فتحتها في مناطق السدود وبحر الغزال. وشقت الحكومة المصرية بقيادة إسماعيل أيوب ممراً ملاحياً وسط منطقة السد وفي عام 1874 عين الجنرال جوردون حاكماً عاماً على المنطقة الإستوائية خلفاً لصموئيل بيكر فشجع على إستكشافها وأرسل في عامي 1874/1875 المهندسين البريطانيين واطسن وشبندال لإستكشاف مجرى النهر حتى بحيرة ألبرت وفي عام 1876 إستطاع الإيطالي جسي الذي عين فيما بعد مديرا لمديرية بحر الغزال أن يبحر في بحيرة ألبرت وأن يحدد مساحتها التي كان صموئيل بيكر قد بالغ في تقديرها. وفي عام 1874 قام شابي لونج الأمريكي الجنسية والذي كان واحداً ممن إستعن بهم الخديوي إسملعيل لإعادة تنظيم الجيش المصري ُم أصبح مساعداً لجوردون بتتيع مخرج لانيل من بحيرة فكتوري وحتى بحيرة كيوجا (التي أسماها بحيرة إبراهيم) ومنها إلى بحيرة ألبرت وبهذه الرحلة تم إستكشاف منابع النيل ومجراه الرئيسي في الهضبة الإستوائية وقد قام ستانلي بالدوران حول بحيرة فكتوريا في عام 1875 وإستشكاف بحيرة إدوارد في عام 1888.
كمية المياه التي يحملها النيل
بدأت الدراسة المنتظمة لهيدرولوجية نهر النيل في أعقاب إكتشاف منابع النيل وفتحها للزيارة والإقامة مما أتاح إمكان تاسيس نقط لماقبة النهر في جميع أجزائه وفي معظم روافده وقد أنشئت منذ ذلك التاريخ حوالي 300 نقطة مراقبة في مصر والسودان وأوغندة ترصد فيها أحوال النهر كل يوم. وقد أنشئت معظم نقط المراقبة هذه في أوائل القرن العشرين وأضيفت إليها بعض النقط في منطقة النوبة في أعقاب بناء السد العالي بأسوان. وبكل نقطة مراقبة عمود مدرج من الرخام مثبت على جانب النهر تقرأ عليه كل يوم مناسيب النهر وترسل هذه القراءات إلى الإدرات المركزية في الحكومات المعنية. وفي مصر تذهب هذه القراءات إلى هيئة ضبط النيل بوزارة الأشغال حيث تحتفظ وتدرس وتبوب في جداول ينشر منها متسوط تصرف مختلف نقط الرصد لكل عشرة أيام على مدار السنة في ملاحق خاصة لموسوعة حوش النيل اليت تصدرها وزارة الأشغال المصرية منذ أوائل القرن العشرين.
وبالإضافة إلى عملية رصد المناسيب فإن النهر يرصد ايضاً بغرض حساب كمية المياه التي يحملها في كل يوم وهو ما يسمى بتصرفه. وقد أصبح حساب هذه الكمية على درجة كبيرة من الأهمية بعد بناء القناطر والسدود وغير ذلك من أعمال الري الكبرى فقد أصبحت لكمية المياه التي يحملها النهر أهمية في ضبط هذه السدود وتنظيمها - وقبل بناء هذه المنشآت كان تسجيل منسوب النهر وإرتفاعه هو العمل الأساسي للهيئة المسئولة عن النيل فقبل أن يدخل مصر نظام الري المستديم كان الناس يرقبون إرتفاع النيل التدريجي حتى يركب الأراضي ويغمرها لكي يبدءوا سنتهم الزراعية. ويعبر عن تصرف النهر بعدد الأمتار المكعبة التي تمر في أي نقطة فيه في الثانية الواحدة (المتر المكعب يساوي قرابة الطن) وتصرف النهر عند أي نقطة فيه هو حاصل ضرب متوسط سرعة النهر عند هذه النقطة (والتي عادة ما تكون متوسط قياسات عدة نقاط عبر مقطع النهر عند هذه النقطة) في مساحة النهر عند هذا المقطع - وتقدر السرعة بعدد اللفات التي تدورها ريش الكرونومتر والتي تتناسب وسرعة النهر. ولا يحتاج الأمر إلى قياس تصرف النهر كل يوم فمن الممكن حساب التصرف من منسوب النهر فهما يتناسبان طردياً. فيزيد التصرف كلما إرتفع المنسوب ويقل كلما إنخفض. ولكل نقطة من نقط النهر المختلفة منحنى ثابت يوضح العلاقة بين المنسوب والتصرف كثيراً ما يستخدم في معرفة تصرف النهر.
وقد زود خزان أسوان القديم عند بنائه في أوائل القرن العشرين بأحواض يقاس منها التصرف مباشرة ودون الحاجة لقياس سرعة النهر أو إستخدام منحنى العلاقة بين المنسوب والتصرف, فقد بنيت أمام الخزان لهذا الغرض أحواض معروفة الحجم يقاس الزمن اللازم لملئها عندما تفتح بوابات الخزان وبهذه الطريقة يمكن معرفة كمية المياه التي تمر من الخزان في أي وحدة زمنية مباشرة بدرجة كبيرة من الدقة.
وقد تقدمت معرفتنا عن هيدرولوجية ومناخ (ميتورولوجية) منطقة البحيرات الإستوائية تقدماً كبيراً خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات للقرن العشرين نتيجة الدراسات التي قام بها مشروع "الهيدرومت" الذي بدئ التفكير في في أعقاب الإرتفاع الكبير والمفاجئ الذي حدث في مناسيب بحيرات هذه المنطقة في أوائل الستينيات من القرن العشرين مما أزعج حكومات دول المنطقة ودفع خمس دول منها هي مصر والسودان وأوغندة وكينيا وتنزانيا في سنة 1967 لدعوة منظمتين من منظمات الأمم المتحدة هما البرنامج الإنمائي (UNDP)والأرصاد الجوية (WMO) للقيام بمسح هيدروميتورولوجي لمنطقة البحيرات الإستوائية وعلى الأخص بحيرات فكتوريا وكيوجا وفي عام 1972 إنضمت إلى الإتفاقية كلا من رواندا فإمتد المشروع لكي يشمل حوض نهر الكاجيرا وغيره من الأنهار التي تصب في بحيرة فكتوريا - وفي أواخر عام 1971 إنضمت أثيوبيا للإتفاقية كعضو مراقب.
وفي خلال المرحلة الأولى من الإتفاقية (1976 - 1972) تم إنشاء نقط مراقبة كثيرة لرصد البيانات المناخية عن 36 حوض تصريف توجد في هذه المنطقة وفي خلال المرحلة الثانية إنضمت زائير للمشروع في سنة 1974 لدراسة نهر السمليكي الذي يصل بين بحيرتي إدروارد وألبرت.وقد أدت دراسات هذه المرحلة والتي إستمرت حتى عام 1981 إلى بناء نموذج رياضي لهيدرولوجية أنهار وبحيرات هذه المنطقة لإمكان تخطيط أفضل لمستقبل إستخدام مصادر مياهها وقد نشرت نتائج هذه الأبحاث في عدة مجلدات.
وتأتي مياه النيل من مصدرين: هضبة البحيرات الإستوائية ذات الأمطار المستمرة على مدار العام والمرتفعات الأثيوبية ذات الأمطار الصيفية.مما هو جدير بالذكر أن نسبة كمية المياه التي تأتي إلى مصر من هضبة البحيرات ومن المرتفعات الأثيوبية قد تغيرت قبل وبعد الإرتفاع الكبير في مناسيب البحيرات الإستوائية الذي حدث في أوائل عقد الستينيات في القرن العشرين. فقد زادت نتيجة هذا الإرتفاع كمية المياه التي تأتي إلى مصر من الهضبة الإستوائية في الوقت الذي قلت فيه كمية المياه التي تأتي من المرتفعات الأثيوبية.
تبين أرقام التصرف للأعوام 1912 - 1982 أن المياه تخرج من بحيرة فكتوريا بمتوسط 27.2 بليون متر مكعب في السنة وأنها تصل إلى بحيرة إلبرت دون زيادة تذكر إذ يكاد النهر يفقد في خلال مساره بين البحيرتين كل ما يكسبه من مياه - ويخرج النهر من مياه بحيرة ألبرت بمتوسط تصرف يبلغ 31.4 بليون متر مكعب في السنة بعد أن تكون قد وصلته مياه بحيرة ألبرت وما يتبعها من بحيرات. ويزيد إيراد النهر بعد خروجه من البحيرة حتى منطقة السد حيث تفيض مياهه فوق جوانبه وتتبدد حوالي نصفها عن طريق البخر ونتج النبات الكثيف الذي يغطيها وعندما يخرج النهر من هذه المنطقة تصله مياه نهر السوباط عند الملكال والتي يبلغ متوسطها 13.5 بليون متر مكعب في السنة وبذا تبلغ جملة تصرف النهر عندما يترك الملكال 29.6 بليون متر مكعب وتصل هذه الكمية إلى الخرطوم ناقصة حوالي 3.5 بليون متر مكعب تضيع عن طريق البخر والتسرب وأكثر من نصف هذه الكمية الضائعة تتسرب من مسطح خزان جبل الأولياء. وعندما يصل النهر إلى الخرطوم تصله مياه النيل الأزرق الذي يبلغ متوسط تصرفه 50.1 بليون متر مكعب في السنة فتزيد الكمية التي يحملها النهر إلى 75.8 بليون متر مكعب في السنة.
وتزيد المياه بعد ذلك بحوالي 40.6 بليون مكعب هي متوسط تصريف نهر العطبرة وبعد العطبرة يقطع النهر هضبة النوبة حيث يفقد 2.2 بليون متر مكعب عن طريق البخر لكي يصل إلى أسوان بتصرف قدره 84.2 بليون متر مكعب - وتقطع المياه المافة من الملكال إلى أسوان ف يحوالي 24 يوماً في شهر سبتمبر, وفي حوالي 39 يوماً في شهر مايو, كما تقطع المياه المسافة من الخرطوم إلى أسوان في تسعة أيام شهر سبتمبر وفي واحد وعشرين يوماً خلال شهر مايو.
وسنناقش في السطور التالي كمية المياه التي تمر في النهر في بعض النقاط الرئيسية على طول مجراه من منبعه وحتى أسوان .
جنجا (مخرج بحيرة فيكتوريا)
تبدأ هضبة البحيرات الإستوائية عند بحيرة فكتوريا التي تعتبر ثاني أكبر بحيرات المياه العذبة في العالم من حيث المساحة بعد بحيرة سوبيريور بشمال أمريكا, إذ تبلغ مساحتها 67.620 كيلومتر مربع.
ويأتي حوالي ثلث مياه البحيرة من حوض نهر كاجيرا الذي يقع إلى الجنوب الغربي من البحيرة, والذي تبلغ مساحته حوالي 60.000 كيلو متر مربع. وتقع منابع هذا الحوض في جبال موفومبيرو البركانية الشاهقة اليت تكون جزئاً من الهضبة التي تقع عليها دولتي رواندا وبورندي. ويأتي الثلثان الباقيان لمياه البحيرة من منطقة غابات سفوح الجبال التي تقع إلى الشمال الشرقي من البحيرة, ومن السهول شبه القاحلة بمنطقة سرنجيتي إلى الجنوب الشرقي, ومن مستنقعات أوغنده في الشمال الغربي. والتي تصل مجموع مساحاتها إلى حوال 130.000 كيلو متر مربع وتمتد عبر دول أوغندا وكينيا وتنزانيا. ومن أهم أنهار هذه الأحواض نهر نزيا الذي يصب في شمال شرق البحيرة والأنهار التي تأتي من سهل سرنجيتي إلى الشرق ونهر كاتونجا الذي يصب في شمال غرب البحيرة. وقد زاد تصرف نهر كاجيرا الذي يقاس في كاياكا عند مصب التهر في البحيرة من متوسط يبلغ 5.5 بليون متر مكعب في السنة في السنوات 1957 - 1961 إلى أكثر من 8.8 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1962 - 1971.
وتقدر كمية المياه التي تصل البحيرة من جميع الأنهار التي تصب فيها بحوالي 18.5 بليون متر مكعب في السنة كما تقدر كمية المياه التي تتساقط عليها من الأمطار بحوالي 113 بليون متر مكعب في السنة. وتفقد معظم هذه المياه عن طريق البخر إلا أن جزءاً منها يخرج من البحيرة عن طريق نيل فكتوريا إلى الشمال لكي يبدأ رحلته مع النيل. وقد زاد تصرف هذا النهر الذي يقاس في لبدة جنجا عند مخرج البحيرة, من 23 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1896 - 1961 إلى 41.4 بليون متر مكعب في السنة والفترة 1962 - 1965. وإلى متوسط 33.3 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1962 - 1982. وقد حدثت هذه الزيارة فجأة في أوائل الستينيات حينما إرتفع منسوب البحيرة 2.2 متر في الفترة بين 1961 و 1964. وقد سبب هذا الإرتفاع المفاجئ لمياه البحيرة غرق الأراضي المنخفضة التي تحيط بها وخاصة عند خليج كافيروندو وميناء كيسومو في كينيا.
ومن الصعب تفسير الأسباب التي أدت إلى هذا الإرتفاع المفاجئ الذي لم تكن تنبئ عنه ميزانية البحيرة وما عرف من قياسات لكمية المياه التي دخلتها والتي خرجت منها. وقد أدى ذلك إلى البحث عن سبب يبرر هذا الإرتفاع. وقد عزاه بعض المؤلفين إلى تعرض البحيرة إلى زلزال كبير أثر على خزان المياه الأرضية تحت البحيرة على إمتدادته مما تسبب في تقلب منسوب سطح البحيرة وإرتفاعه. كما عزا البعض هذا الإرتفاع المفاجئ إلى تلاعب المسئولين المصريين الذين يتحكمون في كمية المياه الخارجة من خزان أوين المقام عند مخرج البحيرة. وقد نفى المسئولين المصريين الهيدرومت هذا الزعم في تقريرهم ببيان أن تصرف الخزان لايمكن أن يكون قد تسبب في رفع سطح البحيرة لأكثر من ثلاثة سنتيمترات في الفترة بين سنة 1957 وسنة 1980.
ويعتقد معظم المؤلفين أن إرتفاع منسوب البحيرة قد سببته الأمطار التي تزايدت على المنطقة بشكل مفاجئ في أوائل الستينات, وإن كان باحثو مشروع الهيدرومت لم يجدوا في البيانات المناخية التي جمعوها ما يؤيد هذا بنسبة 25 إلى 30% عن معدلها في المدى الطويل وهو مالم تثبته البيانات المناخية التي جمعوها خلال المشروع ويعتقد الكثيرون ومن بينهم موظفي مشروع الهيدروميت نفسه بأن بيانات الرصد ينبغي أن تكون لمدة أطول حتى تتأكد صحتها الإحصائية.
وقد أعاد بعض البحاث النظر في بيانات تصرف الأنهار وطريقة حساب معدل سقوط الأمطار من المقاييس المنتشرة حول البحيرة, وإستنتجوا أن إرتفاع البحيرة يمكن أن تسببه أمطارثلاث سنوات متتالية بمعدلات عالية. وهذا هو ما حدث بالضبط في أوائل الستينيات فقد زاد معدل سقوط المطار فوق البحيرة من 1611 ملليمتراً في اسلنة فيما قبل سنة 1961 (1950 - 1961) إلى متوسط 1938 ملليمترات للسنوات الثلاث 1962 - 1964.
وقد تأرجحت كمية الأمطار التي تساقطت على البيحرة بعد هذه السنوات بين عام وآخر فبلغت 1355 ملليمتراً في سنة 1980 و2086 ملليمتراً في سنة 1977.
بارا (مخرج بحيرة كيوجا)
يدخل نيل فكتوريا إلى بحيرة كيوجا المتشعبة ثم يخرج منها إلى بحيرة ألبرت عبر شلالات كاباريجا (مرشيزون). وقبل عام 1961 كان متوسط ما يخرج من البحيرة (الذي كان يقاس عند بلدة بارا) أقل مما كان يدخلفيها - فقد بلغ مجموع ماتفقده البحيرة عن طريق البخر والنتح حوالي أربعة ملايين متر مكعب في السنة في القوت الذي لم يزد ما كان يصلها من الأمطار والأنهار الجانبية على ثلاثة بلايين متر مكعب - وهذه الأرقام مستقاه من تقرير هرست وبلاك وسميكة المنشور في سنة 1946 وهي للسنوات منسنة 1912 إلى سنة سنة 1944, وتشير أرقام مشروع الهيدرومت إلى أ، ما وصل البحيرة في السنوات التي تلت سنة 1962 كان أكثر مما فقدته عن طريق البخر والنتح. وقد زاد التصرف عند مخرج البحيرة زيادة كبيرة منذ هذا العام فقد بلغ متوسطه 42.9 بليون متر مكعب للسنوات 1962 - 1965 (بدلاً من 22 بليون متر مكعب للسنوات السابقة). وخلال هذه السنوات الأربع إرتفع منسوب البحيرة وزادت كمية المياه الواصلة إليها من الأنهار الجانبية إلى 2.9 بيلون مكعب في السنة كما زادت كمية الأمطار إلى 5.5 بليون متر مكعب في السنة في القوت الذي زاد فيه البخر والنتح إلى 6.9 بليون مترمكعب في السنة. وبذا يكون إجمالي ما يكتتبه حوض البحيرة للسنوات من سنة 1962 حوالي 34.7 بليون متر مكعب في السنة. في حين كان التصرف للفترة 1912 - 1982, 26.4 بليون متر مكعب فقط.
بانيانجو (مخرج بحيرة ألبرت)
تصل إلى بحيرة ألبرت المياه الخارجة من بحيرة كيوجا وكذلك المياه الخارجة من بحيرتي إدوارد وجورج التي تصل البحيرة في القوت الحاضر عن طريق نهر سميلكي. وقد زاد كمية المياه الواصلة من هذه البحيرات الأخيرة زيادة كبيرة ومفاجئة منذ سنة 1961. فقد بلغ متوسطها حوالي 5.9 بليون متر مكعب في السنة في الفترة بين 1962 إلى 1970 في حين كان متوسطها 3.8 بليون متر مكعب في السنة في الفرتة 1956 - 1960 (تصريف عام 1961 غير معروف لي).
وتقاس كمية المياه التي تخرج من بحيرة ألبرت عند بكواش وبانياجو. وقد زادت هذه الكمية أيضاً زيادة كبيرة ومفاجئة في سنة 1962. فقد بلغ متوسطها في السنوات 1962 إلى 1965 حوالي 45.7 بليون متر مكعب بعد أن كان متوسط التصرف حوالي 18.7 بليون متر مكعب في السنة للفترة 1957 - 1961 - وقد إرتفع منسوب البحيرة في هذه الفترة بحوالي 3.5 متر بين سنة 1961 وسنة 1964. ومنذ عام 1904 حين بدأ قياس تصرف المياه عند مخرج البحيرة في بكواش وحتى سنة 1944 بلغ تصرف النهر 24.7 بليون متر مكعب في السنة. وحين نقل قياس التصرف إلى بانيانجو إزداد التصرف إلى 37.6 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1962 إلى 1982. كما إزداد متوسط تصرف الأنهار الجانبية إلى البحيرة في هذه الفترة إلى حوالي 7.3 بليون مت رمكعب في السنة, ومتوسط الأمطار حوالي 3.8 بليون متر مكعب في السنة, وبلغ متوسط الفاقد عن طريق البخر والنتح حوالي 8.2 بليون متر مكعب في السنة, وبذا يكون صافي ما يكتتبه حوض البحيرة لمياه النيل هو حوالي 2.8 بليون متر مكعب في السنة.
منجلا
تصل النهر في المسافة بين مخرج بحيرة ألبرت ومنجلا التي تقع في مبدأ منطقة السد عدة روافد تزيد من كمية المياه التي يحملها خلال موسم الأمطار. وفي منتصف المسافة بين حيث مدينة نيمولي التي تقع على الحدود السودانية - الأوغندية يصل رافد الأسوأ الذي بلغ متوسط تصرفه 1.6 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1923 - 1965 عندما كانت القايسات تؤخذ بإنتظام, وهناك روافد صغيرة كثيرة أخرى تصل إلى النهر في هذه المنطقة أكبرها نهري كايا وكيت. وهذان النهران من الأنهار الصغيرة تضيف إلى مياه النهر في هذه المنطقة حوالي 1.5 بليون متر مكعب في السنة. وينبغي أن نبين هنا أن كل أرقام التصريف المعطاة هنا تقريبية لعدم إنتظام القياسات في هذه المنطقة.
وتقدر متوسط كميةالمياه التيتكتتبها كل هذه ال،هار بحوالي 4.3 بليون متر مكعب في السنة فإذا أضيفت هذه الكمية إلى كمية المياه التي تخرج من بحيرة ألبرت فإن تصريف النهر عند منجلا ينبغي أن يصل إلى 51.9 بليون متر مكعب في السنة على أن الحقيقة هي أن متوسط تصرف النهر عند هذه المدينة هو 45.7 بليون متر مكعب في السنة فقط مما يعني أن النهر يفقد حوالي 6.2 بليون متر مكعب كل سنة في هذه المنطقة وحدها. ومرة أخرى فقد إرتفع تصرف النهر عند منجلا إرتفاعاً كبيراً بعد عام 1961 حتى وصل متوسطه إلى 56.8 بليون مت رمكعب في السنة من السنوات 1962 حتى 1970 بدلاً من 26.50 بليون متر مكعب عن السنوات 1957 - 1961. ويبلغ متوسط تصرف النهر عن المدة كلها فيما بين سنة 1912 حتى سنة 1982 حوالي 33.2 بليون متر مكعب.
الملكال
تمثل قياسات التصرف في هذه المحطة صافي كميةالمياه التي تجئ من هضبة البحيرات بعد أن تمر في منطقة السد وكذلك مايصل النهر من نهر السوباط وبحر الغزال.
وفي منطقة السد التي تمتد لمسافة 700 كيلومتر من منجلا حتى المالكال يمر النيل في منطقة منبسطة يفيض فيها على جوانبه ولا يكون له فيها مجرى محدد وتنتشر المستنقعات في هذه المنطقة وتمتلئ بنبات البردي والحشائش العالية والكثيفة ذات الجذور الممتدة تحت الماء والتي يصل إرتفاعها إلى أكثر من أربعة أمتار. وإلى الشمال من بور على الناحية الشرقية من النهر تتحدد مجاري بعض الأنهار الصغيرة نتيجة صرف مياه بعض المستنقعات, ومن أهم هذه الأنهار نهر آتم الذي تقع عليه مدينة جونجلي ونهر الأواي وبحر الزراف الذي يقع إلى الغرب من مستنقعات أواي ويتعرج في مجراه لمسافة 280 كيلومتراً حتى يصل إلى مصبه على بعد حوالي 80 كيلومتراً إلى الشرق من بحيرة نو التي تتلقى مياه بحر الغزال. وعند هذه النقطة يغير النهر إتجاه مجراه بغتة فيندفع إلى اشلرق لمسافة قصيرة يعود بعدها إلى الإتجاه إلى الشمال حي ثتختفي المستنقعات ويبدأ النيل الأبيض.
ويكتتب بحر الغزال أقل القليل من المياه لنهر النيل هذا على الرغم من إتساع حوضه الذي يشكل ما يقرب من 20% من جملة مساحة حوض النهر. ويمتد بحر الغزال لحوالي 160 كيلومتراً من مشري الرق إلى بحيرة نو ويصله تصرف الحوض والذي يقدر ما يسقط عليه من أمطار بما يزيد على 500 بيلون متر مكعب.وعلى الرغم من ضخامة هذا التصرف فإن ما لايزيد على 600 مليون متر مكعب من المياه هو كل ما يصل مخرج هذا الحوض عند بحيرة نو وهي كمية تمثل 1000:1 من كمية المايه التي تصله ويعود ذلك إلى وجود بسطات كبيرة من المستنقعات, وإلى عدم وجود مجار محددة للكثير من الأنهار التي كثيراً ما تغير مجرايها في مختلف المواسم. والكثير من مياه حوض بحر الغزال تأـي من أنهار تنبع من خط تقسيم المياه بين الكونجو والنيل وهي من الغرب إلى الشرق: بحر العرب ولول وجور وإبا (أو تونج) وجبل (أوميريدي) والنعام وياي (أو لاو).
ونهر جور هو الوحيد من هذه الأنهار الذي يصل إلى بحر الغزال في مجرى محدد, ولذلك فإن تصريفه الذي يصل إلى حوالي 190 مليونمتر مكعب في العام مقاسه عند مدينة واو يعتبر عالياً بالنسبة للأنهار الأخرى - ويلي هذا النهر من حيث حجم المياه المحمولة نهر لول الذي يكتتب حوالي 157 مليون متر مكعب في السنة, ثم نهر ياي الذي يصل تصرفه إلى حوالي 126 مليون متر مكعب في السنة وجميع هذه الأرقام هي متوسط الأعوام قبل سنة 1936 عندما كانت القياسات تؤخذ بغنتظام. وقد توقفت القياسات وأصبحت غير منتظمة بعد هذا العام.
وقد أعيد القياس المنتظم في نقطة واو خلال الفترة بين سنة 1942 وسنة 1972 ويتبين من قياسات هذه الفترة أن متوسط تصرف نهر الجور قد زاد إلى حوالي 500 مليون متر مكعب في السنة, كما زاد تصرف نهر لول (الذي كان يقاس في بلدة نيامبل) إلى 400 مليون متر مكعب في السنة (1944 - 1974). كما زاد أيضاً تصرف نهر ياي (الذي كان يقاس عند نقطة موندري) إلى 200 مليون متر مكعب في السنة (1944 - 1960). ولذلك فإنه يمكن القول أن المياه التي تصل إلى بحر الغزال قد تضاعفت في منتصف سنوات القرن العشرين.
ويتكون نهر السوباط الذي يصب في النيل الأبيض إلى الجنوب من الملكال نم فرعي بارو وبيبور وينبع نهر بارو من المرتفعات الأثيوبية وهو يجري من الشرق إلى الغرب. أما نهر بيبور فإنه ينبع أساساً من هضبة البحيرات ويجري نممم الجنوب إلى الشمال, ولهذا النهر روافد كثيرة تأتيه أيضاً بالمياه من المرتفعات الأثيوبية. وتتميز هذه الروافد الأثيوبية مثلها مثل البارو أنها موسمية تفيض بالمياه وقت الفيضان وتنكمش إلى أقل القليل أو حتى الجفاف خلال موسم الجفاف.
وتنبع روافد السوباط من الجبال العالية وعندما تصل إلى سهل النيل المنبسط قرب مصباتها فإنها تفيض على جوانبها وتكون مستنقعات كبيرة يضيع فيها الكثير من الماء من البخر ونتح النبات. وفي هذا لا يختلف السوباط عن بحر الغزال إلا في كون مستنقعاته أصغر مساحة ولو أنها كثيراً ما تصبح واسعة عندما تزيد الأمطار كما حدث في عام 1917 وفي الأعوام الأولى من الستينيات فقد كبرت مساحة المستنقعات حتى أغرقت السهل الواسع الذي يمتد من جبال إثيوبيا حتى بحر الجبل - ويختلف نهر السوباط عن بحر الغزال في أن مجراه محدد لا يسمح بضياع جزء كبير من مياهه في خضم المستنقعات.
ويكتتب نهر البارو ثلاثة أرباع المياه التي تأتي من السوباط على الرغم من أن مساحة حوضه محددة لا تتجاوز 41.000 كيلومتراً مربعأً أي حوالي 22% من جملة مساحة الحوض ويبلغ متوسط تصرفه عند نقطة إلتقائه بنهر البيبور 7.8 بليون متر مكعب في السنة. ويمثل هذا التصرف صافي كمية المياه التي تصل إلى هذه النقطة بعد أن يفقد النهر منذ أن يدخل سهل السودان وحتى هذه النقطة ما يصل متوسطه إلى 3.9 بليون مت رمكعب في السنة - وفي الحقيقة فغن مجرى النهر في هذا السهل منبسط للدرجة التي تجعله يفيض على جنباته ويبدد مياهه في مستنقعات كثيرة أهمها المارشار, وفي أخوار عديدة أهمها خور الأدورا الذي كثيراً ما تعود المياه منه إلى نهر البارو مرة أخرى بعد أن يتلقى الخور مياه روافده الجنوبية.
ويحدث معظم الفاقد في المسافة بين خور جاكاو وخو ماشار. ويصل الخور الأخير فائض مياه البارو بمستنقعات الماار التي تتراوح مساحتا بين 6.500, 20.000 كيلومتر مربع تبعاً لكمية المطر المتساقطة على المنطقة وكمية المياه التي تصلها من الأخوار ومن نهر البارو ويبلغ متوسط ما يصل المستنقعات من أخوار الشرق ومن خور ماشار نفسه حوالي 2.6 بليون متر مكعب في السنة, كما يصلها من نهر البارو نفسه حوالي 3.9 بليون متر مكعب في السنة.
وتتبع أهم روافد نهر البيبور الذي يجري من الجنوب إلى الشمال من المرتفعات الأثيوبية وأهم هذه الروافد هو نهر الجيلا, ويكتتب البيبور أقل من ربع تصرف نره السوباط على أن لهذا الإكتتاب أهمية خاصة لأن معظمه يصل خلال شهري نوفمبر وديسمبر بعدما يكون تصريف الروافد الأخرى قد قل - ولهذا فإن السوباط يكتتب حوالي 61% من مياه النيل الأبيض عند الملكال في شهور أكتوبر إلى ديسمبر.
ويتأرجح تصرف نهر السوباط عند الملكال حول 13.5 بليون متر مكعب في السنة ويعود ثبات تصرفه عبر السنين إلى عدم قدرة مجرى النهر على حمل المياه بعد أن تصل إلى حجم معين فيفيض على جنباته أ، زادت عليها, وجاء أعلى تصرف للنهر في سنتي 1917 و 1918 عندما وصل إلى حوالي 20 بليون متر مكعب, أما في الستينيات فقد زاد إلى حوالي 15 بليون مت رمكعب. وفي كل هذه السنواتت جاءت الزيادة من نهر البيبور الذي ياتي جزء من مياهه من هضبة البحيرات, وفي شهور الخريف على وجه الخصوص عندما يقل تصرف الفروع الأخرى للنهر. وجاء أقل تصرف للنهر في السنوات 1913, 1940, 1982 عندما وصل فيها إلى 9.5 و 9.1 و 8.1 بليون متر مكعب على التوالي.
وقد زاد تصرف النيل الأبيض عند الملكال من متوسط 29.6 بليون متر مكعب في السنة للفترة بين سنة 1914 وسنة 1982 إلى متوسط 35.4 بليون متر مكعب في السنة للفترة 1962 - 1982.
وبتسجيل كمية المياه التي وصلت إلى منجلا (مدخل منطقة السد) وبحيرة نو (مخرج منطقة السد) وحلة دوليب (مخرج السوباط) والملكال. يتبين أن جملة ما خرج من مياه من منطقة السد لا يزيد على 49% من جملة ما دخل إليها. أما الباقي فقد فقد بالبخر ونتح النبات الكثيف بداخل المنطقة ذاتها. وفي فترة الستينيات التي زاد فيها تصرف هضبة البحيرات زاد الفاقد في منطقة السد إلى حوالي 60% من جملة المياه الداخلة إليها. ولذلك فإنه على الرغم من الزيادة الهائلة في كمية المياه التي وصلت المنطقة من هضبة البحيرات خلال فترة الستينيات فإن المياه التي خرجت منها لم تزد على معدلاتها السابقة إلا زيادة طفيفة. وقد زادت المياه التي دخلت منطقة السد في هذه الفترة بمتوسط قدره 19 بليون متر مكعب في السنة إلا أن الزيادة فيما خرج منها كانت حوالي ربع هذه الكمية (4.8 بليون متر مكعب في السنة) وهذا مما يؤكد أن منطقة السد هي في واقع الأمر سد منيع يمنع ويحدد كمية مياه هضبة البحيرات اليت يمكن أن تتدفق إلى نهر النيل.
وقد أمكن معرفة الشئ الكثير عن ميزانية مياه منطقة السد من دراسات منظمة الفاو (هيئة الزراعة والأغذية) (1982) واللجنة الدولية التي شكلت لدراسة مشروع جونجلي (1946 - 1954). ولدينا الآن قياسات يمكن الإعتماد عليها عن كمية المياه التي تدخل إليها وتلك التي تخرج منها وكذلك عن معدلات سقوط الأمطار وكمية البخر - ويتضح من هذه البيانات أن منطقة السد وصلتها كمية ضخمة من اليماه بعد سنة 1961, وهي السنة التي بدأ فيها إرتفاع منسوب البحيرات افستوائية فإتسعت إتساعاً كبيراً, وزادت مساحتها من 8000 كيلومتر مربع قبل سنة 1961 إلى 30.000 كيلومتر مربع سنة 1964, ثم تأرجحت بين 20.000, و30.000 كيلومتر مربع منذ ذلك التاريخ, وقد أوضحت دراسة الصور الجوية وصور الفضاء صحة هذه التقديرات.
المغرن
تأتي المياه التي تقع عند نهاية النيل الأبيض من الملكال بعد رحلة يبلغ طولها 800 كيلومتر يفقد فيه النهر مياهه عن طريق البخر والتسرب, وكذلك عن طريق عمليات الضخ التي يقوم بها المزارعون على جانبي النيل الأبيضولايصل النيل الأبيض في رحلته من الملكال إلى الغرن أي رافد له أهمية تذكر, فالنيل في هذا الإمتداد كسول يمر في سهل مسطح قليل الأمطار تحيطه مستنقعات قليلة. والفاقد بالبخر كبير نسبياً. وقد تعاظم الفاقد بالبخر بعد بناء خزان جبل الأولياء إلى الجنوب من الخرطوم في نسة 1937 واذلي بني ليضمن لمصر المياه اللازم لزراعتها في المسوم الذي يسبق الفيضان وووصل مياه النيل الأزرق. وما زال الخزان قائماً وإن كانت فائدته لمصر قد أصبحت معدومة بعد بناء السد اعالي. وعلى الرغم من أن إرتفاع خزان جبل الأولياء محدود إلا أن أثره يمتد إلى ما يزيد على 600 كيلومتر إلى الجنوب وحتى بلدة ملوت, ذلك لأن الإنحدار البسيط للنيل الأبيض يجعل تاثير رفع منسوب الماء خلف الخزان ملموساً لمسافات طويلة. وقبل إنشاء الخزان كانت مياه النيل الأزرق تجئ في موجة عارمة وقت الفيضان فتوقف تدفق مياه النيل الأبيض وترفعها إلى نفس إرتفاعها اليوم بعد بناء الخزان.
وقد زاد تصرف النيل عند المغرن زيادة كبيرة بعد عام 1961, فقد أصبح متوسطه حوالي 33.9 بليون متر مكعب في السنة في الفترة 1962 - 1985 بعد أ، كان 25.6 بليون متر مكعب في الفترة 1912 - 1961 (ويبلغ المتوسط طويل المدى 28.3 بليون متر مكعب في الفترة كلها). وتبلغ كمية الفاقد فيما بين الملكال والمغرن حوالي 309 بليون متر مكعب في السنة يضيع منها بين 2 و 2.5 بليون متر مكعب في السنة من خزان جبل الأولياء وحده وتختلف كمية الفاقد بين عام وعام, وهي تزيد كثيراً عندما تزيد كمية المياه الواصلة إلى الملكال على 36 بليون متر مكعب لأن مجرى النهر لا يستطيع أن ينقل كل المياه فيفيض على جوانبه.
الخرطوم
يقاس تصرف النيل الأزرق في أربع محطات رصد وهي الديم على الحدود الأثيوبية - السودانية (والتي بدئ القياس فيها سنة 1962). والرصيرص وسنار والخرطوم. ويحسب مقدار التصرف الطبيعي للنيل الأزرق بإضافة قراءة تصرف النهر عند الحرطوم إلى ما قد يكون قد فقد أو سحب من مياه قبل وصولها إليه, ويفقد النهر عن طريق البخر كميات كبيرة في خزاني الرصيرص وسنار. كما يحتاج ري أراضي الجزيرة التي تقع في المثلث بين النيل ألبيض والنيل ألأزرق إلى سحب كمية من مياه النيل الأزرق وتطلق في ترعتي الجزيرة والمناجيل - ومن أهم روافد النيل الأزرق في السودان التي تكتتب في مياهه رافدي الدندر والرهد اللذان يكتتبان متوسط 2.9 بليون متر مكعب و 1.1 بليون متر مكعب في السنة على التوالي.
ويعتبر النيل الأزرق من أهم روافد النيل, فهو يحمل إليه الجزء الأكبر من مياهه والتي تتحدد كميتها حسب حالة الطقس في المرتفعات الأثيوبية. ولذا فإن متابعة الأرصاد الجوية لهذه المرتفعات هو أمر حيوي للتنبؤ بما سيحمله النهر من مياه ومن أف أن هذه الأرصاد لم تعد متاحة منذ مدة طويلة.وتنتشر قياسات تصرف النهر إلى أنه لم يكن منتظماً طوال القرن العشرين, فقد بلغ متوسط السنوات 1912 - 1986 حوالي 51.6 بليون متر مكعب في السنة في الوقت الذي بلغ فيه متوسط السنوات 1914 - 1938 حوالي 55 بليون مت رمكعب, والينوات 1965 - 1986 حوالي 45.6 بليون متر مكعب إنخفضت إلى 43.4 بليون متر مكعب للسنوات 1972 - 1986 وهو أدنى متوسط سجل منذ بدء قياس تصر النهر في أوائل القرن العشرين. وهناك ثلاث سنوات فقط زاد تصرف النهر فيها على 70 بليون متر مكعب وهي السنوات 1916, 1917, 1929 وخمس سنوات زاد فيه عن 60 بليون مت رمكعب هي السنوات 1935, 1946, 1955, 1964. كما كان تصرف سنة 1972 أوطى تصرف للنهر خلال هذا القرن إذ بلغ أقل من 30 بليون متر مكعب في تلك السنة. وقد تأثرت أمطا رهذا العام بحالة الجفاف التي اسدت منطقة الساحل في أفريقيا بأكملها.
العطبرة
يقاس تصرف نهر العطبرة عند محطتي القعبر وواد الحليو واللذان يقعان على نهر العطبرة وفرعه الكبير الستيت عند دخولهما إلى السودان وقد بدئ في قياس التصرف عندهما في عام 1962 قبل البدء في تشغيل خزان خشم القربة. ويقاس تصرف النهر عند مخرجه في العطبرة, ويحسب تصرفه الطبيعي بإضافة هذا القياس إلى ما قد يكون قد فقد أو تم سحبه من النهر قبل وصوله إلى مخرجه, ويحسب في الفاقد ما تبخر من يماه من سطح خزان خشم القربة وما يكون قد سحب في عديد قنوات الري التي تروي مشروع حلفا الزراعي الذي أنشئ لتعويض أهالي النوبة من السودانيين حول خزان خشم القربة.
ويبلغ متوسط تصرف تهر العطبرة الطبيعي 10.6 بليون متر مكعب في الفترة بين 1912 إلى 1982. وفي هذه الفترة حدث أعلى تصرف للنهر في سنة 1916 حين بلغ 27 بليون متر مكعب كما سنوات 1922, 1954, 1959 عالية إذ بلغ تصرف النره فيها 17.5 و 21.1 و 17.1 بليون متر مكعب على التوالي - كما بلغ التهر أدنى تصريف له خلال فترات جفاف منطقة الساحل الأفريقي في الفترات 1939 - 1941 و 1965 و 1972 و 1978 وحتى 1987.
وقد بلغ متوسط تصرف النهر 11.5 بليون متر مكعب في الفترة 1914 - 1938 و 9.5 بليون متر مكعب في الفترة 1966 - 1982. وأقل من 6.2 بليون متر مكعب في الفترة 1965 - 1972 وفي هذه الفترة الأخيرة كان تصرف السنين 1967 و 1970 أعلى من المتوسط إذ بلغ فيهما 14.2 و 12.7 بليون متر مكعب على التوالي. أما السنوات الست الأخيرة فقد كانت شحيحة لا يزيد المتوسط فيها على 6 بلايين متر مكعب في السنة.
النيل عند أسوان
يرصد تصرف النيل بعد أن يترك آخر روافده عند العطبرة ويدخل الصحراء في محطتين أساسيتين هما دنقلة وأسوان, وفي كلتا المحطتين يعاد حساب تصرف النهر المرصود لمعرفة تصرفه الطبيعي بإضافة كمية المياه التي سحبت من النهر أو فقدت منه خلال مسيرته إلى محطة الرصد وهي كمية أخذت في الزيادة منذ بانء منشآت الري الكبرى وإتساع مساحة الأرض المروية في السودان منذ أوائل القرن العشرين. وحتى سنة 1971 (وهي السنة التي تم فيها تشغيل السد العالي عند أسوان تشغيلاً كاملاً) كانت كمية الفاقد من المياه والمسحوبة من النهر اصغيرة لا تزيد على 4 إلى 5 بلايين مت رمكعب في السنة. وعندما بدأ خزان السد العالي في الإمتلاء وإتسعت مساحة البحيرة خلف السد زادت كمية الفاقد عن طريق البخر كما زاد خزان السد العالي في الإمتلاء وإتسعت مساحة البحيرة خلف السد زادت كمية الفاقد عن طريق البخر كما زاد سحب السودان للمياه. ومنذ ذلك التاريخ أصبح متوسط فاقد البخر من بحيرة ناصر حوالي 10 بلايين مت رمكعب في السنة, ويتراوح هذا الفاقد تبعاً لكمية المياه التي تصل السد وإتساع سطح البحيرة من 7.6 بليون متر مكعب في السنة الواطئة إلى 13.2 بليون متر مكعب في السنة العالية, كما زاد أيضاً إستخدام السودان للمياه إلى حوالي 14 بليون متر مكعب في سنة 1986.
وتأتي المياه التي تصل إلى اسوان من مصادر ثلاثة هي النيل الأبيض الذي يكتتب حوالي 30% منها (والتي يأتي 45% منها نم السوباط), والنيل الأزرق والعطبرة اللذان يكتتبان 58% و 12% على التوالي, وهذه النسب محسوبة من متوسط تصرف النيل عن الفترة بين سنة 1912 و سنة 1982ز ويلاحظ أن سنوات التصرف العالي تحدث بسبب زيادة نسبة المياه الواصلة من المرتفعات الأثيوبية كما حدث في عامي 1916 و 1946 اللتين إرتفع فيهما التصرف إرتفاعاً كبيراً, وبلغت نسبة ما جاء من المرتفعات الأثيوبية من جملة المايه الوصلة إلى أسوان 79% و 76% على التوالي بدلاً من نسبة المتوسط العام البالغة 70%.
ولم تترك الزيادة الكبيرة في مياه هضبة البحيرات التي حدثت في الستينيات من القرن العشرين أثراً كبيراً على تصرفات النيل في أسوان كما كان متوقعاً فقد راحت معظم هذه المياه في إقليم السد بجنوب السودان ولم يفلت منها إلى النيل الأساسي إلا حوالي 8 بلايين متر مكعب في السنوات التي تلت عام 1962. ولا يعود فقدان أغلب مياه هضبة البحيرات إلى مستنقعات إقليم السد فقط كما بينا فيما قبل, ولكن أيضاً بسبب القدرة المحدودة لمجرى النيل الأبيض على حمل المياه. وفي أوائل فترة الستينيات من القرن العشرين زاد تصرف النهر عند أسوان بسبب الزيادة التي حدثت في تصرف أنهار المرتفعات في هذه الفترة. ويلاحظ هنا أن أمطار المرتفعات الإثيوبية أخذت تقل نمذ أواخر الستينيات وشحت شحاً كبيراً في خلال السبعينيات والثمانينات. وخلال هذين العقدين لم تستطع زيادات هضبة البحيرات تعويض النقص الذي حدث في إمدادات أنهار المرتفعات الأثيوبية.
لقد وجد أن تصرفات النهر كانت عالية في الثلاثين ستة الأخيرة من القرن التاسع عشر عنها في سني القرن العشرين – فقد كان متوسط تصرف النهر في الفترة 1870 – 1899 هو 110 بلايين متر مكعب في السنة. وكان أعلى تصرف للنهر في هذه الفترة هو الذي حدث في عام 1878, فقد بلغ 141.6 بليون مت رمكعب وهو أعلى تصرف قيس للنهر وحدث اقل تصرف في هذه الفترة في عام 1877 عندما بلغ 77.4 بليون مترمكعب.
وقد قل متوسط تصرف النهر في الثماني وثمانين سنة من القرن العشرين إلى 84 بليون متر مكعب في السنة. ولم تزد عدد السنوات التي إرتفع فيها تصرف النهر إلى أكثر من مائة بليون متر مكعب في السنة على أربع سنوات بالمقارنة إلى 21 سنة من الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر. وجاء التغيير في كمية المياه المحمولة عند أسوان في أوائل القرن العشرين مفاجئاً وواضحاً, وظهر أثره في مناسيب النيل وكمية المياه التي حملها النهر في شهور الفيضان وتلك التي حملها في شهور التحاريق, ففي حالة مناسيب النيل قل متوسط إرتفاع النيل الذي كان يسجل في مقياسي أسوان والقاهرة من 8.2 و 6.5 متر على التوالي في الفترة 1870 – 1899 إلى 7.8 و 4.8 متر على التوالي في الفترة 1900 – 1932 (عندما أوقف إستخدام المقياس في القارهة). كما قل متوسط كمية المياه التي حملها النهر في فترة شهور الفيضان (أغسطس – أكتوبر) من 66.1 بليون متر مكعب في الفترة 1870 – 1899, إلى 50.1 بليون متر مكعب في الفترة 1900 – 1988, كما قلت كمية المياه التي حملها النهر في فترة الشهور الواطئة (فبراير – يونية) من 13.2 بليون متر مكعب في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر إلى 10.7 بليون متر مكعب في سني القرن العشرين.
وقد عزا البعض هذا التغيير في تصرفات النهر في كل من سني القرنين إلى تغير طريقة قياس تصرف النهر عند أسوان قبل إنشاء خزان أسوان القديم وبعده, والذي تم بناؤه في أوائل القرن العشرينز ففي الفترة اليت سبقت بناء الخزان في عام 1902 كان قياس التصرف يستنبط من قراءة منسوب النهر على المقياس, أما في الفترة التي تلت بناؤه فكان القياس يتم مباشرة عن طريق ملء الأحواض التي بنيت خصيصاً لهذا الغرض أمام الخزان كما سبق بيانه. وبمقارنة تصرف النهر في كل من وادي حلفا (الواقعة إلى الجنوب على حدود مصر والسودان) وأسوان قبل بناء الخزان وبعده. وجد أن تصرف النهر كان يزيد في أسوان عنه في وادي حلفا في الفترة التي سبقت بناء الخزان وعلى العكس ما كان منتظراً مما دفع بالكثيرين إلى الإعتقاد بأن قياسات التصرف في أسوان قبل بناء الخزان كان مبالغاً فيها بنسبة 8% من قيمتها ومهما كان الأمر وحتى بعد إنقاص هذه النسبة من تصرف النهر قبل سنة 1902 فإن كمية تصرف النهر عند أسوان مازالت عالية جداً بالمقارنة إلى تصرف النهر بعد سنة 1902.
ويتبين من دراسة تصرف النهر خلال سنوات القرن العشرين أ، هذا القرن كان في عمومه قرناً شحيح المياه تخللته فترات قصيرة كان تصرف النهر فيها عالياً وأخرى كان تصرف النهر واطئاً بدرجة لافتة – وبلغ متوسط تصرف النهر خلال القرن كله 8407 مليار متر مكعب في السنة تعاقبت فيها فترات كانت معظم سنواتها واطئة مع فترات أخرى كانت معظم سنواتها عالية – وشهدت الفترة بين سنتي 1912 و 1921 بعضاً من أوطى فيضانات القرن وفيها وقع أوطى فيضان مرصود (فيضان سنة 1913 الذي بلغ تصرفه 45.9 مليار متر مكعب) كما شهدت أيضاً أعلى فيضانين في القرن (فيضاني سنة 1916/17 وسنة 1917/18 والذين بلغت تصرفاتهما 115.2’ 115.5 مليار متر مكعب على التوالي) وإذا أبعد تصرف هاتين السنتين لكان متوسط الفترة 62.2 مليار متر مكعب – كما شهدت الفترة بين سنتي 1940, 1944 سلسلة من الفيضانات الواطئة التي بلغ متوسطها 7302 مليار متر مكعب في اسلنة – أما الفترة بين سنتي 1986, 1987 فقد وقع فيها فيضانات واطئة تعاقبت العام وراء الآخر وحدث فيها ثاني أوطى فيضان مرصود (سنة 1984/85 والذي بلغ تصرف النهر فيها 55.7 مليار متر مكعب عند أسوان) وبلغ متوسط التصرف على طول هذه الفترة 78.9 مليار متر مكعب – وتسبب تعاقب السنوات الواطئة في مبدأ هذه الفترة (1986 – 1972) إلى صعوبة ملء خزان السد العالي الذي كان قد بني لتوه ولولا الفيضانين العاليين اللذين جاءا في أعقابها (فيضاني سنتي 1974/75, 1975/76 واللذين بلغت تصرفاتهما 89, 101.2 مليار متر مكعب على التوالي) لما إمتلأ الخزان – كما تسبب تعاقب السنوات الواطئة في نهاية هذه الفترة (بين سنتي 1982, 1987) خفضاً كبيراً في منسوب خزان السد العالي كاد أن يوصله إلى منسوب التخزين الميت ولولا فيضان سنة 1988 العالي (114.3 مليار متر مكعب) الذي جاء في ميعاده ليملأ الخزان لدفعت مصر ثمناً باهظاً ولما إستوفت حاجتها من المياه (إنظر أيضاً موضوع الخزان وتقلبات بحيرة ناصر في ص 249 وما بعدها من هذا الكتاب).
وشهد القرن العشرين فترتين تميزتا بفيضانات أعلى من المتوسط بين سنتي 1954, 1970 والتي بلغ متوسط تصرف النهر فيها 91.9 مليار مترمكعب في السنة والفترة بين سنتي 1988, 1998 والتي بلغ متوسط تصرف النهر فيها 91.8 مليار متر مكعب في السنة - وفي الفترة الأولى وقع واحد من أعتى فيضانات القرن (فيضان سنة 1964/65 والذي بلغ تصرفه 113.8 مليار متر مكعب) والذي وقع ومن محاسن الصدف في أعقاب بناء السد العالي مباشرة مما وقى البلاد مما كان من الممكن أن يسببه من أضرار جسيمة خاصة وأنه جاء في أعقاب فيضانين عاليين (فيضاني سنتي 1962/63, 1963/64 واللذان بلغ تصرفهما 93 ملياراً و94.7 مليار متر مكعب على التوالي). وتضم هذه الفترة عقد الستينيات الذي زادت فيه أمطار الهضبة الإستوائية وإرتفع فيها منسوب بحيراتها وتصرفات أنهارها كما زادت فيه أمطار منطقة الساحل الإفريقي. وفيها بدا وكأن الأحوال المناخية التي سادت آخر القرن التاسع عشر والتي سببت إرتفاع النيل ستعود مرة أخرى. وكان مناخ سنوات آخر القرن التاسع عشر قد تغير نتيجة ما أحدثه الإرتفاع العام لدرجة الحرارة الذي حدث في أوائل القرن العشرين من إنقلاب شامل في إتجاهات الرياح على المستوى الكوني وفي خلال هذا العقد نالت الكثير من الدول الإفريقية إستقلالها وبدأت في إستغلال مصادر ثروتها الطبيعية فقامت ببناء الخزانات ومحطات توليد الكهرباء على مجاري الأنهار, وإفترض المخططون عند بنائها أن نمط مناخ الستينات الذي زادت فيه المياه سيستمر, ولكن الذي حدث هو أن إنقلاباً مناخياً حدث في أواخر سني العقد أحدث هبوطاً حاداً في معدل سقوط الأمطار فقل جريان الأنهار, وتوقفت في أثر ذلك الكثير من المشروعات التي كانت هذه الدول قد بدأتها, فلم تمتلئ الخزانات التي كانت قد أقيمت لإستقبال الأمطار أو مياه الأنهار ولم تولد الكهرباء التي كانت ستأتي من سقوط المياه, كما هجرت عشضرات مشروعات إستصلاح الأراضي. ومن الدراسات التي تبين الأثر المدمر لفترة الجفاف التي تلت فترة الستينات تلك الدراسة التي تمت في منطقة الساحل بالسودان عندما قلت المياه وإنخفض منسوب المياه الأرضية وجفت الآبار والبرك.
أماالفترة الثانية التي شهدت فيضانات عالية في القرن العشرين فقد غمتدت لعشر سنوات بين سنتي 1988, 1998 (ولازالت معنا حتى كتابة هذه السطور) وفيها حدث ولأول مرة إمتلاء بحيرة ناصر والبدء في ‘ستخدام مفيض توشكا بالنوبة للتخلص من الماء الزائد.
وقد تبين أن هناك ترابطاً واضحاً بين كمية المياه التي يحملها النيل عند أسوان والحالة المناخية لمنطقة الساحل الإفريقي, فكلما زادت أمطار هذه المنطقة وتحسنت أحوالها إرتفع تصرف النهر عند أسوان وكلما قلت أمطارها قل تصرف النهر - ففي فترات الجفاف التي تأثرت في منطقة الساحل في أعوام 1911-1915 و 1940-1944, 1968-1972, 1982-1987 إنخفض تصرف النهر ويبدو أن كمية أمطار الاسحل تلعب دوراً أساسياً في تحديد كمية المياه التي تصل إلى أسوان فهي تزيد نيل النوبة بالكميات الإضافية من المياه الت ييمكن أن يحملها إليها ولنيل النوبة قدرة محدودة على حمل كميات أكبر من مياه المنابع الأساسية للنيل في الجنوب أو اشلرق بسبب شكل مقطعه وخاصة عند مبدئه عندما تفيض كل مياه زائدة على جوانبه ولا تصل إلى مصر.
وترتبط تقلبات تصرف نهر النيل وأمطار المرتفعات الأثيوبية الموسمية وأمطار منطقة الساحل الإفريقي بالعديد من الظواهر المناخية الكونية التي تحكم تدرجية الضغط الجوي وحركة الرياح وكمية الأمطار في مختلف أرجاء الأرض - ومن الظواهر المناخية التي يبدو أن لها علاقة بتحديد كمية أمطار المرتفعات الإثيوبية ومنطقة الساحل الأفريقي ظاهرتا النينو والنينا اللتان تؤثران أساساً على منطقة جنوب المحيط الباسفيكي وتغير من حركة كتل المياه فيها فتجعلها أكثر برودة في بعض السنوات (ظاهرة النينا) أو أكثر دفئاً في سنوات أخرى (ظاهخرة النينو) - ويظهر الأثر المباشر لهاتين الظاهرتين في منطقة سواحل بيرو وإكوادرو وشمال شيلي على الساحل الشرقي للمحيط الباسفيكي وإن كان أثرهما يمتد أيضاً إلى أرجاء الأرض - ويكون المحيط الباسفيكي في السنوات العادية تحت تأثير الرياح التجارية المنتظمة التي تهب عليه وتدفع مياهه السطحية الدافئة من أمام شواطئ بيرو والإكوادور وشيلي إلى الغرب حتى شواطئ الفلبين وإستراليا حيث تتكوم وترفع من سطح البحر فيها بحوالي المتر كما تسبب في رفع درجة حرارة مياهها بعدة درجات مئوية - وفي نفس الوقت فإن مياه الأعماق الباردة والغنية بالمواد العضوية عند شواطئ بيرو والإكوادور وشيلي ترتفع لتحل المياه الدافئة المزاحة بفعل الرياح مما يجعل المكان جاذباً للإسماك والقشريات وموسم الصيد حسناً - ويحدث أن يتغير هذا النظام في السنوات التي تقل فيها بسرعة الرياح التجارية مما يقلل من قدرتها على دفع المياه الدافئة إلى الغرب فيبقى الماء الدافئ على طول الساحل الشرقي للمحيط ويمتنع تدفق الماء العميق والحامل للغذاء إلى السطح فتتأثر بذلك كمية الأسماك التي تقتات عيله ويصيب صائدي الأسماك من سكان السواحل بأمريكا الجنوبية في هذه السنوات أذى عظيم - وتعرف هذه الظاهرة بإسم النينو - ويتغير النظام كذلك في السنوات التي تتزايد فيها سرعة الرياح عن معدلها الطبيعي مما يتسبب في إزاحة الماء الدافئ بسرعة ينتشر في أثرها تيار الأعماق البارد في أجزاء كثيرة من المحيط. وتعرف هذه الظاهرة بإسم النينا - وتؤثر كلتا الظاهرتين بصورة واضحة في مناخ الساحل الشرقي للمحيط الباسيفيكي ويمتد أثرها على العالم كله فقد لوحظ وجود ترابط بين هاتين الظاهرتين وإنتشار الفيضانات والزوابع وموجات الجفاف في الكثير من بلدان العالم - ويكون التزامن في أوضح صورة بين هاتين الظاهرتين والأحداث المناخية المدمرة وغير العادية في نصف الكرة الأرضية الجنوبي - أما الأحداث المناخية التي تحدث في نصف الكرة الأرضية الشمالي فتزامن من أحداثها مع هاتين الظاهرتين غير واضح وإن كان هناك ما يدل على أن للظاهرتين أثر في تحديد موقع نطاق التجمع بين المداري الذي يحدد بدوره كمية أمطار منطقة الساحل بأفريقيا.
ولما كان لظاهرة النينو علاقة بتحديد شكل موسم الصيد ببلاد أمريكا الجنوبية المطلة على المحيط الباسيفيكي والذي يعتمد عليه الكثير من سكانها لتدبير معائشهم فإن دراسة حال هذا الموسم عبر التاريخ يمكن أن تعطي سجلاً لظاهرة النينو عبر القرون الأربعة والنصف الماضية - أما في العصور الحديثة وبدءاً من منتصف القرن العشرين فإن كلاً من ظاهرتي النينو والنينا هي محل دراسات وقياسات أجهزة الرصد العلمي الحديث في بلاد نصف الكرة الأرضية الغربي - وبعد دراسة وعمل سجل لسنوات النينو والنينا في الخمسين سنة الأخيرة ومقدار تصرف النهر في أسوان في كل منها, فوجد أن هناك علاقة بين الظاهرتين وكمية المياه التي حملها النيل - ففي سنوات النينا يزيد متوسط الأمطار في حوض النيل بما يتراوح بين 10.5% وفي سنوات النينو يقل هذا المتوسط بما يتراوح بين 15.5% - وفي سنة 1988 التي تعتبر واحدة من أعتى سنوات النينا في القرن العشرين زادت الأمطار بنسبة 8% في حوض النيل الأبيض وبنسبة 13% في حوض النيل الأزرق - ونتج عن هذه الزيادة فيضان سنة 1988 العالي الذي يعتبر أعلى فيضان حدث في القرن العشرين والذي ساعد في إعادة ملء خزان السد العالي بعد أن كاد أن يفرغ.
تقلبات نهر النيل في غابر الزمان
تكلمنا في الفصل السابق عن تقلبات نهر النيل خلال السنوات المائة وعشرين والأخيرة وأظهرنا أن هذه التقلبات ترتبط لدرجة كبيرة بتقلبات امطار منطقة الساحل الأفريقي.وفي هذا الفصل سنتناول موضوع تقلبات النهر في ماضي الزمان قبل إدخال الطرق الحديثة لقياس تصرف النهر. وسوف نحاول التعرف على هذه التقلبات بدراسة ما قد يكون قد تركه الأقدمون من سجلات عن مناسيب النهر التي كانوا يقيسونها بمقاييس بنوها في الكثير من الأمكنة منذ أقدم الأزمنة, أو بما قد يكونوا قد كتبوه عنها أو عن أثرها على حياة الناس الذين كانت معائشهم وحياتهم تعتمد عليها. أما عن الماضي السحيق فإننا سنحاول التعرف على هذه التقلبات بدراسة مسلك النهر القديم كما سنستنبطه من الدلائل الجيولوجية التي أحاطت بالنهر خلال تاريخه الطويل.
ومن الدلائل الجيولوجية ذات العلاقة إرتفاع المصاطب التي خلفها النهر وراءه وهو ينحت مجراه أو يبنيه فمنها يمكن أن نستنج المدى الذي إرتفعت إليه أو إنخفضت مياه النهر في سابق الزمان, هذا بالإضافة إلى أن دراسة رواسب النهر القديمة وما إحتواته من حفريات أو ما تركه فيها الإنسان القيدم من أدوات يمكن ن تدلنا على طبيعة النهر وبئيته والأحوال المناخية التي تكون فيها وقت ترسيبها. وفي العادة تتداخل مع رواسب النهر رواسب أخرى حملتها وديان الصحراء عندما تتزايد الأمطار فيها أو حملها الريح عندما يسود الجفاف, كما قد تتشكل على سطوح رواسب النهر أنواع مختلفة من التربة تبعاً لنوع العوامل المناخية التي أثرت على هذه الرواسب منذ ترسبها. ومن الدلائل الجيولوجية ذات المغزى رواسب الشواطئ القيدمة للبحيرات التي يعرفها أنها غيرت مناسيبها في مختلف العصور تبعاً لكمية الأمطار التي سقطت عليها. فكما راينا فيما سبق فإن منسوب البحيرات كان يرتفع في عصور تزايد الأمطار وينخفض في عصور الجفاف. ويوجد بجوار نهر النيل منخفض الفيوم الذي يقع الجزء الأكبر منه تحت سطح البحر وينفصل المنخفض عن مجرى النهر بمرتفع تركبه مياه النهر في أوقات إرتفاعه فتصل إليه وتغرقه فيصبح بحيرة يمكن الإستدلال على مدرى إرتفاعها من شواطئها التي تترك معلقة حول المنخفض عندما ينحسر عنها الماء في عصور إنخفاض النلي.وقد ساعدت دراسة الشواطئ التي تركتها سلسلة البحيرات التي تتابعت على منخفض الفيوم في غابر الزمان في فهم ترايخ تقلبات النهر السابقة.
ومن الطرق غير المباشرة التي سوف نستخدمها في إستنتاج سابق تقلبات النهر ما كتبه الأقدمون وشهود العيان عن أحوال مصر عبر تاريخها الطويل. فقد لعب النيل دوراً هاماً ورئيسياً في تاريخها وإعتمدت عليه حياتها وإقتصادها كله حتى منتصف القرن التاسع عشر, فكانت أحوالها تصح في السنوات التي كانت يرتفع فيها إرتفاعاً مناسباً لكي يغرق الأراضي لمدة مناسبة في وقت معين من السنة. كما كانت أحوالها تسوء عندما يقل الماء عنها. ومن هنا كانت قراءة أحوال مصر بمثابة قراءة لتقلبات النهر.
كان مجئ النهر في أي عام بمنسوب ينقص أو يزيد عن المنسوب المناسب لغمر الأراضي وريه سبباً في ترك جزء كبير من الأراضي دون ماء أو في غرق الأراضي وإكتساح المغمور منها. وعلى الرغم من إنتظام أحوال النيل عامة إلا إنه كثيراً ما جاء النيل واطئاً فترك أثراً مدمراً على الأمة وعرضها للمجاعة. ولذا فإن للوثائق التاريخية التي تسجل هذه المجاعات فائدة كبرى في معرفة تقلبات النهر في سابق الزمان - وسنرى في هذا الفصل أن آلام الأمة كانت تقل وقت الحكومات الحسنة التي كانت تكون مخزوناً من فائض الحبوب في الأعوام الطيبة لإستخدامه وقت الأعوام السيئة.وأن الآلام كانت تزيد وقت الحكومات الرديئة أو عندما يمتد زمن الفيضانات الواطئة لسنوات طويلة ومتتباعة.
