المنصة (علوي حافظ)
- بقلم: علوي حافظ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة الكتاب
مؤلف هذا الكتاب من الضباط الأحرار الذين قاموا بحركة الجيش في 23 يوليو سنة 1952 وكان قريباً من جمال عبد الناصر ووثيق الصلة به . وموضع ثقته التامة، وقد أتاح له ذلك الموقع الوقوف على كثير من خفايا وأسرار تلك الفترة من تاريخ مصر.
وعرف عن علوي حافظ الحدة في الطبع، والصراحة في القول، والجرأة في التصرف، وقد جلب ذلك عليه الكثير من المتاعب مع جمال عبد الناصر، حتى أنه لم يطق بقاءه في مجلس الأمة ـ الشعب حالياً ـ
وقد أكسبته هذه المواقف الجريئة شعبية كبيرة. وكان علوي حافظ أول نائب ينضم إلى حزب الوفد عند تأسيسه سنة 1977 إيماناً منه بأن الوفد هو معقل الديمقراطية.
وهذا الكتاب يلقي بعض الضوء على تلك الحقبة المظلمة من تاريخ مصر، وكان مؤلفه صادقاً مع نفسه ومع الحقيقة، فلم يحاول أن يتنصل من دوره فيها، بل كان صريحاً في إقراره بمسؤوليته، وفي اعترافه بخطئه وفي شعوره بوخز الضمير. ويقول "أشعر الآن ـ بعد هذه السنين ـ بضميري يحاسبني حساباً عسيراً .. إن صوت الضمير يعلو على أي شيء آخر. أسمع صوت ضميري ينصب لي محاكمة، إنه يتهمني بأنني أحد المسئولين عن كل ما حدث لمصر من صباح 23 يوليو سنة 1952 وحتى يوم 6 أكتوبر سنة 1981 .."
ويعترف المؤلف بأن دكتاتورية الحكم وراء كل ما أصاب مصر من كوارث، وإن الديمقراطية التي يناضل الوفد من أجلها هي الطريق الصحيح، لتصحيح كل هذه الأخطاء، وإزالة التراكمات التي لطخت جبين مصر.
لقد أسقط حادث المنصة الجمهورية الثالثة، لأن مؤسس هذه الجمهورية أراد أن يكون الحاكم الفرد المطلق، الذي يرتدي ثوب الديمقراطية وهو أبعد ما يكون عن سلوك الديمقراطية.
كان حادث المنصة نهاية للفاجعة التي بدأت يوم 3 سبتمبر سنة 1981 عندما أصدر أنور السادات أمره باعتقال أكثر من ألف وخمسمائة من قادة العمل السياسي والفكري في مصر، وإيداعهم غياهب السجون، لا لشيء إلا أنهم قالوا " لا " لممارسته غير الديمقراطية، وبعد شهر كان حادث المنصة.
كان حادث المنصة محصلة تراكمات وأخطاء جسيمة نزلت بمصر.
والكتاب يثير تساؤلات عدة، لعل أخطرها هو : هل حققت حركة الجيش ما أعلنه بيانها الأول صباح يوم 23 يوليو سنة 1952 من القضاء على الفساد، أم أثمرت هذه الحركة فساداً يفوق كل ما تحدث عنه قادة الثورة من فساد ؟
وتحدث البيان عن الحياة النيابية السليمة في ظل الدستور، ولكن أفعالهم كلها كانت تعطيلاً للحياة النيابية السليمة .. وتحطيما للدستور.
إنني أسأل مع المؤلف علوي حافظ، الذي كان واحداً من الضباط الذين قاموا بحركة الجيش : هل جاءت نتائج هذه الحركة بعد كل هذه السنين متسقة مع المقدمات ؟ هل حققت ما تمناه الشعب وناضلت الأمة طويلاً من أجله ؟
إن الكتاب يجيب عن هذه الأسئلة في وضوح وصراحة وصدق، وهو جدير بأن يقرأه كل مواطن، ليعرف وجه الحقيقة في كثير من الأمور التي زيفت عليه.
فؤاد سراج الدين
بقلم: الدكتور عبد العظيم رمضان
بمجيء يوم 6 أكتوبر 1987 واليوم، تكون قد مضت ست سنوات على حادث المنصة، الذي أودى بحياة رئيس مصر السابق محمد أنور السادات. أصبح السؤال الذي يبحث له كل مصر عن إجابة؟ كيف وصلنا إلى ذلك الحدث؟! وهل يتحمل السادات وحده تاريخياً مسئوليته؟
فعندما قامت ثورة يوليو، في شكل انقلاب عسكري على نظام الحكم، في يوم 23 يوليو 1952، كانت مشاكل مصر السياسية التي تتركز حولها القضية الوطنية ويدور حولها النضال الوطني ـ تتركز في ثلاث مشاكل رئيسية هي: الاحتلال، والاستبداد، والاستغلال. وبمعنى آخر كانت جهود الوطنيين والحركة الوطنية تتركز حول التخلص من الاحتلال، ومن الحكم القصر. ومن الظلم الاجتماعي.
وكان الوفد يقود كفاح الأمة المصرية في هذه المجالات الثلاثة، فهو الذي قاد كفاح الأمة في ثورة سنة 1919، وهو الذي قاد نضال الأمة فيما بين الحرب العالميتين الأولى والثانية، وقد استطاع استخلاص قدر كبير من الاستقلال من دولة الاحتلال بمعاهدة 1936، ولعب دوراً هاماً في مساعدة القوى الديمقراطية العالمية سواء القوى الرأسمالية أو الإشتراكية، في التخلص من خطر الفاشية والنازية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم قاد نضال الأمة للتخلص من سلبيات معاهدة 1936 بعد الحرب، ولم يتردد في إلغاء معاهدة 1936 أثناء توليه الحكم عامي 1950 – 1951 حتى أقيل بعد حريق القاهرة في يناير 1952.
أما التخلص من الاستبداد، فقد كان الوفد هو الذي قاد نضال الأمة المصرية ضد الحكم المطلق للقصر، سواء في وزارة سعد زغلول " وزارة الشعب " أو ف وزارات مصطفى النحاس التي جاءت بعدها، ودفع الثمن غالياً إقالات جميع الوزارات التي تولاها مصطفى النحاس، فيما عدا وزارة واحدة. فأقيل النحاس في 25 يونية 1928، وأقيل في 30 ديسمبر 1937، وأقيل في 8 أكتوبر 1944، وأخيرا أقيل في 27 يناير 1952. فكانت هذه الإقالات أبلغ شهادة على نضال الوفد ضد الحكم الاستبدادي للقصر الملكي، وعلى أنه ظل حتى يوم 23 يوليو قائد نضال الشعب من أجل إرساء الديمقراطية الصحيحة في مصر.
أما التخلص من الاستغلال، فبرغم قصر عهد وزارات الوفد ـ حيث لم يحكم أكثر من ربع المدة التي عاشتها الحياة الدستورية منذ عام 1924 ـ إلا أن حكومات الوفد هي التي أصدرت قانون عقد العمل الفردي حماية الأجور ومعالجة حالات المرض والعجز والشيخوخة والوفاة، وهي التي أصدرت القانون الإجباري ضد إصابات العمل، وبه أمكن الاحتفاظ للعامل بحق التعويض، وهي التي أقرت قانون الاعتراف بنقابات العمل، فأسبغت الصفة الشرعية على نضال العمال ضد استغلال أصحاب الأعمال ـ إلى غير ذلك من القوانين.
وعلى هذا النحو عندما قامت ثورة يوليو لم تكن الساحة السياسية خالية من قيادة شعبية وطنية تقود نضال الشعب المصري في كافة المجالات. وكانت إلى جانب هذه القيادة السياسية الشعبية قوى سياسية أخرى راديكالية تركز على بعض جوانب الحركة الوطنية، مثل القوى اليسارية التي كانت تركز على القضية الاجتماعية، أو الجماعات الإسلامية ـ مثل جماعة الإخوان المسلمين ـ التي كانت تركز على قضية الدين والمجتمع.
وقد أيدت هذه القوى السياسية جميعها، وعلى رأسها الوفد، ثورة يوليو عند قيامها، لأنها رفعت علم الدستور وإسقاط حكم القصر منذ اللحظة الأولى لقيامها. وعندما أعلنت الثورة عزمها على إصدار قانون الإصلاح الزراعي، قبل الوفد المشروع من حيث المبدأ، وعلى الرغم من أنه أبدى تحفظات لحماية الثروة الزراعية، إلا أنه أعلن أنه سوف يقبل المشروع بالتحفظات أو بدون التحفظات. وفي يوم 23 سبتمبر 1952 أصدر الوفد برنامجه، وفيه قبل مشروع تحديد الملكية والإصلاح الزراعي دون لبس أو إبهام.
وعلى هذا النحو لم يعد لدى ضباط الثورة ما يبررون به استمرارهم في الاستيلاء على السلطة، وإنما كان عليهم الانسحاب إلى ثكناتهم، وتسليم السلطة للشعب عن طريق دعوته إلى انتخاب ممثليه، ولكن الأمور سارت في مسار آخر، فكان ذلك بداية الطريق إلى وأد الديمقراطية الليبرالية وإقامة الدكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد بأساليب مختلفة حتى وصلت إلى نهايتها المأساوية بحادث المنصة.
ويمكن تقسيم تاريخ هذه الحقبة التاريخية إلى ثلاث جمهوريات هي : جمهورية محمد نجيب منذ 18 يونيو 1953، وجمهورية عبد الناصر منذ 28 يونيو 1956، وجمهورية السادات منذ 18 أكتوبر 1970. وهذا التقسيم السياسي أقرب ما يكون إلى التقسيم التاريخي، أي التقسيم الزمني للأحداث حسب انتقالها بمصر من عهد إلى عهد. فالتقسيم التاريخي يبدأ من 23 يوليو 1952 حتى أزمة مارس 1954 بالنسبة للمرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فتبدأ من انتصار الثورة في أزمة مارس 1954 حتى وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.
أما المرحلة الثالثة فتشمل عهد السادات منذ تولي السلطة بوصفه نائب الرئيس عقب وفاة عبد الناصر حتى واقعة اغتياله في حادث المنصة في 6 أكتوبر 1981. ويلاحظ تداخل المرحلتين الأوليين مع تاريخ الجمهوريتين الأوليين : جمهورية محمد نجيب وجمهورية عبد الناصر.
ومن المفارقات في المقارنة بين المرحلة الأولى والجمهورية الأولى ـ أي في المقارنة بين التقسيم السياسي والتقسيم التاريخين هي أن قيام جمهورية محمد نجيب كان بداية سقوط محمد نجيب نفسه!، لأن تعيينه رئيساً للجمهورية كان بغرض نقل سيطرته على الجيش إلى يد عبد الحكيم عامر، الذي كان " صاغاً " فرُقِّيَ إلى أربع رتب مرة واحدة، ليتسنى تعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، وبذلك وقعت السيطرة على الجيش في يده وفي يد عبد الناصر، وظلا يتقاسمان السلطة بدرجات متفاوتة حتى هزيمة يونيو 1967.
أما محمد نجيب فقد ظلت سيطرته كرئيس للجمهورية ف التدهور منذ لحظة تعيينه حتى استطاع تفجير الصراع على السلطة بين ضباط الثورة باستقالته التي قدمها لمجلس قيادة الثورة في 23 فبراير 1954، ولكن المجلس اضطر تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى إعادة محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية في 27 فبراير 1954 ـ أي بعد يوم واحد من إعلان قبول استقالته في 25 فبراير 1954.
وقد ظل الصراع على أشده بين محمد نجيب، الذي أصبح في هذه المرة يستند إلى الجماهير الشعبية، وانضمت إليه القوى السياسية الوطنية والتقدمية ـ وبين بقية أعضاء مجلس الثورة حتى 25 مارس 1954، أي لمدة شهر كامل ـ حين أعلن مجلس قيادة الثورة استسلامه وقبوله حل نفسه يوم 24 يوليو 1954، وعودة الحياة الحزبية. ولكن الصف الثاني من الضباط دبر حوادث إضراب العمال ابتداء من اليوم التالي حتى يوم 29 مارس، فسقطت السلطة مرة أخرى في يده، واستمر محمد نجيب رئيساً للجمهورية بصفة صورية حتى أقيل من منصبه يوم 14 نوفمبر 1954.
وقد ظل منصب رئيس الجمهورية شاغراُ منذ ذلك الحين، مع تولي مجلس قيادة الثورة برياسة عبد الناصر سلطاته، حتى انتخب عبد الناصر رئيساً للجمهورية يوم 23 يونية 1956، فلم يغير ذلك من واقع الأمر شيئاً، لأن عبد الناصر كان رئيس الجمهورية الفعلي منذ إقالة محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954.
ومن هنا لا يجوز تحميل محمد نجيب أي مسئولية أساسية عن سلبيات جمهوريته، سواء في الفترة الأولى منذ تولاها في 17 يناير 1953 حتى قدم استقالته في 23 فبراير 1954، أو في الفترة الثالثة منذ 29 مارس 1954 حتى إقالته في 14 نوفمبر 1954. أما الفترة الثانية من 27 فبراير إلى 29 مارس 1954 ـ ولا تتجاوز شهرا واحدا ـ فتحسب له أمام التاريخ، لأنها فترة انطلاق للقوى الوطنية التقدمية تمتعت فيها بقدر كبير من حرية التعبير.
وعلى كل حال فقد كان في المرحلة الأولى من عهد الثورة ـ أي من 23 يوليو حتى إقالة محمد نجيب من رياسة الجمهورية ـ أن تم القضاء قضاء مبرماً على الديمقراطية الليبرالية، وأرسيت مبادئ الدكتاتورية.
ففي يوم 10 سبتمبر 1952 أعلنت الثورة سقوط دستور 1923، وتولى حكومة الثورة جميع مهام السلطة في الدولة من تشريعية وتنفيذية فيما أسمته فترة الانتقال. فاستكملت الثورة بذلك كل مقومات مدلولها القانوني. وفي يوم 13 يناير 1953 أصدرت مرسوماً بتأليف لجنة من خمسين عضواً لوضع مشروع دستور جديد يتفق وأهداف الثورة.
وفي يوم 16 يناير صوبت ضربتها إلى الوفد، بعد اشتباك طويل حاولت فيه ضرب الوفد عن طريق قيادته، فاعترضت على تولي مصطفى النحاس رياسة الوفد، وانتهى الاشتباك بإصدار قانون بحل الوفد والأحزاب، ومصادرة أموالها، وقيام فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات.
وفي يوم 18 يناير، ولتجنب الثورة رقابة القضاء، صدر مرسوم بقانون باعتبار التدابير التي اتخذها رئيس حركة الجيش، وهو لقب رئيس مجلس قيادة الثورة في ذلك الحين لحماية الحركة ونظامها، " من أعمال السيادة العليا " " أي لا يخضع لرقابة القضاء ". وفي يوم 10 فبراير 1953 أكملت حركة الجيش استيلاءها على السلطة من الناحية القانونية، بإعلان دستور فترة الانتقال، الذي جعل السياسة العليا في الدولة في يد " قائد الثورة " بدلا من يد الوصي على العرش، وهو الأمير محمد عبد المنعم، وركز السلطة التشريعية والتنفيذية في يد مجلس الوزراء، وجعل وضع السياسة العامة للدولة وما يتصل بها من موضوعات، ومحاسبة الوزراء، من حق مؤتمر مشترك من مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء.
ومنذ ذلك الحين أخذ زحف الضباط على سلطة يمضي حثيثاً، وقد بدأ دخول الضباط المناصب بتعيين رشاد مهنا وزيراً للمواصلات، ثم وصياً على العرش .. وتبع ذلك تعيين 18 من اللواءات وكبار الضباط. وبعد ذلك اتخذ مجلس قيادة الثورة قراراً بتكليف أعضائه بمباشرة الإشراف على الوزارات المختلفة، فأصبح في كل وزارة مندوب للقيادة، وأخذ تسرب رجال الجيش إلى العمل التنفيذي يتسع ويأخذ أشكالاً مختلفة. وكان من الطبيعي أن يستعين كل وزير من وزراء الظل هؤلاء، بمجموعة من الضباط في الاتصالات المدنية، فتكونت بذلك شلل تحيط بكل عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو في ارتباطه بهم يتغاضى عما يصدر عنهم من أخطاء، ويبرر تصرفاتهم. وازدادت هذه الظاهرة بعد تشكيل هيئة التحرير.
وفي الوقت نفسه أخذت الثورة في اعتبار السفارات والمفوضيات ضياعاً خاصة، تعين فيها الضباط الذين ترغب ف مكافأتهم، وأحياناً الذين ترغب في التخلص منهم!، وبذلك انتقلت كثير من السفارات إلى مراكز لاستغلال النفوذ والتجارة والسرقات. ونظراً لأن هؤلاء الضباط لم يكونوا مؤهلين لشغل هذه المناصب الدبلوماسية فقد انهار العمل الدبلوماسي في الخارج.
وفي هذا الصدد فقد أسندت الثورة تنفيذ أخطر التغييرات الاقتصادية والاجتماعية إلى قيادات من أهل الثقة على حساب الخبرة الضرورية. وعلى سبيل المثال فقد أسندت تنفيذ الإصلاح الزراعي إلى جمال سالم، ولكن الخلافات داخل مجلس قيادة الثورة قذفت بجمال سالم خارج المشروع، وانقلب الإصلاح الزراعي إلى وزارة تحكمها البيروقراطية، ويتحكم فيها الروتين، وبعد أن كان عدد الموظفين القائمين بالعمل لا يتجاوز ألف موظف، تضخم هذا العدد وتضاعف، ولم يعد ثمة رابط أو ضابط للعمل والإنتاج، مثلما حدث في معظم مرافق مصر ومؤسساتها.
وقد أسندت الثورة مشروعاً حيوياً ضخماً لاستزراع الصحراء، وهو مديرية التحرير إلى ضابط برتبة صاغ، ومنح سلطات مطلقة لمدة ثلاث سنوات كاملة، اهتم فيها بالدعاية والشعارات أكثر من اهتمامه بالأساليب العلمية التي طبقتها الدول المتقدمة، ومن هنا لم تلبث الخسائر أن أخذت تتوالى، وأصبحت الشجرة تتكلف مائة جنيه! والبطيخة تتكلف خمسة جنيهات! ووجد عب الناصر ـ أن الملايين من الجنيهات تتبخر في شمس الصحراء وتبتلعها الرمال، والرجل الذي تولى المسئولية لا يفعل سوى رصد ميزانيات ضخمة للدعاية والإعلانات، بدلا من استزراع الصحراء، أخذ الفلاحون يحفظون الأناشيد، ويغنون "إحنا الفلاحين، إحنا البنايين"! واضطر عبد الناصر إلى عزل الضابط المسئول وضم مديرية التحرير إلى وزارة الزراعة.
والطريف أن الثورة التي استعانت في حكمها بالعناصر المدنية التي كان يستعين بها الملك فاروق الذي خلعته، كما استخدمت في بدايتها جهاز المباحث الذي كان يستخدمه فاروق، وذلك قبل أن تكون جهازها الخاص. فلم تكد الثورة تقرر البقاء في السلطة حتى أخذت تستعين بالعناصر الحزبية المتمرسة التي كانت سنداً لفاروق في الحكم، أو تقف موقف الخصومة من الوفد، وتستمع إلى مشورتها، بعد أن سارعت هذه العناصر إلى الالتفاف حول الثورة خوفا من أن تعيد البرلمان الوفدي المنحل إلى الانعقاد، ليحلف الأوصياء اليمين الدستورية أمامه. وكانت هذه العناصر هي التي انضمت إلى هيئة التحرير التي شكلتها الثورة لتكون تنظيمها السياسي الواحد الذي يحل محل الأحزاب الليبرالية. كما أن هذه العناصر هي التي انضمت إلى "الاتحاد القومي" بعد ذلك. ولم تكن هذه العناصر ديمقراطية بطبيعتها أيضاً. وهذا هو السبب في أن هذه التنظيمات ظلت دائماً أبداً غير شعبية ومرفوضة من الجماهير، حتى في ذروة شعبية عبد الناصر، وهو السبب ف الظاهرة التي اتسمت بها ثورة يوليو، وهي أن ولاء الجماهير كان موجهاً إلى عبد الناصر وحده وليس للتنظيم السياسي الذي يتزعمه.
وفي الوقت نفسه كان مجلس الثورة يطغى على حكومة مصر، وبعد الاستفتاء على دستور 16 يناير سنة 1956 وانتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية، لم تعد حكومة مصر تضع سياسة البلاد من الناحية الفعلية، وإنما تحولت إلى لجنة تنفيذية، بل اختفى كل وجود لها في الأزمات الخطيرة التي مرت بالبلاد، والمثل على ذلك حرب يونية 1967 التي تمخضت عن الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، فلم يكن لهذه الحكومة أي دور في الحرب أو السلام أو إيقاف إطلاق النار، وإنما كان الأمر كله في يدي عبد الناصر والمشير عامر.
كذلك فقد تضاءل شأن الوزير، فلم يعد يشغل منصباً سياسياً، بل منصباً إدارياً أو فنياً. ولم يعد الوزير مسئولاً عن سياسة الحكومة كلها، وإنما أصبح مسئولاً فقط عن أعمال وزارته.
وفي الوقت نفسه، انقسم الوزراء إلى وزراء درجة أولى ووزراء درجة ثانية. أما الوزراء الأول فهم العسكريون، لأنهم الأكثر اختلاطاً بعبد الناصر، وهم رؤساء اللجان الوزارية، ويستطيعون من خلال هذه اللجان أن يكونوا مصر تعب أو ارتياح للوزراء المدنيين، الذين كانوا يعدون وزراء من الدرجة الثانية، إذ يستطيعون من خلال هذه اللجان شل عمل أي وزير مدني في وزارته وإرهاقه بالطلبات.
وقد أسدلت الثورة ستاراً كثيفاً على حياة زعمائها وقياداتها، وأيضاً على خلافاتها وانقساماتها، وكذلك على أخطائها، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر كله. ويمكن القول أنه لولا هزيمة يونيو الكبيرة التي شرخت جدار الثورة لما عرف الشعب المصري شيئاً عن ذلك على الإطلاق لمدة ربع قرن آخر، هذا إذا عرف على الإطلاق!
