الهجرة للولايات المتحدة وأثرها في تغير ملكية الأراضي ونشوء زعامة محلية جديدة
الهجرة للولايات المتحدة وأثرها في تغير ملكية الأراضي ونشوء زعامة محلية جديدة
د. صالح عبد الجواد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حالة مدينة البيرة 1919-1947
مقدمة
في المائة عام الأخيرة صدر العديد من الكتب ومئات المقالات في الولايات المتحدة عن موضوع الهجرة السورية وخصوصا اللبنانية إلى الولايات المتحدة. الغالبية الساحقة من هذه الأعمال صدرت باللغة الإنجليزية، وركزت، بالأساس، على دوافع الهجرة وظروفها، وعملية تكيف واندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة، وموضوع الهوية، متجاهلة أثار الهجرة والشتات على المجتمع الأم.
هذا المقال يسير في الاتجاه المعاكس، إذ يعالج أثرين مهمين للهجرة من بلدة البيرة الفلسطينية للولايات المتحدة على المجتمع المحلي : الأول، التغير الذي طرأ على ملكية الأراضي خلال عهد الانتداب.
تَمَـثل هذا التغيير، الجذري بمختلف المقاييس، في انتقال جزء مهم من الأرض، من خلال عمليات الشراء والبيع، من أيدي الفلاحين المقيمين من سكان البلدة، فقراء كانوا أم ميسوري الحال، إلى أيدي الذين هاجروا للولايات المتحدة وحققوا فيها نجاحاً ملحوظاً، سمح لهم بادخار فائض مالي استثمروه في الوطن الأم في مجال الأرض والعقارات. أما الثاني، فمرتبط بالآثار العميقة والمباشرة والسريعة لهذا التغيير على الحراك الاجتماعي وبروز زعامة محلية جديدة.
الإطار الزمني لهذه الدراسة محدد بحوالي نصف قرن من الزمان، من عام 1909، عندما غادر أول مهاجر من البيرة للولايات المتحدة، حتى نكبة فلسطين عام 1948. وتغطي هذه الفترة موجتين من موجات الهجرة تفصل بينهما الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي شلت، مؤقتا، حركة الهجرة والسفر من فلسطين للولايات المتحدة وبالعكس.
إلى أي حد يمكن تعميم استنتاجات هذه الدراسة على بقاع أخرى من فلسطين ؟
لا شك بأن التنوع في القرى والبلدات الفلسطينية يمنع التعميم بشكل آلي على كل قرى وبلدات فلسطين التي مرت بتجربة الهجرة المبكرة للأمريكيتين، بدءا من بلدة بيت لحم ومحيطها، منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. فلكل بلدة أو قرية ظروفها وخصائصها المتميزة (عدد السكان، الاقتصاد، مستوى ونوعية التعليم، بداية الهجرة ووجهتها، التركيبة الطائفية، طبيعة العلاقة مع مركز إقليمي) وهي عناصر متفاعلة تؤثر في تجربه الهجرة، وتفرز في كل مكان ديناميات خاصة به. وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نغفل حقيقة وجود عناصر مشتركة وأثار متشابهة، خصوصا في مناطق أتيحت لنا دراستها كرام الله .
وسنرى خلال الدراسة، وإن كان عرضاً، كيف تأثرت رام الله، خلال نفس الفترة الزمنية المبحوثة، ببعض الآثار والاتجاهات التي ظهرت في البيرة. وكلي أملُ أن تكون هذه الدراسة، وهي مجرد جزء بسيط من عمل مستمر منذ عام 1995عن تاريخ البيرة وتاريخ أهلها، لبنة في مدماك المحاولات الحديثة التي تبذل لكتابة التاريخ الاجتماعي الحديث لفلسطين، ولإدخال الفلسطينيين العاديين في هذا التاريخ، والتي أخذها على عواتقهم كل من الراحل الكسندر شولش، روز ماري صايغ، تيد سويدنبرغ، وبشارة دوماني.
المصادر
تعتمد دراستي بالأساس على الأوراق الشخصية لعدة عائلات بيراوية، وأهمها المجموعة الخاصة بالشقيقين علي وعبد الله جودة خلف من حمولة الطويل، ومجموعة الشقيقين عثمان وصالح العطا من حمولة الحمايل.
وهما مجموعتان غنيتان تضمان ما لا يقل على 100 وثيقة ومعاملة وحجة أرض وفواتير ومعاملات مالية متنوعة، تبدأ من عام 1880 وحتى عام 1946. كما اعتمدت على عشرات من المقابلات الشفوية التي سجلناها بين 1989-2008 مع عدد من أبناء المدينة المعمرين، بما فيها مقابلات أجريناها في نيويورك وفرجينيا وواشنطن وفلوريدا ونورث كارولينا وكاليفورنيا. كما استندت الدراسة إلى مجموعة متنوعة من المصادر؛ أولية كالصحف، وثانوية منها الكتب والدراسات التي طرقت موضوع ملكية الأراضي والهجرة السورية للأمريكيتين، أي الهجرة من البلاد التي كانت تشكل الفضاء الجغرافي والثقافي لما كان يطلق عليه مصطلح " بلاد الشام".
ورغم أن هذه الدراسة ما كان لها أن تستكمل بدون هذه الأوراق العائلية، فإن استخدامها لمصادر متنوعة يُظهر مرة أخرى أفضليته في كتابة تاريخ أكثر صدقاً وواقعية.
مقارنة بالعديد من المصادر لدراسة التاريخ الاجتماعي (شفهية كانت أو مكتوبة، رسمية أو خاصة)، فإنني أعتقد أن الأوراق العائلية المختلفة (عقود وحجج بيع وشراء الأرض، وصولات الضرائب، عقود الزواج، أوراق المعاملات التجارية..الخ) أقل عرضة للانحياز أو التزوير، أو إسقاط الحاضر على الماضي، كما هو حال الكثير من المصادر الثانوية المكتوبة أو المقابلات الشفوية أو أوراق السير الذاتية إذ ظلت هذه الأوراق عبر السنين، على ما هي عليه دون تحريف أو تعديل.
ولعل هذا يشرح تعاظم أهمية هذه الأوراق كمصدر في أبحاث التاريخ الاجتماعي، خصوصا في حالة فلسطين، التي تميزت وما تزال بعدم الاستقرار السياسي، وبمصادرة وتدمير المصادر المكتوبة، بما في ذلك الأوراق العائلية، وقلة الوعي بأهمية الوثائق والتوثيق، وغياب مؤسسات دولة تأخذ تحت جناحها عملية الحفاظ على الإرث الشفهي والمكتوب.
وقد وثقت في مقال سابق كيف دمر ونهب وضاع كثير من الأوراق العائلية والشخصية (كجزء من المصادر المكتوبة) نتيجة الأوضاع السياسية المتقلبة في فلسطين.