كانت مراقبة النهر وتسجيل منسوبه لذلك عملاً هاماً من أعمال الحكومة منذ أقدم الأزمنة. وعلى الرغم من أن معظم السجلات القديمة قد فقدت إلا أن البعض منها قد أعيد الكشف عنه من مصر القديمة, كما أن هناك سلسلة تكاد تكون كاملة من القياسات التي تسجل أقصى وأدنى إرتفاع بلغه النهر في كل سنة منذ ماقبل الفتح العربي بقليل وهي البيانات التي كانت تقرأ على مقياس النيل بالروضة. وقد جمعت هذه البيانات وصححت وروجعت بواسطة عدد من المؤلفين المعاصرين.
ويعود تاريخ جميع مقاييس النيل المحفوظة في القوت الحاضر إلى العصور الفرعونية المتأخرة أو إلى العصر البطلمي - الروماني. وقد بنيت هذه المقاييس فر حرم معابد تلك العصور وجميعها موصوفة وصفاً دقيقاً. ولهذه المقاييس أغراض أخرى غير قياس مناسيب النيل فقد في توصيل مياه الفيضان إلى المعبد لإستخدامها في مراسم العبادة بعد الصلاة عليها.
ومقياس النيل النموذجي القديم عبارة عن بئر يبنى على حافة النيل له سلم ينزل من منسوب المعبد إلى أوطى نقطة يصل إليها النهر في موسم التحاريق ويسمح لماء النهر بالدخول في البئر إما بفتحة بأسفل البئر أو عن طريق النشع خلال تربة أرضيته. وكان ماء النيل يترك لكي يدخل البئر حتى يتسازى سطحه فيه مع سطحه في النيل. وفي العادة كان يجري قياس المناسيب على مقياس ثابت حفرت درجاته على بئر السلم وفي بعض الأحيان إستخدمت مقاييس متنقلة كانت تحفظ بداخل المعبد وفي مكان آمن عند عدم الإستعمال وفي حالة معبد الكرنك كان مقياس النيل منقوشاً على حائط المعبد الذي بني على شاطئ النيل نفسه.
فترة الهولوسين (النبطة) المطيرة
ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب أن ميلاد النيل الحديث يرجع إلى حوالي العشرة آلاف سنة مضت مع مبدأ الفترة المطيرة التي صاحبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير. قد أثرت هذه الفترة على منطقة منابع النيل مما ساعد على تشكيل النهر الحديث بنظامه الذي نعرفه الآن. وتعرف الفترة المطيرة هذه بإسم فترة الهولوسين لوقوعها في أول عصر الهولوسين, أو بإسم فترة النبطة نظراً لأن منطقة النبطة بجنوب الصحراء الغربية المصرية (100 كيلومتر إلى الغرب من أبو سمبل) هي من المناطق التي وصفت فيها أثار أمطار هذه الفترة وصفاً مستفيضاً.
ولم تؤثر هذه الفترة المطيرة في منطقة منابع النيل فقط بل وفي الساحل الإفريقي كله الذي يمتد حول خط العرض 15 درجة شمال خط الإستواء, من نهر السنغال حتى نهر النيل والذي يقع فيه اليوم حزام المطر بين 100 أو 500مم. وخلال فترة الهولوسين المطيرة تزحزح هذا الحزام من موقعه الحالي إلى الشمال فتساقطت الأمطار على أجزاء كبيرة من مناطق الصحراء الكبرى ونمت في أرضها الشجيرات وإنتشرت فيها الكثير من البحيرات العارضة أو الدائمة وجال فيها الإنسان القديم.
وقد كتب الكثيرون عن هذه الفترة المطيرة التي تصور وجودها الرحالة والباحثون الأولون الذين كانوا يجوبون الصحراء الكبرى القاحلة فيجدون في أماكن كثيرة منها رواسب البحيرات التي جفت وبقايا الإنسان القديم من أدوات حجرية وأحجار الرحا التي تناثرت في كل مكان.
وفي العصر الحديث حظيت دراسة هذه الفترة بإهتمام كبير وعلى الأخص بعد أن تفاقمت مشكلة الساحل الإفريقي بتعرضها المستمر للجفاف والقحط. وقد تجمعت لدينا الآن معلومات قيمة عن التقلبات المناخية والبيئية التي حدثت لمنطقة الساحل منذ حلول فترة الهولوسين المطيرة وكذلك عن الإنسان القديم الذي عاش فيها خلال هذه الفترة نتيجة بحوث مجموعات عمل تشكلت من خبراء في مختلف العلوم وعملوا في مصر والسودان وليبيا وتشاد وتونس وموريتانيا والنيجر والسنغال.
وقد إستطاع الباحثون التأريخ الدقيق لحداث هذه الفترة وأن يقدروا أنها منذ 10.000 سنة قبل الآن وأنها إستمرت حتى منتصف اللف الثالثة قبل الميلاد حينما توقفت الأمطار وتراجعت جبهة المطر إلى الجنوب وبدأت صحاري مصر في النمو شرق النيل وغربه, كما بدأـ كثبان الرمال الهائلة زحفها المستمر الذي تغطت في أثره اجزاء كبيرة من صحراء مصر الغربية, وفي الوقت نفسه إختفت تدريجياً الحشائش الطويلة والشجيرات التي كانت تغطي الصحراء وهرب الحيوان منها كما هجرها آخر الرجال الذين كانوا يعيشون حول بحيرات الماء العذب التي كانت ترصع هذه القفاز وأغاروا على وادي النيل.
وعندما كانت هذه الفترة في أوجها إمتد تأثير أمطارها من موقعها الحالي خط عرض 15 درجة شمالاً إلى شمال السودان ثم جنوب مصر حتى وصلت عروضها الوسطى. ولم تكن أمطار هذه الفترة غزيرة في مصر أو الأجزاء الشمالية من السودان, إذ أنها لم تزد في الأغلب على 200 ملليمتر في السنة فأنواع الحيوان والنبات التي عاشت في هذه الفترة كانت من الأنواع القادرة على العيش في بيئة ذات مطر قليل. وفي الحقيقة فقد كانت الصحراء المصرية منطقة شبه قاحلة في لذك القوت وإن لم تكن على درجة القسوة التي نارها الآن. وفي تلك الفترة كان النيل نهراً أكثر قوة مما هو عليه الآن, بلغت تصرفاته أكثر من ضعفين إن لم يكن ثلاثة أمثال تصرفاته الحالية, فقد كان للنيل بالإضافة إلى مياه منابعه التي زادت ف يعطائها منابع أخرى جاءته من هضاب النوبة والصحراء الشرقية وشمال السودان.
وقد تخللت فترة الهولوسين المطيرة فترات قصيرة من الجفاف تركت أثرها على سكان المناطق التي تأثرت بها. وق ميز الباحثون منها فترات خمس إمتدت كل واحدة منها لما بين مائة إلى مائتين من السنين.
وتعتمد تقديرات تصرف النيل ف يالسنوات الأولى من فترة الهولوسين المطيرة على مدى إرتفاع النيل في تلك السنوات كما سجلته بعثات الآثار التي عملت في كلاً من النوبة منذ الستينيات. ويبدو أن النيل كان عالياً سنة 9400 قبل الميلاد فقد كان يجري على إرتفاع يزيد عن منسوبه الحالي بأكثر من ثلاثة عشر متراً في بلاد النوبة التي كانت في لذك التاريخ أعلى من منسوبها الحالي بحوالي ثلاثة أمتار ولذلك فلابد أن النهر كان يجري على إرتفاع عشرة أمتار فوق منسوبه في بلاد النوبة منذ أكثر من 10.000 سنة مضت - وقد مكن هذا الإرتفاع الكبير في منسوب النيل في تلك الفترة من أن يدفع النيل لركوب المرتفع الذي يفصله عن منخفض الفيوم وأن تدخل مياهه المنخفض وأن تملأه وتكون فيه بحيرة هائلة. وقد أمكن للنيل أن يصل إلى الفيوم على الرغم من أن سهل فيضانه كان أوطى منسوباً من سهله الحديث بما لا يقل عن خمسة أمتار في لذك التاريخ. وتسمى البحيرة التي تكونت في هذا التاريخ بخيرة موريس القديمة وقد إستمرت هذه البحرة حتى فقدت إتصالها بالنيل حوالي سنة 8.000 قبل الميلاد وبقي المنخفض بعد ذلك دون إتصال بالنيل لحوالي 500 سنة تحولت فيها سطوح الرواسب البحيرية التي تركتها بحيرة موريس القديمة وراءها إلى تربة ذات لون أحمر.
وقد عاد النيل إلى الإرتفاع بين سنة 7500 و 6000 سنة قبل الميلاد وفي هذه الفترة عاد إتصال النيل بمنخفض الفيوم وتكونت فيه بحيرتين متتاليتين (وهما اللتان سميتا بحيرتي ما قبل موريس وموريس الأولى), تفصلهما فترة قصيرة هبط فيها منسوب البحيرة الأولى قليلاً,وكما ترك النيل في هذه الفترة مصاطب عالية حددت منسوبه فيها. ومن أهم هذه المصاطب المصطبة الواقعة أعلى القلعة التي بنيت في عصر المملكة القديمة بمدينة الكاب قبالة إدفو ويعود تاريخها إلى ما بين سنة 7600 وسنة 7200 قبل الميلاد.
ويأتي دليل آخر لإرتفاع النيل في هذه الفترة من بئر دق بالبحر الأبيض المتوسط أمام دلتا النيل وجدت في أعماقه طبقة رفيعة سوداء غنية بالمواد العضوية يعود تاريخها إلى ما بين 7600 و 7200 سنة ق.م ويدل حفظ هذه الطبقة على أن المادة العضوية التي تساقطت على القاع وقت تكونها لم تتحلل, فلم تكن مياه البحر السطحية الحاملة للأوكسجين تصل إلى القاع في ذلك الوقت مما تركها بيئة صالحة لحفظ المادة العضوية. والأصل هو في تحلل هذه المواد عند وصولها إلى قاع البحر بواسطة الأوكسجين الذي يكون ذائباً في المياه السطحية للبحر ويهبط إلى القاع بصفة مستمرة - ووجود ووجود الطبقات الغنية بالمواد العضوية أن هذه الدورة الطبيعية لم تكن تتم وأن المياه السطحية لم تهبط إلى القاع, ولا يكون ذلك إلا إذا كانت هذه الطبقات خفيفة في كثافتها كأ، يصلها بإستمرار تيار من المياه العذبة يخفض من ملوحتها ويقلل من كثافتها. ويبدو أن هذا كان حال البحر في تلك الفترة البعيدة في التاريخ والتي زادت فيها كمية المياه العذبة التي كان يقذفها النيل إلى البحر.
ويبدو أن النهر كان واطئاً في الفترة بين سنة 6000 و سنة 5200 قبل الميلاد وفيها إنقطع إتصال النيل بمنخفض الفيوم, فجفت البحيرة التي كانت تملأه, وهجر السكان المنخفض ولم يعد لهم أثر فيها - ولم يعثر الباحثون عن أي أثر لسكني الإنسان في هذه الفترة في وادي النيل أيضاً. ومن المرجح أن ذلك لا يعود إلى هجرة سكان الوادي كما كان الحال في الفيوم, ولكن إلى أن سكنى الناس في هذه الفترة كانت على ما يبدو في أسفل الوادي وقرب النهر بعد أن هبط منسوب النيل هبوطاً كبيراً. وقد ردمت هذه المساكن وغطيت بطبقات الطمي التي حملها النهر عندما إرتفع بعد ذلك.
وإرتفع النيل حوالي سنة 5200 ق.م إرتفاعاً كبيراً حتى وصل منسوب يلعلو منسوبه الحالي بستة عشر متراً, كما يدل على ذلك إغراقه في هذه الفترة لكهف يقع على هذا الإرتفاع في جبال النوبة سمي "بكهف سمك القرموط" لكثرة بقايا الأسماك فيه. وفي الكهف رواسب نيلية تركها النيل بها أدوات حجرية يعود تاريخها إلى سنة 5200 ق.م والأغلب أن هذه الفترة قد تميزت بفيضانات عالية.
وحول هذا التاريخ عد الإتصال بالفيوم الذي تكونت فيه عندئذ بحيرة هائلة وصل إرتفاع شواطئها إلى ما بين 19و 24 متراً وهو أعلى إرتفاع وصلته شواطئ البحيرة على طول تاريخها. ويبدو أن النهر كان في عمومه عالياً في الفترة بين سنة 5.200 و سنة 3.900 ق.م وأنه إنخفض منذ ذلك التاريخ حتى حوالي سنة 3000 ق.م عندما عاد وإرتفع مرة أخرى ودخل المنخفض. وقد إنقطع إتصال النيل بالفيوم خلال فترة إنخفاضه فيما بين سنة 3.99 و سنة 3000 ق.م.
ويأتي الدليل على إرتفاع النيل ف يالفترة بين سنة 5200و سنة 3900 ق.م من السودان أيضً. وتدل دراسة مصاطب النيل حول الخرطوم على أن النهر حتى سنة 3000 ق.م كان أعلى عنه اليوم بخمسة أمتار, بل وأنه كان أعلى من ذلك في الفترة بين سنة 10.000 وسنة 6.000 ق.م. وفي خلال الفترة بين سنة 6.000 وسنة 5.000 ق.م كان النيل الأبيض يشكل مستنقعاً كبيراً أو بحيرة بعد إنحسار الفيضان كما كان فيما بين النيل ألأزرق والنيل الأبيض مليئاً بالبرك التي كان الكثير منها دائماً على طول السنة.وقد دلت دراسة حبوب اللقاح وبقايا النبات التي إستخرجت من رواسب تلك الفترة على أن هذه المنطقة كانت تشكل غابة ذات حشائش طويلة. وقد إختفت كل هذه المظاهر الدالة على كثرة الأمطار حوالي سنة 5.000 ق.م, وبدأ النيل في نحت مجراه وتعميقه منذ ذلك التاريخ.
ويمكن أن نختتم هذا الفصل بالقول بأن النيل في فترة الستة آلاف سنة ونصف التي مرت عليه منذ بدء أمطار فترة الهولوسين المطيرة حوالي سنة 3000 ق.م كان يمر في دورات يبلغ طول الواحدة منها ما بين 1300 و 1500 سنة, يكون فيها مرتفعاً على وجه العموم. كما كانت تفصل هذه الفترات فترات تتراوح في طولها بين 600 و 800 سنة يكون فيها منخفضاً. وبطبيعة الحال لم تكن كل سني هذه الفترات ثابتة على حال واحدة فقد كانت هناك تقلبات ثانوية كبيرة وكثيرة داخل كل فترة, ولكن المعرفة الدقيقة لهذه التقلبات بداخل كل فترة ستحتاج إلى الكثير من الدراسة والتمحيص مما هو ليس متاحاً لنا في الوقت الحاضر.
تقلبات النهر في مصر القديمة
رصد المصريون القدماء منسوب الفيضان ودونوه في السجلات الرسمية منذ أقدم الأزمنة. وقد ضاع الكثير عبر العصور كما تغيرت نقطة الصفر التي بدء القياس منها من عصر إلى عصر. وقد قام عدد من المؤلفين المحدثين بإعادة دراسة ما بقي من هذه السجلات وكذلك ما كتبه القدماء وشهود العيان عن أحوال مصر لاستخلاص النتائج بشأن مسلك النيل وكمية المياه التي حملها على مر العصور.
سجلات الدولة القديمة (3050 – 2480 ق.م)
أقدم سجل محفوظ لمناسيب الفيضان هو الموجود على حجر بالرمو الذي يعود إلى عصر الأسرة الخامسة (2480 ق.م.) وهو على شكل لوح من الحجر نقشت عليه مناسيب النيل منذ عصر الملك جر (الأسرة الأولى حوالي سنة 3050 ق.م.) وحتى الأسرة الخامسة. وتوجد أكبر وأكمل كسرة من هذا اللوح الذي تهشم مع مر الزمن في متحف مدينة بالرمو عاصمة صقلية بايطاليا (الشكل 2-12) ولا يعرف باضبط المكان الذي وجدت فيه هذه الكسرة إذ يبدو أنها بيعت لأحد الإيطاليين من هواة الآثار المصرية القديمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فنقلها إلى منزله الخاص ثم إلى متحف المدينة التي كان يسكن فيها. وأغلب الظن أن الحجر كان من مدينة منف عاصمة مصر القديمة لأن كسرا آخر مشابها لحجر بالرمو من حيث النوع والنقش وجد فيها، ومعظم هذا الكسر محفوظ بمتحف القاهرة.
وظهر أول وصف لحجر بالرمو في سنة 1902 م. والحجر عبارة عن لوح طوله 42 سنتيمتر وعرضه 30 سنتيمتر من صخر الديوريت. وعلى الحجر نصوص نقشت على وجهيه بحيث يكمل النص الموجود على ظهر الحجر النص الموجود على وجهه. ولذا فمن المرجح أن الحجر كان معدا لكي يقف في أحد معابد منف حتى يقرأ من وجهيه. والنصوص المنقوشة على الحجر منظمة في صفوف أفقية وهذه مقسمة بدورها إلى أقسام كل قسم منها على شكل مستطيل يحمل نصا باللغة الهيروغلوفية. ويعدد الصف العلوي للوجه الأول أسماء ملوك عصر ما قبل الأسرات دون ذكر أي شئ آخر، وتعدد أقسام الصفوف التالية أعمال ملوك الأسرات الأولى إلى الخامسة الذين نقشت أسماؤهم وأسماء أمهاتهم فيما بين الصفوف. وتحت اسم كل ملك نقشت أعماله خلال سنوات حكمه وتحت كل قسم مستطيل صغير فيه نقش يسجل ارتفاع النيل في هذه السنة من سنوات حكم الملك. والارتفاع مسجل بالذراع والشبر والكف والأصبع في وحدات القياس في المملكة القديمة.
زيزجد بحجر بالرمو 63 قياسا للنيل، كما توجد بالكسرات الأخرى المكملة والموجودة بالمتحف المصري 38 قياسا آخر. وقد جمعت هذه القياسات لمعرفة علاقتها بالأعياد المصرية وبتقلبات النيل. وقد قم تحويل هذه القياسات إلى النظام المتري باعتبار أن الذراع مقسم إلى شبرين وسبعة كفوفو و38 أصبعا وأنه يساوي 52.4 سنتميترا. وقد وجد أنه من ضمن 43 فيضانا سجلت في عصر الأسرة الأولى سبعة يتعذر قراءتها وإثني عشر تنمتي إلى حكم الملك جر (إبتي) وخمسة عشر إلى حكم الملك دن (خاستي)، وتسع إلى حكم الملك سمرخت. ويبلغ متوسط هذه القياسات كلها 2.8 مترا. وكان أعلى إرتفاع للنيل في هذه الأسرة هو الذي حدث في سنة 30 من حكم الملك دن حين وصل الفيضان إلى إرتفاع 4.25 مترا. ولا يوجد نص يسجل ارتفاع النيل وقت الملك أتي (الذي سبق الملك جر). ولا في مستطيل السنة الثاني لحكم الملك جر (إبتي) نفسه مما قد يؤخذ دليلا على أمانة ناقشي الحجر الذي فضلوا أن يتركوا المكان دون كتابة عندما لم يكن لديهم سجل بارتفاع النيل في تلك السنة بدلا من التلفيق.
ومن ضمن 21 قياسا للأسرة الثانية (حوالي 2890 – 2688 ق.م.) هناك ثلاثة عشر في حكم الملك نبنت جر وثمانية في حكم الملك خا سخموي وكان أوطى فيضان ذلك الذي حدث في السنة الرابعة عشر من حكم الملك نبنت جر (حوالي سنة 2813 ق.م.) حين وصل ارتفاعه إلى 52 سنتيمترا فقط. ومن هذه السنة وحتى نهاية حكم الأسرة الثانية بل وحتى نهاية السنة الخامسة عشرة من حكم الملك نبكا (سانخت) أول ملوك الأسرة الثالثة كانت الفيضانات واطئة فقد هبطت من متوسط 2.8 مترا أيام الأسرة الأولى إلى 1.6 مترا في خلال هذه الفترة. وقد تركت هذه الفترة أثرها على الأمة وهناك الكثير من النصوص التي تتكلم عن ضعف الاقتصاد في هذه الفترة ومن القلاقل والاضطرابات وصعوبة الحياة فيها.
وقد عاد النيل فارتفع خلال حكم الأسرة الثالثة إلى الخامسة (2686 – 2345 ق.م.) عندما سجل النيل متوسط ارتفاع قدره 1.8 مترا. وفي هذه الفترة كان أعلى إرتفاع هو ذلك الذي سجل في عهد الملك سنفرو (الأسرة الرابعة) والذي بلغ 2.7 مترا كما بلغ متوسط ارتفاع النيل اكثر من مترين في عهد الملك زوسر (الأسرة الثالثة). هذا المتوسط يجعل من الصعب قبول ما سجل عن المجاعات التي استمرت سبع سنوات في عهد هذا الملك في النقش الموجود بجزيرة سهيل بأسوان وكان هذا النقش قد كتب في عهد الملك بطليموس الخامس في القرن الثاني قبل الميلاد أي بعد عهد الملك زوسر بأكثر من ألفي وخمسمائة سنة كما يصعب أيضا قبول ما قيل من أن النقش منقول من وثائق ترجع إلى عهد الملك زوسر الذي كان قد مضى على عهده ذلك الزمن الطويل.
وعلى العموم فإنه يمكن القول بأن انخفاضا حدث في متوسط ارتفاع الفيضان خلال مدة القياسات المنقوشة على الحجر فقد نقصت من متوسط بلغ 2.8 مترا خلال سنوات الأسرة الأولى والثمانين سنة الأولى من سنوات الأسرة الثانية (3050 – 2810 ق. م.) . وقد تلا ذلك ارتفاع في المتوسط إلى 1.8 مترا خلال حكم الأسرات الرابعة التالية (2679 – 2480 ق.م.).ويبين المنحنى في (الشكل 2-13) تقلبات إرتفاع النيل على مدى حكم هذه الأسرات كما جاءت في حجر بالرمو والكسر الأخرى منه. ويصول (الشكل 2-14) شكل النيل عند فيضانه في ذلك الالهد القديم.
ولا يعرف إلا القليل عن مقياس النيل في منطقة منف الذي يعتقد معظم الباحثين أن ارتفاع الفيضانات المذكورة بحجر بالرمو قد قيست منه. ويبدو للمؤلف أن أرقام القياسات المنقوشة على الحججر صغيرة إذا ما قورنت بقياسات مقاييس النيل الحديثة، وأنها تمثل ارتفاع عمود الماء فوق سهل فيضان النيل عند منف أو في أحواض الزراعة فيه، ولدي قناعة أن نقطة الصفر في مقياس منف القديم والشهر والذي اختفت ىثاره كلية كانت عند مستوى احواض الزراعة في منف، وأنه كان يقيس عمود الماء فوق هذه الأحواض. ومن الجائز أن تكون لمقياس النيل عند منف نقطة صفر أخرى عند منسوب النيل الواطئ وقت التحاريق كباقي مقاييس النيل المعروفة. وفي أسوان يوجد معبد هنوم مقياس له نقطتين للصفر. واذا كان الأمر كذلك فمن المؤكد أن نقطة الصفر التي استخدمت في الدولة القديمة كانت النقطة العالية منهما والتي كانت تبدأ عند أرضية أحواض الزراعة.
ويمكن أن تكون القياسات قد تمت بواسطة مقياس محمول كالشاقول (ميزان البناء) في أحواض النيل ذاتها، وقد ذكر جفريس أن القراءات التي كانت تؤخذ في مقياس منف عندما دخل العرب مصر كانت تؤخذ بالشاقول ثم ترسل إلى الفسطاط حيث يتم إعلانها وتسجيلهاز
ومهما كان الأمر فإن القياسات المنقوشة على حجر بالرمو لا يمكن تفسيرها إلا بإعتبارها تمثل ارتفاع الماء في أحواض الزراعة القديمة – واذا أردنا أن نقدر تصرف النهر القديم وقت هذه الفياضانات فعلينا أن نقارن ارتفاع الماء في الحوض نفسه في القرن التاسع عشر فقد يكون من الممكن حينئذ الوصول إلى تقدير عن التصرف القديم للنيل. و(الشكل 2- 15) هو مقطع للنهر في حوض سقارة 0منف) وقت الفيضان في سنة 1887 ميلادية والتي وصل فيها تصريف النهر إلى حوالي 117 بليون متر مكعب في السنة.
وفي الشكل يظهر أن ارتفاع سطح الحوض هو 20.2 متر فوق سطر البحر وأن منسوب الفيضان في الحوض كان في ذلك العام 21.6 متر، أي أن ارتفاع الماء في الحوض كان 1.4 متر وهو رقم يقارب لحد كبير الكثير من الأرقام التي تظهر في حجر بالرمو.
وفي فيضان سنة 1878 ميلادية العالي (والذي وصل تصرف النيل فيها إلى 141 بليون متر مكعب) ارتفع الماء في حوض سقارة إلى منسوب 22.2 متر أي بارتفاع مترين عن أرضية الحوضز ولم يكسر هذا الفيضان أرضية الجسر الغربي (الذي يبلغ ارتفاعه 22.9 مترا) ولكنه كسر جسر النيل الشرقي وأحدث أفدح الأضرار على طول الأرض حول فرع دمياط.
ولو قبلنا أن المناسيب المنقوشة على حجر بالرمو هي لارتفاع ماء الفيضان في حوض منف، فإننا يمكننا أن نستنتج أن تصرف النيل في معظم سنوات الاسرة الثالثة حتى الخامسة عندما كان ارتفاع الماء في الحوض حوالي 1.8 متر، كان في حدود 130 بليون متر مكعب. (أي أنه كان بين متوسط تصرف عام 1887 وعام 1878 ميلادية) وفي المقابل فلابد أن تصرف النيل خلال أيام الأسرة الأولى كان عاليا جدا وربما وصل إلى أكثر من متوسط تصرف النيل في الأسرات اللاحقة بحوالي 50 % ، أي أن التصرف لابد وأنه كان في حدود 200 بليون متر مكعب في السنة. وأما تصرف النيل وقت حكم الأسرة الثانية فلابد وأنه كان واطئا وفي حدود 80 بليون متر مكعب في السنة مثله مثل تصرف النيل خلال معظم سنوات القرن العشرين. ومثل هذا الحجم من الفيضانات لابد وأنه كان يترك جزءا كبيرا من الأرض دون زراعة فلم تكن تعرف في تلك الأزمنة الطرق الحديثة لرفع المياه.
إخفاق النيل وعصر الإضمحلال الأول
انتهت فترة الهولوسين المطيرة في آخر أيام الأسرة الخامسة عندما قلت الأمطار في مصر إلى ما يقرب من مستواها الذي نعرفه اليوم. وقد حدثت منذ ذلك التاريخ تطورات مناخية أدت إلى تقلب كمية الأمطار في منطقة الساحل بين زيادة ونقصان مما أثر على منابع النيل، ولم يحدث أبدا أن عادت الأمطار بعد توقفها إلى إستمراريتها لزمن طويل كما حدث وقت الفترة المطيرة ذاتها. وبانتهاء فترة الهولوسين المطيرة قل متوسط تصرف النيل وأخذ يتأرجخ في حدود ما نعرفه اليوم.
ويبدو أن تأثير نهاية فترة الهولوسين المطيرة امتد من أفريقيا ومنطقة الساحل إلى منطقة الشرق الأوسط أيضا. فقد كان للجفاف أثره ايضا على حضارات هذه المنطقة، فعند نهاية الفترة أو بعد ذلك بقليل تفككت دولة الأكاديين كما تحطمت بعلبك ومدن كثيرة في سوريا وفلسطين، كما انتهى عصر البرونز القديم بكارثة في غرب الأناضول. ومن المرجخ أن يكون هذا السقوط مرتبطا بقلة الأمطار التي أثرة على اقتصاد هذه الحضارات.
أما في مصر فقد كان أثر توقف الأمطار واضحا، فقد بدأت الصحراء تجف وتأخذ شكلها الذي نعرفه الآن فذبلت فيها الحياة الحيوانية والنباتية التي كانت تعج بها وقت الفترة المطيرة – وقد أمكن التعرف على أنواع الحياة الحيوانية والنباتية في مصر في هذه الفترة من دراسة بقايا النباتات وعظام الحيوان التي حفظت في المستوطنات القديمة، وكذل من رسوم الحيوان والنبات الموجودة على الأواني والمشغولات العاجية القديمة أو جدران المعابد والمقابر في مصر القديمة. وقد تغير مجموعة الحيوانات التي كانت تعيش في مصر القديمة على مرحلتين، حدثت الأولى منها في عصر ما قبل الأسرات خلال إحدى فترات الجفاف التي كانت تتخلل الفترة المطيرة منها وفيها هلك العدد الأكبر من الفيلة والزراف وفي الفترة الثانية منها والتي حدثت في أعقاب نهاية فترة الهولوسين المطيرة في أواخر الأسرة الخامسة الفرعونية اختفى من مصر افيل والزراف تماما وكذلك وحيد القرن وغزال الجرونوك، كما هلك أثر الأسد والخروف البري، وهكذا انتهت من مصر مع نهاية الفترة المطيرة الكثير من حيوانات السفانا التي كانت تروم صحاريها حتى قرب نهاية الأسرة الخامسة الفرعونية وأنك لترى رسوم الكثير من هذه الحيوانات في مقابر الفراعنة وفي الشكل 2 – 16 المنقول من مقبرة بتاح حتب بسقارة (الأسرة الخامسة ) بعضا من هذه الحيوانات، وفي الرسم أيضا منظر لصيد الأسد وقد كانت رياضة محببة في ذلك العهد القديم وابتداء من الأسرة السادسة قلت مناظر الحيوانات على حوائط المقابر والمعابد كما اصبح الصيد محصورا في مناطق ذات أسوار. ولعل هذه هي أول محاولة في التاريخ لحفظ الحيوان في محميات. وفي مقبرة ميريكورا (الأسرة السادسة) منظر للصيد في إحدى هذه المحميات.
وقد أثرت نهاية فترة الهولوسين المطيرة في الحياة النباتية أيضا فتغير لاند سكيب الصحاري من مرج تنتثر فيها أشجار السنط والنبق والشجيرات العديدة إلى سهول قاحلة – وتوضح الرسوم المنقوشة على جدران مقابل الأسرة الخامسة (الشكل 2 -1 7) أشجار الجمير وغيرها التي كانت ترصع الصحراء في ذلك القوات. وقد قلت مثل هذه الرسوم بعد الأسرة الخامسة. وفي الصحراء اختفت رسوم الحيوان التي كان ينقشها سكانها على سفوح الجبال وقت أن كانت الأمطار أكثر شيوعا وقد اخترنا من عديد هذه النقوش التي تعرف في صحاري مصر مثالا واحدا من المجموعة الهائلة من هذه النقوش (الرسم 2 – 18) وهو يظهر صيادا في صحراء يانعة يطارد فيلا ووحيد قرن وماعزا بريا وغزالا صغيرا. وفي أسفل الرسم نعامة تخطو خطوة واسعة وتفرد جناحيها.
كما تأثرت مصر بنهاية أمطار فترة الهولوسين باستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين أو الغزاة من سكان الحصاري المجاورة الذين دفعم الجفاف إلى الجهرة من أوطانهم بغية الاستقرار في وادي النيل، وقد استقرو الكثيرون منهم بالفعل في الوادي وتسجل نقوش مقابر ومعابد الأسرتين الخامسة والسادسة أن الكثير من هؤلاء عملوا مرتزقة في جيش مصر.
أما أكبر أثر لنهاية فترة الهولوسين المطيرة فقد كان في التغير الذي حدث في تصرف النيل الذي أخذ يقل تدريجيا. وفي حوالي سنة 2200 ق.م.، وبعد قرابة 170 عاما من انتهاء الفترة المطيرة وعند نهاية الأسرة السادسة جاءت على مصر فترة امتدت لحوالي المائتي عام تقلب فيها النهر تقلبا شديدا وانخفض في أولها انخفاضا كبيرا لأكثر من خمسين سنة متعاقبة، وبعد ذلك بمائة وخمسية عاما انخفض النهر مرة أخرى لأكثر من اثنتي عشرة سنة متعاقبة. وعلى الرغم من أنه لا توجد قياسات للنيل عن سنوات هذه الفترة، إلا أن حالة الفوضى الشاملة التي آلت إليها مصر خلالها تشير إلى أن القاعدة الاقتصادية لمصر لابد وأن تكون قد تحطمت نتيجة السنوات المتعاقبة من اخفاق النيل في ري الأراضي، وفي الحقيقة فإن شبح المجاعة كان مخيما على مصر منذ نهاية أمطار فترة الهولوسين، ففي أواخر أيام الأسرة الخامسة نجد ولأول مرة رسوما لجوعى يبدو الهزال عليهم على جوانب ممر هرم أوناس (الشكل 2- 19).
كان سقوط الدولة القديمة في سنة 2200 ق.م. مفاجأة ودون مقدمات ، فحتى نهاية حكم الأسرة السادسة كانت مصر تشكل مجتمعا مستقرا ومنضبطا مشغولا بأعمال الحضارة والعمران، وبسقوطها تفككت الدولة والسلطة المركزية ودخلت مصر عصر اضمحلال يسميه علماء المصريات عصر الاضمحلال الأول وقد كان في حقيقته عصرا مظلما. ونحن نرجع هذا السقوط المفاجئ إلى انخفاض النيل لسنوات متعاقبة. فقد أدى ذلك الانخفاض الى تحطيم قاعدة البلاد الاقتصادية والى اطلاق قوى لم تستطع السطلة المركزية استيعابها. وهناك من المؤلفين من يعزو تفكك الدولة خلال عصر الاضمحلال إلى اقلال السلطة المركزية من قبضتها على حكام المقاطعات خلال حكم الأسرة السادسة كما يتضح من مظاهر الاستقلال التي كان يظهرها هؤلاء الأمراء ولكن سقوط الحكم المركزي كلية وعلى الشكل الذي انتهت إليه الدولة من التفكك التام لا يمكن أن يعود إلا إلى كارثة قومية على نطاق عظيم.
أما الفترة الثانية لانخفاض النيل فقد حدثت في أواخر حكم الأسرة الثانية عشرة في منتصف فترة حكم الملك منتوحتب الثالث وقد استمرت لحوالي إثنتي عشرة سنة متتالية.
وهناك نصوص كثيرة يعود تاريخها إلى عصر الاضمحلال الأول تشير إلى المجاعات التي حدثت في مصر خلال هاتين الفترتين وقد جمع هذه النصوص وعلق عليها الكثير من الباحثين.ومن أ÷م هذه النصوص ما نقشه أنخ تيفي أمير مقاطعة هيراكونبوليس (الكوم الأحمر) وإدفو على جدران مقبرته في المعلال (30 كيلومتر إلى الجنوب من الأقصر)، يسجل فيها أحداث مجاعة وقعت في أول سني انخفاض النيل في الفترة الأولى . يقول النص "مصر العليا كلها تموت من الجوع لدرجة أن الكثيرين اضطروا لأكل أطفالهم ، ولكني تمكنت من أن لايموت من الجوع أحد في إمارتي. وقد أقرضت مصر العليا قمحا .. كما أبقيت على بيت الفانتين (أسوان حاليا) سليما خلال هذه السنوات بعد أن أشبعت حاجة مدن حفات (المعلا حاليا) ولكني لم أسمح لسكن إمارتي بالذهاب إلى إمارة أخرى".
وهذا واحد من نصين عرفا في التاريخ المصري القديم فيهما ذكر لأكل لحوم البشر وهو أمر كثيرا ما لجأ إليه الناس في مصر في أوقات المجاعة في العصور الوسطى.
وفي نصين آخرين من الفترة نفسها قا خيتي حاكم أسيوط "هذا وقت لا يرى أحد فيه الماء" "والأرض فيه عالية كالجسر (لا يطولها الماء)" وقال نهيري أنه "حفظ (أطعم) بلدة" في سنى النيل الواطئ وأعطاها عندا "لم يكن بها شئ" ومديد المساعدة إليها "دون تمييز بين الكبير والصغير".
ويأتي ذكر الزوابع الرملية وتكوم الرمال في عدد كبير من نصوص هذه الفترة مما قد يؤخذ دليلا على زيادة الجفاف وابتداء تكوين الكثبان الرملية على جانبي وادي النيل وخاصة على الجانب الغربي، وفي الأوقات العادية يصعب تكوين الكثبان الرملية على ضفاف النيل ذلك لأن الرمال التي يذروها الرياح خلال زابع الشتاء تنجرف وتزاع إلى البحر عندما يجئ الفيضان في الصيف، وفي السنوات التي يكون فيها الفيضان واطئا كما كان الحال في هذه الفترة فإن الفيضان لا يطول مكان الرمال فتبقى في مكانها عاما بعد عام فتتسع على حساب الأرض الزراعية. ويبدو أن هذا هو الذي حدث في تلك الفترةن ففيها تكونت الخفوج الرملية التي تغطي اليوم جزءا كبيرا من الأرض الزراعية غرب النيل في عروضه الوسطى (الشكل 1 – 23). وقد تثبتت كثبان الخفوج الرملية الآن وتغطت بطبقة رفيعة من طمي النيل التي ربما تكون قد ترسبت فوقها وقت الفيضانات العالية قدميا بين سنة 500 قبل الميلاد و 300 قبل الميلاد.
وتمتلئ نصوص الفترة الثانية التي امتدت من سنة 2002 إلى سنة 1990 ق.م. بكلام عن اخفاق المحاصيل وانخفاض النيل واشتداد الجفاف وكثرة الزوابع الرملية وبالاختصار عن صعوبة العيش وضيقة.
ويقول هاك نخت الذي عاش في آخر أيام حكم الملك منتوحتب الثالث على الأرجح في خطاب إلى عائلته "أ،ه من الأفضل أن نعيش نصف حياة عن أن نموت" "لقد بدأ السكان يأكلون الناس " وهذا هو النص الثاني في مصر القديمة الذي يذكر فيه حالة آكل لحوم البشر.
وتعتبر نبوء نفرتي واحدة من الصوص الهامة للفترة الغامضة والمضطربة التي تمتد من منتصف الأسرة الحادية عشرة إلى أوائل الأسرة الثانية عشرة والتي كتبت في عصر الملك أمينمحات الأولى (1991 – 1962 ق.م.) وفيها يذكر الكاتب أن "الأرض السوداء تختفي وترب وأن الشمس قد غطتها الزوابع (وربما قصد الكاتب من هذا الكلام أن الرمال بدأت تزحف على الأراضي الزراعية).
كما يذكر أن "نهر مصر قد فرغ والناس تعبره بأقدامها" وكذلك "الناس تبحث عن الماء في المكان الذي كانت تمخر عبابه بالمراكب" (وربما قصد هنا أن النيل بدأ في تغيير مجراه إلى أماكن جديدة مع قلة المياه التي كانت تصله).
ومن نصوص هذه الفترة المثيرة للاهتمام النص الذائع الصيت الذي كتبه الحكيم أبوير (وهو الآن محفوظ بمدينة ليدن الهولندية) والذي يصف فيه حال الفوضى التي عمت مصر وقت الاضمحلال الأول وروح الثورة والغضب التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ففي هذه الفترة حسب نص أبوير انقلب الحال "فمن لم يكن يلمك شيئا أصبح ثريا وسعيدا وكل البلاد أصبحت تنادي بقمع القوى فيها" كما أن الجزء الأكبر من النص مرثاة للحال الذي وصلت غليه مصر "إن سكان الدليت يحملون الدروع .. ورجال قبائل الصحراء اصبحوا مصريين وفي كل مكان .. والسلب والنهب يعم البلاد .. والفقير يأخذ ما يجده في طريقه .. صحيح أن النهر يجري ولكن أحدا لا يزرع وكل واحد يقول "ماذا سيحدث في الغد" وعلى الرغم من أنه لا يعرف بالضبط تاريخ هذا النص إلا أن الحالة التي يصفها تجعل الكثيريون يعتقدون أنه كتب خلال فترة الإضمحلال الأولى.
النيل وقت الدولة الوسطى وعصر الفيضانات العالية (1840 - 1770م)
تميز عصر الأسرة الثانية عشر التي أسسها أمنمحعت الأول في حوالي سنة 1991 ق.م. بالرخاء والاستقرارا وبعودة هيبة الحكومة المركزية . ولا يوجد في نصوص هذه الفترة أي ذكر للمجاعة. فباستثناء حوالي 90 سنة كان النيل فيها أعلى من متوسطه كان النيل معطاء وحسنا. ولدينا الآن تسجيل لارتفاع هذا النيل "الحسن والمعطاء" قيس في أيام حكم الملك سنوسرت الأول (1997- 1928 ق.م) وفيه ارتفع النيل إلى 21.5 ذراعا (11.3 مترا) في جزيرة الفانتين (أسوان) و12.5 ذراعات (6.6 مترا) في "بيت الفيضان" في منصف (جنوب القاهرة) و6.5 ذراعات (3.4 مترا ) في ديوسبوليس (تل البلامون) بشمال الدلتا. ويمكن مقارنة هذه القياسات ، بنظائرها المقاسة على مقاييس النيل الحديثة فقد سجلت جميعها ارتفاع النيل وقت الفيضان فوق المنسوب الأدنى للنهر، ويصعب التوفيق بين الرقمين المعطيين لارتفاع فيضان سنوسرت الأول الحسن في كل من القاهرة وأسوان. وربما كان ذلك نتيجة نقطة الصفر في أحد المقياسين أو في كليهما كانت مختلفة عن نقطة الصفر في المقياسيين الحديثين. ففي الوقت الذي يتطابق فيه متوسط ارتفاع الفيضان في القاهرة في القرن التاسع عشر (1870 -1899) مع ارتفاع فيضان سنوسرت الأول، يختلف ارتفاع فيضان سنوسرت الأول في أسوان (والبالغ 11.3 مترا) اختلافا كبيرا عن متوسط ارتفاع فيضانات القرن التاسع عشر (والبالغة 8.2 مترا في السنوات 1870 – 1899) ويعني هذا أن هناك ما يزيد على ثلاثة أمتار بين الارتفاعين في أسوان.
وفي الحقيق فإنه ينبغي إعادة حساب فيضان سنوسرت الأول في القاهرة لكي يؤخذ في الاعتبار أثر انخفاض منسوب النيل إلى الشمال من الفيوم نتيجة تحويل مياه الفيضان إلى منخفض الفيوم الذي أصبح خزانا وقت الدولة الوسطى. ويقدر الخفض في منسوب النيل الذي ينتج عن هذا التحويل بحوالي المتر. فإذا أضفنا هذا المتر إلى فيضان سنوسرت الأول لأصبح منسوبه حوالي 7.6 متر. وأقرب فيضانات القرن التاسع عشر إلى هذا الفيضان هو فيضان سنة 1887 الذي سجل ارتفاع بلغ 7.55 متر على مقياس الروضة وتصرفا حوالي 119 بليون متر مكعب.
واذا نحن قبلنا أن نقطتي الصفر في مقياسي النيل (في منطقة القاهرة) وقت الدولة الوسطى وفي العصر الحديث كانت واحدة، فإنه يمكن مقارنة فيضان سنوسرت الأول "الحسن" بفيضان سنة 1887 ميلادية، وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون ارتفاع فيضان سنوسرت الأول في أسوان مطابقا لارتفاع سنة 1887 ميلادية ولكن الحقيقة أن ارتفاع الفيضانين كان مختلفا، فقد بلغ ارتفاع فيضان سنة 1887 ميلادية 8.85 متر في مقياس أسوان في الوقت الذي بلغ فيه ارتفاع فيضان سنوسرت الأول 11.3 متر، أي بارتفاع يزيد عن ارتفاع فيضان سنة 1887 ميلادية بحوالي المترين والنصف، وليس أمانا والحال كذلك إلا أن نفترض أن نقطة الصفر في مقياس أسوان كانت أوطى وقت سنوسرت الأول عنها في المقياس الحديث. ومن الممكن أن يكون خفض نقطة الصفر قد حدث خلال عصر الاضمحلال الأول في فترة هبوط النيل. ويبدو أن اعادة تدريج المقياس كانت ممكنة في منطقة أسوان الصخرية وصعبة في المقاييس إلى الشمال والتي تقع في مناطق كونتها رواسب النهر الطينية.
ويعتبر الفيضان البالغ 120 بليونا من الأمتار المكعبة فيضانا حسنا بالفعل، فمثل هذا الفيضان يضيف أرضا واسعة للزراعة. وقد استمرت هذه الفيضانات الحسنة بعد حكم سنوسرت الأول وخلفائه وحتى سنة 1840 ق.م. تمتعت مصر فيها بالرخاء والاستقرار وأمنت حدودها الجنوبية وسيطرت على النوبة حتى الشلال الرابع.
ومن تسجيلات الفيضانات التي تثير الاهتمام في تلك الفترة التي نقضت على صخور جرف منطقة سمتة والتي تبين منسوب النيل في بعض سنوات فترة التسعين سنة بين سنة 1840 وسنة 1770 ق.م. (الشكل 2-20). وبالجرف ما لا يقل عن سبع وعشرين علامة تبين أن الفيضانات في السنوات التي سجلت فيها كانت على منسوب يزيد عن متوسط منسوب الفيضان في القرن التاسع عشر الميلادي بحوالي ما بين ثمانية إلى عشرة أمتار.
وقبل أن تغرف النوبة تحت مياه بحيرة ناصر بعد بناء السد العالي،كان جزء النيل الذي يمتد لحوالي 200 كيلو متر فيما بين وادي حلف وإلى حوالي 14 كيلو متر إلى الجنوب من سنة موحشا (الشكل 2-21)وكان هذا الجزء هو موقع الشلال الثاني الذي كانت تعترض مجراه صخور نارية صلبة على شكل سدود وجزر مما كان يجعل الملاحة فيه صعبة وخطرة حقا. وقد رأت هذه المنطقة أهوال محاولة عبورها خلال حملة السودانالمصرية وحرب المهدي خلال القرن التاسع عشر. وأعظم جنادل الشلال الثاني وأخطرها هو جندل سمنة الذي يقع على بعد 137 كيلو متر إلى الجنوب من وادي حلفا ويعترضالنهر عند سمنة سد من صخور الجرانيت يدفع الماء للجريان في مجرى ضيق واحد في وقت التحاريق (الشكل 2-21) ، ويحد الجندل جرفان شديدا الانحدار تقع على قمتهما قلعة سمنة (التي تقع على قمة الجرف الغربي) وكوما (التي تقع على قمة الجرف الشرقي) واللتان بنيا أثناء حكم الأسرة الثانية عشر لكي توكنا بوابتين لحراسة مدخل مصر الجنوبي ونقطتين لمراقبة طرق القوافل ، وكان طريق قوافل الغرب بقلعة سمنة ذاتها (الشكل 2-22).
وقد أثار تفسير هذه العلامات المنقوشة على صخور جرفي منطقة سمنة والتي كانت قد سجلها لأول مرة لسبيوس عالم المصريات الشهير في سنة 1853 ميلادية مناقشات كثيرة اذ لم يرد أي ذكر لهذه الفيضانات العالية في نصوص الدولة الوسطى. وعلى الرغم من ذلك فمن الباحثين من قبل هذه المناسيب على علاتها وأرجعها إلى أن النهر كان عاليا بالفعل وأن تصرفه كان كبيرا. ومنهم من رأى أن هذه المناسيب العالية لا تعود إلى كبر تصرف النهر وقت المملكة المتوسطة وانما تعود إلى أن مجرى النهر وقت تسجيل منسوب هذه الفيضانات كان مرتفعا مما كان يرفع منسوب الفيضان. وقد انخفض المجرى بحوالي ثمانية أمتار منذ ذلك الوقت بعوامل التحات والنحر، ومن الصعب قبول مثل هذا التعليل لارتفاع منسوب الفيضان في ذلك الزمان القديم، إذ يبدو أنه لم يحدث تغير كبير في عمق المجرى منذ انشاء القلعتين أيام الدولة الوسطى. فسلالمهما تصل إلى ما يقرب من مسنوب الماء الواطئ في القرن التاسع عشر الميلادي، كما أن جميع القلاع التي بنيت في هذه المنطقة وقت الدولة الحديثة بنيت فوق متوسط منسوب فيضان القرن التاسع عشر الميلادي بأمتار قليلة مما يقطع بأن مجر النيل في الدولة الحديثة كان قريبا جدا من مجراه الحديث، فاذا كان الأمر كذلك فإن أي انخفاض في مجرى النيل إن كان قد حدث فلابد وأنه حدث في الفترة القصيرة التي تمتد من الدولة المتوسطة إلى الدولة الحديثة في مصر القديمة. ومن الصعب أن يقبل المرء معدل تحات يخفض مجرى النهر لأكثر من ثمانية أمتار في هذه الفترة القصيرة.
ومن الباحثين من افترض أن هذه المناسيب العالية كانت نتيجة سلسلة من السدود التي أقامها فراعنة ذلك العصر في منطقة النوبة لتحسين الملاحة فيها مما رفع من مناسيب المياه خلفها.ولا يوجد دليل يشير إلى أن الفراعنة قد قاموا بمثل هذا لاعمل الكبير وان كانت هناك أدلة تثبت أنهم وضعوا بعض الأحجار في مجرى النهر بالنوبة في محاولة لتهذيب مجراه أو في محاولة لبناء سد لإحاطة منطقة معينة بغرض تفريغها لبناء معبد علهيا كما حدث في حالة معبد جرف حسين الذي بني في منطقةالنوبة وقت رمسيس الثاني من فراعنة الدولة الحديثة.
وليس أمامنا والأمر كذلك إلى قبول مناسيب سمنة على أنها مناسيب فيضان النهر فعلا. وفي هذه الحالة فلابد أن تصرف النهر كان عاليا في الفترة بين سنة 1840 وسنة 1770 ق.م. وتقدير هذا التصرف أمر بالغ الصعوبة، فليست لدينا المعلومات الأساسية التي تجعل من الممكن مقارنة تصرف النيل في هذه السنوات مع تصرف النيل الحديث في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين الميلادي، اذ تنقصنا معرفة مناسيب النهر في سمنة في العصر الحديث كما أن البيانات تنقصنا لبناء مقاطع عرضية دقيقة لمجرى النهر الضيق والمحدد بجرفين عاليين عند منطقة سمنة ،والذي يتسبب في رفع منسوب الماء فيه إلى ارتفاع يزيد كثيرا عنه عندما ينفرج مجرى النهر ويتسع. ولذلك فإنه عندما يرتفع النيل في سمنة خلال الدولة الوسطى ثمانية أمتار فوق منسوب فيضان سنة 1902 ميلادية، فإنه يرتفع بحوالي 4.3 متر فقط فوق منسوب تلك السنة في أسوان، ولما كان منسوب تلك الفترة في أسوان هو 6.7 متر فلابد أن منسوب الفيضان خلال أيام الدولة الوسطى كان في حدود 11 مترا. وهذا الارتفاع أعلى من ارتفاع النيل "الحسن" وقت سنوسرت الأول (والذي ساويناه بفيضان سنة 1887 ميلادية) بحوالي 2.15 متر، وأعلى من أعلى منسوب بلغه النيل في عصره الحديث في سنة 1878 بحوالي 1.85 متر.
ومثل هذا الارتفاع يجعل تصرف النهر في فترة الفيضانات العالية وقت الدولة الوسطى في حدود 180 بليون متر مكعب في السنة بزيادة قدرها 130% عن تصرف عام 1878 الذي بلغ 140 بليون متر مكعب.
وتثير هذه الكمية الهائلة التي حملها النهر في ذلك التاريخ البعدي مسألتين هامتين؛ تتعلق الأولى منهما بقدرة مصر على العيش مع هذه الفيضانات العالية بل الاستفادة منها اذ يبدو أنها لم تتسبب في آية كوارث كتلك التي حدثت لمصر خلال فيضانات القرنين التاسع عشر والعشرين العالية والتي لم تصل أبدا إلى ارتفاعات فيضانات الدولة الوسطى. ويبدو أن مهندسي الدولة الوسطى في مصر القديمة استطاعوا أن يوسعوا رقعة الأرض الزراعية وأن يبنوا مبانيهم على الجسور العالية فوق منسوب مياه الفيضان،وأن يحولوا منخفض الفيوم إلى مفيض يحولون فيه مياه النيل لحماية أراضي الدلتا.
أما المسألة الثانية فتتعلق بايجاد تفسير لهذه الفيضانات العالية، فالنيل العالي برجيمه المائي وطوبوغرافيته لا يستطيع أن يحمل مثل هذه الكميات الهائلة من الماء. ولذلك فلابد وأن هذه الفيضانات العالية كانت نتيجة تغير كامل في نمط المناخ وعودة إلى النظام القديم الذي كان سائدا وقت فترة الهولوسين المطيرة. فمن غير الممكن أن يكون الماء الكثير الذي جاء إلى مصر في سنوات الفيضان العالية وقت الدولة الوسطى نتيجة ازدياد تصرف النيل الأزرق، فللنهر عند ملتقاه بالنيل سعة معينة يحددها مقطعه وتضاريس المنطقة لا يستطيع بعدها أن ينقل الماء، وفي كل فيضان عالي حديث كان النيل الأزرق يفيض خلال فيضاني سنة 146 وسنة 1954 العاليين اللذين كانا يرصدان في مصر بفزع شديد. كما حدث الشئ نفسه بعد فيضان سنة 1988 العالي اذ فاض ما زاد من المياه على جانبي النهر حتى كادت أن تغرق مدينة الخرطوم ذاتها.
ولابد أن مياه هذه الفيضانات العالية قد جاءت من مصادر أخرى غير مصادره الحديثة، أضافها النهر إلى حوضه عندما تقدمت جبهة الأمطار الموسمية إلى الشمال فسببت زيادة مياه نهر العطبرة وتنشيط عدد كبير من وديان الحصراء الجافة بشمال السودان والنوبة وصحراء مصر الشرقية. واذا بحثنا في مصدر مياه سنوات الفيضان العالي خلال المائة وعشرين سنة الماضية لوجدنا أنها كانت بسبب زيادة كمية المياه التي يحملها نهر العطبرة، أو بسبب استمرار موسم الفيضان لمدة أطول من مدته العادية بحيث يبقى حتى بعد عيد الصليب (27 سبتمبر) كما كان المؤرخون الأقدمون وعلى الأخص الجبرتي يقولون. وفي الحالة الثانية يسبب بقاء الماء في الاحواض لمدة طويلة ضررا شديدا بالزراعة ويؤخر البذر والنضج والحصاد وتكون نتيجته سنة بلاء كبير، ولما كانت فيضانات الدولة الوسطى القديمة من الفيضانات الحسنة التي سببت رخاء البلادء، فلابد وأنها كانت نتيجة زيادة تصرف العطبرة بل وزيادة في الماء الذي كان يصل النيل من الوديان الجافة التي نشطت في هذه الفترة من غرب السودان وشرق شمال السودان وجنوب مصر نفسها.
ويلاحظ أن سنوات الفيضانات العالية في العصر الحديث كانت هي السنوات نفسها التي زاد فيها معدل الأمطار في النوبة وتوجد بالنوبة في الوقت الحاضر ثلاث محطات للأرضاد: في أبو حمد (خط عرض 32 19° شمالا وطول 20 33° شرقا) بلغ معدل سقوط الأمطار فيها 13.5 و 31 و 90 ملليمتر على التوالي في السنة في سنوات النصف الأول من القرن العشرين. وقد زادت الأمطار إلى ثلاثة أمثال هذه المعدلات في أعوام 1946، 1954، 161ـ و1964 وكلها أعوام ذات فيضانات عالية. ويبدو أن الفيضانات العالية في العصر القديم حدثت للسبب نفسه، فقد جاء في نص من عهد الملك طهرقا أنه في السنة السادسة من حكم الملك (سنة 683 ق.م.) والتي كان فيضانها عاليا كما سيجئ ذكره بالتفصيل فيما بعد، فإن "سماء النوبة أبرقت وغرقت بالمياه".
ويبدو أن توزيع المطر في سنة 1988 والذي تسبب في الفيضان العالي في هذه السنة ، كام مماثلا لما ساد منابع النيل في عصر الدولة الوسطى القديمة. فقد ازدادت الأمطار في منطقة البحر الأحمر وبلاد العرب وشمال أثيوبيا نتيجة غزو الهواء الرطب لهذه المناطق، وكان لازدياد الأمطار عند مناعب النيل الأزرق والعطبرة أثر في زيادة تصرفهما وكذلك في تنشيط عدد من الأودية الجافة في منطقة شمال السودان. وقد بلغ متسوط الأمطار في مدينة الخرطوم في سنة 1988 200 مم، كما كانت هناك أمطار غزيرة إلى الشرق والغرب من النيل فيما بين الخرطوم وأبو حمد.
إخفاق النيل وتدهور الإقتصاد
الأسرات 20 و 21 (1200 – 945م)
لا توجد سجلات تذكر عن النيل في الفترة التي تمتد من وقت وفاة الملك أمنمحعت الثالث في سنة 1797 ق.م. حتى ارتقاء الأسرة العشرين للحكم في سنة 1200 ق.م. وفي أول هذه الفترة سقطت مصر في هوة الفقر والفوضى لمدة مائتي سنة وفي هذه الفترة غزا الهكسوس أرض مصر وأسسو الأسرة الخامسة عشرة واستولوا على العاصمة منف في سنة 1674 ق.م. وظلوا فهيا حتى سنة 1570 ق.م.
وتعرف هذه الفترة بعصر الاضمحلال الثاني، وهي من أكثر فترات تاريخ مصر غموضا، ولا توجد منها آثار أو نصوص كثيرة يمكن أن تعطينا صورة كاملة عن أحوال مصر عامة أو أحوال النيل خاصة. ولا يوجد نص مكتوب يذكر وقوع أية مجاعة في هذه الفترة فيما عدا نص واحد اكتشف في مدينة الكاب شمال إدفو كتب حوالي سنة 1740 ق.م. ولما كانت هذه هي المجاعة الوحيدة المذكورة في هذه الفترة التي يظن أن يوسف الصديق عليه السلام أقام فيها في مصر، فلدي انطباع بأنها ربما كانت هي المجاعة الشهيرة التي جاء ذكرها في الكتب السماوية وفيها أن مصر مرت بسبع سنوات عجاف أفقرت المصريين واضطرتهم إلى بيع أراضيهم وماشيتهم بل وأجسامهم حتى يعيشوا.
ويبدو أن النيل عاد إلى الارتفاع الكبير الذي رأيناه في عصر الدولة الوسطى وقت حكم الملك سوبك حتب ثمان ملوك الأسرة الثالثة عشرة (1703 – 1635 ق.م.) ويسجل نص من عصر هذا الملك ارتفاع زائدا للنيل. ويروي النص أن الملك اضطر إلى أن يخوض في المياه التي أغرقت معبد الكرنك عند زيارته له. ويبلغ ارتفاع أرضية المعبد في الوقت الحاضر 74.25 مترا فوق سطح البحر وتبلغ ارتفاع سطح الأرض حوله 77 مترا. ولما كان منسوب الارض في الأقصر قد ارتفع بما يقدر بخمس أمتار منذ وقت الملك سوبك حتب نتيجة تراكم رواسب النهر عاما بعد عام خلال هذه الفترة بمعدل 1.43 مترا لكل ألف سنة. فإن منسوب أرض المدينة وقت حكم الملك سوبك حتب لابد وأنه كان 72 متر فوق سطح البحر (الشكل 23-2). فاذا افترضنا أن منسوب الماء والواطئ وقت حكم هذا الملك كان 63.7 متر (أي خمسة أمتار أقل من منسوبه الحالي) فلابد وأن كان ارتفاع الفيضان وقت زيارة الملك للمعبد حين فاض فوق أرضيته في حدود 10.8 متر، ومثل هذا الارتفاع يزيد عن ارتفاع فيضان سنة 1878 العالي بمقدار 1.7 متر ويماثل الفيضانات العالية للدولة الوسطى مما يجعلنا نقدر تصرف النهر في ذلك الوقت بحوالي 180 بليون متر مكعب (أي أنه أكثر حوالي 130% عن حجم فيضان سنة 1878 ميلادية) 0 وارتفاع الماء في أحواض الزراعة حوالي 2.5 متر أي أقل قليلا من ارتفاع الماء في أحواض منف وقت الأسرة الأولى.
ويبدو أن الفيضانات كانت طبيعية إن لم تكن أعلى من مثيلاتها في العصر الحديث في الفترة التي امتدت لثلاثمائة وثلاثين سنة بين وقت ظهور الدولة الحديثة وحتى آخر سنوات حكم الملك رمسيس الثاين (1570 – 1240 ق.م.)، ففي وقت حكم هذا الملك كان منسوب الفيضان في النوبة أعلى من متوسط منسوبه في العصر الحديث بحوالي المتر.
ولم يستمر هذا الحال طويلا فقد انخفض النيل بعد هذه الفترة ولمدة مائتين وخمسة وخمسين سنة خلال حكم الأسرتين العشرين والحادية والعشرين بين سنة 1200 وسنة 945 ق.م. وكانت هذه الفترة عسر انحطاط وعجز مظلما حقا في تاريخ مصر القديمة وقعت فيه حربان أهليتان على الأقل حوالي سنة 1139 ق.م. وسنة 1089 ق.م. وقد نتج عن الحرب الأهلية الثانية تقسيم مصر إلى قسمين حكم قسمها الجنوبي من طيبة الكاهن الأعم حريحور وحكم قسمها الشمالي من تانيس (صان الحجر) الكاهن سي مندس.
ومن مظاهر انخفاض النيل خلال هذه الفترة الهجرة من منطقة النوبة والتخلي عن الزراعة فيها منذ أواخر حكم الملك رمسيس الثاني لزحف الكثبان الرملية وظهور رواسب ملحية سميكة في تربتها. ومن مظاهر هذا الانخفضا أيضا إطماء الفرع البيلوزي من فورع الدلتا ونقل عاصمة الاقليم أفاريس (تل الضبعة) التي كانت تقع عليه إلى تانيس التي تقع على الفرع التانيتي حوالي سنة 1200 ق.م.
وفي عصر حكم الملك رمسيس الثاني اضطرب الأمن في البلاد وسادت فيها القلاقل، ففي عصر هذا الملك بنيت أسوار حول صوامع غلال مدينة هابو لأول مرة لكثرة ما تعرضت له من السطو والنهب على الرغم من أنها كانت ذات قدسية خاصة ، كما تغيرت وظيفة هذه الصوامع من مكان عام تخزن فيه الغلال لإعادة توزيعها على السكان إلى مكان أصضبح يدار للربح ولصالح شخص واحد أو لصالح مجموعة صغيرة منتقاة. وفي عصر هذا الفرعون تظاهر العمال احتجاجات على تأخر وصول تموينهم وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر أمشير في السنة التاسعة والعشرين من حكم الملك كما جاء في أحد النصوص المنقوشة على المقابر. وهناك نصوص أخرى تشير إلى حدوث ست اضطرابات في السنوات الخميس التالية. وبالاضافة إلى ذلك فقد تميزت هذه الفترة بظاهرة التضخم النقدي والغلاء فارتفاعت أسعار الحبوب بعد سنة 1170 ق.م. إلى ثماني مرات ثم إلى أربعة وعشرين ضعفا في اقل من عشرين سنة بعد ذلك.