وبوفاة عبد الناصر انتقلت الثورة إلى عهد جديد منع تولي محمد أنور السادات الحكم في يوم 17 أكتوبر 1970. وفي الفترة الأولى من رياسته التي استمرت إلى حرب أكتوبر 1973 احتفظت مصر بكثير من خصائص وأهداف المرحلة الناصرية، سواء فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية أو ما يتعلق بالنواحي السياسية الداخلية أو الخارجية، واحتفظت مصر بالإتحاد الإشتراكي كتنظيم سياسي واحد.
على أن حرب أكتوبر غيرت وجهة الثورة من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، وبالتالي من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الرأسمالي، وتغير التنظيم السياسي الواحد تبعا لذلك إلى منابر سياسية تحولت إلى أحزاب سياسية، وفي السنوات الثلاث التالية كانت سياسة الانفتاح الاقتصادي قد حملت الجماهير الشعبية بمغارم اقتصادية كبيرة دفعتها إلى الدفاع عن نفسها بأحداث 18 و19 يناير 1977، مما دفع السادات إلى التراجع تدريجياً في الوعود والإنجازات التي حدثت في المجال الديمقراطي.
وقد بدأ في التراجع في 3 فبراير 1977 بصدور القانون رقم 2 لسنة 1977، الذي رفع العقوبة على التجمهر والتظاهر والاعتصام إلى الأشغال الشاقة المؤدبة، بل فرض هذه العقوبة على المشجعين للتجمهر، مما لم يسبق له مثيل في أي بلد في العالم، ومما جعل العمل السياسي المشروع عملاً من أعمال المخاطرة. وعندما أرسل كمال الدين حسين برقية إلى السادات ليقول فيها اتق الله عوقب عقاباً صارماً بطرده من مجلس الشعب بأغلبية 281 عضواً.
على أن هذا القانون لم يمنع فؤاد سراج الدين من إبداء عزمه على بعث حزب الوفد من جديد. وفي 28 مايو 1977 قام بتشكيل لجنة برئاسته لوضع برنامج الحزب، كما أعلن أن شرط الـ 20 عضواً من مجلس الشعب، الذي ينص عليه قانون الأحزاب الجديد، الذي كانت تجري مناقشته في مجلس الشعب، سوف يتوفر للحزب في تلك الدورة.
وقد سارع الحزب الحاكم في إدراج مادة في قانون الأحزاب تقضي بحظر إعادة تكوين الأحزاب السياسية التي قامت قبل الثورة. وعلى هذا النحو عندما اختار الوفد لنفسه اسم حزب "الوفد الديمقراطي" أعلنت السلطة رفضها لهذا الاسم، مما أوضح خوفها من اسم الوفد القديم، وجرت في النصف الثاني من عام 1977 حملة تشويه بالغة الشراسة ضد اسم الوفد واسم باعثه محمد فؤاد سراج الدن، مما زاد من قوة الوفد، ولم تجد لجنة الأحزاب مفراً من إصدار قرارها في يوم 4 فبراير 1978 بالموافقة على تأسيس حزب الوفد الجديد، وبذلك برز لأول مرة منذ قيام ثورة يوليو حزب جماهيري من خارج سلطة الدولة، له رصيد شعبي وخبرة بالعمل الجماهيري يمكن أن يهدد سلطة الحزب الحاكم.
ولم يمض شهران حتى كان السادات يجري استفتاءً عاماً على مشروع قانون يستهدف ضرب الانفراجة الديمقراطية في الصميم تحت اسم "حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي"، يسقط الحقوق السياسية عن كل من تولى منصباً وزارياًن أو انتمى إلى أحد الأحزاب السياسية قبل الثورة!، وكان هذا التشريع مقصوداً به حرمان أهم قيادات الوفد من العمل السياسي، فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج عزلاً سياسياً، استناداً إلى هذا القانون. على أن الحزب كان قد قرر تجميد نشاطه خارج مقاره والاقتصار على النشاط داخلها.
ولملء الفراغ السياسي الذي حدث بانسحاب الوفد والتجمع، نزل السادات إلى العمل الحزبي بنفسه، بتأليف الحزب الوطني يوم 14 أغسطس 1978 تحت رئاسته، ونقل إليه معظم أعضاء حزب مصر!. وأراد إنشاء معارضة موالية له عن طريق الموافقة على قيام "حزب العمل" يوم 11 ديسمبر 1978، والمبادرة بتوقيع بيان تأسيسه منذ البداية، لاحتوائه. ولكن الحزب لم يقبل هذا الاحتواء، مما عرضه للحرب من الداخل وإثارة المشكلات في وجه صحيفته التي صدرت في أول مايو 1979 تحت اسم "الشعب".
وبسبب ما ظهر من بعض أعضاء مجلس النواب من نزعة استقلالية، حل السادات مجلس الشعب الذي انتخب عام 1976، وأجرى انتخابات عامة في يونية 1979 تخلص فيها من المعارضين من أقطاب حزبه وأقطاب الفرق السياسية المعارضة الأخرى، وتمكن بفضل تدخل الإدارة من الحصول لحزبه على 90 في المائة من المقاعد، لإحكام سيطرته على التشريع.
ثم أخذ السادات في متابعة تراجعه عن الديمقراطية بإصدار القرارات والقوانين التي تحمل عناوين خادعة، ففي يوم 22 ديسمبر 1979 أصدر قراراً بتشكيل محكمة خاصة باسم "محكمة الحراسة وتأمين سلامة الشعب". وفي 15 مايو 1980 أصدر قانوناً يحمل اسم "قانون العيب" لتشديد الرقابة على خصومه السياسيين، وقد نص هذا القانون على إنشاء منصب "المدعي العام الاشتراكي" كما نص على إنشاء محكمة باسم "محكمة القيم"، ومحكمة عليا باسم "المحكمة العليا للقيم" وقد وصف بعض القضاة قانون العيب بأنه اعتداء صارخ على استقلال القضاء، ووصفته نقابة المحامين بأنه ينطوي على "مساس بكافة الحريات الأساسية للشعب المصري"ثم صدر في 20 مايو قانون بإنشاء محاكم أمن الدولة بصفة دائمة، بعد أن كانت للطوارئ، وأعطيت لها سلطات واسعة جدا، كما صدر في يوم 26 مايو قانون الاشتباه، الذي تفتح نصوصه الباب لتجاوزات أجهزة الأمن.
وفي الفترة من 2 إلى 5 سبتمبر 1981 كان السادات ينقض على ما بقي من التجربة الديمقراطية التي بدأها، فأصدر قراراً جمهورياً بنقل 67 صحفياً من صحفهم للعمل ببعض المصالح الحكومية، وفي يوم 3 سبتمبر أصدر قراراً باعتقال 1536 من خصومه السياسيين، وفي يوم 5 سبتمبر أصدر قراراً بإلغاء تراخيص الصحف المعارضة، كما تم نقل 64 من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات إلى أعمال إدارية أخرى. فكان حادث المنصة الخاتمة الطبيعية لسلسلة الاعتداءات على الحرية التي بدأت مع ثورية 23 يوليو 1952، التي ظل الشعب المصري يعاني منها على مدى التسع والعشرين سنة السابقة.
بسم الله الرحمن الرحيم
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء. بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " (26 – آل عمران)
" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ". (23 ـ الأحزاب)
وجاءت النهاية .. 6 أكتوبر 1981، وبالتحديد في الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق من بعد ظهر يوم الثلاثاء في ذلك اليوم المشهود ... يوم لن تنساه مصر.
قتل أنور السادات .. اغتالوه ف يوم الزينة، وهو يرتدي بدلته العسكرية، ويقف مزهواً بين رجال قواته المسلحة، وبإحدى يديه عصا المارشالية، وبالأخرى غليون التدخين .. اغتالوه على " المنصة " التي جلس فوقها ومن حوله "جوقة" الحكم .. يشاهد في خيلاء العرض العسكري في ذكرى انتصار الجيش في 6 أكتوبر ..
كان السادات في تلك اللحظة بالذات يمسك بيده منظاراً يشاهد به تشكيلاً جوياً في السماء .. وفجأة .. توقفت إحدى الجرارات المشاركة في العرض العسكري على بعد مسافة لا تزيد على ثلاثين متراً من المنصة الرئيسية التي يجلس عليها الرئيس ومرافقوه .. وبمجرد توقف الجرار، قفز منه ملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولين وألقى أول قنبلة يدوية في اتجاه ساحة العرض، وكان الهدف من إلقائها طبقاً للخطة إشاعة حالة من الارتباك، وفي نفس الثانية وقف حسين عباس محمد "رقيب متطوع بالقوات المسلحة" من مكانه في الجرار وبدأ في إطلاق مدفعه الرشاش في الاتجاه العام لموقع الرئيس. وكانت أول رصاصة أطلقها هي التي أصابت السادات في عنقه، ولعلها كانت الرصاصة القاضية وبمجرد بدء إطلاق النار فإن سائق الجرار وبقية طاقم المدفع الذين لم يكونوا ضمن أفراد الخطة قفزوا من أماكنهم وحاولوا اللحاق بعربات أخرى من طابور العرض. كانوا يهربون، ولعلهم كانوا ينجون بأنفسهم. وقفز ملازم أول مهندس احتياط، عطا طايل حميدة رحيل، وألقى قنبلة انفجرت في نص المسافة بين المنصة والجرار .. كانت المفاجأة كاملة لدرجة أن ر الفعل بإطلاق نيران الحرس لم يبدأ إلا بعد ثلاثين ثانية، وكان خالد الإسلامبولي قد وصل إلى الصف الأمامي للمقاعد على المنصة، وتبعه حسين عباس بينما كان ملازم أول سابق عبد الحميد عبد السلام عبد العال علي وعطا طايل حميدة يتقدمان على جانبي المنصة بإطلاق النار للتغطية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمـة
• كان مشهد "المنصة" فريداً من نوعه .. قتلى ودماء وأشلاء .. وكبراء انكفأوا على وجوههم، تحت الكراسي .. نياشين تناثرت، مع كتل اللحم والدم .. أنين وذعر، وخوف وهلع .. فوضى وارتباك وذهول .. وعيون الأحياء في مواجهة عيونمن الأموات تسأل:
ماذا حدث؟!!
40 ثانية هي عمر الحدث بالكامل .ز ولكن كل ثانية هي عمر آخر للذين انكفأوا تحت الكراسي. استغرقت العملية 40 ثانية .. أي أقل من دقيقة، من لحظة نزول خالد الإسلامبولي ورفاقه، إلى اللحظة التي انسحبوا فيها بعد أن نفذوا المهمة.
40 ثانية، أسقطت الجمهورية الثالية .. جمهورية أنور السادات .. سقط مضرجاً في دمائه تحت سمع وبصر العالم كله.
ولكن سيظل السؤال: هل ما حدث يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، كان لابد من أن يحدث..؟
وتقول الإجابة: نعم .. كان ما حدث لابد من أن يحدث، بنفس السيناريو وبنفس الأبطال.
ولكن كيف..؟ ولماذا؟
هذا هو موضوع هذا الكتاب: "المنصة".
إن الأحداث الساخنة، أو ما يمكن أن أسميه "بداية النهاية" بدأت تحديداً يوم 3 سبتمبر 1981 .. يوم تذكره مصر كلها، يوم هبت فه عاصفة هوجاء .. ودهم الشر 1536 أسرة، كانت آمنة مطمئنة، فأصاب أفرادها الفزع والوجل والخوف الرهيب ..
يوم أسود لا تنساه مصر .. حين جمع السادات هذا الكم الهائل من مختلف الاتجاهات والتيارات والجماعات، فاعتقل 1536 شخصا، كانت الكشوف التي تضم أسماءهم معدة من قبل، بالإضافة إلى كشوف أخرى تضم أسماء سبعة آلاف آخرين، قال السادات عنهم في بيان 5 سبتمبر 1981 "إنه يعرفهم جيداً" ..
استغرقت العملية 40 ثانية ـ أي أقل من دقيقة ـ من لحظة نزول خالد الإسلامبولي ورفاقه، إلى لحظة انسحابهم، بعد أن نفذوا المهمة بنجاح .. لم يغتالوا من "جوقة" الحكم سوى السادات، رغم أن الجميع كانوا في متناول رصاصهم، يختبئون تحت الكراسي، ولكنهم تركوهم ليستوعبوا الدرس .. درس المنصة .. وانطلقوا إلى حال سبيلهم ..
وسقط السادات ..
ولكن قبل السقوط كان هناك كم هائل من الخراب والدمار والفساد اجتاح هذا البلد الطيب، صنعه السادات والذين سبقوه .. وجاء حادث المنصة ليوقف آلة الزمن لحظات، وليدق بعنف منبها ومحذراً .. أن الطوفان قادم إذا لم تنتبهوا .. وإذا لم تنصلحوا ..
حتى نعرف مواقع الإقدام .. ونحدد المسئوليات أمام التاريخ والأجيال .. سنعود بالذاكرة إلى البداية المبكرة .. إلى يوم انطلقت "حركة الجيش" في عام 52، وتسلمت زمام السلطة، وانبثق منها ثلاث جمهوريات حكمت مصر ..
• جمهورية محمد نجيب.
• جمهورية جمال عبد الناصر.
• جمهورية محمد أنور السادات.
فماذا فعل كل منهم بمصر..؟
هذا ما سيتناوله هذا الكتاب..
لقد كانت حياة أنور السادات .. لغزاً
وجاء موته .. لغزاً وعبرة ..
حكم الرجل طويلاً، دون مراجعة حقيقية، فأصابه ذلك المرض اللعين الذي يصب كل من يحكم فترات طويلة دون مراجعة .. "مرض السلطة" .. وليس من شك، في أن مرض السلطة هو الذي أوصل السادات إلى النهاية التي انتهى إليها في حادث المنصة يوم 6 أكتوبر .. كانت هذه النهاية متوقعة .. بل محتومة .. نفس المرض الذي أصاب عبد الناصر من قبل، وجعله يرتكب في حق مصر خطايا لا تعد ولا تحصى.
وفي مصر .. هلل البعض لأنور السادات، حين صدقوا أنه رب العائلة المصرية .. وهو لقب اخترعه لنفسه بعد زيارته للهند، حيث وجد الناس هناك "يؤلهون" غاندي، ويعتبرونه "الرب" الكبير، فراقت له التسمية، ومن يومها أصبح يمارس "دور" رب العائلة المصرية" ..
والبعض الآخر .. فطن إلى أن السادات لغز كبير ..
فحاول أن يتصدى له بكل ما وسعه من الجهد .. وعندما كان السادات يكتشف واحداً من هؤلاء، كان "لا يرحمه" كما كان يردد دائماً .. فإما أن يتخلص منه بالقتل .. نعم بالقتل .. وإما أن يتخلص منه بالنفي خارج دائرة النفوذ والسلطان.
وفي خارج مصر .. في أمريكا بالذات، استطاعوا فهم مفاتيح شخصية السادات، وعزفوا له الأوتار التي يحب هو أن يُعزف له عليها .. ومن خلال الإعلام المرسوم أمالوا رأسه، حتى أعلن ذات يوم انه لو رشح نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية فسوف يفوز بأغلبية كاسحة..!!
وظلت الحقيقة غائبة .. وظل السؤال قائماً: ما هو الحكم على أنور السادات؟ هل كان ظالماً أم مظلوماً..؟ هل كان ضحية أم فرعوناً..؟
هذا ما حاولت الوصول إليه في هذا الكتاب، من خلال رؤية دقيقة في مشوار طويل .. علماً بأنني تعرفت بأنور السادات في مرحلة مبكرة جدا لكلينا .. ثم اقتربت منه قرابة ربع قرن، سواء بالنسبة للعمل، أو لدوري كنائب تحت قبة البرلمان الذي كان السادات رئيساً له قبل أن يقفز إلى كرسي الرئاسة، ويحكم مصر. وغداً تتكشف كل الحقائق .. ويذهب الأفراد، وتبقى مصر وحدها، محروسة بعناية الله.
6 أكتوبر 1981
اليوم .. موعد العرض العسكري .. استيقظت من نومي مبكراً، كي أتأهب لمشاهدة هذا الحدث السنوي الكبير، كنت سعيداً بدرجة لاحظها كل من معي في البيت، فرغم السنوات الطوال التي أمضيتها في دروب السياسة، بعيداً عن العسكرية، فلا تزال العروض العسكرية متعة حياتي. فقبل أي عرض عسكري تتقمصني شخصيتي العسكرية في الخمسينيات، وتعود الذاكرة بي إلى سنوات شبابي وأحلامي .. إلى الذكريات العزيزة .. ولساعات طويلة تستغرقني الذكريات بالكامل، حتى أكاد أسمع وأرى الأحداث والأشخاص مائلة أمامي، كأنما توقف الزمن عند هذه الفترة من عمري. نعم أشعر الآن أنني الملازم علوي حافظ .. ذلك الشاب المصري، ابن العشرين ربعاً، ابن الحي الشعبي العريق الدرب الأحمر الذي وقف في ساحة الكلية الحربية، يعلم التكتيك وفن الحرب لضباط المستقبل..
ها أنذا، أشعر بنفس الأحاسيس التي هزتني بعنف، أنا وزملائي شباب الجيش، عندما اندفعنا ف تلك الليلة التاريخية ـ 23 يوليو 1952 ـ لنقتلع جذور الفساد، ونضع حداً لعدم استقرار الحكم في البلاد .. نعم .. أسمع في أذني الآن، ذلك البيان الشهير .. البيان الأول الذي أعلن من محطة الإذاعة المصرية في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم 23 يوليو 1952 .. صوت أنور السادات، يحمل للأمة، علامة نجاحنا .. ما زلت ما زلت أحفظ البيان عن ظهر قلب:
"بيان من القائد العام للقوات المسلحة إلى الشعب المصري":
اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد، وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين. وأما فترة ما بعد هذه الحرب، فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم، وفي خلقهم، وفي وطنيتهم. ولابد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن، في ظل الدستور، مجرداً من أي غاية. وأنتهز هذه الفرصة فأطلب ممن الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة لأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس في صالح مصر، وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشة لم يسبق لها مثيل، وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس. وإنني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم. والله ولي التوفيق".
هذا نص كلمات البيان الأول، ثم توالت البيانات .. إنني أكاد أسمعها ف أذنيّ الآن، كلها تؤكد أن حركة الجيش تنوي العودة بالبلاد إلى وضعها الدستوري بعد التخلص من الخونة المسيطرين على الحكم، وكان هذا مطلب الشعب المصري، الذي كافح وناضل من أجله عشرات السنين، وسقط منه آلاف الشهداء، وخرجنا نحن ضباط الجيش، في ذلك اليوم، لنحقق للشعب ما يريد ..
نعم .. إ الذي تحرك في هذه الليلة، ليس شعب مصر بأكمله، بل هي شريحة بسيطة من ضباط الجيش .. مجموعة من الشبان يملؤهم الحماس والغيرة لبلدهم، كونوا تنظيماً عسكرياً سرياً، لم يرتبط بالشعب، ولا بالأحزاب .. لم يكن لنا حكومة ظل، أو وزراء يرسمون خريطة التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي .. لم يكن عندنا غير ما جاء في كلمات البيان الأول للحركة.
وبقدر السعادة والنشوة التي تغمرن بها تلك الذكريات، بقدر ما تفجر في داخلي أحاسيس مغايرة تماماً، ومشاعر مضادة تسلمني إلى حالة من الألم والندم والحسرة وعذاب الضمير .. نعم أنا واحد من هذا التنظيم .. تنظيم الضباط الأحرار، الذي خرج ذات ليلة ليحقق لمصر وشعبها الأحلام التي طال انتظارها، والآمال العريضة التي ناضل من أجلها، وضحى بالشهداء من أجل أن تصبح مصر حرة أبية، يحكمها أبناؤها، وتملك إرادتها في قبضتها، وينعم فيها الشعب بالحرية الحقيقية .. فهل جاءت النتائج ـ بعد كل هذه السنين ـ متسقة مع المقدمات .. هل جاءت حركة الجيش في يوليو 52 بما تمناه الشعب، وناضلت الأمة طويلاً من أجله .. لا والله .. وألف لا .. شهادة أنطقها أمام الله، وللتاريخ .. وبكل الأسف والندم أقول .. إنني كنت واحداً من هؤلاء..!!
محكمة الضمير
أشعر الآن، بعد هذه السنوات، بضميري يحاسبني حساباً مراً عسيراً، إن صوت الضمير داخلي يعلو على أي شيء آخر .. نعم .. أسمع صوت ضميري، ينصب لي محاكمة .. إنه يتهمني بأنني أحد المسئولين عن كل ما حدث لمصر .. من صباح 23 يوليو 1952 .. وحتى اليوم .. 6 أكتوبر 1981،
نعم كل ما أصاب هذه الأمة من مصائب وكوارث، على امتداد ها الزمن، إنني أحد المسئولين عنه.
- كوارث الديون.
- انكماش الحدود.
- الشباب الذي فقد الثقة والانتماء.
- المرافق التي فسجت.
- الحريات التي قيدت.
- القوانين سيئة السمعة.
- الشرفاء الذين داسهم اللصوص، ومحترفو السلطة الذي تبوأوا بغير علم أو خبرة وبغير ميزة سوى النفاق والنفاق والنفاق..
أليس هذا هو حال مصر اليوم...؟؟؟
أليس هذا هو محصلة حكم رجال 23 يوليو....؟؟؟
تحاصرني الاتهامات .. وأجدني أهرب إلى داخلي .. أحاول بسرعة أن أسترجع أحداث وحوادث ما مضى من سنين، لأحدد حجم مسئوليتي، لعلني أجد ما يبرئ ساحتي أمام ضميري، أو حتى يخفف حدة الشعور بالذنب داخلي. حقا إن الصورة قاتمة، ومؤلمة، بل وكئيبة.
لكن ليس هناك من مفر .. فأنا أحد المسئولين عما حدث .. ألست واحداً من الذين قاموا بالانقلاب العسكري في يوليو 1952. أعني حركة الجيش .. وللحق وللتاريخ، فقد كانت "حركة" وليست ثورة".
إن للثورة في التاريخ مفهوماً محدداً، أن تكون انتفاضة جماهيرية، آتية من رحم الشعب، بقصد الإطاحة بنظام حكم قائم، تصفي من يمارسونه أو يمثلونه، وهؤلاء طبعاً لا يستسلمون للثورة بيسر أو سهولة .. لذلك فإن الثورات غالباً ما تكون عنيفة في حركتها ومسيرتها، جذرية في نتائجها ومحصلتها ..