وإذا كان هناك من تساؤلات توجه لهذا النوع من الوثائق فهي لا تتعلق بصدق وأهمية مثل هذه الأوراق التي تقع بين يدي الباحث، فهذه – كما قلنا - ليست موضع خلاف أو جدال، وإنما بحجم ونوعية المواد الذي تمثلها الأوراق المتاحة بين أيدينا، والتي تخص عائلة ما، من إجمالي الأوراق التي تخص نفس العائلة ؟ فهناك أوراق ضاعت، وهناك أوراق تُحجب عن الباحثين نتيجة لتحفظ مالكي هذه الأوراق على عرض أوراق لعائلاتهم قد تحكي قصص غير مرغوب فيها. وكلا العاملين يحددان مساحة ومجال المعرفة، ويضعان الباحث في دائرة "الانتقائية" المفروضة عليه فرضا، ونحن نعلم أن الانتقائية هي إحدى السلبيات الرئيسية لأي بحث علمي.
هيكل الدراسة
هذه الدراسة مقسمة لعدة أبواب : مدخل سريع حول العقبات المنهجية المتعلقة بدراسة الأرض وملكيتها في منطقة رام الله، وهي صالحة للتعميم على مجمل الحالة الفلسطينية؛ تعريف بالسيرة الشخصية لأصحاب هذه الأوراق العائلية : الشقيقين عبد الله وعلي جودة خلف الطويل والشقيقين عثمان وصالح العطا؛ الهجرة للولايات المتحدة والتغيرات التي طرأت على ملكية الأرض نتيجة لها؛ أثر هذا التغير على الاقتصاد السياسي للمدينة وانعكاساته على بروز زعامة جديدة أطاحت بالزعامة التقليدية القديمة.
عقبات وملاحظات منهجية على موضوع الأرض :
يعالج الباحث التحولات في ملكية الأرض في عهد الانتداب، وهو عهد قصير نسبياً رغم التحولات الجذرية التي نجمت عنه، فهو مضطر إلى إجراء مقارنة مع ما كان عليه وضع الأرض في الأيام الأخيرة للعهد الذي سبقه (العهد العثماني)، الأمر الذي يضعه في مواجهة الكثير من العقبات المنهجية والفنية.
وأهم هذه العقبات والمشاكل :
- طبيعة حجج البيع والمشاكل المتعلقة بتسجيل الأراضي ومعاملاتها : فتنظيم أمور بيع وانتقال الأرض، بما في ذلك وثائق البيع، لم تستقر إلا في فترة متقدمة من عهد الانتداب. فكثير من معاملات حجج البيع التي فحصناها في السنوات التي تلت احتلال فلسطين (1917-1918) حافظت على نفس مثالب حجج البيع في العهد العثماني، مثل غياب تحديد موقع ومساحة القطعة بدقة.
كما أن كثيرا من الأراضي لم تكن مسجلة بالطابو.
على أي حال، تخلوا حجج البيع الخاصة بعلي وعبد الله جودة خلف، وصالح وعثمان العطا، والتي كتبت في السنوات الأخيرة من العهد العثماني وبداية عهد الانتداب، من تحديد مساحة قطعة الأرض على الإطلاق.
كما أن تحديد الموقع في هذه الحجج كان يتم من خلال حدود أرض الجيران التي قد تكون هي نفسها موضع نزاع أو غموض وهناك كثير من الحجج التي تتضمن عبارة "وشهرتها تغني عن ذكر حدودها". وفقط في المراحل اللاحقة من عهد الانتداب أصبحت مساحة الأرض تُحدد بدقة في معاملات البيع، عندما أنجزت سلطات الانتداب عملية مسح معظم أراضي فلسطين، وحددت نقاط التثليث، التي سمحت برسم خرائط دقيقة، ووحدت عمليات وإجراءات التسجيل، وحطمت بلا رجعة وجذرياً نظام المشاع .
وهي إجراءات كان هدفها الحقيقي، وإن غير المعلن، تسهيل عملية انتقال الأرض لليهود وتحسين جباية الضرائب .
- الكتابة بالعامية واختلاف دلالات المقاييس : معظم الحجج في نهاية العهد العثماني وبداية عهد الإنتداب كتبت بالعامية وهذا يضيف عبئاً على الباحث الذي يجد صعوبة في ضبط دلالات بعض الألفاظ، خصوصاً في ظل غياب قاموس مقارنة للعامية.
وفي هذا السياق هناك تباين واختلاف في دلالات المصطلحات المحلية الدارجة على السنة السكان والخاصة بمساحة قطع الأرض مثل: الحاكورة، الفدان، الحبلة، المارس، الحريقة، الخلة (خلت)، المعاديد...الخ
- مشكلة العملات المستخدمة في عمليات الشراء والبيع : تعدد العملات السائدة في فلسطين وعدم اسقرار سعر صرفها، يصعب على الباحث إجراء المقارنة والتقييم لأسعار الأراضي ومعدل ارتفاعها.
فالاختراق الغربي السياسي والاقتصادي والثقافي للدولة العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتراجع الثقة في العملة العثمانية بسبب غش نسب الذهب او الفضة المستخدمة في النقود المعدنية، سمح بتدوال عملات اجنبية مختلفة فإضافة إلى الليرة العثمانية الذهب، أو العصملية، والتي عرفت أيضاً بالمجيدية نسبة للسلطان عبد المجيد، شاع تداول الليرة الانجليزية الذهب، والليرة الفرنسية الذهب.
وبعد سقوط فلسطين 1917-1918 ظل التعامل بالليرة الذهبية الإنجليزية ساريا في بعض صفقات الأرض. لكن العملة المصرية بمختلف أنواعها، الذهبية والفضية والنكلية والورق، أصبحت العملة الرسمية في فلسطين ابتداء من 1 شباط 1921 حتى صدرت العملة الفلسطينية عام 1927، والتي كانت العملة الرسمية في شرق الأردن أيضاً حتى عام 1949.
وهكذا خَفَ التعامل بالعملة المصرية إلى أن حُرِم التعامل بها كعملة قانونية في فلسطين بعد يوم الحادي والثلاثين من شهر آذار 1929.
- المشاكل الخاصة بأسماء المواقع : فهناك تغير ملحوظ في أسماء المواقع مع تقلب الزمان، الأمر الذي يُصعب متابعة وتحديد مواقع قطع الأرض.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فما يعرف اليوم في البيرة بمنطقة "البالوع" كان اسمها الشائع حتى الأربعينيات "مكب المية".
وما كان يطلق عليه اسم أرض "البقيع" يعرف حالياً باسم "الميدان" (لأنه في فترة الانتداب استخدم ميداناً لسباق الخيل).
ومشكلة الأسماء ليست خاصة بالفترة العثمانية فحسب، بل هي ظاهرة مستمرة حتى اليوم، ولا هي مقتصرة على أسماء المواقع والمناطق، بل هي ظاهرة عامة تشمل أسماء المعالم والميادين والحارات...الخ.
وليس هناك اليوم إلا بضعة معمرين من ابناء البيرة ممن يعرفون أسماء أو مواقع الحارات القديمة كحارة الزيد أو حارة الهِري أو حارة الشراقة، التي استبدلت بأسماء جديدة، ودرست معالمها القديمة بشكل شبه تام حيث قامت مكانها أحياء وشوارع جديدة.
وظاهرة عدم احترام المسميات القديمة ناجمة عن ضعف الوعي بأهمية الحفاظ على الأسماء التاريخية خصوصاً في المجتمعات المحلية؛ أو انعكاس لدور وظيفي أو حدث جديد؛ أو بروز شخصية ما طغى اسمها على اسم المكان القديم.