الأسرات الثانية والعشرين إلى السادسة والعشرين (45 – 525 ق.م.)
اهتم الكثير من الباحثين بدارسة مناسيب النيل التي نقشت على رصيف معبد الكرنك خلال حكم الأسرات الثانية والعشرين إلى السادسة والعشرين.
وقد نقش على المقياس 45 منسوبا تغطي الفترة الليبية بأكملها من وقت شوشنق الأول حتى وقت بسماتيك الأول. ويقع المقياس (الشكل 2-24) في آخر طريق الكباس على رصيف المعبد ويمكن رؤيته الآن بأسفل الممر الذي يؤدي إلى المدخل الرئيسي للمعبد في الوقت الحاضر. وارتفاع نقطة الصفر على المقياس 64 مترا فوق سطح البحر ارتفاع أعلى منسوب نقش عليه وهو منسوب السنة السادسة لحكم الملك طهرقا 11.1 متر فوق نقطة الصفر للمقياس، ومثل هذا الارتفاع لابد وأنه كان عاليا فقد كان مرتفعا عن أرضية قاعدة الأعمدة الكبرى بمعبد الكرنك بحوالي 84 سنتيمترا (انظر الشكل 2-23) ، كما أنه كان أعلى من فيضان سنة 1878 ميلادية العالي بحوالي اتلمترين، مما يؤكد أنه فيضان تلك السنة من حكم الملك طهرقا كان عاليا جدا لا يقل عن الفيضانات العالية للدولة الوسطى، كما كان تصرف النهر آنئذ في حدود 180 بليون متر مكعب في السنة وارتفاع مياه الفيضان في أحواض الزراعة حوالي 2.1 متر.
وتتراوح المناسيب المنقوشة على مقياس الكرنك بين 11.1 متر (السنة السادسة لحكم الملك طهرقا) إلى 9.32 متر (سنة ؟؟ سي مندس) وهي أوطى سنة على المقياس ومع ذلك كان فيضانها أعلى من متوسط فيضانات مصر الحديثة، ويمكن أن نصف الفترة كلها لذلك بأنها كانت فترة فيضانات عالية. ومن الملاحظ أن السنوات التي نقشت أمام منسوبها أنها كانت "جالبة للسرور" هي السنوات التي بلغ متوسط ارتفاع فيضانها 10.6 متر أي أعلى من فيضان سنة 1878 ميلادية بحوالي المتر والنصف.
النيل بين سنة 525 ق.م وسنة 600 ميلادية
وتوجد سجلات قليلة عن ارتفاع النيل خلال فترة الألف عام التي تلت حكم الأسرة السادسة والعشرين وحتى دخول العرب مصر في منتصف القرن السابع الميلادي. ويمكن القول بصفة عامة أن النيل فيها كان عاديا وحسنا طوال هذه الفترة فيما عدا سني القرن السادس الميلادي وأوائل القرن السابع الميلادي، وقد وصف هيرودوت (حوالي 450 ق.م.) مصر خلال الفيضان بأنها كالبحر، كما أن الزراعة في مصر أثناء معظم العصر اليوناني الروماني كانت طيبة باستثناء فترة قصيرة أدت إلى قلاقل اجتماعية خلال حكم الملك بطليموس الثالث (241 – 221 ق.م.). ويمكن أن نستنتج من بدرية من العصر اليوناني الروماني نشرت حديثا أن فيضانا واطئا جدا لابد وأن حدث في سنة 99 ميلادية.
ويذكر بليني الأب في كتابه "التاريخ الطبيعي" أن أوطى منسوب للفيضان سجل في وقته في مقياس أسوان كان خمسة أذرع في سنة 48 ق.م. وأن أعلى منسوب كان 18 ذراعا في سنة 45 ميلادية. ولم سجل مقياس أسوان الجديد هذا الفرق الكبير بين أوطى المناسيب (فيضان سنة 1913) وأعلى المناسيب (فيضان سنة 1878) فقد بلغ فيضان سنة 1913 5.22 متر (أي 9.66 ذراعا) وفيضان سنة 1878 بلغ 9.85 متر (أي 18.25 ذراعا) على المقياس، كما أن من الصعب مقارنة مناسيب الفيضانات التي يذكرها بليني من أحد مقاييس الفانتين (أسوان) وهي السنة 25 من حكم اغسطس (5 ق.م.) 24 ذراعا و4 كفا وأصبعا واحدا، السنة 13 من حكم الملك نيرو (67 ميلادية) 34 ذراعا و6 كفا وأصبعا واحدا، السنة 10 من حكم دوميتيان (91 ميلادية) 24 ذراعا و4 كفا، والسنة 14 من حكم تراجان (111 ميلادية) 25 ذراعا. فهذه القراءات كبيرة جدا وهي أعلى من أعلى نقطة في مقياس أسوان الحديثة بثلاثة أمتار. فمقياس أسوان الحديث مقسم إلى 18 ذراعا فقط كل ذراع طوله 54 سنتيمترا، ونقطة الصفر فيه على ارتفاع 84.12 متر فوق سطح البحر. ومن الجائز أن هذه القراءات أخذت على مقياس خفضت فيه نقطة الصفر ، ولكن حتى لو افترضنا أن هذه النقطة خضفت بالقدر الذي افترضناه في مقياس الدولة الوسطى فإن فيضانات هذه الفترة تظل عالية جدا وفي حدود أكثر من المتر والنصف عن الفيضانات الحديثة العالية.
ولابد أن الأمطار كانت أكثر ترددا في العصر اليوناني الروماني فقد كانت الصحراء تعج بالحركة والطرق مليئة بالقوافل كما كان تعدين الذهب والزمرد وقطع الأحجار بها نشيطا.
وكانت تجارة الهند تعبر صحراء مصر الشرقية إلى ميناء برنيس الواقعة على البحر الأحمر أمام مدينة أسوان، والتي أصبحت ميناء التجارة الأول على البحر الأحمر بعد أن انتقلت إليها معظم تجارة القصير (التي تقع على ساحل البحر الأحمر أمام مدينة قوص)، والتي كان يصعب الوصول إليها لغلبة الرياح الشمالية التي كانت تجعل الملاحة في شمال البحر الأحمر صعبة، وكذلك بعد ان اكتشف الملاحون أهمية الرياح الموسمية في دفع السفن في رحلاتها إلى الهند. وقد امتلأت طرق الحصراء بمحطات للمراقبة والحراسة وتزويد القوافل بالمياه. ومما قد يؤكد اعتدال المناخ ورطوبته أن طريق برنيس – إدفو قد استخدم لكي تساق فيه الفيلة التي كانت تستورد من الهند وساحل السودان لاستخدامها في الحرب.
وكان الساحل الشمالي لمصر غرب الاسكندرية والذي كان مهجورا حتى وقت قريب مليئا بالمدن حتى برقة، كما كان به الكثيرمن الكروم والمزارع التي تروى من خزانات نقرت في الصخر. وكانت بلدة بومينا بكاتدرائيتها العظيمة التي بنيت في عصر الإمبراطور أركاديوس حوالي سنة 400 ميلادية مزدهرة ولم تهجر إلا حوالي سنة 900 ميلادية.
ومن المؤكد أن تناقص الأمطار كان واحا من أهم أسباب الهجرة من الساحل الشمالي. وهناك سجل لأمطار مدينة الاسكندرية دونه الجغرافي بطليموس الإسكندري في القرن الثاني الميلادي يظهر منه أن عدد الأيام المطيرة في السنة كان مثل عددها في اليوم ولكنها كانت تختلف في أنها كانت موزعة على طول العام. ولاشك أن توزيع الأمطار على طول العام كان يسمح بعمار المنطقة على طول الساحل بل وبعيدا عنه كما يدل على لك ازدهار مدينة بومينا البعيدة عن الساحل لقرون طويلة والتي لا توجد بها آبار إرتوازية
وقد وقعت بمصر كوارث كبرى في القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلادي ، فقد جاءها في هذه الفترة الطاعون (سنة 542 – 600 ميلادية) ، كما شحت فيها مياه النيل وهبطت تحت البحر أثناءها أجزاء كبيرة من شمال وشرق الدلتا (أنظر الجزء الأول)، وتحت كاهل هذه الكوارث نقص عدد سكان مصر إلى حوالي المليونين والنصف وسنأتي على تفصيل ذلك الموضوع في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
تقلبات النيل في العصر الوسيط (مقياس الروضة)
ذكرها فيما سبق أن مناسيب ارتفاع النيل كانت تقاس منذ أقدم الأزمنة وأن هذه القياسات كانت تحفظ في سجلات كانت تعتبر من أهم وثائق الدولة. وكان قياس النيل يجري خلال العصر الوسيط في مقياس الروضة الذي بني في الطرف الجنوبي لجزيرة الروضة بالقاهرة في سنة 715 ميلادية بعد خمس وسبعين سنة من دخول العرب إلى مصر، ليحل محل المقاييس الكثيرة التي كانت موجودة في منطقة القاهرة، والتي كان من أهمها وأكثرها شهرة مقياس منف الذي كان يسمى بيت الفيضان أو بيت التعميد والذي كان قائمة بمدينة منف منذ أقدم الأزمنة. وقد ظل مقياس الروضة مستخدما حتى أوائل القرن العشرين عندما أبطل استخدامه وحول إلى متحف ، ويعتبر المقياس أقدم أثر إسلامي في مصر.
وعلى الرغم من أن معظم وثائق قياسات النيل القديمة فيما قبل السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، ان لم يكن كلها، قد فقدت، إلا أن الكثير منها بقى محفوظا في كتابات بعض مؤرخي القرنين الرابع عشر والخامس عشر وفي وثائق الحملات الفرنسية وكتابات بعض علماء القرن التاسع عشر، وقد أصبح النيل بفضل هذه الأعمال سجل يكاد يكون كاملا لقياساته منذ سنوات ما قبل دخول العرب إلى مصر. وفي هذا لامقام لا يفوق النيل أي نهر آخر.
وقد بني مقياس الروضة في وقت الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ثم أعيد بنائه بالكامل في عهد المتوكل سنة 861، بعد أن كانت المياه أن تكسح البناء القديم الذي بدأت في التشقق منذ سنة 814. وفي سنة 861 عين أبو الرداد وهو من البصرة حسيبا على المقياس وقد ظل أمر المقياس موكولا إلى هذه العائلة يتوارثها الإبن عن الأب لألف سنة ويزيد حتى مجي ستانلي لين بول إلى مصر سنة 1830 عندما كتب في كتابه الشهير "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" أنه قابل واحدا من أبناء هذه العائلة في المقياس.
والمقياس (الشكلين 2-25، 2-26)، عبارة عن بئر يتصل بالنيل بثلاث أنفاق الجنوبي منها يفتح على مستوى أرضية البئر(8.15 متر فوق سطح البحر)، والاثنان الآخران يفتحان ناحية الشرق ويقعان الواحد فوق الآخر، أما الأسفل منهما فيقع على ارتفاع 1.6 متر من أرضية المقياس والأعلى منهما على شكل قبو يرتفع عن أرضية المقياس بمقدار 2.8 مترا. وبداخل البئر يقوم عمود مثمن من الرخام على منصة نقش عليه تدريج المقياس. وقد تغير هذا التريج مرتين على الأقل منذ بناء المقياس (اشكل 2-27). وكانت ودة التدريج في كل حالة هي الذراع والأصبع الذين تغير طولهما عدة مرات، فقد قسم الذراع في أقدم المقاييس إلى 28 أصبعا في الأذرع من الأول إلى الثاني عشر، وإلى 24 أصبعا في الأذرع من الثالث عشر حتى الواحد والعشرين. وكان الأصبع في كلا الجزئين متساويا (1.925 سنتيمتر) ولذا اختلف طول الذراع في كلال الجزئين. ففي الجزء الأول بلغ 53. سنتيمترا (وهو حاصل ضرب 1.935 X 28) وفي الجزءالأعلى 46.2 سنتميتر (وهو حاصل ضرب 1.925 X 24). كما كانت نقطة الصفر في هذا المقياس القديم هي أرضية بئر المقياس نفسه مما كان يجعل منسوب الذراع السادسة عشر 8.3 متر فوق صفر المقياس (أو 16.4 متر فوق سطح البحر) وكان هذا هو المنسوب المناسب لري الأراضي. وبعد سنوات خمس من دخول الترك إلى مصر في سنة 1517 تغير تدريج المقياس فرفعت نقطة الصفر بمقدار 1.62 متر فوق أرضية بئر المقياس وأنقص طول الذراع من التاسع حتى السابع والعشرين إلى 36.1 سنتيمتر. وفي سنة 1861 أيام حكم الخديوي إسماعيل قام المهندس محمود صالح الفلكي بإصلاح المقياس وتغيير تدريجه، ونقلت نقطة الصفر بحيث أصبحت على إرتفاع 66 سنتيمترا من أرضية البئر كما أصبح طول الذراع الأول حتى الذراع السادس عشر 54.1 سنتيمتر وطول الذراع السادس عشر حتى الثاني والعشرين 27.1 سنتيمتر، وقد أنقص طول الذراع بعد الذراع السادس عشر إلى النصف لأن عند وصول إرتفاع النيل إلى ست عشرة ذراعا كانت الجسور تقطع في صعيد مصر مما كان يقلل من إرتفاع الماء عندما يصل إلى القاهرة إلى حوالي النصف.
وكان أحد الأسباب الأساسية في تغيير تدريج المقياس ومنسوب نقطة الصفر فيه بين الحين والآخر هو لتعديله لكي تتماشى قراءاته وارتفاع قاع النهر وسهله الفيضي نتيجة ترسيب الطمي الذي كان يحمله النهر كل عام فوقهما. وقد تكلمنا عن هذه المسألة بشئ من التفصيل في الجزء الأول من هذا الكتاب. وقد وجد المصريون من أقدم الأزمنة أن أنسب ارتفاع للنيل لكسر الجسور وإغراض الحياض والبدء في موسم الزراعة هو عندما يرتفع الماء فوق منسوب النيل الأدنى (التحاريق) والذي كان يقاس في 20 يونيو (جولياني) في كل عام بمقادر ستة أمتار ونصف ، فعندما يصل النيل إلى هذا الارتفاع يسمح للماء بالدخول في الحياض. وقد أدى ارتفاع الأرض بترسب الطمني عليها إلى ارتفاع هذا المنسوب أيضا وعندما أنشئ المقياس كان الوصول إلى ارتفاع ستة أمتار ونصف فوق منسوب الماء الأدنى يحدث عند الذراع السادس عشر في تدريج المقياس في ذلك الوقت والذي كان يقع على ارتفاع 8.3 متر من أرضية البئر (وهي نقط الصفر فيه أيضا) فقد كان متوسط ارتفاع المنسوب الأدنى بالبشر في ذلك التاريخ هو حوالي 1. متر فوق أرضية البئر.
وبعد قرابة تسعمائية سنة من تاريخ بناء المقياس الأول كان قاع النيل قد ارتفاع بحوالي 1.5 متر كما ارتفاعت أرض مصر بنفس المقدار، ولم يعد ارتفاع الماء إلى ستة عشر ذراعا الموجودة على تدريج المقياس مناسبا لري الأراضي فأعيد تدريج المقياس بعد دخول الترك إلى مصر بخمس سنوات، فرفعت نقطة الصفر فوق أرضية المقياس بمقدار ارتفاع الأرض. وأدخل تدريج جديد يتمشى مع القياسات العثمانية أصبح بمقتضاه وصول النيل إلى المنسوب المناسب لري الأراضي (و هو 6.5 متر فوق المنسوب الأدنى) عند الذراع الثامنة عشر التي كان منسوبها يقع على ارتفاع عشرة أمتار فوق أرضية البئر. هذا على الرغم من استمرار المناداة بوفاء النيل عند وصول الماء إلى الذراع السادسة عشر التي كانت تقل عن المنسوب المناسب لري الأراضي بحوالي 70 سنتيمترا.
وعند القيام بالتعديل الثالث في تدريج المقياس في القرن التاسع عشر أصبح الوصول إلى المنسوب المناسب لري الأراضي هو عند الذراع الثانية والعشرين التي كانت تقع على ارتفاع 10. متر فوق أرضية البئر.
ويبين الجدول التالي متوسط منسوبي قاع النهر والماء الأدنى وكذلك المنسوب المناسب لري الأراضي ورقم الذراع الذي يصل عنده هذا المنسوب في سنوات إنشاء المقاييس الثلاثة وكل المناسيب معطاة بالأمتار ومنسوبة إلى أرضية بئر المقياس التي تقع على ارتفاع 8.15 متر فوق سطح البحر – وكل بيانات الجدول من بوبر.
السنة | منسوب قاع النهر | المنسوب الأدنى للماء | المنسوب المناسب لري الأراضي | علامة الذراع على المقياس لمنسوب الري المناسب |
---|---|---|---|---|
641 | -5.8 | +1.9 | +8.2 | 16 |
1522 | -4.2 | +3.4 | +10.1 | 18 |
1841 | -3.1 | +4.4 | +10.8 | 22 |
ويلاحظ هنا أن الاعلان عن وفاء النيل كان يتم عندما يصل الارتفاع إلى ستة عشر ذراعا على المقياس بالرغم من أن وقت الوصول إلى هذا الارتفاع لم يكن أفضل الأوقات لبدء موسم الزراعة، فقد كان أنقص مما ينبغي أن يكون بسبعين سنتيمترا في المقياس الثاني وبأكثر من المتر والنصف في المقياس الأخير. كما لابد وأنه كان أنقص مما ينبغي في أواخر أيام استخدام المقياس الأول نظرا لأن نقطة الصفر والتدريج فيه لم يتغيران لأكثر من ألف سنة، ارتفع خلالهما قاع النهر لأكثر من المتر والنصف – وأغلب الظن أن الاصرار على اعلان بدء موسم الزراعة قبل أوانه كان للبدء في جباية الضرائب التي كان الأصل فيها أن تستحق عندما يجود المحصول في سنوات الفيضان "العادي" وقد كان هذا هو التقليد الذي كان المصريون يسعون لأن يروه سائدا وان لم يحدث أبدا أن طبق إلا في أوقات نادرة. وقد قيل أن أصل هذا التقليد جاء من معاهدة أبرمها عمرو بن العاص مع أقباط مصر عند دخوله إليها اتفق فيها على أن تربط الضريبة بإنتاجية الأرض بحيث تقل عندما يخفق النيل عن الوصول إلى منسوبه العادي.
مصادر سجلات مقياس الروضة
جمعت قياسات مقياس الروضة لمنسوب الماء الأدنى (التحاريق) والأقصى (الفيضان) للأعوام بين 622 وحتى أواخر القرن التاسع عشر من مصادر عدة. ومن أقدم المخطوطات التي جمعت فيها مناسيب النيل مخطوطي عبد الله بن ايبك "درر التيجان" و"كنز الدرر" اللذين كتبا حوالي سنة 1335 ميلادية وفيهما سجل لمنسوبي الماء الأدنى والأقصى للسنوات 622-1241 ميلادية. وللسنوات 1295 – 1469 ميلادية. وفي مخطوطي ابن تغري بردي "النجوم الزاهرة" و"حوادث الدهور" مناسيب السنوات 641 – 1467 ميلادية والسنوات 1441 – 1469 ميلادية وفي مخطوط ابن الحجازي "نيل الرائد من النيل الزائد" سجل بمناسيب السنوات 622 – 1469 ميلادية.
ولا يوجد أي مخطوط يجمع مناسيب النيل للفترة بين سنة 1469 ميلادية وحتى بداية القرن السابع عشر، وإن كان هناك بعض المؤلفين الذين يمكن أن يستشف من أقوالهم والمناسيب المتفرقة والقليلة التي أعطوها شئ من مسلك النيل خلال هذين القرنين والنصف. ومن المؤلفين الذين أرخوا لهذه الفترة يأتي ابن أياس في المقدمة ففي مخطوطه "بدائع الزهور" مناسيب السنوات 1504 – 1524 ميلادية.
وقد قام علي باشا مبارك بجمع مناسيب الفترة من 1586 ميلادية حتى آخر القرن التاسع عشر ونشرها في مؤلفه الشهير "الخطط التوفيقية" الذي نشر بالقاهرة في سنة 1899 ميلادية في عشرين مجلدا وقد أعادت الهيئة العامة المصرية للكتاب طباعته في خمسينيات القرن العشرين. وبالكتاب مناسيب الحدين الأقصى والأدن للفترة 1586 – 1735 ميلادية فيما عدا السنوات الست والعشرون بين سنة 1632 وسنة 1657 ميلادية والتي سقطت كلية من سجلات حساب المقياس. وبالكتاب مناسيب السنوات 1736 – 1800 التي نقلت عن ليبير أحد علماء الحملة الفرنسية وكذلك سنوات القرن التاسع عشر (فيما عدا السنوات 1800 – 1824 التي سقطت كلية) والتي جاءت من سجلات المقياس المحفوظة في وزارة الاشعال العمومية. وقد تولت الوزارة تسجيل مناسيب النيل بانتظام منذ عام 1873 وتقوم الوزارة بنشر هذه المناسيب بصفة دورية في ملاحق خاصة للمجلد الشهير "حوض النيل" الذي تصدره الوزارة منذ أوائل القرن العشرين، كما قام محمود صالح الفلكي بنشر بعض مناسيب المقياس في القرن التاسع عشر.
البيانات المتاحة للحدين الأقصى والأدنى للمقياس لذلك مختلفة في درجة الوثوق بها، ففي حالة السجلات القديمة فإننا نجد أنها نسخت بعد سبعمائة سنة من حدوثها من وثائق لا يعرف أحد عن كنهها شيئا. فلا غرو أن علي مبارك وأمين سامي وعمر طوسون وأخيرا وليس آخرا بوبر الذي صحح الأرقام وضبطها لكي تتفق وتغيران المقياس وتأثير إطماء قاع النيل وسهل الفيضان وأثر تدوين المناسيب، التي تتغير مع الشمس، أمام السنوات القمرية كما أنه حول الأذرع الى مقياس متري.
ومن الصعوبات التي لاقت المشتغلون بتحقيق مناسيب النيل كما جاءت في أعمال الأقدمين هو أنها سجلت أمام سنوات الهجرة القمرية التي تتم دورة السنة فيها في مدة تقل عشرة أيام وعشر ساعات عن السنة الشمسية وبالتالي فإن هناك 34 سنة قمرية في كل 33 سنة شمسية تقريبا. ولما كان فيضان النيل ظاهرة شمسية فلابد أن يتم تسجيل ثلاثة وثلاثين فيضانا في كل أربع وثلاثين سنة قمرية. ولكن هذا لم يحدث دائما فكثيرا ما سجلت فيضانات زائدة في جداول الأقدمين، وقد وجد أمين سامي جدول فيضان النيل للسنوات 20 هجرية إلى 856 هجرية يحتوي على نحو 23 تحريقا و24 فيضانات غير حقيقية، وفي وقت الحكومات الحسنة كان تصحيح هذا الأمر يحدث بصدور أمر بإسقاط فيضان واحد كل أربع وثلاثين سنة قمرية ويسمى هذا الإسقاط بالإزدلاف، وكان يتم لكي تتطابق السنة القمرية مع السنة الشمسية والتي هي نفس الوقت السنة الضريبية وفي الكثير من الأوقات لم يصدر أمر الإزدلاف مما كان يزيد كاهل الضرائب على الفلاحين.
وقد أدخل استخدام السنة القمرية في دواوين الحكومة المصرية بعد الفتح العربي إلا أن السنة الشمسية القبطية ظلت مستخدمة بين الناس في الزراعة وبين رجال الإدارة عند تحديد موعد استحقاق الضرائب بعد جني المحصول، على أن تتم جبايتها قبل موسم البذر اللاحق. وبالسنة القبطية التي تبدأ في أول شهر توت (8 أو 9 سبتمبر) اثني عشر شهرا طول كل واحد منها ثلاثون يوما يضاف إليها أيام النسئ وهي خمسة في ثلاث سنوات متوالية وستة في السنة الرابعة. وفي الحقيقة فإن السنة القبطية هي نفس السنة الفرعونية بعد تطويرها. ومبدأت التقويم القبطي هو سنة اعتلاء دقلديانوس الحكم في سنة 284 ميلادية، وهو الإمبراطور الذي اضطهد المصريين أشد الاضطهاد من أجل تحويلهم عن المسيحية التي كان معظمن قد اعتنقها فاستشهد مهم الكثيرون حتى سمي التقويم بتقويم الشهداء. وقد ظل استخدام التقويم القبطي في شئون المالية والميزانية أيضا وفي سنة 1875 أصدر الخديوي إسماعيل أمرا باستخدام التقويم الجريجوري وهو التقويم الذي لا يزال يستخدم في مصر حتى الآن.
ومن الأمور التي تؤثر على صلاحية أرقام المقياس شكل مجرى النهر ومقعطه والذي بينا في الجزء الأول من الكتاب أنه تغير كثيرا . فمن المعروف أن كمية المياه نفسها عندما تمر في مجرى ضيق يزيد ارتفاعها عما اذا كانت تجري في مجرى متسع.
وبالرغم من هذه التحفظات كلها فإن سجل مناسيب النيل الذي تم تحقيقه مفيد في معرفة نظام النهر والتقلبات التي تعرض لها. وقد بينا في الرسمين 2-28 ، 2-29 مناسيب الحدين الأقصى (الفيضان) والأدنى (التحاريق) من سنة 641 وحتى سنة 1870، وتظهر المناسيب في الرسمين بالمتر فوق أرضية بئر المقياس. وقد بينا ايضا في الرسمين المنسوب المناسب لري الأراضي حتى تظهر السنوات التي علا فيها النيل وتلك التي كان فيها أقل من هذا المنسوب.
وقد جذبت هذه السلسلة الطويلة من سجلات النيل أنظار الكثير من المؤلفين الذين اتفقوا جميعا على أنها تنقسم إلى فترات يكون فيها الفيضان عاليا نسبيا تتلوها فترات يكون فيها الفيضان واطئا نسبيا. وقد اختلف المؤلفون في تقدير طول هذه الفترات التي رأوا أنها تتعاقب في دورات منتظمة بين 77 و240 سنة.
وقد وضح هرست أن مناسيب النيل لا تحيد كثيرا عن الوسط الحسابي لها فحوالي 70% منها لا تزيد أو تنقص عن هذا الوسط إلا في حدود النصف متر فقط، وأن ما لا يزيد عن 2% منها يحيد عن الوسط الحسابي بما يزيد عن المتر والنصف. وقد كانت سنة 1913 هي أوطى سني الفيضان على طول الألف وخمسمائية عام التي درست مناسيبها. فقد قل منسوبها عن الوسط الحسابي العام بمقادر 2.36 متر، وقد تلت ذلك سنة 967 ميلادية التي قل منسوب فيضانها بحوالي 1.89 متر عن هذا المتوسط.
ولما كان الانحراف القياسي (جذر متوسط مربعات الفروق عن الوسط الحسابي للمناسيب) صغيرا فإن التغيرات ليست كثيرة في مختلف الدورات. ولكن الملاحظ أن سني الفيضان الواطئ كسني الفيضان العالي تتلو بعضها البعض وتتجمع في مجموعات وقد سميت هذه الظاهرة بظاهرة هرست تخليدا لذكرى الهيدرولوجي الكبير الذي قضى عمره الناضج كله في دراسة نهر النيل في خدمة الحكومة المصرية.
واذا نحن نظرنا إلى مناسيب النيل عبر الألف وأربعمائة سنة لوجدنا تشكل دورة واطئة في عمومها يمكن مقارنتها بدورات النيل الطويلة التي لاحظناها منذ نشأة النيل في أعقاب فترة الهولسين المطيرة، على أن هذه الدورة الكبيرة كانت بها دورات ثانوية اختلفت إشارتها من مؤلف إلى آخر. وقد رأى أحد المؤلفين اشارات واضحة كل 77 سنة وأخرى كل 18 سنة. وقد ربط هذا المؤلف دورة السبع وسبعين سنة مع التغير في النشاط الشمسي والقصير مع مد القمر. وحسب هذا المؤلف فإن هذه الدورات تبدو في أحسن صورة عند دراسة سلسلة مناسيب التحاريق (الحد الأدنى) للنيل ، وهي المناسيب التي تتأثر بما يجئ للنيل من النيل الأبيض الذي يتحدد تصرفه من كمية المياه التي تصله من البحيرات الاستوائية.
وقد قام فريدريش مؤخرا بتحليل سلسلة مناسيب التحاريق (الحد الأدنى) للنيل حتى سنة 1470 ميلادية وقسمها إلى دورات يكون النيل فيها واطئا، تتبعها دورات يكون فيها عاليا، وتراوحت مدة الدورات بين 80 و120 عاما. وكانت الذبذبات كثيرة في الدورات الواطئة عنها في الدورات التي كان النيل فيها مرتفعا.
ولما كانت معظم التحليلات الاحصائية لمناسيب مقياس الروضة تتخذ من الحد الأدنى أساسا لدراستها فإن نتائج هذه الدراسات تتعلق بحالة الطقس في الهضبة الاستوائية وليس لها علاقة بحالة الفيضان الذي يأتي في معظمه من المرتفعات الإثيوبية والذي كانت مصر وحتى وقت قريب تعتمد عليه في حياتها، وحبذا لو أن دراسة إحصائية تتم على ارتفاع النيل (أي على الفرق بين الحدين الأدنى والأقصى) فسيكون لهذه الدراسة مغزى أكبر.
وفيما يلي بعض الملاحظات عن الدورات التي أمكن تمييزها من دراسة مناسيب النيل كما سجلها مقياس الروضة وكذلك من دراسة أحوال مصر خلالها (الشكلين 2-28 ، 2-29).
الفترة 640 – 930 ميلادية
تميزت هذه الفترة بفيضانات عادية في عمومها وان كانت سنواتها المائة والعشرين الأولى (حتى سنة 760) عالية قليلا عن متوسط فيضانات السنوات الأخيرة من الفترة. ولم يزد عدد الفيضانات الواطئة نسبيا في هذه الفترة التي امتدت 290 سنة عن 50 فيضانا. وقد بلغ منسوب الفيضان لهذه الفترة حوالي 8.9 متر فوق أرضية بئر مقياس الروضة أي أن كان أعلى من منسوب الري المناسب بحوالي 60 سنتيمترا ، كما كان متوسط ارتفاع الماء خلال الفيضان 6.8 متر. ولم يتحدث كثير من المؤرخين عن وقوع مجاعات كبرى في هذه الفترة، وان كانت الفترة قد رأت أحداثا كبرى وأهوالا جساما. ففيها تحطمت منظومة الري في مصر مرتين، الأولى عندما انتزع الأمويون حكم مصر من عبد الله بن أبي بكر في سنة 685 ميلادية، والثانية بعد ذلك بخمسة وستين عاما عندما انتزع العباسيون حكم مصر من الأمويون في سنة 750 ميلادية.
وفي فترة السنوات الأولى (640 – 760 ميلادية) وقع اثنان من أوطى الفيضانات ففي سنة 650 وسنة 694 هبط تصرف النيل إلى حوالي 65 بليون متر مكعب في السنة، في الوقت الذي كان فيه التصرف في معظم السنوات يدور حول 90 بليون متر مكعب في السنة. وكانت الأعوام بين سنة 688 وسنة 703 شاذة قليلا، فقد بلغ متوسط تصرف النيل فيها حوالي 85 بليون متر مكعب ووصل متوسط سنوات عشر منها (سنة 690 إلى سنة 699) إلى 82 بليون متر مكعب فقط.
وفي السنوات الأخيرة من هذه الفترة والتي امتدت بين سنة 760 وسنة 930 قل الماء الذي يصل إلى مصر من المرتفاعات الأثيوبية على الرغم من زيادة منسوب التحاريق وخاصة في السنوات التي تلت سنة 820. وفي هذه التفرة بلغ متوسط الحد الأقصى (الفيضان) تسعة أمتار ومنسوب ارتفاع الماء فوق منسوب الحد الأدنى (التحاريق) 6.4 متر، وبلغ متوسط التصرف إلى أقل قليلا من 90 بليون متر مكعب، وكانت أقل سنوات الفترة في تصرفها هي سنة 841 وسنة 903 التي بلغ فيها تصرف النهر بما يقدر بحوالي 64.69 بليون متر مكعب على التوالي، كما كانت السنوات 800 إلى 809 و832 إلى 858 و 945 إلى 977 شحيحة نسبيا فقد قل التصرف إلى حدود 85-87 بليون متر مكعب في السنة.
الفترة 930 – 1090 ميلادية
هبط النيل في معظم سنوات هذه الفترة إلى ما تحت منسوب الري المناسب وعم مصر بلاء عظيم فيها، وقد بلغ متوسط ارتفاع الحد الأقصى 8.8 متر في الوقت الذي ارتفع فيه المنسوب المناسب لري الأراضي من 8.8 مترا في أول الفترة إلى 9.1 متر فوق أرضية بئر المقياس في آخرها، أي أن معظم فيضانات هذه الفترة لم تكن تطول كل أراضي مصر، ومن الظواهر الملفتة أن هذه الفيضانات ظلت واطئة دون تقلبات كبيرة فقد كان معدل الانحراف في الوسط الحسابي فيها قليلا جدا – وقد عاد منسوب الحد الأدنى إلى الانخفاض بعد أن كان مرتفعا منذ سنة 820 وربما كان لهذا الانخفاض أثره في خفض منسوب الحد الأقصى (الفيضان) للنيل خلال هذه الفترة وكما قد يكون سبب قلة تصرف النهر في هذه الفترة عائدا إلى قلة ما كان يصل إلى النيل من الهضبة الاستوائية أكثر مما هو عائد إلى قلة أمطار المرتفاعات الاثيوبية (الشكل 2-28).
وقد كانت سنة 967 من أوطى السنوات ، وفيها بلغ تصرف النيل 56 بليون متر مكعب كما كانت الفترة 945 – 77 واطئة في عموما ولم يزد فيها متوسط تصرف النهر عن 83 بليون متر مكعب، على أن هذه الفترة لم تكن بسوء الفترة 1052 – 1090 التي شح فيها النيل لسنوات متعاقبة دون أن تتخللها سنوات من الفيضانات الحسنة، فقد كان هناك 28 فيضانا واطئا في هذه السنوات الأربعين والتي تزامن معظمها مع حكم الخليفة المستنصر الفاطمي وقد عرفت سنواتها الصعبة باسمه "الشدة المستنصرية".
وقد تسببت سنوات هذه الفترة بمصائب كبيرة، وتؤكد روايات شهود العيان على انهيار الاقتصاد وانحطاط الصناعة والحرف وتفشي التضخم النقدي والهجرة الجماعية والنتشار الأمراض والمجاعة، بل واضطرار الناس إلى أكل الجيف ولحوم البشر. كما رأت الفترة أيضا تناقص عدد سكان مصر من 3.4 ميليون نسمة في أول الفترة إلى 1.5 مليون نسمة في آخرها. وقد اخترنا من روايات شهود العيان في هذه الفترة مثالا واحدة كتبه عبد اللطيف البغدادي الذي عاصر أحداث سنة 1068 ميلادية.
"فيها بلغ الغلاء العظيم منتهى شدته الذي لم يسمع بمثله في الدهور من عهد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، واشتد القحط والوباء سبع سنين متوالية حتى أكل أهلها الجيف والميات، وأفنيت الدواب وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبق لخليفة مصرسوى ثلاثة أفراس بعد العدد الكثير، ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلاف عنها لضعفه من الجوع فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فأصبحوا وقد أكلهم الناس. ولم يبق إلى عظامهم وظهر على رجل أنه كان يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم ويدفهن رؤوسهم وأطرافهم فقتل. وبيعت البيضة بدينار ،وبلغ أردب القمح مائة دينار، ثم عدم أصلا وحكي أن أمرأة خرجت من القاهرة ومعها مد جوهر فقالت من يأخذه بمد قمح فلم يلتفع إليها أحد".
وفي هذه السنوات جفت منطقة الساحل وشمال افريقيا مما أدى إلى إغارة الكثير من قبائل البدو على أرض مصر. وقد نجحت في النهاية واحدة منها في الاستيلاء على مصر التي دخلها الفاطميون سنة 969 ميلادية.
الفترة 1090 – 1200 ميلادية
تميزت هذه الفترة بفيضانات مناسبة على وجه العموم فقد ارتفع فيها متوسط منسوب الحد الأدنى إلى 3.7 متر فوق أرضية بئرالمقياس وهو أعلى متوسط لمياه التحاريق على طول تاريخ المقياس، كما ارتفع متوسط الحد الأقصى إلى 10.5 متر فوق أرضية المقياس في الوقت الذي وصل فيه منسوب الري المناسب إلى حوالي 9.5 مترا في آخر الفترة. ولم يقل متوسط تصرف النهر عن 89 بليون متر مكعب إلى في السنوات 1144 إلى 1149 ويعود ارتفاع الفيضان في هذه الفترة إلى ارتفاع متوسط الحد الأدنى (المحاريق) الذي أضاف إلى مياه الفيضانات، وجعل منها فترة حسنة في اقتصاد مصر في عصرها الوسيط. وقد توافقت معظم سني هذه الفترة مع فترة الدفء القصوى بأوروبا والتي سببت قلة الأمطار فيها والتي يعتقد بعض المؤلفين أن أثرها كان في زيادة الأمطار في الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل.
الفترة 1200 – 1350 ميلادية
انخفض في هذه الفترة منسوب الفيضان نتجية انخفاض منسوب التحاريق، وقد كانت سنة 1200 من أسوأ سني هذه الفترة، فقد بلغ تصرف النهر فيها حوالي 58 بليون متر مكعب، أما متوسط الحد الأقصى للفترة فقد كان 9.6 متر فوق أرضية المقياس في الوقت الذي ارتفع فيه منسوب الري المناسب إلى 9.8 متر خلال معظم سني هذه الفترة – ولم يأت ذكر إلا مجاعة واحدة في سنة 1336 خلال هذه الفترة.
الفترة 1350 – 1468 ميلادية
تميزت هذه الفترة بفيضانات عالية ارتفع فيها متوسط ارتفاع الفيضان إلى ثمانية أمتار، فقد بلغ متوسط الحد الأدنى 2.9 متر والحد الأقصى 10. متر فوق أرضية بئر المقياس، في حين ارتفع منسوب الري المناسب إلى أكثر من عشرة أمتار بقليل في آخر الفترة. وبلغ ارتفاع الماء خلال موسم الفيضان حدا فاق أي فترة أخرى، وسبب ذلك الكثير من الأضرار خاصة وأن الماء ظل مرتفعا في الحياض حتى أواخر شهر نوفمبر مما تعذر معه البذر في ميعاده. ففي سنة 1359 وسنة 1360 كان الفيضان عاليا حتى أن الناس خرجوا إلى الصحراء يدعون الله سبحانه وتعالى بهبوطه. وطبقا لرواية المقريزي فقد "وصل النيل في هذه السنة إلى 24 ذراعات فرسم السلطان بإبطال المناداة عليه وخاف الناس من الغرق" وقد ظل النيل مرتفاع في هاتين السنتين حتى أواخر شهر اكتوبر.
وكان النيل عاليا أيضا لفترة العشرين سنة بين سنة 1376 وسنة 1395 ، وقد كان في سبع منها عاليا جدا نتيجة زيادة تصرفه في شهري اكتوبر ونوفمبر وعلى الأخص في سنوات 1376 و1383 و1395 كما حدثت فياضانات عالية في سنة 1409 "فحصل للناس بسبب ذلك الضرر الزائد وغرق أكثر البلاد " حسب ما أورد ابن إياس. وفي سنة 1422 تسبب استمرار الفيضان دون هبوطه قبل منتصف شهر نوفمبر في "تعذر الزرع لفوات أوانه".
وجاءت في هذه الفترة بعض سنوات لم يبلغ النيل فيها حد منسوب الري فتسبب في بلاء ومجاعة مثل سنوات 1374 و 1394 و1403 وفي هذه السنة الأخيرة ذكر المقريزي أن نصف سكان مصر قد بادو. ومما زاد في صعوبة العيش في مصر في هذه الفترة وباء الطاعون الذي جاءها في سنة 1348 وتوطن فيها لسبعين سنة وحتى سنة 1420. وسببت تقلبات النيل التي تبادلت فيها سنوات الطوفان والمجاعة نقص سكان مصر من أربعة ملايين في سنة 1300 إلى حوالي ثلاثة ملايين في آخر الفترة في نهاية القرن الخامس عشر (انظر تفصيل ذلك في القسم 3-3 من الجزء الثالث من الكتاب).
وفي هذه الفترة من تصرفات النيل العالية زادت الأمطار في الصحراء ومنطقة الساحل فأصبحت عامرة تعج بالحركة تذرعها القوافل في كافة الاتجاهات. وفي هذه الفترة تشأت امبراطورية مالي التي امتدت حتى ثنية نهر النيجر والتي وصف أمجادها ابن خلدون (سنة 1406 ) وبان بطوطة الرحالة الشهير الذي ختم زيارته للعالم الاسلامي بنيجريا، وقد ظلت هذه الدول غير معروفة للرحالة العرب حتى القرن الخامس عشر عندما بدأت التجارة عبر الصحراء نشاطها الكبير والمتوسع. وحول بحيرة تشاد ظعرت دولة الكادم والتي اتسعت إلى الشمال في الصحراء حتى هضبة التبتسي ومنها إلى فزام ثم تبادلت التارة والتمثيل الدبلوماسي مع الحفصيين في تونس، يبين (الشكل 2-30) مواقع الدول التي ازدهرت في هذه الفترة المطيرة من تاريخ الصحراء.
الفترة 1468 – 1630 ميلادية
لا توجد سجلات كثيرة لهذه الفترة التي بدأت بدخول الترك إلى مصر بعد سبع سنوات من بدئها، ويبدو أن النيل كان عاديا الا أن حالة الفوضى التي خلفتها سنوات طويلة من النيل الواطئ بالاضافة إلى الكساد الذي جاء في أعقاب تحول تجارة الهند من مصر إلى طريق رأس الرجالء الصالح الذي كان قد اكتشف لتوه جعلا مصر فريسة سهلة للغزو . وتشير الوثائق التاريخية إلى أن إمبراطوريات الساحل الأفرقيقي أصبها الانتعاش فعادت تتوسع خلال القرن السادس عشر مما قد يشير إلى عودة الأمطار في هذه المنطقة خلال هذا القرن الذي أصبحت فيه دولة صنغاي التي نشأت حول نهر النيجر أكبر دول المنطقة وقد توسعت إلى الشمال حتى تغازي وأصبحت دولة يحسب حسابها ، ولم تسقط إلا على أيدي المغاربة في آخر القرن السادس عشر (سنة 1591) ، وقد ظهرت دول أخرى في منطقة الساحل خلال هذا القرن مثل سلطنة العير (أو أغاديش) وسلطة دارفور وعدد من دول العوسا، كما ظهرت في السودان دولة الفونج التي اتخذت سنار عاصمة لها وأخذت تمد نفوذها من هناك إلى النوبة.
وباستثناء الفترة 1722- 1781 التي كان النيل فيها عاليا نوعا فإن سنى هذه الفترة كانت واطئة في عمومها وقد انتابت منطقة الساحل فيها فترات جفاف كثيرة نذكر منها فترة الجفاف التي أثرت على طول منطقة الساحل في السنوات من 1681 – 1687 والتي جاء ذكرها في الكثير من التقارير من تشاد ودارفور وبلاد الفونج اذ يبدو أنها تركت أثرا سيئا على هذه البلاد. وفترة الجفاف التي أثرت في منطقة السنجال وجامبيا وفي السنوات من 1710 – 1800 والسنوات من 1828 – 1839. وفي القرن السابع عشر تحطمت امبراطوريات منطقة الساحل وعاد الناس إلى البداوة مرة أخرى.
وقد تميزت سنوات منتصف القرن الثامن عشر بفترات جفاف شديدة على طول منطقة الساحل الأفريقي. وقد سبقت فترة الجفاف التي امتدت بين سنة 1730 إلى سنة 1750 أكبر الكوارث والمجاعات ودفعت إلى هجرات جماعية. وقد امتد أثر هذه الفترة على سكان السنجال وجامبيا وموريتانيا وفولتا العليا وداهومي وغانا ونيجيريا وتشاد. وجاء في وقائع هذه الفترة أن نصف سكان تمبكتو وثنية نهر النيجر قد ماتوا من المجاعة. على أن فترة الجفاف هذه لم تؤثر على أمطار المرتفعات الاثيوبية التي ظلت عالية خلالها. ومما هو جدير بالذكر أن سنوات هذه الفترة تزامنت مع فترة البرودة الشديدة في أوربا والمسماة بعصر الجليد الصغير.
وتميزت سنوات أوائل القرن التاسع عشر بسلسلة من الفيضانات العالية فزادت "زيادة مفرطة" حسب قول الجبري في سنتي 1800 و1809 وفي الثلاث سنوات المتعاقبة بين سنة 1818 وسنة 1820. وقد وصف بلزوني فيضانة سنة 1818 وصفا حيا وكان شاهدا في في مدينة الأقصر "ارتفع النيل ثلاثة أقدام ونصف أعلى من فيضان العام السابق وفي وقت قصير كسح أمامه عددا كبيرا من القرى وبضع مئات من سكانها" كما وصف الجبرتي في وقاع عام 1233 هجرية (1818 ميلادية) " كانت زيادة النيل مفرطة لم يسمع بمثلها وأغرق كثيرا من الزروع وانهدمت بسببه قرى كثيرة وغرق كثير من الناس والحيوان وعلا الماء على جزيرة الروضة حتى صارت السفن تسير فوقها". ويصف الجبرتي ضمن وقائع السنة التالي فيضان سنة 1819 الذي كانت زيادته "مفرطة أكثر من العام الماضي واستمر عاليا إلى منتصف هاتور (آخر نوفمبر) حتى فان أوان الزراعة وربما نقص قليلا ثم يرجع في ثاني يوم أكثر مما نقص".
بعض النتائج المستخلصة
بدأت الدراسة المنظمة لهيدرولوجية نهر النيل وانشا محطات المراقبة عليه على أثر اكتشاف منابعه منذ أقل من 150 سنة – وقبل ذلك كان أمر ايقاع النيل ومصدر مياهه محلا للتساؤل ومحاطا بالغموض.
وتأتي مياه النيل اليوم من مصدرين: هضبة البحيرات الاستوائية والمرتفعات الاثيوبية التي تتساقط عليها كمية كبيرة من الأمطار. ولا يصل من مياه هذه الأمطار إلى جزء صغير هو الذي يحمله النهر إلى مصر ، أما الجزء الأكبر فإنه يتسرب في الصخور أو يتبخر من السطوح أو يطلقه النبات في الجو أو يفيض فوق جوانب الأنهار ليكون المستنقعات التي تنتشر في أماكن كثيرة من مجرى النهر. ويصعب في الوقت الحاضر معرفة ميزانية النهر، ذلك أنه على الرغم من جهود الأجهزة الحكومية المختصة ودراسات الأجهزة الدولية فإن بينات الجزء الأكبر من حوض النيل وارصاده غير معروفة معرفة تفصيلية. ويمكن القوم على سبيل المثال أن كميات هائلة من الماء تضيع في حوضي بحر الغزال والسوبط، فما يخرج منهما من ماء لا يعادل إلا جزءا صغيرا مما يحمله الحوضان من ماء يتبدد معظمه في عديد من المصتنقعات التي تنتشر فيهما. وفي حالة منطقة السد فإن نصف المياه التي تدخلها تفقد بداخلها وهناك كميات أخرى كبيرة من المياه تفقد قبل أن تدخل السد.
وبالإضافة إلى هذه الفواقد ، فإن قدرة الأنهار التي تنقل المياه إلى الأجزاء الدنيا من النيل ثم إلى البحر محدودة، فالمقطع العرضي للنيل الأبيض وللجزء الأدنى من النيل الأزرق وللنيل الأساسي شمال الخرطوم لا يسمح إلا بحمل كمية محدودة من المياه في المجرى أما ما يزيد عن هذه الكمية من المياه فإنه يفيض على جوانبه ويبدو أن النيل الحالي لا يستطيح أن يحمل أكثر من 150 بليون متر مكعب في السنة شمال العطبرة. ونحن نعرف الآن أن النهر حمل في السنوات الأولى في فترة الهولوسين المطيرة كميات أكبر من المياه على الرغم من أن المقطع العرضي للنهر في ذلك الزمان لم يكن مختلفا اختلافا كبيرا عن المقطع العرضي للنهر الحديث. وقد استطاع النهر أن يحمل هذه الكميات الزائدة من مصادر جديدة جاءته من شمال العطبرة. وبالفعل كانت مناطق شمال السودان وجنوب مصر والنوبة أكثر مطرا خلال فترة الهولوسين المطيرة التي تزحزحت فيها جبهة المطر الموسمية في الشمال، وقد تسببت هذه الأمطار في تنشيط الكثير من وديان هذه المناطق التي اكتتبت جزءا كبيرا من الماء الذي سبب التصرفات العالية لنهر النيل خلال السنوات الأولى لفترة الهولوسين المطيرة.
وقد ذكرنا في الجزء الأول أن نهر النيل الحديث جاء نتيجة اتصال عدد من الأحواض المنفصلة التي تشابكت لتشكل نهرا واحدة خلال فترة الهولوسين المطيرة التي بدأت منذ حوالي 10.000 سنة. وقد سببت أمطار هذه الفترة انسياب مياه أحواض النهر الداخلية فاتصلت ببعضها البعض وكونت نهرا واحدا أصبحت له مصادر متعددة للمياه. مما جعله دائم الجريان وقادرا على شق طريقه إلى البحر.
وقد كان تصرف النهر عظيما طيلة فترة الهولوسين المطيرة. ومنذ أن انتهت هذه الفترة منذ حوالي 4400 سنة قل تصرف النهر تدريجيا – وفي كلتا الحالتين كان تصرف النهر متقلبا وفي دورات يرتفع فيها مرة وينخفض فيها مرة أخرى.
ويمكن لذلك تمييز فترتين مر بهما النيل الحديث: فترة مبكرة استمرت حوالي 6600 سنة (من 9000 ق.م. إلى 2400 ق.م.) كان فيها تصرف النهر كبيرا. وفترة متأخرة استمرت حوالي 4400 سنة (من 240 ق.م. وحتى الآن) كان فيها تصرف النهر صغيرا. والبيانات من تصرفات النهر في الفترة المبكرة قليلة لا تتيح إلا تمييز الدورات الكبرى لتقلبات النهر. وفيها كانت الدورات ذات التصرف العالي أكثر طولا من الفترات التي كان فيها تصرف النهر قليلا، وان كانت هذه الدورات الأخيرة ذات أهمية خاصة فقد لعبت دورا هاما في تاريخ الانسان. ففيها حدثت الهجرات الجماعية والاحتكاك الحضاري بين الأجناس والصراع والقتال في الكثير من الأحيان. ويمكن أن نميز من هذه الدورات قليلة التصرف الفترة بين سنة 6000 وسنة 5200 ق.م. فقد أدت قلة الأمطار فيها إلى هجرة سكان الصحراء إلى وادي النيل استقرارهم فيه. وقد تزامن وصولهم مع اكتشاف الزراعة في وادي النيل وبدء الحضارة فيه. ومن الدورات ذات الأهمية التاريخية الخاصة دورة الفيضانات العالية التي عاصرت الدولة القديمة بمصر الفرعونية والتي كانت آخر دورات الفترة المبكرة والتي انتهت بأزمة كبرى في النيل عندما انتهت الفترة المطيرة وقل تصرف النهر مما أدى إلى سقوط الدولة القديمة ودخول مصر عصرا مظلما تفككت فيه الدولة المركزية. ومما هو جدير بالذكر أن تصرف النيل كانت يتناقص على طول الفترة المبكرة نظرا لتراجع جبهة الأمطار إلى الجنوب وانكماش منطقة الأخمطار التي تزود النيل بمياهه الزائدة.
ومنذ أن انتهت الفترة المطيرة حوالي سنة 2400 ق.م. أصبح تصرف النيل قليلا كما أخذ في الانحدار بانتظام وعلى طول الزمان. فقل تصرفه من أكثر من مائة بليون متر مكعب في السنة في الألف سنة السابقة للميلاد إلى أقل من 90 بليوةن متر مكعب في السنة في الألف سنة التالية للميلاد,. وكان النيل في غمار هذا الاتجاه يتقلب كثيرا. وتشير البيانات إلى أن فيضانات عالية متتالية حدثت خلال الألف الثانية قبل الميلاد، وكذلك في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بعد الميلاد ، وكذلك في القرن العشرين الذي يمكن اعتباره واحدا من أكثر القرون انخفاضنا حتى ليمكن القول أنه لولا الجهد الكبير الذي تصرفه الحكومات والأهالي للتحكم في نظام النهر وضبطه لسببت تصرفات النهر الواطئة خلال هذا القرن متعاب كثيرة لسكان أدنى وادي النيل.
الجزء الثالث: إستخدامات مياه النيل
المستوطنون الأوائل يواجهون نهراً صعب المراس
لا يعرف على وجه التأكيد تأكيد ظهور أول إنسان على أرض مصر. فقد يعود ذلك إلى أكثر من مليون سنة مضت. وتظهر أقدم الأدوات الحجرية التي صنعها الإنسان وسط حصباء أرمنت بجوار مدينة الأقصر ، وهذه الحصباء هي التي جرفتها سيول إحدى الفترات المطيرة في القدم من المناطق المجاورة ورسبتها في هضبات الكثير من الأودية التي تصب في وادي النيل . وكانت هذه الفترة المطيرة قد تخللت فترة الجفاف الشديد الذي لحق بأرض مصر في أوائل عصر البليستوسين منذ حوالي مليون سنة. وتقدير عمر هذه الفتةر على هذا النحو هو من باب التخمين الذكي ليس إلا. فالشاهد أن حصباء أرمنت أقدم بكثير من مليون سنة. ولا يستطيع المرء أن يعرف الكثير عن إنسان هذا لاعصر السحيق في التاريخ. فحتى الأدوات الحجرية القليلة التي وجدت في حصباء أرمنت والتي قيل أن إنسان هذا العصر قد صنعها مشطوفة الجوانب بالدرجة التي تجعل بعض العلماء يشكون في أنها صنعت أصلا بفعل إنسان فقد يكون شطفها نتيجة عوامل طبيعية.
أما أقدم الأدوات الحجرية التي لا يشك أحد في أن الإنسان قد صنعها فقد استخرجت من رواسب يعود تاريخها إلى مئات الآلاف من السنين بعد أدوات حصباء أرمنت . وقد وجدت هذه الأدوات في حصباء حقبة مطيرة أخرى هي حقبة العباسية. وعندما وصل صناع هذه الأدوات إلى وادي النيل منذ حوالي 400.000 سنة وجدوا نهرا يختلف تماما عن النهر الذي نعرفه اليوم.
كان نهر ما قبل النيل العظيم قد توقف عن الجريان. وكان ذلك النهر كما ذكرنا في الجزء الأول (راجع الجدول التالي والشكل 1-17) هو أول أنهار النيل التي اتصلت بأفريقيا منذ حوالي 800.000 سنة، والتي حملت كمية ضخمة من المياه الضحلة المحملة بالرمال التي رسبتها على جانبي الوادي والدلتا اللذين كانا أكثر اتساعا منهما الآن . وبعد أن توقف ذلك النهر منذ حوالي 400.000 سنة حلت مكانه أنهار تعاقب فيها الواحد تلو الآخر. وكانت هذه الأنهار تأتي بمياها من قلب أفريقيا في معظم الوقت ولكنها كثيرا ما فقد اتصالها بهذه المنابع الأفريقية وأصبح مصدر مياهها الأساسي محليا يأتي من الأمطار التي هطلت في أرض مصر وشمال السودان في الفترات المطيرة التي مرت بها.
وقبل أن يأتي النيل الحديث إلى مصر آخر هذه الأنهار منذ حوالي 10.000 سنة مضت، كانت أنهار الأربعمائة ألف سنة التي سبقت وصول النيل الحديث متقلبة يصعب التنبؤ بأحوالها . فعندما كانت هذه الأنهار متصلة بأفريقيا كان يأتيها الفيضان عاليا في الصيف وتكاد مياهها أن تجف في الشتاء. كما أن الأنهار التي انقطع اتصالها بأفريقيا كانت تأتيها المياه من السيول دون انتظام وباندفاع مفاجئ عقب انهمار الماء من السحاب. حقا لقد كان العيش في ظل هذه الأنهار القديمة صعبا، فلا غرو أن فضل الانسان العيش في الصحراء التي وجدها أكثر ملاءمة للعيش من وادي النيل وخاصة خلال الفترات المطيرة التي أدى تساقط الأمطار فيها إلى ملء خزانات المياه الأرضية فيها ورفع منسوبها ، مما جعل الكثير من مناطقها ذا مصدر ثابت للمياه وليس عجبا لذلك أن يكون التاريخ قد بدأ في الصحراء، ففيها بدأت الزراعة وعلمية استنئناس الحيوان قبل ظهورهما في وادي النيل بعدة آلاف من السنين.
وعلى الرغم من صعوبة العيش في وادي النيل في هذه العصور القديمة إلا أن بعض الناس عاشوا حول جوانبة، وتوجد بعض أقدم الأدوات الحجرية التي صنعها الإنسان (الشكل 3-1) في رواسب النهر التي تكونت خلال العصر الحجري القديم المبكرة، والعصر الحجري القديم المتوسط. ويعود تاريخ أقدم هذه الأدوات إلى ما بين 400.000 – 200.000 سنة قبل الآن، وهي الأدوات التي صنعها إنسان العصر الحجري القديم المبكرة. وقد وجدت في الحصباء التي جرفتها السيول المحلية للنهر الذي تلا نهر ما قبل النيل (حصباء العباسية 2) والذي عاصر فترة العباسية 2 المطيرة (انظر الجدول السابق وشكل 1-17). أما الأدوات الحجرية التي صنعها إنسان العصر الحجري القديم المتوسط فقد وجدت حصباء مصاطب النيل المتقلب الذي عاصر هذا الانسان. وعمر هذه الأدوات هو بين (؟) 200.000 – 700.000 سنة. وتوجد أدوات حقبتي الحجري القديم المبكر والمتوسط التي عثر عليها حتى الآن في غير مكانها الأصلي. فقد نقلت جميعها بواسطة السيول التي جرفتها إلى مكانها الذي توجد فيه الآن ولم يعثر أبدا حتى الآن على أية أرضية حية كان إنسان هاتين الحقبتين يسكن عليها. كما لم يعثر مع هذه الأدوات في وادي النيل على أية بقايا للحيوانات أو النباتات التي عاشت في هاتين الحقبتين مما يجعل من الصعب استخلاص تصور للمنظر العام لبيئة هاتين الحقبتين أو لشكل المجتمعات السكانية التي عاشت فيها. واستخدم الانسان القديم حجر الظران في صناعة أدواته التي كان يشكلها في ورش وجد الكثير منها بجوار مكان وجود هذا الحجر. وأقدم هذه الورش هي التي وجدت في النوبة وهي من الحقبة الحجرية القديمة المبكرة. وقد كثرت هذه الورش في الحقبة الحجرية القديمة المتوسطة، كما أصبح تشكيل الحجر ذاته أكثر تعقيدا. وقد اكتشف مؤخرا بجوار مدينة قنا محجر قديم لاستخراج حجر الظران الذي كان يستخدم في هذه الورش (اشكل 302) لعله أقدم محجر عرف في التاريخ إذ يعود تاريخه إلى أكثر من 30.000 سنة. والمحجر عبارة عن حفرة كبيرة استغلت في استخراج الظران على نطاق واسع بحفر الخنادق والانفاق التي كانت تتصل ببعضها البعض تحت الأرض. ويدل حجم المحجر وطرق الاستخراج المتقدمة التي أدت إلى الاستغلال الكامل لكل مادة الظران فيه وحجم النفايات الخارجة منه والتي كومت في أكوام ضخمة بجوار الحفرة على أن سكان هذه المنطقة في ذلك العصر القديم لابد وأن كانوا كثيري العدد وربما أربوا على عدة مئات.
على أن أكمل الأماكن التي حفظت فيها بقايا انسان حقبتي العصر الحجري القديم المبكر والمتوسط هي في الصحراء خارج حدود وادي النيل فقد تزامنت هاتان الحقبتان مع فترتي العباسية 2 والصحاري المطيرتين واللتين جعلتا من الصحراء مكانا أفضل للعيش عن وادي النيل خلال معظم زمن هاتين الحقبتين. فقد كان النهر واطئا ومتقلبا أو اعصبفا تنتابه موجات من السيول الهائلة. وتوجد بالصحراء بعض بقايا الحيوانات التي كان انسان هاتين الحقبتين يعش على صيدها. بل وجد في بيرطرفاوي بجنوب الصحراء الغربية بقايا مجزر قديم (الشكل3-3) من حقبة العصر الحجري القدمي المتوسط في إحدى مستوطنات هذا المكان، وبالمجزر بقايا عظام وحيد القرن الأبيض والجاموس البري (أحد الأنواع التي انقرضت) وغزال الداما الكبير وغزال الروفيفورميس الصغير وحمار الوحش وغيرها من حيوانات السفانات التي تثبت بما لا يدع مجال للشك أن صحاري حصر خلال هذا العصر القديم كانت كثيرة الأمطار التي وصل متوسطها إلى حوالي 500 ملليمتر في العام كما كانت الصحراء مليئة بالشجيرات والحشائش.
وتعود أقدم الأرضيات الحية التي سكن عليها الإنسان القديم في وادي النيل إلى حقبة العصر الحجري القديم المتأخر (35.000 – 12.000 سنة قبل الآن) ففي هذه الحقبة ترك الانسان الصحراء بعد أن جفت مع حلول العصر الجليدي الأخير واستقر على جانبي النيل في النوبة وصعيد مصر وترك فيها مستوطنات كثيرة تشير الأدوات الحجري والمقتنيات الأخرى التي وجدت بها إلى أن سكانها كانوا ينتمون إلى مجموعات مختلفة لكل منها تركيبها الحضاري الخاص. ويبدو أنه عندما حل الجفاف بالصحراء نزلت وادي النيل هذه المجموعات المختلفة التي استقرت كل واحدة منها في منطقة خاصة بالنوبة والصعيد. وعندما وصلت هذه المجموعات إلى وادي النيل لم يكن النهر جزل العطاء، فقد كان موسميا تصله أمطار المرتفاعات الاثيوبية في دفعات كبيرة ومفائجة خلال فصل الصيف، كما لم تكن تصله المياه في فصل الشتاء فينكمش وقتها إلى برك صغيرة ومتناثرة. كانت الأوقات صعبة، وكان الجو باردا وجافا والنهر غير منتظم والعيش في ظل هذه الظروف كان شاقا. فقد كان الأمر يتطلب من الانسان ان يتعايش مع نهر يأتي في فيضان جارف في لحظة زمنية ثم ينقطع عن المجئ لشهور طوال.