كالثورة الفرنسية عام 1789.
والثورة البلشفية عام 1917.
والثورة المصرية عام 1919.
والثورة الإيرانية عام 1978.
أما الانقلابات العسكرية، فهي لا تخرج من رحم الشعب، بل يفاجأ بها، ويكون موقفه منها موقف المشاهد، وليس الفاعل أو الشريك.
وهذا بالضبط ما حدث معنا يوم 23 يوليو 1952.
فتنظيم الضباط الأحرار، كان عسكرياً صرفاً، بعيداً كل البعد عن الأحزاب والهيئات السياسية القائمة، على عكس الحركة العرابية مثلاً التي ظلت تختمر وتتصاعد شهوراً طويلة، شارك فيها إلى جانب الجيش فئات من الشعب ممثلة في بعض الأعيان وأصحاب الرأي والفكر، فكانت ثورة شعبية بمعنى الكلمة.
أما حركة 23 يوليو 1952، فقد أفرزت جمهوريات ثلاث، لضباط ثلاث من تنظيم الضباط الأحرار:
- جمهورية محمد نجيب.
- جمهورية جمال عبد الناصر.
- جمهورية أنور السادات.
ولم يقف دوري عند حد المشاركة في قيام الحركة بما قامت به في ليلة 23 يوليو، بل كان لي دور رئيسي في هذه الجمهوريات الثلاث ..
فكيف لا يحاكمني ضميري...؟
وسوف أحكي .. وأتكلم .. بالصدق والأمانة .. والتجرد .. إنها شجاعة أحسد نفسي عليها، قبل أن يحسدني عليها الآخرون .. فما أكثر الذين تهربوا، ولاذوا بالصمت، واكتفوا بالمناصب والمغانم، حتى حين انحسرت عنهم المناصب، لاذوا بالصمت المريب، ودفنوا الحقيقة داخلهم.
أسمع صوت ضميري .. يطالبني بتحديد مسئوليتي فوراً .. إنها شهادة للتاريخ . نعم .. فعدسة التاريخ قد رصدت كل شيء في زمانه ومكانه ..
وقبل أن أتكلم .. وأحدد مسئوليتي أقول: لقد شاركت فعلاً في كل ما حدث مع الذين انطلقوا من الجيش ليلة 23 يوليو 52 .. لكنني كنت صغيراً .. أخضر العود .. قليل الخبرة.. متدفق الحماس.. صادق النية.. واسع الأحلام والآمال.. اندفعت كغيري وراء هدف لاح لنا كضباط شبان نحب بلدنا ونسارع بتقديم أرواحنا فداء لخلاصه وتحريره من أسر الظلم والفساد والطغيان.. في تلك الليلة كان الهدف أمامنا واضحاً، محدداً: القضاء على الخونة، وعزل الملك، وتصفية الفساد.
لكن الانقلاب لم يقف ـ للأسف ـ عند الهدف المحدد، لقد كانت حركة الجيش في فكر محمد نجيب، حركة وطنية تستهدف "الاتحاد والنظام والعمل" للأمة المصرية كلها..
بينما كانت في فكر الضباط الأحرار متباينة الأهداف..
فمنهم من كان يريدها لصالح الإخوان المسلمين.
ومنهم من أراد تطويعها للشيوعيين.
ومنهم من كان يرى ردها للشعب ممثلاً في "الوفد" ممثل الأمة الحقيقي.
أما أمثالي من الشباب، فإن حركة الجيش كانت مجرد إنجاز وطني رائع، عليه أن يخلص البلاد من الفساد ويفتح لها طريقاً فسيحاً نحو آمال عظام، خصوصاً بعد سقوط الملك رأس الفساد.
أما جمال عبد الناصر.. فقد كان في ذهنه كل هذا الذي دار في رؤوس الجميع، بشرط أن يتركز الأمر في نهايته في شخصه هو.. كان يحس أنه ضمير هذه الأمة. فهو فعلا زعيم تشكيل الضباط الأحرار.
كانت في ذهنه وحده أفكار لم يبح بها لأحد..
في البداية، وقف عبد الناصر في حماسة مطالباً بعزل الملك.
ووقف أيضاً إلى جانب الذين رفضوا إعدام الملك.
كان صاحب الرأي القائل بأن تبتعد حركة الجيش عن فكر اليسار حتى تغضب أمريكا.. وكانت أمريكا فعلاً هي الدولة الأجنبية الوحيدة التي غرقت يداها في عجين حركة الجيش من البداية.
فهي التي منعت الإنجليز من التحرك لنصرة الملك حين قام الانقلاب.
وهي التي ساعدت على خروج الملك دون متاعب له أو للضباط الأحرار.
وفجأة.. انفجر الصراع بين عبد الناصر ونجيب.
نجيب يرى عودة الجيش إلى ثكناته، وإعادة الحياة الدستورية، والسماح للأحزاب بممارسة نشاطها من جديد.
وعبد الناصر يرى أن تحقيق رغبة نجيب تعني أن الحركة قد صفيت، وأن أحلامه قد تبخرت، وأن كل ما خطط ورسم له قد ذهب أدراج الرياح.
لهذا .. أقال محمد نجيب.
وأبقى ضباط حركة 23 يوليو في مراكزهم يسيرون دفة الأمور في البلاد..بغير أحزاب وبغير دستور.. إلى أن انتخب عبد الناصر رئيساً للجمهورية، فحكم طويلاً دون مراجعة حقيقية. ومن يحكم طويلاً دون مراجعة، ينتهي الأمر بإصابته بالمرض اللعين .. "مرض السلطة".
وبقي عبد الناصر يحكم دون ديمقراطية، وبدستور فصله على مقاسه، وبمجلس نيابي وهيئات ولجان صورية لا تستطيع أن تقول له لا .. أو تراجعه القرار.
وكانت النتيجة الحتمية هي نكسة عام 1967، وما جرته على البلاد من نكبات وكوارث لا يزال الشعب المصري يعيش في مرارتها حتى اليوم ..
كان عبد الناصر هو القانون، وهو صاحب الرأي والقرار وحده.
لقد كان الصراع بين عبد الناصر ونجيب، هو البداية والنهاية.
نعم كان الصراع الذي حدث بين القمم، بعد تحقيق الهدف الأول للحركة، وبعد تأييد الشعب لها وفرحته بها، كان بحق الصخرة التي تحطمت عليها حركة 23 يوليو 1952. فقد فتح هذا الصراع للضباط الأحرار شهوة التطلعات، وجعلهم يتسابقون لركوب الموجة الجديدة، وكان ذلك بداية الفوضى والفساد، فمارس بعضهم النهب والسلب واستغلال النفوذ .. وسقوط في قاع الهاوية ..
لقد كان الصراع على السلطة .. ثم بعده مرض السلطة، كانا بحق وراء فشل حركة 23 يوليو، وسبباً لكل ما حاق بها من كوارث ومحن.
فرغم أن جمال عبد الناصر كان من البداية أنموذجاً رفيعاً للضابط الوطني الشجاع، الذي يملك في شخصيته كل مؤهلات النجاح في السلطة .. إلا أنه انفرد بالسلطة، واستبد بالرأي، وقتل المعارضة، وخاصم الحرية وإن تشدق بها كثيراً. حكم طويلاً دون أن يجد من يراجعه أو يحاسبه أو يقول له: قف مكانك، فقد تجاوزت أو أخطأت .. وجل من لا يخطئ، ولكنه تصور غير ذلك .. فسقط وقاد معه مصر إلى الهاوية والتردي.
نعم .. ضمني جمال عبد الناصر إلى تشكيل الضباط الأحرار، وكنت وقتها أصغر الضباط سناً في التشكيل .. وأعترف بأنني منذ التقيت به، أعجبت بشخصيته إعجاباً شديداً، وأحببته إلى أبعد الحدود .. وكان ولائي له شخصياً. كان بالنسبة لي ولكن شباب الضباط الأحرار هو المعلم والرائد .. علمني إدارة الحرب في الجيش، فكان أستاذاً ألمعياً ذكياً، يعرف كيف يستحوذ على مجاميع القلوب. نال إعجاب الجميع من الضباط الصغار مثلي، الذين كانوا يبحثون وقتئذ عن القدوة والمثل في مطلع حياتهم .. فكان عبد الناصر هو قدوتهم ومثلهم .. التففنا حوله وأصغينا إليه .. وأطعناه .. دعانا إلى تنظيم سري في الجيش فأسرعنا لتلبية ندائه بلا تردد، بل اندفاع شديد، ثقةً فيه .. وإعجاباً به. فجمال عبد الناصر هو الذي نظم تشكيل الضباط الأحرار في الجيش .. وهو عقله المدبر، وهو أيضاً صاحب الخطة التي نفذناها ليلة 23 يوليو 1952. هذا هو جمال عبد الناصر .... في البداية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أول مرة مع عبد الناصر
إن ذاكرتي تستعيد الآن صورة اللقاء الأول بيني وبين عبد الناصر .. كنت قد ذهبت إلى السودان بعد تخرجي من الكلية الحربية ..
وفي السودان سمعت اسم جمال عبد الناصر .. سمعت اسمه قبل أن أراه. كان الضباط يرددون الكثير عن كفاءته العسكرية، وقوة شخصيته، وقدرته على اجتذاب القلوب إليه. بعدها التقيت به لأول مرة في مدرسة الشئون الإدارية، فقد جاء دوري للترقي .. والشرط أن أجتاز فرقتين، أولاهما شئون إدارية، والثانية تكتيك في مدرسة المشاة، وكان جمال عبد الناصر مدرساً لفرقتنا في الشئون الإدارية عام 1949 كان نحيلاً، سامقاً، ومحاضراً قوياً في مادته، شيقاً في سرده. وقد حدثت بيننا قصة هي التي ربطتني به، وجعلتني من حوارييه. فالعادة أن يعطي المدرس مشروعاً في نهاية الفرقة يشترك في حله ثلاثة ضباط .. فتتوزع الدفعة هكذا .. ونذهب إلى الإسكندرية حيث يعيش كل ثلاثة معاً فيذاكرون ويحلون المشروع ثم يتقدمون به للحصول على شهادة الفرقة.
والذي حدث أن الزميلين اللذين كانا معي لم تكن لهما حماستي .. فقد كنت أحب أن أصبح مدرساً في مدرسة الشئون الإدارية، بينما اعتمد أحد الزميلين على أنه ابن ضابط كبير في الجيش .. ويبدو أن الثاني ـ وكان صديقاً حميماً له ـ اعتمد على صداقته لابن الضابط الكبير. أما أنا فليس لي إلا الله .. فقد دخلت الكلية بجهد خارق، وقد تركني الزميلان أحل المشروع ومضيا إلى اللهو في سكون الليل بالإسكندرية .. وكانا يعودان بعد منتصف الليل فيجدانني عاكفاً على أوراقي وخرائطي وأقلامي الملونة .. فيمزحان قائلين:
يا علوي .. شد حيلك في مشروعنا .. حذار أن تذهب لسهرة فتضيعنا! وتقدمت .. وتقدمت المجموعات بمشروعاتها إلى الصاغ جمال عبد الناصر لتحديد يوم للمناقشة. واجتمعنا فعقد حاجبيه وهو يقول:
مستوى المشروعات لا يتجاوز المتوسط. عندي مشروعان فقط مستواهما عاليان .. بل إن واحداً منهما يقترب في إجابته من الإجابة النموذجية التي وضعتها للمشروع .. في أرقامه .. في تقديرات للموقف .. في خطوط ميدانه.
ثم قال: هل يمكن أن يكون هذا توارد خواطر .. على العموم أن أحب أن أناقش هذا المشروع في النهاية، ولم يقل عن المجموعة التي قدمت المشروع. وبدأ يناقش المشروعات الأخرى بحدة وسخرية، وهنا أحس ضباط الفرقة الدارسة بالخطر فقال أحدهم:
تسمح يا أفندم أن أطلب باسم زملائي أننا نسمع المشروع النموذجي .. فتجول بعينيه النافذتين بين وجوهنا .. ثم عاد إلى أوراقه وقرأ أسماء مجموعتي، وكان ينطق بالاسم وينظر لصاحبه الذي يرفع يده.
فإذا بالنظرة كأنها حصار .. وإذا بالزميلين ينظران إلي ويهمس أحدهما في أذني:
ماذا نقول؟ وكيف أعددت هذا المشروع؟
ولاحظ جمال عبد الناصر ارتباكهما. ولهذا استدعاهما للمناقشة .. أما الأول فلم يجد ما يقول .. وأما الثاني ابن الضابط الكبير المسنود، فقد تحول بالموقف إلى دعابة وقال أن فرحته أنسته كل تفاصيل المشروع .. فلما جاء دوري وقفت وشرحت، وكان يستوقفني، ويستوضحني، ويصوب سؤالاً يشبه الكمين .. ثم فجأة قال:
- عندي سؤال خارج المشروع .. هل اشتركتم ثلاثتكم في الدراسة ووضع الإجابة؟
فقلت نعم.
وسألني: وكنتم تنامون سوياً، وتفرغتم طول الوقت له .. أم أنك انفردت به؟
قلت: اشتركنا ثلاثتنا.
فسألني وهو يضغط على مخارج الحروف:
- هل أنت متأكد؟
قلت وأنا أغالب لعثمة مفاجئة:
- متأكد يا أفندم .. هم نسوا الإجابة .. ولكني مستعد لكل الأسئلة .. ومضى إلى بقية المشروع .. ثم قال بدهشة:
- الحقيقة أن أرقام مشروعكم هي أرقامي .. فما الحكاية؟
فقلت: يا أفندم نحن متفقون معك داخلياً.
فضحك بدهاء وقال:
- أنت وحدك!
ثم وجه الكلام إلى الفرقة قائلاً:
- أنا أرشح علوي حافظ ليكون مدرساً في المدرسة، ولكني مضطر إلى إنقاص درجاته لأنه لم يقل الحقيقة وأسهم في إتلاف ضابطين، سوف يفسدان كل من يتعاملون معهما من الجيش المصري .. لأنهما متواكلان.
وفرحت وحزنت في نفس الوقت .. وحين ترك قاعة المحاضرات مشيت إلى جواره وأنا أقول له:
- هل يرضيك أن نقع في بعضنا ونحن في أول الطريق؟
فقال:
- لأنك رجل .. فإنني سأعطيك الدرجة النهائية، ولكني لن أرشحك الآن للتدريس.
قلت: ماذا أفعل إذن؟
فقال: خليك على اتصال بي ..
وشاءت الأقدار أن أكون على اتصال به عشرين عاماً .. بعد ذلك اليوم!
لقاء في فيلا بالهرم
في يناير عام 1950 بدأت الدراسة للحصول على الفرقة الثانية في مدرسة المشاة، وهي الفرقة الخاصة بالتكتيك. وق تذكرت محمود رياض الذي كان يدرس نفس المادة بالكلية الحربية لنا ومحاضراته .. وأعطاني حبي لهذه المادة قدرة على التحصيل تفوقت بها، وكنت أول الفرقة بامتياز مع ترشيحي ـ على الفور ـ لأكون مدرساً للمادة في مدرسة المشاة .. وعندما التقيت بجمال عبد الناصر بعد أن عينت فعلا في مدرسة المشاة ـ وكان هذا في مارس 1950 ـ قال لي:
- هكذا اختطفتك مدرسة المشاة .. أما أنا فقد تحدثت إلى الصاغ عبد الحكيم عامر وهو في رئاسة المشاة .. ويعتبر المسئول عن انتدابات الضباط .. تحدثت إليه لانتدابك عندي.
وكنت أحب "التكتيك" .. لكني أمما حماسة جمال عبد الناصر .. قلت له:
- أنا تحت أمرك يا أفندم.
كان جمال عبد الناصر في ذلك اليوم يزور صديقه البكباشي رؤوف محفوظ كبير المعلمين في مدرسة المشاة. وكان رؤوف هذا من ألمع ضباط الجيش المصري، وكان يثق بي ويقربني إليه، فأعد له كشوف المناهج وتوزيعها على المدرسين، وأتابع تنفيذ المنهج ووضع الامتحانات وطبعها .. وقد دعاني البكباشي رؤوف إلى سهرة في فيلا في شارع الهرم .. غير بعيدة عن أستوديو الأهرام، وفوجئت لما وجدت فيها من دلائل الثراء والعراقة .. وأقبل الصاغ جمال عبد الناصر ليلتها فكانت مفاجأة سعيدة.
وعرفت في تلك الليلة أن رؤوف محفوظ يحب سيدة القصر .. ولكي تبقيه سيدة القصر في عشها الذهبي فإنها تفتح أبواب قصرها لكل أصدقائه فر يجد رؤوف ذريعة للخروج أو السهر بعيداً.
قال رؤوف ببساطة ونحن نودعه آخر الليل:
- هنا سوف نلتقي كثيراً، يا علوي .. إذا كانت عندك أوراق تصحيح هاتها هنا .. ثم ضحك وقال:
- أليس هذا القصر أحسن من الحارة اللي ف الدرب الأحمر.
ولكن هذا القصر دخل التاريخ من أوسع أبوابه، فلم يكن اللقاء فيه جلسات أنس أو لهو إلا كغلاف خارجي في باطنه ذاك العمل الذي كان جنيناً لأحداث كبار .. فقد زادت الشلة بعد أن جاء عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وحمدي عاشور، وغيرهم وصارت سيدة القصر تذبح لنا الديكة الرومية بعد أن كان يكفينا الدجاج، وصارت تستعين بابن شقيقة لها .. لكي تساعدها على السهر علينا .. كنا مرة نتناول طعام الغداء حين أقبلت الفتاة فإذا بجمال عبد الناصر يسألها ضاحكاً:
- هل تتزوجينني؟
فقالت ضاحكة: يا سم .. هل أنت جميل لأتزوجك؟
وأحياناً كانت تمتد طاولة الورق فيلعب من يريد .. وكل هذا .. المائدة الممتدة أو المداعبة البريئة أو لعب الورق قناع فوق ما يجري .. والذي بدأ يتكشف لي طرف منه عندما اختلى بي جمال عبد الناصر وقال:
- يا علوي أنا أثق بك. وأثق بصدق حكمك على الأشياء. وأنا أريد منك أن تجري تقييما لضباط الجيش الذين يترددون على مدرسة المشاة .. فإننا تركناك في هذه المدرسة لنكسب بك هذا الموقع.
سألته: تقييم من أي زاوية؟
فقال: الوطنية.
قلت: كيف؟
فقال تدرس علاقاتهم بالقصر. من يتعاطف مع القصر .. من يهاب القصر هذا نبتعد عنه .. يا علوي أنت في حوزتك الملفات السرية لهؤلاء الضباط، ومن هذه الملفات تبدأ عملية التقييم فإذا فرزت الأعواد .. واخترت أصلبها وطنية فنحن في حاجة إلى هؤلاء.
قلت: لماذا؟
فقال: أننا نريد عمل مناورة كبيرة على مستوى الجيش .. ولابد أن ننتقي لها الضباط الأقوياء الممتازين خلقياً .. ووطنياً.
ثم أردف:
- لقد أفسد الجيش كبار الضباط فحولهم إلى نعاج .. ولابد أن يكون اعتمادنا على صغارهم .. فهؤلاء هم الأطهار الأنقياء الأبرياء .. أبناء مصر الشرفاء.
- ولست أزعم لنفسي أنني تجاوزت في الحدس ما قاله لي الصاغ جمال عبد الناصر في تلك الليلة.
أنور السادات
.. وجاءت لمدرسة المشاة فرقة جديدة .. من الضباط الدارسين وكانت ملفات الجميع أمامي وقد بدأت أقرؤها .. فمن هذه الملفات أبدأ عملية التقييم كما قال جمال عبد الناصر. وفجأة دق جرس التليفون وإذا بالمتحدث جمال عبد الناصر .. وهو يقول:
- يا علوي .. في الفرقة التي وصلتكم اليوم ضابط .. اسمه محمد أنور السادات .. لقد رفتوه من الجيش، وغاب مدة ولم يعد إلا بعد أن صدر قرار العفو عنه أخيراً .. ثم ضغط على مخارج ألفاظه كعادته عندما يهتم بشيء وقال:
- خد بالك يا علوي .. محمد أنور السادات يوزباشي وزملاؤه بكباشية .. ولن يرقى إلا إذا نجح في الفرقة.
وقلت لجمال عبد الناصر:
- أنا أعرف محمد أنور السادات ..
ودخل عبد الحكيم عامر غرفتي وهو يسمعني أردد اسم السادات، ففهم أنني أتحدث إلى جمال عبد الناصر .. وما إن أنهيت المكالمة حتى قال لي:
- كيف عرفت أنور السادات؟
فقلت:
- أليس هو الشريك في قضية مقتل أمين عثمان التي كان حسين توفيق متهماً أول فيها. إنني كنت في المدرسة الثانوية تستهويني المحاكمات السياسية .. كنت أحس فيها صدقاً أكثر مما أحسه في سرادقات الانتخابات .. هوايتي الثانية.
وضحك عبد الحكيم عامر وأنا أستطرد قائلاً:
- حضرت محاكمة الياهو حكيم والياهو بتسوري قاتلي اللورد موين، وحضرت محاكمة العيسوي قاتل أحمد ماهر .. وحضرت محاكمة محمود سعيد زينهم قاتل الخازندار، ومحمود كان زميلي في مدرسة فاروق الأول الثانوية ببني سويف .. لحق بنا جمال عبد الناصر قبل أن نفرغ من الحديث عن أنور السادات .. وقال وكأنه يكمل حديثاً بدأ في قصر الهرم:
- يا علوي أنا أريد ضباطنا من عينة أنور السادات .. لأن مناورتنا هامة وعليها يتوقف مصيرناً.
وبدأت أفهم .. فشعاع الضوء أقوى من أن يغفله البصر أو البصيرة .. واستطرد جمال قائلاً:
- إنها ليست مناورة يا علوي .. إنها ستكون ثورة .. ثورة على الفساد، ثورة على الملك، ثورة على الإقطاع، جيشنا يعيش بعار الهزيمة في فلسطين، رغم أنه أبلى حسن البلاء، كانت الطعنة في ظهره غادرة، تجار الأسلحة الفاسدة خذلوه ولطخوا اسمه .. يا علوي .. ضباطنا الكبار أحذية في أقدام القصر ولابد أن تسترد مصر من هؤلاء جميعاً.