وعلى سبيل المثال، فإن عين زليخة (على جبل قرطيس) سميت باسم امرأة اسمها زليخة تفانت في العناية بالأرض التي من حولها فاختفى الأسم القديم للعين؛ أو لأسباب أيدولوجية أو وطنية، وعلى سبيل المثال فقد دُشن المسجد الرئيسي في البيرة في مطلع الستينيات باسم جامع البيرة الكبير، وبعد وفاة عبد الناصر عام 1970 قرر رئيس المجلس البلدي في حينه إطلاق اسم مسجد جمال عبد الناصر عليه.
وفي السنوات الأخيرة وبعد بروز حركة حماس أطلق عليه الإسلاميون مسجد سيد قطب
(نلاحظ الارتباك الناتج اليوم من تداول الناس للتسميات الثلاث لنفس المسجد، وإن ظل اسم مسجد عبد الناصر هو الطاغي).
- تذبذب أسماء الأفراد، وانقطاع وتغير أسماء العائلات : وهو أمر يُصعب على الباحث تتبع ملكية الأرض وترسُّم تاريخ عائلاتها. تظهر مشكلة أسماء العائلات حتى في المدن , وقد ساهم وقوع فلسطين تحت أنظمة سياسية مختلفة في زيادة حدة هذه الأزمة.
وعلى سبيل المثال، فإن إسرائيل فرضت منذ احتلال عام 1967 تسجيل اسم الحمولة كأسم عائلي أخير، من أجل تحديد وتصنيف السكان كي تسهّل عملية الرقابة والسيطرة، وفي محاولة منها لإحياء النعرات والعصبيات بين الناس (فرق تسد).
والغريب أننا لا نجد في وثائق المحكمة الشرعية في القدس في القرن التاسع عشر، والخاصة بمعاملات البيرة، أي استخدام لاسم الحمولة كاسم أخير للشخص أو لتحديد عائلته. ولا تقتصر مشكلة الأسماء في البيرة على أسماء العائلات، بل وتمتد إلى أسماء الأفراد أنفسهم التي خالطتها الألقاب، أو إلى اختلاف اسم العائلة لأشقاء من نفس الأسرة، وهو ما يضفي الكثير من الصعوبات.
بيد أنه لا مكان في هذه الدراسة القصيرة للخوض في هذا الموضوع الذي تخالطه الطرافة، والذي يلقي الضوء على جانب مهم من العلاقات الاجتماعية والبيئة الثقافية المحلية.
- مشكلة الوصول للوثائق في مراكز الأبحاث والدوائر الحكومية أو المجالس البلدية الخاصة بالأرض ومعاملاتها : فمعظم هذه المؤسسات تمنع فحص أرشيفها، أو تقيد، أو تحدد، أو تعقد عملية الاستفادة من هذه الوثائق، أو تفرض قيود صارمة على التصوير.
السيرة الشخصية لأصحاب الأوراق العائلية
ولد كلا الشقيقين عبد الله وعلي جودة خلف الطويل في البيرة حوالي عام 1890.... توفي عبد الله ودفن في البيرة عام 1968.... أما شقيقه علي فقد توفي ودفن في دمشق بعده بثمانية أعوام.
الشقيقان كلاهما كانا ظاهرة استثنائية على صعيد الحياة المحلية، ليس بفضل الثروة الكبيرة التي جمعاها من المهجر فحسب، بل وبفضل مشاركتهما في عمل الصالح العام ونشاطهما السياسي في البيرة والمهجر.
من بين الشقيقين كان تنوّر علي جودة خلف استثنائي بكل المقاييس لرجل على قدر بسيط من التعليم خرج من فلسطين. استطاع علي بفضل مكانته وعطائه ونشاطه التعرف على و مصادقة مجموعة واسعة من أحرار ومثقفي العالم العربي في المهجر وبلاد الشام كأمين الريحاني وشكيب أرسلان وعبد الرحمن الشهبندر وشكري القوتلي ورشيد طليع وسليمان النابلسي، وعبد الله الريماوي.. الخ.
هاجر الشقيقان اليافعان للولايات المتحدة في وقت مبكر قبيل الحرب العالمية الأولى.
وبعد أن عمل الاثنين كبائعين متجولين (باعة "كـشة"، وهو الاسم الشائع في حينها بين السوريين، أو "بدلرز" وهو الأسم الأمريكي)، قام علي، الأكثر مهارة بين الشقيقين في شؤون الأعمال التجارية، بـتأسيس شركة "البيرة كومباني" لبيع ملابس النساء الداخلية والسجاد والنوفوتيه بالجملة في قلب جزيرة مانهاتن (في 85 شارع واشنطن، وهو الشارع الذي شكل مركز تجمع المهاجرين السوريين الأوائل في نيويورك).
أما عبد الله، الذي ربطه وشقيقه نوع من تقاسم الوظائف، فقد عاد إلى البيرة نهائياً بعد الحرب العالمية الأولى.
علي يوفر المال من خلال "البيرة كومباني"، وعبد الله يشرف على مصالح العائلة في البيرة، وأهمها عمليات شراء آلاف الدونمات باسم الشقيقين في البيرة وفي مناطق مختلفة من فلسطين، ويلعب دورا رئيسا في تزعم الحياة السياسية والاجتماعية في البيرة في القرن الماضي، حيث شغل، ومنذ مطلع العشرينيات، ولعدة مرات، منصب رئيس المجلس المحلي.
وقد نال لقب أفندي ،وهو لقب تركي من أصل يوناني ومعناه السيد و أخذ في استخدامه في أواخر العهد العثماني، وكان مقصورا على طبقة الوجهاء وكبار الملاك في المدن .
كما أصبح أول رئيس لبلدية البيرة عندما تحول وضع البيرة من مجلس محلي إلى مجلس بلدي في مطلع عام 1952 .
وقد عُرِفَ عبد الله جودة خلف بالنزاهة المالية ونظافة اليد، إذ لم يعرف عنه استغلال منصبه لأغراض شخصية.
وقد مارس، كما يفترض بأي زعيم محلي، الكرم والإنفاق من ماله لتمكين "زعامته وصيته".... غير أن الأمر لم يخل من أقلية حاسدة.
نعود لعلي جودة خلف ، الذي انضم إلي شركته في وقت ما عبد الحميد شومان (مطلع عشرينيات القرن العشرين) الذي أسس لاحقاً "البنك العربي" الشهير . وبدون أدنى شك، فإن جزءاً من رأسمال شومان الذي استثمره في تأسيس هذا البنك جاء من خلال هذه الشركة التي كانت محطة هامة في بناء ثروته.
اقترح شومان على شريكه علي ترك الولايات المتحدة نهائياً والانضمام إليه كأحد المساهمين في مشروع البنك، وهو الاقتراح الذي لقي الرفض.
هو رفض ندم عليه، في ما بعد، علي جودة خلف، الذي لم يؤمن بإمكانية نجاح المشروع، ورأى في عرض شريكه - العصامي والسابق لعصره – مجرد عرضٍ قائم على الأحلام والتمنيات.