واحتاج العيش في ظل هذه الظروف إلى ايجان مصدر جديد للغذاء غير صيد الحويان الكبير الذي لابد وأن الكثير منه قد هاجر من المنطقة في ظل هذه الأحوال المناخية القاسية. وقد وجد الانسان في الأسماك هذا المصدر منذ أقدم الأزمن ثم في درنات النبات منذ حوالي 18.000 سنة. وقد كان اللجوء لهذين الغذائين الجديدن نتيجة الإملاق وشدة المنافسة على مصادر الطعام التقليدية. وقد أصبح السمك غذاء رئيسيا لسكان النيل منذ العصر الحجري القديم المتأخر على الأقل وكان أول صيد للسم في البرك الضحلة التي كان الفيضان يتركها وراءه على سهله الفيضي بعد ترجعه إلى مجراه الأصلي. فقد كانت معظم الأسماك النيلة قادرة على العيش في هذه البرك حتى بعد جفافها بالكامل. أما عملية الصيد من النهر ذاته فقد جاءت متأخرة في العصر الحجري الحديث. ومن أسماكل النيل التي تستطيع العيش لمدة طويلة في البرك ذات المياه الضحلة القرموط Lung fish والبربوس Barbus اللذان يستيطعان العيش فيها حتى بعد جفافها فهما لا يحتاجان إلا إلى القليل من المياه والأكسجين.
ويبدو أن التنافس والصراع قد اشتد في هذه الفترة التي ضاق فيها العيش . وتشير دراسة عظام الموتى بالدفنات القديمة إلى أن معظم الموتي لقوا حتفهم في حوادث عنف. ففي المدفن الذي اكتشف بجل الصحابة بجوار وادي حلفا بالنوبة والذي قدر عمره بحوالي 14.500 سنة قبل الآن وجدت في هياكل 40% من دفناته مقذوفات من سهام الظران التي اخترقت العظم وسببت الوفاة. ويبدو أن أحدا لم يكتب له النجاة من المذبحة، فقد وجدت هذه المقذوفات في أجساد الرجال والنساء والأطفال - وليس من شك أن عراكا أو حربا لابد وأن نشبت بين الناس في ذلك الوقت المبكر.
وفي مدفن آخر لأحد الشبان بوادي الكبانية إلى الشمال من أسوان يرجع عمره إلى حوالي 20.000 سنة قبل الآن ، نجد أن هذا الشاب لاقى حتفه في عمل من أعمال العنف . فبعد أن نجا من جرحين حدثا لها عندما كان عمره حوالي 15 عاما ، مات من جرح في عظم الكتف الأيسر ولم يزد عمره عن العشرين. وتشير خواص هيكل جثة لاشاب الكبانية الذي عاش في العصر الحجري القديم المتأخر إلى أنه ينتمي إلى ذلك الجنيس الذي عاش في شمال أفريقيا في لك التاريخ ورام صحراوتها فيما بين مصر والمغرب. وقد وجدت دفنة الكبانية في خندق طولي حفر لعمق يصعب تقديره. وقد وضعت الجثة ووجهها لأسفل في مواجهة ناحية الشرق، وكما كانت اليدان ممدودتين على الجانبين وكذلك كانت الساقان، ومثل هذا الوضع غريب في دفنات هذا الزمن التي كانت الجثة في معظم حالات الدفن توضع وهي في حالة القرفصاء.
ويعد الهيكل العظمي الذي وجد في قرية نزلة خاطر بجوار طلحا في الصعيد أقدم هيكل عظمي وجد في مصر، إذ يعود عمره إلى ما بين 30.000 – 35.000 سنة. وهذا الهيكل لشاب يتراوح عمره بين 17 و 20 سنة ربما مات نتيجة تسخيره للعمل في محجر الظران القريب من الدفنة التي كانت في حفرة طولها 160 سم حفرت في اتجاه شرقي – غربي (الشكل 3-4) ، وكان وجه الجثة مدارا إلى ناحية اليسار أي إلى ناحية الغرب كما كانت الساقان ممدودتين ومرفوعتين قليلا. وكان الساعد الأيمن ممدودا أما الساعد الأيسر فقد ثني ووضع على الوسط. كما ردمت الجثة بالحجارة التي بلغ قطر بعضها أكثر من 40 سنتيمترا. وقد وضعت بأسفل الدفنة بعناية ظاهرة أداة حجرية تنتمي إلى العصر الحجري القديم المتوسط.
وشهد سكان وادي النيل اوقاتا عصيبة في فترة الفيضانات العالية التي استمرت لحوالي 500 سنة فيما بين 12500 و13000 سنة قبل الآن. وهذه كما نذكر جاءت نتيجة التغيرات الكبيرة التي حدثت في مناخ هضبة البحيرات الاستوائية. والتي سببت زيادة كمية المياه التي وصلت إلى مصر في تلك الفترة زيادة جعل العيش في وادي النيل صعبا ان لم يكن مستحيلا. وقد تسببت هذه الفيضانات في تهميش الوادي وهجرة أعداد كبيرة من سكانه إلى الصحراء التي كانت الأمطار قد بدأت تتساقط عليها عند ذلك التاريخ. واذا أردنا أن نأخذ مثالا من العصر الحديث لكي نصف صعوبة العيش في ظل الفيضانات العالية في وادي النيل فإني أورد فيما يلي وصف شاهد عيان هو وليم لكوكس مفتش الري المصري لفيضان سنة 1887 العالي والذي لم يكن بارتفاع فيضان سنة 1878 ناهيك عن فيضانات ما قبل التاريخ التي نحن بصددها:
وسيطر الرعب على كل البلاد خلال الفيضان التالي ، فقد أقيمت على كل جسور النيل وعلى مسافة كل 50 مترا مركزا للمراقبة كان بكل منها خفيران يعملان ليلا ونهارا. وعندما يظهر أحد الجسور قد قارب على الأنهار كانت تهرع إليه مجموعة من الرجال قوامها بين 50 و100 فرد. وأمتلأ النهر بالبواخر والقوارب التي تحمل الأخبار والقفف وعروق الخشب. وقويت كافة جسور النيل وسيقان الذرة التي قبتت بالخوازيق والأحجار لحمايتها من موج النهر. وفي إحدى القرى المبنية على أحد جسور النيل إلى الشمال من المنصورة في سنة 1887 رأيت بعيني منظرا لابد وأنه كان عاديا في الماضي، فعندما وصلت للقرية أخبار اختراق مياه الفيضان للجسر انتشرت الأخبار بسرعة فائقة، وهرع الفلاحون إلى الجسر ومعهم أطفالهم وبهائمهم وكلم ما يملكون. وكانت الفوضى عارمة عندما انكسر أحد الجسور الذي كان عليه بعض الجاموس والأطفال والدواجن والأثاث. واجتمعت النساء حول ضريح أحد الأولياء يولولن ويقبلن الضريح ويصرخن وكان الرجال يجرون وسط الزحام حاملين ما يجدونه أمامهم لإلقائه بالجسر في محاولة لإغلاقه. أما الفلاحون فقد نظموا أنفسهم في رباطة جأش ودخلوا الجسر المقطوع ذاته ووقفوا بجوار بعضهم البعض ليصدوا الماء عن بلدهم. وقد فعلوا ذلك بعد أن وضعوا في الجزء المقطوع بعض الأبواب والنوافذ التي انتزعوها من البيوت. وكذلك ربطات من سيقان الذرة والحطب – لقد جاءوا حقا في الوقت المناسب وهذكا كان الفلاحون يتعاونون في جبر القطع في الجسور.
هذا الوصف الحي لمخاطر فيضان عالي واحد يمكن أن يعطينا فكرة عن مدى صعوبة العيش في ظل خمسمائية سنة مستمرة من الفيضانات العالية والتي كانت في أغلب الأحيان أعلى من هذا الفيضان الذي قدمنا وصفه. لقد كان وادي النيل حقا مكانا يصعب العيش فيه عند بدء تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير. على أن ذلك قد عوضه انفتاح جبهة جديدة للعيش الطيب في الصحراء التي بدأت الأمطار تتساقط عليها ، فأصبحت بذلك مكانا مناسبا للعيش – صحيح أن أمطار الصحراء في هذه الفترة لم تكن غزيرة مما جعل تأمين المياه لسكان هذه التخوم أحد مشاغلهم الأساسية ، إلا أن سكنى الصحراء كانت أكثر أمنا للانسان.
وقد استطاع سكان هذه التخوم الجديدة بالصحراء استئناس البقر وجمع الحبوب على نطاق واسع ثم زراعتها وتربية الأغنام. وكانوا في أول هجرتهم من الرحل. ولكنهم سرعان ما استقروا في أماكن شبه ثابتة حفروا فيها آبارا كبيرة أقيمت للاستخدام العام. وانتجو وتاجروا في بعض البضائع ذات الطابع الترفيهي مما يشير الى أن نوعا ما من التنظيم الاجتماعي الطبقي قد نشأ في هذه المجتمعات المبكرة. وتعتبر قرية النبطة بجنوب الصحراء الغربية أقدم قرى مصر فعمرها يعود إلى 700 سنة قبل الميلاد ، بها عدد من المنازل التي بنيت في صفوف ، وبالكثير منها أفران وحفر لتخزين الحبوب، وبالقرية بئر للماء يمكن النزول إليه بسلم ربما حفر بغرض سقي المواشي (الشكل 3-5).
وتثبت دراسات ما قبل التاريخ الحديثة أن استئناس الحيوان قد عرف حوالي سنة 9000 ق.م. قبل أن يعرف الناس سكنى القرى بألفي سنة. ويبدو أ، البقر قد استؤنس في الصحراء الكبرى قبل استئناسه في منطقة الشرق الأوسط، مما قد يؤخذ دليلا على أن عملية استئناس الحيوان قد نشأت في كلتا المنطقتين على نحو مستقل. وقد وجدت في منطقة النبطة وبئر كسيبه بجنوب الصحراء الغربية بمصر عظام أبقار اعتبرها المختصون مستأنسة نظرا لخواصها التشريحية التي تختلف عن نظيراتها الرية. وكما سبق سكان الصحراء سكان وادي النيل في جمع الحبوب وتخزينها واستئناس الحيوان فقد سبقوهم أيضا في صناعة الأواني الفخارية.
وفي الوقت الذي عرف الانسان فهي سكنى القرى فإنهم كانوا يجمعون الذرة الرفيعة وغيرها من الحبوب البرية والافريقية المنشأ بكميات كبيرة وعلى نطاق واسع. وعلى الرغم من أن أحدا لم يستطع حتى الآن أن يثبت بطريقة قاطعة أن سكان هذه المناطق النائية في الصحراء قد عرفوا الزراعة في هذا الوقت المبكر ، فإن الاستخدام الكبير للحبوب والذي يتبين من وجود العديد من الحفر التي كانت تستخدم في تخزينها والعديد من الرحايا التي كانت تستخدم في طحنها، يشير إلى أن هؤلاء السكان إما أنهم عرفوا الزراعة أو أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من معرفتها فإذا صح هذا الاستنتاج فإنه يمكن القول أن سكان الصحراء قد عرفوا الزراعة وما لزمها من سكنى القرى قبل سكان وادي النيل بألفي سنة، بل وأنهم عرفوها في وقت يقارب ذلك الذي عرفت فيه في منطقة الشرق الأدنى.
ويبدو أن الزراعة في كل من صحراء مصر ومنطقة الشرق الأوسط نشأت بطريقة مستقلة ومتوازية ، ففي الشرق الأدنى ظهرت الزراعة في منطقة الهلال الخصيب (التي تمتد من شواطئ الشام إلى سفوح الأناضول إلى العراق) (الشكل 3-6) ، حيث موطن القمح والشعير البري ، وحيث بدأت زراعة هذه الحبوب في وقت مبكر جدا. وكما كان الحال في مصر فقد سبقت عملية الزراعة عملية جمع الحبوب البرية على نطاق واسع. فحوالي سنة 10.000 ق.م. كانت جماعة النطوفيين (Natufian) بفلسطين تصيد الغزال وترعى الماعز بجانب جمع القمح البري وطحنه في رحا حجرية. وفي وقت لاحق نقل الناس الحب وبذوره إلى مناطق لم يكن ينبت فيها بريا مثل شمال سوريا حوالي سنة 9000 ق.م. أما أقدم حبوب القمح والشعير المهجنة والمستأنسة فقد عرفت في مستوطنة أريحة بوادي الأردن سنة 8000 ق.م.
النهر يصبح أكثر عطاءً – الزراعة تأتي إلى وادي النيل
كان لفترة الهولوسين المطيرة (9000 – 2500 ق.م.) أثرها الكبير في تغيير شكل النيل وتحويله إلى نهر دائم ومنتظم يمكن التنبؤ بأحواله بحيث يصبح العيش في ظله ممكنا وسهلات نوعا، وفي بدء هذه الفترة كاني عترض مجرى النهر في الجنوب كما كان الحال وقت الأنهار الموسمية السابقة بعض الجنادل والعقبات إلا أن هذه سرعان ما زالت وأخذ النهر شكل مجراه الحالي حوالي سنة 9000 قبل الميلاد 0 وفي الوقت نفسه، نتسجة لارتفاع منسوب البحر الذي حدث مع تراجع العصر الجليدي الأخير ، بدأ النهر في بناء سهله الفيضي ابتداء من حوالي سنة 7500 ق.م. وعلى الرغم مما تخلل بداية الفترة المطيرة (بين سنة 9000 - 6000 ق.م.) من فترات قصيرة من الجفاف، فإنه يمكن القول أن هذه الآلاف الثلاثة من السنين كانت سنوات زادت فيها كمية المياه التي كان يحملها النهر عن 700 بليون متر مكعب في السنة بكثير (انظر الجزء الثاني من الكتاب). وقد حدثت بعد هذه الفترة الطويلة من الأمطار وفترة جفترة جفاف استمرت 800 عام (بين سنة 6000- 5200 ق.م.) تغير خلالها المناخ تغيرا أساسيا، وفيها قلت الأمطار وهبط منسوب النيل وهجر الناس منطقة الفيوم والأماكن العالية التي كانوا يسكنونها في وادي النيل ونزلوا بجوار جوانب النهر الواطئ. وعندما عاد النيل إلى الارتفاع في سنة 5200 ق.م. لم يعد تصرف النهر كبيرا كما كان قبل فترة الجفاف بل أصبح في حدود 150 بليون متر مكعب في السنة. ومثل هذا التصرف يعتبر عاليا بمقاييس زماننا الحديث ولكنه كان يعتبر كفايا في الوقت القديم لكي يجعل من النهر مكانا صالحا للعيش وقابلا للاستغلال دون الحاجة إلى تقنية خاصة – ويبدو أن أولئك الذين أجبروا على الهجرة من الصحراء خلال فترة الجفاف هذه قد وجدوا في السهل الفيضي للنهر مكانا مناسبا لتطبيق معارفهم الزراعية فيه فقد كاد السهل أن يكون مكانا مثاليا للزراعة بعد أن انتظم النيل في رجيمه الجديد فقد كان الماء يرتفع ليغطيه كل عام مما وفر الحاجة إلى استخدام أدوات لرفع المياه، كما كان لترسيب الطمي المتجدد على الأرض الزراعية كل عام أثره في خصوبة الأرض وتجددها المستمر دون الحاجة إلى عمل خاص لحفظ التربة كما كان لانخفاض الماء بعد ارتفاعه أثره في عمليات الصرف التي كانت تتم دون تدخل الانسان.
وتود أقدم الأماكن التي اكتشفت فيها الزراعة في مصر على الطرف الغربي لوادي النيل في الفيوم وفي قرية مرمدة على الحافة الجنوبية الغربية لمنطقة الدلتا. ويعود عمر هذه المستوطنات التي تنتمي إلى العصر الحجري الحديث إلى ما بين سنة 5200 وسنة 4000 ق.م.
ومن الباحثين من يعتقد أن الزراعة نشأـ في أرض مصر، ومنهم من يعتقد أنها أدخلت إليها بواسطة أقوام أـوا من الشرق الأدنى يحملون معهم فن الزراعة الذي كان قد نشأت فيها قبل ذلك بآلاف السنين. ويسوق الباحثين الذين يعتقدون بأن الزراعة قد نشأت في أرض مصر أن ظهور الزراعة فيها سنة 5200 ق.م. حدث في أعقاب فترة الجفاف التي تخللت فترة الهولوسين المطيرة والتي أدت إلى هخجرة سكن الصحراء إلى وادي النيل، مما قد يشير إلى أن الزراعة ربما تكون قد دخلت وادي النيل بواسطة هؤلاء الوافدين الجديد الذي كانت لهم معرفة كبيرة بفنونها. ويذكر هؤلاء الباحثون دليلا على ذلك تشابه الأدوات المستخدمة في كل من مستوطنات وادي النيل والصحراء الغربية وأن الناس في كليهما لم يعتمدوا على الزراعة فقط بل كانوا يعتمدون على صيد الحيوان وجمع النبات البري، أيضا فقد كان سكان مصر خليطا من الرعاة والفلاحين والصيادين، وقد ظل الحال كذلك حتى آخر عصر ما قبل الأسرات على الرغم من التقدم الحضاري الذي أحرزه سكان الوادي في ذلك الوقت المتأخر عندما سكنوا القرى والمدن وأقاموا في بعضها مبان هائلة للاستخدام العام.
أما الباحثون الذين يعتقدون بأ، الزراعة أدخلت إلى مصر من الشرق الأدنى فإنهم يسوقون دليلا على ذلك تشباه مجموعة النبات المستأنسة والمزروعة في مصر ونباتات هذه المنطقة. وبالفعل فقد كان القمح والشعير من أقدم الحبوب التي زرعت في وادي النيل ، ومنشأ هذه الحبوب كما رأينا هو منطقة الشرق الأدنى التي كانت أول مكان زرعت فيه وذلك قبل أن تزرع في مصر بعدة آلاف من السنين. ولم يعرف القمح والشعير في مستوطنات الصحراء المصرية فقد كان الحب المستخدم فيها هو الذرة الرفيعة وغير ذلك من الحبوب الافريية. وفي ضوء هذا الاكتشاف الحديث يصبح من الصعب الدفاع عن النظرية القائلة بأن سكان الصحاري هم الذين حملوا الزراعة معهم إلى وادي النيل فلم يكن لديهم قمح أو شعير لكي يدخلوه إلى الوادي.
لقد وجد المستوطنون الأوائل الجدد سهل فيضان النهر أنسب الأمكنة للزرع ولجني محصول واحد في السنة وخاصة بعد أن تنحسر عنه المياه. وفي عصر ما قبل الأسرات رأى السكان أن القليل من التحكم في فيضان النيل يعود بأحسن النتائج، وهكذا بدأ نظام ري الحياض الذي أصبح بعد سنوات طوال من الخبرة نظاما محكما من الجسور والأحواض والقنوات، وقد بقى هذا النظام سائدا لعدة آلاف من السنين. ومن الأمور التي تلفت النظر حقا أن نظام ري الحياض قد بدأ في أفقر مناطق مصر في أقصى الصعيد ولم يبدأ في المناطق الغنية نسبيا في الشمال، ومن الممكن أن يعزى ذلك إلى حاجة سكان هذه المناطق الفقيرة إلى التركيز على الزراعة كأساس للاقتصاد، أما المناطق الأخرى فقد تعددت فيها مصادر ثروتها الطبيعية، وكان السيد وجمع النبات فيها وفيرا، كما قد يكون لضيق الوادي في الصعيد ما سهل حصر الأراضي على نطاق يجعل البدء في عملية الزراعة ممكنا. وقد كان لنشأة الزراعة أثر في استقرار الانسان وبدء ظهور سلطة مركزية محلية لتنظيم الزراعة في الاقليم مما أدى إلى زيادة الثروة والانتاجية ثم إلى توسيع نفوذ هذه السلطة من اقليم إلى اقليم حتى نشأت الدولة الموحدة وقبل أن يوشك عصر ما قبل الأسرات على الانتهاء كانت حضارة مصر النهرية قد استكملت كل منظومتها: الملك وعقيدة الخلود والعواصم ذات المعابد والقصور والمداف الملكية الهائلة.
ري الحياض
انهم يقيسيون تصرف النيل بمقاييس بالأهرام يعرفون من ارتفاعها وانخفاضها ومتوسطها إن كان الشح أو الرخاء سيأتي: فكلما علا النيل كلما أعطى . وعندما ينحسر يبدأ البذارون بذر الحب على الطين ثم يأتي المحصول بعد وقت قصير
شكبير في أنطونيو وكليوباترا
ري الحياض هو نظام للاستفادة من فيضان النيل، وذلك بضبط دخول مياهه إلى سهل فيضان النهر الذي كان يقسم بجسور ترابية إلى أحواض يسمح لمياه الفيضان بالدهخول فيها ابتداء من 20 – 25 اغسطس من كل عام . وقد تراوحت مساحة الأحواض بين 2000 فدان في الصعيد و20.000 فدان في المناطق الواسعة بالدلتا. ويدخل الماء إلى الأحواض عن طريق قنوات يحفر مأخذها على منسوب أرض الحوض ومنسوب الحد الأدنى للنيل (التحاريق). وكانت كل قناة تغذي حوالي ثمانية أحواض تمدها بالماء الواحد تلو الآخر عن طريق قطع في الجسر الذي يفصل الحوض عن الذي يليه. وبكل قطع مبنى بالحجر (الشكل 3-8) وبهذه الطريقة كان الماء يصل إلى الحياض جميعا بطريقة متساوية. وفي القرن التاسع عشر كان متوسط عمق الماء فوق حياض الصعيد عندملئها هو بين المتر والربع والمتر والنصف. أما في الدلتا فكان متوسط العمق اقل من ذلك. كما كانت المدة التي بقى فيها الماء في الأحواض أقصر في الصعيد. وفي العادة كانت المياه تبقى في الأحواض بين 40 و60 يوما يتم بعدها صرف المياه عنها. وكان هذا الغمر السنوي للأراضي يستبب بتغطيتها بطبقة من الطمي التي كان يحملها النهر، مما كان يساعد أيضا على تسوية الأراضي تسوية تامة وفي سنوات الفيضان الواطي لم تكن تصرف المياه من الأحواض إلى النهر بل كان يستفاد منها في ري الأحواض التالية وذلك للاقتصاد في استخدام المياه وللاستفادة الكاملة منها.
ونظام ري الحياض قدم، ومن الأساطير التي رددتها كتابات هيرودوت وديودورس أن الملك مينا موحد القطرين وأول ملوك الأسرة الأولى الفرعونية (سنة 3100 ق.م.) كان أول من عمل على الاستفادة من نهر النيل بأن أقام سدا لتحويله لحماية مدينة منف عاصمة ملكه من الفيضان ، وكان ذلك للدفاع عنها ولا يعرف بالضبط مكان هذا السد ولكن هناك من المؤلفين من يظن أنه يقع عند بلدة قشيشة التي تقع إلى الجنوب من منف بحولاي 60 كيلو مترا والتي يقوم فيها الآن جسر كان يستخدم حتى وقت قريب في صد الفيضان عن مديرية الجيزة. وارتفاع هذا السد الحديث 15 مترا وطوله 450 مترا – وطبقا لرواية هيرودوت فقد قام الملك ميان بعد بناء السد بتحويل مجرى النهر ناحية الغرب.
وفي الحقيقة فإن هناك ما يؤكد أن النهر كان يجري بالفعل تحت سفح الجبل الغربي بين الجزية وأبو صير وقد تم الكشف عن أرصفة وتكسيات من الحجارة وموان على طول هذا السفح الواصل بين هاتين النقطتين والتي لابد وأنها بينت لخدمة طريق نهري كان موجودا بأسفل الجبل.
وعلى الرغم من هذا القول الذي يرجع الفضل لأول عمل من أعمال الري إلى الملك مينا فإن لدينا الآن ما يؤكد أن نظام ري الحيضا كان قد تطور إلى شكل متقدم قبل الملك ميان. ففي عصر الملك عقرب آخر ملوك عصر ما قبل الأسرات كان هناك نظام لاستخدام مياه النيل ويبين الرسم الذي نقش على صولجان الملك (الشكل 3-8) أحد أعمال الري وفيه يقف الملك وسط الرسم ممسكا بفأس بيديه وهو يشرف على هذا العمل، وأمام الملج رجل في يديه قفة لحمل التراب، ورجل آخر يحمل في يده بعض سنابل القمح، ووراء الملك منظر للحقول ورجلان يحملات مروحة وتحت قدمي الملك رسمت قناة الري التي كان يدشنها وإلى جانبها رجلان إما أنهما كانا يقطعان جسرا أو أنهما كانا يحفران قناة وراء واحد منهما شجرة من النخيل في فناء محاط بسياج من البوص المربوط بالحبال.
ويبدو أن نظام ري الحياض بدأ في أقصى الصعيد، ثم انتقل إلى الشمال حول مدينة منف على الجانب الغربي من النهر. وفي هذه المنطقة تمت تقوية جسر النيل الغربي ثم بنيت جسور عرضية من حافة هذا الجسر حتى الصحراء لتقسيم سهل الفيضان إلى أحواض، ثم حفرت قنوات تغذية من النيل لتنظيم دخول الماء إلى الأحواض للتأكد من حصولها على ما يكفيها من الماء حتى في أوقات الفيضانات المتوسطة. وحتى عصر الدولة الوسطى الفرعونية لم تكن الضفة الشرقية للنيل قد مست فقد رتكت وحالها مفيضا للماء الزائد والعالي الذي ميز فيضانات الدولة القديمة.
وفي عصر الدولة الحديثة عمل الفراعنة على الاستفادة من مياه النيل الاستفادة القصوى، فقد جاءوا بعد فترة شح فيها النيل وتفككت فيها الدولة. أراد فراعنة الدولة الوسطى أن يحصروا النيل في مجراه لكي يرفعوا منسوبع وقت الفيضان ليطول الأراضي حتى لو كان واطئا، وقد فعلوا ذلك بتقوية الجسر الشرقي للنهر فأضافوا بذلك أراضي جديدة في الضفة الشرقية، كما حكموا منسوب النهر لدرجة كبيرة، على أن حصر النهر في مرجاه وقت الفيضانات العالية التي اجتاحت البلاد وقت حكم هذه المملكة كان ذا أثر خطير وخاصة على منطقة منف ومنطقة مصر السفلى التي أصبحت مهددة بالغرق، ولعل ذلك هو الذي دفع الملك أمنمحت الثالث (الذي أسماه هيرودوت الملك موريس) لاستخدام منخفض الفيوم كمفيض للنيل يدفع فيه الماء الزاءد عبر عدد من الجسور لكي ينخفض منسوب النهر إلى الشمال من المفيض. فتحولت الفيوم بذلك إلى خزان هائل من الماء الذي أسماه هيرودوت بحيرة موريس. وقد اعتبر هذا العمل واحدة من أعظم أعمال العالم القديم.
وقد نالت منطقة الفيوم اهتمام فراعنة الدولة الوسطى الذين استطاعوا أن يستزرعوا عند مدخلها حوالي 21.000 فدان، وهي الأرض التي تقع فوق خط الكونتور 21 مترا الذي ثبت منسوب البحيرة عنده في عصر الدولة الوسطى من حكم الفراعنة (الشكل 3-18) ، وقد سورت هذه الأراضي وأضيفت إلى الممتلكات الملكية وأصبحت مقر الحكم في عد الملك أمنمحعت الثالث. وكانت بهذه المقاطعة مدينة عامرة هي التي أسماها اليونانيون كروكوديلوبوليس (أي مدينة التمساح وهي مدينة الفيوم حاليا) لوجود معبد الإله سوبك (التسماح) بها. وتثبت الآثار الكثيرة في هذه المقاطعة أهميتها الكبرى في عصر الدولة الوسطى، فبالإضافة إلى هرمي اللاهون (الذي بناه الملك سونسرت الثاني) والهوارة (الذي بناه الملك أمنمحعت الرابع؟) توجد مسلة سنوسرت الأول في أبجبج، وتمثالا أمنمحعت الثالث الهائلان (اللذان ذكرهما هيرودت في كتابه على أنهما كانا يقفان في وسط البحيرة فقو أعمدة يبلغ ارتفاعها أكثر من 50 فرسخا) والحقيقة أنهما كانا يقفان على الارض على شاطئ البحيرة. وأخيرا مبنى اللابيرينث الذي أصبح الآن أثرا مهدما والذي كان بناء عظيما بلغت أبعاده 250 X 300 مترا كان يحتوي على قاعة لكل اقليم من أقاليم مصر كان يوضع في كل منها آلهة الإقليم.
استخدم نظام ري الحياض مياه النيل لانتاج محصول شتوي واحد، إذ كانت الحياض تترك بعد ضم المحصول في الربيع وحتى وصول الفيضان التالي دون زرع. فالأراضي الوحيدة التي كانت تزرع في الصيف هي الأراضي العالية التي لم يكن يطولها الفيضان . ويشكل جسر النيل أهم هذه الأراضي التي كانت تزرع مرتين في السنة والتي كانت تروى في الصيف بالماء الذي كان يرفع إليها من آبار تدق خصيصا لهذا الغرض. ومنذ أيام الدولة القديمة الفرعوينة حدثت محاولات عدة لزيادة مساحة الأراض التي يمكن أن تزرع بمحصولين على أن ذلك لم يكن ممكنا إلا في المناطق التي كان فيها منسوب المياه الأرضية علايا وقريبا من سطح الأرض. وأنه لمن اللافت للنظر أن أغنى مناطق مصر وأكثرها تأثيرها والتي كانت تقع فيها عواصم مصر القديمة هي المناطق التي كان فيها الوصول غلى المياه الأرضية سهلا كمدينتي منف وأبيدوس أما مدينة طيبة فقد كانت المدينة الوحيدة على ضفة النيل الشرقية التي كان منسوب مياهها الجوفية قريبا من سطح الأرض.
كان توافر المياه الأرضية لذلك مصدرا للثروة والفائض. ذلك أنه على الرغم من أن محصولا واحدا كان كافيا لاشباع حاجات السكان في معظم السنوات إلا أنه لم يكن كافيا لتوليد فائض يذكر. فقد كانت الزراعة المعتمدة على ري الحياض طورا متقدما من زراعة الكفاف. أما التقدم الهائل للزراعة فقد حدث عندما استطاع المصري القديم أن يستخدم جزءا كبيرا من الأراضي لزراعة محصولين كما كان الحال في عهد الدولة الحديثة الفرعونية عندما أدخلت أدوات رفع المياه على نطاق واسع. وقبل دخول هذه الآلات كان نمط استخدام والأراضي هو نمط زراعة محصول شتوي واحد بغمر الحياض بالمياه بطريقة بسيطة ولكنها كانت ناجحة تنبع من ظروف النهر وتقلباته الموسمية، ولم يتطور هذا النمط إلا ببطء شديد فاستغرق ادخال نظام الري المستديم أجيالا طوالا بل أن ادخال آلة رفع بسيطة مثل الشادوف قد احتاج إلى آلاف السنين. وانك لتجد المحراث في الدولة القديمة على حاله لقرون طوال بل لعلنا لا نزال نراه حتى اليوم (الشكلان 3-10). هذا التحفظ الشديد نراه أيضا في نوع النباتات التي ظل المصريون يزروعونها على طول تاريخهم الفرعوني دون أن يدخلوا عليها أي جديد. ولم يتم إدخال أنواع جديدة من الزراعات إلى في العصرين البطلمي والروماني – ولعل التجديد الوحيد الذي حاول المصريون عمله هو في مديان استئناس الحيوان، فقد كانت هناك محاولات لاستنئاس الضبع والغزال والجدي البري وقت الدولة القديمة ولكنها لم تنجح. كما أدخل المصريون الخروف الآسيوي ذا الفروة الناعمة لكي يحل محل الخروف المحلي الذي كان يصعب جز صوفه كما قبلوا دخول الحصان وقت الهكسوس والجمل كحيوان للنقل في العصر البطلمي.
وربما يعود جزء من الطبيعة المحافظة للحضارة المصرية القديمة لحقيقة أن النيل كان حسنا ومنتظما لأغلب الوقت فقد كانت الفترات التي علا فيها أو انخفض عن معدله قصيرة. ومع ذلك فقد تركت هذه الفترات أثرا عميقا على البيروقراطية الصمرية التي لم تكن معدة لمواجهتها. وقد أعطينا بعض الأمثلة للصعوبات التي واجهتها الحكومة المركزية عندما حلت بمصر سنوات طوال من الفيضانات الواطئة في مناقشتاتنا بالجزء الثاني ، لقد كانت هذه الأحوال أكبر من أن تستطيع البيروقراطية الحكومية أن تتحمله فتحطم النظام السياسي والاجتماعي بكامله.
كما انه باستثناء أعمال الري الكبير التي قام بها المهندسون الملوك من الدولة الوسطى الفرعونية، فإن الزراعة ظلت لمدة طويلة تدار على المستوى المحلي ولم تعرف مصر في عصورها القديمة شبكة للري على المستوى القومي، بل كانت لكل مقاطعة قنواتها كما لم يكن بمصر كما لاحظنا فيما سبق آية آلة رفع لمدة طويلة جدا من الزمان. كان حفر وصيانة القنوات من عمل السلطات المحلي وعن طريق الخدمة العامة التي كانت تعبأ كل عام. وقد تغير نظام الخدمة العامة بعد ذلك وأصبح عملا قهريا استمر حتى آخر سني القرن التاسع عشر الميلادي حين كان الفلاحون يساقون ويسخرون خلال فصلي الصيف والشتاء لصيانة منظومة الري وحماية الجسور وقت الفيضان دون أجر.
أما الأنشطة التي كانت محل اهتمام الحكومة المركزية فقد كانت قياس الأراضي ومراقبة منسوب النيل. وكان هذان النشاطان متصلين بإقرار معدل الضرائب على المحاصيل. فبعد كل فيضان كان موظفو الحكومة المركزية يقيسيون ويحصرون الأراضي في مصر القديمة (الشكل 3-11) كما كتب رميس الثالث في إحدى رسائله لأبيه، وهناك الكثير من الرسوم الخاصة بمسح الأراضي في آثار مصر القديمة.
وكان غمر الأراضي خلال الفيضان يعرضها لتغيير أبعادها ومساحاتها، فكثير ما كانت تجرف منها أجزاء أو يضاف غليها طرح جديد. واذا فقد أتقن المصريون فن المساحة منذ أقدم الأزمنة. وكان قياس طول الأراضي يتم بحبل مجدول طوله مائة ذراع (وكان يسمى في صمر القديمة الخيط) وكان طول الخيط 52.5 مترا، أما المساحة فكانت تحسب بالسيتات أو الخيط المربع الذي كان يقسم على مائة وحدة لكل منها طولها خيط وعرضها ذراع واحدة. وقد سميت هذه الوحدة المساحية الكبيرة في العصر المتأخر بالأرورة وهي كلمة يونانية تعني الأرض المحروثة. وكانت تساوي 100 X 100 ذراع (أو خيط مربع) أو ما يساوي 2750 مترا مربعا أو ما يقرب من ثلثي فدان في لغتنا الحديثة. كما كانت الأراضي موثقة طبقا لملكيتها وكانت الملكيات تراجع كل عام حسب مقاييس الأرض. على أن الخرائط لم تعرف في مصر القديمة.
وكان قياس منسوب النهر أحد الأ‘مال المهمة للحكومة المركزية، فقد كان منسوب النهر هو الذي يحدد مساحة الأراض التي ستغمرها مياه العام، كما كانت مراقبة المنسوب مهمة لتنبيه السكان إلى مخاطر الفيضان عندما يرتفع ارتفاعا كبيرا. وطبقا لرواية ديودورس فإن سفنا يقودها ملاحون مهرة كانت تخرج من عند مقياس منف لتسبق الفيضان لتنبه السكان ليستعدوا لمواجهة الأخطار، كما كانت هناك أبراج مراقبة على طول النيل لارسال الاشارات الخاصة بأحوال الفيضان لبعضها البعض.
إدخال آلات الرفع وتعمير إقليم الفيوم
ظل رفع الماء مقصورا على استخدام الدلو طويلة حكم الدولتين القديمة والوسطى في مصر الفرعونية، ولم يتم ادخال الشادوف إلى في عصر العمارنة (الأشكال 3-12، 3- 13، 3-14) وهذه الآلة البسيطة التي يحتاج تشغيلها إلى جهد مرهق هي عبارة عن دلو مثبت بحبل في طرف عصا من الخشب بطرفها الآخر ثقل مقابل وهي مصممة لرفع الماء في الدلو لارتفاع المترين (وان كان بعضها صمم لرفعه لمسافة أعلى) ويمكن لرجلين يعملان بالتناوب على الشادوف كل ساعة أن يرفعا من عمق مترين حوالي مائة متر مكعب في كل 12 ساعة. وهي كمية تكفي لري حوالي ثلث فدان أو حوالي أربعة فدادين حلال فصل الصيف. ولما كان هذا العمل مضنيا ومكلفا فقد اقتصر استخدام الشادوف على ري الحدائق والحيازات الصغيرة. ولم يتم البدء في ري المساحات الكبيرة للزراعة الصيفية إلا بعد ادخال الطنبور والساقية إلى مصر في العصر البطلمي.
ويستخدم الطنبور (حلزون ارخميدس) في رفع الماء أيضا، وهو يتكون من اسطوانة بداخلها حجرة مقسمة إلى أقسام حلزونية تنتقل فيها المياء من حلزون إلى آخر عندما تدار الاسطوانة، أما أهم آلات الرفع التي ادخلت إلى مصر فقد كانت الساقية وهي عبارة عن عجلة كبيرة رصت حول محيطها أواني فخارية (الشكلين 3-15 ، 3-16) وعندما تغطس العجلة في الماء فإنها ترفع الماء لمسافة تساوي بالتقريب قطر عجلتها والتي تتراواح عادة بين أربعة وستة أمتار. ويمكن لساقية تدار بثورين بالتناوب كل ساعتين ولمدة اثتني عشرة ساعة رفع 285 مترا مكعبا من الماء من عمق أرعبة أمتار، وهذه كمية تكفي لري ما يقل قليلا عن الفدان أو حوالي اثني عشر فدانا خلال مسوم الصيف. وقد أدى إدخال الساقية إلى مصر في العصر البطلمي وانتشارها على نطاق واسع بعد ذلك إلى زيادة مساحة الأراضي المزروع صيفا وإلى إدخال محاصيل صيفية نيلية جديدة مما زاد من ثروة مصر.
وقد أدى انتشار السواقي إلى زيادة مساحة الأرض الزراعة والى امكان استخدام أراضي منخفض الفيوم التي كانت حتى ذلك الوقت ومنذ أيام الدولة الوسطى الفروعنية مفيض لماء النيل وبحيرة هائلة المساحة – فقد قام البطلميون بتجفيف البحيرة وتحويل قاعها إلى مقاطعة اتخذوا عاصمة لها مدينة كروكوديلوبوليس الواقعة عند مدخل الحبيرة والتي كانت قائمة منذ الدولة والوسطى ثم أعادوا تسميتها إلى أرسينويتس بعد وفاة أرسينوي أخت بطليموس الثاني وزوجته (283-246 ق.م.) وقد جفت البحيرة بخفض منسوبها من 21 مترا فوق سطح البحر (وهو منسوبها وقت الدولة الوسطى ) إلى منسوب مترين تحت سطح البحر وقت حكم بطليموس الأول (232 – 283 ق.م.) فأضافوا بذلك إلى الأراضي الزراعية بمصر حوالي 310.000 فدان جديدة.
وقد أمكن التعرف على منسوب البحيرة الجديد بعد تجفيفها من دراسة بئر ساقية قديم اكتشف إلى الشمال الشرقي من بركة قارون كان يستخدم وقت حكم الملك بطليموس الثاني (الشكل 3-17). وقد أمكن التعرف على تاريخ البئر لوجود احدى العملات التي دقت في أول عصر هذا الملك بداخله. كما أمكن التعرف على منسوب الماء فيه وقت استخدامه عند الخط المتغير اللون الذي وجد على حجارة تكسية حوائطة نتيجة تجمع الأملاح عند هذا الخط عندما ثبت المنسوب. ومن المؤكد أن هبوط منسوب بحيرة الفيوم كان بفعل البطالمة وأنه لم يكن نتيجة عوامل طبيعية. فقد كان النيل عاليا وحسنا وقت حكم البطالمة كما سبق أنب ينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ولم يكن لينقطع اتصاله بالفيوم إلا بفعل الانسان. وقد رأى البطالمة أنه لم يعد هناك ما يعدو لاستخدام منخفض الفيوم كمفيض لمياه النيل، بل رأوا وأحوال النيل حسنة – أنه من الأفضل تجفيف البحيرة وتنظيم دخول الماء فيها فبنوا سدا بعرض ممر الهوارة (الذي يصل بين الفيوم والنيل) عند اللاهون، ومن الممكن أن يكون بطليموس الأول قد استخدم أجزاء من السد القديم الذي كان قد بناه أمنمحعت الأول في المكن نفسه الذي توجد بقاياه حتى الآن حول مدخل الهوارة بجوار اللاهون لاستكمال السد الذي أقامه. وكان غرض السد هو اغلاق ممر الهوارة كله إلا من نقطة واحدة بجوار اللاهون جهزت ببوابات لضبط دخول الماء في المنخفض حتى لا يزيد ارتفاع البحيرة عن ناقص مترين عن سطح البحر وتقع أطلال المدن البطلمية في الفيوم حول منسوب سطح البحر أو فوقه (الشكل 3-18) ولم تكتشف حتى الآن أية مدينة من هذا العصر تحت منسوب سطح البحر وهذا دليل آخر على أن منسوب البحيرة وقت العصر البطلمي كان تحت منسوب سطح البحر بحوالي المتر أو المترين.
ويعتبر نظام الري بالفيوم فريدا في أرض مصر، فهو الوحيد الذي تتفعر فيه القنوات في نظام شعاعي وبمنحدر كبير.
وقد أدت اضافة الأراضي الجديدة بالفيوم وانتشار استخدام الساقية في الزراعة الصيفية إلى زيادة كبيرة في ثروة مصر وفي عدد سكانها الذين قدر عددهم بأقل قليلا من خمس ملايين نسمة في ذلك الوقت وهو أكبر عدد سكن مصر خلال تاريخها الطويل وحتى منتصف القرن التاسع عشر. ومما زاد في ثروة البلاد كفاءة الادارة البطلمية ، اذ تتحدث أوراق البردي من ذلك الوقت عن السلسلة الجطويلة من الموظفين الذين كانوا مسئولين عن استخلاص أكبر الثروة من أرض مصر بتشغيل عمال السخرة في أعمال الري والمساحة وصيانة الجسور وتطهير الترع، وكان هؤلاء العمال يجندون للفترة بين شهري ابريل ويونيه من كل عام. كما كان هؤلاء الموظفون مسئولين عن حصر الأراضي وجمع الضرائب والمحاصيل. وينبغي ألا ننسى أن هذه البيروقراطية الهائلة كانت لجمع الثروة للحاكم ولم تكن موجهة أبدا لخدمة الفلاح في الأرض. فقد كان الفلاح المصري مستغلا أبشع استغلال وكان يعيش في فقر مدقع، ولعل القول المصري القدمي الذي جاءنا من مصر الفرعونية "بأن حسابه سيدوم حتى الآخرة" يصف حاله تماما.
إستخدام الأرض في مصر القديمة والوسيطة
قيل لنا أن نابليون أكد على ضرورة صيانة أعمال الري في مصر، وقال في هذا المجال لا توجد هناك حكومة في هذا العالم لها كل هذا التأثير على رخاء السكان مثل حكومة مصر. ففي فرنسا ليس للحكومة أي تأثير على الأمطار أو الثلوج التي تسقطع في بوديس أو بري. ولكن الحكومة في مصر لها تأثير مباشر على ادارة فيضان النيل. وهذا هو الذي جعل هناك فرقا بين مصر التي أدارها البطالمة ومصر التي تحللت تحت حكم الرومان وخربت تماما تحت حكم الترك. من كتاب شارل رو 1937 ، "بونابرت حاكم مصر" – لندن صفحة 113.
كانت الأرض التي يمكن أن تزرع في مصر هي تلك التي يغطيها النهر عند الفيضان ولذلك فقد اختلفت هذه المساحة من عام إلى عام تبعا لمقدار ارتفاع الفيضان. وكانت مساحة هذه الأرض في وقت الفيضانات الحسنة في حدود سبعة ملايين فدان (الفدان 1.038 من الآكر أو 4200.8 متر مربعا). وتبلغ مساحة أرض الصعيد القابلة للزراعة حوالي 8.000 كيلو متر مربع (1.9 مليون فدام) وهي محصورة في واد ضيق ومحدودة المساحة يصعب التوسع فيها ، على أن بعض هذا التوسع قد حدث فعلا بعد ادخال وسائل رفع المياه فقد أمكنت زراعة جسور النهر العالية والتي تمثل بين 10% و15% من المساحة الكلية للأرض.
وقد اختلفت مساحة الأرض القابلة للزراعة في الدلتا من وقت إلى آخر تبعا لمساحة الأرض التي أمكن صرف مياهها واستصلاحها، وفي البدء استخدمت معظم هذه الأراضي المستصلحة كمراع، وكانت مأهولة بالسكان. إلا أن هذه الأراضي وغيرها من الأرض العذراء سرعان ما أصبحت تشكل جبهة تحد مستمر لاستصلاحها واستخدامها في الزراعة. وقد زادت مساحة الأراضي المستخدمة في الزراعة والرعي نتيجة هذه العمليات من 8.000 كيلو متر مربع في عصر ما قبل الأسرات إلى 10.000 كيلو متر مربع في سنة 1800 ق.م. إلى حوالي 13.000 كيلو متر مربع في وقت عصر الرعامسة (سنة 1250 ق.م.) إلى حوالي 16.000 كيلو متر مربع في عصر البطالمة (سنة 150 ق.م.) وكانت المزارع في الدلتا حتى حكم الدولة الحديثة متفرقة ومتباعدة مما كان يسمح بالتوسع واستصلاح الأرض الذي كن يتم ببناء الجسور والقنوات وصرف المياه التي كانت تغمر أجزاء كبيرة من الدلتا. ويمكن لنا أن نستشف روح المغامرة في هذه العمليات من نقوش الفراعنة التي كانوا يسجلون فيها بالفخر أعمال أمراء هذه المناطق في تأسيس المدن وتعمير المناطق غير المأهولة، وقد أسس مدير الأعمال الخاص (الخولي) للملك رمسيس الثالث حوالي سنة 1170 ق.م. مزرعة من الفواكه على النهر الغربي (الفرع النوبي للدلتا) أهداها إلى الإله آمون في أرض استخلصها من بركة الماء.
وكان اقليم الفيوم جبهة أخرى من جبهات استصلاح الأراضي، فقد كان مفيضا لماء النيل بشكل بحيرة هائلة على طول تاريخه حتى مجئ البطالمة الذين رأو تنظيم دخول الماء فيه وتجفيفه واضافة أراضيه التي بلغت حوالي 1300 كيلو متر مربع إلى أراضي مصر الزراعية.
ويمكن القول أن أراضي مصر القابلة للزراعة (أو الرعي) زادت من حوالي 16.000 كيلو متر مربع (3.8 مليون فدان) في عصر ما قبل الأسرات إلى حوالي 17.000 كيلو متر مربع (4.1 مليون فدان) في سنة 2500 ق.م. إلى 22.000 كيلو متر مربع (5.3 مليون فدان) في سنة 1250 ق.م. إلى حوالي 27.300 كيلو متر مربع (6.55 مليون فدان) في سنة 150 ق.م.
وقد اختف أثناء عملية استصلاح الأراضي الكثير من المراعي والأحراض وغيرها من الأراضي العذراء التي كانت صالحة لصيد الحيوان وكذلك الكثير من البرك والبحيرات التي كانت صالحة لصيد الأسماك. وقد احتاج استصلاح الأراضي وصيانتها عملا ضخما ومستمرا لتطهير الترع وبناء الجسور ، مما احتاج الى انشاء سلسلة على درجة كبيرة من الكفاءة على كل من المستويين المحلي والمركزي. ولذلك فقد كانت فترات الاستقرار والقوة فترات للتجديد والتوسع في استخدام الأرض واستصلاحها، أما فترات الفيضانات الواطئة والحكومات الرديئة فقد كانت فترات اهملت فياه الأرض وانحسر فيها العمران وقل فيها عدد السكان.
وكانت الاراضي منذ أقدم الأزمنة توثق في سجلات تبين مساحة الأرض ومالكيها كما كانت تصنف من حيث انتاجيتها ويمكن معرفة شئ عن نوع هذه السجلات من درساة بردية ولبور التي سجلت أراضي الدولة والمعابد في وادي النيل فيما بين المنيا والفيوم في وقت حكم الملك رمسيس الخامس (حوالي سنة 1150 ق.م.) وقد مسحت هذا الأراضي فيما بين منتصف الشهر الثاني وحتى أوائل الشهر الثالث من شهور الفيضان في تقويم مصر القديمة (أي في الأسبوعين الأخيرين من شهر يوليو طبقا لتقويمنا الحديث) ، وهو الموسم الذي يسبق جبر الجسور واستحالة مسح الأراضي أو حصر المحاصيل. وعلى الرغم من صعوبة معرفة المصود من المصطلحات التي استخدمت في هذه البردية الا أن من المؤكد أن الارض كانت تصنف حسب خصوبتها وقدرتها على انتاج المحاصيل. كانت الأرض مقسمة إلى مجموعتين أساسيتين: الأراضي الواطئة التي كانت تغطيها مياه الفيضان، والأراضي العالية عما حولها التي كانت تتحول إلى جزر وقت الفيضان. والأراضي الواطئة (والتي سميت بعت) هي أرض الحياض التي قسمت إلى أراضي يغطيها الفيضان حتى عندما يكون واطئا (وسميت أرض نحب) وهذه كانت تنتج محصولا شتويا واحدا والى أراض لم يكن يصلها الفيضان المتوسط (وسميت أرض طيني) وهذه كانت تتنتج محصولين (شتوي وصيفي) متوسطين. أما الاراضي العالية (وسميت أرض القايت) فقد كانت تزرع محصولا صيفيا بالاضافة الى المحصول الشتوي، كما كانت تجود فيها الحدائق والمحاصيل ذات العائد العالي لان خدمتها وتوصيل المياه اليها كانت تحتاج الى عمالة كبيرة وكانت هذه الاراضي هي الاراضي الممتازة التي كان يملكها الفرعون أو النخبة الحاكمة.
وحتى بداية القرن التاسع عشر كانت الأراضي مصنفة تصنيفا مماثلا. وفي كتاب وصف مصر الذي أعدته الحملة الفرنسية صنفت الأراضي إلى الأقسام التالية: 1) الأراضي التي تزرع محصولا شتويا (وهو المحصول الأساسي الذي كان يزرع بعد غمر الأراضي بالماء)، وكان اسمها البياضى أو أرض الحياض ( =؟ بعت في تقسيم مصر الفرعونية). 2) الأراضي العالية والتي قسمت إلى أرض الحياض التي لم تكن تصلها الفيضانات المتوسطة إما لارتفاعها النسبي أو لأنها كانت تحاط بسياج، وكانت تزرع محصولا صيفيا بالإضافة إلى المحصول التشوي ومن هنا كانت تسميتها بالصيفي أو القيظي (=؟ أرضي طينى في تقسيم مصر الفرعونية)، وتلك التي كانت عالية تقف كالجزر وقت الفيضان وكانت تسمى أرض النيبارى (=؟ القايت في تقسيم مصر الفرعونية) وكثيرا ما كانت هذه الأراضي تزرع محصولا ثالثا وهو النيلي (الذي كان يزرع وقت الفيضان).
وهناك الكثير من الوثائق التي تعطي فكرة عن طرق استخدام الأرض وكيفية ادارتها في مصر القديمة ومصر القبطية . وتثبت وثائق بيع الأراضي الزراعية في مصر القديمة أن جزءا من الأرض كان مملوكا للافراد منذ أقدم الأزمنة، على الرغم من أن الملك أو الحاكم كان على مر التاريخ هو من الوجهة النظرية مالك الأرض كلها يمنحها لمن يشاء ويسحبها وقت أن يشاء إلى أن من الوجهة العملية استقرت ملكية الكثير من الأراضي التي كان الملك قد منحها لأعضاء أسرته أو من في مستواهم ممن "كرمهم الإله" في أيدي الأفراد تتوارثها الأجيال سواء عن طريق أن يرق الابن وظيفة أبيه التي كاثيرا ما تحمل معها امتياز ملكية الأرض، أو بأن توقف الأرض على خدمة الميت وطبقا لقواعد هذا النظام الديني فقد كان على الابن الأكبر ، الذي أصبح الآن عميدا للعائلة وناظرا على الوقت ، أن يدعو أشقاءه وشقيقاته لاخذ نصيب من انتاج الأرض – وبطبيعة الحال كان للملك الحق في إلغاء أي من هذه الترتيبات.
وابتداء من الأسرة الخامسة ازداد وقف الأراضي على المعابد، وكانت معظم هذه الأراض في أول الأمر في متسعات الدلتا ثم أصبحت بعد ذلك في كل مكان. وعندما جاء حكم الدولة الحديثة الفرعونة كانت مساحة الأراضي الموقوفة على المعابد ضخمة جدا. وتقرر بردية هاريس مساحة الأراضي التي كانت موقوفة على المعابد وقت حكم الملك رمسيس الثالث بمقدار 1.070.41 أروة (الأروة ثلثا فدان بلغتنا الحديثة) . ولا يعرف بالضبط ان كانت هذه المساحة هي كل المساحة الموقوفة على المعابد أو أ،ها مساحة الأرض الجديدة التي أوقفت في عهد هذا الملك فقط – وواضح من البردية أن أراضي الأوقاف كانت تشكل جزءا كبيرا من أراضي مصر الزراعية وقد ظل الحال كذلك حتى مجئ الامبراطور اغسطس في العصر الروماني عندما حل الجزء الأكبر من هذه الأوقاف حتى يتمكن من كسر شوكة الكهنة.
وبجانب أراضي الوقف كان هناك جزء كبير من الأرض مملوكا للدولة أو الملك أو الامبارطور حسبما كان نظام الحكم. كما كانت لحاشية الملك ولأصحاب الأموال الذين رأوا فائدة في استثمار أموالهم في الأرض ملكيات كبيرة وفي مثل هذه التركيبة من الملكية كانت الأراضي المعروضة للأفراد قليلة جدا.
وعلى الرغ من كثرة التغيرات التي حدثت في ملكية الأرض وفي نوع الوقفيات عبر تاريخ مصر الطويل بتقلب الحكومات والغزو الأجنبي والحروب فإن هذا كله لم يغير من نمط توزيع الأرض الذي ظل على طول التاريخ وحتى منتصف القرن التاسع عشر منحة مطلقة من الحاكم. وفي عام 1855 ميلادية عندما دخل نظام تمليك الأراضي إلى مصر كان أقل من ثمن أراضي مصر مملوكا ملكية خاصة، وكان الباقي مملوكا للدولة وللحاكم ويعيش عليها الناس كمنتفين وقد تغير ذلك فيما بين سنة 1855 وسنة 1858 ميلادية عندما صدر بمصر قانون يسمح بالملكية الخاصة للأرض وتوريثها حسب قواعد الشريعة الاسلامية، وأعطى الحق لكل فلاح يستطيع أن يثبت أنه كان يفلح قطعة من الأرض لخمس سنوات متتالية وأنه دفع عتها ضرائبها الحق في ملكية هذه القطعة من الأرض وأن يورثها لمن بعده، وفي نهاية القرن التاسع عشر وبعد أربعين سنة من تطبيق القانون عادت ملكية معظم الأراضي الزراعية الى عدد قليل من الملاك فقد أصبحت 42.5% من مساحة الأراضي الزراعية في يد 11.000 مالك فقط يمثلون أقل من 1.7% من الملاك وكان معظم هؤلاء الملاك لا يعيشون على الأراضي.
وتثبت الوثائق التي جاءت من مصر القديمة أن ملكية معظم الأراضي كانت في أيدي أفراد لا يعيشون عليها ولا ينوون زراعتها بأنفسهم، فقد كان معظم فلاحي الأرض من المعدمين الذين لا يستطيعون شراء الأراضي. ويبدو أن سعر الأرض كما ورد في بعض الوثائق القديمة كان ضئيلا جدا. ففي احدى الوثائق بيعت ثلاث أرورات (اي ما يوازي فدانين) بثمن بقرة واحدة. ولما كانت الأراضي تشترى للاستثمار فقد كان سعرها يتحدد بما يمكن أن تجليه من فائدة من مقدار الايجار الذي كان يدفع عينا من المحصول. ولذا فإن ثمن الأرض كان يتحدد بكمية المحصول التي سيحصل عليها المشتري. وفي بردية ولبور ان الايجار كان في حدود 50% من المحصول عن كل أرورة من أراضي الوقف _التي كانت موضوع هذه البردية). ولما كان سعر الفائدة السائد في مصر القديمة في حدود 17% إلى 25% فقد كان سعر الأرض يقدر بما يعادل مرتين إلى ثلاث مرات سعر المحصول النتائج منها في سنة واحدة.
وبعد أن يدفع المستأجر ايجار الأرض، كان عليه أن يضع جانبا حوالي 10% من المحصول للبذور وكانت الأرورة التي تنتج في العادة حوالي 10 حار (وحدة كيل في مصر القديمة تساوي حوالي 50 كيلوجراما) تحتاج إلى حار واحد من البذور، كما كان على المستأجر أن يضع جانبا من المحصول تحت حساب الضرائب التي كانت تربط لمدة طويلة حسب ارتفاع النيل وانتاجية الأرض، وكانت تتغير لذلك من سنة إلى أخرى، إلا أن هذا كله قد تغير وقت حكم الرعامسة عندما ثبتت الضريبة بمقدار محدد ، وأصبحت تجبى دون النظر الى ارتفاع النيل أو انتاجية الأرض. ويمكن القول أن مقدار الضريبة كان في حدود 10% من المحصول في الكثير من السنوات. وبعد أن يضع المستأجر هذين الاستقطاعين جانبا فإنه لا يبقى له الا حوالي 3 حار لكل أرورة (أي حوالي الأردب الواحد لكل ثلثي فدان).
ويمكن معرفة متوسط مساحة الأرض التي كان يستأجرها الفرد من بردية هاريس التي كتبت خلال حكم الملك رمسيس الثالث والتي تبين أن عدد السكان الذين كانوا يعيشون على 1.1 مليون أرورة (وهي جملة أراضي وقف المعبد) كان في حدود 107.615 رأسا ومعنى هذا أن نصيب الرأس من الأرض كان حوالي 10 أرورات – وتشكل مساحة أراضي الوقف التي وردت في البردية حوالي تسع أراضي مصر الزراعية في العصر الحديث، ولابد أنها كانت تشكل نسبة أكبر من أراضي مصر القديمة الزراعية، وهي تمثل لذلك عينة طيبة من أراضي مصر بحيث يمكن القول بأن كثافة السكان فيها كانت قريبة جدا من كثافة السكان في أرض مصر عامة. ولما كان معظم المشتغلين بعلوم المصريات يفسرون الرأس في احصاء بردية هاريس على أنها رأس العائلة التي كانت تتكون في الأغلب من خمسة أفراد فإنه يمكن القول بأن جملة السكان الذين كانوا يعيشون على هذه الأرض هو حوالي 500.000 نسمة بما في ذلك النساء والأطفال بمتوسط أرورتين للفرد الواحد، كان انتاجهما كا رأينا حوالي 300 كيلو جرام من الحب في السنة هذا اذا افترضنا أنهما كانا يزرعان بكاملهما بالحبوب وهذا أمر لم يكن يحدث، فقد كان جزء من الأرض يحجز لزراعة الكتان وغيره من المحاصيل المستخدمة لأغراض غير الغذاء كما كان هناك جزء آخر يحجز لزراعة الخضروات وغيرها من المحاصيل ذات السعرات الحرارية المنخفضة. فاذا قدرنا أن ذلك الجزء من الأرض الذي لم يكن يزرع بالحب كان في حدود 20% من جملة الأرض، فيكون متوسط نصيب الفرد من الحب هو 240 كيلو جرام في السنة أي بمعدل ثلثي كيلو جرام يوميا. وهي كمية تعتبر اليوم أقل ما يمكن أن يقيم أود رجل بالغ يبلغ وزنه حول الخمسين كيلو جرام ويعمل في عمل الفلاحة الشاق. وقد يكون من المفيد أن نذكر أن أجر العامل الزراعي في الوقت الروماني كان رغيفين من الخبز يبلغ وزنهما نصف كيلو جرام.
وقد انحدر الحال بمستأجر الأرض عندما بدأ المصريون في تصدير الحبوب وقت الملك بسماتيك (الأسرة السادسة والعشرين القرن السابع قبل الميلاد)، فقد أصبحت مصر منذ ذلك التاريخ ولقرون طوال مصدرا مهما لاطعام سكان بلاد البحر الأبيض المتوسط مما جعلها مطمعا للغزاة من أمم هذا البحر القوية، فاستولى عليها اليونانيون في سنة 323 ق.م. واستوطنوها واداروا شئونها ادارة كفؤة وان كانت دون قلب. وكان الفلاح مستغلا والمصريون في ذلك السلم الاجتماعي. وهناك برديات كثيرة من هذا العصر تشير الى انتشار القلاقل وقت الاحتلال اليوناني وعلى الأخص في السنوات التي أعقبت سنة 150 ق.م. ولكن المظالم التي وقعت على المصريين كانت فاحشة، فقد كان الجزء الأكبر من انتاج مصر من الحبوب يصدر إلى روما دون عائد يذكر لمصر ذاتها. وقد جاء الرومان إلى مصر لاستعمارها ولم يستوطنوها كاليونانيين،ولذلك فقد كان حكمهم أكثر فظاظة اذ جاءوا بغرض نزح ثروة مصر إلى روما. وقد ظل نمط الاستغلال ونزح الثروة سائدا في مصر لمدة طويلة بعد الرومان استعمرت فيها مصر من قوى مختلفة. ومن اللافت للنظر أن علاقة صاحب الأرض بالمستأجر ظلت على حالها دون تغيير يذكر حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهذا الاستقرار في العلاقة يعطي مثالا آخر للطبيعة المحافظة للمجتمع المصري.
سكان مصر القديمة والوسيطة
نال مووضع عدد السكان الذين سكنوا أرض مصر في سابق الزمان وقبل ادخال الطرق الحديثة للاحصاء في أوائل القرن التاسع عشر اهتمام العديد من الباحثين. وكان جومار – من عملاء الحملة الفرنسية – أول من قدر عدد سكان مصر في سنة 1801 ميلادية بناء على احصاء عدد المساكن بحوالي 2.488.950 نسمة – وتلا ذلك الاحصاء الذي اجرى وقت محمد علي في سنة 1821 والذي قدر فيه عدد السكان بحوالي 2.536.400 نسمة ومن الصعب معرفة عدد سكان مصر قبل اجراء هذه الاحصاءات على أنه يمكن استخدام بعض طرق الاستقراء لتقدير هذا العدد عبر تاريخ مصر وحتى القرن التاسع عشر من قراءة الوثائق الخاصة بضريبة الرأس أو من كثافة المدن أو انتاجية الأرض واستخدامها. على أن الكثير من الوثائق ناقصة وغير دقيقة، ولذلك فإن بياناتها تحتمل تفسيرات مختلفة، ويزعم الكثير من المؤلفين القدامى أنمصر كانت عمارة بالسكان في قديم الأزمنة ويرجعون هذا الزعم الى ماذا عنها بعد أن كتب جوزيفوس (37؟ - 95 ملادية) نقلا عن أجريبا (27 – 100 ميلادية) أن عدد سكان مصر بلغ 7.5 مليون نسمة في القرن الأول الميلادي ، ومن المؤكد أن هذه المقولة غير دقيقة ومبنية على فرض خاطئ، فقد قدر أجريبا عدد السكان من ضريبة الرأس التي جمعت من مصر في ذلك الوقت. ولما كانت هذه الضريبة تجمع بطريقة يستحيل معها معرفة عدد الرؤوس بأي درجة من الدقة لأ، هذه الضريبة لم تكن موحدة بل كانت تختلف من رأس إلى رأس حسب نوع النشاط والامكنيات، ولذلك فمن الصعب استخدام مقدار الضريبة الكلي لحساب عدد السكان ، ومن المؤلفين القدامى من زعم أن عدد سكان مصر كان قليلا في قديم الزمان ومن هؤلاء ديدورس الذي قدر أن عدد سكان مصر لم يزد أبدا عن 2 مليون نسمة.