وكانت كلمة مصر سحراً يمضي إلى قلب وعقلي ووجداني .. وقلت لجمال عبد الناصر يومها:
- أنا جندي وراءك ..
فقال:
الأمر سر بيننا، لا يعلمه إلا عبد الحكيم عامر وعدد محدود من الرجال. وسوف تتولى طبع منشوراتنا السرية في قصر الهرم .. تطبعها على ماكينات مدرسة المشاة .. طبعا.
وتحول قصر الهرم بعد هذا إلى خلية .. وسيدة القصر لا تعلم إلا أنها تحب .. وتتنهد في إشفاق على الضباط الذين في ريعان الشباب وهم يمضون الليل ساهرين يطبعون الامتحانات أو يصححون أوراق الإجابة!
استوقفتني شخصية محمد أنور السادات .. فقد طلبته إلى مكتبي فأقبل في سترة دلتني على أنه مرهق مالياً، وجلس فدلتني جلسته على أنه بادي الإنهاك .. وابتدرته بالترحاب وقلت له:
- نحن مكلفون بأن تنجح .. كل المطلوب منك أن تقرأ المحاضرات، فإذا وجدت شيئاً غير واضح قل لي .. أنا رهن إشارتك في جلسات خاصة .. وقال شكراً باقتضاب، دون أن يسأل عمن أوصى به .. فقد كان يعرف. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها أنور السادات وأتحدث إليه .. وبطبيعة الحال لم تكن المرة الأخيرة .. بل إن الظروف شاءت أن أقترب منه بعد ذلك إلى أقصى حدود الاقتراب .. فتجاورنا في السكن .. وتزاملنا في العمل. وتحت قبة البرلمان.
ومضت الأيام .. حتى كنا في صباح 21 يوليه 1952 .. فجاء أحد الضباط وهمس في أذني:
- البكباشي جمال عبد الناصر ينتظرك في منزله .. وذهبت إليه .. كان جاداً ومبتسماً في نفس الوقت .. وقال لي في لهجة الأمر القاطع:
- غدا تبيت في مدرسة المشاة .. دَبِّرْ هذا حتى لو غيرت النوبتجية، ضع تحت يديك أكبر كمية ذخيرة وسلاح .. انتق جنودك وضباط ممن تثق بهم وتعتمد عليهم .. ووقفت أنصت .. فقال:
- اجلس .. التفاصيل كثيرة .. ولكن الذي يهمك هو دورك .. أريدك في منتصف الليل جاهزاً برجالك .. وفي هذه الساعة تتحرك بهم إلى الكلية الحربية على أنك في مأمورية.
- وفتحت فمي لأسأل .. ولكني ابتلعت سؤالي. فقد خشيت أن أسأله فيتصور السؤال درجة خوف.
وعدت إلى مدرسة المشاة وأنا أكاد لا أحس بما حولي ومن حولي. وكانت في المدرسة فصيلة البيانات العلمية، وهي أرقى الفصائل تدريباً على العمليات الحربية. ونحن نجري بها الأمثلة أمام الطلبة، كان فيها 130 جندياً وصف ضابط .. ولكنهم يساوون ألفاً .. ورتبت أموري، وفي منتصف ليل 22 يوليه كنت أنطلق بهم من مدرسة المشاة إلى الكلية الحربية .. ووجدتها محاصرة .. فقدمت نفسي لضابط الحصار .. الذي قال بسرعة:
- أنت علوي حافظ .. التعليمات أن تحول الكلية الحربية إلى معتقل. ووزعت رجالي على مختلف المواقع في الكلية .. وكانوا يتصرفون على أننا ننفذ مناورة هامة .. وكان قلبي يخفق في صدري ودموع الفرح تملأ مآقيّ وأنا أستمع إلى البقية الباقية من تعليمات جمال عبد الناصر وقد حملها لي أحد الضباط: سيصل إلى المعتقل تباعاً رؤوس الفساد .. وابتلعت دموع الفرح حتى لا يراها .. وبدأت أستقبل العهد الماضي .. أستقبله أسيراً .. فقد نجحت الحركة.
في بيت عبد الناصر
فجأة دعاني جمال عبد الناصر إلى لقاء في منزلة بمنشية البكري .. كانت الأمور قد هدأت .. وكانت الرئيس الذي تقدم للجماهير هو اللواء نجيب الذي التف حوله الضباط يتحدون به مرشح الملك في انتخابات ناديهم من قبل .. وكان له من سنه وطيبته ما يمكن أن يجتاز به طريقاً معبداً إلى القلوب. ولهذا تساءلت وأنا أخطو إلى بيت عبد الناصر "ماذا حدث يا ترى .. ولماذا يجمعنا؟ .. ووجدت عنده صلاح سالم وجمال سالم .. وغيرهما .. ورحب بنا جمال .. ثم قال:
إنني أطرح مبدأ أن كل من اشترك في قيام الحركة يخرج من القوات المسلحة ويتحول إلى موقع آخر يخدم فيه.
ثم قال:
- أعلن لكم أننا بسبيل تكوين تشكيل بديل للأحزاب السياسية التي حلت .. سيكون التشكيل باسم هيئة التحرير. وهذه الهيئة يجب، بل لابد أن تعتمد على الشعبية التي يحققها كل منا خلال لقاءاته وتعاملاته، بل قيادته للجماهير في دوائر الأهل والأصدقاء والحياة اليومية.
وتحدث الكثيرون تأييداً. وجاء دوري فقلت:
- أنا أستطيع أن أحول الدرب الأحمر إلى قلعة تابعة لنا .. قلعة مسلحة .. إن هذا في إمكاني .. ورحت أقدم أسباب "الإمكان".
وفي هذا اللقاء تشكلت مجموعة تأسيسية لهيئة التحرير، وكنت واحداً من أفرادها، وتوالت اجتماعاتنا التي كان ينظمها إبراهيم الطحاوي.
كلف جمال عبد الناصر كمال الدين حسين بتشكيل الحرس الوطني .. والتقطت الخيط، فكونت فرقاً في الدرب الأحمر جعلت مقرها معسكر الحبانية الذي كانت تشغله من قبل خيالة الملك فاروق وحرسه الملكي .. أصبح معسكر الحبانية المعسكر النموذجي لتدريب الفدائيين بعد أن وضعت له برنامج فصيلة البيانات العملية بالجيش، وكان هذا الدور شغلي الشاغل .. حتى أنني كنت أعمل بلا انقطاع عشرين ساعة .. وتجمع للمعسكر خلال أشهر قليلة أكثر من عشرة آلاف من المدربين على مستوى عال. ودخلت هذه الألوف امتحاناً رهيباً.
خطيئتي الكبرى
التف بعض قادة الأحزاب ـ التي حلت ـ حول محمد نجيب لإغرائه بإعادة الحزبية، والتخلص من الضباط بإعادتهم إلى ثكناتهم. وأعلن صلاح سالم وكان وزيراً للإرشاد أن مجلس الثورة سوف ينعقد لإنهاء الثورة .. وما إن ذاع الخبر حتى انفجر معسكر الدرب الأحمر وتحول إلى مظاهرة رهيبة. واندفعت المظاهرة وهي تحملني على الأعناق إلى شوارع القاهرة .. وحاولت أن أهدئ الخواطر فلم أفلح .. لقد تصورت أنني أستطيع أن أقود الجماهير .. ولكنها بعواطفها النارية ومشاعرها الجياشة كانت تقودني، وأصبحت كريشة في بحر متلاطم الأمواج .. واتجه المتظاهرون إلى مجلس قيادة الثورة .. وإذا كانت المظاهرة قد بدأت من حي الدرب الأحمر ببضعة ألوف، فقد تضخمت إلى خمسين ألفاً، لأن نوع الهتافات التي كانت تردده كان لا يترك للناس مقاومة في الانضمام إليها .. وترديد هتافاتها. كانت الهتافات أن يذهب محمد نجيب ويبقى الضباط الأحرار.
وبلغنا مجلس قيادة الثورة، وخرج صلاح سالم يحاول تهدئة الثائرين فلم يفلح .. وكان جمال عبد الناصر داخل المجلس. وقد أرسل لي أحد رجاله يهمس في أذني:
- هو يريدك في الدخل.
ولاحظ المتظاهرون ما جرى. وشرعت في الدخول فصاحوا بأن أبقى بينهم، فقد سرى بينهم الخوف من أن يكون ما حدث خدعة .. وأن من بداخل المجلس يريدون استدراجي لاحتجازي فتتفرق المظاهرة .. ولكني قلت لهم إنني سأدخل مع وفد منهم .. وهكذا هدأت ثائرتهم.
واستقبلني جمال عبد الناصر بوجه مكدود .. وقال لي:
- يا علوي .. أرجوك أن تصرف المظاهرة .. فكل ما يجري أفكار نتداولها ونناقشها .. وأرجو أن نلتقي في بيتي في منشية البكري في المساء لنعيد دراسة الموقف .. وأسمع كل الأبعاد.
وتركت جمال في مكتبه وخرجت إلى المظاهرة، وألقيت كلمة قصيرة قلت فيها إن اجتماعاً سيعقد بعد ساعات في بيت جمال عبد الناصر لمناقشة الموقف، وناشدت أبناء الدرب أن يعودوا إلى معسكرهم .. فصاح أحدهم:
- سنبقى حتى تعود إلينا .. سنبقى مهما طالت غيبتك، وإلا فسوف نزحف إلى منشية البكري!
والتقينا في بيت عبد الناصر، كان كل الضباط الأحرار هناك، لم تتسع لهم المقاعد فتربعوا على الأرض، كانت الوجوه مرهقة، والأعصاب متوترة، فقد كانت القضية قضية مصير، وطرح علينا إن محمد نجيب سوف يلقي بياناً من شرفة قصر عابدين .. ينهي به الحركة ويعيد الضباط إلى قواعدهم، ويعلن نفسه رئيساً شرعياً لجمهورية مصر. ودارت مناقشات واسعة وحامية. وكان ثمة وجهة نظر تقول عن محمد نجيب اكتسب شعبية عريضة، وزرع حبه في قلوب الناس .. ومن الصعب أن نجرده من هذا فجأة .. وهو ـ أي محمد نجيب ـ يعرف هذا، وينام مطمئناً إلى أنه يملك الشارع المصري.
وكان من هذا الرأي جمال عبد الناصر .. وقد قال إن المقاومة قد تدفع محمد نجيب إلى اعتقالنا وتقديمنا للمحاكمة كخون متمردين على الشعب .. فلا تستفيد الحركة .. ولا يستفيد الشعب.
وقال جمال عبد الناصر أنه يوافق على بيان محمد نجيب ..
وأيده صلاح سالم الذي حلل الموقف بطريقة مسرحية .. وقال: إننا ضعفاء لا نملك قواعد شعبية مثل الذين يلتفون حول محمد نجيب .. وهنا انفعلت وقلت:
- كيف تقولون أننا لا نملك قواعد شعبية .. لنا هذه القواعد .. وإحداها عندنا في الدرب الأحمر، إنني أعتقد أن كل الشعب يحب الحركة بكل رجالها، ولو عرينا دور محمد نجيب أمام الشعب فإن هذا وحده كفيل بالقضاء عليه.
فصاح صلاح سالم:
- هذا جنون
ولكن جمال سالم أيدني فيما قلت .. فزاد غضب صلاح سالم .. بينما قلت:
- أنا شخصياً سأتصرف بما يمليه علي الشعب من أهل الدرب الأحمر، إنني لمست مشاعرهم الصادقة في الصباح، ولن أتخلف عن موقعي بينهم .. هم الآن ينتظرونني في المعسكر .. وسأذهب إليهم وأعبئ الجماهير .. لن ننام الليل وفي الصبح سوف نعبر شارع الخليج المصري ونحاصر قصر عابدين .. ونعارض البيان .. حتى لو اضطررنا إلى اغتيال محمد نجيب!
كان جمال عبد الناصر صامتاً. وقد ترك الحوار لدقائق بيني وبين صلاح سالم. وبينما كنت أصلح سترتي لأنصرف ربت جمال سالم على كتفي وقال:
- هذا هو تصرف الرجال .. هل تعلم يا علوي أنني مثلك من الدرب الأحمر؟
وتركت الاجتماع الصاخب .. وذهبت إلى معسكر الدرب الأحمر.
في المعسكر تحدثت من خلال ميكروفون، رويت لأبناء الحي الساهرين بالغضب حكاية محمد نجيب وكيف أنه كان واجهة قدمناها ولكن لا ناقة له في الحركة ولا جمل ومضيت أقول:
إن شباب مصر مسئول عن حماية الحركة ضد كل من يتآمر عليها .. مسئول عن حمايتها حتى لو اضطرته هذه المهمة النبيلة إلى قتل أعدائها، إن دمه حلال كل من يتآمر على حركة الشعب .. حتى ولو كان محمد نجيب ..
فإننا لو تركناه ينفذ مخططه فسيقتل أعز مولود لمصر .. بل سيقتل مصر.
وتعالت الهتافات بحياة حركة الضباط الأحرار وحياة مصر .. وراح شعب الدرب الأحمر يجمع الأسلحة من كل نوع استعداداً لمعركة النهار التي كانت بيننا وبينها ساعات معدودات .. من لم يكن يملك سلاحاً نارياً أحضر سكيناً أو ساطوراً أو جنزيراً حديدياً، وطلبت إليهم في النهاية أن يذهبوا إلى بيوتهم ليستريحوا، فإنني أعرف أن أحداث النهار قد أضنتهم .. ولابد لهم من ساعات نوم ليواجهوا مهمة اليوم التالي .. مهمة إنقاذ الحركة مما يدبر لها ..
يسقط الديكتاتور
في الصباح الباكر كنا قد سيطرنا على ميدان عابدين .. وتعالت الهتافات: يسقط الديكتاتور .. يسقط البهلوان .. يسقط عميل الأحزاب. ولم يعد هناك كسوف، كما قول المثل الشعبي .. أصبحت المعركة سافرة تماماً.. وذهب من يبلغ محمد نجيب أن الهتافات ضده تملأ عنان السماء، بل منهم من أبلغه أن علوي حافظ قد قرر اغتياله!
ومضت الساعات والجماهير تسد الطريق إلى قصر عابدين وتتفرس في ل سيارة قادمة عساه يكون محمد نجيب فتفتك به .. ولكن محمد نجيب لم يخرج من منزله إلى عابدين مباشرة، بل خرج من منزله واتجه إلى جمال عبد الناصر ليقول إنه متنازل عن كل ما قاله قبل 24 ساعة، وأنه ليس له إلا مطلب واحد هو أن يحميه جمال من حي الدرب الأحمر .. ومن علوي حافظ!
وانصرفت الجماهير .. بعد أن اطمأنت إلى فشل مخطط محمد نجيب .. وشكل جمال عبد الناصر الوزارة برئاسته، وأمسك البلد بحزم .. وأذاع راديو لندن ليلتها أن الحركة كادت تتبدد وتتقوض لولا أن حركة قادها ملازم اسمه علوي حافظ .. متهور إلى أقصى الحدود، أجبر نجيباً على التراجع.
واستدعاني جمال عبد الناصر .. واستقبلني بالأحضان وقبلني .. وقال:
- يا علوي يجب أن أقول لك أنك أنقذت الحركة، إن الرجل المجنون كاد يستولي على مصر، ولكنك قضيت عليه.
ثم قال:
- أطلب أي شيء فأحققه لك ..
ثم .. على طريقته وهو يضغط مخارج الحروف ليؤكد ما يقول:
- أي شيء ..
قلت:
- أريد أن أكون أول نائب يدخل البرلمان في العهد الجديد.
وقلدني جمال عبد الناصر نيشان الشجاعة من الدرجة الأولى .. وقال في ذاك اللقاء:
- يا علوي .. إنك بحق بطل أزمة مارس 1954 .. هذا ما سيقوله التاريخ عنك ..
هذا يا ضميري ما حدث بالضبط .. كان عمري وقتها أربعة وعشرين عاماً .. وأعترف الآن، وعمري يقترب من الستين، بأنني ما ارتكبت خطأ وندمت عليه قدر ندمي على ما فعلت في مارس 54 .. إنها خطيئتي الكبرى، التي ظل شبحها يطاردني في كل وقت، بعد أن كبرت ودخلت مرحلة النضج والفهم السليم .. نعم كنت وقتها بلا خبرة .. زادي هو الحماس ووقودي هو الوطنية .. وكنت أحسب أن ما أفعله محسوب في خانة الوطنية .. ما أقدمت على ما فعل إلا ويقيني أن هذا لمصلحة بلادي .. لم أكن أدري ما تخبؤه السنون، وما تحمله الأقدار ..
والحكم الصحيح على عبد الناصر في هذه الفترة أنه كان صادق الوطنية، خالص النية، شديد العزم على أن يقود مصر إلى ما نصبو إليه جميعاً ..
ولكن قراءة التاريخ تؤكد أن هناك قاعدة هامة .. في كل العصور ومع كل القادة .. لا تخطئ أبداً .. وهي أن الانفراد بالسلطة، والحكم دون مشورة أو مراجعة لوقت طويل يؤدي بأي إنسان يمارسها إلى "مرض السلطة" مهما حسنت النوايا، وصدقت الوطنية، واشتد العزم .. مرض السلطة دائماً هو بداية الهلاك والفشل والدمار لصاحبه .. وأيضاً لبلاده وهذا بالضبط ما حدث لجمال عبد الناصر ..
كان ضحية مرض السلطة، وغياب الديمقراطية الصحيحة ..
مارس جمال عبد الناصر الحكم .. بعد ذلك .. من غرفة مغلقة في منزله .. واعتمد على تقارير ترد إليه ـ في معظم الأحيان ـ من أجهزة فاسدة .. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن تأتي القرارات غير متفقة مع الواقع وغير مدروسة، والأهم من كل ذلك أنها قرارات أملتها الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية، وبعيدة كل البعد عن مصالح الوطن والشعب .. كان كثير من هذه القرارات مدمراً بحق مصر ولشعبها واقتصادها .. ومستقبلها ..
- قرار الوحدة مع سوريا.
- قرار الحرب في اليمن.
- قرار بناء السد العالي.
- قرار إغلاق خليج العقبة وحشد القوات المصرية في سيناء سنة 1967.
لقد بدأ الخراب الاقتصادي، والانهيار الأخلاقي الذي حاق بمصر عندما امتدت الأيدي تنهب أموال أسرة محمد علي، ثم تتلاعب في أموال الحراسات وتسرق الأموال المصادرة .. لقد تمت كل هذه المخازي في عهد عبد الناصر، وعلى أيدي حفنة شاذة من أهل الثقة الذين أحاط بهم جمال عبد الناصر نفسه .. لقد كونت هذه الطبقة إقطاعاً جديداً، من المال الحرام الذي نهبوه لأنفسهم .. ثم أطلقوا لأنفسهم عنان غرائز الظلم والاستبداد والعدوان على الحرمات وترويع الآمنين، وملئوا السجون والمعتقلات بالأبرياء الذين تعرضوا لأبشع جرائم التصفية ..
ومات جمال عبد الناصر .. بعد أن حكم 18 عاماً .. لم يحقق فيها شيئاً مما أعلنه ..
فعندما استولى على السلطة، وقضى على محمد نجيب أعلن المبادئ الستة المشهورة:
1 - إقامة جيش قوي.
2 - إقامة عدالة اجتماعية.
3 - إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
4 - القضاء على الاستعمار وأعوانه.
5 - القضاء على الفساد.
6 - القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.
ولكن غياب الديمقراطية، وانفراده بالسلطة، وتحوله إلى ديكتاتور جعله يفشل فشلاً لا حدود له، فلا هو أقام شيئاً، ولا قضى على شيء مما وعد به.
ومعذرة يا ضميري .. فالذكريات تتزاحم في رأسي .. ولكن لن تتوه مني الحقيقة أمام ما أكابده من مشاعر الإحساس بالألم والمرارة والندم..
واعذرني إذا توقفت كثيراً أمام قصة الصراع بين عبد الناصر ونجيب فهي نقطة البداية لمشواري الطويل .. وفيها كانت خطيئتي الكبرى، نعم كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبته هو موقفي في بداية الصراع بين عبد الناصر ونجيب ..
هكذا سيقول التاريخ ..
لم يكن يراودني شك أبداً وأنا صغير تجاوزت العشرين من العمر بقليل، وسلاحي هو الحماس والإخلاص والوطنية، حتى عبد الناصر وقتها لم يكن يملك غيرها هو الآخر.
ولكن سرعان ما بدأت الخلافات والصراع على السلطة والقيادة تطفو على السطح بين عبد الناصر ونجيب ..
والحق أنني كنت أحب وأعجب بنجيب، هذا الضابط العجوز الطيب الذي كان لائقاً تماماً للدور الذي قام به صبيحة يوم الانقلاب، فثبت ولاء الجيش، وأكد رضاه عن حركة 23 يوليو التي قام بها الضباط الصغار أمثالي.
كان الرجل الطيب يردد ـ في تلك الأيام ـ في وداعة وصفاء وحب كلمات بسيطة جمعت قلوب الناس حوله وحول حركة الجيش بسرعة .. لقد جذب إليه الناس، وخرجت الجماهير تهتف باسمه في كل مكان، وتردد خلفه ما كان يقوله للناس: الاتحاد .. والنظام .. والعمل
كان يقولها وبسمة طاهرة تكسو ملامح وجهه.
اطمأن شعب مصر لحركة الجيش من خلال محمد نجيب، وباركها وأيدها بحرارة بالغة وحماس ملحوظ من خلال كلمات الرجل البسيطة النافذة إلى الأعماق ..
وفي الجيش .. كان محمد نجيب مقبولاً من كل الضباط على اختلاف رتبهم وأسلحتهم واتجاهاتهم.
وسرعان ما طاف بالوحدات العسكرية .. ثم بالأحياء الشعبية .. ثم بالمحافظات .. وحصل بسرعة فائقة على التأييد الشعبي لحركة الجيش، وفتح الطريق أمامها لتنطلق إلى قلوب الناس.
كان بحق راية الحركة وشعارها وسر نجاحها، ومصدر شعبيتها وأمنها ..
كان يسعده دائماً وأنا أطوف معه في جولاته أن يقدمني إلى الجماهير قائلاً: "ابني .. علوي حافظ".
ليته نجح في مبادرته لإيقاف حركة الجيش عند هدفها الحقيقي المعلن صبيحة يوم 23 يوليو 1952 ..