في عام 1921 أسس فؤاد شطارة "جمعية النهضة الفلسطينية" في نيويورك , وكان علي جودة خلف، بالإضافة إلى جميل السلطي وإبراهيم حبيب كاتبة وبطرس جورج شحادة والقس إبراهيم رحباني، أبرز أعضائها.
كانت الجمعية بالإضافة ل "الجمعية الفلسطينية لمقاومة الصهيونية" (تأسست عام 1918) إحدى أهم وأول الجمعيات الفلسطينية في المهجر والتي قاومت النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة.
كما سعت إلى هدف قلما كان في ذهن وأهداف الجمعيات العربية التي تشكلت في المهجر ألا وهو تسهيل العودة النهائية " للذين يودون الرجوع إلى فلسطين من أبنائها المهاجرين".
وفي أيلول 1924 انتخب علي جودة خلف كرئيس للجمعية كخلف لفؤاد شطارة الذي أصبح أمين الصندوق.
سياسياً كان علي كشقيقه عبد الله من أنصار اللجنة التنفيذية العربية برئاسة موسى كاظم الحسيني ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى الحاج أمين الحسيني . وسرعان ما أصبح عبد الله أحد أبرز ممثلي منطقة رام الله والبيرة في المؤتمرات والمجالس الوطنية خلال عهد الانتداب.
كما أسس الشقيقان مجموعة من المشاريع والشركات المساهمة الكبيرة في البيرة، ومنها ما يحاكي التجربة الامريكية، مثل "شركة النجاح"، والتي كانت استنساخاً لتجربة (department stores).
غير أن مصيرها كان الفشل، كمصير الشركات التي أسسها مغتربو رام الله في مدينة رام الله من قبلهم.
أما الشقيقان عثمان وصالح العطا، واللذان يمثلان نموذجاً تقليدياً لمعظم المهاجرين الاوائل أكثر من حالة الأخوين عبد الله وعلي جودة خلف، فيشكلان حالة مختلفة عن حالة الشقيقين خلف رغم بعض أوجه الشبه في التجربة , إذ لم تكن لديهما أي مشاركة في الحياة العامة للبيرة، أو أي مشروع ثقافي أو اقتصادي أو سياسي عام. كما ان عملهما في الولايات المتحدة اقتصر على البيع بالكشة. نجاحهما فإن حجم الثروة التي جمعاها ظل محدوداً نسبياً مقارنة بالشقيقين خلف.
الهجرة للولايات المتحدة والتحولات على ملكية الأرض
في نهاية الخمسينيات، عندما كان الزوار والسياح إلى رام الله والبيرة يتطلعون إلى منازل المغتربين الحجرية الجميلة التي تنتصب فوق تلال رام الله والبيرة وتتوسد وديانها، كان الاعتقاد أن الهجرة ماهي إلا قصة نجاح سهلة. كانت البيوت الحجرية القائمة شاهدا ماديا لا شك فيه على الحلم الأمريكي في أبرز تجلياته.
لم يخطر في ذهن هؤلاء أن هناك وجها آخر للهجرة، وهو وجه اختفى على نحو ما من الذاكرة الجماعية، أي قصة المئات الذين رحلوا ولم يعودوا لا أثرياء كما كانوا يحلمون ولا حتى فقراء.
فالعديد منهم مات واختفت آثاره كأن الأرض قد بلعته , ومنهم من لم يعد لأنه لم يستطع توفير ثمن تذكرة رحلة العودة، أو كان غير قادراً على تحمل الثمن الاجتماعي للفشل وخيبة الأمل.
فلم تكن الهجرة، في كثير من الأحيان، رحلة في بلاد الالدرادو (بلاد الذهب) , لذا فالعديد من المهاجرين لم يجد فقط أن الطرق في "أميركا" ليست معبدة بالذهب كما كان يحلم ويفكر، بل إن بعضها لم يكن معبداً على الإطلاق، بحيث قضى حياته شقاء في تعبيد هذه الطرق.
غير أن قصص النجاح وشواهدها المنتصبة هي التي أدارت رؤوس الناس.
أما أولئك الذين ضاعوا أو خابت آمالهم، وهم كما قلنا يعدون بالمئات ، فقد لفهم النسيان واختفوا على نحو ما من الذاكرة الجماعية، فلم يكونوا إلا كمجانين وسجناء ميشيل فوكو من المهمشين الذين لا يريد أحد أن يتذكرهم. أما الزوجات والأبناء الذين انتظروا في الوطن، دون جدوى، تحويلاتهم النقدية أو عودتهم، فقد جنوا المرارة. غير أن هذه الورقة ليست مجالاً للبحث في هذا الجانب من الهجرة وإنما في جانبها الناجح.
على عكس توأمها رام الله، والتي شهدت بعض حالات الهجرة العائلية في موجة الهجرة الأولى قبل الحرب العالمية الأولى، كانت موجة الهجرة الأولى من البيرة فردية وذكورية تماماً ودونما أي استثناء.
وفي حين تعاظمت الهجرة العائلية من رام الله خلال موجة الهجرة الثانية، التي انطلقت بعد نهاية الحرب الكونية الأولى واستمرت حتى عام 1948، فإن البيرة لم تسجل سوى حالات محدودة جداً من الهجرة العائلية - في وقت متأخر من الأربعينيات - لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة خلال نفس الفترة.
الاقتصار على الهجرة الفردية كان له أبعاد ديموغرافية واقتصادية مهمة (فيما يتعلق بمراكمة رأس المال واستخداماته).
فاقتصار الهجرة على الرجال سمح بتقليل حجم الإنفاق في الولايات المتحدة بشكل كبير، وبتركيز حركة راس المال والتحويلات النقدية باتجاه الوطن.
وهي عوامل ساهمت بدورها في تعزيز وتعميق اثار الهجرة على الحياة المحلية.
الناجحون من المهاجرين، الذين استطاعوا تحقيق ربح مجز، وتحويل عائداته للوطن، كانوا من بين أولئك الذين عملوا كباعة "كشة" متجولين من مكان إلى أخر، وليس أولئك الذين عملوا في المصانع والفبارك والمزارع وتعبيد الطرق، وهي اعمال ووظائف محدودة الدخل لا تسمح بتحقيق فائض مالي مجزي.
لقد لعب المهاجرون الفلسطينيون كجزء من الهجرة السورية دور "الجماعة الوظيفية" في المجتمع الأمريكي. وظاهرة الجماعة الوظيفية ظاهرة توجد في جميع المجتمعات...يحدِّد د. عبد الوهاب المسيري مفهوم الجماعة الوظيفية بأنها جماعة يستوردها المجتمع من خارجه أو يجنِّدها من داخله، تُعرَّف بالأساس في ضوء وظيفتها، ويَكِل المجتمع إليها وظائفَ لا يضطلع بها عادةً أعضاءُ المجتمع، إما لأنها مُشينة أو وضيعة (البغاء ـ الربا- البيع عن طريق طرق الأبواب)، أو متميِّزة وتتطلب خبرة خاصة (الطب والترجمة)، أو أمنية وعسكرية (الخِصْيان ـ المماليك)، أو لأنها تتطلب الحياد الكامل (التجارة وجمع الضرائب). ويتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بالحياد، وبأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، وهم عادةً عناصرُ حركية لا ارتباطَ لها ولا انتماء مع المجتمع الذي تفد إليه وتعيش على هامش المجتمع في حالة اغتراب، ويقوم المجتمع بعزلها عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي.