وقد يكون من المفيد أن نحاول أن نحسب عدد السكان الذي يمكن أن تحمله أرض مصر من الوجهة النظرية اذا أردنا أن نتحقق من الأعداد التي أعطاها الأقدمون عن عدد سكان مصر في تاريخها القديم وسنفترض أن العامل الأساسي الذي يحدد هذا العدد النظري هو كمية الغذاء الذي يمكن أن تنتجها أرض مصر وهو فرض مقبول لأن حياة الأمم القديمة كانت تعتمد على انتاجها المحلي من الغذاء ولم يلعب عامل التجارة الخارجية في حياتها دورا هاما في تزويدها به. واذا نحن افترضنا أن ثلاثة أرباع الأرض الزراعية في مصر كانت تزرع حبوبا بغرض الغذاء (على أساس أن الربع الباقي كان يزرع بالكتان وغير ذلك من المحاصيل ذات القيمة السعرية القليلة) وأن انتاجية الفدان من الحبوب في مصر القديمة كانت قريبة من انتاجية الفدان في مصر القرن التاسع عشر (حوالي 750 كيلو جراما) وهو افتراض سليم يؤيده ما جاء في نصوص البرديات القديمة كما سبق تبيينه،وأن ثلث هذه الكمية كانت تروح فاقدا أو تحجز للبذر في الأعوام التالية، فإن أقصى من يمكن أن يحمله فدان الأرض في مصر هو فردين، هذا اذا افترضنا أن معدل استهلاك الفرد من الخبز في مصر القديمة كان قريبا مما يستهكله الفرد في الريف المصري في القرن التاسع عشر وهو حوالي 180 كيلو جراما في السنة.
ويمكن أيضا حساب ما تستطيع أرض مصر أن تحمله من سكان بحساب مقدار ما يمكن أنت تنتجه الأرض من السعرات الحرارية اللازمة لحياة الانسان. وقد قام يني بحساب هذه السعرات من كمية البروتين الذي يمكن أن تنتجه كمية الآزوت الموجودة في أرض مصر الزراعية دون اضافة أية أسمدة أخرى عليها. وقد وجد أن فدانا في خصوبة أرض مصر الطبيعية يمكن أن يقيم وتد 1.75 فرد. فاذا افترضنا أن جزءا من أرض مصر كان يزرع بمحاصيل أخرى وأن جزءا من الحبوب كان يحتفظ به للبذر وجزءا آخر كن يضيع في النقل وسوء الاستخدام أو التخزين، فانه يمكن القول بأن انتاج فدان واحد من الحبوب يمكن أن يقيم أود فرد واحد. ومعنى ذلك أن أرض مصر لم تكن لتستطيع بعد زراعتها أن تحمل ما بين 2.5 إلى 4.5 مليون فرد على الأكثر، ومما هو جدير بالذكر أن ما يقرب من نصف الأرض القابلة للزراعة في الدلتا ووادي النيل كانت تستخدم كمراعي حتى مجئ الرومان إلى مصر.
وقد حاول بوتزر أن يقدر عدد سكان مثر في عصر ما قبل الأسرات وفي عصر الأسرات من واقع استخدامات الأرض ومن حجم المدن والقرى على طول وادي النيل وعبر التاريخ. وقد قام لذلك بعمل حصر لهذه المدن والقرى وقاد بتقدير حجمها من خصائصها كعاصمة لاقليم أو مقر لعبادة إله وكذل من المباني التي وجدت فيها كالقلاع أو منازل الملوك والنبلاء أو المعابد أو ان كانت بجوار أحد المحاجر الكبيرة. وعلى الرغم من الفروض الكثيرة في هذه الدراسة، فإنها قد بينت أن كثافة السكان في وادي النيل لم تكن واحدة في أرجاء مصر فقد كانت كثيفة أكثر من 200 فرد في كل مائة فدان، في أقصى الجنوب بين أسواط وقفط (أو ما كان يسمى باقليم القوس) وكذلك في الشمال في منطقة منف (أو ما كان يسمى باقليم الاقصر الأبيض)، أما في باقي الأقاليم الأخرى فقد اختلفت من اقليم لآخر، فقد كانت حوالي 30 فردا في كل مائة فدان فيما بين جرجا وكاو (إقليم الكوبرا) وحول الفشن (إقليم الصولجان المزدوج)، أما متوسط الكثافة في مصركلها فقد كان حوالي 70 فدرا في كل مائة فدان من أرضها الزراعية ومراعيها. ومن اللافت للنظر أن هذا النمط في توزيع السكان يختلف تمام الاختلاف عن نمط توزيع السكان في القرن التاسع عشر عندما كانت بالقاهرة ومديرية جرجا أغلبية المراكز السكانية الكثيفة.
سبق أن بينا من واقع وثائق عصر الرعامسة أن كثافة سكان الريف في ذلك العصر كانت حوالي شخص واحد لكل أرورتين (1.3 فدان) وهذا يجعل كثافة الريف حوالي 75 فردا لكل مائة فدان زراعية، ولابد أن كثافة السكان في المراعي كانت أقل من ذلك بكثير مما يجعلنا نقبل تقدير بوتزر من أن كثافة السكان في كل مائة فدان من مجمل أراضي مصر الصالحة للزراعة والرعي وقت عصر الرعامسة كان فعلا في حدود 55 فردا.
ويتبين من الجدول السابق والشكل 3-19 أن أعلى عدد سكن مصر قبل الانفجار السكاني الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان في العصر البطلمي ، وفي ذلك الوقت كانت مصر تمد سكانها بل وسكان الكثير من بلاد البحر المتوسط بحاجتها من الحبوب. وترجع الزيادة السكانية في هذا العصر إلى زيادة الرقعة الزراعية التي حدثت باضافة إقليم الفيوم واصلاح الأراضي في شمال الدلتا وكذلك التوسع في الزراعة الصيفية نتيجة ادخال الساقية. أما الزيادة الكبيرة التي حدثت قبل ذلك في وقت الدولة الحديثة الفرعونية فتعود أيضا إلى التوسع الزراعي الذي حدث في منطقة الدلتا. ويلاحظ هنا أن نصيب الفرد من الارض الزراعية قد نقص من 2.2 فدان سنة 1800 ق.م. إلى 1.4 فدان سنة 1250 ق.م. ، وقد تناقص سكان مصر في أواخر العصر البطلمي وظلوا يتناقصون بصفة مستمرة خلال العصر الروماني، وحدث أكبر النقص وقت حكم الامبراطور دقلديانوس الذي عدل قانون الضرائب مما أثقل كاهل الفلاح قبدأ بهجر الأرض. وهناك من يعقتد أن أراضي مصر نقصت إلى النصف بعد قرن واحد من ادخال هذا القانون، كما حدث نقص آخر في عدد السكان في آخر أيام الدولة البيزنطية عندما حلت بمصر ثلاث كوارث عظمى أولها انتشار وباء الطاعون لحوالي ستين سنة (542 -600 ميلادية) وثانيها هبوط النيل عن معدله وثالثها غرق الشمال الشرقي من الدلتا تحت البحر الذي تقدم على أرض مصر – وفي هذه السنة – تناقص سكان مصر إلى أقل من النصف وقدر عدد سكان مصر في سنة 600 ميلادية بحوالي 3.4 مليون نسمة، كما قلت الأرض المزروعة إلى نصف ما كانت عليه في العصر البطلمي. وبعد دخول العرب إلى مصر في سنة 640 ميلادية حفظت بعض سجلات الخراج مما جعل تقدير عدد السكان ومساحة الأرض المزروعة أكثر دقة. فعندما دخل العرب إلى مصر فرضوا ضريبة رأس مقدارها ديناران على البالغين من الذكور غير المسلمين، وجاء في السجلات أن الضريبة قد بلغت 12 مليون نسمة، هذا بفرض أن الرجل الباغل يعول أربعة أشخاص غيره. وفي تصور الكثيرين أن هذا العدد كبير جدا يصعب تصديقه،وفي قناعة الكثيرين أن الاثنى عشر مليونا التي جمعت من مصر وجاء ذكرها في المؤلفات التي نقل عنها عمر طوسون كانت بالدراهم ولم تكن بالدنانير (الدينار = 12 درهما) . وقيل في هذا أنه حتى القرن العاشر الميلادي كانت الضرائب تجمع وتسجل بالدرهم فاذا كان الأمر كذلك فإن عدد سكان مصر عندما دخل العرب مصر كانت في حدود 2.5 مليون نسمة وهو عدد اقرب إلى التصديق. وقد تأرجحت جملة ضريبة الرأس التي كانت تجمع من المصريين بين 12 مليون و14 مليون درهم وقت خلافتي عمر بن الخطاب وعثمانبن عفان، ولكن هذين المبلغين قد نقصا وقت خلافة معاوية (661 – 680 ميلادية) إلى أقل من النصف وربما عاد ذلك الى أن تناقص عدد غير المسلمين الذين كانوا يدفعون الضرائب الى ما لا يزيد عن 208.000 فرد في عصر معاوية، أي أن عدد غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في مصر في هذا العصر كان في حدود المليون نسممة. وربما عاد تناقص عدد غير المسلمين من 2.5 مليون نسمة إلى مليون واحد في ظرف جيل واحد إلى أن العقيدة المسيحية لم تكن قد تأصلت في نفوس الكثيرين وخاصة في أطراف البلاد، فلم يكن هناك وقت للتبشير بمبادئها على طول البلاد خلال القرون الستة التي سادت فيها المسيحية في مصر، فقد كانت الكنيسة الوطنية في عراك مستمر مع حكام الرومان الوثنيين ثم مع حكام بيزنطة حول العقائد المسيحية عندما دخل هؤلاء الديانة المسيحية، وعندما دخل العرب أرض مصر كان بمصر حوالي المائتي كنيسة كان أكثر من ثلثها في الاسكندرية والبحيرة والفيوم والبهنسا – وقد تناقص عدد المسيحيين في مصر تدريجيا حتى عصر هارون الرشيد عندما تناقص العدد بسرعة أكبر.
وفي الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلادي تناقص عدد سكان مصر من 2.3 مليوننسمة في سنة 730 ميلادية الى 1.7 مليون نسمة خلال القرنين العاشر والحادي عشر اللذين انخفض فيهما النيل. وقد تم تقدير مساحة الأرض الزراعية وعدد سكان مصر في هذه الفترة من واقع ضريبة الأرض العقارية التي ادخلت في مبدأ القرن الثامن الميلادي والتي كانت تجبى بواقع دينارين عن الفدان الواحد. وقد تأرجح مقدار الضريبة من 4 مليون دينار وقت حكم الخليفة هشام بن عبد الملك (حوالي 743 ميلادية) إلى حوالي 4.3 مليون دينار وقت حكم صلاح الدين (1189 ميلادية). وقد هبطت الضريبة الى حوالي 3.2 مليون دينار وقت حكم المعز لدين الله (سنة 975 ميلادية) واستمر تناقص أرض مصر الزراعية والذي بدأ في عصر الرومان حتى وصل الى 1.5 مليون فدان وقت حكم المعز كما انخفض عدد السكان في الوقت نفسه بحيث اصبحت نسبة السكان للأرض ثابتة.
محاصيل نظام ري الحياض
كانت الحبوب والكتاب هي المحاصيل الرئيسية في مصر القديمة، فقد كان بذرها ونماؤها يتطابق ودورة الزراعة تحت نظام ري الحياض والتي كانت تبدأ بعد انحسار مياه الفيضان من الأرض الزراعية. بالاضافة إلى هذه المحاصيل زرع المصريون القدماء الفول والعدس والبصل. وقد ترك القدماء جزءا كبيرا من الأرض بكرا لاستخدامه في رعي الحيوان، وهذه هي المناطق التي أدخلت فيما بعد تحت نظام ري الحياض ثم أدخلت فيها زراعة البرسيم الذي يبدو أن زراعته جاءت مع الاحتلال الروماني، ويشكل البرسيم محصولا هاما من المحاصيل المصرية شغل أكثر من ربع أراضي الدلتا وسدس أراضي الصعيد عند نهاية القرن الثامن عشر. وكانت هذه الأراضي الشاسعة تستخدم في تربية الحيوان لاستخدامه كدابة في عمليات الزراعة، ولم يعرف عن مصر أنها اشتهرت في أي وقت بتربية الحيوان لاستخدامه كغذاء للانسان كباقي دول الشرق الأوسط.
ويمكن القول أن نصف أراضي مصر القديمة كانت تزرع بالحبوب وعلى الأخص الشعير وقمح الإمر والقمح الشتوي، أما الذرة فلم تكن قد عرفت بعد. وكان الشعير المحصول الأساسي في الدولتين القديمة والوسطى وكان مصنفا إلى شعير الدلتا وشعير الصعيد وفي عصر الدولة الحديثة ترجعت أهمية الشعير وأصبح قمر الإمر محصول الحبوب الأساسي كما يظهر من قوائم المحاصيل المسجلة في بردية ولبور من الأسرة العشرين وبقي قمح لاإمر هو المحصول الأساسي المستخدم في عمل الخبز حتى مجئ هيرودوت بل وبعد ذلك بكثير، فقد ذكر هذا المؤرخ أنه في وقت زيارته حوالي سنة 450 ق.م. ، كان الخبز يصنع من قمح الإمر 0 وعندما جاء البطالمة أدخل في مصر القمح الشتوي وأصبح منذ ذلك الوقت محصول الحب الأساسي في مصر والذي كان يصدر لاطعام بلاد البحر الأبيض المتوسط في العصر الروماني. ويعتبر الشعير وقمح الإمر من أقدم الحبوب في مصر فقد زرعا في العصر الحجري الحديث (حوالي سنة 5200 ق.م.) ووجدت بذورهما في مستوطنات حضارة نقادة الأولى من حضارات عصر ما قبل الأسرات (حوالي سنة 4000 ق.م.) كما وجدت قشور الشعير بأمعاء موميات عصر ما قبل الأسرات، كما وجدت حبوب قمح الإمر بداخل حفرة التخزين في عدد من مستوطنات العصر الحجري الحديث، وكانت هذه الحفر بمثابة الصوامع تحفر على حافة الصحراء وتبطن بليف مجدول.
وتبين الرسوم على جدران المقابر في مصر القديمة (الشكل 3-20) طريقة الزراعة في مصر القديمة التي لم تكن تختلف كثيرا عنها في مصر الحديثة – فبعد بذر الحبوب في أراضي الحياض كانت الأغنام تساف في الحقل لتطأ البذور، وعند نضج المحصول كان يحصد بالمناجل ثم ينقل في سلال لدرسه تحت أقادام الثيران أو الحمير، ثم تتم تذريته بعد ذلك بمغارف من الخشب لفصل الحب عن القشرة.
وكان الكتان هو الخامة الأساسية لصناعة النسيج في مصر القديمة كما أنه كان يعصر لاستخراج الزيت منه. وكانت زراعته موضوعا مطروقا في رسومات مقابر الأسرات القديمة. والكتان قديم فقد وجد في مقابر عصر ما قبل الأسرات – ومن خضروات مصر القديمة كان البصل والكرات مفضلين عند فقراء الناس أما الشبت فكان يستخدم كنبات طبي وفي عمليات التحنيط. وكان الخس يزرع في أحواض وشاع عنه أنه منشط جنسي، وكان العدس والفول كما هما اليوم من الأكلات المفضلة، وقد وجد العدس والبازلاء في مقابر العصر الحجري الحديث وعصر ما قبل الأسرات، أما الفول فلم يدخل مصر إلا في وقت لاحق (ربما خلال حكم الأسرة الثانية عشرة) من بلاد الشام.
وكان انتاج الزيت أحد العمليات الأساسية في الاقتصاد الزراعي القديم فقد كان الزيت يستخدم للغذاء ولتحضير المراهم والعقاقير ومواد التجميل وكذلك لحرقه في المسارج والمصابيح. وكان الزيت أحد المواد الأساسية التي كانت الدولة تعطيها كجزء من الأجر. وكان أكثر الزيوت شيوعا زيت الخروع وزيت الكتان – وفي عصر الدولة الحديثة استخرج الزيت من حب السمسم أيضا وقد أصبح هذا الزيت من أهم الزيوت خلال العصر البطلمي.
وبالاضافة إلى الحاصيل الشتوية كانت هناك دائما مجموعة من المحاصيل غير الشتوية التي كانت تزرع في المساحات التي كانت تصل اليها المياه طول العام. ومنذ عصر ما قبل الأسرات كانت هذه المساحات القليلة والمتفرقة والتي كانت تقف كالجزر وسط أرض مصر هي التي تميز أقاليم مصر الغنية. وربما كانت أولى المساحات التي حاول الانسان القديم أن يزرعها طول النسة هي تلك التي كانت تحيط بالبرك الصغيرة التي كان يتركها الفيضان وراءه بعد انحساره، فحول هذه البرك يصبح الماء متوافرا لعدة شهور بعد انحسار الفيضان وقبل أن تجف هذه البرك. وكان الماء يرفع بالدلو لاستخدامه في الزراعة. أما الأراضي الأخرى التي كانت تزرع على مدار السنة فكانت تلك الأراضي التي تقع على جسور النيل الحالية أو تلك التي كانت تحد المجاري القديمة للنيل، فقد كانت عالية لا يطولها ماء الفيضان الا عندما يكون عاليا جدا.وكانت هذه الأراضي (التي تسمى أرض النيبارى) تروى برفع الماء الهيا من آبار ضحلة كانت تحفر حتى منسوب المياه الأرضية الذي عادة ما يكون قريبا من السطح. كان رفع الماء عملية صعبة ومجهدة ولكنها كانت مجزية. وقد شكلت أراضي النيباري حوالي 12% من أراضي الصعيد و25% من أراضي الدلتا في أوائل القرن التاسع عشر عندما تم حصر الأراضي وقت الحملة الفرنسية، وكانت أراضي النيباري تدفع عتها ضرائب عالية منذ وقت الدولة القديمة.
كان رفع الماء إلى أراضي النيباري مكلفا ولذا فقد كانت تزرع فيها المحاصيل ذات القيمة النقدية العالية. ففي مصر القديمة كانت هذه الأراضي تزرع بالكروم والفواكه التي كان منها البلح والتين والدقيقة والجميز والرمان وكانت أشجار السنط وشعر البنت من أشجار الزينة التي انتشرت في ذلك الوقت – وكان النخيل واحدا من أهم الأشجار التي كانت زراعتها ترفع من سعر الأرض وتزيد من قيمتها. كما كانت للكروم رعاية خاصة بحيث أصبحت زراعتها وصناعة النبيذ منها من أهم الأنشطة في مصر القديمة وكانت أحسن مناطق زراعتها في شمال الدلتا وعلى الأخص عند الفرع البيلوزي حول مدينة تانيس في الشرق، وعند الفرع الكانوبي حول منطقة مريوط الحالية في الغرب. وقد وجد في أقبية قصر الملك امينوفيس الثالث في طيبة وكذلك في تل العمارنة نبيذ مصنوع من الكروم المزروع في هذه المناطق. ويبدو أن كروم مصر القديمة كانت تنتج خمسة أنواع من النبيذ وكان النبيذ الأحمر هو النبيذ المحبب في الأسرات الأولى ثم حل محله النبيذ الأبيض في الأسرات الأخير. وكانت معظم زراعات الكروم تحاط بسياج وترفع شجيراتها على تكعبية من الخشب وكانت تروى بالدلو ثم بالشادوف منذ عصر العمارنة كما كان هناك من العمال من كانت مهمته طر الطيور حتى لا تأكل العنب، وعند الحصاد كان قاطفو العنب يضعونه في أواني كبيرة ثم يقومون بهركه بالأقدام (الشكل 3-21) حتى يخرج منه العصير الذي كان يترك حتى يتخمر في جرات خاصة ثم يعبأ في قوارير فخارية يكتب عليها اسم الكرمة التي أنتجته ومكانها وصاحبها وسنة انتاجها ونوع الخمر: حسن، حسن جدا، حسن جدا جدا، أصلي وحلو، وفي مقبرة من مقابر العمارنة كان هناك نوع من النبيذ الذي انزلت درجته فلم يكن صالحا الا للانتشاء ، وكانت سنة 1344 ق.م. طيبة لصناعة النبيذ.
وقد استغلت أراضي النيباري في زراعة الكثير من المحاصيل العالية القيمة التي ادخلت في أوقات لاحقة مثل قصب السكر والارز والنيلة والزعفران والتبغ والقطن.وكان الأرز وقصب السكر من أهم هذه المحاصيل في مصر الوسيطة، وقد أدخل العرب هذين المحصولين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي وأصبحت مصر مصدرة لقصب السكر الذي كان يزرع في مصر الوسطى. وكان قصب السكر أحد المحاصيل التي تحتاج زراعتها الى نفقات باهظة فقد كانت تحتاج إلى ريات عديدة وحرث عميق للأرض . ولابد أن محصوله كان يباع بثمن مجز في ذلك الزمان.
وقد أدخل الأرز إلى مصر في أعقاب دخول العرب الى مصر مباشرة، إما من سوريا أو الهند ويحتاج الأرز إلى مياه كثيرة، ولذا فقد زرع عند فم فرعي الدلتا وفي الفيوم حيث كان رفع الماء سهلا. أما القطن فقد زرع في كل من الصعيد والدلتا على نطاق صغير جدا، ولم تصبح له أهمية كبيرة إلا في القرن التاسع عشر الميلادي.
ويمكننا في نهاية هذا الفصل أن نقول أن نظام ري الحياض كان نظام كفؤا استغل فيه المصريون ظاهرة ارتفاع النيل في ري الأراضي بأقل جهد. ولذلك فقد كان النظام مناسبا لمصر القديمة التي كانت قليلة السكان. وكان أكبر الجهد ينفق في صيانة الجسور وتطهير القنوات، فإن أتموه ضمن النظام للمصريين عيشة رغدة ، أن لم تكن تزيد عن الكفاف كثيرا. وقد زادت الثروة كثيرا عندما أدخل المصريون نظام الري المستديم في مناطق كثيرةمن أراضيهم. وقد ظل نظام ري الحياض سائدا في مصر لأكثر من 6000 سنة.
ومهما كانت فوائد هذا النظام فإن هذا لا يعادل حقيقة أن الجزء الأكبر من الأرض كان يترك غير مستغل لجزء طويل من العام، كما أن الجزء الأكبر من المياه كان يطلق في البحر دون الاستفادة منه. ولا شك أن مثل هذا النظام لا يمكن أن يجابه مطالب سكان مصر الذين كانوا يتزايدون وبالاضافة إلى ذلك فقد ترك هذا النظام المصريين تحت رحمة تقلبات الفيضان، ذلك لأنه على الرغم من انتظام نهر النيل فان هذا لم يكن ليحميهم من فيضان واحد أو اثنين يجئيان أدنى أو أعلى من المتوسط العام الذي رتب المصريون حياتهم عليه. وقد عرفنا من عديد من الأمثلة التي تكلمنا عنها في الجزء الثاني من هذا الكتب أن هذا الانحراف عن المتوسط العام كثيرا ما كان يستمر لسنوات – وعندما كان النيل يأتي منخفضا عن منسوبه المناسب لري الأراضي كانت تقع المجاعات التي كثيرا ما تحدث عنها مؤرخو القرون الوسطى وصفوها بطريقة حية تحت اسم "الشدة". ولم يكن الأمر أقل سوءا عندما كان النيل يأتي مرتفعا عن منسوبه المناسب، فقد كان يغرق الأراضي ويحكم الجسور والقنوات. كما كانت أوقات ارتفاعه صعبة فقد كانت تصاحبها في العادة الأمراض والأوبئة. وقد رزئت مصر خلال القرون بين الرابع عشر والثامن عشر التي كان فياه النيل أعلى من متوسطه العام بأكثر من عشرين وباءات للطعاون بمعدل وباء واحد لكل أحد عشر عاما.
الري المستديم
بدأ في أوائل القرن التاسع عشر تطويرنظام ري الحياض بمبادرة من محمد علي حاكم مصر الذي استولى على السلطة سنة 1805 بعد وقت قصير من خروج الحملة الفرنسية من مصر. فقد بدأ هذا الحاكم في تحويل معظم أراضي الدلتا إلى الري المستديم ضمن خطة لتحديث مصر وبناء الصناعة الوطنية مما استدعى استخدام الأرض بكفاءة أكبر وزراعتها بالمحاصيل القابلة للتصدير. وكان القطن هو أهم هذه المحاصيل، والقطن محصول صيفي يحتاج إلى الماء وقت أن يكون النيل شحيحا وفي تحاريقه. وقد استدعى ادخال زراعته العمل على توفير الماء خلال شهور التحاريق.
وجاءت أولى المحاولات لتوقير الماء خلال هذه الأشهر في سنة 1820 عندما بدئ في تعميق ترع الدلتا (لعمق قد يصل الى ستة أمتار في بعض الأحيان) لكي تصل الى منسوب النيل الواطئ في موسم التحاريق – بذلك أمكن توصيل مياه النيل الى الأراضي المزروعة بالقطن وغيره من المحاصيل الصيفية وقد صممت هذه القنوات الجديدة بحيث يكون معدل انحدارها أقل من معدل انحدار الأرض الزراعية حتى تصل مياهها إلى الأراضي خلال مسيرتها ناحية الشمال. وقد فشلت هذه القنوات الصيفية فشلا ذريعا فقد كان رفع الماء منها باهظ التكلفة وصعبا – كما كان تطهيرها من الطمي بعد كل فيضان من الصعوبة بمكان مما احتاج إلى قوة عمل ضخمة كانت تجند من الفلاحين للعمل بنظام السخرة ودون أجر.
وكما وضحنا من قبل فإن نظام السخرة كان معروفا في مصر منذ أقدم الأزمنة وكان يشكل جزءا من الضريبة التي كان على الفلاح أن يدفعها. وكان هذا النظام مبررا وقت أن كان نظام ري الحياض سائدا فقد كان العمل يتم في الصيف عندما لم تكن هناك زراعة تذكر وكان من الممكن للفلاح أن يترك الأرض وأن يعمل في صيانة الجسور وتطهير القنوات وغير ذلك من الأعمال العامة التي كانت تنفع الجماعة كلها بما فيهم الفلاحون أنفسهم. ولكن عندما أدخلت الزراعة الصينية لم يعد لدى الفلاحين من الوقت ما يعطونه لهذه الأعمال والتي تغيرت طبيعتها بعد ادخال نظام الري المستديم. حين أصبح معظم العمل يتم لصالح الضيعات الكبرى. كما أن النظام أسي تطبيقه خلال القرن التاسع عشر فما كان في الأصل نوعا من الخدمة العامة أصبح خلال هذا القرن سخرة عارية يساق فيها الفلاحون للعمل في مشروعات ليس لهم فيها أي صالح كفحر قناة السويس أو حفر قناة الأبراهيمية التي شقت أساسا في صعيد مصر لخدمة مزارع الخديوي وفي سنة 1825 استبدل نظام تعميث القنوات لإجبار الماء للدخول فيها بنظام آخر يتم فيه رفع منسوب مياه النيل والقنوات الكبرى بعمل السدود بعرضها، ولكن هذا النظام لم يلق النجاح أيضا فقد احتاج تنفيذ إلى تكلفة باهظة لتطهير الطمي الذي كان يتجمع خلف هذه السدود ولم يكن ذلك مكلفا فقط بل وكان يحرم الحقول من العمال الذين أصبح لوجودهم فيها بعد دخول المحاصيل الصيفية أهمية حيوية وقت الصيف.
وللتغلب على هذه المصاعب اقترح المهندس لينان ده بلفون على محمد علي طريقة لتجنبهذا العمل الكبير لتطهير الترع ببناء قناطر لها فتحات تسمح للطمي الذيي حمله النيل بالمرور منها وفي نفس الوقت ترفع منسوب الماء خلفها. وبالفعل بدئ في بناء القناطر الخيرية في ذلك الموقع الاستراتيجي عند تفرع فرعي الدلتا (الشكل 3-23) في سنة 1843. كما بدئ في بناء ثلاث قنوات كبرى (الرياحات) لكي تخرج من وراء هذه القنطر وقد تم بناء القناطر في سنة 1861، ولكنها لم تعمل بالكفاءة المرجوة منذ انشائها حتى أصلحت ووضعت في خدمة الري بأكملها إلى نظام الري المستديم والتي أصبح الماء يصل خلفها لحوالي أربعة أمتار مما أمكن تحويل منطقة الدلتا بأكملها إلى نظام الري المستديم والتي أصبح الماء يصل إليها عن طريق عدد كبير من القنوات الصيفية التي شقت لتأخذ مياهها من الرياحات الثلاثة (التي كانت تخرج من خلف القناطر)، بدلا من نهر النيل نفسه. وقد شغلت معظم قنوات شبكة الري في الدلتا والتي شق معظمها خلال القرن التاسع عشر مجاري الفروع القديمة والتي كانت قد طمت عبر التاريخ وكانت هذه المجاري تعلو الأرض الزراعية. ومن هذه القنوات الأساسية خرجت المساقي إلى كل مكان في الدلتا.
أما في الصعيد فقد بدأ ادخال نظام الري المستديم في شمال الوادي ثم في جنوبه، وكانت قناة الابراهيمية التي حفرت في سنة 1873 أول قناة صيفية في الصعيد، وكانت تجرى على ارتفاع متر واحدة فوق الأراضي المحيطة بها. وقد حفرت هذه القناة لري أراضي الدائرة السنية من أملاك الخديوي اسماعيل.
التخزين الموسمي
اعتمد نظام الري المستديم وزراعة المحاصيل الصيفية طيلة القرن التاسع عشر على استخدام المياه التي كان يحملها النهر بين شهري فبراير ويوليو من كل عام والتي كانت تشكل حوالي 20% من تصرف النهر السنوي. فقد كانت متوسط تصرف النهر خلال هذه الشهور هو حوالي 15.4 بليون متر مكعب في السنة عند أسوان. ولم يكن من الممكن التوسع في الزراعة الصيفية الا في حدود هذه الكمية من الماء التي كانت تحجز وراء القناطر والسدود.
على أن أعظم التوسع في عمليات الري المستديم حدث في أوائل القرن العشرين عندما زيد الماء المتاح في فترة الصيف عن طريق تخزين جزء من مياه الفيضان واطلاقها وقت الحاجة إليها وقد تم تنفيذ فكرة التخزين الموسمي هذه ببناء خزان أسوان في سنة 1902 وكان هذا الحزان الذي بلغ طوله الكيلومترين واحدا من أكبر مشاريع الري في زمانه، فقد صمم لتخزين 3.6 بليون متر مكعب من الماء في الوقت الذي تسمح فيه فتحاته والتي بلغ عددها 180 فتحة بمرور الطمي منها. وتفتح هذه الفتحات خلال ذروة الفيضان لمرور الماء والطمني منها ثم تقفل بالتدريج بعد أن يتوقف مجيئ المياه العكرة لحجز الماء في الخزان حتى يمتلئ. ويعتبر الخزان أحد الأعمال الهندسية المجيدة التي وضع تصميمها مهندس الري وليم ولكوكس، وقد عرض التصميم على لجنة دولية فأقرته واقترحت أن تكون سعة تخزين الخزان بليون متر مكعب فقط.
وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن أعضاء اللجنة الدولية اهتموا بموضوعات تعدت الجزء الهندسي والفني للمشروع. فقد درست اللجنة تأثير بناء الخزان على نوعية المياه التي ستصل إلى مصر بعد بنائه، والاجراءات التي ينبغي اتخاذها لتفادي "تلوث مياه الخزان" وللتأكد من "عدم تدهور نوعيتها" – كما اهتمت اللجنة أيضا بتأثير بناء الخزان على معبد فيلة الذي كان سيغرق في حالة بناء الخزان بالسعة التي اقترحت في المشروع الأصلي، وقد اعترض أحد أعضاء اللجنة على بناء الخزان بسعته المقترحة – وكان لهذا الصوت الوحيد أثره على الحكومة المصرية التي قررت تقليل سعة الخزان إلى بليون متر مكعب فقط . للحافظ على المعبد وقد أهملت هذه التوصية بعد ذلك بسنوات عندما تمت تعلية الخزان وزيدت سعة تخزينه.
وفي أعقاب بناء خزان أسوان بنيت سلسلة من القناطر على النيل للاستفادة من مياه الخزان: أسيوط (1902) زفتى (1903) اسنى (1909) نجع حمادي (1930)، ووراء كل واحدة من هذه القناطر شقت قنوات لنقل الماء المخزن وراءها. وقد تمت تعلية خزان أسوان مرتين من أجل زيادة سعته: الأولى في سنة 1912 لزيادة المخزون من الماء فيه إلى 2.5 بليون متر مكعب والثانية في سنة 1933 لزيادة المخزون إلى 5.2 بليون متر مكعب.
وقد تحققت لمصر بفضل هذا المشروع كمية من المياه وقت موسم التحاريق سمحت بالتوسع الرأسي في الزراعة بمعدلات لم تعرفها مصر على طول تاريخها، فارتفعت الكثافة المحصولية لأراضي مصر الزراعية التي كانت تقدر مساحتها في منتصف الثلاثينيات بحوالي 5.300.000 فدان بحوالي 156% أي أن أكثر من نصف الأراضي كانت تزرع محصولين.
وبعد سنوات من التعلية الأخيرة لخزان أسوان رأت مصر أن تزيد من كمية المياه المتاحة لها في موسم التحاريق باستخدام مياه النيل الأبيض الفائضة وقد دخلت من أجل ذلك في مفاوضات مع حكومة الوسدان انتهى بالموافقة على السماح لمصر ببناء خزان جبل الأولياء الذي اقيم على النيل الأبيض إلى الجنوب من الخرطوم بحوالي 40 كيلو متر في سنة 1937. وسعة الخزان 3.5 بليون متر مكعب لم يكن يصل منها إلى مصر إلا نصفها نظرا لارتفاع معدل البخر في هذه المنطقة. وقد بنت مصر الخزان على نفقتها كما دفعت تعويضات مناسبة عن الأراضي التي تسبب بناء الخزان في إغراقها وقد أدت زيادة نصيب مصر من ماء الصيف إلى التوسع في الزراعات الصيفية وزيادة الكثافة المحصولية إلى حوالي 70%.
ويم استخدام المياه المتاحة للزراعة الصيفية في الوقت الحاضر بحيث يذهب ثلثها إلى الدلتا وثلثها إلى الصعيد . أما الجزء الذي يذهب إلى الدلتا فإنه يطلق في فرعي الدلتا والرياحات الثلاثة بالنس المئوية التالية: 23.5، 14.5 في فرعي دمياط ورشيد على التوالي و17.5، 16.5، 12 في الرياحات البحري والمنوفي والتوفيقي على التوالي و8 في ترعة الاسماعيلية و8 في القنوات الأخرى . أما في الصعيد فإن أكثر من 45% من المياه المتاحة يذهب إلى ترعة الابراهيمية التي تغذي محافظات مصر الوسطى والفيوم.
وبادخال نظام الري المستديم انتهت عملية غمر الأراضي التي كانت سائدة في مصر منذ أقدم الأزمنة. وتغير نظام الري من رية واحدة طويلة إلى عدة ريات تؤدي على نوبات. كما أدى نظام الري المستديم إلى حصر النهر في مجرا على مدار العام مما أحتاج إلى تقوية جسر النيل الأبيض (الطراد) من جبل السلسلة (شمال أسوان)، وحتى البحر الأبيض المتوسط وذلك لزدياد خطر الفيضانات العالية بعكس ما كان عليه الحال وقت ري الحياض حين كانت الفيضانات الواطئة هي التي تسبب القلق والانزعاج. أما الفيضانات العالية فلم تكن تسبب ضررا أكثر من إغراض أرض النيباري العالية والمحدودة المساحة أما الآن وبعد ادخال نظام الري المستديم فقد أصبحت محاصيل مصر كلها بل والكثير من بلادها وقراها تحت منسوب النيل معرضة للغرق وأصبح الفيضان العالي مصدر القلق والانزعاج.
ويوضح الشكل 3-23 والجدول التالي عدد السكان ومساحة الأرض الزراعية والأرض المحصولية والكثافة المحصولية من سنة 1821 وحتى سنة 1986 في مصر.
السنة | عدد السكان بالمليون | مساحة الأرض الزراعية بالألف فدان | مساحة الأرض المحصولية بالألف فدان | الكثافة المحصولية (%) | نصيب الفرد من الأرض المحصولية | |
---|---|---|---|---|---|---|
1821 | 2.50 | 3050 | 3050 | 100 | 1.22 | |
1846 | 5.29 | 3764 | 3764 | 100 | 0.72 | |
1882 | 7.93 | 4758 | 5754 | 121 | 0.72 | |
1897 | 9.72 | 4943 | 6725 | 136 | 0.71 | |
1917 | 12.73 | 5309 | 7729 | 146 | 0.67 | |
1937 | 15.92 | 5312 | 8302 | 156 | 0.53 | |
1960 | 26.08 | 5900 | 10200 | 173 | 0.39 | |
1975 | 37.0 | 5700 | 10700 | 188 | 0.29 | |
1986 | 49.70 | 6000 | 11400 | 190 | 0.23 |
ويتضح من هذا الجدول أن الأرض الزراعية قد زادت من حوالي 3 ملايين فدان في سنة 1821 إلى حوالي 5 ملايين فدان في أواخر القرن التاسع عشر وإلى حوالي 6 ملايين فدان في ثمانينيات القرن العشرين. أما المساحة المحصولية فقد زادت بشكل مبهر في نفس المدة عندما أصبحت الأراضي تعطي محصولين أو ثلاثة في السنة – وفي مطلع القرن العشرين بلغت المساحة المحصولية حوالي 7 ملايين فدان وفي سنة 1986 حوالي 11.4 مليون فدان أي بكثافة بلغت 190% وكانت أكثر الزيادات في المحاصيل الصيفية والنيلية. وفيما يلي تفصيل استخدام المساحة المحصولية في مصر في سنة 1988 – 5.133.000 فدان للمحاصيل الشتوية (وأهمها القمح والشعير والفول والبصل والبرسيم)، و4.930.000 فدان للمحاصيل الصيفية (وأهمها القطن والأرز والذرة الرفيعة وقصب السكر).
مشاريع الري في السودان
لقد زادت كمية المياه التي يستخدمها السودان من حوالي 7 بلايين متر مكعب في سنة 1970 إلى حوالي 13 بليون متر مكعب في ثمانينات القرن العشرين ولا زالت هذه الكمية أقل من كمية المياه التي اتفق على أن تكون من نصيب السودان في اتفاقية المياه المبرمة بين مصر والسودان بعد بناء السد العالي.
التخزين المستمر (القرني)
كان نظام التخزين السنوي خطوة إلى الأمام في مواجهة احتياجات الزراعة الصيفية فقد أمكن تخزين جزء من فائض مياه النيل لاستخدامه في وقت التحاريق في عمليات التوسع الزراعي. على أن هذا النظام كان مقصورا عن تخزين كل مياه الفيضان التي كانت تصل إلى مصر. فقد كان ما لا يقل عن 58% منها يذهب إلى البحر وقت ذرة الفيضان – كما أن النظام لم يعالج التقلبات الكبيرة في كمية المياه التي كان يحملها النهر عبر السنين. ففي سنوات الفيضان المتوسط كان النظام يتيح لمصر كمية المياه اللازمة للزراعة الصيفية ، أما في سنوات الفيضان الواطي فلم يكن المخزون من الماء كافيا لري الأراضي التي كان يترك جزءا منها دون زراعة. وفي سنوات الفيضان العالي كانت البلاد تتعرض للغرق نتيجة احتياج المياه الزائدة للجسور. وبعد أن تم حصر النهر في مجراه كانت سني الفيضانات العالية سني خطر مبين، كما كانت سني الفيضان الواطئ سنى شدة وبلاء وخاصة بعد أن زاد عدد السكان زيادة كبيرة. حقا لقد ظلت مصر تحت نظام التخزين السنوي أسيرة تقلبات النهر.
وحتى تتغلب مصر على هذه الصعوبات ولتؤمن نفسها الامداد الكافي من المياه بغض النظر عن تقلبات النهر فقد تبنت مشروعا يتيح لها تخزين المياه الزائدة من فيضانات السنوات العالية لاستخدامها وقت سنوات الفيضانات الواطئة. وقد أصبح تصحيح هذا المشروع الذي سمي أيضا مشروع التخزين المستمر أو القرني الشغل الشاغل لوزارة الأشغال العمومية المصرية خلال معظم سنوات القرن العشرين. وقد مرت مشروعات التخزين المستمر على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى التي استمرت حتى منتصف القرن العشرين كان تأمين مياه التخزين المستمر مبنيا على أساس أن وادي النيل يمثل وحدة واحدة وكان المشروع ينظم انسياب المياه في مصر والسودان المستفيدين الأولين منه عن طريق ضبط المياه في منابع النيل، وفي المرحلة الثانية التي بدأت بقيام ثورة سنة 1953 تركزت مشروعات التخزين المستمر على بناء الخزانات وقنوات التحويل بداخل حدود مصر والسودان، وفيها صرف النظر مؤقتا عن مشروعات أعالي النيل التي بدا وكأن صعوبات جمة تقف في طريق تنفيذها.
مشروعات التخزين المستمر في أعالي النيل
كانت القاهرة هي المركز الذي بدأ فيه وضع حطط مشروعات التخزين المستمر في أوائل القرن العشرين. فقد كانت مصر هي الدولة الوحيدة من بين جميع دول الحوض التي كانت تستفيد من مياه النيل.وكانت تأمين وصول المياه إليها بالكميات التي تسمح لها بالتوسع الزراعي القادر على مجابهة التزايد المستمر في السكان مرتبطا بضبط مياه النيل عند منابعه. وقد حكم هذا التفكير السياسة الخارجية المصرية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. كما كان الدافع الأساسي وراء الحملات العسكرية والرحلات الاستكشافية التي قامت بها مصر خلال القرن التاسع عشر لتأمين منابع النيل والتأكد من عدم سقوطها في أيدي قوى معادية. وقد أصبح معظم وادي النيل بالفعل تحت سلطة مصر خلال القرن التاسع عشر مما أصل فكرة وحدة النهر وحق مصر في تنظيم مياهه من المنبع إلى المصب. ولم يتغير هذا التفكير بعد أن سقطت مصر وأغلب دول حوض النيل تحت سلطة النفوذ البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، فقد تبنت بريطانيا التفكير ذاته، فقد تطابقت أهدافها مع طموحات التوسع في الزراعة الصيفية في مصر.
وبعد انتهاء النفوذ البريطاني في وادي النيل استمر هذا التفكير سائدا في دوائر الحكومة المصرية التي انشغلت بالتخطيط لتنظيم مياه النيل واقامة المشروعات في مختلف أرجائه، وقد كان هناك في الحقيقة بعض التبرير لهذا التفكير ، فبالإضافة إلى أن معالجة حوض النيل كوحدة هو شئ حسن في ذاته يزيد من كفاءة استخدام مياه النهر، فقد بدا للمصريين أن المياه المتوافرة في أعالي النهر بأكثر مما يحتاجه الناس . كما لم يكن لدى المصريين أي تخوف من دول المنبع فلم يكن لأي منها القوة العسكرية أو الاقتصادية أو المعرفة التقنية لكي تعبث بمياه النهر. صحيح أنه عندما بدأ السودانيون التوسع في استخدام مياه النهر في العشرينيات من سنوات القرن العشرين، اعترى المصريون بعض القلق ولكن سرعان ما انزاح ذلك القلق أمام الشعور الوطني الجارف بأن مصر والسودان بلد واحد أو على الأقل بلدان يكملان بعضهما البعض. وكان هذا الشعور قويا في كلا البلدين وكانت الحركات الوطنية ترغب في الاتحاد تحت علم واحد وملك واحد حتى مجئ ثور مصر في سنة 1952.
كان أول مشروع متكامل لضبط مياه النيل هو المشروع الذي وضعه السير وليم جارستن في أوائل القرن العشرين ونشره في سنة 1904 – وقد اشتمل المشروع على عدد من مشروعات التخزين الموسمي والتسمر التي اقترح اقامتها في مواقع مختلفة على طول نهر النيل. وكان عصب المشروع هو في اقامة سد عند مخرج بحيرة ألبرت واستخدام البحيرة للتخزين المستمر وتطهير مجرى بحر الزراف وتوسيعه للتقليل من الفاقد في منطقة السد حتى يمكن للمياه التي كانت ستخزن في البحيرة الوصول لأدنى النهر. واقترح السير وليم أن يكون هذا الماء من نصيب مصر والتي نصحها بزيادة سعة تخزين خزان أسوان (الذي كان قد انتهي من بنائه للتو). أما عن السودان فقد احتفظ لها المشروع بحق استخدام مياه النيل الأزرق في غير أوقات الفيضان.
ويلاحظ هنا أن السير وليم قد وجه كل مياه مشروعه أو جلها إلى مصر دولة الحوض الوحيدة التي كان بقائها بل ووجودها كله يعتمد على النيل ولم يثر هذا الأمر أي معارضة تذكر بل وكان أمرا مقبولا ففي بداية القرن العشرين لم يكن لأي دولة من دول الحوض اهتمام بمياه النيل فقد لعب النهر في حياتها دورا ثانويا وكان اعتماد زراعتها على الأمطار. وفي عام 120 قام السير ماكدونالد بوضع خطة أخرى اقترح فيها بناء خزانين للتخزين الموسمي في سنار (على النيل الأزرق) وفي جبل الأولياء (على النيل الأبيض إلى الجنوب من الخرطوم)، وقنطةر لضبط مياه الفيضان في نجع حمادي (310 كيلو متر إلأى الشمال من أسوان)، وقناة تحويل في منطقة السد بجنوب أسوان، وتحويل بحيرتي تانا وألبرت إلى خزانين للتخزين المستمر ومن الجدير بالذكر أن جميع الخزانات الموسمية التي اقترحت في هذا المشروع تم تفيذها خلال سنوات بعد تقديم المشروع. وقد أثار مشروع ماكدونالد وعلى الأخص اقتراحه ببناء خزان على النيل الأزرق في سنار جدلا كبيرا.
أما آخر مشروعات التخزين القرني فقد جاء في عام 1946 وهو المشروع الذي نشرته وزارة الأشغال العمومية تحت عنوان "المحافظة على مياه النيل في المستقبل" من تأليف هرست وبلاد وسميكة - وقد توج هذا المشروع أعمال مصلحة الري المصرية عبر سنوات طوال من البحث والدراسة المعقدة التي كانت ستقام في أربع دول افريقية هي السودان واثيوبيا واوغندة وزائير وكان من شأن هذه المشروعات أن تؤثر في مصادر المياه لأربع دول أفريقية أخرى هي تنزانيا وكينيا ورواندي وبوروندي. وقد استقبل المصريون المشروع بحماسة كبيرة كما أقره مجلس الوزراء في 28 ديسمبر سنة 1949 كجزء من الخطة العامة للدولة ومن الملاحظ أن مصر حتى ذلك التاريخ وبعد أن فقدت نفوذها على منابع النيل كانت لا تزال تأمل في اقناع دول الحوض بفائدة المشروع، فقد كان المشروع من وجهة نظر واضعيه لا يؤمن المياه الكافية للتوسعات المتوقعة في زراعة مصر والسودان فقط، بل كان سيروض النهر ويفتحه للاستغلال لدول النهر الأخرى والتي كن واضعوا الخطة يشعرون أن لدى هذه الدول ماء كصيرا لم يستغل بعد. وخطط المشروع على أن يتم تنفيذه على مرحلتين (الشكل 3-26) يتم في الأولى بناء الخزانات المقترحة على البحيرات الاستوائية وفي اثيوبيا وشق قناة تحويل بمنطقة السد لنقل المياه التي ستخزن في البحيرات الاستوائية أما المرحلة الثانية فكانت عبارة عن مشروعات كان الغرض منها تقليل الفاقد في حوضي السوباط وبحر الغزال.
المرحلة الأولى
=خزانات البحيرات الاسوائية=
كان عصب المشروع هو استخدام البحيرات الاستوائية للتخزين المستمر للماء وتعتبر هذه البحيرات من أصلح الأمكنة للتخزين فكمية البخر فيها قليلة، ويعوضها ما يتساقط عليها من أمطار، كما أنها تفضل أي خزان يمكن اقامته على النيل الأزرق لأنها لا تتعرض للاطماء وتماز بحيرة ألبرت التي تقع في الأخدود الأفريقي بشواطئها الشديدة الانحدار وبسطحها الصغير بالنسبة إلى سعتها ولذلك فهي أصلح البحيرات الاستوائية كخزان للماء لأن الفاقد منها بالبر صغير بالنسبة لوحدة السعة. وقد كان انشاء خزان ببحيرة ألبرت ومنظم ببحيرة فكتوريا من أهم مشروعات الخطة المصرية للتخزين المستمر. وكان خزان بحيرة ألبرت قد خطط لكي يمتد حتى مدينة نيمولي على الحدود السودانية – الاوغندية حيث كان سيبني عندها سد – ولو كان هذا السد قد بني بمقاييس سد أسوان العالي لأمكن تخزين كمية من المياه تزيد خمسا وعشرين ضعف كمية الماء التي يتم تخزينها الأن في سد أسوان العالي.
وتزيد كفاءة خزان بحيرة ألبرت وسعته التخزينية إذا نظم دخول الماء إلى البحيرة بانتظام على مدار السنة وأمكن تفادي التقلبات الموسمية. وجاء في خطة التخزين المستمر أن هذا الأمر يمكن تحقيقة ببناء سد ند مخرج بحيرة فكتوريا. ومما هو جدير بالذكر أن هذا السد هو الجزء الوحيد الذي تم بناؤه من خطة التخزين المستمر التي كانت الحكومة المصرية قد تبنتها. ففي سنة 148 بدئ العمل في بناء خزان أوين الذي يقع على بعد 3 كيلو متر إلى الشمال من مخرج المياه من بحيرة فكتوريا. والسد من الخرسانة المسلحة طوله 762 مترا وعرضه 62 مترا وارتفاعه 30 مترا. وبالخزان محطة لتوليد الكهرباء ذات طاقة 150 ميجا وات، وقد بني الخزان أصلا بناء على مبادرة من الحكومة الاوغندية بغرض توليد الكهرباء ولكن هذه المباردة صادفت اهتمام المسئولين المصريين فطلبوا تعلية السد بمتر واحدة لزيادة سعته من 20 بليون متر مكعب كما كان مخططا لها إلى 1870 بليون متر مكعب وقد تم ذلك. كان غرض بناء السد الأساسي هو توليد الكهرباء لاستخدامها في اوغندة ولم يكن للحكومة المصرية أية فائدة من الاشتراك في هذا المشروع إلى كجزء من خطة عامة كان المسئولون المصريون في ذلك الوقت يسعون لتحقيقها وهو بناء خزان بحيرة ألبرت وقانة جونجلي.
=قناة جونجلي=
تخزين الماء في البحيرات الاستوائية ليست له فائدة إلا اذا أمكن نقله عبر أحراش منطقة السد فكما رأينا فيما سبق أن كل مياه زيائدة تأتي إلى هذه المنطقة تتبدد فيها وحتى سنة 1938 كان هناك اعتقاد بأن تقليل هذا الفاقد ونقل المياه عبر منطقة السد يمكن أن يتم لو أن جسور بحر الجبل قد قويت وحصر النهر بداخل مجراه ومنعت مياهه من الانسياب فوق جوانبه إلا أن هذه الفكرة قد استبدلت بفكرة حفر قناة جديدة يحول إليها الماء لنقله واقترح أن يكون مخرج القناة عند قرية جونجلي لكي تصل بالمياه إلى قرب الملكال (الشكل 3-27) وقد كانت نفيذ هذا الجزء من خطة التخزين موضع مفاوضات بين الحكومتين المصرية والسودانية انتهت باتفاق تنفيذ القناة في سنة 1974. وقد بدء بالفل في تنفيذ المشروع في يونيه 1978 ولكن العمل توقف في سنة 184 بسبب الحرب الأهلية التي اشتعتل في جنوب السودان منذ ذلك التاريخ.
وقد كان موضوع قناة جونجلي موضع جدل كبير منذ بدء التفكير فيها، وكان من بين النقد الذي وجه إليها أن شقها كان سيسبب تغييرا ضخما في بيئة منطقة السد وتغيرا أساسيا في نمط حياة السكان، وهؤلاء السكان ينتمون إلى عدد من القبائل الرحل الذين يعيشون على الزراعة المطرية وتربية الأبقار، وأهم هذه القبائل هي الدنكا والمنداري والنوير والشيلوك وكان عدد السكان سنة 1969 حوالي 260.000 نسمة يرعون حوالي 450.000 رأس بقر. وكان المهتمون بشئون البيئة يرون أن شق القناة سيسبب ضيقا لهؤلاء السكان ، فمعظمهم يعيش على الأرض العالية إلى الشرق من مستنقعات منطقة السد يزرعونها بالذرة الرفيعة أساسا في موسم الأمطار بين مايو واكتوبر، ثم ينتقلون مع أبقارهم إلى منطقة المستنقعات في موسم الجفاف لكي يستخدموها كمرعى. واذا ما شقت القناة فسيصبح الوصول إلى هذه المراعي صعبا اذ ستقف القناة عائقا بينها وبين مكان سكنى معظم القبائل. وقد أدت شكوى الأهالي المستمرة والضغوط السياسية الكبيرة إلى أن لبى الرئيس السوداني طلب الأهالي بتغيير مسار القناة. وبالفعل تم تغيير مسار القناة بحيث يكون مكان سكنى معظم القبائل إلى الغرب من القناة حتى لا يضطروا إلى عبورها عند الذهاب إلى مستنقعات السد (المسماة التويش). وقد أدى هذا التعديل إلى إطالة القناة من 280 كيلو متر إلى 360 كيلو متر وزيادة نفقات انشائها. وعلى الرغم من هذه الاعتراضات فقد رأى الكثيرون أن فوائد النقاة تجن أضرارها. صحيح أن شق القناة سيمس نمط حياة سكان المنطقة إلا أن القناة كانت ستفتح آفاقا جديدة أمام هؤلاء السكان في ميادين الزراعة والري وصيد الأسماك. كما كانت ستساعد في نقل البضائع والركاب بالسفن أو على الطريق الأسفلتي الذي كان سيرصف بجوارها، كما أنها ستكون موردا للماء للانسان والحيوان على مدار النسة. هذا بالاضافة إلى أنها كانت ستقلل من خطر غرق الكثير من مستوطنات أهالي جنوب السودان وخاصة في جزيرة الزراف.
أما عن المياه التي كانت ستنقلها القنا فدق اتفق على تقسيمها مناصفة بين مصر والسودان اللذين كانا سيتحملان تكاليف شقها بالتساوي، وقد صممت القناة لكي تحمل 25 مليون متر مكعب في اليوم في مرحلتها الأولى تزاد إلى 55 مليون متر مكعب في اليوم في مرحلتها الثانية، وسيوجه إلى القناة في مرحلتها الأولى 9.1 بليون متر مكعب من جملة ال33 بليون متر مكعب التي تدخل منطقة السد عند منجلا، وسيفقد من هذه الكمية حوالي البليون متر مكعب بالبخر خلال النقل – أما باقي المياه التي ستدخل منطقة لاسد فسيروح منها بالبخر والنتح حوالي 10.7 بليون متر مكعب، وبذا تكون جملة ما سيخرج من السد عند الملكال هو 21.2 بليون متر مكعب، وبذا ستزيد كمية المياه التي تصل من منطقة البحيرات الاستوائية بحوالي 4.7 بليون متر مكعب ينتظر أن يكون الفاقد منها خلال نقلها بطريق البخر والرشح حوالي 19% من حجمها وبذا يكون ما ستكتسبه مصر والسودان من المياه هو حوالي 3.8 بليون متر مكعب لكل من البلدين.
وستزيد كمية المياه التي يمكن أن تكسبها البلدين عند توسيع القناة في المرحلة الثانية إلى 7 بليون متر مكعب إلى أن القيام بالمرحلة الثانية من القناة مرهون ببناء خزان بحيرة ألبرت لض ضمان وصول الكميات الكافية للماء لتحويلها إلى القناة الموسعة.
=خزان بحيرة تانا=
كان أهم المشروعات المقترحة في مشروع التخزين القرني هو استخدام بحيرة تانا باثيوبيا للتخزين المستمر ببناء سد عند مخرجها. وتقع بحيرة تانا على ارتفاع 1760 مترا فوق سطح البحر وتبغل مساحتها 3100 كيلو متر مربع، ورفع منسوبها مترين يعطيها سعة تخزين تقدر بحوالي 7 بلايين متر مكعب. وقد خطط مشروع بناء سد بحيرة تانا بحيث يرفع منسوبها لمتر واحد في المرحلة الأولى ثم إلى مترين في المرحلة الثانية. وسيوفر مشروع المرحلة الأولى لمصر حوالي 2.1 بليون متر مكعب في السنة من المياه الصيفية عند أسوان وذلك بعد احتساب فواقد النقل والبخر (والتي قدرت بأقل قليلا من 40% من أصل سعة التخزين) وسيوفر مشروع المرحلة الثانية حوالي 1.4 بليون متر مكعب كان من المفروض أن تذهب كلها إلى السودان، وبالاضافة إلى توفير المياه لكل من مصر والسودن إفن بناء السد كانا سيعمل منظما للفيضان وحاميا للبلدين من غوائل الفيضانات العالية، كما كان ذا فائدة كبرى لاثيوبيا في حقلي التوسع الزراعي وتوليد الكهرباء.
وعلى الرغم من صغر سعة خزان بحيرة تانا عند مقارنته بخزان بحيرة ألبرت فإن للخزان أهمية خاصة، لأن تخزين المياه به سيكو أقل كلفة من مشروعات حفر قنوات تحويل في مستنقعات السد وبحيرة الغزال والسوابط. وبالاضافة إلى ذلك فإن التخزين في بحيرة تانا يعطي أمانا أكثر لمستخدمي مياه النيل ذلك لأن البحيرة تقع في منطقة مطيرة مستقلة عن منطقة أمطار الهضبة الاستوائية مما يقلل إمكان وقوعهما معا في فترة جفاف كما يقلل من خطر تركيز التخزين في منطقة واحدة من المناطق التي ينبع منها النيل.
=الشلال الرابع=
كان مشروع بناء خزان موسمي بالشلال الرابع عند مروي هو آخر مشروعات المرحلة الأولى لضبط النيل، وقد اقترح بناؤه لضبط الفيضان ولتنظيم توزيع المياه الآتية من خزان أعالي النيل. وكان من المقترح أن تكون سعته 3 بلايين متر مكعب. ولم يعد بطبيعة الحال مكان لهذا الخزان بعد بناء السد العلاي إلى أن المشروع يجئ ذكره ضمن خطط حكومة السودان بغرض تولدي الكهرباء أو كبديل لخزان الرصيرص بسعة تخزين تزيد كثيرا عن المشروع الأصلي.
=كمية المياه التي ستخزن من المرحلة الأولى=
كان من المخطط للمرحلة الأولى من مشروع التخزين القرني مضاعفة كمية المياه المتاحة لكل من مصر والسوادن – ففي وقت تخطيط المشروع والاعداد له كانت سعة التخزين المتاحة فعلا للبلدين هي 9.3 بليون متر مكعب في المنشآت التالي: خزان أسوان (5.2 بليون متر مكعب)، جبل الأوليات (3.5 بليون متر مكعب)، وسنار (0.6 بليون متر كعب). وكان المخطط أن تتضاعف هذه القدرة التخزينية بعد الانتهاء من مشروعات المرحلة الأولى كالتالي: خزانات البحيرات الاستوائية وبعد مرورها من قناة جونجلي (4 بليون متر مكعب تزيد إلى 7 بليون متر مكعب عند اتمام المرحلة الثانية) وخزان بحيرة تانا (2.3 بليون متر مكعب تزيد إلى 3.5 بليون متر مكعب في المرحلة الثانية) وخزان الشلال الرابع (3 بليون متر مكعب).
المرحلة الثانية
اشتملت المرحلة الثانية من مشروع التخزين المستمر على عدد من المشروعات التي استهدفت الحد من فاقد المياه من حوضي السوباط وبحر الغزال (الشكل 3-28) ولم تدرس أيا من مشروعات هذه المرحلة بطريقة تفصيية سواء من الناحية الهندسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية وفي مشروعات حوض السوباط هناك اقتراحان بديلان، أحدهما حز مياه نهر البارو عند جمبيلا باثيوبيا حجزا موسميا مما سيقلل من حجم المياه الذي يفيض إلى المستنقعات من هذا النهر بما قدر بحوالي 3.8 بليون متر مكعب ، أما الثاني فهو تقوية جسور البارو عند نقطة فيضانه فوق جسوره ثم شق قناة تحويل طولها 400 كيلو متر تبدأ من خور مشار وتتجه ناحية الشمال الغربي لتصب في النيل الأبيض عند ملوت – وستزيد هذه القناة الجديدة من كمية المياه التي يحملها النيل الأبيض بمقدار 4.4 بليون متر مكعب في السنة. أما في حوض بحر الغزال فقد اقترح شق قناتين: قناة بحر الغزال الجنوبية وقناة بحر الغزال الشمالية لتجنب مستنقعات هذه المنطقة الهائلة. وسيكون طول القناة الجنوبية حوالي 425 كيلو مترا تبدأ من نهر الجور وتتجه إلى الشمال الغربي إلى لول ثم تسير إلى الشمال من بحر الغزال ثم تعود فتلتقي به عند ملتقاه ببحر الجبل عند بحيرة نو. وستوفر هذه القناة حوالي 7 بليون متر مكعب من المياه في السنة. ولما كانت زيادة تصرف بحر الجبل بهذه الكمية من الماء سيعيقث مياه نهر السوباط من الوصول إلى النيل الأبيض فقد اقترح حفر قناة ثانية بطول 225 كيلو مترا إلى الشمال لتحويل تصريف القناة الأولى لكي تصل إلى الشمال من نطقة التقاء السوباط بالنيل الأبيض.
السد العالي
بعضاً من التاريخ
سبق القول بأن مصر وحتى مجي ثورة 1952 قد اختارت خطة للتخزين المستمر تشمل كامل حوض النيل وتتكون من بناء انشاءات على النهر في أربع دول هي زائير واوغنده والسودان واثيوبيا مما كان سيؤثر على رجيم النهر في أربع دول أخرى هي كينيا وتنزانيا ورواندي وبوروندي. وبعد سنوات قليلة من تبني هذا لامشروع تغير الجو السياسي الذي ساد أفريقيا لمدة طويلة والذي بنيت الخطة في ظله. فقد نالت الكثير من دول النهر استقلالها السياسي وشغلت بتأكيد سيادتها على مصادر ثروتها الطبيعية وحقها في بناء خططها المستقلة في التنمية. وقد أصبح واضحها بحلول منتصف القرن العشرين بأنه سيكون من الصعب تنفيذ خطة التخزين المستمر التي كانت قد وضعت بالقاهرة. فقد كانت مشروعات هذه الخطة ستبني في بلاد حديثة الاستقلال لم تكن الأحوال قد استقرت فيها بعد وأن وقتا طويلا سيقضى قبل أن تقرر هذه لابلاد سياستها الانمائية وقبل أن تقبل انشاء جهاز مشترك لتنمية حوض النيل كوحدة متكاملة.