لو حدث هذا .. لنجت مصر من كل ما أصابها من كوارث ومحن طيلة الثلاثين عاماً الماضية.
ليته نجح في مؤتمره الشعبي الذي كان ينوي عقده بميدان عابدين، وسلم يومها الحكم إلى القيادات السياسية والأحزاب بالتي التفت حوله في ذلك اليوم ..
ليته أعاد الضباط إلى ثكناتهم .. أو حتى إلى بيوتهم ..
إن الأحزاب كانت تسيطر فعلا على البلاد وتقود الجماهير قبل قيام حركة الجيش.
يا للجريمة ..
أفشلناها نحن بأيدينا في ذلك اليوم الأغبر...!
إن أمانة التاريخ تحتم عليّ أن أعترف الآن ..
أنا .. علوي حافظ أمام محكمة الضمير.
أن الخطأ الأول والجسيم الذي ارتكبته في ذلك اليوم، هو اندفاعي في التأييد بكل الحماس، ودون تفكير، للاتجاه الذي قاده البكباشي جمال عبد الناصر لعزل اللواء محمد نجيب .
أعترف بأنني أسديت لعبد الناصر خدمة العمر ليركب السلطة في ذلك اليوم .. ربما لو أني لم أفعل ما فعلت لتغير وجه التاريخ ..
لكن .. لم أكن أعلم أن جمال عبد الناصر سيمرض بهذه السرعة بمرض السلطة، ويصبح الديكتاتور الذي يحكم دون مراجعة ..
لم أكن أعلم أن من بين زملائي الضباط الأحرار من سيصبحون شياطين ولصوصاً وخونة ومصاصي دماء .. يمتصون دماء الشعب بتلذذ ..
لم أكن أعلم أن النفاق والفساد سيدمران المسيرة بسرعة، ويدفعان البلاد إلى الهاوية ..
لم أكن أعلم قيمة الديمقراطية، وأنها ضرورة كالماء والهواء.
كنت مبهوراً بعبد الناصر بعبد الناصر .. وأشعر في أعماقي أنه سيحقق آمالاً عظاماً لوطنه وشعبه وجيشه .. لقد كانت بدايته طيبة بالفعل .. لا أحد ينكر هذا، ولكن النهاية كانت مأساوية .. وكانت نتيجة حكم 18 عاماً خراباً لمصر، وفقر وعذاب للناس الذين حكمهم بالحديد والنار.
نعم .. كان بإمكاني .. في ذلك اليوم، أن أضرب هذا الاتجاه في مهده .. وأقضي عليه تماماً بيد الشعب .. لكن .. وبكل الأسف والندم .. باركته، وأيدته، وساندته، ودافعت عنه .. وانتسبت إليه في ذلك اليوم التعس.
إنني أذكر الآن تلك الأيام بمرارة وألم وحسرة.
هذه خطيئتي الكبرى التي ارتكبتها في الخمسينات، والتي بسببها صعد عبد الناصر ليحكم مصر طويلاً .. ثم من بعده السادات.
أشعر الآن بعقدة الذنب، وأندم ندماً مراً، لأني أعتبر نفسي شريكاً في كل ما حدث لبلادي على امتداد الثلاثين عاماً الماضية ..
ولكني مؤمن تماماً بأن سلامة القصد والنية، مع قلة الخبرة في مطلع الشباب في مشواري الطويل المليء بالمحاولات الجادة المستمرة لمواجهة الانحراف والتصدي له في كل موقع، ربما يغفر لي خطيئتي ..
صحيح أخطأت هذا الخطأ الفادح ..
ولكني .. أحمد الله، إنني لم أنزلق إلى الشهوات الدنيئة التي انزلق إليها معظم زملائي الضباط الأحرار ..
لم أسرق ـ مثلهم ـ لأكنز المال ..
لم أدنس الحرمات، ولم أعتد على الأعراض ..
كثيرون منهم انقلبوا ليكونوا الورثة للنفوذ والسلطان بعد 23 يوليو 1952، الكل اهتم بذاته، منذ اللحظة الأولى، بعد نجاح حركة الجيش مباشرة .. فتنتهم الدنيا بزخارفها ومباهجها، وبعضهم عاث في الأرض فساداً، ونسوا أو تناسوا ما قاموا من أجله في ليلة 23 يوليو .. لم يفرقوا بين الحلال والحرام ..
انفتحوا بشهواتهم على المغانم، وجروا معهم إلى هذا الطريق جيوشاً من المنتفعين من كل صنف ولون.
كانت البداية، عندما سلبوا مجوهرات وأموال أسرة محمد علي .. ثم جاءت الحراسة .. فرصة أخرى لنهب القصور والفيلات والعزب والشقق .. وجاء التأميم أيضاً .. ثم حرب اليمن .. عندما كانت تخرج من البنك المركزي الجنيهات الذهبية لتلقي من الطائرات على القبائل في اليمن لتلقي بسلاحها .. فكان ما يهذب إلى اليمن هو حفنة قليلة، ويحول الباقي إلى بيوت العصابة التي تحكم وتتحكم في مصر ..
هذه هي سياسات جمال عبد الناصر التي راح ينفذها بعد نجاح حركة 23 يوليو ..
أما أنا ، فيشهد الله، ومعي نفر قليل، فقد التزمنا بطهارة وعفة اليد من البداية حتى النهاية ..
أحمد الله .. أنني ليست لي ملكية من أي نوع، حتى الآن .. حتى بيتي القديم ـ الذي ورثته عن جدي في منطقة تحت الربع بالدرب الأحمر ـ بعته لأستكمل نفقات معيشتي ..
حتى عندما خصص أنور السادات معاشاً لكل الضباط الأحرار رفضت أنا هذا المعاش. وقلت له إن معظمهم سرق ونهب وأثرى ثراء حراماً.
نعم .. تحول الذين تشدقوا بشعارات الإشتراكية، إلى مليونيرات جدد، يتخمهم الثراء العريض والجاه والنفوذ والسلطان .. رواد اشتراكية 23 يوليو، أصحاب العزب والشركات والعمارات الآن، كانوا لا يملكون سوى مرتبهم الذي يتقاضونه من الجيش آخر الشهر، عندما تحركوا ليلة 23 يوليو ..
كانوا من الطبقة المتوسطة، بل من الطبقة الدنيا..!!
هل يستطيع احد منهم اليوم أن يقدم إقراراً حقيقياً بالذمة المالية له ولأسرته..؟! أو يجيب على تساؤلات الناس الذين يتساءلون في كل مكان الآن..؟ ومن أي طبقة خرجوا ليلة 23 يوليو 1952..؟!!
هذه الأسئلة تتردد على ألسنة الشعب كله الآن .. بعد أن فاحت رائحتهم وبدأت تتسرب أسرارهم.
ماذا قدم كل منهم لوطنه على مدى خمسة وثلاثين عاماً..؟؟ وماذا أخذ؟؟ ويل لهم من عذاب يوم القيامة ..
ويل لهم من المنتقم الجبار .. الذي يمهل ولا يهمل ..
أيها الضمير..
إنك شاهد علىّ .. وعلى أفعالي .. والله أعلم بما في الصور .. إنك تعلم أنني من القلة التي تعففت، ولاذت بالطهارة واحتمت بالعفة .. وناضلت بشرف على امتداد المشوار الطويل .. حياتي كلها قدمتها لوطني .. عطاءً نظيفاً، أميناً، خالصاً .. كنت نائباً عن الشعب .. في هذا المشوار المثير.
وما أقدسها من مهمة، وما أجلها من رسالة أن يهب الإنسان حياته وعمره مدافعاً ومحارباً ومناضلاً عن قضايا السواد الأعظم .. إن الجدية في الأداء، والتجرد والإخلاص في تمثيل الشعب هي شرف النائب ومسئوليته ..
دائماً توخيت صدق الرأي، وحرية الكلمة، ونزاهة الموقف .. هذا ما التزمت به طيلة عمري البرلماني .. شاهدت الكثير .. وسمعت الكثير .. وتصديت للكثير ..
في معظم الأحيان .. كان ما أسمعه أو أشاهده تنهار له الجبال الرواسخ .. كان الخبر أو الواقعة أتيني، فأفجع وأتلوى .. وأتصدى بقدر استطاعتي ..
واسمعوا هذه الحكاية .. إنها واحدة من آلاف الحكايات .. وربما كانت أخف الحكايات وطأة .. ولكنها تعكس لصدق وتعبر بأمانة عن هذا العهد النكد، عهد الهول والفزع، عهد البطش والطغيان، عهد وطأن فيه الكلاب الناس، عهد راجت فيه بضاعة العجائب مع التصفيق والتهليل، عهد ملؤه التوجس وترقب الكوارث والفجيعة .. عهد ذهبت فيه التنهدات بكل الابتسامات وسالت دموع الحزن والمرارة .. عهد الإرهاب والتنكيل والترويع وزوار الفجر .. عهد ذبح الحريات وتكميم الأفواه .. إنه العهد الأسود .. الذي بدأ عندما انحرفت حركة 23 يوليو سنة 1952.
حكايات عن عهد الفساد
اللصوص .. ومصاصو الدماء
جاءتني زوجة حسن الصيرفي شقيق محمد تاجر الموبيليا المعروف. وجلست غارقة في دموعها، وصوتها يحتبس كلما شرعت في الحديث ..
قلت لها:
- هدئي من روعك.
قالت:
- أخذوا محمد الصيرفي .. يف الفجر، ضربوه وأهانوه .. أقذع الألفاظ سمعت .. وجمعوا كل ما في البيت .. ونهبوه .. أنقذنا يا علوي .. فانا لا أعلم أين ذهب .. بل لا يعلم شقيقاه، لأنهم قبضوا عليهما الواحد بعد الآخر.
وسألتها :
- ما الجريمة ..؟
فقال وهي تجفف دموعها .. ولكنها تنفجر رغما عنها:
- لا أعلم .. لو أعلم لاسترحت .. أنت تعرف أن محمد كان يعمل معهم حتى آخر لحظة.
كنت أعلم أن أطرافاً عن محمد الصيرفي، فقد كانت عمارته المطلة على نيل المنيل سكناً لعدد من ضباط المخابرات والشرطة العسكرية .. وكنت أعرف أنه يطير كثيراً إلى هذا البلد أو ذاك، يكلف بمهمة تأثيث شقة أو قصر، وشراء تحفة أو بيعها .. وكنت أعرف أنه وثيق الصلة بالمشير عبد الحكيم عامر .. وشمس بدران، وعدد كبير من ضباط مكتب المشير. وكنت أرى عليه مظاهر الثراء فلا تستوقفني أو تثير دهشتي .. إنه مع أشقائه فرقة من العصاميين الذين يقولون: "نحن نجارون .. لا ساسة ولا سياسة .. والله فتحها علينا"، وكانوا يبنون العمارات الواحدة تلو الأخرى فلا أقول إلا أنه الرزق من التجارة .. الرسول (ص) قال: "تسعة أعشار الرزق في التجارة".
ولم يكن لي اعتراض على اتصال محمد بهذا الموقع القوي في مصر .. فهل كان يمكن أن يعترض من جانبه؟ أو ليست له مصلحة في البيع والشراء؟ .. فكيف تحول الفرح إلى مأساة؟! وكيف يطرق بابه زوار الفجر، مع أنهم لا يفعلون ذلك إلا مع الأعداء .. وبدأت أسأل كل مسئول في المخابرات والشرطة العسكرية ومكتب المشير والمباحث العامة ..
- أين محمد الصيرفي ؟
فلا أسمع رجع الصدى . ويهمس في أذني من ينصحني قائلاً:
- ابتعد عن هذا الموضوع.
فأقول:
- أنا لا أبحث عن قريب لي فقط .. أنا أبحث عن مواطن من مصر لا يعرف بأي جريمة أخذوه .. بل لا نعرف على وجه التحديد أين هو ..
فأسمع من يقول:
- الموجة عالية أوى .. ابتعد عن هذا الموضوع!
كان هذا قبل نكسة 67 .. وقد رحت أتحرى عما يدور وراء أسوار السجن الحربي. وسائر السجون. وسمعت ما تقشعر منه الأبدان لأول مرة ..
بكيت على مصر. بكيت على مصر أن يفعل أبناؤها في أبنائها هذه المخازي، كانت هناك دنيا أخرى مظلمة . لغتها السوط والكلاب الجارحة، مقاعدها كراسي الكهرباء، وتحيتها إحراق الأطراف أو نزع الأظافر أو التعذيب حتى الموت .. ورحت أجمع أدلتي، وكلما طرقت باباً سمعت من مراكز القوى من يقول:
نحن لا نطارد إلا المتآمرين والخونة. نحن نفعل هذا لكي ينام كل مواطن آمناً ..
وقلت لهم:
- ولكنكم تظلمون .. وتنكلون بالأبرياء .. وتهتكون الأعراض .. أنا ممثل الشعب الذي تزعمون أنكم حماته، والشعب ساخط، وهو يعلم بكل ما تفعلون، ويتهامس به .. أنا أقول لكم أن الله أكبر .. وأنه يمهل ولا يهمل وأن غضبه شديد .. وانتقامه آت، ولن تتركوا بدون حساب ..
وطرقت أبوابا كثيرة. بما تجمع لدي من معلومات .. عن المئات والألوف الذين يُسامون العذاب وراء الأسوار .. وما تفتحت الأبواب، ولا اهتز قلب للمظلومين ..
وكان من أغرب ما سمعت ..
قصة محمد الصيرفي ..
سمعت أن البداية كانت فنانة مشهورة .. كانت زبونة عند محمد الصيرفي، وهي التي دعته إلى شقتها، فوجد هناك شخصية كبيرة، الذي كلفه بتأثيث شقة فوراً، ولما خرج من الشقة تبعه من يقول له:
كل ما تسمعه أو تراه من الآن فصاعداً أسرار .. كل ما تراه أسرار .. أنت لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم .. وهو كتاجر يجب أن يكون موضع الثقة .. وقد كان، كانوا يكلفونه بتأثيث شقة ما في 24 ساعة .. فيفعل، ويقولون له يجب أن يتم هذا كله في ظلام الليل، فيبدأ مهمته بعد انتقاء الأثاث بعد غروب الشمس .. وعند الفجر يسلمهم المفتاح !
وكان أمينا في مهمته معهم ..
ولأنه كان مثال في الأمانة، أتيح له أن يرى ما لم يكن يدخل عنده في باب الخيال، أو حتى كابوس الليل! .. وكثيراً ما رأى.
مرة رأى أسرة الإمام أحمد إمام اليمن، جاءت من اليمن بعد الثورة هناك، ونزلت في قصر الأميرة نعمت مختار .. وكان مع العائلة صناديق خشبية بأحجام هائلة فيها تحف، ونفائس، أما سيدات الأسرة فما تحدثن إلى رجل، فهن ما اعتدن عليه، ولا ألفنه .. ودق جرس التليفون في بيت محمد الصيرفي .. وكان المتحدث .. قائد الشئون العامة للقوات المسلحة .. الذي قال:
- هات بنتين لتكونا في خدمة سيدات أسرة الإمام .. فإنهن منطويات وراء بردهن السوداء.
وأخذهما محمد الصيرفي وذهب، وأفهم البنتين إنهما ستقومان على خدمة أسرة كانت تحكم في اليمن ثم وقعت فيما يشبه الأسر، ونصحهما بالرفق وليونة الجانب .. ودخل معهما القصر، فبهره ما رأى من تحفه وأثاثه .. وقيل له:
- أنت مطلوب أيضاً لجرد القصر!
فأمسك ورقة وقلماً، وراح بخبرة المتمرس يحصي ويحسب .. وفي النهاية قال:
- هذه المحتويات تساوي 45 ألف جنيه ..
وفي اليوم التالي ذهب إلى القصر فوجده مجرداً من كل ما رآه بالأمس..!!
فقد جمع بعض الضباط نفائس القصر واقتسموها فيما بينهم وطاروا إلى بيروت .. وهناك تقلد التحفة، ويباع الأصل ..
وكان يأمر المشير بأخذ محمد الصيرفي في بعض رحلاته. أخذه إلى باريس في رحلته المشهورة وبأذنيه سمعه وهو يداعب شمس بدران قائلاً:
أتيت بزوجتك يا شمس، فلماذا لا تمضي شهر عسل في باريس ؟
فقال شمس بدران:
من أين لي بما يكفي باريس .. وأسعارها نار ؟
فالتفت المشير إلى عبد المنعم النجار، وكان سفير مصر في باريس وقال له:
يا عبد المنعم أعط شنطة المخابرات لشمس ليقضي شهر العسل !!
وشنطة المخابرات هي الحقيبة التي تحوي ميزانية مكتب المخابرات المصرية في باريس .. وقد نفذ السفير المصري الأمر في ثوان ..
وكان محمد الصيرفي يعرف أنه أثث ما يزيد على خمسين شقة في أنحاء القاهرة .. وكان يعرف أن الأغراض التي تستخدم فيها هذه الشقق ليست فوق مستوى الشبهات .. بل هي الشبهات نفسها بعينها، وكان يرى من سيدات المجتمع، وبنات الناس ما يجعل بدنه يقشعر.
ولكنه كان في القفص لا يستطيع أن يخرج منه .. ولو خرج فسوف تنهشه الأنياب .. لو خرج فإنه يعرف ما يمكن أن يحدث له .. فإن ما حدث لغيره سمعه أحياناً نوادر ومواد فكاهة في السهرات الصاخبة ..
وكان محمد الصيرفي يحب المشير .. ولكن يشفق علي، مما صار إليه .. كانت "قعداته" لا تنتهي قبل الفجر .. وضباطه قد زينوا له كل شيء حتى نسي أهم الأشياء .. مرة وهو في باريس نسي موعد ديجول..! وانتظر رجل فرنسا العظيم مشير مصر .. ساعات .. وساعات .. ثم ألغي اللقاء ..
وبكى محمد الصيرفي يومها .. وقال لنفسه "أنا نار .. لا سياسة ولا يحزنون .. ليس لي دخل، ولا شركة في هذه اللعبة.."!
ومرة استدعوه وطلبوا إليه كتابة عقود إيجارات لعمارته في شارع النيل بمنيل الروضة ..
ثم أتى إليه من قال له:
أقدم إليك مهندس الديكور .. كونسوني .. وكان إيطالياً، وهو الذي صنع ديكورات الشقق، وطلب ستائر معينة ليست أقمشتها مما يباع في مصر .. ولهذا قال اللواء الذي أصدر الأمر:
سيذهب معك كونسوني إلى غزة .. وإلى بيروت وإلى روما وإلى باريس وتشتريان ما يطلب.
فقال محمد الصيرفي:
والتحويلات .. كيف تتم؟
فقال له اللواء:
سوف يتكفل مكتب الحاكم العسكري في غزة بالدفع فيها، أما في بيروت فسوف يقوم بهذه المهمة واحد من رجال السفارة!
واستخرج لهما جوازات سفر ديبلوماسية.
وقبل أن يستقل محمد الصيرفي الطائرة فوجئ بكشف مطالب بخط اليد ليحضرها معه ..
وذهب وعاد .. وكانت كل الصناديق معه، وعليها لافتة "الشئون العامة للقوات المسلحة"، وفجأة سألوه: لمن هذه الأشياء التي في الصناديق يا صيرفي؟
فقال الصيرفي:
هذه طلباتكم .. وطلبات كونسوني .. أنا نفذت التعليمات ..
وفي الساعة الثانية من الليلة المشئومة 3 مارس سنة 1964، صحا كل من في البيت .. على طرقات عنيفة، وفتحوا الباب ففوجئوا بفرقة من الجبابرة تركض في الغرف وكأها تبحث عن مجرم دولي .. وألقى قائد الحملة القبض على محمد وشقيقه، وراحت فرقة الشرطة العسكرية تجمع ألبومات الصور، والتحف والمجوهرات، والنقود السائلة .. ثم استدارت إلى سيدات الأسرة وبناتها لتنزع من الأيدي والأعناق والآذن الخواتم، والأساور والسلاسل الذهبية والأقراط .. وجلس من يتظاهر بأنه يسجل كل ما يصادر، وكان يكتب شيئا ويغفل شيئين، ومزقوا الحشيات، والمقاعد الوثيرة، وشقوا الأوراق التي تلتصق بالحوائط تزينها .. وتحولت شقة الأسرة إلى ما يشبه ميدان المعركة .. السيدات يولولن .. والبنات يصرخن، والأيدي الغليظة تهوي ـ بغير رحمة او إشفاق ـ على خدود المنتحبات ..
وسألهم محمد الصيرفي:
- قولوا لي ماذا حدث ؟
وكانت إجاباتهم:
- سوف تعرف ..
وبدأ أثاث الشقة ونفائسها يحمل في سيارات .. كانت الشقة طابقاً من عمارة .. عبارة عن أربع شقق في واحدة، لأن الأخوة الأحبة لم يفترقوا منذ بدأوا رحلة الكفاح .. تعاهدوا على ألا يفترقوا إلا بالموت .. ولكن .. جاء ما هو أشد هولاً من الموت، فالموت يتسلل إلى البيوت والنفوس دون ضجيج ويخطف من دارت عليه الكأس دون فضيحة، ويتقبل الناس حكم السماء في صمت .. أما ذلك الزلزال .. ليلة 3 مارس 1964، فقد فعل بهذا البيت أكثر مما يفعله عزرائيل..!
الورقة الضائعة
وقف محمد الصيرفي أمام شمس بدران بثيابه وقد تمزقت، وسحنته وقد بدت عليها آثار الليلة الرهيبة ..
فسأله شمس:
- أين الأوراق ؟
- أية أوراق !
- الأوراق التي أخذتها من مكتب المشير ؟
فقال محمد الصيرفي مدافعاً عن نفسه:
- عمري ما مددت يدي إلى ورقة، قد كانت في مكتب المشير لما أخذت عامل التلميع لطلائه، عملات ذهبية مما ترسلونه لليمن، وأوراق نقد كثيرة .. ولم آخذ منها شيئاً.
فقال له شمس:
- إذا أردت أن تنجو .. أنت ومن معك فقدم لنا الورقة التي أخذتها .. كانت أوراقاً، فصارت ورقة، وراح محمد الصيرفي يحاول أن يتذكر، وسأل شمس:
- ماذا في الورقة؟ ما هي؟ صدقني أنا لا أعرف ..