وفي هذا السياق يجب أن نتذكر أن الولايات المتحدة لم تكن تعرف، في حينه، نظام المخازن ومجمعات الأسواق التجارية الضخمة المنتشرة في كل مكان كما هو الحال الآن (malls and department stores).
ولهذا فإن دور الباعة المتجولين كان آنذاك في غاية الأهمية للاقتصاد الأمريكي الذي كان في حالة تمدد، وللنسيج الاجتماعي المتوتر تحت وطأة التفرقة العنصرية.
فمن جانب، سمحت شبكة الباعة المتجولين بتسويق أفضل للبضائع وخصوصا في الأماكن النائية والمزارع، ومن جانب أخر، ففي ظل أنظمة التفرقة العنصرية التي حدت من مجال تحرك السود واختلاطهم بالبيض وبمراكزهم التجارية، كان السود يشعرون بشيء من الفخر لمجيء باعة "بيض" ليبيعوهم في مناطق تجمعاتهم والمزارع المعزولة.
كان الدخل الناجم عن البيع بالشنطة عند مراكمته يؤهل لمستويات دخل مجزية بالنسبة للدخول في المجتمع الأمريكي، خصوصاً وأن مصاريف هؤلاء الباعة في الولايات المتحدة كانت قليلة جداً بسبب أسلوب حياتهم المتواضع وأحياناً المزري، الذي تميز بالسـكن في شقق أو غرف مكتظة، والعمل الشاق المستمر لساعات طويلة، والابتعاد التام (بالنسبة لبعضهم) عن مسرات الحياة، وهكذا استطاعوا تأمين دخول عالية جدا مقارنة بمستوى الدخل المنخفض في الوطن. كان البائع المتجول (الناجح) يربح في المعدل من حوالي 3 إلى 5 دولارات في اليوم الواحد عام 1910.
لكن بعضهم كعبد الجواد أبو عليص كان أكثر مهارة من الآخرين، وكان يستطيع منذ منتصف الثلاثينيات أن يجني حتى عشرين دولارا في بعض الأيام.
معظم هؤلاء الباعة غادروا وفي نيتهم العودة إلى الوطن والاستثمار فيه.
والأهم من ذلك ان هناك بعض الباعة المتجولين الذين راكموا ثروة وحباهم الله عقلاً تجارياً سمح لهم حتى قبل الحرب العالمية الأولى بالتحول من باعة شنطة إلى أصحاب شركات تجارية للبيع بالجملة في قلب الحواضر الأمريكية الكبرى كنيويورك وبلتيمور وشيكاغو وديترويت وسان فرنسيسكو. كان من بين هؤلاء عبد الحميد شومان من بيت حنينا، وحمدان غنام وإخوانه أصحاب "شركة دير دبوان"، وعبد الله الباتح وعيسى الباتح، وحنا حشمة، وعزيز شاهين من رام الله.
أما من البيرة فهناك عبد الله وأخيه علي جودة خلف مؤسسي "البيرة كومباني"، وعلي وشقيقه جودة إسماعيل جاد الله وشركائهم مشوشر الناعورة ودحدول حمدان، الذين أسسوا الشركة الأهم "بالستاين كومباني" , وكلا الشركتين في قلب مدينة منهاتن، الأولى في 85 شارع واشنطن. أما شركة فلسطين فكان مقرها الأول في 72 – ماديسون أفنيو، لكنه تغير في ما بعد ثلاثة مرات.
تحول هؤلاء إلى موزعي جملة لشبكة باعة "الكشة"، وشكلت شركاتهم شبكات دعم وتزويد مهمة للمهاجرين الوافدين حديثاً.
بالتحديد استطاعوا أن يراكموا ثروات كبيرة حتى بالمستويات الأمريكية للطبقة الوسطى.
ليس لدينا أرقام دقيقة عن ارباح هؤلاء كما هو الحال بالنسبة للباعة المتجولين، رغم أننا قابلنا أبناءهم ومنهم من عمل في هذه الشركات، لكن يمكن قراءة هذه الأرباح وتكوين فكرة تقريبية معقولة عنها من خلال حساب بعض المعطيات ومن خلال البصمات التي تركتها في الوطن الأم. وبحساب بسيط كان البائع المتجول يحقق وفقا لمهارته في البيع ما بين 80إلى 150 دولار في الشهر الواحد.
أما تجار شركات الجملة الناجحون فكان باستطاعتهم تحقيق دخل لايقل بالمعدل عن 1000 دولار بالمعدل شهرياً، وهو ما سمح للفئتين بمراكمة رأس مال محترم سيوظف كما سنرى لاحقاً في قراهم ومدنهم الأصلية.
منعت ظروف الحرب العالمية الأولى المهاجرين من العودة، وفرضت عليهم نوعاً من الاقامة الجبرية في المهجر. وسيلة السفر الوحيدة، والتي كانت عبر البحر، إذ لم تكن هناك طائرات لنقل الركاب بعد - توقفت، نتيجة شلل حركة النقل البحري العالمية والبريد وخصوصاً عبر الأطلنطي وفي المتوسط، الأمر الذي أجبر المهاجرين الأوائل على المكوث في الولايات المتحدة، وهو ما أتاح لهم الفرصة بالتالي من مضاعفة رأس مالهم.
بعد انتهاء الحرب، وبالتحديد في نهاية عام 1919 تحكي الروايات الشفوية كيف قرر العديد من مهاجري البيرة الأغنياء المحظوظين العودة في نفس البابور (السفينة) بعد سنوات البعد والغربة عن بلادهم وهم يتقلدون البرانيط ويرتدون البدلات "الإفرنجية" التي حلت محل كوفياتهم وديماياتهم التي كانوا يرتدونها عندما تركوا البلاد. و تقول الأسطورة أنهم وهم على سطح السفينة، وبينما كانوا ينظرون إلى الأفق المترامي أمام عيونهم بلا نهاية، كانوا يحلمون بكيف يستغلون ثرواتهم في الوطن ويحولونها إلى قوة وجاه.
استثمر جزء كبير من هؤلاء الناجحين أموالهم في شراء الأرض، ليس في قراهم وبلداتهم الأصلية فحسب وإنما أيضاً في مناطق أخرى من فلسطين.
كانت الأرض مهمة بحيث أن الأسم الفلاحي الشائع لها في البيرة هو "الرزق"، كما هو حال "العيش" بالنسبة للخبز في مصر.
ليس من الصعب استنتاج القدرة المالية التي توفرت للناجحين من أبناء الموجة الأولى من المهاجرين عندما وصل الطوف الأول للبيرة في نهاية عام 1918 كانت أسعار الأراضي في البيرة وفي المناطق الجبلية التي لم يخترقها الاستيطان الصهيوني بعد رخيصة جدا مقارنة بالمبالغ التي جمعوها. وزاد من هبوط اسعار الأراضي ما جرى لفلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أودت سنوات الحرب، التي لم تشهد فلسطين والبيرة مثلها منذ قرون، بحياة الكثيرين.