وقد فطن ضباط ثورة يوليو 1952 إلى هذا الواقع الجيوبوليطيقي الجديد وأخدو يبحثون عن بديل يمكن أن يؤمن لمصر احتياجاتها المائية لتوسعها الزراعي اللازم لمجابهة الزيادة السكانية والآمال العريضة التي جاءت مع العصر. ولذا فقد استقبل هؤلاء الضباط باهتمام بالغ المشروع الذي تقدم به أدريان دانينوس المهندي المصري اليوناني الذي كان يقيم بالاسكندرية لبناء سد واحد وكبير عند أسوان لحجز فيضان النيل بأكمله وتخزين مياهه وتولدي طاقة كهربائية كبيرة منه. وككان دانينوس رجلا حالما كثيرا ما كتب عن ضرورة الاستفادة من خزان أسوان القديم لتوليد الكهرباء، وفي عام 1948 قرأ بحثا بالمجمع العلمي المصري عرض فيه مشروعه عن بناء سد هائل عند أسوان للاستفادة بمياه النيل. وقد بدأ دانينوس بحثه باقتباس أحد أقوال نابليون مؤسس المجمع العلمي الذي كان يقرأ فيه محاضرته، في مذكراته التي كتبها في منفاه في سانت هيلانة "إذا قدر لي أن أن أحكم مصر فلن أسمح لنقطة واحدة من مياه النيل بأن تذهب إلى البحر الأبيض المتوسط".
وقد جذب مشروع بناء سد كبير عند أسوان أنظار رجال الثورة. فقد رأو فيه مشروعا يقع بداخل مصر يمكن أن يعطيها احتياجاتها المائية وأن يؤكد بقاءها الاقتصادي دون الاهتماد على دول أعالي النيل. والآن وبعد أكثر من عشرين سنة على بناء السد فإن المرء لا يسعه إلى أن يرى أن قرار بناء السد بداخل أرض مصر كان قرارا حكيما إذ تكاد أن لا توجد دولة واحدة من دول حوض النيل لا تنازعها الحروب الأهلية وحركات الانفصال والنزعات العرقية والقبلية. وفي ظل هذه الظروف يصعب على المرء أن يتصور كيف كان من الممكن تنفيذ مشروعات خطة التخزين المستمر في أعالي النيل وادارتها بأي شكل من الأشكال.
وعلى الرغم من المخاطر التي كان يمكن أن تجئ مع بناء بضخامة السد المقترح والتي توقعها الكثيرون من بينهم دانينوس نفسه، فإن المشروع حول للدراسة إلى مجموعة من الثقات من بعض أستاذة الجامعة ومهندسي سلاح المهندسين بالجيش، وقد رأت هذه المجموعة أن مشروع بناء السد مشروع عملي وقابل للتنفيذ ومن ثم فقد أحالت المجموعة المشروع وتقريرها إلى وزارة الأشغال العمومية المصرية وقد رأت الوزارة أن المشروع سليم وقادر على توفير احتياجات مصر المائية، إلا أن الوزارة اعتبرت المشروع مكملا وليس بديلا عن مشروعات أعالي النيل التي كانت قد أقرتها من قبل. وعلى الرغم من سابق النقد الذي كانت الوزارة قد وجهته للمشروع من أن وقوعه من منطقة أسوان سيزيد من نسبة الفاقد بالبخر زيادة كبيرة إلا أنها رأت عند اعادة النظر في المشروع أن من الممكن تقليل هذا الفاقد بتصميم أفضل للسد.
وفي نوفمبر سنة 1952 أحيل أمر تصميم المشروع إلى شركتين هندسيتين من ألمانيا هما هوختيف ودرتمونر اللتان تقدمتا باقتراحهما في أوائل عام 1954 لبناء سد ركامي على بعد 6.5 كيلو متر إلى الجنوب من خزان أسوان القديم. وقد قمات لجنة دولي مكونة من أساتذة من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا بمراجعة هذا التصميم وأقرته في ديسمبر عام 1954 حين أحيل المشروع إلى المكتب الاستشاري البريطاني ألسكندر جيب لوضع مواصفات التنفيذ وشروطه.
أما عن موضوع تمويل المشروع فقد تم الاتصال ببنك الانشاء والتعمرير (البنك الدولي) الذي انعقد الأمل على أن يقوم باقناع بعض الدول الغربية لترتيب تمويل السد. وبعد أن قام البنك بدراساته الخاصة التي أقرت بأن المشروع "سليم من الوجهة الفنية وعلى درجة كبيرة من الفائدة من الوجهة الاقتصادية تقدم البنك وبعد تأخير طويل في ديسمبر 1955 بعرض التمويل المكون الأجنبي لتكاليف السد تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا بمقتضاه بتقديم معونة توازي ربع التكاليف. وبعد سبعة أشهر من التقدم بهذه الصفقة سحب البنك عرضه بحجة أن الاقتصاد الصمري غير قادر على تحمل نتائج بناء السد. وكان من الواضح أن سحب العرض كان بدوافع سياسية ، فقبل أيام قليلة من سحب العرض أكد يوجي بلاك رئيس البنك لوزير المالية المصري في رسالة وجهها إليه ثقة البنك في الاقتصاد المصري. وفي الحقيقة فإن مشروع السد قد أقحم منذ يومه الاول في خطم الحرب الباردة التي كانت في ذروتها في ذلك الوقت بين القوتين الأعظم – فقد أرادت الولايات المتحدة ، أكبر ممول لبنك ، استخدام مسألة تمويل السد كثمن لدخول مصر حلف بغداد وهو الحلف الذي كانت قد أقامته لتوها لتأمين سلامة الشرق الأوسط من التدخل السوفيتي الذي كانت الولايات المتحدة تعقتد أنه وشيك. ولما فشلت في ذلك سحبت عرض البنك بالتمويل وأعلنت حربا اقتصادية على مصر.
قدرت تكاليف المشروع في ذلك الحين بحوالي 1300 مليو دولار منها 400 مليون دولار من العملة الصعبة المكونة الذي اكان البنك سيموله. وقترح البنك تمويل هذا الجزء على مرحلتين يقدم البنك في المرحلة الأولى مائتي مليون دولار منها سبعون مليونا في صورة اعانة، تقدمت بها الولايات المتحدة (56 مليون دولار) وبريطانيا (14 مليون دولار). ووضعت للقرض شروطا متشددة تصبح بمتقضاها مالية مصر تحت رقابة دورية من البنك وتصبح قدرة مصر على الاقتراض محدودة، ما يكون للبنك حق المشاركة في اختيار مقاولي تنفيذ الأعمال، وأن يتم تقديم قرض المرحلة الثانية عند تمام تنفيذ أعمال المرحلة الأولى. وقد أثارت هذه الشروط وعلى الأخص شرط التمويل على مرحلتين شكوك مصر في أن عرض القرض قدم بغرض السيطرة على الاقتصاد المصري وإجبار مصر على تغيير سياستها الخارجية.
وقد أصبح هذا الشك يقينا بعد أن رفض البنك تقديم العرض حتى بعد أن قبلت مصر كافة الشروك, كانت السنتان التاليتان لسحب القرض سنتين حافلتين بالأحداث التي تركت أثرا عميقا على تاريخ مصر الحديث ففيهما أممت مصر قناة السويس (23 يوليو 1956) إثر سحب القرض وأعلنت انجلترا وفرنسا واسرائيل عليها الحرب (29 اكتوبر 1956) بغرض القضاء على نظام الحكم في مصر واعادة السيطرة على القناة. وعلى الرغم من فشل هذه الدول في تحقيق أغراضها فإن شيئا لم يتم نحو تمويل مشروع السد العالي حتى شهر ديسمبر سنة 1958 عندما تم توقيع اتفاقية بين الاتحاد السوفيت يومصر لاقراض مصر مبلغ 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولى من السد. وعلى إثر ذلك بدأ الخبراء السوفييت في مراجعة تصميمات السد، وفي مايو سنة 1959 تقدم هؤلاء الخبراء بمقترحاتهم والتي اتفقت لحد كبير مع مقترحات شركتي هوخهتيف ودرتموند الألمانيتين مع تحويرات طفيفة كان أهمها تغيير موقع محطة القوى واستخدام تقنية سوفيتية في غسيل وضم الرمال عند استخدامها في بنءا جسم السد. وفي يوليو سنة 1959 تم التوقيع على اتفاقية ثانية مع الاتحاد السوفيتي يعطي بمقتضاها الاتحاد السوفيتي لمصر قرضا بمبلغ 500 مليون روبل إضافية لتمويل المرحلة الثانية من السد. وهكذا تم تمويل السد ولم يبق لبدء العمل في بناءه إلى الاتفاق مع السودان، الدولة الهامة على حوض النيل والمستفيدة من مياهه، على الطريقة التي سيتم بها توزيع مياه الخزان وتشكيل الهيئات التي ستختص بتنفيذ الاتفاقية ومراقبتها. وقد وقعت الاتفاقية في ديسمبر سنة 1959،وبدء العمل في بناء السد في يناير سنة 1960 بعد اتخاذ قرار بنائه بثماني سنوات مشحونة بالأحداث.
وقد انتهى العمل في بناء السد في عام 1970 وافتتح رسميا سنة 1971 في احتفال حضره الرئيس أنور السادات الرئيس الجديد لمصر، ونيكولاي بودجورني من الاتحاد السوفيتي ، ولم يقدر لجمال عبد الناصر الذي كان رئيسا لمصر وقت اتخاذ قرار بناء السد وبطل المعارك التي كان على مصر أن تخوضها حتى تم بناؤه أن يحضر الاحتفال فقد توفي في سبتمبر سنة 1970.
وقد أثار قرار بناء السد العالي جدلا كبيرا فقد كان بالنسبة لمعظم المصريين رمزا للارادة الوطنية وأمل المستقبل في حياة أفضل كما كان بالنسبة لأولئك الذين كانوا يمضرون كرها للرئيس عبد الناصر وسياساته التي أدت إلى بناء منشأة في مصر تشهد بقدرة الاتحاد السوفيت بلاء لم يجلب لمصر إلا المصائب. أما بالنسبة للكثيرين من المشتغلين بعلوم البيئة فقد كان بناء السد كارثة بيئية غيرت من موازين البيئة وسببت لمصر أضرارا كثيرة . وفي الحقيقة فإن الكثيرين ممن تبنوا المشروع أو أيدوه كانوا يعرفون أن مشروعا بضخامة السد العالي لابد وأن يترك آثارا جانبية. ومن هؤلاء من تكلم عن إطماء السد وعن أن حجز الطمي عن الوصول إلى مصر سيسبب النحر في مجرى النيل أصل النهر وإسراعا في تآكل الشواطئ، كما أن مهندسي وزارة الأشغال كانوا يشعرون بأن أسوان لم تكن أفضل مكان لتخزين المياه نظرا لوقوعها في منطقة ذات معدلات بخر عالية، مما كان من شأنه أن يقلل من الفوائد المنتظرة للسد.
وبعد أن اتخذ القرار ببناء السد لم تشجع الحكومة المصرية النقد الموجه للمشروع، فقد أصبحت للأمر حساسية خاصة بعد تعثر المحادثات مع البنك الدولي، فكان ينظر إلى أي نقد للمشروع بالارتياب وعلى أنه ربما كان مدفوعات من جهات ليس من صالحها اتمام بناء السد. وقد كان هذا أمرا مؤسفا وخاصة عندما مس الدوائر العلمية، ولعل النقد الذي نال أكبر الدعاية هو ذلك الذي وجهه عبد العزيز أحمد والذي سبب ازعاجات كبيرا للمسئولين في مصر وعلى الأخص بعد أن ألقى كحاضرة أمام منتدى بريطاني إبان ذرة أزمة السويس. وقد قرأ المهندس عبد العزيز أحمد تقريره (الذي نشر فيما بعد) أمام المعهد البريطاني للمهندسين المدنيين وذكر فيه اعتقاده بأن الفاقد من الماء عن طريق البخر والتسرب سيكون كبيرا جدا للدرجة التي ستجعل ملء خزان السد صعبا بل لعله لن يمتلئ أصلا. وكان عبد العزيز أحمد قد حسب معدلات البخر بمقارنتها بمعدلات البخر بمقارنتها بمعدلات البحر التي حدثت لخزان أسوان القديم بعد أن أدخل عليها فعل الريح كما حسب معدلات التسرب بافتراض نسبة عالية من النفاذية في أرضية الخزان وجوانبه. والآن وقد مرت عشرون سنة على بناء السد فإن شيئا مما توقعه المهندس عبد العزيز أحمد ل يحدث فقد امتلأ الخزان لقرابة منتهاه بعد خمس سنوات ومن انشائه – كما أن معدلات البخر والتسرب لم تزد عما توقعه المسئولون عند بناء السد وفي الحقيقة فإن معدل تسرب الماء إلى المنطقة المحيطة بالسد قد قل لدرجة كبيةر حتى كاد أن يتوقف كما بينت ذلك دراسات هيئة السد العالي واخصائيي الخطة القومية للمياه.
السد
بني السد العالي على مرحلتين تم في الأول منهما تحويل مجرة النهر وبناء سدين بعرض المجرى لكشف قاع النهر الذي كان سيبنى عليه جسم السد – وقد انتهي من بناء هذين السدين وتحويل مجرى النهر في مايو سنة 1964 في حفل شهده الرئيس جمال عبد الناصر والزعيم السوفيتي خروشوف. وفي المرحلة الثانية تم بناء السد نفسه وهو صرح يبلغ عرضه عند قاعدته 980 مترا. يتكون من نواة من الطفل تغطيها طبقات من ركام الجرانيت والرمال، تدعمها ستارة أفقية من الرمال الناعمة المانعة لتسرب المياه وقد أدمج في جسم النواة سد التحويل الأمامي والخلفي اللذان كانا قد بنيا بغرض تحويل مجرى النهر (الشكلين 3-29، 30). ويبلغ ارتفاع السد 111 مترا فوق قاع النهر (الذي يبلغ منسوبه 85 مترا فوق سطح البرح) وعرضه حوالي 40 مترا عند القمة ويرسو السد العالي فوق ستارة رأسية لا تنفذ منها المياه بعمق مائتي متر تمتد من أسفل النواة حتى صخر الأساس الجرانيتي.
ويعتبر السد العالي واحدا من أضخم الأعمال الهخندسية، فهو واحد من أكبر خزانات المياه في العالم. كما أن محطة توليد القوى الملحقة به هي ثامن محطة من نوعها من حيث القدرة. وقد بلغ حجم المواد التي استخدمت في بناء السد أكثر من 42 مليون كيلو متر مكعب. ويبلغ طول السد عند قمته 3600 متر منها 520 متر بين ضفتي النهر ويمتد الباقي على هيئة جناحين على جانبي النهر ، ويبلغ الجناح الأيمن 2325 مترا على الضفة الشرقية وطول الجناح الأيسر 755 مترا على الضفة الغربية. وتقع محطة تولدي القوى على الضفة الشرقية للنيل معترضة قناة التحويل التي تزود التوربينات بالمياه خلال ستة أنفاق متوسط طول الواحد منها حوالي 282 مترا صممت بحيث تسمح لمرور مياه أقصى تصريف للقناة بداخلها، وهو حوالي 11.000 متر مكعب في الثانية (حوالي مليار متر مكعب في اليوم) – وبمحطة توليد الكهرباء التي بنيت عند مخرج الأنفاق 12 وحدة مائية قدرة كل منها 175.000 كيلو واط، أي أن القدرة الاجمالية للمحطة هي 2.1 مليار كيلو واط تنتج طاقة كهربائية سنوية تصل إلى 10 مليارات كيلو واط ساعة. وقد بلغت تكاليف بناء السد ومحطة الكهرباء 820 مليون دولار سددت بكاملها في سنة 1978.
الخزان
بدأ الخزان في الامتلاء في سنة 1964 عندما ادمج سد التحويل ناحية أعلى النهر في جسم السد العالي. وقد صمم الخزان بحيث يكون أقصى ارتفاع لمياهه هو 98 مترا فوق قاع النهر (أو 183 مترا فوق سطح البحر) وعند هذا المنسوب يمتحد الخزان إلى مسافة 500 كيلو متر حتى آخر الشلال الثاني مكونا بحية هائلة تغطي مصبات الوديان والأخوار القديمة التي يمتد فيها. ومساحة الخزان عند منسوب امتلائه حوالي 6500 كيلو متر مربع وحجمه عند هذا المنسوب 168 مليار متر مكعب منها 31 مليار متر مكعب تقعد تحت منسوب 145 مترا فوق سطح البحر، وهي محجوزة للتخزين الميت أي لتجميع الطمي الذي سيحمله النهر إلى البحيرة (76) أو 90 مليار متر مكعب للتخزين الحي القابل للاستخدام السنوي بين منسوبي 145 و175 مترا فوق سطح البحر أما ما زاد عن ذلك فهو فضار للوقاية ولاستخدامه في سنوات الفيضانات الواطئة – ويعرف الخزان باسم بحيرة ناصر في الجزء المصري وباسم بحيرة النوبة في الجزء السوداني على أن معظم المؤلفين يسمون الخزان بحيرة ناصر عند الكلام عن الخزان كله (الشكل 3-31).
وقد تم تعديل المنسوب الأعلى للخزان بعد بناء السد واتمام رفع الخرائط الطوبوغرافية التفصيلية لمنطقة السد وخفضه إلى منسوب 178 مترا بسبب أن منطقة مصب وادي توشكي الذي يفتح على الضفة الغربية للبحيرة بحوالي مائتي كيلو متر إلى الجنوب من أسوان تقل في ارتفاعها عن المنسوب الأصلي الذي صمم الخزان عليه مما كان سيسبب قرب المياه منها – وقد بدأ الخزان في الامتلاء تدريجيا وببطء منذ عام 1964 ولم يصل إلى المنسوب المناسب لبدء التشغيل الآمن للخزان (منسوب 175 مترا) إلا بعد بدء بناء السد بخمس عشرة سنة فقد تزامنت فترة التشغيل الأولى مع فيضانات أول سبعينيات القرن العشرين الواطئة 0 ولم يبدأ الخزان في الامتلاء بمعدل كبير إلا في سنتي 1974/1975، 1975/1976 ذات الفيضانين العاليين اللذين رفعا المنسوب قرابة خمسة عشر مترا دفعة واحدة – وسعة 134.2 ىمليار متر مكعب في سنة 1978 – وفي هذا العام خشئ رجال وزارة الري المصرية أن يستمر ارتفاع المنسوب اذا ما وصلت مصر فيضانات تماثل أو تفوق فيضان سنة 1975/76 العالي مما كان سيشكل مشكلة كبيرة لمصر التي لم تكن معدة لاستيعاب هذه المياه أو تحويلها إليها فلم يكن المفيض الأصلي الذي بني إلى الجنوب من أسوان على الضفة الغربية معدا لتحويل المياه الزائدة إلا عندما يصل منسوب المياه إلى 181 مترا على الأقل كما أن إطلاق مياه زائدة إلى مصر أمر غير وارد لأنه كن سيتسبب في زيادة سرعة المياه ومعدلات نحر المجرى وتآكل جوانبه والتأثير على أساسات القناطر والسودود المقامة على النهر – ولذا فقد تم التفكير في التخلص من هذه المياه الزائدة عن منسوب 178 مترا باطلاقها في منخفض توشكي الذي يقع في صحراء النوبة إلى الغرب من مدينة توشكي القديمة – وقد تم حفر قناة لتوصل الخزان بهذا المنخفض على وجه السرعة بلا بوابات أو قناطر.
ولم يحدث أن جاء الفيضان عاليا بعد سنة 1978 فقد تلت هذه السنة سنوات طويلة من الفيضانات الواطئة التي أثرت على منسوب الخزان الذي أخذ يتناقص عاما وراء آخر خلال ثمانينات القرن العشرين حتى وصل إلى منسوب 151 مترا في أول سنة 1988 وقلت سعة الخزان إلى أقل من 41 مليار متر مكعب في ذلك العام أي بما لا يزيد عن 10 مليارات متر مكعب من التخزين الحي – ولولا مجئ فيضان سنة 1988 العالي الذي رفع منسوب الخزان ثلاث عشرة مترا مرة واحدة لواجهت مصر وقتا عصبيا – وشهد عقد تسعينات القرن العشرين عددا من الفيضانات العالية التي رفعت منسوب الخزان حتى أوصلته ولأول مرة إلى ما يزيد عن 178 مترا في سنة 1996 حين استخدام مفيض توشكي وفي ذلك العام تم افتتاح المفيض رسميا بعد استكمال بنائه وتزويده بالقناطر والبوابات – وقد استمرت سنوات الماء الزائد خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
واذا نظرنا إلى صافي ما يصل مصر من مياه عبر سنوات تشغيل الخزان (وهي المياه التي تكون من نصيب مصر بعد استقطاع ما يفقد من بخر أو تسرب والتي بلغ متوسطها عبر السنوات حوالي 9 مليارات متر مكعب في السنة وبعد أن يسحب السودان ما يستطبع أن يسحبه من نصيبه من المياه (والتي بلغ متوسطها حوالي 15 ماليار متر مكعب في السنة ) لوجدنا أنه خلال الثماني والعشرين سنة التي انقضت بين سنة 1969/70 وسنة 1996/97 كانت هناك ثماين سنوات بلغ فيها صاف يما وصل مصر من مياه أقل من احتياجاتها والمقدرة 55.5 مليار متر مكعب وشهد العام المائي 1984/85 أدنى ما وصلها من مياه فقد بلغ في ذلك العام 34.8 مليار متر مكعب أي أقل من احتياجاتها بما يزيد عن 20.7 مليار متر مكعب وجاء هذا العام في أعقاب عامين منخفضين لم يصل فيهما مصر إلا 49 مليار متر مكعب في العام المائي 1983/84 ، 4.6 مليار متر مكعب في العام المائي 1982/83 أي بما يقل عن احتياجات مصر بمقدار 6.5، 14.98 مليار متر مكعب على التوالي – كما كانت هناك خمسة أعاوم بلغ صافي ما وصل مصر فيها من مياه قرابة احتياجاتها وخمسة عشرة عاما بلغ ما وصل فيها من مياه أكثر من احتياجاتها وكانت أعلى هذه السنوات هي السنوات المائية 1988/89 والتي بلغ ايرادها 88.5 مليار متر مكعب أي بما يزيد عن احتياجات مصر بحوالي ثلاثة وثلاثين مليار متر مكعب – ومن السنوات العالية كانت سنوات آخر تسعينات القرن العشرين.
وبيبن الرسم 23-3 تقلبات مستوى الخزان وسعته عاما بعد عام كما يسجل الجدول الآتي ارتفاع المياه في بحيرة ناصر منذ عام 1965 وكذا مساحة الخزان وسعته عبر هذه الأعوام.
تشغيل الخزان
صمم السد العالي لكي يحقق أغراضا متعددة هي خزن المياه والحماية من الفيضانات العالية وتوليد الكهرباء. وتسحب المياه من الخزان طبقا لاتفاقية المياه المعقودة في سنة 1959 بين مصر والسوادن التي قسمت صافي المياه المخزنة في بحيرة السد بين البلدين بحيث ينال السوادان 14.5 مليار متر مكعب وتنال مصر 7.5 مليار متر مكعب في السنة. وعندما تضاف هاتان الكميتان إلى أصبة البلدين التي تقررت كحقوق تاريخية لهما في اتفاقية سنة 1929 يصبح للسودان 18.5 مليار متر مكعب ولمصر 55.5 مليار متر مكعب في السنة. وتستخدم المياه المسحوبة من الخزان أساسا في ري الأراضي وكذلك لتوليد الكهرباء. ويتم في كل عام اعداد الخزان لاستقبال الفيضان الجديد، وذلك بسحب المياه قبل مجئ الفيضان الى منسوب معين وتتحدد كمية السحب من الخزان في اطار حدود لا تزيد عنها حتى لا يتعرض مجرى النهر للبخر ولا تنقص عنها حتى لا تتوقف الملاحة في المجرى. وفي سنوات الفيضانات الواطئة يصعب التوفيق بين احتياجات ري الأراضي التي تختلف من شهر إلى شهر ومن موسم إلى موسم وبين احتياجات الملاحة النهرية واحتياجات توليد الكهرباء والتي ينبغي أن تكون ثابتة على مدار السنة. ولما كان من قواعد تشغيل الخزان اعطاء الأولوية لاحتياجات الري الموسمية، فإن ذلك يسبب في سنوات الفيضانات الواطئة صعوبات في تشغيل محطات القوى وانقصا كفاءتها وكذلك في عطل الملاحة النهرية.
وطبقا لقواعد التشغيل المعمول بها في الخزان تسحب الاحتياجات المائية لري الأراضي في كل من مصر والسودان في السنوات التي يكون فيها الفيضان متوسطا بحيث لا يزيد ارتفاع الخزان عن175 مترا في يوم 30 يوليو من كل عام حتى يمكن له استيعاب الفيضان الجديد والذي يأتي معظمه خلال شهري اغسطس وسبتمبر . أما في السنوات الواطئة الفيضان فإنه يجرى تقليل كمية المياه المسحوبة لاحيتاجات الري في كل من مصر والسودان طبقا لمعادلة تنزالية حتى لا يفرغ الخزان كلية. وتتحدد لذلك كمية المياه التي تسحب شهريا لكل من مصر والسودان تبعا لحجم الفيضان. ففي سنوات الفيضانات الشحيحة (أقل من 52 بليون متر مكعب) وهذه تقل بدورها عن الكمية الشهرية عن تلك التي تسحب في سنوات الفيضانات الواطئة (حول 70 بليون متر مكعب) وهذه تقل بدورها عن الكمية الشهرية عن تلك تسحب في سنوات الفيضانات العالية (حول 90 بليون متر مكعب) وسنوات الفيضانات الزائدة الارتفاع (حول 110 بليون متر مكعب). ويؤثر حجم الفيضان في منسوب الخزان الذي يقسم إلى نطاقات: النطاق الذي يقل عن منسوب 145 متر فوق سطح البحر هو نطاق التخزين الميت (الذي يحجز لتخزين الطمي الذي يأتي مع الفيضان) والذي لا يسمح بالحسب منه والنطاق بين منسوب 145 و150 مترا وهو نطاق الفيضانات الشحيحة والتي عندما يصل إليها الخزان وجب الاقلال من سحب المياه طبقا لمعادلة خاصة تسمى القاعدة الدنيا وهي المعادلة التي تحدد كمية الماء المنسحب بطريقة تنازلية حسب حجم الوارد من المياه. والنطاق فيما بين منسوب 150 و175 مترا هو النطاق الذي يتم فيه السحب الطبيعي الذي يستوفي احتياجات مصر والسودان في الري وتوليد الكهرباء . والنطاق بين منسوبي 175 و178 مترا هو النطاق الذي يسمح بسحب كميات اضافية من المياه طبقا لمعادلة خاصة تسمى القاعدة العليا . وقد صمم الخزان بحيث يفيض الماء الزائد عن منسوب 178 مترا إلى منخفض في الصحراء الغربية هو منخفض توشكى الذي يخرج من بلدة توشكى في النوبة القديمة (الرسم 3-33). ومفيض توشكى عبارة عن قناة بلا بوابات أو قناطر تخرج من الخزان إلى المنخفض، حفرت سنة 1979 لكي تحول الماء الزائد عن منسوب 178 مترا إلى هذا المنخفض ومن الملاحظ هنا أن خزان السد العالي كان قد صمم أصلا لكي يستوعب الماء حتى منسوب 183 مترا وجهز عند بنائه بمفيض عند أسوان لكي يحول الماء الزائد عن هذا المنسوب إلى النيل في مصر ولكن رؤى في سنة 1978 أن يحد من ارتفاع الماء في الخزان إلى منسوب 178 مترا فقط فقد خشى المسئولون من أن اطلاق ما يزيد عن هذا المنسوب من المياه إلى مصر كان سيزيد من سرعة الماء مما كان سيتسبب في زيادة معدلات نحر المجرى وتآكل جوانبه والتأثير على أساسات القناطر والسودود. ولا شك أن الحد من كمية المياه التي تدخل إلى مصر العطشى إلى الماء هو من المتناقضات التي أفرزها بناء السد العالي والتي ستجد حلا لها في المستقبل.
فوائد السد العالي
أوقف السد العالي النيل عند أسوان وحول مجرى النهر إلى الشمال إلى قناة ري ضخمة زودت الزراعة المصرية بزاد منتظم ومأمون من المياه بطريقة لم يسبق لها مثيل – على أن هذه الفائدة العظمى وغيرها من الفوائد لم تأت دون آثار جانبية، فالسد العالي ككل صرح كبير أعاق المسار الطبيعي للنهر وغير من توازناته بطريقة ستحتم على الانسان أن يتعايش معها. ولعل أوضح فوائد السد هو أنه حجز المياه التي كانت تذهب سدى إلى البحر الأبيض المتوسط بعد كل فيضان ووضعها في خدمة كل من مصر والسودان اللتين اقتسمتا هذه المياه طبقا لاتفاقية مياه الني التي وقعت في سنة 1959. وبالاضافة إلى ما أعطاه السد لمصر من المياه فقد حما بناؤه البلاد من تقلبات النهر ومن مخاطر الفيضانات العالية التي كانت تتهددها بين الفينة والأخرى. وفي نطري أن هذه الفائدة وحدها تسوغ بناء السد العالي فقد كان من الصعب تصور دول حديثة يعيش أهلها تحت خطر الغرف كل بضعة أعوام.
كذلك أعطى السد مصر بنكا للمياه اذا أحسنت استخدامه استطاعت أن تضمن احتياجاتها المائية في الوقت الذي تحتاجه دون أن تعيش في انتظار ما يأتي به النهر كل عام. وقد برزت فائدة السد العالي خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين التي جاءت بسلسلة من الفيضانات الواطئة، فخلال معظم سني هذين العقدين كانت كمية المياه التي تصل إلى مصر بعد أن سحب السودان نصيبه أقل كثيرا من احتياجاتها ، ولولا مخزون السد العالي لفقدت مصر جزءا كبيرا من زراعتها ولدفعت ثمنا باهظا على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وخلال معظم سني هذين العقدين كانت مصر تسحب من الخزان احتياجاتها مالالية بصفة عادية دون أن تستخدم القاعدة الدنيا. ولولا أن السودان لم يكن يأخذ نصيبه بالكامل خلال هذه السنوات لأسفرت هذه السياسة عن كارثة محققة ولأوصلت الخزان إلى منسوب التخزين الميت في سنة 1984 ولما أمكن رفع منسوبه مرة أخرى حتى بعد الفيضان العالي الذي جاء في سنة 1988.
وكان لزيادة كمية المياه التي جاءت إلى مصر بطريقة منتظمة بعد بناء السد العالي أثرها في تحويل حوالي 800.000 فدان من ري الحياض إلى الري المستديم، وكذلك في البدء في برنامج جسور لاستصلاح الأراضي، ولم يكن ذلك متاحا قبل بناء السد. ففي الخمسين سنة التي سبقت بناءه لم تزد مساحة الأراضي التي تم استصلاحها عن 100.000 فدان كان معظمها يقع في أراضي الدلتا ووادي النيل الطينية القوام السهلة الاستصلاح والاستزراع . أما الطفرة الحقيقية في استصلاح الأراضي فقد حدثت مع بناء السد وخاصة في عقد الستينات ثم في عقد الثمانينات حين استؤنفت عمليات الاستصلاح بعد فترة توقف في السبعينات، وفي فترة الستينات تم استصلاح 912.000 فدان منها 870.000 كانت تروى من مياه النيل والباقي من المياه الجوفية، ومن هذه 650.000 فدان كانت في غرب وشرق الدلتا ووسطها و220.000 فدان في صعيد مصر. وقد بلغت الحدية الانتاجية من هذه المساحات 670.000 فدان فقط بنسبة 77% منها. ويلاحظ هنا أن أكثر المناطق نجاحا كانت مناطق الدلتا، فقد بلغت نسبة المساحات التي وصلت حد الانتاجية 90% من جملة الأراضي المستصلحة في حين بلغت نسبة هذه المساحات حوالي 55% في الصيد، وفي عقد الثمانينات عاد النشاط مرة أخرى إلى عمليات استصلاح الأراضي وقد بلغت المساحة التي استصلحت فيما بين سنة 197 وسنة 1989 حوالي 919.000 فدان.
وعلى الرغم من هذا الجهد الخارق في عملية استصلاح الأراضي فإن جملة الأراضي المزروعة في مصر لم تزد إلا قليلا (من5.9 مليون فدان في سنة 1960 إلى 6.1 مليون فدان سنة 1986) ويعود ذكل إلى أن التوسع الهائل في مساحات المدن والمناطق السكنية والمنشآت الصناعية جاء على حساب الأرض الزراعية - وتقدر مساحة الأرض التي فقدت نتيجة هذا التوسع العمراني بحوالي 30.000 فدان بالرغمن من القانون الذي صدر عام 1984 بعد أن تم تجريف تربتها السطحية لاستخدامها في صناعة الطوب. يضاف إلى ذلك أن جزءا لا يستهان به من الأراضي التي استصلحت كانت ضعيفة التربة أو صعبة في ريها فأهمل زراعتها ويمكن القول بصفة عامة أن حوالي 30% من الأراضي التي استصلحت لم تصل إلى حديتها الانتجاية. وفي الحقيقة فإن هناك الكثيرين ممن يشككون في جدوى الكثير من مشروعات استصلاح الأراضي ذلك لأن الكثير من الأرضي التي استصلحت احتاجت إلى الكثير من المعالجة والانفاق لكي تعطي محصولا كما أن بعضها تم ريه بالطرق التقليدية عن طريق الغمر أو كان من الارتفاع بحيث احتاج ريه إلى رفع الماء بتكلفة كبيرة على أنه يمكن القول بأن معظم هذه المشاكل في طريقها إلى الحل. وأن هناك تصميما على الاستمرار في خطط استصلاح الأراضي. أما خطط المستقبل كما تظهر في الخطة القومية للأراضي فإن من المأمول استصلاح حوالي 900.000 فدان من أراضي الدرجة الأولى والثانية والثالثة والتي اختيرت من أصل 14.5 مليون فدان متاخمة للوادي والدلتا وتقع تحت منسوب 40 مترا فوق منسوب الري، وكانت قد مسحت ودرست وقيمت من حيث جدوى استصلاحها ووجد أن حوالي ثلثها غير قابل للاستصلاح وأن حوالي 60% منها من أراضي الدرجة الرابعة والخامسة.
وفي الخطة أن استصلاح هذه الأراضي سيتم بالاستخدام الكفء للحصة المقررة لمصر من مينه النيل طبقا لاتفاية المياه لسنة 1959 وما قد يتوفر من إعادة استخدام مياه الصرف أو ما يستخرج من مياه أرضية وتقع معظم الأراضي المختارة للاستصلاح على الطرفين الغربي والشرقي للدلتا – وقد تم من أجل ذلك مد قنوات النوبارية وناصر في غرب الدلتا والسلام في شرق الدلتا. وبطبيعة الحال فان نجاح هذه الخطة سيتوقف على المضي قدما في الاستخدام الأمثل للمياه المتاحة وكذلك في تطبيق استخدام الطرق غير التقليدية في عمليات أخرى، وكذلك في اختيار النباتات والمحاصيل المهجنة والمناسبة لنوع التربة وحالة هذه الأراضي.
وفي السودان تم استصلاح أراضي كثيرة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين عندما توفرت المياه الصيفية. وكما سبق القول فقد تم التوسع في أراضي الجزيرة التي زادت من حوالي مليون فدان في عام 1955 إلى 2 مليون فدان في أوائل الثمانينات من القرن العشرين كما استزرعت أراضي مشروع الرهد (30.000 فدان) وحلفا الجديدة بخشم القربة على العطبرة (30.000 فدان).
وقد زود السد العالي مصر بطاقة كهربائية ابتداء من عام 1967 وقد ولدت هذه الطاقة من محطة كهرباء تحتوي على 12 وحدة توليد مائية، اثنين في كل نفق قدرة كل واحدة منها 175.000 كيلو واد أي أن القدرة الاجمالية للمحطة هي 2.1 مليون كيلو واط تنتج طاقة كهربائية سنوية تصل إلى 10 مليارات كيلو واط ساعة. وتتكون كل وحدة من تربينة من طراز فرنسيس متصلة اتصالا مباشرا بمولد كهربائي وتعمل على ضاغط يتراوح بين 35 و77 مترا. وبالرغم من قدرة المحطة فإنها لم تعطي في التطبيق العملي إلا 5 بلايين كيلو واط ساعة في سنة 1975 ، زادت إلى 6 بلايين كيلو واط ساعة في سنة 1976 ثم إلى 7.15 بليون كيلو واط ساعة في سنة 1977 وجاءت هذه الزيادة نتيجة ازدياد سحب المياه من وراء السد العالي بكمية أكبر مما كانت اتفاقية المياه تسمح به بنسبة وصلت إلى حوالي الخمسة بالمائة وقد أمكن تحقق هذه الزيادة نظرا لارتفاع مناسيب الخزان خلال هذه السنوات.
وعلى الرغم من أن الطاقة التي تم الحصول عليها لم تصل أبدا إلى الطاقة القصوى فإن انتاج عام 1977 كان يمثل حوالي 53% من جملة الطاقة المولدة في مصر. وبانخافض منسوب المياه في البحيرة وراء السد بعد عام 1977 قلت كمية المياه التي تدخل التربينات بمقدار النصف تقريبا (من 27% من جملة المياه الداخلة إلى مصل إلى 13% منها) دخلت معظم هذه المياه في موسم الاحتياجات العظمى للري (مايو-اغسطس) . وقد أدى ذلك إلأى تناقص كمية الكهرباء المولدة من السد إلى 6 بلايين كيلو واط ساعة في عام 1987 أصبحت تمثل أثل من 18% من احتياجات مصر من الكهرباء ذلك العام. وفي تسعينات القرن العشرين ارتفعت كمية الكهرباء المولدة من محطة السد العالي إلى 9.2 مليار كيلو واط ساعة أي إلى ما يقارب القدرة الكاملة للمحطة ومع ذلك فقد قلت نسبة ما تزوده هذه المحطة لتدبير احتياجات مصر من الكهرباء إلى أقل من الخمس والتي أصبحت اليوم تدبر من مولدات تستخدم الوقود الحفري.
الآثار الجانبية للسد العالي
أولاً: في منطقة الخزان
أوقف السد العالي النيل عند أسوان وحول مجرى النهر إلى الشمال إلى قناة ري ضخمة زودت الزراعة المصرية بزاد منتظم ومأمون من المياه بطريقة لم يسبق لها مثيل – على أن هذه الفائدة العظمى وغيرها من الفوائد لم تأت دون آثار جانبية، فالسد العالي ككل صرح كبير أعاق المسار الطبيعي للنهر وغير من توازناته بطريقة ستحتم على الانسان أن يتعايش معها. ولعل أوضح فوائد السد هو أنه حجز المياه التي كانت تذهب سدى إلى البحر الأبيض المتوسط بعد كل فيضان ووضعها في خدمة كل من مصر والسودان اللتين اقتسمتا هذه المياه طبقا لاتفاقية مياه الني التي وقعت في سنة 1959. وبالاضافة إلى ما أعطاه السد لمصر من المياه فقد حما بناؤه البلاد من تقلبات النهر ومن مخاطر الفيضانات العالية التي كانت تتهددها بين الفينة والأخرى. وفي نطري أن هذه الفائدة وحدها تسوغ بناء السد العالي فقد كان من الصعب تصور دول حديثة يعيش أهلها تحت خطر الغرف كل بضعة أعوام.
كذلك أعطى السد مصر بنكا للمياه اذا أحسنت استخدامه استطاعت أن تضمن احتياجاتها المائية في الوقت الذي تحتاجه دون أن تعيش في انتظار ما يأتي به النهر كل عام. وقد برزت فائدة السد العالي خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين التي جاءت بسلسلة من الفيضانات الواطئة، فخلال معظم سني هذين العقدين كانت كمية المياه التي تصل إلى مصر بعد أن سحب السودان نصيبه أقل كثيرا من احتياجاتها ، ولولا مخزون السد العالي لفقدت مصر جزءا كبيرا من زراعتها ولدفعت ثمنا باهظا على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وخلال معظم سني هذين العقدين كانت مصر تسحب من الخزان احتياجاتها مالالية بصفة عادية دون أن تستخدم القاعدة الدنيا. ولولا أن السودان لم يكن يأخذ نصيبه بالكامل خلال هذه السنوات لأسفرت هذه السياسة عن كارثة محققة ولأوصلت الخزان إلى منسوب التخزين الميت في سنة 1984 ولما أمكن رفع منسوبه مرة أخرى حتى بعد الفيضان العالي الذي جاء في سنة 1988.
وكان لزيادة كمية المياه التي جاءت إلى مصر بطريقة منتظمة بعد بناء السد العالي أثرها في تحويل حوالي 800.000 فدان من ري الحياض إلى الري المستديم، وكذلك في البدء في برنامج جسور لاستصلاح الأراضي، ولم يكن ذلك متاحا قبل بناء السد. ففي الخمسين سنة التي سبقت بناءه لم تزد مساحة الأراضي التي تم استصلاحها عن 100.000 فدان كان معظمها يقع في أراضي الدلتا ووادي النيل الطينية القوام السهلة الاستصلاح والاستزراع . أما الطفرة الحقيقية في استصلاح الأراضي فقد حدثت مع بناء السد وخاصة في عقد الستينات ثم في عقد الثمانينات حين استؤنفت عمليات الاستصلاح بعد فترة توقف في السبعينات، وفي فترة الستينات تم استصلاح 912.000 فدان منها 870.000 كانت تروى من مياه النيل والباقي من المياه الجوفية، ومن هذه 650.000 فدان كانت في غرب وشرق الدلتا ووسطها و220.000 فدان في صعيد مصر. وقد بلغت الحدية الانتاجية من هذه المساحات 670.000 فدان فقط بنسبة 77% منها. ويلاحظ هنا أن أكثر المناطق نجاحا كانت مناطق الدلتا، فقد بلغت نسبة المساحات التي وصلت حد الانتاجية 90% من جملة الأراضي المستصلحة في حين بلغت نسبة هذه المساحات حوالي 55% في الصيد، وفي عقد الثمانينات عاد النشاط مرة أخرى إلى عمليات استصلاح الأراضي وقد بلغت المساحة التي استصلحت فيما بين سنة 197 وسنة 1989 حوالي 919.000 فدان.
وعلى الرغم من هذا الجهد الخارق في عملية استصلاح الأراضي فإن جملة الأراضي المزروعة في مصر لم تزد إلا قليلا (من5.9 مليون فدان في سنة 1960 إلى 6.1 مليون فدان سنة 1986) ويعود ذكل إلى أن التوسع الهائل في مساحات المدن والمناطق السكنية والمنشآت الصناعية جاء على حساب الأرض الزراعية - وتقدر مساحة الأرض التي فقدت نتيجة هذا التوسع العمراني بحوالي 30.000 فدان بالرغمن من القانون الذي صدر عام 1984 بعد أن تم تجريف تربتها السطحية لاستخدامها في صناعة الطوب. يضاف إلى ذلك أن جزءا لا يستهان به من الأراضي التي استصلحت كانت ضعيفة التربة أو صعبة في ريها فأهمل زراعتها ويمكن القول بصفة عامة أن حوالي 30% من الأراضي التي استصلحت لم تصل إلى حديتها الانتجاية. وفي الحقيقة فإن هناك الكثيرين ممن يشككون في جدوى الكثير من مشروعات استصلاح الأراضي ذلك لأن الكثير من الأرضي التي استصلحت احتاجت إلى الكثير من المعالجة والانفاق لكي تعطي محصولا كما أن بعضها تم ريه بالطرق التقليدية عن طريق الغمر أو كان من الارتفاع بحيث احتاج ريه إلى رفع الماء بتكلفة كبيرة على أنه يمكن القول بأن معظم هذه المشاكل في طريقها إلى الحل. وأن هناك تصميما على الاستمرار في خطط استصلاح الأراضي. أما خطط المستقبل كما تظهر في الخطة القومية للأراضي فإن من المأمول استصلاح حوالي 900.000 فدان من أراضي الدرجة الأولى والثانية والثالثة والتي اختيرت من أصل 14.5 مليون فدان متاخمة للوادي والدلتا وتقع تحت منسوب 40 مترا فوق منسوب الري، وكانت قد مسحت ودرست وقيمت من حيث جدوى استصلاحها ووجد أن حوالي ثلثها غير قابل للاستصلاح وأن حوالي 60% منها من أراضي الدرجة الرابعة والخامسة.
وفي الخطة أن استصلاح هذه الأراضي سيتم بالاستخدام الكفء للحصة المقررة لمصر من مينه النيل طبقا لاتفاية المياه لسنة 1959 وما قد يتوفر من إعادة استخدام مياه الصرف أو ما يستخرج من مياه أرضية وتقع معظم الأراضي المختارة للاستصلاح على الطرفين الغربي والشرقي للدلتا – وقد تم من أجل ذلك مد قنوات النوبارية وناصر في غرب الدلتا والسلام في شرق الدلتا. وبطبيعة الحال فان نجاح هذه الخطة سيتوقف على المضي قدما في الاستخدام الأمثل للمياه المتاحة وكذلك في تطبيق استخدام الطرق غير التقليدية في عمليات أخرى، وكذلك في اختيار النباتات والمحاصيل المهجنة والمناسبة لنوع التربة وحالة هذه الأراضي.
وفي السودان تم استصلاح أراضي كثيرة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين عندما توفرت المياه الصيفية. وكما سبق القول فقد تم التوسع في أراضي الجزيرة التي زادت من حوالي مليون فدان في عام 1955 إلى 2 مليون فدان في أوائل الثمانينات من القرن العشرين كما استزرعت أراضي مشروع الرهد (30.000 فدان) وحلفا الجديدة بخشم القربة على العطبرة (30.000 فدان).
وقد زود السد العالي مصر بطاقة كهربائية ابتداء من عام 1967 وقد ولدت هذه الطاقة من محطة كهرباء تحتوي على 12 وحدة توليد مائية، اثنين في كل نفق قدرة كل واحدة منها 175.000 كيلو واد أي أن القدرة الاجمالية للمحطة هي 2.1 مليون كيلو واط تنتج طاقة كهربائية سنوية تصل إلى 10 مليارات كيلو واط ساعة. وتتكون كل وحدة من تربينة من طراز فرنسيس متصلة اتصالا مباشرا بمولد كهربائي وتعمل على ضاغط يتراوح بين 35 و77 مترا. وبالرغم من قدرة المحطة فإنها لم تعطي في التطبيق العملي إلا 5 بلايين كيلو واط ساعة في سنة 1975 ، زادت إلى 6 بلايين كيلو واط ساعة في سنة 1976 ثم إلى 7.15 بليون كيلو واط ساعة في سنة 1977 وجاءت هذه الزيادة نتيجة ازدياد سحب المياه من وراء السد العالي بكمية أكبر مما كانت اتفاقية المياه تسمح به بنسبة وصلت إلى حوالي الخمسة بالمائة وقد أمكن تحقق هذه الزيادة نظرا لارتفاع مناسيب الخزان خلال هذه السنوات.
وعلى الرغم من أن الطاقة التي تم الحصول عليها لم تصل أبدا إلى الطاقة القصوى فإن انتاج عام 1977 كان يمثل حوالي 53% من جملة الطاقة المولدة في مصر. وبانخافض منسوب المياه في البحيرة وراء السد بعد عام 1977 قلت كمية المياه التي تدخل التربينات بمقدار النصف تقريبا (من 27% من جملة المياه الداخلة إلى مصل إلى 13% منها) دخلت معظم هذه المياه في موسم الاحتياجات العظمى للري (مايو-اغسطس) . وقد أدى ذلك إلأى تناقص كمية الكهرباء المولدة من السد إلى 6 بلايين كيلو واط ساعة في عام 1987 أصبحت تمثل أثل من 18% من احتياجات مصر من الكهرباء ذلك العام. وفي تسعينات القرن العشرين ارتفعت كمية الكهرباء المولدة من محطة السد العالي إلى 9.2 مليار كيلو واط ساعة أي إلى ما يقارب القدرة الكاملة للمحطة ومع ذلك فقد قلت نسبة ما تزوده هذه المحطة لتدبير احتياجات مصر من الكهرباء إلى أقل من الخمس والتي أصبحت اليوم تدبر من مولدات تستخدم الوقود الحفري.
ثانياً: في مجرى النيل شمال السد العالي
نحر المجرى وفقدان الطمي
يحجز السد العالي الطمي الذي كان يحمله النهر كل عام مع الفيضان ويمنعه من الوصول إلى أرض مصر الزراعية أو إلى البحر المتوسط. فمنذ عام 1964 عندما بدأ حجز المياه وراء السد بدأ هذا الطمي في الترسيب في بحيرة ناصر وفي ملئ ذلك النطاق من الخزان الذي كان مخصص له والمسى بالمخزون الميت والذي ينتظر أن يملأ لتمامه في عضون أربعمائة عام. وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن الطمي الذي دخل البحيرة لم يوزع بانتظام على طول قاعها كما كان متوقعها، بل تكدس معظمه عند مدخلها عند موقع الشلال الثاني حول مدينة وادي حلفا القديمة حيث بلغ سمكه حتى عام 1977 حوالي 215 مترا (الشكل 3-36) ويقل سمك عمود الطمي تدريجيا ناحية الشمال حتى يصبح أقل من متر عند أبو سمبل، ثم يكاد أن ينعدم وجود الطمي أصلا إلى الشمال من تلك المنطقة. ومما يلفت النظر أن منسوب الطمي قد وصل في أجزاء كصيرة من حبس الشلال الثاني إلى منسول أعلى من منسوب التخزين الميت وارتفع عنه وكون جزرا منعزلة انتشرت على طول هذا الحبس. وطبقا لدراسات هيئة السد العالي فإن مكان ترسيب الطمي يتقدم عاما بعد آخر ناحية الشمال وتقدر جملة الرواسب التي تراكمن في الفترة بين 1978 وسنة 1990 بحوالي 1418 مليون متر مكعب أي بمعدل 109 ملايين مرت مكعب في السنة.
وقد سبب حجز الرواسب في بحيرة السد وصول المياه إلى مصر وهي رائقة ودون رواسب عالقة. وكان لهذا التغيير الملحوظ في رجيم النهر أثره في تشكيل مجرى النهر فقد أصبحت للمياه الآن قدرة أكبر على نحر مجرى النهر وجانبه بعد أن انطلقت منها تلك الطاقة التي كانت تتبدد في نقل الرواسب التي كانت تحملها. وقد اختلف تقدير الفنيين لمقدار النحر المنتظم. ولما كانت معدل النحر يتزياد طرديا مع كمية الماء التي يحملها النهر فقد تقرر ألا يطلق من الخزان إلا كمية المياه التي لا تسبب نحرا ملحوظا في مجرى النهر والتي قدرت بأن لا تزيد عن 250 مليون متر مكعب في اليوم. ففي حدود هذه الكمية يصاب المجرى باقل الأضرار كما يمكن احتواء مشاكل نحر النهر والتي يجئ في مقدمتها حماية السدود والقناطر التي قد تسقط لو زاد نحر النهر وتعمق مجراه تحت أساساتها بصورة كبيرة – وقد أدت سياسة التحكم في كمية المياه الداخلة إلى مصر إلى الاقلال من هذا الخطر، فمنذ سنة 1966 عمق النهر مجراه بما لا يزيد عن 2.2 سنتيمترا سنويات في الحبس بين أسوان واسنا (117 كيلو مترا) و3 سنتيمترات سنويا في الحبس بين اسنا ونجع حمادي (194 كيلو مترا) و2.5 سنتيمترا سنويا بين نجع جمادي وأسيوط (168 كيلو مترا) وأقل من نصف سنتيمتر سنويات بين أسيوط والقاهرة (351 كيلو مترا) . لقد دلت التجربة العملية على أن ظاهرة النحر تحدث بالفعل ولكنها تسير ببطء لا يشكل خطرا على المنشآت المقامة عليه طالما ظلت التصرفات المنطلقة من السد العالي في حدود الاحتياجات الفعلية في الوقت الحاضر والتي يبلغ متوسطها 153 مليون متر مكعب في اليوم تزاداد وقت الاحتياجات القصوى إلى 230 مليون متر مكعب في اليوم وتقل وقت السدة الشتوية إلى 80 مليون متر مكعب في اليوم - وتمثل هذه الكمية من المياه حصة مصر من مياه النيل في الوقت الحاضر.واذا أرادت مصر أن تزيد من كمية المياه الداخلة إليها في المستقبل فان عليها بالاضافة إلى توفير هذه الكمية الاضافية أن تعدل في مجرى النهر بحيث يسمح لهذه الكمية من الماء أن تمر فيه دون احداث تغيرات ضخمة في مجرى النهر. وهناك مشروع يسمح للنهر بحمل هذه الكميات هو عبارة عن بناء سلسلة من السدود شمال القناطر الثلاث الحالية (اسنا ونجع حمادي وأسيوط) وبناء سد رابع بين أسوان واسنا لتقليل سرعة الماء واضعاف قدرته على النحر.
وقبل بناء السد العالي كان هناك الكثيرون الذين كانوا يعتقدون أن منع وصول الطمي إلى أراضي مصر سيقلل من خصوبتها – وربما كان لهذا الخوف بعض الصحة في حالة الأراضي التي كانت تروى بالحياض حتى سنة 1965 بالصعيد (800.000 فدان) والتي كان يصلها معظم الطمي. ولكنه لا يصدق على باقي الأرض الزراعية التي كانت تروى منذ مدة طويلة ريا مستديمات. فهذه لم يكن يصلها إلى أقل القليل من رواسب النهر. إن جملة ما يحمله النهر من رواسب هو في حدود 110 ملايين طن يأتي أكثر من 93% منها في شهري اغسطس وسبتمبر من كل عام، كانت بعد ادخال الري المستديم تندفع في معظمهعا إلى البحر الأبيض المتوسط ولا يصل الحياض التي كانت باقية في أوائل الستينات أكثر من 20% من جملتها، ولم يكن بهذه الكمية الضئية من الطمي إلا كمية صغيرة من النتروجين (0.13% من جملة وزنها) كان المتاح منها للنبات أقل من ثلثه ولصغر هذه الكمية اعتمدت مصر على المخصبات الآزوتية التي تكاثر استخدامها منذ ادخال الري المستديم إلى مصر.
وكان لتوقف وصول الطمي إلى أراضي الحياض أثره على صناعة الطوب في مصر، فقد حرم هذه الصناعة من خامتها الأساسية والتاريخية، وحتى أواخر الثمانينات من القرن العشرين كان هناك حوالي 7.000 مصنع للطوب تنتشر على جانبي النهر وتنتج ما لا يقل عن مليار طوبة في العام. وعندما توقف وصول الطمي إلى مصر لم يكن هناك بديل جاهز لخامة الطمي مما اضطر هذه المصانع إلى تجريف الأرض الزراعية وشراء تربتها بأسعار مجزية لاستخدامها في صناعة الطوب. وقد أدى ذلك إلى اتلاف ما لا يقل عن 300.000 فدان من أجود الأراضي الزراعية – وقد توقف هذا العمل الآن.
تراكم كثبان الرمل
تتراكم الرمال التي تحملها الرياح وخاصة في موسم الخماسين من الصحراء الغربية في وادي النيل. وقبل بناء السد العالي كانت هذه الرمال تتراكم على الجانب الغربي للنهر ثم تسقط في قاعه. وكان الجزء الذي يذهب إلى القاع يجرف إلى البحر مع مياه الفيضان المتدفقة، أما الجزء الذي كان يتراكم على الجانب الغربي فكانت تغطيه مياه الفيضان في السنة العادية ويتداخل ويدمج مع رواسب النهر – أما في فترات الجفاف الشديد التي لم يكن النهر فيها يطول الأراضي فإن الرمال كانت تتراكم عاما بعد عام في صورة كثبان هائلة من الرمال غطت مساحات كبيرة من الجانب الغربي للنيل. وقد ميزنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب واحدة من هذه المساحات المغطاة بكثبان الرمل والتي كانت قد تكونت في عصر الجفاف الكبير الذي عاصر آخر الدولة القديمة في مصر الفرعونية حوالي سنة 2500 ق.م. وهي المساحة التي تمتد لأكثر من 150 كيلو مترا في مصر الوسطى والمسماة باقليم الخفوج (انظر الشكل 1-23) . وقد ثبتت هذه الكثبان الآن وتداخلت مع الرواسب النيلية التي غطتها عندما ارتفاع النيل بعد ذلك. وفي الوقت الحاضر ترى تراكمات الرمال على ضفاف النهر في النوبة وكان معبد أبو سمبل قبل اكتشافه مغطى بالرمال (الشكل 3-37) على أن هذه التراكمات لم تكن تؤثر في مجرى النهر ذاته الذي كان يغسل ما قد يكون قد وصل إليه من رمال وقت الفيضان. وقد توقف هذا الأمر بعد بناء السد العالي فلم تعد تتدفق مياه الفيضان لكي تجرف هذه الرواسب الرملية التي تحملها الرياح عاما بعد عام والتي سيسبب تراكمها الاسراع في ملء جزء التخزين الميت من بحيرة ناصر – ولا توجد حتى الآن دراسات عن كمية الرمال التي تصل البحيرة ولا عن مدى تأثيرها على سعتها. وفي دراسة مبدئية لبعض الصور الفضائية لمنطقة السد العالي رأيت عدد كبير من الكثبان الرملية التي بدأت في الظهور في منطقة الشلال الثاني حول مدينة حلفا.
تراجع الشواطئ وتآكلها
خشي الكثير من المؤلفين أن يتسبب بناء السد العالي وتآكل الشواطئ المصرية وتراجعها نتيجة توقف وصول الطمي إليها خلال موسم الفيضان. وكان هذا الطمي على طول التاريخ الحديث للنيل وحتى بدء بناء منشآت الري الكبرى في مصر في منتصف القرن التاسع عشر ينقل عقب انطلاقه من أفرع الدلتا إلى البحر الأبيض المتوسط بواسطة التيارات البحرية بموازاة الشاكئ المصري تجاه الشرق حيث يرسب على طول ساحل الدلتا – وكان الجزء الناعم من هذه الرواسب يدفع حتى شواطئ سينا وبلاد الشام (90) وفي فصل الشتاء يعاد توزيع هذه الرواسب بواسطة الرياح وتيارات البحر لتكون شريطا من الكثبان الرملية الشاطئية وتقدر كمية الرمال التي تنقدها الشواطئ المصرية نتيجة هذه العوامل بحوالي 200.000 متر مكعب في السنة في المنطقة إلى الشرق من مصب فرع رشيد وبحوالي 400.000 متر مكعب في المنطقة الى الشرق من مصب فرع دمياط (91). ويبدو من استقراء تاريخ النيل الحديث أن الدور الذي لعبته الرواسب النهرية في تشكيل الشاطئ المصري كان وحتى بناء منشآت الري الحديثة محدودا – فقد كانت الرواسب التي تصل اليه في ذلك الوقت قليلة كما بينا في الجزء الأول من هذا الكتاب ولم تشكل إلا جزءا صغيرا من جسم الدلتا كما أنها لم تسهم كثيرا في اامتدادها بداخل البحر. والحقيقة أن جسم الدلتا قديم لم يكونه النيل الحديث بل هو جزء مما بقي من دلتا نهر النيل القديمة التي بنيت في وقت سابق لوصول النيل الحديث – والشاهد أن النيل الحديث لم يضف إلى هذه النواة القديمة إلا أقل القليل من الرواسب عبر تاريخه الذي امتد لأكثر من عشرة آلاف سنة وحتى منتصف القرن التاسع عشر – فحتى هذا التاريخ كان أقل القليل من الرواسب التي يحملها النهر والتي كان معظمها يأتي وقت موسم الفيضان يترك ليذهب إلى البحر فقد كانت معظم الرواسب تحمل الى سهل فيضان النهر الذي كانت تركبه مياه الفيضان فترسب فيه ويكون تربة مصر الغنية والمتجددة. ولذلك فإن شاطئ الدلتا الحديث لم يتأثر كثيرا بسبب قلة الرواسب التي كانت تصله وكانت هذه الرواسب تندفع إلى البحر ثم تتوزع على طوله خلال موسم الفيضان ثم تعاد إلى البر لتكون الكثبان الشاطئية خلال موسم زوابع الشتاء.
وبطبيعة الحال فإن شواطئ الدلتا كأي شاطئ آخر في كل أرجاء الأرض معرض للتآكل والامتداد نتجية عوامل الهدم والبناء التي يتعرض لها وخاصة في موسم الزوابع – ولا يختلف الشاطئ المصري عن آي شاطئ آخر في هذا المضمار . وقد فطن المصريون إلى صعوبة العيش على شاطئ البحر فلم يبنوا أيا من بلادهم عليه – والناظر إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط الذي يمتد لقرابة ألف كيلو متر في مصر لا يرى عليه مدينة واحدة – فباستثناء مدينة الاسكندرية التي بنيت على قبة عالية ، لا توجد على الشاطي الا مدن صيد صغيرة، نيت بناء مؤقتا بحيث يمكن نقلها حين يحين الوقت. وبالفعل فإن لتسمع في قرية مثل قرية بجر البرلس أقوال المعمرين من أنهم نقلوا بلدتهم لعدة مرات خلال حياتهم. وحتى منتصف القرن العشرين كان الراغبون في قضاء الصيف على البحر يبنون لأنفسهم مساكن مؤقتة من القش والكبب تهدم فور انتهاء الموسم . ولم تصبح مشكلة تراجع الشواطئ ظاهرة يتحدث عنها الناس الا عندما قرر المحدثون من المصرييين بناء العمارات الشاهقة والبيوت الثابة والمنتشرة على شواطئ البحار.
وفي رأيي أن من أهم العوامل التي ساهمت في تغيير شكل خط شاطئ الدلتا كان تقلبات منسوب سطح البحر العالمي والذي لوحظ أنه ارتفع خلال القرنين الماضيين بحوالي 30 سنتيمترا. وقد حدث هذا الارتفاع في أعقاب تراجع ثلوج عصر الجليد الصغير الذي أثر على اوروبا من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر. كانت دلتا النيل ممتدة خلال هذا العصر بداخل البحر لمسافة تتراواح بين خمسة وثمانية كيلو مترات كما تشهد بذلك القلاع التي بنيت في العصر التركي والتي أصبحت مغمورة الآن تحت مياه البحر يحتاج الوصول إليها إلى ركوب البحر لمسافات طويلة واذا استمر منسوب البحر في الارتفاع كما يتنبأ الكثير من المشتغلين بعلوم البيئة فإن شواطئ الدلتا ستتآكل بل وستغرق أجزاء كبيرة من سطح الدلتا فمعظم أراضي الدلتا واطئة ولا يزيد ارتفاع الجزء الأكبر منها عن المترين فوق سطح البحر.