وفي تلك اللحظة دخل الزبانية، رجال أشداء أوثقوا محمد الصيرفي وعلقوه من قدميه، وجعلوا لسانه يتدلى من حلقه .. ثم أشعل شمس بدران ولاعته وراح يحرق شارب محمد .. ثم اتجه إلى شعر رأسه وهو يقول، كأنه يتسلى بلعبة ظريفة:
- هكذا نبدأ.
ولكن التحقيق الرسمي حين بدأ، اختفت مسألة الورقة، وراحوا يوجهون إليه تهم أخرى ويقولون له:
- وقع على هذه الأوراق .. واعترف.
ولم يجد محمد الصيرفي جريمة واحدة ارتكبها، ولكنه مر بصنوف وألوان من العذاب جعلته يصرخ قائلاً:
- هاتوا لي خمسة آلاف ورقة أوقعها على بياض .. واكتبوا فيها ما شئتم من التهم .. أما العذاب فقد كان جحيماً لا يطاق ..
وسألوه:
- هل تعترف الآن؟
وكانت الكلاب البوليسية قد دخلت .. وهي تلهث، وألسنتها الطويلة مشهرة كالسيوف .. وقد جردوا محمد الصيرفي من ثيابه ودهنوه بالزبد .. فراحت الكلاب تلعقه وهو مرتعد الفرائص .. وانصرفت الكلاب لتبدأ الوحوش البشرية هوايتها .. انهال عليه الجميع بالضرب، بغير رحمة، حتى راحت أسنانه تتساقط وتتطاير، فذكرهم هذا بوسيلة أسرع ليخلعوا له ضروسه .. جاءواً بكماشة، وخلعوا أسنانه.
وفي اليوم التالي أمروه بالنوم في فناء السجن الحربي .. فنام، وهنا فوجئ بموتوسيكل يقبل كالعاصفة وعليه صفوت الروبي الذي راح يتلذذ بصرخات واستغاثات محمد الصيرفي كلما قفز الموتوسيكل فوق بدنه، ونزف من دمائه الكثير .. أصبح كالذبيحة، ووضعوه بعد هذا في زنزانة مفروشة بالبراز، ثم نقلوه إلى زنزانة بول .. وكانت رفيقته فيها زينب الغزالي المناضلة المعروفة .. وسقط محمد الصيرفي مريضاً، وكان الدود يخرج من جراحه. ومن الأطباء الرحماء طبيب يُدعى ماجد كان يقدم إليه أدوية ناجعة، مع أن الأوامر تقضي بغير ذلك .. فوجئ الصيرفي ـ وهو على هذه الحال ـ بشمس بدران يزور السجن الحربي، ونقل الصيرفي إلى شمس وهو على نقالة، فغضب لما رآه ممداً بغير حول ولا قوة، واستعدى الأطباء وصاح فيهم:
- بهذه الطريقة لن ننجز أعمالنا .. يجب أن يشفى الصيرفي بسرعة لنبدأ من جديد!
وأغمي على الصيرفي ..
وفقد خيوطاً كثيرة كانت تشده إلى الحياة، فقد علم أن أبناء الأسرة شردوا .. علي ابن أخيه صبحي، قيل أنه اعتدى بالسباب على خليلة لشمس بدران في عمارة الصيرفي، فأبلغت الخليلة خليلها، وأخذوا علياً وهو في السنة النهائية في كلية الطب .. أخذوه ليلة الامتحان .. جرجروه من الشقة في الطابق الخامس حتى الشارع، ودفعوا به إلى شريط سكة حديد حلوان .. وأنقذته معجزة من السماء .. وعلي حسن الصيرفي كان في الكلية الفنية العسكرية، فطردوه منها لأنه "غير صالح اجتماعياً"!
واستمرت رحلة العذاب ..
قال رياض إبراهيم لمحمد الصيرفي:
سوف أعطيك حقنة تقضي على رجولتك!
ومد محمد الصيرفي ذراعه للتمورجي وهو يقول:
- وهي بقيت فينا رجولة؟
وخرج رياض إبراهيم سعيداً بأنه ضيع رجولة محمد الصيرفي، ورأى الصيرفي دموعاً في عيني التمورجي الذي قال له:
- يا أخ محمد .. هذه حقنة ماء .. فلا تخف.
فقال محمد:
- ليتها حقنة سم .. فأستريح!
رأى محمد الصيرفي عذابات الآخرين فهان عليه عذابه، رأى الشيخ عبد الحليم سعفان وهو ضرير وهم يقتلونه عطشاً .. فلما تدلى لسانه أحضروا صندوقاً من المياه الغازية وحكموا عليه بأن يشربه كله .. زجاجة بعد زجاجة .. وربطوا له مخرج البول بحبل غليظ حتى لا يتبول .. فأصيب بما يشبه الجنون .. وأسلمته نوبة تسمم إلى الإغماء الطويل!
ورأى الشيخ عبد المقصود العزبي .. وكان معه ثمانية من أولاده وبناته وإحداهن أخذوها من ليلة عرسها، وقد انهالو ضرباً على أحد أولاده حتى بلغ حافة الموت .. وهنا أمروا الشيخ أن يودع ابنه قبل أن يموت ..
وقال الابن:
- سوف أموت يا أبي .. فهل نحن على حق؟
فقال له الشيخ بإيمان عميق:
- على حق يا ولدي ..
ولم تسقط من عينيه دمعة ..
وذهل محمد الصيرفي أمام روعة الإيمان، ومات الولد بينما وقف السفاحون يتفرجون ويضحكون .. ووجد فيها نافذة إلى الله، وجسرا إلى الصبر، خاصة بعد أن رأى ما فعلوه بمعروف الحضري ..
كان معروف الحضري محكوما عليه بالسجن 25 سنة في قضية من قضايا الإخوان ـ هكذا قالوا ـ وكانوا يربطونه في ذيل حصان ويلهبون ظهر الحصان بسوط فيندفع وهو يسحب أو يسحق معروف الحضري في أرجاء صحراء مدينة نصر .. فإذا عاد معروف بجراحه ودمائه النازفة ووجهه المتورم، فإنه يقف بينهم ويقول:
- الحمد لله .. قرأت في جولة اليوم ربعين من القرآن الكريم.
سيد قطب الشهيد .. صاحب الكرامات
ولكن الحادثة التي شدت الصيرفي .. والتي دفعت بجرعات الإيمان دفعاً إلى صدور كل المعتقلين. كانت حادثة سيد قطب .. الإخواني الذي يعتبرونه أحد المجتهدين البارزين في القرن العشرين، فقد صدر أمر لحمزة البسيوني قائد السجن الحربي بتنفيذ حكم الإعدام فيه .. شريطة تعذيبه أولاً، وكان يدخر لهذه المناسبات كلباً متوحشاً يقتنيه في السجن الحربي، اسمها "لايكا"، فإذا كانت لـ "لايكا" مهمة، فإن حمزة البسيوني يحرمه من الأكل يومين كاملين .. ثم يطلقه بعد ذلك على الفريسة .. والفريسة دائماً أحد المعتقلين .. وهذا اللايكا يفضل من اللحوم ما كان لحم البشر!
وحبس حمزة البسيوني لايكا، وبعد يومين سحبه بنفسه إلى زنزانة سيد قطب الذي كان لا يكف عن ترديد القرآن الكريم، وفتح البسيوني للايكا باب الزنزانة، وأطلقه على سيد قطب، ووقف ينتظر الاستمتاع بالمشهد الدموي .. مشهد لايكا وهي تنهش من لحم القطب سيد قطب حياً، حتى إذا شبع لايكا نفذ البسيوني حكم الإعدام .. ولكن المفاجأ’ حدثت . توقف لايكا عند سيد قطب، ثم راح يدور حوله وهو يهمهم ويهز ذيله وكأن سيد قطب صاحبه القديم قد وجده .. وسيد قطب لا يتحرك، ولا يكف عن ترديد آيات الله عز وجل .. وكانت المفاجأة الأكبر أن الدموع بدأت تملأ عيني لايكا ..
وغضب حمزة البسيوني، فزجر كلبه .. وإذا بلايكا ينقلب عليه، ويكاد يفترسه هو .. وانسحب حمزة البسيوني والغيظ يأكله .. وجلس لايكا على باب الزنزانة وكأنه ديدبان يحرسها، وكلما أقبل أحد الحراس هب لايكا يعوي ويزمجر ويكشر عن أنيابه ويتحفز للدفاع عن سيد قطب .. وانقلب السجن الحربي .. فقد سمع كل من فيه بقصة لايكا وسيد قطب، فراحوا يسبحون الله العلي القدير على آيته، واشتد الحنق بحمزة البسيوني، وخشي أن تنفجر موجة الإيمان عارمة فتجرفه وتغرقه، ويخرج أمر السجن من يده، فاندفع إلى مسدسه وانطلق إلى حيث كان لايكا يقف أمام باب الزنزانة، وأطلق حمزة رصاصة على رأس لايكا فسقط مضرجا في دمه ومات الكلب .. وبكى حمزة البسيوني بعد أن قتل كلبه .. قلوب كالأحجار .. أو هي أشد قسوة .. لا تهتز لمقتل الإنسان، أعز مخلوقات الله .. وتبكي لمقتل كلب !
حقاً دفعت هذه الواقعة بالأمل إلى كل القلوب، وجعلت الكل يحس أن الله موجود، وأنه يرى كل ما يحدث لهم .. وأن طاقته مفتوحة، وفرجه قريب ..
سياط الجلادين
وقال محمد الصيرفي لي أنه قدم للمحاكمة، وبحث رئيس المحكمة عن تهمة محددة فلم يجد، فأصدر حكم البراءة .. ولكن مسئولاً كبيراً كتب على الحكم الذي رفع إليه:
يمنع المتهم ومحاميه من الاطلاع على الحكم.
ولم يخرج محمد الصيرفي بعد البراءة .. فقد أصدر سامي شرف أمراً باعتقاله مرة أخرى ..
وظل في المعتقل حتى يوم 9 يونية 1967 ..
كان هذا يوم التنحي الشهير ..
وكان شمس بدران يقلب في بعض أوراقه عندما وجد "الورقة" الضائعة .. ولم تكن ورقة .. إنما كانت صورة من فيلم التقط في ليلة صاخبة لمراكز القوى والسلطان في أوضاع جنسية، وقد اختفت الصورة فلفقت تهمة إخفائها لمحمد الصيرفي، لكي يوضع تحت الحراسة، ولكي تصادر أملاكه، وليلقى كل ألوان التعذيب.
وصدر يوم 9 يونية أمر بالإفراج عن محمد الصيرفي ..
وخرج محمد وإخوته فوجدوا كل شيء قد تبدد ..
فقد اعتقلوا يوم 3 مارس، وبدأ بيع ممتلكاتهم يوم 6 مارس بدون إعلان .. وبدون مزاد .. لأن أهل فرقة العذاب كانوا جاهزين بنقودهم للشراء بأبخس الأسعار ..
وقد اختفت تماماً شقق الأشقاء الثلاثة، وأثاث شقق خمس بنات للأسرة، ومحتويات الخزائن، ومحتويات المحلات، والخواتم السوليتير، وثمانية عشر ألف جنيه سائلة، والسجاجيد والنجف واللوحات والتحف.
ومحمد الصيرفي يعرف أشياءه .. إنه يقول أنها موزعة بين شقق فرقة العذاب، بل وحواريي فرق العذاب، ومنهم من كانوا يقفون أمام عدسات التصوير .. وتنتشر الصور، ويصبح محمد الصيرفي دون سميع أو مجيب:
- يا عالم .. هذه سجادتنا .. هذه لوحاتنا .. هذه .............
أنت المسئول عن النكسة
هذه حكاية واحدة فقط من آلاف الحكايات المخزية، التي مارسها العهد الأسود مع أبناء هذا الشعب الطيب الصابر المحتسب ..
ومن الطبيعي أن يسألني البعض .. وأين كنت أنت من هذه الحكايات وما هو موقفك وأنت نائب يفترض فيك أن تدافع عن قضايا الشعب ومشاكله ..
وأقول بكل الصدق والأمانة:
ليتني كنت وحدي أملك إصدار القرار ..
لقد تعرضت للعزل والتصفية مرات ومرات .. وسنوات وسنوات .. ففي هذا العهد الأسود .. عهد عبد الناصر، حل البرلمان سنة 1968، عندما قلت له:
- أنت المسئول عن النكسة .. ابدأ بنفسك وبمن حولك، وطالبت بمحاكمة كل من تسبب في حدوث النكسة في يونيو 1967.
وطالبت بعزل كل مراكز القوى والفساد والاستغلال في الحكم .. كانت موقعة دافعت فيها عن هذا الشعب .. وطالبت برؤوس الفساد والإفساد .. إنني ما زلت أذكرها بكل تفاصيلها ..
كان ذلك في شهر فبراير سنة 68 .. كانت النار تشتعل في قلبي، وثورة غضب تجتاح صدري، بعد أن سمعت عن الفساد وبؤر الفساد في الحكم ومراكز القوى والنفوذ، ما لا يمكن أن أبلغه بتصور أو تخيل .. في تلك الأيام كانت تجري محاكمات قادة الطيران، الذين قدموا ككبش فداء لامتصاص غضب الطلاب الذين يؤازرهم الشعب .. وصدرت الأحكام ولم تكن مقنعة، ولم يكن مقنعاً أن الذين أخذوا وراء القضبان هم سبب النكسة.
وكان في قلوب الشباب نار .. وفي صدور الطلاب ثورة.
وتحركت مظاهرات فبراير سنة 1968، تنادي بالتطهير .. تنادي بحرية الصحافة .. وتهتف للتغيير، وتصيح الحناجر ملتاعة تطالب بالثأر للنكسة التي نكست الرقاب على الصدور ..
وكنت في قرارة نفسي سعيداً بتحرك الشعب .. إنني أعرف أن شعب مصر لا يرضى على ضيم ولا يسكت عن ظلم ولا يقبل الهزيمة، وقد بلغت المظاهرات سور مجلس الأمة، فخرج أنور السادات ـ وكان وقتها رئيساً للمجلس ـ ودعاهم للقاء معه .. وبصفتي رئيس لجنة الشباب بالمجلس .. حضرت اللقاء، وسمعت الحوار .. كانت وجهة نظر الشباب هي أن الحرية ضرورة .. والتغيير ضرورة .. ومحاكمة من تسببوا في النكسة ضرورة ..
كانت وجهة نظر رئيس المجلس أنور السادات أننا خسرنا جولة في المعركة، ولكننا لم ننهزم .. وأن انفلات الأعصاب لن يحقق شيئاً .. وأن الانصراف إلى مواقع الإنتاج، وبناء القوات المسلحة والتغيير إلى الأحسن هو الذي يمهد لنا مناخاً لمعركة جديدة نثأر فيها .. ونسترد الكرامة المهدرة وننتقم لكل قطرة دم أريقت فوق سيناء ..
أما أنا، ففي قلبي نار وفي صدري ثورة .. إن الشباب يعرفون ما على السطح .. أما أنا فأعرف الخبايا .. والأعماق. وكم كانت مظلمة وظالمة .. وكم كانت حالكة وقاتمة ..
ووعد أنور السادات مندوبي الشباب بأن تطرح أسئلتهم في جلسة خاصة لمجلس الأمة .. ودعاهم إلى حضور الجلسة ليسمعوا بآذانهم ما يجري فيها.
وتلقيت مكالمة من التنظيم الطليعي، باعتباري عضواً فيه .. وعلمت أن عبد المحسن أبو النور الأمين الأول للاتحاد الاشتراكي يرتب لقاء لعدد من أعضاء مجلس الشعب، هم في نفس الوقت أعضاء في التنظيم السري لتنسيق ما سوف يقال، ولتوزيع الأدوار في كلمات تمتص غضب الشباب .. وكان عبد المحسن أبو النور يعتبرني من الأصوات المؤثرة، ولهذا ذهبت إلى مكتبه في مبنى الإتحاد الإشتراكي بكورنيش النيل، وتحدثت عن المظاهرات .. فقلت أنها رد فعل طبيعي من الجيل الذي سوف يتحمل آثار النكسة .. رد فعل ضد المجرمين الحقيقيين في النكسة الذين لم تعرف بعد أسماؤهم .. وبدت الدهشة على عبد المحسن أبو النور وسألني:
- ماذا تقصد بهذا الكلام؟
قلت:
- أقصد أننا لا نريد جلسة الليلة في مجلس الأمة جلسة استهلاكية أو تمثيلية أمام الشباب. أقصد أن ننتهزها فرصة لإعلان الحقائق ولو أدى الأمر للتضحية ببعض القيادات السياسية أو العسكرية.
فقال عبد المحسن أبو النور:
- معنى هذا أنك تريد أن تحاكم النظام.
فقلت:
- ولم لا .. المفروض أن يوضع النظام في قفص الاتهام .. فالشباب قد وضعه في هذا القفص فعلاً، والشارع السياسي قد بدأ محاكمتهم فعلاً، ولهذا لن تقنعه عباراتنا الإنشائية، ولهذا أيضاً أطالب البرلمان بأن يكون واضحاً وصريحاً في هذه الليلة التاريخية.
وسألني عبد المحسن:
- هل ستتحدث الليلة؟
فقلت:
- طبعاً.
قال:
- وماذا ستقول؟
قلت:
- سأحاول أن أرد على الأسئلة المطروحة في شوارع مصر على ألسنة الناس ..
فقال وكأنه أوقعني في مصيدة:
- ولكن لا تنس أنك ملتزم.
فأجبته قائلاً:
- لست ملتزماً بخراب مصر.
ثم قلت:
- لابد اليوم من وضع النقط على الحروف، لنفرز العمل الجيد عن الأعمال التي أدت إلى النكسة.
وعندما وصلت إلى قاعة الجلسة في المساء رأيت أعداداً كبيرة من ضباط المباحث والمخابرات تنتشر في القاعة والردهات والأروقة، ورأيت أعضاء من التنظيم السري يتجمعون في حلقات .. فإذا بلغت مواقعهم كفوا عن الكلام .. وأحسست أنني موضوع في قائمتهم السوداء .. وشحذ هذا همتي لأقول كل ما عندي.
الجلسة التاريخية
في جلسة مجلس الشعب التي انعقدت مساء 28 فبراير سنة 1968 في أعقاب مظاهرات الطلبة طلبت الكلمة، ووقفت أتكلم أكثر من ساعتين وأكثر شدت فيها الأعصاب إلى المنتهى، لأن ما قلته كان أجرأ ما قيل تحت القبة منذ قامت حركة 23 يوليو 52. وفوجئت بأن الصحف أغفلت كلمتي واكتفت بالقول في سطور أنن تحدثت .. ولكنها لم تقل فيم تحدثت وماذا قلت ..
عفواً لم تغفل الصحافة كلمتي، ولكن الذي حدث بالضبط، أن الصحافة قد أدت دورها في هذه الجلسة التاريخية بالتمام والكمال، فعندما أحس مندوبوها بسخونة الجلسة والتهاب المشاعر والتصفيق الحاد المتواصل الذي قوطعت به كلمتي أكثر من أربعين مرة، وهذا لم يحدث من قبل في تاريخ الحياة البرلمانية في مصر بشهادة قدامى الموظفين والمختزلين في القاعة، الذي صاح أحدهم فجأة وبصوت جهوري داخل القاعة، وهتف من أعماقه "تحيا مصر .. يعيش علوي حافظ" وكان بهذه الألفاظ البريئة يعبر عن شعوره، عندما خرجت العبارات من فمي تعبر عن إرادة المصريين في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من تاريخ مصر. نعم أقول، لقد أدت الصحافة دورها، فقد اتصل المندوبون بصحفهم تليفونياً، وطلبوا حجز صفحة كاملة لكلمة تاريخية ولدتها لحظتها تحت القبة وبدأوا يكتبون المقدمات. أعود لفقرات من كلامي في هذه الجلسة التاريخية .. لأنها في تقديري ناقوس مبكر دق بالخطر، ومبضع جراح وصل إلى بيت الداء، وأول مؤشر برلماني للتغيير .. وكأنني أفتح الطريق للتصحيح ..
قلت:
- إذا أردنا أن نصل إلى الحقيقة فيما حدث في الأيام السابقة، فإنه يجب أن يقال بصدق وأمانة .. دون رياء أو حياء، أن ما حدث يحمل الكثير من مؤشرات الخطر وجوانب الخطأ. إن إحساس الشعب الآن بين الشعور بالألم والقلق والحسرة والسخط .. ولذلك فإنه يتحتم إجراء مراجعة شاملة ودقيقة للأخطاء لتصويبها، ويجب القيام بدراسة عميقة لجوانب الخطر حتى لا تتكرر، ومعرفة الفاعل صاحب المصلحة فيها. أما أن يقال أن ما حدث كان تلقائياً، وأنه حدث نتيجة خطأ في التقدير زال وانتهى ولن يتكرر، فهذا ما لم أقتنع به، وهذا هو عينه الخطأ الذي جسم الأخطاء في الماضي، وأوصلها إلى مرحلة الانحرافات والخراب والضياع. إن ما حدث لا يستبعد أن يكون وراءه مدبر ومخطط ومنظم يجب أن نصل إيه ونحدده .. وقد يكون في أحد مواقع المسئولية.
وقلت:
- ليس معقولاً لمن يدبر مؤامرة أن يقول إنني سأدبر مؤامرة، فقد يكون التدبير بالتلميح، وقد يكون بالتلويح، قد يكون بالإيحاء، وقد يكون بالإثارة والاستفزاز .. وقد يكون بالإهمال، وقد يكون بالأوامر الملتوية المترددة .. قد يكون بشيء من هذا فتحدث المؤامرة .. أو قد يكون بهذه كلها معاً .. ولا تخرج من رجل واحد، فقد تخرج من مجموعة رجال ينتسبون إلى رجل واحد، وهذا مما يدخل الشك والقلق والخوف في قلبي على وطني، ومن فوق هذا المنبر أصارحكم أيها الزملاء بأن الأيام والليالي الرهيبة التي بدأت منذ يوم21 فبراير سنة 968 والتي كادت أيضاً أن تكون رهيبة، تؤدي كلها إلى معنى واحد، فكما كانت نتيجة أخطاء الأيام التي بدأت في يوم 5 يونية هزيمة لقواتنا العسكرية ونكسة لشعبنا، فإن الأخطاء التي حدثت في يوم 21 فبراير كادت تكون انتقالاً من النكسة إلى النكبة, وشتان بين النكسة والنكبة، لأن الثانية تؤدي إلى أن ينقلب الشارع في الجبهة الداخلية إلى ميدان قتال بين فريقين من المصريين، يتقاتلان مع أن الجميع من أبناء الشعب، والجميع لهم مصلحة حقيقية واحدة، والجميع عدوهم واحد، ومصيرهم واحد ..