سنوات الحرب والجراد والحصار هذه أدت إلى تراجع ديموغرافي كبير، وإلى تفسخ خطير أصاب الهياكل التقليدية للعائلة الفلسطينية نتيجة مستوى الفقر والعازة، حيث عجز الرجال أباءا كانوا أم أزواجاً عن توفير ما كان يفترض تقسيم العمل أن يقدموه لعائلاتهم : الغذاء والحماية.
لقد بلغ العوز والجوع حداً كان يدفع الناس إلى التنازل عن قطعة أرض مقابل مخلاة طحين، وحد هروب الرجال والتخلي عن عائلاتهم، وتسول النساء وحتى بيع الأعراض.
سقطت البيرة في يد القوات البريطانية في الأيام الأخيرة من شهر كانون أول/ديسمبر عام 1917، أما بقية فلسطين فلم تسقط إلا في نهاية 1918. ورغم أن كل المصادر تجمع على انتعاش الوضع المعيشي بسرعة كبيرة بعد مجيء البريطانيين، فإن الوضع الاقتصادي والنفسي كان ما يزال يعيش ذيول صدمة سنوات الحرب، وهو ما كان يدفع الناس لبيع اراضيهم الرخيصة أصلاً باسعار أرخص من المعتاد.
في هذه الظروف وصل المهاجرون الجدد بأموالهم وبزاتهم الجديدة، فصاهروا "علية القوم" من أصحاب المكانة (الصيت والمال).
سيتزوج الشقيقان عبد الله وعلي جودة خلف فاطمة وصفية بنات مصطفي العامر، أحد أبرز وجهاء البلد. هذه الزيجات وغيرها، والتي تمت بعد انقضاء أسابيع أو شهور قليلة فقط من وصول "طوف" المهاجرين الأول، كانت أول تعبير عن التحولات في موازين القوى الجديدة، إذ أنها جرت قبل بناء المنازل الحديثة، وقبل أن تبرز زعامة جديدة كانعكاس لهذه التحولات.
سرعان ما بدأ الوافدون بشراء الأراضي في البيرة وغيرها من مناطق فلسطين بأسعار بخسة جداً. في ذلك الوقت حل الجنية المصري محل العملة التركية اللاغية، والتي أصبح لا قيمة لها بعد الاحتلال البريطاني.
كانت كل خمس دولارات أمريكية تعادل جنيها مصريا واحدا (أو جنيه فلسطيني بعد عام 1927) , وفي منتصف الثلاثينيات انخفضت قيمة الجنيه الفلسطيني مقارنة بالدولار حيث اصبـح الجنية يعادل ما يقارب الأربعة دولارات امريكية .
وإذ تراوح سعر دونم الأرض خارج مسطح القرية (المنطقة المبنية والمكتظة) في البيرة بعد الاحتلال ومطلع العشرينيات ما بين 3-5 جنيهات للدونم الواحد حسب نوع القطعة (قربها من مسطح القرية، ومستوى خصوبة الأرض وتشجيرها..الخ)، فإن سعر آلاف الدونمات التي تم شرائها بصفقات كبيرة المساحة في القرى والخرب النائية كقرية شلتا وخربة كركور، التي اشتراها بأكملها تقريباً علي وعبد الله جودة خلف من محمد اسعاف النشاشيبي، كان أقل من ذلك بكثير.
وبمعنى آخر، كان الدخل الشهري المتأتي لبدلر ناجح يؤهله لشراء عدة دونمات من الأرض، فكيف هي الحال بالنسبة لأصحاب شركات الجملة كدحدول حمدان الذي باع حصته في "بالستاين كومباني" واشترى من عائداتها أرضاً في ولاية لويزيانا اكتشف فيها حقل للبترول.
خلاصة الأمر، أدت موجة الهجرة الأولى إلى بداية تغييرات مهمة في ملكية الأرض وفي اعادة توزيع الثروة وأعادة هيكلة للاقتصاد والمجتمع المحلي. واستمرت هذه العملية خلال موجة الهجرة الثانية 1920-1948، رغم الارتفاع المستمر والملحوظ في سعر الأرض نتيجة زيادة عدد المهاجرين وعملية المضاربة، وبداية اختراق الاستيطان اليهودي للمنطقة. وفي الواقع أصبح هؤلاء ملاك الأرض الرئيسيين في البلدة. وقد انعكس هذا التغير الحاد والسريع على ملكية الأرض على مختلف جوانب الوضع الاجتماعي، وخصوصا أن بعض هؤلاء المهاجرين أراد أن يعبر سياسياً واجتماعيا عن قوته الاقتصادية الجديدة.
وقبل أن أنتقل لموضع تأثر الزعامة في البيرة، نتيجة تغير ملكية الأرض وبروز شريحة اجتماعية جديدة، أود التطرق لموضوع أرض شلتا، التي اشتراها علي وعبد الله جودة خلف لأنها تعبر عن توجه جديد وغير مسبوق في ما يتعلق بملكية الأراضي في فلسطين. كانت شلتا بكاملها ملكاً لعثمان النشاشيبي عضو مجلس المبعوثان عن متصرفية القدس، الذي استطاع بفضل نفوذه ونفوذ عائلته من قبله امتلاك أراض واسعة في فلسطين ومنها قرية شلتا.
كان عثمان النشاشيبي شحيح اليد، فلما ورثه ابنه محمد اسعاف النشاشيبي الاديب المعروف، والذي لم تكن علاقته جيدة بوالده، ولم يتزوج، ولم يكن له اهتمام بالأرض، باع أراض كثيرة في صفقات ضخمة، ومنها صفقة شلتا.
إن حالة شلتا، وكذلك حالة هربيا التي تم شراء اراض واسعة فيها لصالح الأخوين علي وعبد الله جودة خلف، تعكس نموذجا جديدا في فلسطين، ففي حين استطاع الأفندية وتجار المدن والمرابون وكبار موظفي الدولة استغلال صغار الفلاحين، وتحويل اراضيهم إلى ملكيات خاصة كبيرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإننا نجد هنا حالة يبدأ فيها مهاجرون أغنياء بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال الاستحواذ على ملكيات كبيرة كانت في يد أفندية المدن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المهاجرون الجدد والزعامة في البيرة
عندما احتل البريطانيون البيرة كان هناك بالأساس زعيمان للبيرة : رشيد العلي (ويطلق عليه أيضاً اسم رشيد الإبراهيم أو رشيد الفوز) مختار البيرة وزعيم حمولة أو عائلة القرعان، وهي الحمولة الأكبر عددأ في البيرة، وعامر محمد العامر، مختار البيرة الثاني وزعيم عائلة الطويل المهمة.
وبالاضافة إليهم كان هناك زعماء العائلات الأصغر، مثل المختار حسن الحسين زعيم عائلة الحمايل، والحاج أمين غنيم وجيه عائلة الغزاونة الصغيرة والتي انضوت تحت جناح عائلة الطويل.
كانت الزعامة في البيرة ترتكز على مكانة اجتماعية موروثة أبا عن جد، وعزوة قوية "مسنود الظهر" عبر عائلة كبيرة وتحالف مع عائلات صف اليمن والقيس الرئيسية، وعلاقة الجيدة مع الإدارة والسلطة العثمانية وممثليها، والتي تتجسد غالباً في حصوله على المخترة.