وقد تغير نظام النهر منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما ادخل نظام الري المستديم وبدئ في انشاء القناطر والسدود لحصر مياه الفيضان داخل مجرى النهر ومنعها من اغراق أراضي سهل الفيضان لاستخدامها في الزراعة الصيفية. وقد تسبب هذا النظام الجديد في دفع الجزء الأكبر من الرواسب التي كانت تذهب إلى السهل إلى البحر حيث كان معظمها يتجمع عند مصبي فرعي الدلتا ويتوزع الباقي على طول حبس سواحل الدلتا وسينا بواسطة التيارات البحرية التي كانت تدفعها في اتجاه الشرق. وعلى طول القرن الذي انقضى منذ انشاء القناطر والسدود وحتى سنة 1964 عندما بدئ في تشغيل السد العالي انقطعت امدادات النهر عن سهل الفيضان وامتداد مصب فرع دمياط إلى أكثر من الكيلو مترين (93). ويعود سبب الامتداد الأكبر عند مص فرع رشيد إلى اتجاه أكثر مياه النهرعند تفرعها عند القناطر الخيرية إلى هذا الفرع – وقد حدث تراجع لهذه الامتدادات عند انقطاع وصول الرواسب اليها بعد بناء السد العالي وهو الأمر الذي كان الكثيرون يخشون من حدوثه (92) – وقد تسبب تراجع الشواطئ اكبر الازعاج وخاصة مع تقدم العمران وبناء المنشآت والمنازل عليها مما أدى إلى البدء سنة 1971 بالقيام ببرنامج بحث لفهم الظاهرة ومعرفة أسبابها وطرق علاجها بتمويل جزئ من البرنامج الانمائي للأمم المتحدة اشتركت فيه هيئة الينونسكو ومعهد المحيطات ومصايد الأسماك بأكاديمية البحث العلمي المصرية - وقد استمر العمل في البرنامج حتى سنة 1978 حين احيلت أعمال بحث حماية الشواطئ المصرية الى معهد بحوث الشواطئ التابع لوزارة الأشغال العمومية – ويقوم هذا المعهد بصفة دورية بجمع البيانات عن الشواطئ والقيام بمسح هيدروجرافي لمنطقة الساحل من الاسكندرية غربا وحتى العريش شرقا حيث تقاس أعماق المياه بانتظام لرفع الخرائط وبناء مقاطع طولية لقاع الشاطئ لرصد التغيرات التي تعتريه، كما يقوم المعهد برصد التيارات البحرية وقياس درجة الحرارة ونسوب البحر وتحليل درجة الملوحة وغير ذلك من القياسات والتحاليل في عدة محطات رصد في رشيد والبرلس ورأس البر والعريش.
ويمكن القول ان امتدادات الأرض حول مصبي رشيد ودمياط قد حدثت خلال القرن الذي سبق انشاء السد العالي بسبب ظروف اصطناعية تغير فيها نظام النهر بحيث سمح لجزء كبير من الطمي بالانسياب اليها – وقد تغير هذا النظام بعد بناء السد العالي وامتناع وصول الطمني الى مصر – وفي هذا النظام الجديد تقاربت ظروف شواطئ الدلتا مع ظروفها تحت النظام الطبيعي القديم فلم يعد يصلها الا القليل من الرواسب ولذا فمن المتوقع أن يعاد تشكيل هذه المصبات وان تتآكل حتى تعود الى اتزانها القديم والذي ظلت عليه مدة طويلة.
ومن التأثيرات الملوسة التي حدثت بامتناع وصول الطمي إلى البحر الأبيض المتوسط كان على مصايد الأسماك فقد قل الصيد من حوالي 18.000 طن في العام فيمنطقة شرق البحر المتوسط قبل بناء السد العالي إلى آلاف قليلة من الأطنان في الوقت الحاضر – ويعزو الكثيرون هذا الأمر إلى أن مياه الفيضان كانت تحمل معها الطمي والغذاء فلما توقفا بطل حضور السمك على أننا ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن الأسماك كانت تقل عاما بعد عام في أعوام ما قبل بناء السد.
زيادة إستخدام المبيدات والأسمدة
أدى ادخال نظام الري المستديم الى مصر في أوائل القرن التاسع عشر إلى الاستخدام المكثف للارض – وعندما ادخل هذا النظام ارتفعت غلة الفدان في مبدأ الأمر ولكن سرعان ما تغير هذا الاتجاه. فقد كان لبقاء الأرض مبتلة طول العام أثره في زيادة رطوبة الجو والتربة وخلق بيئة صالحة لنمو العديد من الآفات التي زادت بشكل كبير بعد ادخال نظام الري المستديم فقلت غلة الفدان واضطر المزارعون الى استخدام المبيدات الحشرية علىنطاق واسع وهي التي لم تكن تستخدم الا في أضيق الحدود وقت ري الحياض. وقد زادت كمية الواردات من المبيدات الحشرية من 2143 طنا في سنة 1953 إلى 12.550 طن في سنة 1963 ثم إلى 15.432 طن في سنة 1984. كما زاد ايضا استخدام مبيدات الفطريات والحشائش من 886 طن على التوالي في سنة 1969 الى 8862 و933 طن على التوالي في سنة 1980.
وبالاضافة إلى تزايد الآفات فقد قلل نظام الري المستديم من خصوبة الأرض مما اضطر المزارعين إلى استخدام الأسمدة الكيمائية التي زاد متوسط استهلاكها من 46 كيلو جرام للفدان في السنوات 1961-1965 إلى 70 كيلو جرام للفدان في السنوات 1974-1976 إلأى 103 كيلو جرام في سنة 1987. وقد نجح استخدام الأسمدة في زيادة غلة الفدان بمصر حتى كانت تقارب أعلى الانتاج العالمي – وقد زاد الانتاج الزراعي في مصر بحوالي 137% في السنوات 1979-1981 وبحوالي 155% في سنة 1986( عن سنوات الأساس 1964-1966)، ويعود جزء من زيادة الانتاج الزراعي إلى ادخال البذور المهجنة في الحبوب ، فقد كان ثلثا الانتاج من الذرة في مصر عام 1986 من بذور عالية الانتاجية.
إرتفاع منسوب الماء والأراضي ومشاكل صرفها
كان من آثار ادخال نظام الري المستديم ارتفاع منسوب الماء الأرضي وازدياد الملوحة في الأراضي فقد أدت كثرة الريات وبقاء منسوب الماء الأرضي ثابتا إلى ظهور مشاكل كبيرة في صرف الأراضي لم تكن معروفة وقت ري الحياض عندما كان الصرف يتم بسهولة عندما يهبط منسوب الماء الأرضي وقت هبوط النيل، كما أدت زيادة نوبات الري وتقصير المدى التي تقفل فيها القنوات من 21 يوما إلى سبعة إلى ارتفاع منسوب الماء الأرضي حتى جذور النبات في الكثير من المناطق التي عانت كثيرا، وقد ظهرت هذه المشاكل بشكل واضح بعد بناء السد العالي وضبط مياهه وتوفرها على مدار السنة والتوسع في زراعة المحاصيل التي تحتاج إلى مياه وفيرة كقصب السكر والأرز وكذا تكثيف المحاصيل . كانت المياه التي تصل إلى الحقل قبل السد العالي في حدود 23 بليون متر مكعب يذهب نصفها للصرف، وفي الوقت نفسه ثبت منسوب الماء الأرضي ولم يعد يتذبذب بعد بناء السد ولم تعد المياه ترتفع دفعة واحدة في موسم الفيضان وتهبط في موسم التحاريق كما كان يحدث من قبل.
وقد أثر ذلك في زيادة ملوحة التربة فقد كانت الأملاح وقت ري الحياض تغس إلى البحر مع كل فيضان جديد – أما الآن فقد أصبحت الأملاح تتجمع فوق التربة دون أن تغسل، ويقدر بأن حوالي 96 كيلو جراما من الأملاح تترسب فوق كل فدان في السنة. ويبين الشكل (3-38) درجة الملوحة في الماء الأرضي بالدلتا التي يظهر عليها نطاقان مميزان: نطاق جنوبي تقل فيه الملوحة عن 480 جزءا في المليون من المواد الصلبة المذابة، ونطاق شمالي تتزايد فيه الملوحة كلما اقتربنا من البحر. وتقع ثلث أراضي الدلتا تحت تأثير مياه البحر ولذلك فماؤها الأرض صنف مالح. أما الجزء الجنوبي من الدلتا فيشكل مخزونا من المياه العذبة يزيد حجمه بعدة مرات عن حجم مخزون المياه ببحيرة السد العالي إلا أن سحب المياه من هذا الخزان محدود اذ يخشى في حالة زيادة السح عن حد معين بأن يقتحم ماء البحر الخزان ويحل محل الماء العذب.
وحل مشاكل تراكم الأملاح والارتفاع المستمر في منسوب الماء الأرضي هو في بناء شبكة للصرف. وهذا أمر يقوم به المصريون الآن ففي سنة 1982 تم عمل شبكات الصرف المغطى لما لا يقل عن 2.1 مليون فدان، أما باقي الأرض فقد شقت في أغلبيتها مصارف مفتوحة.
تغير نوعية المياه
تغيرت نوعية مياه النيل بعد حجز الطمي وراء السد العالي وتنظيم دخول المياه إلى مصر بعد بنائه، فقد اصبحت المياه في مجرى النيل بطيئة وقليلة العكارة، وكانت درجة العكارة قبل بناء السد تتراوح بين 30 مليجرام في اللتر في وسم التحاريق إلى 3000 ملليمتر في موسم المفيضان. أما بعد بنائه فقد أصبحت درجة العكارة في حدود من 5-40 مللجرام في اللتر. وقد زادت كمية المواد الصلبة الذائبة في الماء بعد بناء السد من 110-180 مللجرام في اللتر إلى 120-230 مللجرام في اللتر. كما زادت كثافة النباتات الهائمة في ماء النيل (الفيتو بلانكتون) من متوسط 160 ملليجرام في اللتر إلى متوسط 250 مللجيرام في اللتر أما كمية الطحالب غير المستحبة التي تسبب طعما ورائحة كريهة للماء فقد زادت زيادة كبيرة استدعت استخدام كميات كبيرة من الكلورين لتنقية مياه الشرب.
وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن النيل أصبح مستودعا يتلقى الكثير من النفايات المنزلية والصناعية والزراعية وأن نوعية مياهه قد تدهورت. وتقدر كمية مياه الصرف الزراعي التي تتجه إلى النيل والتي تمتلئ بنفايات المبيدان والمخصبات بما يزيد عن 15 بليون متر مكعب سنويا. كما تذهب مياه الصرف الصحي للكثير من المدن والصناعات مباشرة إلى النهر. وتبدو الأحوال أكثر سوءا في منطقة الدلتا حيث تبطئ سرعة النهر وتتكاثر المنشآت الصناعية وتزيد كثافة الزراعة. فقد سبب صرف نفايات المنشآت الصناعية بمدينتي كفر الزيات (على فرع رشيد) وطلخ (على فرع دمياط) ضررا بالغا ببيئة النهر في هذين الموقعين كما سببت تعفن قاع النهر عند مصبات هذين الفرعين.
وتوجد أربع محطات مراقبة على النيل ترصد فيها الأحوال البيئية للنهر هي الخرطوم (السودان) وأسوان والقاهرة ودمياط (عند فارسكور) – وتشير أرصاد هذه المحطات البيئية للنهر الى تدهور نوعية المياه كلما اتجهنا شمالا – ففي سنة 1980 زاد معامل التوصيل الكهربائي (وهو مقياس لدرجة ملوحة الماء) من 197 في الخرطوم إلى أسوان إلى 285 بالقاهرة و410 في فارسكور. وزاد الكلورين المذاب من 15 ملليجرام في اللتر في الخرطوم إلى 47 ملليجرام في اللتر في فارسكور، كما سجلت الأمونيا صفرا في المحطات الثلاث الجنوبية و1.3 ملليجرام في اللتر في فارسكور. كما زاد طلب الأكسيد البيوكيميائي الذي يجئ مع مياه الصرف من أقل القليل في الجنوب إلى 3.2 ملليجرام في اللتر في القاهرة وإلى أكثر من 10 ملليجرامات في اللتر في فارسكور وهذه الكميات تزيد عن الحد الأعلى المقبول وهو 2 ملليجرام في اللتر.
وقد أثر تدهور البيئة على الأسماك في مجرى النيل بمصر فقد اختفى الكثير من أنواعها التي كانت تعرف في مصر. ففي سنة 1948 أجري مسح لأنواع السمك النيلي الذي كان يتم صيده في تلك السنة، وكان عددها 47 نوعا لم يبق منها في منتصف ثمانينات القرن العشرين إلى 17 نوعا فقط. وإلى الشمال من أسيوط تدهورت بيئة النهر بمعدلات سريعة فقلت أنواع السمك وكميته وعلى الأخص أنواعه الطيبة المستحبة في الطعام. وهناك الآن حوالي 17 نوعا بأسيوط يشكل سمك البلطي منها حوالي 60% من الصيد ويتناقص عدد السمك إلى 13 نوعا بالقاهرة حيث يمثل سمك البلطي 66% من الصيد. أما في الشمال في فرع دمياط فلا يوجد إلا سبعة أصناع من السمك يمثل البلطي 83% من الصيد، وإلى الشمال من مدينة زفتى على فرع دمياط تقل كمية الأسماك ويختفي البلطي من الصيد تقريبا.
وفي ختام هذه العجالة عن السد العالي فإننا نستطيع أن نقول أن سد أسوان العالي ككل صرح ضخم قد غير الطبيعة وأعاد تشكيل النهر وأرض مصر والسودان – فقد حول النهر إلى قناة هائلة تحمل ماءا واثقا ذا عكارة قليلة بكميات يقررها الإنسان. وقد ظهرت فوائد هذا الصرح بأجلى صورة خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين عندما حلت بالقارة الأفريقية سنوات طويلة متعاقبة من الجفاف وسبب بلاء كبير وقد أثرالجفاف في كميةالمياه التي حملها النيل ولولا السد العالي لأصيبت مصر بالبلاء مثل باقي أفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك فقد أعلطى السد مصر بنكا مائيا تستخدم مياهه بالطريقة التي تراها فقد حمى السد مصر من خطر الفيضانات العالية التي كانت تجئ إلى أرض مصر كل بضع سنوات فتهدد الجسور وتغرق الحرث والنسل، كما أعطاها والسودان الماء الكافي للتوسع في زراعتها أفقيا ورأسيا. كما حول السد العالي مجرى النيل إلى مجرى ملاحي على طول العام بتنظيمه دخول الماء في القنوات، وأعطى مصر طاقة كهربائية نقلت إلى أقصى أعماق الريف وإلى أماكن كان من العسير تصور دخول الكهرباء فيها. وعلى الجانب الآخر فقد كان للسد العالي كأي صرح ضخم آثاره الجانبية التي ظهر بعضها الآن والتي قد يظهر بعضها الآخر في مستقبل الأيام. أما تلك التي ظهرت فقد توقعها الكثيرون وعملت معامل الأبحاث على تفاديها أو الإقلال من أثرها.
إن مشاكل الحفاظ على التربة بعد أن توقف تجددها السنوي والحفاظ على نظافة المياه ومنع تلوثها والاستخدام الأمثل للحياة كلها أمور لابد من أن يجابهها المصريون إن أرادوا الاستفادة من أراضيهم وزيادة ثروتهم القومية لمجابهة متطلبات وآمال أعدادهم المتزايدة. ومن السهل أن يكتب أعضاء نادي سييرا (المهتم بشئون البيئة) كتابا كاملا عن مصائب الخزانات الكبرى يتصيدون فيه الخلل الذي حدث أثر بنائها ولكن من الصعب أن يجد المرء بديلا آخر كان يمكن أن يعطي لمصر تلك الفوائد التي جنتها من بنائه.
وعندما بدئ في التفكير في بناء السد العالي فإن الحكومة المصرية أخذت بآراء ودراسات أكبر عقول مصر وخبرات العشرات من الاستشاريين من كل أرجاء الأرض من غربه وشرفه ومن البنك الدولي والأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية. وقد أقر جميع هؤلاء الخبراء المشروع واعتبروه مفيدا وحيويات لمصر. وحتى أولئك الذين كانت لهم بعض التحفظات عليه فإنهم لم يكونوا ضد المشروع بل كانوا يستهدفون تعديل تصميمه أو طريقة تشغيله فقط. أما عن آثاره الجانبية في من النوع الذي قابله كل من بنوا صروحا ممثالة أو غيروا من مسار الطبيعة فقد غير بناء المصانع ومنشآت الحضارة الحديثة الكثير في حياتنا وبيئتنا وكلها تغيرات يحاول الانسان التغلب عليها أو تطويعها.
محاصيل نظام الري المستديم
أتاح نظام الري المستديم لمصر أن تزرع ثلاثة محاصيل في السنة: شتوية وصيفية وذيلية. وقد ظل القمح والبرسيم أهم المحصولات الشتوية كما كان الحال في نظام ري الحياض. أما المحصولات الصيفية فقد تغيرت بادخال الذرة (من سوريا) وبالتوسع الكبير في زراعتها وزراعة القطن والأرز التي أصبحت محاصيل نقدية هامة.
أما المحصولات الذيلية فمن أ÷مها الذرة الرفيعة والأرز والبصل. وقد أمكن تحت نظام الري المستديم زراعة ثلاثة محاصيل من الخضروات في العام. شتوي من نوفمبر إلى مارس وصيفي من ابريل إلى يوليو وذيلي من اغسطس إلى اكتوبر – ومن المحاصيل الثانوية في فصل الشتاء الفول والعدس والبصل. وفي فصل الصيف الفول السوداني والسمسم وغيرهما. وتحت نظام الري المستديم تناقصت قيمة الكثير من المحاصيل التقليدية كالكتان والنيلة بعد انتشار زراعة القطن والتوسع في استخدام مادة الأنيلين.
والدورة الزراعة في نظام الري المستديم معقدة (الشكل 3-39) وفي العادة فإنها تبدأ بزراعة محصول برسيم التحريش في الشتاء تتلوه زراعة القطن الذي يجنى عادة في الخريف (سبتمبر- اكتوبر) وفي السنة التالي يزرع القمح في الشتاء والأرز أو الذرة الشامية أو الذرة الرفيعة في الصيف. وفي السنة الثالثة يزرع القمح والذرة قبل العودة مرة أخرى إلى زراعة القطن – ويحتل محصولا الفواكه وقصب السكر الارض لأعوام طويلة – وحتى وقت قريب كان نوع المحاصيل يقرر في كل منطقة عن طريق الحكومة المركزية وكان ذلك بغرض حسن استخدام مياه الري ، فقد كان تجميع الزراعة في أحواض مخصصة يسهل تنظيم نوبات الري ويضمن زراعة كميات مناسبة من بعض المحاصيل الهامة للتصدير أو لاستخدامها كخامة أساسية للصناعة المحلية. وقد بدأت الحكومة منذ عام 1987 في التخلص من هذا النظام ولم تعد تتدخل في نوع المحصول الذي يزرعه الفلاح فيما عدا محصولي القطن وقصب السكر اللذين يشكلان خامة أساسية لصناعتي الغزل والنسيج والسكر الكبيرتين.
وقد تغيرت مساحة الأراضي المشغولة بمختلف المحاصيل، فحتى السبعينات من القرن العشرين كانت دورة القطن (مع برسيم التحريش أو محصول شتوي آخر) تحتل 28% من مساحة الأراضي الزراعية، وفي حقبة الثمانينات قلت مساحة الأرض التي تشغل هذه الدورة إلى 17% من جملة أراضي مصر كما قلت قيمة المصدر من القطن من 10% من جملة الصادرات السلعية سنة 1976 إلى أقل من 3% في سنة 1987. كما قلت أيضا مساحة الأراضي التي كانت تشغلها دورة الأرز والذرة الرفيعة من حوالي 56% من جملة الأراضي إلى حوالي 45% من جملة الأراضي خلال ثمانيات القرن العشرين. وقد قل الاقبال على زراعة هذه المحاصيل لحساب عدد من المحاصيل غير التقليدية. فزادت مساحة الأرض المزروعة بالفواكه والخضروات زيادة سريعة. واحتلت الخضروات الصيفية أكثر من 6% من الأراضي في سنة 1988 بعد أن كانت تحتل حوالي 4% من الأرض عام 1976، واحتلت الخضروات الشتوية مساحة 350.000 فدان في الوقت الذي احتلت فيه الخضروات الذيلية والصيفية 680.000 فدان.
وكانت مساحة الأراضي المزروعة بمختلف المحاصيل في سنة 1989 كالآتي (بالألف فدان): القمح 1533- البرسيم المستديم 1756 – برسيم التحريش والربابة 1000 – القطن 1014 – الذرة الشامية (الصيفي والذيلي) 1960 – الذرة الرفيعة (الصيفي) 314 – الأرز 840 – الفول 330 – العدس 17 – الكتان – 41 – قصب السكر 270 – الفول السوداني 30 – السمسم 30.
وفي عام 1988 اسهمت الزراعة بحوالي 21% من جملة الدخل القومي (الذي يقدر بحوالي 30 مليون دولار في ذلك العام) وعمل بها 35% من القوة العاملة. وقل نصيب الزراعة من جملة الصادرات السلعية من 14% في سنة 1978 إلى 9% في سنة 1988. وتجدر الإشارة إلى أن قيمة الصادرات الزراعية كانت أقل من 9% من قيمة واردات مصر من الغذاء والواردات الزراعية في ذلك العام.
الجزء الرابع: مستقبل إستخدمات مياه النيل
بعضاً من التاريخ
الإتفاقيات
بعضا من التاريخ
رأينا عن الحديث عن استخدامات مياه النيل التي كانت موضوع الجزء الثالث من هذا الكتاب أننا شغلنا باستخدامات هذه المياه في مصر والسودان فقط من بين جميع دول الحوض. فقد كانتا ولا تزالان الدولتين الوحيدتين، المستفيدتين من مياه النيل. وفي الحقيقة فإن مصر التي ليس لها مصدر آخر للمياه كانت المستفيد الوحيد من مياه النيل حتى عشرينيات القرن العشرين. ولم يحدث في أي وقت أن تحدى أحد حق مصر في الحصول على المياه التي تريدها وبالكمية التي تراها أو قام بأي عمل لمنع وصول الماء إليها، بل ولم يطرح موضوع تقسيم مياه النيل بين دول الحوض إلا في وقت متأخر من سني القرن العشرين. لقد كان النيل حقا نهر مصر الذي لم ينازعها فيه أحد ، باستثناء بعض المساحات الصغيرة والمتناثرة في النوبة واثيوبيا لم تكن هناك زراعة مروية إلا في مصر. لقد كان النيل نهرا بلا فلاحين، كان عصب اقتصاد شعوب دول الحوض الأخرى هو الرعي والزراعة المطرية ولم يلعب النيل في حياتها إلا دورا ثانويا.
وعندما بدأ صراع القوى الاوروبية للاستيلاء على أفريقيا في منتصف القرن التاسع عشر، رأت مصر التي كانت قد أدخلت في ذلك الوقت نظام الري المستديم أن تعمل على تأمين منابع النيل قبل أن تسقط في قبضة القوى الأجنبية، وبالفعل قامت مصر في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر بعدد من الحملات العسكرية التي ساعدت في الكشف على منابع النيل ومدت سلطتها الى هضبة البحيرات الاستوائية من حدود الكونجو غربا إلى هرر والصومال شرقا. وكانت بريطانيا قد غزت قبل ذلك جنوب القارة وبعض سواحلها الغربية، إلا أن هذه الغزوات قوبلت بمقاومة كبيرة من السكان الوطنيين وخسارة في الأرواح، مما دفع البرلمان الانجليزي الى اصدار توصية في سنة 1854 يطالب فيها الحكومة بالتوقف عن التوسع في أفريقيا والامتناع عن بسط الحماية على قبائلها. وحتى سنة 1875 لم تزد مساحة المناطق التي بسط البريطانيون نفوذهم عليها في أفريقيا عن 640.000 كيلو متر مربع تم الاستيلاء على بعضها عن طريق الشراء من الدنمارك أو عن طريق التبادل مع هولندا بأراضي في سومطرة بجنوب شرق آسيا. كما أصبح للبريطانيين نفوذ كبير في زنزبار التي فصلت بقرار من حاكم الهند عن مسقط في عام 1861. أما فرنسا فقد كانت مساحة الأرض التي استولت علهيا حتى سنة 1875 صغيرة ، فقد استوطن أهلها جزءا من الساحل الأفريقي الشمالي هند الجزائر وفي السنجال وساحل غينيا وخليج الجابون وبعض المناطق في جنوب البحر الأحمر – أما البرتغاليون فلم تتعد مساحى الأراضي التس سقطت في أيديهم حتى ذلك التاريخ 100.000 كيلو متر مربع وفي سبعينات القرن التاسع عشر بدأ تسابق محموم بين الدول الاوروبية للاستيلاء على القارة الأفريقية واقتسامها بدخول ألمانيا حلبة السباق بعد أن خرجت منتصرة من حربها مع فرنسا سنة 1870 واندفاعها لبناء امبراطورية لها في أفريقيا، كما أخذت فرنسا في التوسع في عمليات الاستيطان عبر البحار تعويضا عن هزيمتها في هذه الحرب، كما دخلت السباق أيضا ايطاليا ثم ملك البلجيك الذي أثارته اكتسافات لفنجستون وستانلي في حوض نهر الكونجو فقرر شن جملة لاحتلال حوض هذا النهر، وقد نجحت الحملة بالفعل. وكان لهذا النجاح أثرة على الدول الاوروبية التي خشيت أن يشجع هذا النجاح المغامرون من الأفراد فأسرعت في اقتسام أراضي القارة قبل أن يجول فيها المغامرون، وأصبحت أفريقيا بذلك حلبة للدسائس والحملات العسكرية. وفي هذه الاثناء مدت البرتغال نفوذها على أنجولا وموزمبيق كما مدت ألمانيا نفوذها على تنجانيقا (تنزانيا) والكامرون وبريطانيا على حوض النيجر ثم على حوض النيل نفسه.
وبعد أن تم الاستيلاء على أفريقيا قام المستعمرون الجدد بتقنين أوضاعهم بعد اتفاق يحدد مناطق نفوذ كل واحد منهم. وقد تم عقد مؤتمر لهذا الغرض في برلين في نوفمبر سنة 1884 حضرته ألمانيا والنمسا وبلجيكا والدنمراك وأسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وهولندا والبرتغال وروسيا والسويد والنرويج وتركيا. وتلت ذلك سلسلة من الاتفاقيات التي حددت مناطق نفوذ هذه الدول والتي أصبحت فيما بعد حدود الكثير من دول أفريقيا الحديثة كما نعرفها اليوم.
ولم يتم رسميا الاعتراف بالاحتلال البريطاني لمصر والذي تم في سنة 1882، فقد ظلت مصر، من الوجهة القانونية على الأقل، جزءا من الامبراطورية العثمانية فقد آثار استيلاء بريطانيا على مصر استياء الدول الاوروبية وعلى الأخص فرنسا التي كانت تطمع بأن تكون مصر من نصيبها. وقد تنازلت فرنسا عن أطماعها هذه بعد هزيمة حملتها التي جردتها على فاشودة بجنوب النيل الأبيض في مارس سنة 1899 مقابل اعتراف بريطانيا بالتوسعات التي قامت بها في جنوب الصحراء الكبرى (وهي منطقة الساحل الأفريقي التي كانت تعرف فيما مضى باسم السودان الفرنسي).
الاتفاقيات
وفي أعقاب هذه الأحداث بدأت بريطانيا في تخطيط حدود إقليم حوض النيل وشرق افريقيا الذي سقط في أيديها بعد ان استولت على مصر وورثت عنها أملاكها حتى أفريقيا الاستوائية. وقد أبرمت من أجل ذلك اتفاقيات وبروتوكولات مع الدول الاستعمارية المجاورة مس بعضها مياه النيل نذكر منها:
1 – البروتوكول بين بريطانيا العظمى وايطاليا بشأن تحديد مناطق نفوذ كل من الدولتين في افريقيا الشرقية، وقع في روما في 15 ابريل سنة 1891. تعهدت فيه ايطاليا في المادة الثالثة "بعدم اقامة أية منشآت لأغراض الري على نهر عطبرة يكون من شأنها تعديل تدفق مياهه إلى نهر النيل على نحو محسوس".
وقد تلا ذلك اعلان متبادل بين بريطانيا العظمى وايطالي لتحديد الحدود السودانية –الارترية وقع في روما في 22 نوفمبر 1901.
2- المعاهدة المبرمة بين بريطانيا العظمى وأثيوبيا (الحبشة) بشأن تخطيط الحدود بين اثيوبيا والسودان. وقع في 15 مايو سنة 1902 وقد حررت باللغة الأمهرية. وتبودلت وثائق التصديق عليها بأديس أبابا في 28 اكتوبر سنة 1902. وقد تعهد ملك الحبشة بموجبها لحكومة بريطانيا "بأن لا يصدر تعليمات أو أن يسمح باصدارها فيما يتعلق بعمل أي شئ على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يمكن أن يسبب اعتراض سريان مياهها إلى النيل دون الموافقة المسبقة لحكومة بريطانيا وحكومة السودان".
3- اتفاق بريطانيا العظمى وفرنسا وايطاليا بشأن الحبشة (اثيوبيا)، وقع في لندن في 13 ديسمبر سنة 1906 وافقت فيه الدول الثلاث في البند الأول على أن "تتعاون في حفظ الوضع الراهن في اثيوبيا"، وفي البند الرابع على أن "يعملوا مع لتأمين مصالح بريطانيا العظمى ومصر في حوض النيلط، وعلى الأخص بالنسبة لتأمين وصول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر"مع الأخذ في الاعتبار المصالح المحلية" للدول التي يمر فيها النيل.
4- اتفاق بين صاحب الجلالة ليوبولد الثاني عاهل دولة الكونجو المستقلة وصاحب الجلالة ادوارد السابع ملك المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وامبراطور الهند، وقع في لندن في 12 مايو سنة 1906 لتعديل مناطق نفوذهما في أفريقيا الوسطى التي كانت قد تحددت في اتفاق سابق وقع في بروكسل في 12 مايو سنة 1894. وفي البند الثالث من الاتفاق تعهدت حكومة الكونجو المستقلة "بأن لا تقيم أو تسمح باقامة أي أشغال على نهر سميكي أو نهر أسانجو أو بجوار أي منهما يكون من شأنها خفض حجم المياه التي تتدفق في بحيرة ألبرت مالم يتم ذلك بموافقة الحكومة السودانية".
وبابرام هذه الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات تم تأمين وصول مياه النيل إلى مصر التي كان مستعمروها الجدد يعدونها لكي تكون مزرعة للقطن الذي كانت تطلبه المصانع الانجليزية.
وهذه الاتفاقيات التي تمت في عهد مضى زمانه هي الاتفاقيات الوحيدة التي تنظم مياه الأنهار النابعة من أثيوبيا والكونجو، وهي بالنسبة لمصر لازالت قائمة وملزمة على الرغم من أن بعضها وقعته الدول المستعمرة نيابة عن الدول المختصة . وتعترف منظمة الوحدة الأفريقية أيضا بهذه الاتفاقيات لأن الكثير منها يتعلق بتحديد حدود الكثير من دول أفريقيا الحديثة الاستقلال، وتخشة المنظمة من أن فتح ملفات هذه الاتفاقيات سيتسبب في مصاعب جمة. ولذلك فقد قبلت معظم الدول الأفريقية بمبدأ استمرارية الدول وصلاحية اتفاقيات الحدود بغض النظر عن تغير السيادة فيها، وهو المبدأ الذي أقره مجمع فيينا في سنة 1978. أما بالنسبة لأثيوبيا فإن المعاهدة المبرمة بينها وبين بريطانيا العظمى في سنة 1902 باطلة وغير ملزمة وعلى الأخص بالنسبة لما تعلق منها بسيادتها على مصادر ثروتها الطبيعية كما أن المعاهدة كانتت من وجهة النظرة الاثيوبية مؤقتة. وقد أعلت أثيوبيا مرات عديدة عن عزمها عن استخدام حقها السيادي والتعامل مع الأنهار النابعة من أراضيها بالطريقة التي تراها صالحها لها. وهناك شعور عام في أثيوبيا أن المطالبة بإيقاف أي عمل لاستغلال المياه النابعة منها كما جاء في المعاهدة فيه ظلم كبير.
وقد شغل موضوع التعاون مع أثيوبيا السلطات المصرية والسودانية لسنوات طويلة منذ بدء التفكير في انشاء مشروعات التخزين المستمر في أوائل القرن العشرين، على أن هذا التعاون لم يتحقق على الرغم من الوساطة التي قامت بها الحكومة الايطالية لدى السلطات الاثيوبية للسماح باقامة خزان على بحيرة تانا، وكانت هذه الوساطة جزءا مما تعهدت بها ايطاليا في المذكرات المتبادلة بينها وبين بريطانيا (بوصفها وكيلا عن حكومة السودان)، في ديسمبر سنة 1925 نظير أن تقوم الحكومة البريطانية في المقابل بمساندة الحكومة الايطالية في الحصول على امتياز من الحكومة الاثيوبية بانشاء وتشغيل خط حديدي بين اريتريا والصومال الايطالي عبر اثيوبيا. وحدثت محاولة أخرى للتعاون مع اثيوبيا في مجال استغلال مياه النيل في الثلاثينات من القرن العشرين عندما سمحت السلطات الاثيوبية للخبراء بزيارتها للقيام بمسح لبحيرة تانا بغرض اقامة خزان عليها، وفي سنة 1935 تقدمت حكومتا مصر والسودان بطلب إلى اثيوبيا لبناء خزان على البحيرة على نفقتهما، وظل المشروع موضوع مفاوضات لأكثر من عشر سنوات قبل رفضه، فقد رأت اثيوبيا أن المشرع لا يعطي أولوية لتوليد الكهرباء الذي تعتبره هدفها الأساسي من تنمية حوض النيل الأزرق.
وباستثناء الاتفاقيات الناجحة التي أبرمتها مصر مع السودان، والتي سنفرد لها فصلا خاصا ، فان التفاقية الوحيدة التي استطاعت مصر أن تبرمها مع أي من دول الحوض كانت مع اوغندا بشأن انشاء خزان شلالات أوين الذي أقيم فس نة 1954. وكانت الحكومة الاوغندية قد اقترحت بناء الخزان، نظرا لحاجتها الملحة للطاقة الكهربية. وجاء في المذكرة التي أرسلتها حكومة المملكة المتحدة (بصفتها وكيلا عن أوغندا) إلى مصر والمؤرخة في 19 يناير سنة 1949 تأكيد اوغندة بأن "أنشاء الخزان وتشغيله لن يكون من شأنهما خفض كمية المياه التي تصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصولها إليها أو تخفيض منسوبها بما يسبب أي أضرار لمصالحها" وقد ردت الحكومة المصرية في مذكرة بتاريخ 5 فبراير سنة 1949 بأنه "لما كانت سياسة الري الصمرية تقوم على أساس عدة مشروعات للتحكم في مياه النيل تشمل من بينها التخزين السنوي وتكوين احتياطي في بحيرة فكتوريا، فإنه يبدو أن من المصلحة المتبادلة لكل من مصر وأوغندا أن تتعاونا في بناء الخزان عند مخارج البحيرة لأغراض الري في مصر وتوليد الكهرباء لصالح أوغندا" ومن أجل ذلك طلب مصر "تعديل التصميم المعد للمشروع من أجل استيفاء الغرضين " وأن "يصمم الخزان للتدفق بالمرور عندما ينخفض منسوب البحيرة إلى أدنا" وقد وافقت الحكومة البريطانية على ذلك في مذكرتها المؤرخة في 5 يناير سنة 1953 على أن تتحمل الحكومة المصرية هذا الجزء من تكلفة الخزان عند شلالات أوين الذي يتطلبه رفع منسوب المياه لبحيرة فكتوريا.
ويعمل خزان أوين منذ انشائه في يسر ولم يحدث أن اعترضت أي من الحكومات التي تعاقبت على أوغنده على شروط الاتفاق أو طريقة التشغيل.
الإتفاقيات بين مصر والسودان
بدأ السودان في زراعة القطن في أوائل القرن العشرين، وقد وافقت الحكومة المصرية على أن يقوم السودان بضخ كمية المياه الازمة لزراعة 10.000 فدان بمنطقة الجزيرة في سنة 1904 ولزراعة 20.000 فدان في سنة 1909 وفي الوقت نفسه وافقت مصر على أن يسحب السودان أي كمية من مياه النيل الأزرق في وقت الفيضان (بين 15 يوليو وآخر فبراير من العام التالي). وقد ظلت مساحة الأرض المروية في السودان ثابتة عند حد العشرين ألف فدان لحوالي عشر سنوات عندما قرر السودان زيادة أراضي الجزيرة المروية إلى 300.000 فدان مرة واحدة، وقد أزعج هذا القرار الحكومة المصرية ، فقامت بتشكيل لجنة لدراسة تأثير هذا التوسع الزراعي على موارد مصر المائية، وقد رأس اللجنة السير مردوخ ماكدونالد الذي نشر تقرير في سنة 1920 رأى فيه أن التوسع الزراعي للسودان لن يؤثر على مصر، فاحتياجات البلدين بعد هذا التوسع يمكن تدبيرها. وقد تقررت هذه الاحتياجات بحوالي 56 بليون متر مكعب منها 34 بليون متر مكعب في وقت الفيضان (يوليو-ديسمبر) و22 بليون متر مكعب في وقت التحاريق (يناير-يوليو) . وقدر نصيب السودان من هذه الكميةب أربعة ملايين متر مكعب خلال موسم الفيضان وبلونين من الأمتار المكعبة خلال موسم التحاريق. ولما كانت هذه الكميات أكبر من سعة التخزين المتاحة في ذلك الوقت فقد اقترح ماكدونالد اقامة خزان سنار على النيل الأزرق لتأمين مياه مشروع الجزيرة بالسودان وخزان بجبل الأولياء على النيل الأبيض لتأمين المياه الصيفية التي تحتاجها مصر. وقد اعترض الكثيرون على مشروع ماكندونالد كما جاء في تفصيله في الجزء الثالث من هذا الكتاب مما دعا الحكومة المصرية إلى تأجيل النظر في الموضوع كله فأزعج ذلك الحكومة البريطانية التي انتهزت فرصة الأزمة بالتي أحاطت بالعلاقات المصرية البريطانية بمناسبة مقلت السردار في عام 1924، وأنذرت الحكومة المصرية بأنها ستستخدم ما شاءت من مياه النهر لتزرع ماشاءت من الأراضي في السودان إذا لم تقم الحكومة المصرية بتشكيل لجنة دولية تبت في مسألة نصيب كل من مصر والسودان من ماء النيل. بالفعل قامت الحكومة المصرية بتشكيل هذه اللجنة برئاسة كنتر كرمرز المهندس الهولندي وعضوية عبد الحميد سليمان عن مصر وماكجريجور عن بريطانيا بعرض "دراسة واقتراح الاسس التي ينبغي اتخاذها لتنفيذ توسعات الزراعة في السودان دون الاضرار بمصالح مصر أو النيل من حقوقها الطبيعية والتاريخية في ماء النيل". وقدمت اللجنة تقريرا أخذ أساسا لاتفاقية المياه التي عقدت في مايو سنة 1929 وأصبح التقرير جزءا لا يتجزء من هذه الاتفاقية وقد قبلت اللجنة حق السودان في التوسع الزراعي، بشرط ألا يتسبب ذلك افتئاتا على حقوق مصر التاريخية، أو بما سوف تحتاجه في توسعها الزراعي في مستقبل الأيام، وحددت أنصبة البلدين في الاتفاقية تبعا لاحتياجات الأراضي التي كانتا تزرعانها في ذلك التاريخ بمقدار 48 بليون متر مكعب لمصر في السنة و4 ملياران متر مكعب للسودان في السنة.
وعند التفكير في بناء السد العالي دخلت مصر والسودان ( الذي كان قد نال استقلاله للتو) في مفاوضات انتهت بعد اتفاق بين الجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان للانتفاع الكامل بمياه النيل وقع في 8 نوفمبر سنة 1959 بمقر وزارة خارجية الجمهورية العربية المتحدة. وافق فيه السودان على أن تقوم مصر ببناء السد العالي وأن يتم تقسيم المياه التي سيوفرها بناؤه والتي قدرت بحوالي 22 بليون متر مكعب في المتوسط في السنة (بعد خصم فاقد التخزين المستمر والمقدر بحوالي 10 بلايين متر مكعب في المتوسط في السنة)، بحيث يحصل السودان على 14.5 بليون متر مكعب ومصر على 4.5 بليون متر مكعب. وهذه الكميات تضاف إلى كميات المياه التي كانت تستخدمها مصر والسودات وقت توقيع الاتفاق والتي اعتبرت حقا مكتسبا لهما. وكانت هذه الكميات قد تقررت في اتفاقية سنة 1929 وبذا أصبح نصيب مصر 55.5 بليون متر مكعب في السنة والسودان 18.5 بليون متر مكعب في السنة.
ووافقت مصر على أن يقوم السودان ببناء خزان الرصيرص على النيل الازرق "وأي مشروع آخر يعتبره السودان حيويا لاستغلال حصته" وكما اتفق الطرفان على أن يبدأت السودان بالاتفاق مع مصر في درساة مشروعات أعالي النيل للاستفادة من المياه التي تتبدد فيها على أن تقسم نفقات هذه المشاريع بين البلدين مناصفة متساوية من الخبراء عن كل طرف لتحقيق التعاون الفني بين حكومتي الجمهوريتين. وأعطيت لهذه اللجنة صلاحيات واسعة لمراقبة تنفيذ الاتفاق ولدراسة المشروعات المستقبلة على تنفيذها وضع اسس تقسم المياه في حالة تتابع سنوات شحيحة من الفيضان. ولعل أهم بنود الاتفاق من الوجهة السياسية هو ما جاء في بند الأحكام العامة بأن يتخذ البلدان موقفا محايدا إذا ما دعت الحاجة لاجراء مفاوضات حول مياه النيل مع أي دولة أخرى خارج حدودهما وأن يبحثا معا مطالب هذه البلاد إذا طلبت نصيبا من مياه النيل، وأنه في حالة اذا ما أسفر البحث عن قبول أيا من هذه الطلبان إفن "هذه القدر محسوبا عند أسوان يخصم مناصفة بينهما".
وتعقد اللجنة الدائمة الفنية المشتركة اجتماعاتها العادية في القاهرة والخرطوم بصفة منتظمة منذ توقيع الاتفاق، وقد توصلت اللجنة إلى نتائج باهرة كان من أهمها الاتفاق على مشروع قناة جونجلي في منطقة السدود والذي سبق أن تحدثنا عنه في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
القانون الدولي ومياه الأنهار المشتركة
لا يوجد في الوقت الحاضر قانون مقبول من جميع الدول ينظم استخدام مياه الأنهار الدولية، وان كانت هناك اتفاقية لمثل هذا القانون أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والخمسين (مايو 1997) دعت فيها الدول والمنظمات الاقليمية للتكامل الاقتصادي للتوقيع عليها ولتصبح أطرافا فيها وهو الأمر الذي لم يحدث حتى تاريخ كتابة هذه السطور (سنة 2001) فقد وجدت أغلبيتها أن في بعض موادها ما يمكن أن تعترض أو ما يكن أن يخلخل اتفاقياتها القائمة والتي تعيش في ظلها – وفضلت معظم الدول أن تعيش مع القواعد العامة التي كانت قد وضعتها جمعية القانون الدولي وأقرتها في اجتماعها الذي عقد بمدينة هلسنكي في صيف سنة 1969 (6) وقبلتها معظم الدول وكانت الأساس الذي بنيت عليه اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في غير الأغراض الملاحية (6) الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1997 بعد أن أضيف إليها فصل جديد يتعلق بمنع تلوث هذه المجاري المائية والحفاظ على بيئته – ومن أهم الوقاعد التي تم الاتفاق عليها في هلسنكي ونقلت بالاتفاقية الجديدة (الموا 5-10 من الجزء الثاني) حق كل دولة مشاطئة للمجرى المائي في الحصول على نصيب معقول ومنصف من مياهه – وتعتبر هذه القاعدة من أهم المبادئ التي أدخلت على قواعد توزيع مياه المجاري المائية الدولية فقد حلت محل مبدأ هارمون الذي كان سائدا لمدة طويلة والذي كان يعطي للدولة السيادة الكاملة على الأنهار التي تمر فيها. وحقا في استخدام مياهها بالطريقة التي تراها صالحة لها دون النظر إلى مصالح الدول المشاطئة الأخرى. وتطبيق هذا المبدأ يجد صعوبة كبرى ، فعلى الرغم من قبول الدول له إلا أن التطبيق العملي يثبت أن الكثير منها لا تعيره اهتماما حتى وان جاءت تصريحات المسئولين فيها بغير ذلك. وأقرب الأمثلة ما فعلته شيلي في نهر لوكا الذي ينبع في جبالها ويذهب إلى بوليفيا، ما فعلته تركيا في نهري الفرات ودجلة (اللذان ينبعان منها ويمران بسوريا والعراق)، وإسرائيل في نهر الأردن وهي دولة مصب فرضت على دول المنبع تحويل مياه النهر إليها. ومن العوامل التي تضمنتها قواعد هلسنكي لتحديد أنصبة دول الحوض في مياه النهر جغرافية الحوض وهيدرولوجيته ومناخه. وكذلك الاستخدام السابق للحوض والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة حوضية، وعدد السكان (الذين يعتمدون على مياه النهر) وما يتوافر لهم من مةوارد أخرى. طبقا للامكانيات الزراعية لدول الحوض بغض النظر عن عدد السكان. وقد أثير هذا الخلاف عندما كانت مصر والسودان تتفاوضان في أواخر العشرينات من القرن العشرين بشأن عقد اتفاقية مياه النيل الأولى التي وقعت في سنة 1929.
وتؤكد قواعد هلسنكي واتفاقية الأمم المتحدة على ضرورة حل المشاكلة المتعلقة بتوزيع المياه بين دول الحوض بالطرق السلمية كما ينص بذلك ميثاق الأمم المتحدة ، ومن أجل الاقلال من هذه المشاكل بل منعها أصت القواعد دول الحوض بتبادل المعلومات الخاصة بالنهر والعمل على تأليف اللجان المشتركة لادارة النهر كوحدة واحدة كلما امكن ذلك، وأخيرا على ضرورة ابلاغ دول الحوض الأخرى قبل البدء في تنفيذ أي مشروع قد يؤثر على مياه النهر. ومثل هذا التبليغ يمكن الدول الأخرى من الدخول في مفاوضات والالتجاء إلى التحكيم قبل أن تتأثر بالمشروع.
الموقف الراهن لإتفاقيات مياه النيل
هذا العرض السريع للاتفاقيات التي أبرمت بين دول النهر يظهر أنه لا يوجد في الحقيقة اتفاق بين دول المنبع والمصب على طريقة توزيع مياه النيل أو رصد أحواله أو تقنين سريانه في مختلف الدول. فمعظم الاتفاقيات مع دول الحوض قديمة تمت مع القوى الاستعمارية وفي اطار نظام عالمي راح زمانه. ومن العسير أن يتصور المرء أن تقبل أي حكومة مستقلة أن لا تكون لها سيادة على أنهارها. وقد أبلغت دول المنبع كلا من مصر والسودان في مذكرات عديدة عن رفضها الالتزام بما جاء في المعاهدات والاتفاقيات والمذكرات المتبادلة بين القوى الاستعمارية التي كانت وكيلا عنها وقت توقيعها ودول المصب. ومن الأمثلة على ذلك المذكرة التي أرسلتها تنجانيقا (تنزانيا) إلى كل من مصر والسودان وبريطانيا سنة 1962 فور اعلان استقلالها، لتبليغهم عدم التزامها بأي تعهد كانت قد قامت به الحكومة البريطاني ينقص من سيادتها على الأنهار أو البحيرات بأرضها، وخصت المذكرة ما جاء في البند 4 ب من المذكرة المصرية التي تبودلت بشأن اتفاق المياه بين مصر والسودان في سنة 1929 من التعهد "بألا تقام بغير اتفاق مسبر مع الحكومة الصمرية أعمال ري أو توليد طاقة ولا تتخذ اجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الادارة البريطانية يكون من شأنها انقاص مقدار المياه الذي يصل إلى مصر .. الخ" وكان رد مصر على هذه المذكرة بأنها تعتبر الاتفاقية سارية المفعول حتى يتم استبدالها بأخرى يوافق عليها الطرفان.
وتعترض دول المنبع على الاتفاقيات المصرية والسودانية وتشكك في قانونيتها.وقد أرسلت اثيوبيا احتجاجا على بناء السد العالي الذي اتخذ قرار بنائه دون التشاور معها في مذكرة سلمت للخارجية المصية في 23/9/1959 جاء فيها " إن أي دولة نهرية تنوي القيام بانشاءات كبيرة كتلك التي تقوم بها مصر يتوجب عليها بحكم القانون الدولي أن تخطر مقدما الدول النهرية الأخرى وتتشاور معها".
كما أ‘لنت في مذكرة أخرى بتاريخ 8 فبراير 1978 عدم موافقتها على تحويل أي جزء من مياه النيل إلى خارج حوضه تلتها مذكرة أخرى في 5 مايو 1980 تحتج فيها على اعلان رئيس مصر نيته بتحويل جزء من مياه النيل إلى إسرائيل في أعقاب هذا الاعلان تم البدء في حفر ترعة السلام بين فارسكور والتبنة (الكيلو متر 25 طريق بورسعيد – الاسماعيلية) ثم البدء في تنفيذ سحارة المياه تحت قناة السويس. والاحتجاج على السحارة ليس له ما يبرره إن كان صحيحا أنها صممت لنقل الماء إلى ذلك الجزء من حوض النيل الذي يقع في سيناء كما يؤكد ذلك المسئولون المصريون المرة تلو الأخرى والذي أعلنوا أنه لا ينوون نقل المياه إلى ما بعد حوض النيل اذي ينتهي عند بحيرة البردويل.
ولسنا نريد أن ندخل هنا في متاهات القانون الدولي فقد رأيناه في التطبيق العملي عاجزا عن حل مشاكل أقل تعقيدا وعن منع الترتيبات التي قامت بها بعض الدول لحجز المياه عن شركائها في الحوض، ولكننا نريد أن نؤكد أن توزيع مياه النيل على الشكل الذي يحدث اليوم لا يسنده إلا وزن دول الحوض وثقل مركزها الاقتصادي والعسكري. وفي الحقيقة لإنه لا توجد في الوقت الحاضر أي دولة من دول المنبع قادرة على خرق الاتفاقيات والتصرف في مياه النيل وحجز أية كمية من المياه من دولتي المصب حتى وان رغبت. فليس لأي من دول المنبع ثل اقتصادي أو معرفة تقنية مكنها من بناء السدود أوقنوات التحويل أو حتى استصلاح أراضي جديدة على أي نظام واسع وتشير كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية إلى أن هذه الدول في وضع متدهور، فالسكان يتزايدون بمعدلات عالية وقد تزايدت أعدادهم في الخمسين سنة الماضية بين المرتين ونصف إلى قرابة الأربع مرات. والناتج القومي الاجمالي (وهو مجموعة الناتج القومي المحلي والدخل من خارج حدود البلاد كتحويلات العاملين بخارج الدولة وفوائد القروض والاستثمارات الخارجية) صغير لم يتعد نموه في معظم دول الحوض معدل زيادة السكان (انظر الجدومل رقم 1). كما أن دول الحوض كلها وبلا استثناء مدينة للعالم الخارجي وميزانياتها في عجز دائم ويزيد حجم الدين العام في معظمها عن ناتجها القومي الاجمالي ، جميعها تزايدت ديونها في الخمس عشرة سنة الماضية لأكثر من ثلاثة أضعاف، وفي معظمها تحتاج خدمة الدين إلى الجزء الأكبرمن صادرات الدولة أو من جملة المعونات الخارجية.
ويزيد من الصعوبات التي تلاقيها دول الحوض ما حاق بها من كوارث طبيعية في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين بتراجع جبهة الأمطار وجفاف مناطق كثيرة منها، وما حل بها نتيجة انتشار الحركات الانفصالية واتساع النزاعات القبلية والعرقية والدينية، ونشوب الحرب الأهلية في مناطق كثيرة. وقد أضعف كل ذلك الحكومات المركزية التي تفشى فيها الفساد وزاد فيها الانفاق على الحرب وأجهزة القمع زيادة كبيرة التى وصل الانفاق على هذا البند وحده أكثر من نصف الانفاق الحكومي في السودان – وفي الجدول رقم 2 بعرض المؤشرات التي تظهر تدهور نوعية الحياة في معظم بلاد حوض النيل – وقد اخترت من المؤشرات التي يمكن أن يؤخذ دليلا على مستوى خدمات الصحة والتعليم والمعيشة عامة – واذا أخذنا معامل التنمية البشرية للدول الذي تصدره الأمم المتحدة في تقاريرها السنوية دليلا على أن دول الحوض تقع في ذيل الأمم – ومعامل التنمية البشرية معامل مركب يتكون من ثلاثة مؤشرات الأول هو مستوى العيش والذي يقاس بدخل الفرد السنوي والثاني هو مستوى الصحة والذي يقاس بمؤشري العمر المتوقع ومعدل وفيات الأطفال والثالث هو مستوى التعليم ويقاس بحجم الأمية وفرص الارتفاع في مستواه – وتحتل كل دول حوض النيل موقعا متأخرى في ترتيب الدول في سلم معامل التنمية البشرية فمن بين 175 دولة تحتل اثيوبيا المركز 171 واوغنده المركز 158 وتنزانيا المركز 156 والسودان المركز 143 وكينيا المركز 138 أما مصر فيحتل المركز 119 وهو مركز يصنفها كأفضل دولة حوضية وإن كان لا يضعها في مركز متقدم بين دول العالم.
السكان الناتج القومي الاجمالي
العدد بالمليون النسبة المئوية لتزايد السكان في السنة الجملة بالمليون دولار دخل الفرد السنوي النسبة المئوية للدين الخارجي من جملة الدخل القومي
1950 1998 مصر 20.3 66 2.3 75.66 1.146 37.3 السودان 9.2 28.3 2.5 8.370 296 183.7 اثيوبيا 19.5 59.6 2.7 6.550 110 160.4 كينيا 6.3 29 3.3 9.680 334 61.5 تنزانيا 7.9 32.1 3.1 5.550 173 ؟ اوغندا 4.8 20.6 2.7 6.880 332 35.5
وتظهر هذه المؤشرات وهن هذه الدول للدرجة التي تجعلها غير قادرة على القيام بأي عمل يمكن أن يغير من نظام النهر أو يعيق مياهه عن الوصول إلى دولتي المصب على الأقل في الأمد القريب وتدرك دولتي المصب مصر والسودان ذلك وإن كانا يعرفان أن هذا الوضع يمكن أن يتغير حال دخول طرف ثالث يكون مستعدا لمد يد العون إلى هذه الدول، وقد حدث خلال سني الحرب الباردة والتي امتدة حتى آخر سني ثمانينات القرن العشرين بعد أن دخلت أطراف ثالثة في معادلة توزيع مياه النيل حسب ما كانت قواعد هذه السنوات تسمح فعلى طول سنواتها كان خصمي الحرب الباردة يستخدمان ورقة مياه النيل لتحقيق هدف ابعاد نفوذ الطرف الآخر عن دول الحوض مما جعل الحفاظ على الوضع القائم ممكنا – وفي خلال هذه السنوات استطاعت مصر أن تستفيد من التنافس بين الدولتين الأعظم وأن تبني السد العالي بمساعدة الاتحاد السوفيتي السابق الذي قبل أن يمد يد العون لبنائه بعدما رفضت الولايات المتحدة وحلفائها ذلك – وردت الولايات المتحدة على هذه الضربة بالرسال البعثات إلى اثيوبيا في ستينات القرن العشرين لدراسة امكان بناء السدود على منابع النهر بغرض توصيل رسالة إلى مصر بأن الأضرار بها سهل وان حياتها مرهونة بمن يحكمون منابع النهر – وعندما انقلب الحال وأصبحت اثيوبيا حليفا للاتحاد السوفيتي في سبعينات القرن العشرين قام الاتحاد السوفيتي بتوصيل رسالة مماثلة لمصر التي كانت تتقارب مع الولايات المتحدة في هذه السنوات عن طريق التلويح ببناء السدود على النهر ان هي أقدمت على ذلك.
استهلاك الفرد من البروتين ج/ي 1997 العمر المقدر عند الميلاد 1998 وفيات الأطفال بين كل 1000 وليد 1998 النسبة المئوية للأميين (ذكور واناث) 1998 استهلاك الفرد من الكهرباء كيلوات/ساعة 1997 ترتيب الدولة في سلم التنمية البشرية تقرير سنة 2000 مصر 89 66.3 69 46.3 848 11 السودان 75 55 115 44.3 48 143 اثيوبيا 54 43.3 173 63.7 22 171 كينيا 52 52 117 19.5 154 138 تنزانيا 49 48 142 26.4 56 156 اوغنده 45 40 134 35 34 158 الولايات المتحدة 112 76.7 8 1 13.248 3 اوروبا 103 75.3 11 2 5.703 --
- استخدمت بيانات الدول من تقرير التنمية البشرية الذي تصدره الأمم المتحدة (سنة 2000) وترتيب الدول من بين 175 دولة.
وكان هذا التهديد هو اذي أعطى لمقولة أن حروب المستقبل ستكون بسبب المياه شهرة واستخداما واسعا حتى بعد انتهاء الحرب الباردة على الرغم من أن هذه المقولة هي من مخلفاتها والتي ما كان من الممكن ان تؤخذ بأي جدية إلا في ظروفها وبمساندة طرف من أطرافها – وفي خلال السنوات الأولى من سنوات تسعينات القرن العشرين استخدم السودان نفس الورقة للضغط على مصر عندما ساءت علاقاته معها وقام بتوقيع اعلان الصداقة والسلام مع اثيوبيا واشترك معها في تأسيس منظمة حوض النيل الأزرق بهدف الاستفادة من مياه هذا النهر دون اعتبار لمصر التي لم تدع للانضمام إليها – وقد تغير الحال وتجمدت أعمال هذه المنظمة في آخر سنوات تسعينات القرن العشرين عندما تحسنت العلاقات المصرية السودانية وعادت الأمور كما كانت عليه في طول التاريخ الحديث وعلى الأخص بعد توقيع اتفاقية سنة 1959 عندما ارتبط الأمن المائي لكل من مصر والسودان بالتمسك بها وحسن تنفيذها فلا غرو أن عمل البلدان على انجاح عمل اللجنة الفنية المشتركة التي تشكلت طبقا لهذه الاتفاقية وابعادها عن أي خلاف سياسي – وفي هذا المجال فلابد من التذكير بأن السودان جناح يعتقد أن اتفاقية سنة 1959 فيها ظلم كبير للسودان لأنها لا تعطيه ما يعتقد هذا الجناح أنها تستحقه من المياه التي تبررها امكانياته الزراعية وقدرته الاستيعابية الكبيرة لاستخدام المياه – وهذا الجناح تحركه دوافع سياسية فليس في السودان أزمة مياه أو نقص في مصادرها يبرر هذا الموقف وعلى طول سني الحرب الباردة ولسنوات طويلة بعد انتهائها كانت السياسة المائية الصمرية تهدف إلى الاحتفاظ بالوضع القائم والعمل على منع بناء السدود على نابع النهر أو القيام بأي عمل يمكن أن يعيق وصول المماء إليها – ولم تكن دول أعلى الحوض راضية على هذا الوضع القائمة فقد كانت تعتقد أنه في صالح مصر وأنه يعطيها نصيبا كبيرا من مياه النهر. وكانت اثيوبيا أكثر دول المنبع شكوى فقد حرمها هذا الوضع من أن تكون لها حصة من المياه التي تنبع منها والتي كانت مصر والسودان قد اقتسماها دون استشارتها في سنة 1959 – وكانت مصر وحتى وقت قريب تواجه هذه الشكوى في اتجاهين، الاتجاه الأول هو تبرير حوصلها على حصتها الكبيرة من المياه بسبب أن النيل هو مصدرها الوحيد منها وأنه اذا أريد فتح ملف اعادة توزيع مياه النيل فينبغي اعتبار جميع مصادر المياه المتاحة لكل دولة ومن المعروف أن للسودان واثيوبيا مصادر كثيرة للمياه بل وأنهار أخرى غير النيل بعضها يصب في البحر الأحمر وبعضها يصب في المحيط الهندي والكثير من هذه الأنهار غير مستغل وربما كان النظر في تنمية أحواضها أعظم فائدة وأقل كلفة فسهول الكثير منها وخاصة تلك التي تصب في المحيط الندي أكثر انبساطا مما يجعل ضبط مياهها سهلا بالمقارنة بروافد النيل التي تنبع من المرتفعات الاثيوبية وتمر في خوانق عميقة ذات انحدار كبير وحاملة الكثير من الرواسب.
أما الاتجاه الثاني الذي كانت مصر تسلكه من أجل الاحتفاظ بالوضع القائمة فقد كان في احتواء أي تجمع لدول الحوض وتبنميه وابعاده عن تدخل أي طرف ثالث وأخذ زمام المبادرة فيه على أمل أن تحتويه أو أن تجعله متوائما مع الوضع القائمة وكانت مصر تأخذ المبادرة للاشتراك في كل لجنة أو نشاط مشترك لدول الحوض ولعبت دورا مهما في تشجيع دول المنبع للقيام بدراسة هيدرومترولوجية للبحيرات الاستوائية عندما ارتفع منسوبها ارتفاعا مفائجا في أوائل ستينات القرن العشرين – وقد تمخضت جهودها عن مشروع الهيدروميت الذي موله البرنامج الانمائي للولايات المتحدة ونفذته منظمة الأرصاد الجوية. وكانت مصر عضوا فيه وشجعت باقي دول الحوض على المشاركة فيه – كما عملت من خلال منظمة الوحدة الأفريقية التي قدرت في مؤتمر القمة الذي عقد في لاجوس بنيجيريا في سنة 1980 تشجيع تجمعات اقتصادية أفريقية اقليمية على بناء تجمع في حوض، فدعت وزراء خارجية دوله لاجتماع عقد في الخرطوم سنة 1983 حضرته مصر والسودان واوغنده وزائير وجمهورية أفريقيا الوسطى وتمخض الاجتماع عن ميلاد تجمع غير رسمي مسمى (الأندوجو) وهي كلمة سواحيلية تعني الأخوة – وقد انضمت إلى التجمع بعد ذلك كل من رواندا وبورنودي وتنزانيا – إلا أن هذا التجمع لم يحظ بالنجاح بالنظر إلى غياب أثيوبيا – أحد أحمد دول المنبع عنه – وللحق فقد كانت ظروف الحرب الباردة غير مواتية لقيام أي تجمع فعال مما سهل مهمة الحفاظ على الوضع القائمة وابعاد أي طرف ثالث من الدخول لتغييره فقد أعاقت ظروف الحرب الباردة اقدام رأس المال العالي ومؤسسات التمويل الدولية عن الاستثمار في أي مشروع لتنمية حوض النهر.