وقلت:
- لكن كيف حدث هذا؟
من المسئول عن الشباب؟
لماذا يلجأ الطلاب إلى أسلوب غريب في التعبير قد نسيناه؟ لقد كانت الأحجار في طرف، والعصي والدروع والخيل في طرف آخر ..
إن هذه صورة أليمة تليق بأيام كنا نقاوم الاحتلال .. إن شباب اليوم كانوا رضعاً عندما تغيرت الأوضاع بعد يوليو 1952. فلماذا لجأوا إلى هذا الأسلوب في التعبير؟ إنني أتساءل اليوم: من المسئول عن الشباب في بلدنا؟! من المسئول عن تقويمهم أو رعايتهم؟ .. إن مصر لم تهزم حتى الآن .. إنها نكست بأخطاء وانحرافات من بعض أبناءها، وأمام هذه الحقية أقول من هذا المنبر إن النكسة التي حدثت نتيجة أخطاء في إدارة المعركة في 5 يونية عام 1967 .. بالأمس كادت النكسة تتكرر من أخطاء في إدارة الجبهة الداخلية والعمل السياسي .. وقيادة الشباب.
وقلت:
- إن الضياع قد بدأ، ولذلك نجد الطالب ابن الشعب يضرب الشرطي ابن الشعب/ ونجد الطالب ابن الشعب يجد موقفاً هجوميا، وضد من؟ ضد نفسه، ضد متجره، ضد بيته وضد أمه التي تقف على الرصيف من خلفه أو في النافذة مخلوعة القلب عليه وهي تراه يقلب الشارع على ساحة دموية.
وقلت:
- أين منظمة الشباب الاشتراكي؟ أين راحت؟ هل عملها هو تدريب الشباب على كتابة التقارير والقيام بالتحريات وجمع المعلومات؟ هل هذه هي مهمة منظمة الشباب؟ حتى أنهم عملوا على زيادة حجم استهلاك الورق، ونحن بلاد يعاني من ضخامة كمية الورق التي يستهلكها .. هل مهمة منظمة الشباب هي ترديد الصيحات والأناشيد والشعارات في المناسبات وغير المناسبات؟ إن مهمة منظمة الشباب مهمة تربوية سياسية .. أيها السادة.
وقلت:
- إن بلدنا أساساً يعتمد على قاعدتين أساسيتين، وإغفال إحداهما يعطي للعدو فرصة ليتغلب علينا ويهزمنا ويغزونا .. هذا العدو الذي لم يتمكن منا حتى الآن، إن الشباب كان يجب أن يكون درع الدفاع عن الجبهة الداخلية وحماية مرافق الدولة، لقد كان الواجب أن يدربوهم ويعلموهم على أساس هاتين القاعدين الأساسيتين فقط ..
الدين .. والوطنية
وقلت:
- نعم .. من الدين والوطنية تنبع الأخلاق، فلا يصح أن تصب لهم الإشتراكية في قوالب أو تؤخذ في جرعات وشعارات ربما لا تحتملها نفسية الشباب وسنهم بعد صغيرة، فتدخل معهم في أفكار جدلية تؤزمهم نفسياً، ويصبح شأنهم شأن البالونة إذا زاد نفخها عن حد معين انفجرت، نعم، نحن بهذا نضع في الشباب مرضاً نفسياً يؤدي بهم إلى الغرور فالجنون، إن الشباب أصبح حقوداً متلصصاً ينقل الصورة من مكان على آخر، مجاملة لرئيسه، ويلنها بما يرضيه .. غنها أزمة أخلاقية لابد لنا من أن نقيمها ونقومها، وهي سبب من أسباب المظاهرة التي بدأت تظهر وتطفح في الشارع المصري وتقلبه إلى معركة دموية بين أبناء الشعب .. والخسارة كلها على الشعب، إنني شخصياً في جزع وفي قلق وفي ألم، بل أكاد أقول في سخط أيضاً.
وقلت:
- إنني وأنا رئيس اللجنة الفرعية للشباب في هذا المجلس الموقر جلت في لقاء مع السيد وزير الشباب أسأله: لماذا أوقفت النشاط الرياضي بعد النكسة؟ هل حداداً؟ ولماذا لم تعمل في ظل الركيزتين الأساسيتين اللتين تمتاز بهما مصر وهما الدين والوطنية؟ ولماذا نحن اليوم على هذا الحال؟
ولقد أجاب وزير الشباب "إنني لست مسئولاً عن منظمة الشباب".
وأنا أتساءل: إذن من المسئول؟
أيها الزملاء نحن في خطر كبير جداً، هذا الخطر يتمثل في أن تنمو منظمة تنفق من أموال الشعب على قافلة ضخمة العدد .. دون رقابة مستمرة من الشعب.
لمن الولاء..؟
وقلت:
- إن أي عمل أيها السادة الزملاء يخرج عن رقابة الشعب ووجدانه يخشى من نتائجه، وكفاناً دليلاً ... ما حدث في القوات المسلحة.
نعم كل شيء تحت رقابة الشعب، بمعنى ألا يكون هنا إنفاق لأغراض سرية، لقد سقطت دولة المخابرات المنحرفة لأنها غابت عن ضمير الشعب، وعن رقابة ممثلي الشعب، وهذا ما يجعلنا نخاف .. أن تقوم دولة الشباب تمثل انحرافاً آخر، غنني هنا أقف معترضاً كل الاعتراض على أسلوب التربية لهذا الشباب .. إن الشباب أمانة، إنهم أبناء وإخوة لنا، إن الشباب ثروة قومية.
وقلت:
- إن النكبة ستكون على أيدي هؤلاء إذا لم نحدد الآن وبوضوح .. لمن الولاء..؟
وإلى أين نذهب؟
وطريق مصر واضح ومضيء وأصيل ..
هذه مصر الدين .. مصر الأزهر، والكنيسة، مصر الإنسان المؤمن الطيب. والإشتراكية هي ألا يكون هناك استغلال .. وأن يكون هناك بيت سعيد لكل أسرة. فأين هذا مما يعطى للصغار من مناهج غريبة .. نظرية ماركس وانجلز .. لماذا يقال للشباب أن ديمقراطيتنا أحسن ديمقراطية، وأن اشتراكيتنا أحسن اشتراكية .. ويقال له كذلك إنك أحسن إنسان، فتكون النتيجة أن يتحول إلى إنسان لا استعداد عنده لأن يكون مفتوح القلب أو الفكر أو الصدر، ثم من الذي جرع الشباب هذه الأفكار؟ من هم؟ للأسف ليس في القافلة من القادة تربويون أو رياضيون أو وطنيون..!!
أقول إنهم قلة، ولكن الأغلبية منهم شيوعيون من خريجي السجون والمعتقلات لذلك فإنني أحذر وأنادي بوجوب تجنب الحريق.
من الذي يحكم مصر..؟
وقلت:
- إنني كنائب من نواب الشعب أطالب جمال عبد الناصر الليلة، وبعد النكبة التي كادت تحيق بهذا الوطن، أطالبه بأن تكون البداية بعد الجيش في قطاعات الشباب .. وفي منظمات الشباب. وذلك باستبعاد كل غريب، ودخيل، وكل يساري متطرف حتى لا يلوثوا الأرض الطيبة ويفسدوا الشباب بخلق الحقد والصراع الدموي .. ولغة الدم، وشهوة الدم في صدورهم.
وقلت:
- لقد التزم جمال عبد الناصر "بوضع حد للامتيازات التي حصل عليها البعض دون وجه حق" وإنني أقول له:ابدأ بمن حولك .. وبالقادة، وبالمتصدرين في العمل السياسي بالذات، لأنه إذا لم توضع القدوة الطيبة في موقع القيادة فسوف تخلق إمعات، وسيفتح الباب للنفاق والرياء، وهذا موجود فعلاً في عدد كبير من القيادات التي تحتل مراكز حساسة.
- يجب على كل وزير أن يكون قدوة للمواطنين، وذلك بأن يراجع نفسه وحياته .. كيف بدأ وما وصل إليه، لأنه من غير المقبول أن نقول للجماهير أن الإشتراكية تكافؤ في الأعباء والتضحيات، ونترك البعض في مستوى القيادة والمسئولية يمارس تطلعات طبقية علناً ودون حياء، وفي مواجهة الجماهير. إننا نرى أمثال هؤلاء يبنون القصور بآلاف الجنيهات، ويوثقونها بآلاف الجنيهات، كما كان يحدث في عصر المماليك وعصر القادة الغرباء.
وقلت:
- إن التكافؤ يجب أن يشمل الجميع .. الكبير والصغير على قدم المساواة، ولابد أن يبدأ رئيس الجمهورية من أعلى لأسفل وليس العكس، على أنه يجب أن تجري مراجعة دقيقة وشاملة في هذا الشأن، فمن يريد أن يثبت في موقعه القيادي ويتولى أمر الشعب فعليه أن يكون من لون الشعب .. ويضحي أولاً وأخيراً من أجله.
وقلت:
- إننا نلتمس العذر للجماهير وهي تحس بالقلق والألم والحسرة والسخط حين ترى الشلل التي تحيط ببعض المسئولين، والتي تمثل قطيعاً غريباً من الآدميين، منهم الوصوليون، والإمعات واللصوص والمحاسيب، والأقارب، والأصهار، وجلساء المتعة، والجواسيس والشواذ والحاقدون، والذين لفظتهم القوات المسلحة. فليس من المعقول مثلاً أن يتقلد شخص الوزارة 15 عاماً، المعقول أن نستفيد من كل الأشخاص والخبرات التي تتحلى بالطهارة، وهم كثيرون في هذا البلد، ثم إن بقاء الشخص وزيراً هذه المدة الطويلة يتيح له أن يحيط بنفسه بالشلل والفرق الخاصة .. إنني أتساءل: هل توجد عندنا ديمقراطية؟ وأجيب: إن ديمقراطيتنا محجور عليها!!
المثقفون يختنقون
وقلت:
- لماذا يشعر المثقفون بالضيق؟ لا شك أن لديهم تطلعات، ولكنها ليست تطلعات طبقية، إنما هي تطلعات في سبيل خدمة هذا الوطن، هناك عناصر تحجب عنهم الفرص، وتحول بينهم وبين الوصول إلى هذه المراكز التي يستطيعون منها خدمة مصر. ولهذا كان لابد أن يثوروا وأن يتكلموا .. إن هذه هي أزمة الديمقراطية الحقيقية التي نعانيها: الشلل وفرق الراقصين الموجودة في مواقع العمل. إن هذه لا تملك القدرة على تحمل المسئولية أو الدراسة أو التحليل، وقد وصلت إلى هذه المواقع دون جد أو تعب، وهي تحرص كل الحرص على البقاء في هذه المواقع .. وهم لا رأي لهم .. إنهم يسايرون الأمور بما يضمن لهم البقاء في مراكزهم .. من أجل هذا كانت ثورة المثقفين .. إن ما يجري اليوم لا يتفق والقيم أو العلم أو التخطيط .. إن ما يجب أن يراه الشباب اليوم هو التصحيح والتغيير ..
وقلت:
- إن من يرتكب خطأ ما نتيجة لسوء تقدير الموقف ثم يهرب من تحمل نتيجته مدعياً أنه لم يرتكبه، غبي وجبان. ومثل هذا الشخص يجب إبعاده وأن يحل محله شخص شجاع يستطيع أن يتحمل المسئولية ويقدر الموقف، فإلى متى نظل نعتمد على الرجل الواحد في كل أمر كبيراً كان أو صغيراً؟!
إن كل من يرتكب حماقة أو خطأ يجب أن يعزل أو يحاكم أو ينتحر إذا كانت لا تزال تجري في عروقه بقية من دماء .. ليس هناك شخص يعلو فوق المسئولية أو يحتمي بصلة، أياً كانت هذه الصلة، فالوطن للجميع، والأفراد زائلون، والبقاء والخلود للشعب.
وطالبت بإصدار التوصيات التالية:
- الالتزام ـ أمام الشعب ـ بتطبيق مبدأ الطهارة، على كل القيادات، بإجراء فرز للجميع يتقرر بعده من الذي يستمر في عمله، ومن الذي يفصل منه، ويكون الفيصل هو النقاء والطهارة الحقيقية.
- مراجعة الإتحاد الإشتراكي ومنظماته وقياداته، حتى يتأكد الشعب من ديمقراطية العمل، وإمكانية التعبير عن كل وجهات النظر، بصدق وأمانة ووصول صوت الشعب الحقيقي، وضمان بروز الوطنية والدين في كل المناهج.
- إعادة النظر في منظمة الشباب في ضوء ما تسفر عنه التحقيقات التفصيلية التي أرجو أن تشترك فيها لجنة برلمانية.
- ندب لجنة من مجلس الأمة لتقصي الحقائق، للنظر في أمور المعتقلين والمسجونين السياسيين والحراسات وتصفيتهم والتحقيق في قضايا التعذيب.
في كواليس المجلس
استغرقت كلمتي أمام المجلس حوالي ثلاث ساعات .. هي الساعات التي وضعت فيها مستقبلي كله في مقامرة خطرة .. ولكني ـ وأعتبر أنني أوفّي دَيناً في عنقي للشعب ـ لم أكن أفكر في النتائج، ولا كان يمكن أن تخفف النتائج لو تصورتها من حماستي .. لأنني قبل أن أتكلم عقدت العزم على أن أختار مصر وأرفض الأشخاص .. كل الأشخاص، ومن فرط الانفعال تفصد جبيني بعرق غزير ابتلت به ثيابي، ولم ينقطع التصفيق وأنا أترك المنبر .. فقد قفز عجوز من أعضاء المجلس واحتضني بأبوة وقال:
- ذكرتني يا ولدي بمكرم عبيد وعزيز فهمي ومصطفى مرعي .. بل ذكرتني بسعد زغلول لما كان يقف فوق المنبر.
وقال آخر:
- الحمد لله أن مصر فيها رجال مثلك .. ده مجلس علوي حافظ .. ولكن هذه العبارات لم تستطع أن تطمس عبارات استهجان من أعضاء التنظيم السري الذين تزودوا بتعليمات للهجوم عليّ، وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك أثناء الخطاب، ولكنهم لم يجدوا استجابة من سائر الأعضاء، فابتلعوا شعاراتهم، وشتائمهم، ولكني وأنا في طريقي إلى مقعدي سمعت من يقول همساً:
- هذا عميل أمريكي!
وآخر يقول:
- سوف يحل المجلس بعد هذه الجلسة المشئومة ..
وثالث ممن ارتبطت أرزاقهم بفتات التنظيم السري يصيح:
- خربت بيوتنا.
على أن هذا كله كان من قلة ذابت في خضم هائل من عبارات الحماس والتأييد .. لعلها أروع لحظاتي النيابية على الإطلاق ..
واستوقفتني، بل واستفزتني عبارة جاءت من خلفي بعد أن بلغت مقعدي، عبارة تقول:
- لن يعود علوي إلى بيته الليلة.
ورفعت الجلسة والصخب يملأ القاعة، وأصداء التعليقات دافقة وساخنة وودودة ، كأن كلماتي كانت في أفواه كل زملائي .. وقلتها عنهم، كأنني اتفقت مع كل الشرفاء منهم على أن نضع الموقف فوق المشرحة، ونقول كل ما نعرفه عن تمزقنا ، وكل ما نريده للعلاج، أما مندوبو الطلبة فلم ينقطع لهم تصفيق .. ولا أغالط إذ أقول إن منهم من كان من أعضاء منظمة الشباب الاشتراكي، وقد لفهم الوجوم المطلق .. أمام الحقائق التي سمعوها لأول مرة.
وتحركت للخروج بعد أن التقطت أنفاسي. وكان زملائي يحيطون بي، وكأنهم حجاب أو رقية، بل كأنهم حرس عليّ من العبارة الأخيرة .. لن يعود علوي إلى بيته .. ورأيت سكرتير أنور السادات يشق طريقه بصعوبة بين أعضاء المجلس حتى إذا بلغني همس في أذني قائلاً:
- السيد أنور يريدك!
وكنت قد بلغت الباب ففتحه فوزي عبد الحافظ سكرتير أنور السادات وحاول بعض النواب الاندفاع خلفي فرجاهم ألا يفعلوا لأن السادات يريدني وحدي، وأشار إلى مقاعد غرفته وهو يقول:
- استريحوا هنا حتى يخرج علوي.
كان أنور السادات يذرع غرفته المستطيلة جيئة وذهاباً، وقد انعقد جبينه بالجد فيما يشبه الغضب، وكان يتناثر على المقاعد الثلاثة من الوزراء هم شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين هويدي وزير الدولة المسئول عن المخابرات ولبيب شقير وزير التعليم العالي .. وتوقف السادات لما رآني سألني مباشرة:
- ما كل هذا الهجوم يا علوي .. ومن تقصد بهذا الكلام؟
فقلت:
- أنا نائب عن الشعب، والمرحلة في غاية الدقة والخطر .. اليوم نكسة وغداً نكبة إن لم نسمع بأمانة آلام الشعب.
وقلت بحماس:
- الشارع غاضب .. ومثقل بالآلام، وقد عبرت عنه، وعبرت عن نفسي .. فإنني أعرف الكثير، وأتمنى أن تعلو أصوات كل النواب حتى تتضح كل الحقائق، ويحاسب المسئولون الحقيقيون عن النكسة .. إن الشعب يريد التغيير، يريد التطهير، ومن هنا فأنا أعتبر ما قلت لصالح الوطن .. ولصالح كل الذين جاءوا بي لمقعدي تحت هذه القبة.
واستأنفت أقول:
- أنت تعرف مواقفي طوال حيات .. تعرف أنني صامت على الكثير، ولست ممن يتصيدون بطولة على حساب نكسة مصر .. وعلى العموم إذا كان كلامي الليلة غير مقبول .. فأرجو أن تذكر أن هذا هو أسلوبي منذ بدأت حياتي النيابية .. بل أنت شاهدي الأول على أن هذا هو أسلوبي .. لا مهادنة مع الخطأ .. لا مساومة مع المجرمين في حق الشعب، هات مضابط المجلس .. واستعرض كل ما قلت في الماضي، ثم استعرض كل ما قيل الليلة ليتأكد لك أن الموقف خطير .. جد خطير، وأنه لم يعد هناك داع للمداراة .. وآن الأوان ليحاسب كل إنسان نفسه.
واستطردت موجهاً كلامي إليهم:
- إذا كان كلامي لم يعجبكم .. فاعتبروني من الليلة مستقيلاً من المجلس.
فقال أنور السادات:
- يا علوي أنت تعرف ظروف الجبهة الداخلية جيداً .. إن ثقة الشعب تزعزعت في الثورة .. ومن عجب أنك .. وأنت أحد قادة الثورة أعطيت الفرصة لصفعها والمطالبة بتصفيتها والقضاء عليها.
قلت:
- كل المخلصين في هذا البلد يطالبون بتنقية الثورة وليس بتصفيتها .. وأنا أعتبرها خطوة موفقة أن يصدر نقد الثورة من أحد أبناءها. خاصة أن كل ما قلته حق وصدق.
فقل أنور السادات:
- أنا لم أقل أن ما قلته حق أو باطل .. بل أنا أعرف أنه حق ولكن .. في مثل ظروفنا لا يقال كل الحق.
فقاطعته قائلاً:
- أنا لم أقل كل الحق.
فقال بغضب:
- وهل كنت تريد أن تقول أكثر من هذا؟
وفجأة قلت:
- أنا قررت أن أعتزل السياسة .. وأترك الحياة العامة مكتفياً بما أديت لبلدي. هذا خير الحلول حتى لا أورطكم، ولهذا أرجو أن تسمح لي بدقائق أختلي فيها بنفسي في الغرفة المجاورة لأكتب لك ثلاث استقالات: الأولى من المجلس كنائب، والثانية من جميع مواقعي في التنظيم السياسي، والثالثة من عملي كموظف عام.
فقال:
- هذه بطولة.
وانسحبت على الفور إلى غرفه مجاورة لمكتبه وكتبت الاستقالات الثلاث، وعدت إليه فوجدته مشغولاً بقراءة بعض أوراق أمامه، فتركتها أمامه وانصرفت ..
حلوا المجلس .. وفصلوا نواب الشعب!!
لم تكد تمضي عدة أيام، حتى صدر قرار بحل مجلس الشعب!
ولم يكن القرار مفاجئاً ولا غريباً، فقد كانت كل الدلائل توحي به. لأن المجلس لم يعقد جلسة واحدة بعد كلمتي الأخيرة فيه، وكانت الرقابة شديدة على عدد من أعضائه، وعلى كل من أبدى تعاطفاً مع موقفي. وقد تصورت أن استقالتي قد تريح الأعصاب فأنقذ المجلس من الحل .. فإنني أتصوره ـ بالروح التي دبت فيه ـ قادراً على أن يقول كلمة صدق، قادراً على أن يشعل شمعة في الظلام.
ولم أسمع شيئاً عن استقالتي .. بل عن استقالاتي ..
بل سمعت عجباً ..
سمعت أن التنظيم السري رفض قبول الاستقالة بدعوى أن الاستقالة ستجعل مني بطلاً .. وهي يريدون تحطيمي .. ولهذا صدر القرار رقم 31 لسنة 1968 من اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي .. وهي لجنة كان يسيطر عليها قادة التنظيم السري .. وقد جاء في القرار ما يلي:
اللجنة التنفيذية العليا بعد الاطلاع على القانون الأساسي للاتحاد الاشتراكي العربي وعلى قرار اللجنة التنفيذية العليا رقم 6 لسنة 1964 بإصدار لائحة الإجراءات النظامية للاتحاد الاشتراكي العربي . ..قرر:
- مادة (1) :
يفصل كل من الآتية أسماؤهم من العضوي العامة للاتحاد الاشتراكي العربي، ومن كافة تنظيماته اعتباراً من 20 مارس سنة 1968.
- مادة (2) :
ينشر هذا القرار ويعمل به من تاريخ صدوره.