أما القاعدة الاقتصادية لهذه الزعامة فكان من أبرز عناصرها ملكية الأرض ورعوات الغنم الكبيرة، التي كانت تسمح بممارسة مظاهر الزعامة (اللباس والهندام الجيد والنظيف، الكرم والانفاق على المضافات والولائم).
حدد ألبرت حوراني في مقالته الرائعة " سياسة الأعيان" مقومات زعامة المدن :
- مكانة اجتماعية مرموقة في الغالب موروثة.
- وضع اقتصادي جيد يسمح بالعناية بمظاهر هذه المكانة، وبتقاليد وعادات المجتمع الفلسطيني الذي يعطي للضيافة والكرم للغريب والأعوان منزلة خاصة.
- القدرة على التوسط بين عامة الناس و بين السلطة السائدة.
من الضروري هنا التنويه إلى أن المكانة الاجتماعية كعنصر حراك اجتماعي وزعامة ليست مقصورة على المجتمعات العربية، ولا هي بالضرورة قائمة فقط على التفوق المالي.
وقد أثبت عالما الاجتماع الفرنسي بيير بوررديو وجان كلود مؤلفا كتاب "الورثة les Héritiers " (1964)، ومن خلال بحث عميق استمر سنين طويلة، أن النظام التعليمي في المدارس والجامعات الفرنسية يعمل كجهاز انتقاء وتفرقة اجتماعية لصالح الطبقات العليا على حساب الفئات المتوسطة، وبشكل اكبر على حساب الفئات الشعبية.
حيث لاحظا أن الطلاب "اللامعين" الحاصلين على أعلى الشهادات المطلوبة، والذين يتعلمون في المؤسسات التعليمية الأرفع مكانة، وأخيراً الذين يستطيعون الوصول إلى مواقع السلطة، وبنسبة عالية وساحقة - وهذا ليس بالصدفة - تنتمي إلى فئات تتمتع بمكانة وامتيازات اجتماعية، مرتبطة بولادتهم ونشأتهم في أوساط ميسورة.... وباختصار فان هؤلاء الورثة لا يعتمدون على القوة الاقتصادية فقط - ولكن أيضا، وربما أكثر، على الجانب الثقافي والمكانة.
عموماً يبدو لنا أن المقومات الخاصة بمكانة الزعامة الحضرية التي أشار إليها حوراني في مقالته عن أعيان بلاد الشام وبورديو عن الطبقات الاجتماعية في فرنسا، كانت تنطبق أيضا آنذاك على الزعامة المحلية في فلسطين فبعد فترة قصيرة من الاحتلال البريطاني تعرض أهم زعيمين للبلدة رشيد العلي (القرعان) وعامر محمد العامر (الطويل) إلى عملية ابعاد إلى مصر , فقد أبدى عامر ورشيد العلي، وبشكل علني وشجاع، ولاءهما للسلطة العثمانية القديمة ورفضهما لسلطة الاحتلال أمام رونالد ستورس حاكم القدس البريطاني الذي كان في زيارة للبيرة , وتحول موقف الاثنين أمام ستورس إلى أسطورة :
" لما دخل الانجليز البيرة استدعوا المخاتير رشيد العلي وعامر وسئلوهم: كيف شايفين العيشة؟ [مقارنة مع العثمانيين] قالوا له : الحذوة الي في بسطار الجندي العثماني، بتشرف الملك جورج.... فنفاهم الى كامب فايد في مصر"
لكن احمد الشمسة الذي كان عمره 14 عاماً عندما حضر الواقعة يعطي صورة أكثر واقعية لما حدث، رغم تأكيده وغيره على عملية الإبعاد : " كل البلد مع الأتراك، ما عدا الأردن هذول الشرفا [ الهاشميون] ويلا إحنا هان كلنا غايتنا تركيا. يعني لحد لما دخلوا الإنجليز، أجا حاكم لوا اسمه ستورس تحت ايد المندوب[ المندوب السامي]. مخاتير بقاش بلدية إسعا، ودى [أرسل في طلب] ورا كل المنطقة تيجي تعمل له عرابة باب الشركة [شركة النجاح]، يم صاحيها تماما. لما أجا صافين عرابا، قلهم بدكم اتقولوا لي انوه [من هو] اللي ببغض الأتراك وبحب الإنجليز، كلهم رموا روسهم[اطرقوا رؤوسهم وصمتوا] يعني اختيارية بلدنا والقضاء كله. رشيد العلي أبو سعيد الرشيد هذا رفع إصبعه، قال له: تعال شو بتقول؟ قال له: بقول أنا بكرهكم وبحب الأتراك. قال له: ليش؟ قال له ديني، مذهبي، مبدأي، انتم عدوين عليّ، كيف بدي احبكم. طبل على ظهره ستورس، طبل على ظهر رشيد العلي، شكره يعني. "
يتعارض موقف رشيد العلي وعامر مع الروايتين البريطانية والرواية العربية القومية اللتين تبنيتا فكرة كره "العرب" للاتراك العثمانيين والثورة ضدهم إلى جانب الحلفاء. وبالتأكيد فإن موقف الاثنين يعبر بشكل أصدق عن مشاعر الأغلبية الصامتة في فلسطين آنذاك (الأغلبية الفلاحية المسلمة) وهو موقف سيحن إليه بدرجات مختلفة من التمايز، الشرفاء الذين انخدعوا بطلاوة لسان البريطانين وصدقوا وعودهم، ليكتشفوا أنهم استبدلوا الرمضاء بالنار.
من ناحية أخرى تلقى ظاهرة ابعاد الاثنين – وهي ظاهرة تكررت على نطاق واسع، وإن لا كنا نجدها إلا بعد استحضار ونبش الذاكرة الشفوية - الأضواء على حقيقة مجهولة، وهي عملية إبعاد زعامات وطنية محلية في فلسطين في اعقاب الاحتلال البريطاني لفلسطين نتيجة استمرار ولائها للنظام القديم. كما توضح عملية التدخل البريطاني المباشر للتحكم في بروز ونشوء وتثبيت الزعامات ليس على المستوى الوطني فحسب بل وحتى على المستوى المحلي. وهي عملية ستستمر في العهد الأردني، وستأخذ أبعادا غير مسبوقة تحت الاحتلال الاسرائيلي.
عندما أبعد الزعيمين شهدت البيرة، ولمدة قصيرة، "زعامة" انتقالية يمكن أن نستعير بنوع من التجاوز والتبسيط مصطلح تكنوقراطية لوصفها، حيث استلم إدارة شؤون البلد إبراهيم حنا الرفيدي، وهو وجيه من عائلة مسيحية صغيرة وفدت إلى البيرة على الأغلب في القرن التاسع عشر قادمة من رفيديا (نابلس) بعد قصة "دم"، واستجارت وأطنبت على أهل البيرة الذين كانوا أبدوا استعداداً لقبولها بعد رفض رام الله لذلك، فأصبحت تحت جناح حمولة الطويل، وجزءاً لا يتجزأ منها. (تعتبر قصة آل الرفيدي ولجوئها للبيرة، وصعود نجم إبراهيم حنا الرفيدي أحد الفصول المهمة لفهم العلاقات المسيحية/الاسلامية في جبل القدس).