وتغير الحال بعد انتهاء الحرب الباردة وبدأ دخول مؤسسات التمويل الدولية كطرف ثالث بغرض قامة نظام جديد يحل محل الوضع القائم فيها. وبدأ الدخول المنظمل لهذه المؤسسات في سنة 1992 عندما اجتمع وزراء الموارد المائية لست من دول الحوض (مصر والسودان والكونجو ورواندا وبوروندي واوغنده) وبحضور مندوبين من دول الحوض الأخرى تحت رعاية هذه المؤسسات وقرروا انشاء لجنة للتعون الفني (تكونيل) تقدمت بورقة عمل في سنة 1959 مولها البرنامج الانمائي للأمم المتحدة تقترح نظاما لادارة مياه النيل لصالح دوله. وعرضت هذه الورقة على مجلس وزراء الموارد المائية لدول الحوض والذي وافق عليها وقرر التقدم بطلب إلى البنك الدولي للمساهمة في تمويل ما جاء بها من توصيات ووافق البنك على ذلك بعد أن يقوم بدراستها وتمت الدراسة بالفعل بواسطة لجنة شكلها من خبراء دوليين اقترحت بعض التعديلات التي عرضت على مجلس وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل فوافق عليها في اجتماع عقد بمدينة أروشا بتنزانيا في مارس سنة 1998 – وتمثل هذه الورقة الأساس الذي انبنت عليه مبادرة حوض النيل التي أعلن مجلس وزراء الموارد المائية عن قيامها في اجتماع عقد في مدينة أروشا في فبراير سنة 1999 – وتهدف هذه المبادرة إلى التنمية الشاملة لحوض نهر النيل وبناء نظام جديد يعيد تنظيم اقتصاد دوله ويعظم الاستفادة من مصادر ثروتها الطبيعية.
وتنال مبادرة حوض النيل مساندة كاملة من مؤسسات التمويل الدولية والتي يأتي في مقدمتها البنك الدولي والوكالة الكندية للتنمية الدولية والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة والتي تعهدت بتمويل مرحلتها الأولى في اجتماع عقد بمدينة جنيف في شهر يونيو سنة 2001 – وتسعى هذه المرحلة إلى بناء رؤية مشتركة بين دول الحوض قدرت تكاليف وضع برامجها بحوالي 211 مليون دولار ومدة تنفيذها بين ثلاث وست سنوات وتحتوي الرؤية على خمس برامج أساسي تتعلق بالعمل البيئي عبر الحدود والتجارة الاقليمية للكهرباء بين دول الحوض والاستخدام الكفء للمياه في الزراعة وتخطيط وادارة مصادر المياه وبرنامجين مساعدين يتعلقان ببناء الثقة وتوطيد الاتصال بين دول الحوض ومد جسور التعاون بينهما من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي الاجتماعي.
كما تحتوي المبادرة وفي نفس الوقت على برنامجين فرعيين أولهما يخص دول شرق النيل (مصر والسودان واثيوبيا) وثانيهما يخص الدول البحيرية (بورونودي والكونجو وكينيا ورواندا واوغنده) بالاضافة إلى مصر والسودان – وحددت دول شرق النيل خمس برامج للدراسة هي الادارة المتكاملة لمصادر المياه – ضبط الفيضن – توليد الكهرباء وتوزيعها – ادارة بعض أحواض التصريف – أما الدول البحيرية فقد حددت اثنى عشر مشروعا مشتركا بعضها جهاز للتنفيذ على الفور تتعلق بالتنمية الزراعية والسمكية وادارة مصادر المياه ومكافحة ورد النيل (الذي يملأ منطقة السد ومناطق كثيرة بحوض السوباط والغزال) وتوليد الكهرباء وتوزيعها – وقد تكون من أجل تمويل تنفيذ هذه البرامج جهاز دولي مسمى "الكونزورتيوم الدولي للتعاون من أجل النيل " (ICCON) الذي عقد أول اجتماع له في جنيف في شهر يونيو سنة 2001 بغرض اعتماد برنامج الرؤية المشتركة كما سبق تبيينه.
ويحمل تنفيذ برامج الرؤية المشتركة كما جاءت في مبادرة حوض النيل من العواقب ما يمكن أن يعيد تشكيل نهر النيل ويغير اقتصاد دول تغييرا جذريا وشاملا – ويصعب التنبؤ للشكل النهائي لهذه التغيرات فلا زالت التفاصيل الكاملة للمشروعات التي ستأتي بها هذه الرية غير معروفة على وجه التحديد كما أنها لم تتبلور بعد ومحاطة بالكتمان – ولو حدث تنفيذ لاي من المشروعات التي يتداولها خبراء الكونزورتيوم أو ما يصرح به المسؤولون في دول الحوض وخاصة ما تعلق منها ببرنامجي تخطيط وإدارة مصادر المياه وتنظيم اتجاهها عند خطوط تقسيمها فسنكون أمما تغيير كامل في شكل نهر النيل كما نعرفه اليوم. فاذا تحقق على سبيل المثال بناء سد كبير للاستخدام المستديم للمياه على النيل الأزرق في اثيوبيا فإن عملية التخزين القرني لدول أدنى الحوض (مصر والسودان) ستنتقل من مصر إلى اثيوبيا مما سيكون نذير بنهاية دور السد العالي كخزان للمياه أو كمصدر لتوليد الكهرباء بما يحمله ذلك من غيرات شاملة على أرض مصر وتوجهات اقتصادها – واذا اتيح لاثيوبيا أن يكون لها نصيب من مياه الروافد التي تنبع منها كما تشير كل برامج المبادرة فإن ذلك سيكون على حساب حصة مصر والسودان – وأغلب الظن أن تقليل حصة مصر من المياه سيكون على حساب الزراعة فيها والتي سيتراجع دورها وفيما يمكن أن تكتتبه من جملة ناتجها القومي.
وسيرى القارئ عند الكلام عن استخدامات الأرض والمياه في اثيوبيا أن هناك مشروعات كثيرة ومتداولة منذ زمن تهدف إلى حجز المياه النابعة من ورافدها – ويبدو أن هذه المشروعات سترى النور في الظروف الجديدة التي جاءت بها مبادرة حوض النيل – وقد توصل أحد خبراء الكونزوريتوم الدولي في دراسة نشرة منذ سنوات (28) بأن بناء السدود على النيل الأزرق ليس ضارا بل وعلى العكس من ذلك سيكون في صالح جميع دول الحوض – فستنظم هذه السدود سريان مياه النيل الأزرق بانتظام على مدار السنة بدلا من النمط الحالي الذي يأتي بمعظمها في موسم واحد – ويتأرجح تصرف النهر في الوقت الحاضر حول المليار متر مكعب شهريا في الشهور من يناير إلى يونيو ثم يرتفع فجأة حتى يصل إلى 16 مليار متر مكعب في شهر اغسطس ثم يعود إلى الهبوط تدريجيا إلى أقل من 2 مليار متر مكعب في شهر ديسمبر – ويأتي لذلك أكثر من 85% في الأشهر الأربعة من يوليو إلى اكتوبر – ولو أن اثيوبيا بنت السدود المفتوحة على النيل الأزرق وحجزت لنفسها 6 مليارات متر مكعب فإنها ستطلق الباقي بمعدل 3.6 مليار متر مكعب في الشهر (بعد حجز 3% من الماء سيضيغ في البخر في خزاناتها) لاستخدامات مصر والسودان. واطلاق الماء بانتظام من اثيوبيا سينهي ظاهرة الفيضان والذبذبات التي تأتي معه في خزان السد العالي مما سيحمي السودان من غوائل الفيضانات العالية ومما سيقلل من ارتفاع الماء في بحيرة ناصر إلى الحد الذي سيقلل البخر منها بما يقارب ما ستأخذه اثيوبيا من مياه – وبالاضافة إلى ذلك فإنه سيمنع وصول الطمي إلى السودان ومصر مما سيرفع من كفاءة سدود السودان على النيل الأزرق والتي يتجمع فهيا الطمي في الوقت الحاضر ويقلل من سعتها كما سيساعد مصر على الحفاظ على بحيرة ناصر من الاطماء وقد سبق القول بأن الطمي الذي يحمله الفيضان في الوقت الحاضر يتجمع عند الشلال الثاني مع حدود مصر والسودان بكميات قد تعين سريان النهر.
على أن مثل هذه السدود يمكن أن تكون لها أضرار كبرى فبالإضافة إلى صعوبة نتائجها على خانق النيل الأزرق العميق وذي الانحدار الكبير وارتفاع تكلفتها فإن آثارها الجانبية ستكون كبيرة جدا ذلك لأن منع وصول الطمي لمصر والسودان سيكون سببا لتعرضهما إلى أخطار كبرى ستفوق بكثير ما يمكن أن يجنياه من فوائد فحجز الطمي سيغير من نظام النهر وسيطلق جزءا من تلك الطاقة التي كان النهر يصرفها في حمله فتزيد من قدرته على النحر سواء على جانبيه أو لتعميق مجراه مما سيجعله نهرا صعب المراس ستحتاج حماية جوانبه والأراضي التي تحفه والمنشآت المقامة عليه إلى أكبر الجهد والمال ودون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن النظرة الفاحصة لما يمكن أن تجلبه مثل هذه السدود سواء في مجال الزراعة أو الطاقة الكهربائية لا يبدو مبررا للتكاليف الباهظة التي ستتحملها دول الحوض لبنائها – ويمع الاقتصاديون على أن زمان بناء السدود الكبيرة قد راح أوانه بسبب انخفاض عائد الزراعة وعدم امكان دول الحوض من الاستفادة من الطاقة الكهروائية الكبيرة المولدة بسبب أنه ليس لديها قوة استيعابية لها مما سيجعل أمر تصديرها إلى خارج دول الحوض بل وإلى خارج القارة الأفريقية واردا.
ولما كانت آثار مبادرة حوض النيل لم تتضح حتى اليوم فقد رأيت أن أبقي على الفصل التالي والخاص باستخدامات الأرض والمياه في دول الحوض على حال بعد ادخال تعديلات بسيطة عليه – ويصف الفصل هذه الاستخدامات في اطار الوضع القائم حاليا وهو وضع معرض للتغيير الكامل كما وضحت فيما سبق.
إستخدمات الأرض والمياه في دول الحوض
رأينا عند الحديث عن استخدامات مياه النيل في الجزء الثالث من هذا الكتاب أننا شغلنا باستخدامات المياه في عمليات الزراعة فقط، وأننا لم نول أي اهتمام لاستخدامات المياه في الأغراض الأخرى كالصناعة أو الاستخدام المنزلي، ويعود السبب في ذلك إلى أن هذه الاستخدامات كانت قليلة جدا ولم تلعب أي دور يذكر في ميزانية مياه النهر. وتسحب دول الحوض من مياه النيل حوالي 78 بليون متر مكعب يستخدم 69 بليون متر مكعب منها في الزراعة بنسبة 88% من جملة المياه المسحوبة من النهر. وتستهلك مص وحدها 71% من هذه الكمية كما يستهلك السودان 23% منها وتستهللك باقي دول الحوض مجتمعة 6% منها.
وتستخدم دول الحوض 9.4% من كمية المياه المسحوبة من النهر في الاستخدام المنزلي وحوالي 2.4% من هذه الكمية في الصناعة وتبريد المولدات الكهروحرارية.
وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن نمط استخدامات المياه في الدول الصناعية يختلف كلية عن النمط الذي يسود دول حوض النيل، ففي الولايات المتحدة يتم استخدام المياه في الزراعة والصناعة والاستخدام المنزلي بنسبة 33، 54، 13 في المائة من جملة الماء المستهلك على التوالي. وفي اوروبا بنسبة 35، 38، 27 في المائة.
ويمكن القول أن الزراعة المروية لا تلعب دورا هاما في نشاطات معظم دول الحوض، ولكنها تلعب دورا أساسيا في مصر التي تزرع بطريق الري 6.2 بليون فدان من الأراضي القديمة بالاضافة إلى 750 ألف فدان من أراضي الاستصلاح تبلغ مساحتها المحصولية أكثر من 13 مليون فدان. وهي تمثل 73% من جملة الأراضي المروية على طول حوض النيل من منبعه حتى مصبه. وتزرع السودان من مياه النيل حوالي 4.2 مليون فدان بنسبة 23% من الأراض المروية في حوض النيل، أما باقي دول الحوض فإنها جميعا تزرع مالا يزيد عن 750.000 فدان بطريق الري بنسبة 4% من جملة الأراضي المروية بالحوض. وتعتمد معظم دول الحوض على الزراعة المطرية، وتبلغ جملة الأراضي الصالحة لمثل هذه الزراعة حوالي 92 مليون فدان (=38 مليون هكتار)، يقع حواي ثلثها في السودان، وثلثها في اثيوبيا، وثلثها الأخير في باقي دول الحوض. كمات تعتمد معظم دول الحوض على الرعي وتبلغ مساحة الأراضي الصالحة لهذا النشاط الهام أكثر من 520 مليون فدن (=215 مليون هكتار) في حوض النيل، يقع حوالي 45% منها في السودان و20% منها في اثيوبيا، و18% في كينيا، و16% في تنزانيا وأقل من 1% في اوغنده.
وتشكل الزراعة النشاط الأساسي للعمالة في معظم دول الحوض،ويختلف حجم العاملين فيها بالنسبة لجملة القوى العاملة من بلد إلى آخر. فهي حوالي 80% من جملة القوى العاملة في اوغنده وتنزانيا واثيوبيا، وحوالي 28% من القوى العاملة في مصر ويسهمل الجزء العامل في الزراعة من القوى العاملة في الناتج القومي الإجماي بأقل من حجمه. ففي مصر يسهمل العاملون في الزراعة بحوالي 21% فقد من هذا الناتج، وفي اوغنده وتنزانيا يسهمون بين 44% و48% منه.
وفي الجدول التالي بيان بمساحة أراضي مختلف دول الحوض واستخداماتها
جدول رقم 3 – أراضي بعض دول حوض النيل واستخداماتها (المساحة بالألف هكتار فيما عدا المساحة الكلية فهي بالألف كيلو متر مربع)
البلد المساحة (ألف كم2) مساحة الأرض الزراعية مساحة الأرض المروية ونسبته المئوية من مساحة الأرض الزراعية مساحة أراضي المراعي مساحة أراضي الغابا أراضي أخرى* مصر 995 5700 560 (98%) - 31 96934 السودان 2376 12500 1750 (14%) 98000 45400 79400 اثيوبيا 1100 13930 140 (1%) 45000 27300 23900 كينيا 569 2424 490 (2%) 38100 2380 14000 تنزانيا 886 5240 104 (2%) 35000 41200 7200 اوغندا 200 6705 - (صفر) 1800 5600 5800
(*) تمثل الصحاري والبرك والمناطق المبنية أو المغطاة بالحشائش ولا تستخدم كمراعي.
وفي الجدول التالي بيان بجملة القوى العاملة في بعض دول الحوض الهامة وتوزيعها على مختلف النشاطات ومقدار اسهام كل نشاط في جملة الناتج القومي. وقد وضعت في الجدول الأعداد المقابلة للولايات المتحدة الأمريكية ولمجموع اوروبا للاستدلال على النط الذي يسود في الدول الصناعية الكبرى.
(*) تمثل الصحاري والبرك والمناطق المبنية أو المغطاة بالحشائش ولا تستخدم كمراعي.
وفي الجدول التالي بيان بجملة القوى العاملة في بعض دول الحوض الهامة وتوزيعها على مختلف النشاطات ومقدار اسهام كل نشاط في جملة الناتج القومي. وقد وضعت في الجدول الأعداد المقابلة للولايات المتحدة الأمريكية ولمجموع اوروبا للاستدلال على النط الذي يسود في الدول الصناعية الكبرى.
ومتوسط ناتج الفدان من الأراضي المروية في مصر هو 750 دولار وفي السودان حوالي 650 دولار أما فدان الأرض المطرية فيتراوح انتاجه بين 60 دولار في اثيوبيا إلى 400 دولار في كينيا وحوالي 150 دولار في تنزانيا.
يتم توزيع مياه النيل في الوقت الراهن بين دول الحوض بما يتناسب ومساحة الأراضي المروية فيها، إلا أن هذا النمط من التوزيع يتعرض الآن إلى ضغط شديد نظرا لتزايد الطلب على ماء النهر، ومن المنتظر أن يتزايد هذا الضغط مع مرور الأيام نتيجة تزايد عدد السكان الذي ينتظر أن يتزايد عددهم إلى الضعف خلال العقول الثلاثة المقبلة، ونتيجة انتقال أعداد كبيرة منهم والذين كانوا يعيشون على الزراعة المطرية إلى ضفاف النهر. ويأتي هذا الانتقال ليس فقط نتيجة الانجذاب إلى حياة الاستقرار علىضفاف النهر، بل والتغلب على ما جلبته الأحوال المناخية المتقلبة التي انغلقت أمامها طرق النجاة التقليدية منها. فدفعت بالكثيرين مما كانوا يعتمدون في معائشهم على الزراعة المطرية إلى الهجرة إلى ضفاف النهر.
وعندما أصاب الجفاف منطقة الساحل الأفريقي في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين لم يجد سكان المنطقة طريقا للخلاص غير الهجرة إلى وادي النيل، وكانوا في دورات الجفاف السابقة يتقلون مع جبهة الأمطار فقد كانوا من الرحل يتبعون المطر أينما ذهب.وقد أصبح هذا الأمر صعبا الآن بعد أن نشأت في منطقة الساحل دول كثيرة ذات حدود وحرس وتأشيرات للدخول مما أوقف التحرك الحر في المنطقة، ومما زاد في اعاقة حركة السكان انتشار الحروب الأهلية وتفاقم النزاعات القبلية واتساع عمليات تهريب البضائع والأسلحة وازدياد التحركات العسكرية في السنوات الأخيرة. وكانت منطقة الساحل مكانا لنوع من الحياة هو الآن في طريقه إلى الاختفاء. كانت حياة رومانسية يتنقل الناس فيها دون حدود يعيشون حياة كفاف بل شظف في أغلب الأحيان. ولكنهم كانوا يتمتعون بسعة المكان وهدوء ونظافة البيئة والحرية بلا حدود. ولم يعد أمام هؤلاء اليوم اذا ما حل الجفاف بأرضهم غير الهجرة لضفاف النهر واللجوء إلى الزراعة المروية.
واذا أردنا أن نبين بالأرقام كيف تحول من برية منطقة الساحل والتي كانت قفرا في كليتها حتى منتصف القرن العشرين إلى منشآت العمران، فإننا يمكنا القول أن قرابة 58% من مساحتها قد أصبح مطروقا، به بناء أو طريق أو مطار أو خط للسكك الحديدية أو الكهرباء. وقد حدث ذلك كله في ظرف السنوات الثلاثين بين سنة 1960 وسنة 1990.
ولم يتوقف الأمر عند نزوح سكان الصحارى ومنطقة الساحل من مناطق الزراعة المطرية إلى ضفاف النهر بل وإلى نزوح الكثير منهم إلى المدن التي زاد عدد سكانها زيادة ضخمة. ويبدو هذا الاتجاه في أجلى صوره في دول أعلى حوض النيل، ففي الفترة بين سنة 1960 وسنة 1990 زاد سكان المدن في تنزانيا سبع مرات من 4.7% من جملة السكان إلى 32.6% من جملتهم، وفي كينيا أكثر من ثلاث مرات من 7.4% إلى 23.6% من جملة السكان، وفي السودان من 10.3% إلى 22% من جملة السكان.
وقد أدت هذه التغيرات الديموجرافية الكبيرة إلى اهتمام دول الهوض بنهر النيل كمصدر لزيادة الغذاء. وسنحاول في الصفحات التالية أن نلخص أفكار دول الحوض وخططها، لاستغلال مياه النيل.
مصر والخطة القومية للمياه
ستظل مصر ولمدة طولة مقبلة الدولة الرئيسية التي تستفيد من مياه النيل، فالنهر بالنسبة لها هو المصدر الأساسي لمياهها والذي تتضائل أمامه جميع المصادر الأخرى، والتي تشمل من ضمن ما تشمل مخزون المياه الأرضية الذي يمتد تحت جزء كبير من سطح مصر، وهو على الرغم من كبره إلا أ، القابل للاستخراج منه قليل اذا ما قورن باحتياجات مصر المائية. ويقع الجزء الأكبر من هذا المخزون تحت سطح الصحراء الغربية وشمال سيناء وبقدر أقل أهمية في عدد من مصبات وديان الصحراء الشرقية وجنوب سيناء, ويمتد خزان المياه الأرضية بالصحراء الغربية لمسافات شاسعة، وهو من الحجر الرملي ذي النفاية العالية والحامل للماء بين حبيباته. وكان هذا الخزان موضوع دراسات عديدة وعميقة كان من أشملها ما قامت به مؤسسة تعمير الصحاري ومعهد بحوث المياه الأرضية وأخيرا هيئة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة التي قامت في أواخر السبعينات بجمع البيانات الأساسية عن هذا الخزان وعمل نماذج رياضية لكمية المياه التي يمكن استخراجها منه، فوجدت أنه من الممكن زيادة مقدار السحب من هذا الخزان في حدود بليون متر مكعب في السنة للخمسين عاما المقبلة، هذا اذا ما اقتصر السحب على الطبقات التي لا يزيد عمقها عن مائة متر مكعب من السطح. وهو الأمر الذي تحقق في التسعينات عندما تضاعف مقدار ما يسحب من الخزان حتى وصل إلى حوالي 950 مليون متر مكعب في السنة على النحو التالي (بالمليون متر مكعب في السنة): من آبار الخارجة (95)، والداخلة (395)، والفرافرة (185)، والبحرية (140)، وسيوة (135). وجاءت أكبر الزيادات في منطقة الفرافرة لبدء استغلال مياهها الجوفية على نطاق واسع وارتفع المسحوب من خزانها إلى 185 مليون متر مكعب في السنة.
ويلاحظ أن كميات المياه المقترح سحبها من الخزان الجوفي محدودة وذلك لطبيعة هذا الخزان الذي ثبت أن مياهه غير متجددة لا يحل محلها ما يعوض المسحوب منها. فالمياه الأرضية في هذا الخزان مياه قديمة تجمعت خلال فترات العصور المطيرة التي مرت بتاريخ مصر القديم. وقد ذكرنا طرفا عن هذه العصور خلال حديثنا عن نشأة وتطور نهر النيل وعند الكلام عن تقلبات مياه النيل في العصور الغابرة. وكان المشتغلون بعلوم المياه ولمدة طويلة يعتقدون أن مياه الخزان متجددة يعوض المسحوب منها ما يأتيها من أمطار هضبة تبستي ومنطقة الساحل الأفريقي بالجنوب.
أما عن مخزون المياه الأرضي بالصحراء الشرقية وجنوب سيناء فهو قليل لطبيعة وتضاريس هاتين المنطقتين الجبليتين، حيث تنحدر المياه على سفوح جبالهما إلى البحار أو إلى وادي النيل، ولا يبقى منها إلا القليل لكي يتخلل صخور سهولها ويخزن تحت السطح. أما شمال سيناء فأرضها منبطحة يأتي إليها أكثر من ثلثي المياه التي تتساقط على شبه جزيرة سيناء عن طريق عدد من الوديان من أهمها وادي العريش الذي يصفي أكثر من ثلثي أراضي جنوب سيناء، كما يتساقط عليها المطر بمعدل يزيد عن 200 ملليمتر في السنة. ويقدر متوسط كمية المياه التي تتساقط على حزامن الساحل الشمالي في مصر حوالي 1.8 بليون متر مكعب في السنة، يستخدم الجزء القابل منها في زراعة الشعير وبعض المحاصيل الشتوية الأخرى.
وقد حدثت في الماضي القريب محاولات لتخزين مياه السيول ببناء سدود على بعض أودية سيناء إلا أن هذه المحاولات منيت بالفشل نظرا لمجئ السيول في فترات متباعدة وبغير انتظام ، وفي كميات هائلة وبطريقة مفاجئة تهز أقوى البنيان، ولا تختلف نتائج محاولات المصريين المحدثين في هذا المضمار عن نتائج محاولا أسلافهم.
المصدر الوحيد للمياه لذلك الجزء المسكون من أرض مصر هو النيل. وينظم السد العالي دخول المياه إليها في حدود 55.5 بليون متر مكعب في السنة تستخدم حاليا في استفياء حاجات الشرب والاستخدام المنزلي والصناعة والزراعة.
وكان أمر الاحتياجات المستقبلية لمصر عن المياه موضوع دراسات متعددة منذ بدء القرن العشرين. وفي سنة 1977 رأت الحكومة المصرية أن تكلف البنك الدولي بالاشتراك مع وزارة الأشغال المصرية وبتمويل من برنامج الإنماء للأمم المتحدة بوضع خطة قومية للمياه للاستخدام الأكفأ للمياه المتاحة ولتقدير ما تحتاجه البلاد في مستقبل الأيام وتدبير الطرق للحصول عليها. وقد كان وضع الخطة أمرا تكتنفه مصاعب عديدة، فالبيانات الأساسية عن استهلاك المياه متناثرة يصعب الحصول عليها وهي متضاربة في الكثير من الأحيان، كما أن أهداف الخطة تغيرة لعدة مرات حتى استقر الرأي على عمل ثلاث خطط بديلة تبعا لكمية المياه التي ستتاح لمصر في المستقبل أو التي ينبغي عليها أن تدبرها. واستهدف البديل الأول وضع خطة لاستخدامات المياه في حدود المتاح لمصر في الوقت الحاضر أو ما سيمكن الحصول عليه عند الانتهاء من المشروعات تحت التنفيذ (مثل قناة جونجلي التي كان يؤمل الانتهاء منها في منتصف الثمانينات من القرن العشرين) وبعد أن يخصم من هذه الكمية ما تحتاجه الصناعة والاستخدام المنزلي وري الأراضي القائمة وأي نشاظ آخر ويترك الباقي لعملية استصلاح الأراضي بغرض تحديد المساحات التي يمكن عمليا اتمام استصلاحها. أما البديل الثاني فكان بغرض معرفة كمية المياه التي تحتاجه مصر لو أنها استهدفت زيادة في قطاع الزراعة بمعدل 4.9% على أن يكون 1.9% من هذه الزيادة من الأراضي الجديدة. وكان هدف البديل الثاث كالثاني لو أ، مصر استهدفت زيادة في قطاع الزراعة بمعدل 3% على أن يكون 0.5% من هذه الزيادة من الأراضي الجديدة.
ولعل من أهم منجزات الخطة هو أنها جمعت البيانات المتناثرة عن المياه، وأنها نظمت فريق عمل أصبح له وعي بقيمة المياه وضرورة ادارته بطريقة كفوءة. وهذا الوعي كان ولا يزال ينقص متخذي القرار في مصر الذين كانوا كعامة الناس ينظرون إلى المياه على أنه معين لا ينضب وهبة من الله لا ينبغي حجزه عن أحد وهو الكهواء لا يصح بيعه أو تثمينه أو النظر إليه كسلعة من السلع. ولا عجب لذلك أن عرض رئيس سابق لمصر أو يوصل ماء النيل لإسرائيل كإيماء لحسن النوايا، وأن يقف واحد من أهم الناب في مجلس الشعب مناديا بتوصيل الماء للسعودية عبر الأنابيب، وأن يتقدم المستثمرون بالمشاريع لمد مياه النيل إلى الصحراء.
فاذا كان لوضع الخطة القومية للمياه من فائدة فهي أنها خلقت مجموعة مؤثرة من رجال وزارة الأشغال والموارد المائية لهم وعي كبير بقيمة المياه عرفوا أن المتاح لمصر يكفي حاجتها. وهو بالقطع لا يكفي للتوسع المطلوب في عمليات استصلاح الأراضي اللازمة لتقليل الكثافة الهائلة للسكان في أرض مصر المسكونة، حيث لا يزيد نصيب الفرد من الأرض عن سبعمائة متر مربع على الفرد أن يدبر منها معاشه بالكامل، وأن يعطي منها جزءا لمختلف المرافق العامة اللازمة لحركته أو تعليمه أو العناية بصحته وجزءا آخر قد محا كل أثر لعمليات استصلاح الأراضي التي حدثت خلال الثلاثين سنة الماضية على الرغم من الجهد والمال الذي أنفق عليها، فالتوسع في استصلاح الأراضي ليس هامات لتوسيع قاعدة الزراعة في مصر فقط بل ولتوسيع الرقعة التي يعيش عليها الناس ويتحركون.
إستخدمات المياه في مصر
سبق أن بينا أن دخل المياه في الجزء المسكون من أرض مصر هو ما يأتيها من النيل عند أسوان، فليس لهذا الجزء دخل آخر يمكن أن يضيف اليه شيئا يذكر. فالبلاد لا تسقط عليها أمطار مؤثرة وليس لديها مياه تحت سطحية يمكن أن تتسرب إلى النهر، أو أي مصدر آخر للمياه. ويستهلك هذا الدخل في خمسة مخارج: (1) ما يضيع نتيجة البخر وعمليات النقل. (2) ما يضيع من دورة الماء في عمليات الصناعة والاستخدام المنزلي. (3) ما يصب في البحر دون استخدام خلال موسم السدة الشتوية بغرض تأمين الملاحة في النهر أو لتوليد الكهرباء. (4) ما يستخدمه النبات في الأراضي الزراعية في عمليات البناء والنتح والبخر. (5) ما يصرف إلى البحر أو البحيرات الداخلية من ماء ما لم يستخدمه النبات.
ويقدر ما يضيع من ماء نتيجة البخر والتسرب خلال عمليات نقل المياه في المجرى الرئيسي للنهر وفي الرياحات والقنوات والمساقي بحوالي 2 بليون متر مكعب سنويا.
الاستخدام المنزلي
يختلف تقدير الكمية التي تسحب بغرض الاستخدام المنزلي من تقرير إلى آخر وذلك لصعوبة الحصول على البيانات الخاصة بهذا الاستخدام. وقد أكدت هذا الأمر الدراسة الخاصة باستخدامات المياه للأغراض المنزلية (الدراسة رقم 9 من دراسات الخطة القومية للمياه). وجاءتقدير الاستخدام نتيجة حصر عدد المنازل في المدن والريف تبعا لطريقة وصول مياه الشرب إليها، وقد جاء في التقرير عن سنة 1976 أن 59% من الوحدات السكنية بالمدن و3% من هذه الوحدات في الريف بداخلها صنبور للمياه، وأن 28% من وحدات المدن و61% من وحدات الريف السكنية بجوارها صنبور للمياه يمكن الوصول إليه فهو إما في المبنى المقام به هذه الوحدات أو قريب منه وأن 13% من وحدات المدن و36% من وحدات الريف السكنية ليس لها سبيل للوصول الى صنبور المياه فمبانيها واقعة خارج الشبكة القومية للمياه. وقدر التقرير متوسط استخدام المياه للأغراض المنزلية في سنة 1976 بحوالي 114 لترا للفرد في اليوم، والاستخدام الكلي من شبكة المياه بحوالي 1.5 بليون متر مكعب في السنة. وقد أعيد حساب استخدام الفرد من المياه في احصاءات سنة 1982 لكي يصبح 140 لترا في اليوم كما أعيد حساب جملة الاستخدامات كي تصبح 2.2 بليون متر مكعب في السنة. ويلاحظ في هذه الاحصاءات أن متوسط ما يستخدمه الفرد في اليوم في القاهرة هو 332 لتر في اليوم وهو ما يساوي 240% من متوسط الاستخدام على مستوى القطر كله، وأن ما تسهلكه القاهرة وحدها من المياه يمثل 57% من جملة استهلاك مدن مصر مجتمعة و46% من جملة استهلاك القطر كله.
وليس هناك بيان يقيني عن مقدار الماء المستخدم في الأغراض المنزلية في مطلع تسعينات القرن العشرين، وتقدر الخطة القومية للمياه ذلك الاستخدام بحوالي 3.8 بليون متر مكعب بواقع 200 لترا للفرد في اليوم، يقدر ما يخرج منها من دورة الماء حوالي 2.2 بليون متر مكعب إما كفاقد أو كمياه ملوثة للدرجة التي تجعل إعادة استخدامها صعبة وباهظة النفقة.
الاستخدام الصناعي
تختلف التقديرات مرة أخرى عن كمية المياه المتسخدمة في الصناعة في مصر، على أن مسحا ميدانيا نشر عن سنة 1976 في التقرير التاسع للخطة القومية للمياه (1981) يذكر أن كمية المياه المستخدمة في مصانع الصعيد الكبرى (أسوان - كوم أمبو – أدفو – أرمنت – قوص – دشنا – نجع حمادي – أسيوط – أبو قرقاص – بني سويف – الفيوم) هي حوالي 185 مليون متر مكعب في السنة. وتلك المستخدمة في الصنعات بجنوب القاهرة (حلوان – طرة – البدرشين – البساتين) هي حوالي 915 مليون متر مكعب في السنة، والمستخدمة في مصانع شمال القاهرة (القاهرة – شبرا الخيمة – بهتيم – مصطرد – أبو زعبل) هي حوالي 450 مليون متر مكعب في السنة، والمستخدمة في الوجه البحري (بنها – الزقازيق – المنصورة – المحلة الكبرى – طنطا – كفر الزيات – كفر الدوار – الاسكندرية) هي 415 مليون متر مكعب في السنة، فيكون المجموع هو حوالي 2 بليون متر مكعب في السنة. ولما كان التقرير يعترف بأن دراسته لم تشمل المصانع جميعا فإننا سنأخذ رقما متوسطا بين أعلى وأدنى رقمين يتواردان في تقارير الخبراء ولنقل 3 بليون متر مكعب في السنة. وتعود هذه المياه مرة أخرى إلى النيل في معظمها ، وإلى المصارف في أقلها، ولا يضيع منها من دورة الماء إلا نصف بليون متر مكعب فقط. وبطبيعة الحال فإن المياه العائدة إلى النيل محملة بمواد ملوثة من الزيوت والشحوم والأملاح والكيماويات العضوية السامة والأصباغ والفينول والمعادن الثقيلة التي يستقر بعضها في النهاية في التربة التي يزرع فيها المصريون ما يأكلون، كما أن بعضها الآخر يمتصه النبات والحيوان الهائم في النيل، وبعضها الآخر يتحلل من تلقاء نفسه. ولم تتم حتى الآن دراسة كاملة عن العمليات لاحييوة والكيميائية التي تحدث في النهر حتى يمكن معرفة مصير كل هذه الملوثات التي تلقى فيه، والوقت اللازم لتحلل ما يتحلل منها. ويمكن القول بصفة عامة، كما سبق أن بينا في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، أن القياسات القليلة والكمية لبعض المكونات والخواص ذات الأهمية لتحديد مقدر التلوث تثبت أن النيل ملوث بالفعل وخاصة في أجزائه الدنيا.ويجتهد جهاز البيئة في مصر لإصدار التشريعات المناسبة لتفادي هذا التلوث. على أنه حتى يجئ التشريع عمليا وقابلا للتطبيق فإن عليه أن يكون مدعما بالدراسات التي تحدد كمية المواد الملوثة التي يمكن إلقاؤها في النيل دون أن تفسد مياهه وهو أمر غير معرف بأي قدر من الدقة حتى الآن.
استخدامات الملاحة وتوليد الكهرباء
يستخدم مجرى النيل الرئيسي والقنوات والمصارف الأساسية في الملاحة التي تكفي لتأمينها كمية الماء التي تطلق في النهر بغرض استيفاء متطلبات الزراعة في شهور السنة جميعا ما عدا الشهور التي تقل فيها متطلبات الزراعة من الماء، وفي فترة السدة الشتوية التي تقفل فيها القنوات كلية، وتمتد هذه الفترة عادة لشهر واحد (يناير – فبراير) يطلق فيها من الماء بغرض تأمين الملاحة في النيل حوالي بليون متر مكعب تذهب كلها في الوقت الحاضر إلى البحر دون الاستفادة منها.
وتكفي الكمية التي تطلق في النهر من أسوان لإستيفاء حاجة الزراعة لتشغيل محطات الكهرباء على مدار السنة إلا أثناء فترة السدة الشتوية حين يطلق حوالي 2.8 بليون متر مكعب إضافية لتشغيل المحطات تروح كلها إلى البحر دون أن تستفيد منها الزراعة في الوقت الحاض. وقد أوقف إطلاق هذه الكمية الاضافية منذ هبوط منسوب التخزين في بحيرة ناصر في سنوات الفيضانات الشحيحة في السبعينات من القرن العشرين مما أثر على كمية الكهرباء المولدة من السد عالي. وقد سبق القول أن عدم تطبيق القاعدة الدنيا لتشغيل الخزان في فترة الفيضانات الواطئة قد تسبب في هذا التوقف.
ويمكن القول لذلك أن جملة ما يفقد في الوقت الحاضر إلى البحر يتراوح بين 1.5 و3.8 بلون متر مكعب في السنة تبعا للمتاح في الخزان وما يقرره المسئولون بشأن توليد الكهرباء. وتعمل مصر بكل جد للاستفادة من المياه التي تطلق وقت السدة الشتوية وتذهب إلى البحر بتحويلها إلى منخفضات الدلتا والبحيرات لتخزينها واعادة استخدامها.
الاستخدام الزراعي
الزراعة هي أكبر مستخدم للماء وستظل كذلك لفترة طويلة مقبلة. فالمياه التي تصل إلى مصر كلها فيما عدا تلك التي تفقد خلال عمليات الاستخدام المنزلي والصناعي وتلك التي تضيع بالبخر أو إلى البحر خلال موسم السدة الشتوية والتي تبلغ في مجموعها ما بين 6.2 و8 بلايين متر مكعب في السنة تذهب إلى الزراعة. ويقدر هذا الباقي بين 47 و49 بليون متر مكعب في السنة.
وتستخدم هذه المياه في ري الأراضي الزراعية القديمة وكذلك في ري الأراضي الجدية تحت الاستصلاح وبالرغم من هذا الاختلاف الكبير في تقدير مساحة هذه الأراضي يمكن أن نقبل في حالة الأراضي الزراعية القديمة الحصر الفعلي الذي تقوم به وزارة الزراعة للمساحة المحصولية للأراضي والتي بلغ إجماليها 11.458 مليون فدان محصوليا في سنة 1988 تزرع في مساحة 6.1 مليون فدان. وطبقا لهذا الحصر فإن الأراضي القديمة لم تزد إلا قليلا خلال العقدين الأخيرين إذ يبدو أن الأراضي التي استصلحت في فترة الستينات وضمت إليها بعد أن وصلت حدية الانتاج فقد عوضت ما فقدته الأراضي الزراعية باتساع رقعة المدن وبناء المنشآت أو تجريف الأرض. أما التركيبة المحصولية فقد اختلفت بعض الشئ، فإذا أخذنا سنة 1971 كأساس للمقارنة مع سنة 1988 فإننا نجد أن مساحة الأرض المزروع قطنا قد تراجعت من 14% من جملة الأراضي المحصولية في سنة 1972 إلى 9 % في سنة 1988 وإلى 7.2% في سنة 1998، كما انخفضت أيضا مساحة الأرض المنزرعة أرزا من 11% إلى 9% ثم قفزت مرة أخرى إلى 12% في سنة 1998 أما الأراضي المزروعة قمحا فقد زادت من 11% إلى 13% ثم إلى 195% في سنة 1998، وكذل الأراضي المزورعة بالخضروات والتي قفزت مساحة عرواتها الثلاث الشتوية والصيفية والنيلية من 7% إلى 10% وظلت على هذه النسبة في سنة 1998 من جملة الأراضي المحصولية واستمر البرسيم والذرة (الشامي والرفيعة) يحتلان 15% و20% من جملة الأراضي . ومن أهم التغيرات التي جاء بها السد العالي تحول زراعة الذرة الشامية من محصول نيلي فقط إلى محصول صيفي في أغلبه وكان هذا التحول واحدا من أبرز التغيرات الزراعية التي أتحها امكان المناورة في تعاقب الماحصيل بعد بناء السد.
ويظهر الجدول التالي مقدار التغير الذي حدث في مساحة المحاصيل الأساسية في مصر بين سنة 1972 وسنة 1988 و1988. وقد تقصلت مساحة الأرض التي تحتلها هذه المحاصيل من 77% إلى 65% ثم إلى 6% من مساحة الأرض الكلية على حساب محاصيل غير تقليدية أخرى.
ويختلف تقدير ما تحتاج الأرض القديمة من ماء حسب الرقم الذي يستخدم في الحساب لمتوسط ما يحتاجه فدان الأرض المحصولية.وتتراوح أرقام المتوسطات تراوحا كبيرا. ويأتي أدناها نتيجة القياسات الميدانية التي قامت بها وزارة الأشغال والموارد المائية لكمية المياه التي تصل أرض كل محصول في مختلف محافظات مصر، ومنها استخرج المتوسط الحسابي لما يحتاجه فدان المساحة المحصولية بحوالي 3280 مترا مكعبا في السنة. وتأتي أعلى الأرقام من وثائق الخطة الخمسية الثانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (1988/87 – 1992/91) والتي قدر فيها متوسط ما يحتاجه فدن المساحة المحصولية في الأراضي القديمة بحوالي 4480 مترا مكعبا في السنة. ويبدو لي أن المتوسط الأدنى والمبني على قياسات ميدانية هو الأقرب إلى الصحة. فهو يتقارب مع كمية المياه التي قدرتها الخطة القومية للمياه لاحتياجات الأراضي القديمة في السنة بحوالي 45.4 بليون متر مكعب .
ويتضح من القياسات التي أوردها المهندس ابراهيم زكي قناوي أن المحاصيل المذكورة بالجدول السابق هي من أكثر المحاصيل استهلاكا للمياه، فقد بلغ متوسط ما يحتاجه الفدان في السنة لزراعته بقصب لسكر إلى 17800 مترا مكعبا، وبالأرز إلى 8870 مترا مكعبا وبالقطن إلى 3620 مترا مكعبا، وبالذرة (شامي ورفيعة) إلى 3420 مترا مكعبا، وبالبرسيم المستديم إلى 3260 مترا مكعبا، وببرسيم التحريش والربابة إلى 1900 مترا مكعبا. وتستهلك هذه المحاصيل الخمسة حوالي 32.5 بليون مترا مكعبا من الماء، وتستهلك أراضي البساتين وهي من المحاصيل العالية في استهلاك الماء حوالي 4.2 بليون مترا مكعبا ، أما باقي المحاصيل التي تمثل حوالي 19% من مساحة الأراضي في سنة 1988 فهي تستهلك حوالي 8.5 بليون متر مكعب. وينبغي أن تؤخذ المتوسطات التي قبلناها عن كمية المياه التي تستهلكها مختلف المحاصيل على أنها تقريبية، وتختلف تقديراتها هي الأخرى من مؤلف إلى آخر.والحقيقة أن حساب المقنن المائي لأي محصول هو عملية مقعدة اذ تؤثر فيه عوامل عديدة من بينها نوع التربة وقدر تعرض الموقع للشمس ونوع المناخ وعدد الريات التي تيروى بها النبات وكمية الأسمدة التي تعطى له وغير ذلك من العوامل.
أما عن الأراضي الجديدة فيصعب أيضا تقدير متوسط استهلاكها من المياه. وتبلغ مساحة هذه الأراضي التي استصلحت منذ سنة 1979 حتى سنة 1989 حوالي 747 ألف فدان حسب تقدير البنك الدولي. وكان متوسط استهلاك الفدان من الأراضي الجديدة التي استصلحت في ستينات القرن العشرين حوالي عشرة آلاف متر مكعب من المياه في السنة، فقد كانت تربة معظم الأراضي رملية كما كانت كلهات تروى بالغمر. وفي الخطة الخمسية 1988/87 – 1992/91 قدرت احتياجات فدان الاستصلاح بحوالي 8510 أمتار لأن الكثير من الأراضي أدخلت طرقا جديدة للري بالرش أو النقيط مما يوفر الماء. ومن الممكن أن يكون مجمل استهلاك الأرض الجديدة هو في حدود 6.5 بليون متر مكعب في السنة.
ويمتص النبات حوالي ثلثي الميه المطلقة في الحقل يستخدمها في عمليات البناء ويفرزها في البخر والنتح. وهذه الكمية تخرج من دورة الماء كلية ولا يمكن تعويضها. أما الثلث الباقي فيتسرب إلى باطن الأرض ويدخل الخزان الجوفي للمياه أو يذهب إلى المصارف التي تصب في النهر مرة أخرى كما هو الحال في الصعيد، أو في البحيرات الشمالية والبحر الأبيض المتوسط كما هو الحال في الدلتا. أو في بركة قارون ومنخفض الريان كما هو الحال في الفيوم، وتبلغ هذه الكمية في الوقت الحاضر حوالي 17 بليون متر مكعب يعاد استخدام جزء منها سواء بضخه من الخزان الجوفي (حوالي 3.5 بليون متر مكعب)، وتأتي المياه التي يعاد استخدامها من المصارف من شرق الدلتا (1.4 بليون متر مكعب) ووسط الدلتا (0.4 بليون متر مكعب)، وغرب الدلتا (0.8 بليون متر مكعب) ومن الفيوم (0.9 مليون متر مكعب). وتستخدم مياه المصارف بخلطها بمياه النيل العذبة بنسب تختلف حسب درجة ملوحتها. وفي الوقت الحاضر يقتصر استخدام مياه المصارف ذات درجة الملوحة التي تقل عن1500 في المليون من الأملاح الذائبة.
وفيما يلي ميزانية مياه الزراعة:
ميزانية الري (بالمليون متر مكعب):
المكان داخل خارج داخل للأراضي القديمة 45.5 - الداخل للأراضي الجديدة 6.5 - المستخدم من النبات - 35 الذاهب إلى المصارف - 17
ميزانية مياه الصرف (بالمليون متر مكعب):
المكان داخل خارج الذاهب إلى المصارف 17 - معاد من المياه الأرضية بالضخ - 2.5 معاد من مياه الصرف بالرفع - 3.5 صافي الذاهب إلى البحر - 11
وتوزن ميزانية مياه الزراعة في الوقت الحاضر باستخدام بين واحد وثلاثة ملاىيين متر مكعب من مياه المصارف المعاد استخدامها ومن الضخ إلى الخزان الجوفي.
وفيما يلي موازنة المياه العامة في مصر (بالبليون متر مكعب):
المكان داخل خارج داخل من سد أسوان العالي 55 - استهلاك النبات (بخر ونتح) - 35 داهب إلى المصارف فالبحر - 11 خارج من دورة الماء من الاستخدام المنزلي والصناعي - 2.2 ذاهب للبحر ومطلق لأغراض الملاحة وتوليد الكهرباء - 1.8-3.8 يتبخر من السطح في عمليات النقل - 2 فائض لاستصلاح أرض جديدة - 1.5-3.5
مستقبل إستخدام المياه في مصر
لا يوجد في المستقبل القريب ما ينبئ بأنه سيكون لمصر دخل مائي آخر لجزءها المسكون في وادي النيل غير المياه التي يوفرها لها السد العالي في حدود 55.5 بليون متر مكعب في السنة. وقد يكون من المتصور أن يزيد مصر نصيبها من المياه بحوالي 2 بليون متر مكعب في السنة عندما ينتهي العمل في قناة جونجلي التي تعطل العمل فيها بسبب الحرب الأهلية في السودان منذ سنة 1983، إلا أن هذا رهن بانتهاء هذه الحرب على وجه مرضي، ولكن الشئ الذي يصعب تصوره هو امكان زيادة دخل مصر المائي في المستقبل المنظور عن طريق اقامة المشروعات في أعالي النيل ليس فقط لصعوبة التوصل الى اتفاقيات مع دول الحوض التي هي في حالة من التفكك والضعف لا تنبئ أنها قادرة على القيام بأعمال كبيرة لصالح دول الحضو، بل ولعدم وجود مشروعات كاملة الدراسة للتنفيذ المباشر ولارتفاع تكلفتها المنتزرة ارتفاع قد يجعلها غير اقتصادية على المدى الطويل.
ومن الوجهة العملية فإن الحفاظ على الوضع الراهن الذي يضمن لمصر وصول المياه إليها ينبغي أن يكون محور السياسة المصرية وذلك بإعمال سياسة حسن الجوار والحذر من الأعمال الصغيرة التي يمكن أن تؤثر على جريان المياه إلى مصر من دول أعلى الحوض. ولم يعد القانون الدولي، وبكل أسف، رادعا فقد عادت الدول إلى ممارسة حقوق سيادتها على مصادرها الطبيعية دون أي اعتبار لمصالح الآخرين، وتضرب تركيا كدولة منبع أسوأ الأمثلة على ذلك فقد أثرت مشروعاتها التي أقامتها دون اتفاق مع دول المصب إلى اقلال حصص سوريا والعراق من مياه نهر الفرات بحوالي 40% و80% على الوالي.
ويجئ الخطر الأكبر لتغيير الوضع الراهن من أطمع الدول المحيطة بمصر وعلى الأخص دولة إسرائيل التي تهدف إلى تحويل جزء من حصة مصر في مياه النيل إليها لحل مشكلة نقص المياه فيها وبحجة أن مصر تبدد مياهها ولا تستفيد منها الاستفادة الكاملة. وقد أصبحت قضية المياه في الشرق الأوسط أحد القضايا المثارة على بساط البحث. وفي ظني أن التفريط في مياه النيل أمر غير وارد في الوقت الحاضر فقد أصبح موضوع نقص المياه معروفا لساسة مصر معرفة جيدة.
ويتضح من العرض السابق أن مصر تستطيع أن تستوفي متطلباتها الحالية في حدود ما يأتيها من الماءن وهي قادرة على سداحتياجاتها المتزايدة للاستخدامات المنزلية والصناعية خلال السنوات العشر القادمة دون أن تزيد أرضها زيادة تذكر على صعوبة قبول هذا الاختيار. على أن هذا الأمر يمكن التغلب عليه بزيادة كفاءة استخدام الماء المتاح لها وتوفير الماء اللازم لعمليات الاستصلاح الحيوية لمستقبل مصر. ولا يشك أحد في أن نمط استخدام الماء الحالي فيه هدر للماء وأن مستقبل مصر هو الاقلال من هذا الهدر لاستخدامه في توسيع رقعة الأرض التي يزدحم عليها المصريون في كثافة قل أن يجد الانسان لها مثيلا في بلاد الأرض. وتكتنف عمليات استصلاح الأرض مصاعب كثيرة لأن معظم الأرضي حول النيل والقابلة للاستصلاح تحتاج إلى رفع الماء إليها كما تحتاج إلى جهد كبير لرفع خصوبتها حتى حدية الانتاج. وتعترض الكثير من المؤسسات الدولية والدول المانحة للمعونات على عمليات استصلاح الأرض وتعتبرها غير اقتصادية وتحث مصر علىالابتعاد عنها. وفي رأيي أن هذا الاعتراض غير مبرر وقد سبق أن أثبتت التجربة العملية عدم صحته في حالة مديرية التحرير التي تعتبر أراضيها اليوم من أجود الأراضي المنتجة والتي كانت وقت انشائها محل اعتراض الكثيرين. والواقع أنه لا مفر لمصر من التوسع في الأرض مهما بلغت التكلفة.
وأمام مصر منافذ كثيرة لزيادة الماء المتاح للاستخدام. وأول هذه المنافذ وأوضحها هو تخزين الماء الذي يروح إلى البحر وقت موسم السدة الشتوية والذي قدرناه بما بين 1.8 و2.8 بليون متر مكعب في منخفضات شمال الدلتا. وحتى يتم انشاء هذه الخزانات ينبغي النظر في استخدام هذه المياه في الزراعة التي ينبغي أن تتطور لكي يكون بدورتها محصول ثالث في الفترة بين 15 سبتمبر وأول مارس.
وثاني المنافذ الواضحة لوقف اهدار الماء هو التوسع في استخدام مخزون المياه الجوفية التي رأينا أن مصر تستفيد منها في حدود 2.5 بليون متر مكعب في السنة، ويمكن زيادة المستخدم من هذه المياه إلى 7 مليارات متر مكعب في السنة دون خشية تدخل مياه البحر في الخزان الجوفي، فقد أثبتت الأبحاث الحديثة عدم صحة ما يجمع عليه المفكرون التقليديون من أن كثرة سحب الماء سيؤدي غلى دخول ماء البحر بخزان الدلتا لتحل محل الماء المسحوب منه.وعلى كل فإن لم يتم سحب هذه الكمية من الخزان الجوفي فإنها ستجد طريقها إلى البحر. وكل ما يلزم لاستخدام هذه المياه هو تنظيم حفر الآبار وفقا لمواصفات فنية وعلى مسافات محدودة لمنع التداخل بين دوائر التأثير في الآبار المتجاورة. وستستفيد الأرض من التوسع في استخدم المياه الجوفية بخفض مستوى الماء الأرضي دون الحاجة إلى صرف أفقي وهنا يتحقق هدفان رئيسيان هما الري والصرفمعا.
وثالث المنافذ لايقاف إهدار الماء هو في التوسع في اعداة استخدام مياه الصرف ورفع الكمية التي تستخدم منها من 3.5 يليون متر مكعب إلى 6.5 بليون متر مكعب في السنة، ولدى وزارة الأشغال والموارد المائية الصرف الصحي للمدن بها والاسراع ببناء محطات لتنقية مياه الصرف الصحي واعادة استخدامها. وليس هذا الأمر حيويا لايقاف اهدار المياه فحسب بل ولايقاف اهدار صحة الانسان. واذا تمت تنقية مياه الصرف الصحي فيمكن لمصر أن تضيف إلى المياه المتاحة لها للاستخدام حوالي مليون متر مكعب في السنة.
وأمام مصر بالاضافة إلى هذه المنافذ المباشرة لزيادة المياء المتاح لها منافذ أخرى لزيادة كفاءة استخدام المياه في عمليات الزراعة باعادة النظر في التركيب المحصولي للاستفادة من الهامش الكبير الذي أعطاه تنظيم دخول الماء إليها بعد بناء السد العالي في حرية الحركة في التعاقب الفصلي للمحاصيل على الأرض ومرونة الدورة الزراعية. فلا زالت الزراعة في مصر منحصرة في معظمها في محصولين أساسين أحدهما شتوي وآخر صيفي، مما يجعل نسبة الكثافة المحصولية كما كانت قبل بناء السد في حدود 190% وينبغي النظر في اضافة محصول ثالث في الفترة بين منتصف سبتمبر وأول مارس، ليس فقط للاستفادة من مياه السدة الشتوية كما سبق ذكره بل أيضا لزيادة المساحة الحصولية إلى 18 مليون فدان. ولا زال أمام الزراعة المصرية طريق طويل للقيام بالأبحاث العلمية اللازمة لاستنباط أصناف أقل استهلاكا للماء من الأصناف التي تزرع الآن سواء بانتاج أصناف أقل حاجة للماء أو انتاج أصناف قصيرة المكث في الأرض، وكذلك لاستنباط أصناف مبكرة من القطن والأرز والقمح والذرة لتناسب مناخ مصر ولتمكث مددا أقصر في الأرض.
ولا زال أمام مصر طريق طويل في مجال تحسين ادارة مياهها وطريقة ومواعيد توزيعها واعادة تشكيل "أرانيك" الترع والمجاري المائية حتى تستطيع أن تحمل كمية المياه المنخفضة وتوصيلها لنهاية الترع. ولا شك أن حسن استخدام المياه يؤكد ضرورة الالتزام بالتركيب المحصولي وبمواعيد الزراعة حتى يحكم توزيع الماء دون اهدار . ومن حسن الكلام عن تحرير الزراعة من كل تحكم مركزي، ولكن هذا ينبغي أن ينصب فقط على تحريرها من التحكم السعري وعلى اطلاق أسعار المحاصيل وليس على الالتزام بالدورة الزراعية، لأن تنظيم مناوبات الري بأي كفاءة لا يمكن أن يتم دون التزام المزارعين بزراعة محاصيل محددة في مواعيد محددة.
واذا تم لمصر القيام بهذه العمليات فإنها ستوفر ما بين 10 – 12 بليون متر مكعب في السنة تكفي لاضافة مليوني فدان جديدة هي في اشد الحاجة إليها.
السودان ومستقبل إستخدام مياه النيل
السودان هو أكبر دول الحوض مساحة وأكثرها تنوعا في أقاليمه الجعرافية، فهو يمتد عبر عشرين درجة من درجات العرض بين خطي عرض 23.3 درجة شمال خط الاستواء، وعبر أكثر من 15 درجة من درجات الطول. وتبلغ مساحته حوالي 574 مليون فدان، ثلثها الذي يقع في الشمال صحراء يطولها مطر قليل. وهي امتداد للصحراء المصرية، وثلثاها الباقيات تطولهما الأمطار بدرجات متفاوتة وهي بين 75 ملليمتر و300 ملليمتر في السنة في المنطقة بين خطي العرض 15 و17 درجة شمال، وبين 300 ملليمتر و800 ملليمتر، بين خطي العرض 9، 15 درجة شمالا، وبين 800 ملليمتر و1500 ملليمتر في السنة في المنطقة إلى الجنوب من خط العرض 9 درجة شمالا، وتصلح المنطقة شمال خط العرض 9 درجة شمالا والتي تبلغ مساحتها 350 مليون فدان (أي حوالي 41% من المساحة الكلية للسودان) للزراعة المطرية في تلك الأجزاء التي تزيد فيها الأمطار عن 400 ملليمتر في السنة، وللرعي المتنقل للأغنام والابل في الأجزاء التي تقل فيها الأمطار عن 400 ملليمتر. وتقع هذه المنطقة في اقليم الساحل الذي يتعرض لتقلبات مناخية كبيرة والى دورات جفاف متكررة، أما الاقليم الذي يقع إلى الجنوب من خط عرض 9 درجة شمالا فهو من الأقاليم شبه الاستوائية في جزئه الجنوبي غابات وفي جزئه الشمالي مستنقعات السد (حول بحر الجبر) وماشار (حول نهر السوباط) وبحر الغزال ذات الحشائش العالية والتي تصلح لرعي الماشية التي تعتبر عصب الثروة في هذه المنطقة (الشكل 4-1).
ويعيش في الجزء الشمالي شبه القاحل من السودان 60% من السكان، وهؤلاء يشكلون النخبة الحاكة التي تقرر السياسة العامة للسودان كله بأقاليمه الشاسعة التي تسكنها أجناس مختلفة يدينون بديانات كثيرة ويتكلمون لغات مختلفة. ويتركز الجهد الأكبر لهذه النخبة على تنمية المناطق القاحلة التي يعيشون فيها حول ضفاف النيل على الرغم من الموارد المائية الكبيرة للسودان، فبالإضافة إلى نهر النيل توجد أنهار القاش (الذي يبلغ تصرفه حوالي 800 مليون متر مكعب في السنة) وبركة (الذي يبلغ تصرفه حوالي 700 مليون متر مكعب في السنة) وأنهار جبل مرة بالغرب والتي يبلغ تصرفها مجتمعة أكثر من 300 مليون متر مكعب في السنة. هذا بالإضافة الى خزان المياه الأرضية المتجدد والذي يقع أهم جزء فيه على طول حزام اقليم الساحل والذي يجعل تنمية هذا الاقليم المتسع الأطراف ممكنة بالاعتماد على الزراعة المطرية عندما تجود الأمطار، وعلىمياه الآبار عندما تقل. على أن هذا الأمر لا يأخذ الأولوية في خطط السودان التي تقررها النخبة الحاكمة التي تعيش في الشمال القاحل الذي يعتمد في مجموعه على الزراعة المروية والنيل. وتقدر كمية الأمطار التي تصل إلى الأراضي السودانية القابلة للزراعة المطرية بحوالي 140 بليون متر مكعب يمكن استخدامها مباشرة أو من الآبار بحيث يمكن زراعة ما لا يقل عن 30 مليون فدان بفرض أن الفدان يحتاج إلى حوالي 3000 متر مكعب من الماء.
وتتركز معظم خطط السودان التنموية على التوسع في الأراضي الزراعية المروية لمياه النيل. وقد سبق أن تكلمنا عن تاريخ الزراعة المروية في السودان (انظر الفصل 4-2 من الجزء الثالث من الكتاب) والتوسع المستمر الذي حدث لها وفيما يلي حصر بالأراضي المروية في الوقت الحاضر:
أراضي الجزيرة والمناقل تروى بالراحة | 2.1 مليون فدان |
أراضي أخرى حول النيل الأزرق | 600 ألف فدان |
أراضي حول نهر الرهد | 300 ألف فدان |
أراضي حول نهر العطبرة (خشم القربة) تروى بالراحة | 450 ألف فدان |
أراضي حول النيل الأبيض | 570 ألف فدان |
أراضي حول النيل الرئيسي | 350 ألف فدان |
المجموع | 4.370 مليون فدان |
وفيما عدا أراضي الجزيرة والمناقل وخشم القربة التي تحصل على مياهها من الخزانات المقامة على الني الأزرق والعبطرة والبالغ مساحتها الكلية 2.550 مليون فدان، فإن جميع الأراضي الأخرى تحصل على مياهها بطريق الضخ. (انظر الشكل 3-26).
وبالإضافة إلى الأراضي السابقة، توجد أراضي الحياض القديمة التي توارثتها الأجيال والتي تقع حول النيل الرئيسي في منطقة النوبة والتي تبلغ مساحتها 70 ألف فدان.
وتستخدم السودان حوالي 14.5 بليون متر مكعب فقط من المياه المقررة لها حسب اتفاقية المياه بين مصر والسودان لسنة 1959. وهي تخطط لاستخدام ما يكمل من حصتها من السد العالي (والبالغة 18.5 بليون متر مكعب) وكذلك ما سيأتيها من قناة جونجلي عند الانتهاء منها (حوالي 2.3 بليون متر مكعب) لري حوالي 1.7 مليون فدان جديدة منها 500 ألف دان في مناطق النيل الأزرق و620 ألف فدان في أعالي العطبرة و210 ألف فدان في مناطق النيل الأبيض و200 ألف فدان حول النيل الأزرق (بالضخ) و200 ألف فدان في بحر الجبل.
على أن هذا التوسع سيكون رهنا بتنفيذ مشروعات الخزانات التي ستزيد من سعة التخزين المتاحة للسودان في الوقت الحاضر والمقدرة بحوالي 8.1 بليون متر مكعب هي كالتلاي: خزاني سنار (600 مليون متر مكعب) و الرصيرص (2.7 بليون متر مكعب) على النيل الأزرق، وخزان خشم القرية (1.3 بليون متر مكعب) على العطبرة، وجبل الأولياء (3.5 بليون متر مكعب) على النيل الرئيسي. أما المشروعات المقترحة فهي تعلية الرصيرص إلى ارتفاع 790 مترا وزيادة سعة تخزينه إلى 6.5 بليون متر مكعب بزيادة قدرها 4 بلايين متر مكعب، وإقامة خزان بأعالي الستيت (العطبرة) بسعة 1.6 بليون متر مكعب، وخزان مروي على النيل الرئيسي بالنوبة بسعة 1.6 بليون متر مكعب كمرحلة أولى تزاد إلى 7 بليون متر مكعب في مراحل لاحقة. ومن الجدير بالذكر أن السودان يجابه مشكلة إطماء خزاناته وخاصة تلك المقامة على النيل الأزرق والعطبرة، ويفقد خزان خشن القرية على العطبرة حوالي 40 مليون مكعب من سعته كل عام نتيجة تجمع الطمي فيه. كما يجاب خزان الرصيرص على النيل المشكلة نفسها فقد امتلأت ثلاثة أرباع سعته التخزينية الميته في السنوات العشر التي تلت بناؤه في سنة 1966. وسيكون لتعلية الخزان المقترحة وزيادة سعته التخزينية أثرا مؤقتا على