كان إبراهيم الذي توفي دون انجاب أولاد قد نال احترام أغلبية سكان القرية المسلمين، فقد كان دمثاً ومتعلما مقارنة بالأغلبية الساحقة من أقرانه الأميين. كما تميز بخطه الجميل الذي سَطَرَ به جزءا كبير من الوثائق والمعاملات العقارية في حينه (معاملات شراء وبيع ورهن الأرض، ومعاملات الإرث والزواج، الخ..) والتي كانت تعقد بين السكان. وبغض النظر عن التناقضات بين الروايات الشفهية التي تقول أن ابراهيم عُين بعد اختياره من قبل وشيوخ البلدة، أو أن تعيينه جاء بمبادرة السلطات البريطانية، فإن هذا التعيين استند إلى الاحترام الذي كان يحظى به لدى الطرفين (السكان والادارة البريطانية) وكمرحلة انتقالية وكحل وسط بين المصالح والقوى العائلية والشخصية المتنافسة.
بعد عدة سنوات من النفي في مصر عاد رشيد العلي وعامر.... ورغم استقبالهما استقبال الأبطال فإن عملية الإبعاد أدت إلى التأثير على مكانتهما. فقد فقدا المخترة فأصبحا عاجزين عن القيام بدور الوسيط بين السكان والسلطة، وهو أحد مقومات الزعامة كما قلنا. كما أن عملية الإبعاد عمقت من تردي وضعهما الاقتصادي الذي كان قد تراجع أصلاً نتيجة صعود القوة الاقتصادية الجديدة القادمة من أمريكا.
فما هي قيمة عشرات الدونمات التي كانوا يمتلكوها عندما أصبح أغنياء المهاجرين قادرين على شراء المئات في صفقة واحدة؟ وما هي قيمة رعوات الغنم الكبيرة أمام سيولة الدولارات الخضراء التي كانت تؤهل لأغنياء المهاجرين شراء عشرة أمثالها إن أرادوا ؟ وكم هي حقيرة فرس رشيد العلي الأصيلة التي كان في ما مضى يتباهى بها في البيرة والقضاء أمام السيارات الفارهة للأغنياء من المهاجرين ؟
سيموت عامر مقهوراً بعد وقت قصير من عودته من المنفى إثر مقتل أحد اتباعه بضربة حجر في شجار على يد احد أنصار عبد الله جودة خلف، ممثل القوة الصاعدة الجديدة ورمزها. لقد وجد نفسه، للمرة الأولى، عاجزاً بلا حول أو قوة أمام انحياز السلطة البريطانية لصالح الزعامة الجديدة الممثلة بعبد الله جودة خلف الذي أجاد فن نسج العلاقات العامة وسياسة "إطعام الفم لتستحي العين". وما هي أيام على هذه الحادثة إلا ومات عامر مجلوطاً.... أما رشيد العلي فسينتهي به الأمر في نهاية حياته كعزيز قوم ذُل : مجرد حراث فقير.
من الآن فصاعدا (مطلع العشرينيات) وحتى نهاية الفترة المدروسة (نهاية الأربعينيات) أديرت شؤون البلد من قبل المهاجرين، وخصوصا من قبل عبد الله جودة خلف، الذي أصبح بمساعدة ودعم أخيه علي - وبغض النظر عن موقعه الرسمي الذي تأرجح هبوطا و صعودا - الزعيم الرئيسي للبلدة خلال 35 عاما. وهو أول رئيس مجلس محلي في البيرة في العشرينيات، وأول رئيس مجلس بلدي (كانون ثاني 1952). وبين هاتين الفترتين سيشغل عدة مرات منصب رئيس المجلس المحلي. وهذه الظاهرة لن تقتصر على عبد الله جودة خلف.... فكل رئيس مجلس محلي أو قروي (ولاحقاً بلدي) يظهر على الساحة منذ 1920 وحتى عام 2005 سيكون مهاجرأ سابقاً للولايات المتحدة (عبد الله جودة خلف ، عيد الموسى، عيسى لصرصور، عقل محمود) أو ابن لمهاجر سابق (وديع محيسن، عبد الجواد صالح ، وليد مصطفى). أما في رام الله فقد كان الياس عودة الدبيني أول رئيس بلدية لها (نيسان 1910) بفضل مال ونفوذ شقيقه يوسف عودة، أول مهاجر من رام الله وعراب الهجرة الذي نظم أول شبكة تهريب لتهجير الرجال من رام الله والبيرة، والذي طالما دعت عليه نساء البيرة في أغانيهن الحزينة عن أزواجهن وأبنائهن الرجال الذين لم يعودوا.
خلاصة
عهد جديد يطوي عهد قديم
أدت الهجرة إلى الولايات المتحدة من البيرة وقراها إلى تغيير جذري غير مسبوق في ملكية الأرض، وإلى ارتفاعٍ في معدل الحراك الاجتماعي لم يشهد له المجتمع المحلي مثيلاً من قبل. وكان من مظاهر هذا الحراك ظهور نوع جديد من الزعامة المحلية مختلفة تماماً في طبيعتها عن الزعامة المحلية التقليدية السابقة، وإحداث تفاوت طبقي كبير في مجتمعٍ كانت التفاوتات فيه قبل الهجرة محدودة. كما أن الحراك الاجتماعي السريع الذي أحدثته الهجرة كسر الحواجز، إذ أصبحت الثروة عاملاً كافياً لاكتساب مكانة تؤهل صاحبها للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي.
ورغم تغير الزعامة فإن ذلك لم يعن فقدان الزعامات القديمة فقدت لاحترامها بين الناس، فكما وصفت جريدة "الدفاع" ستتحول جنازة رشيد العلي ومأتمه في كانون ثاني 1937 إلى مناسبة حزن كبير على مستوى القضاء , فقد لف جثمانه المحمول على الاكتاف بالعلم العربي وسيشارك في جنازته قائمقام رام الله و الشخصيات من المجلس الإسلامي الأعلى و مندوب عن سماحة الحاج آمين الحسيني وستقوم نساء البيرة، ومنهن من مزق ثيابه في إشارة للحزن العميق، بعقد سبعة حلقات ندب ، غير أن هذا الحماس والحزن كان مجرد ترنيمة وداع لمرحلة انطوت بلا رجعة ولا يريد أن يتذكرها أحد بعد الآن.
فبعد أن ووري التراب كان قبره البسيط المبني من الطوب الذي أقيم على ما يبدو بعد سنين يحمل تاريخاً يشير خطأً إلى وفاته قبل عشر سنين، وعلى مقربة من قبره المغمور انتصبت قبور حجرية شديدة الفخامة بنيت على النمط الأمريكي لمغتربين ناجحين.
ورغم صمت القبور الموحش فإنها كانت تحكي بصراحة وآسى قصة التحولات الجديدة.
- المادة مأخوذة من كتاب : أوراق عائلية؛ دراسات في التاريخ المعاصر لفلسطين، الصادر حديثا جدا عن مؤسسة الدراسات المقدسية.
والكتاب حصيلة أعمال مؤتمر (المصادر الأرشيفية والتاريخ الاجتماعي في فلسطين)، الذي عقد في جامعة بيرزيت، تموز 2008.