وفي مذكرة القرار جاء أنه ثبت أن كلا من أعضاء الإتحاد الإشتراكي المذكورين قد خرجوا على مبادئ الإتحاد الإشتراكي، وانحرفوا عن مبادئ الميثاق، وأهملوا القيام بواجباتهم، وامتنعوا عن تنفيذ قرارات الإتحاد الإشتراكي حيث قاموا بتفتيت وحداته وتنظيماته، وأضروا بمصالحه مما جعلهم غير جديرين بعضوية الإتحاد الإشتراكي العربي.
لذلك يقترح السيد الأمين العام ـ وكان علي صبري ـ فصلهم من العضوية العاملة للاتحاد الاشتراكي وتنظيماته. ولم يحز في نفسي شيء من هذا القرار إلا أن اسمي ـ والدافع على التنكيل بي وطني ومواقف معلنة شجاعة ـ قد زج بين قائمة بعض من حامت حولهم شبهات، أو ثبت بالفعل أنهم من الانتهازيين الذين أثروا على حساب مناصبهم أو مواقعهم، حز في نفسي أنهم وضعوني في قفص واحد جمع الأبرياء مع المذنبين حقيقة!
وبهذا القرار تم فصل 18 نائباً من نواب الشعب، كنت منهم طبعاً رقم (5) بالقرار ..
وبهذا القرار أيضاً، طويت صفحة سوداء من تاريخ النظام، النظام الذي أحكم قبضته على مقدرات البلاد والعباد طوال 18 عاماً، ذاق فيه الشعب المصري من الذل والهوان ما لم يذقه في أحلك عهود الاستعمار ..
ولم تكن هذه الحكاية نهاية حكايات العهود السوداء، بل إن ما حدث أيام السادات ـ بعد ذلك ـ كان امتداداً طبيعياً للمسلسل المخيف الذي عاش فيه الشعب منذ صبيحة 23 يوليو عام 52.
واسترجاع الأحداث يأتي إلى ذاكرتي بصورة كريهة، لا أحب أن أتذكرها، ولكن لابد من هذا، وأنا أحاول أن أبرّئ ذمتي الوطنية أمام أبناء وطني، وحتى تكون العبرة واضحة، ساطعة لمن يأتي بعدنا ..
السادات في يوم الزينة
بعد هذا الحلم الطويل الذي شدني إيه بذاكرتي من أمام شاشة التليفزيون وأنا أتابع العرض العسكري صباح 6 أكتوبر 1981 ..
فجأة ..
ظهر رجل على شاشة التليفزيون .
هو نفسه ..
البكباشي محمد أنور السادات.
الذي أذاع صباح يوم 23 يوليو 1952 بيان حركة الجيش وأهدافها.
هو ..... هو .... آه.
كان مشوارنا معاً طويلاً ومثيراً.
تصادقنا وتزاملنا وتعاونا وتجاورنا
ثم اختلفنا كثيراً وتفارقنا.
هذه سنة الحياة .. لا استقرار ولا ثبات.
بل التغيير والتبديل والحركة.
ظهر في موكبه الرسمي بين قادة الجيش.
كلهم زملاء من مختلف الرتب والأعمار والأجيال.
ظهر في بدلة عسكرية أنيقة. يمشي في زهو وسلطان.
يحاول أن يتظاهر بالثبات والاتزان في مشيته العسكرية
على صدره وشاح القضاء ليضيف به إلى مظهره العدل والحكمة.
هنا .. انتابني شعور بالغضب .. كاد يبد متعتي وتحمسي لاستكمال مشاهدة العرض.
كدت أقوم من مقعدي وأغلق التليفزيون.
أصبحت لا أطيق حركاته المثيرة التي بدأ يمارسها في الآونة الأخيرة.
العظمة والاستعلاء والخيلاء واللامبالاة.
تشويه الحقائق والخداع.
كل التصريحات عن الرخاء والتعمير والبناء.
لكن الواقع تخريب وسلب ونهب.
كل الكلمات عن الديمقراطية والقانون والقيم.
ولكن الأفعال استبداد وظلم وعبث.
لا أنكر أن في عهد السادات حدثت إنجازات أربعة هي بحق من أروع الأعمال. وتتمثل في:
- تصفية الاتحاد السوفيتي.
- حرب أكتوبر.
- مبادرة السلام.
- مظلة المعاشات والتأمينات.
وقد أيدتها كلها وبصوت عال ون تردد تحت قبة البرلمان، لأنها في صالح مصر .. إلا أنه في الآونة الأخيرة للأسف أصيب هو الآخر بمرض السلطة.
المرض الذي أصيب به كل من حكم فترة طويلة دون مراجعة أمينة.
وبدأت مرحلة جديدة من القرارات غير المدروسة والتصريحات العفوية التي تصيب البلاد والعباد بأبلغ الأضرار.
مسكينة يا مصر! .... مرة أخرى تعيشين في غياب الديمقراطية السليمة وفي ظل حكم الرجل الفرد المريض.
كل المخلصين والكفاءات الوطنية انفضت من حوله، وتربعت على كل المواقع والقمم عينات من البشر معظمها من المنتفعين والوصوليين.
عبث بإرادة الأمة بالاستفتاءات والانتخابات المزيفة.
لفق القضايا ليتخلص من المعارضة ثم اعتقل الآلاف من الساسة والمفكرين والمناضلين. أصبح أسير شهوة الغنى والسلطان فحكم من الاستراحات الفاخرة وبتقارير مزيفة لأجهزة فاسدة.
هذا هو أنور السادات ...
الذي أشاهده أمامي الآن على شاشة التليفزيون ..
فترة حالكة من تاريخ مصر نعيشها الآن .ز أصبح عصر السادات من أسوأ عصور التاريخ .. نعم. من أسوأ عصور التاريخ.
غابت القدوة من كل موقع وانتشر الفساد في كل مكان.
ظهرت طبقة طفيلية أثرت من المال الحرام بعد أن امتصت دم الشعل وعبثت بقوته وأهدرت كل قيم الحياة .. ارتفعت الأسعار بجون وتسيبت الإدارة في كل مكان.
فسدت كل المرافق وأصبحت حياة الإنسان في مصر رحلة عذاب.
التلوث في كل مكان والطوابير أمام كل سلعة.
فصّل الأحزاب السياسية حسب هواه فأصبحت كل التيارات الوطنية جانب والسادات جانب وحده.
أصبح يفعل ما يشاء ويقنن الديكتاتورية حسبما يريد.
حتى بدأ الغضب والسخط وعدم الرضا على وجه وفي قلب كل إنسان شريف في مصر. كلمة واحدة تتردد على ألسنة الجميع. تسمعها بوضوح في المجلس الخاصة: يسقط أنور السادات
نعم يسقط أنور السادات ..
بعد أن أسقط الجميع .. ليبقى هو.
صفى كل كفاءة وكل ماض وكل ضمير.
فالسادات تحركه نظرية سياسية ذات محاور ثلاثة .. تتحكم في كل تصرفاته وأقواله لم تتغير أو تتبدل من بداية مشواره السياسي هي:
- أولاً: السياسة لعبة قذرة لا أخلاق فيها.
- ثانياً: التصفية لازمة لكل ذي ماض أو رأي.
- ثالثاً: الذات دائماً أولاً وأبداً وخلف كل قرار.
ثم جنح السادات إلى الحياة المسرفة ... مسرفاً في الإنفاق لإرضاء ذاته، الحفلات – الرحلات – المواكب – الاستراحات – الاستعراضات – الملابس.
ثم أصبح لا يسمع ولا يرى إلا ما يعجبه ويطربه.
حبس نفسه تماماً في الوهم والمشاعر الكاذبة بعد أن تمكن منه الغرور ومرض السلطة.
بدأ يطلق على ذاته بعد أن عشقها وعبدها النعوت والصفات والألقاب فهو "كبير العائلة المصرية" وهو "البطل المؤمن الملهم".
ثم تصور الدولة كلها عائلة في ضيعة هو كبيرها وصاحبها .. كل من فيها عليه الحمد والشكر والانحناء له. لا يرفع رأسه ولا يفتح فمه بنقد أو رأي.
فهذا عيب وحقد لأن السمع والطاعة فقط لرب العائلة دائماً وأبداً.
المنافقون استغلوا مرض الرئيس وحبه للثراء السريع الفاحش وأمطروه مديحاً وثناءً في الخطب والأغاني والأناشيد والتمثيليات.
فريق منهم .. بدأ يزيف التاريخ لحسابه.
فريق آخر .. أطلق على مصر اسم "مصر السادات".
فريق ثالث .. تقدم إلى البرلمان بمشروع قانون لتسمية السادات أمير المؤمنين وسادس الخلفاء الراشدين. سرقوا مكانة عمر بن عبد العزيز ليعطوه إياها.
النفاق في كل مكان للسادات وبصوت علي جعله لا يسمع ولا يرى إلا ألفاظ الطرب والعظمة.
كل هذا زاد من مشاعر سخط الشعب وغضبه على السادات القصص والحواديت والروايات والنكت بدأت تنتشر في كل مكان عن استغلال النفوذ والثراء غير المشروع.
وبينما الفقراء يزدادون فقراً يزداد غير الشرفاء غنىً ويتولون المناصب وبعض مقاعد البرلمان والسلطة.
المسافة تبعد في كل يوم بين قاعدة الشعب الكادحة وقمة الشعب الطفيلية الاستفزازية.
بيوت الفقراء القديمة تتساقط يوميا على أولادهم.
الحواري والأزقة والشوارع تمتلئ بالمياه الملوثة الآسنة والأمراض والقاذورات تفتك بهم وأجهزة الدولة معظمها لا تتعامل إلا بالرشوة.
الرقعة الزراعية تنكمش لأنهم بنوا فوقها فيلات وأبراجاً واستراحات للأغنياء الجدد.
الصحراء تنهب وتقسم إلى مقاطعات جديدة على شباب ذي السطوة والنفوذ من الطبقة الجديدة.
الانفتاح للاستهلاك والنهب والتهريج، والصناعات الوطنية تموت، والعمالة تهرب.
العملات الأجنبية ترتفع قيمتها في جنون وعملة الشعب تفقد قيمتها وسيطرتها.
الرئيس يتنقل كل ليلة من استراحة إلى أخرى أجمل وأكمل، حتى باتت القصور الملكية السابقة التي نهبت لا تليق بتطلعاته .. بعد أن أدخل عليها تعديلات جديدة أنيقة من قوت الشعب الذي يتضور جوعاً.
حتى المتحف المصري وآثار الفراعنة التي لا تقدر بثمن لم تسلم من العبث والنهب .. فمندوب عن رياسة الجمهورية يتردد من الحين والحين إلى المتحف يأخذ كنوزاً من تراث مصر القديم. ليقدمه السادات هدايا في رحلاته الكثيرة في العالم مقابل هدايا أخرى يتلقاها منهم لذاته.
السادات يعلن قيام الأحزاب ثم يتصور أن الأحزاب مهددة للوحدة الوطنية.
فات السادات أن الأحزاب لا تؤلف بقرار بل هي كالشجر ينبت من تحت ولا يزرع من فوق. فهناك حقيقة تاريخية تقول إن الأحزاب "الشيطانية" لا تعيش إلا عمر صاحبها ومؤسسها. فإذا سقط أو مات سقط الحزب معه ومات إلى جواره. والذين يعرفون تاريخ مصر الحديث يقولن إن حكومات عديدة حاولت تعديل قانون الانتخاب لتضمن لنفسها الأغلبية في البرلمان. وفشلت كل هذه الحكومات وانتصر الشعب وأرسل ممثليه الحقيقيين إلى مقاعد النواب.
نسي السادات أن الديمقراطية هي النظام الحزبي السليم وكفالة الحريات لا الحزب الواحد المهيمن.
فالقانون الذي صدر في عهد السادات لتكوين الأحزاب كان مقبرة لحرية تكوين الأحزاب وأيضاً نزول السادات إلى الشارع السياسي وصنعه حزباً مهيمناً ثم إنفراد هذا الحزب المهيمن بالسلطة السياسية المطلقة دون أن يلقي بالاً لأحزاب أخرى بجانبه متجاهلاً عشرات الملايين الذين لا يؤيدون هذا الحزب واأسفاه لم يكتف السادات بذلك بل تمادى في الخطأ متحدياً التاريخ والحقيقة والعلم والناس فبدأ يغزو الحياة الاقتصادية بحزبه.
فأنشأ ما سماه "لجنة التنمية الشعبية" قامت بتأسيس ما سمته البنك الوطني للتنمية وتتابع إنشاء بنوك التنمية والشركات التجارية بهذه الطريقة وأدى هذا النشاط التجاري الحزبي المرتجل إلى حلق طبقة انتهازية جديدة تسيطر على اقتصاد مصر تفسد وتدمر الحياة السياسية. فأصبح الولاء ولاءً مصلحياً لصالح المنتفعين من هذه الأنشطة المشبوهة من الساعين وراء الربح وليس ولاءً وطنياً أو قومياً .. هذه هي الديمقراطية في مفهوم السادات.
وهذه هي العدالة الاجتماعية والتنمية الشعبية كما فهمها السادات والشعب هو ضحية الاستغلال فحزب السادات يمارس إقطاعاً حزبياً اقتصادياً بل تحول إلى مؤسسة اقتصادية ضخمة تمارس احتكاراً لصالح بعض العائلات الغنية من الطبقة الطفيلية.
بذلك أصبح الحزب أكبر صانع وأكبر تاجر وأكبر مقاول في الدولة.
أنشأت لجنة التنمية الشعبية الحزبية مائة وخمسين شركة وبنكاً حتى الآن. هذه الضخامة إضافة إلى السيطرة السياسية باتت تهدد القطاع العام نفسه الذي يمتلكه الشعب عندما يتم حصاره بمنع العون السياسي والملي عنه فتقطع جذوره لكي يموت ميتة طبيعية. فيبيعه سماسرة الحزب بأبخس الأثمان وأشد الشروط غبنا للشعب إلى الشركات الاستثمارية مستفيدين من السمسرة والعمولات، غير أن ما هو أشد إثارة للفزع أن الحزب الذي صار المالك الإقطاعي الأكبر للنشاط الاقتصادي ليس هو المالك الحقيقي إنما المالك الفعلي حقيقة هو طبقة طفيلية جديدة تكونت في عهد السادات يتجمع رأس مالها في البنوك والشركات المملوكة للحزب تحت ستار التنمية والأمن الغذائي وبذلك تعود السيطرة الإقطاعية في أسوأ صورها على الحكم فمعظمهم:
- من أصحاب الدخول غير الشرعية الذين يربحون في فحش من مافيا من مافيا المناطق الحرة والموانئ الذين حققوا دخولاً طفيلية ضخمة دون مجهود أو إضافة إنتاجية.
- من المستوردين دون تحويل عملة لسلع استهلاكية لا قيمة حقيقية لها معاً أثر على كساد الصناعة الوطنية وخرابها.
- من سماسرة السلع التموينية والدوائية والسلاح الذين امتصوا دماء الشعب دون حياء.
- من الذين وضعوا أيديهم على ألوف الأفدنة من أملاك الدولة وقسموها وباعوها بالأمتار لآخرين ليبنوا عليها عمارات وفيلات أنيقة يبيعونها أو يؤجرونها مفروشة بآلاف الجنيهات أو يقيمون عليها مخازن تشون فيها بضائعهم.
- من المرتشين والمهربين لسبائك الذهب والمجوهرات والعملة الذين لا تصل إليهم يد القانون لانتمائهم إلى هذه العائلات.
- من الذين نهبوا أموال ومجوهرات أسرة محمد علي ثم القصور والفيلات والشقق الفاخرة والأبعديات التي كانت تمتلكها ثم جاء السادات ليمارسوا في عهده استثماراً جديداً في ظل الانفتاح بتحويلها إلى شركات وشقق مفروشة حتى أن كل مستثمر أجنبي يفكر في الحضور إلى مصر كان يسعى أولاً إلى أحد أفراد هذه العائلات ليشاركه.
كل هؤلاء ينفقون وينفقون بصورة استفزازية أدت إلى التضخم في عهد السادات.
لأنهم جميعاً لا يضيفون كماً جديداً إلى الإنتاج، مما أدى إلى استنزاف طفيلي لعرق الجماهير وإنتاج مصر وقيمة الجنيه المصري. فانفجرت الأسعار وأصبحت كل السلع في مصر تباع بخمسة أضعاف ثمنها. والطبقة الطفيلية لا تعي فلديها تضخم في الأرباح التي جاءت بسهولة لتنفق بسهولة ليفسد المجتمع وترتفع الأسعار ويجوع الفقراء. وأصبح المواطن الشريف يعيش في جحيم وطنه وبين أولاده والجنيه في جيبه لا يساوي شيئاً فقد انعدمت قوته الشرائية وأصبح لا يسمع إلا شعارات وخطب من السادات، مرة عن:
- الأمن الغذائي.
- ثم عن الأمن الإسكاني.
وامتدت يد مصر لتستورد كل شيء من خارج البلاد.
الطعام والكساء والدواء حتى الصابون.
وأصبح التلوث في كل مكان والطوابير أمام كل سلعة.
واختفت القدوة تماماً من أمام الناس. هذه الأحاسيس سيطرت على مشاعري وأنا أتابعه على شاشة التليفزيون فأشعلت من جديد الغضب الذي كان راسباً في أعماقي، فقد افترقنا أنا وهو تماماً بعد لقاء مثير. إذا استدعاني في منزله ليفاجئني بأعجب طلب يطلبه رئيس دولة من نائب عن الشعب وبلهجة استفزازية آمرة .. قال لي السادات:
- أنت يا علوي .. ليس لك مكان عندي في البرلمان.
- أكتب لي استقالتك دلوقتي من مجلس الشعب.
وكان قبل ذلك بشهور قد طلب مني أن أستقيل من حزب الوفد الذي ساهمت في تأسيسه، فرددت عليه رداً أغضبه كثيرا.
"يا ريس .. الأحزاب لا يمكن تفصيلها .. الوفد له جذور تاريخية في أعماق مصر. ده جبهة وطنية حقيقية .. وأنا أعتقد أن فؤاد سراج الدين هو المصري الوحيد اليوم اللي يستطيع أن يؤسس حزباً".
وكان قد فزع تماماً عندما نقلت له أجهزته فيلماً لي بالصوت والصورة في مؤتمر شعبي في نقابة المحامين ليلة 23 أغسطس 77 وأنا أعلن للجماهير تأييدي لقيام حزب الوفد وانضمامي للمؤسسين.
لم أكن أعرف أن موقفي هذا سيكلفني كل هذا فقد أمر السادات شياطينه بتصفيتي بعد أن غضب مني وأعلن سخطه عليّ.
فوجئت وأنا بالإسكندرية بعد منتصف الليل أثناء عودتي من مؤتمر شعبي في دائرة الجمرك ليلة 12 مايو 1978 بعربة تتبعني حتى منزلي بها أربعة رجال ولولا لطف الله الذي ألهمني ومنحني القوة أن أشهر في وجوههم سلاحاً وهمياً خافوا منه وبه تم اقتيادهم إلى قسم شرطة الرمل وهناك تعزوا جميعاً وانفضحوا بعد مشادة حامية بيني وبينهم في حضور جمهرة من الناس تجمعوا بالمصادفة.
اتضح فيما بعد أنهم أربعة ضباط من جهاز أمن الدولة مكلفين بتلفيق قضية أمن ولله لي ولقادة الوفد، إذ كان من المقرر أن ينعقد مؤتمر شعبي كبير بجوار مقام سيدي المسري أبو العباس بالإسكندرية بعد ساعات يخطب فيه رئيس الوفد "فؤاد سراج الدين" وكان مطلوباً منهم إجهاض هذا المؤتمر. وتدبير هذه القضية لي ولقادة الوفد قبل المؤتمر بيومين حتى يكون مبرراً لإلغاء المؤتمر الشعبي ومنع فؤاد سراج الدين من الخطبة بعد إلقاء القبض على قادة الوفد بتهمة العمل على قلب نظام الحكم.
وكانت يد الله فوق أيديهم إذ نجوت من الكمين بأعجوبة وحرر محضر بالواقعة بقسم شرطة الرمل ثم وجدت أنه من الأصوب أن أستخدم هذا الحادث لمواجهة السادات في البرلمان. أكشف به عن وجهه الحقيقي كحاكم يصفي النواب والأحزاب الحقيقية.
وانعقد المؤتمر الشعبي الكبير لحزب الوفد بالإسكندرية وخطب فؤاد سراج الدين أمام الآلاف، كانت بحق ليلة كالزلزال هز فيها عرش السادات بعنف وقض مضجعه وجعله يرتعد من قوة الوفد وشعبيته ممثلة في الجماهير الضخمة التي حضرت المؤتمر والهتافات المدوية بحياة الوفد.
ولكنهم رغم ذلك تمكنوا من تزوير الانتخابات دائرة الجمرك حتى لا ينجح مرشح الوفد ولكنهم فشلوا في تصفية قيادات الوفد كما أراد السادات.
لذا لم أتعجب قط من هذا اللقاء الأخير مع السادات الذي طلب مني فيه الاستقالة من البرلمان بعد أن رفضت الاستقالة من الوفد.
لم أرد عليه، فقط وقفت مستأذناً في الانصراف.
وهنا لم يستطع الرجل أن يحبس أنفاسه فخرجت منه كلمات تهديد فيها غطرسة وكبرياء وأعتقد انه لم يكن يدري ما يقول فقال: "بس ده حيكلفك غالي قوي ..."
كانت هذه آخر كلمة سمعتها منه وآخر مرة قابلته فيها.
خرجت من منزله وقررت الابتعاد عنه تماماً وقاطعته.
لم أره من يومها إلا على شاشة التليفزيون ووجدت نفسي أتمتم بالآية الكريمة وأنا أحملق في شاشة التليفزيون.
"رب إني مغلوب فانتصر"
محاولاً أن أخرج بها من قمة الغضب الذي سيطر عليّ عند رؤية الرجل، حاولت بعدها بصعوبة أن أتابع العرض العسكري ولكن كانت الصورة لا تزال مرة على المنصة.
المنصة ... المنصة ... المنصة ..
وعليها كل القادة العسكريين حول السادات.
هنا سرحت ودت أفقد تماماً رؤية العرض العسكري.
السادات وأحمد بدوي
سرحت بعيداً .. بعيداً جداً لتلتقط ذاكرتي صورة زميل عزيز لي، بطل عسري غاب عن المنصة اليوم، رحل منذ شهور قليلة إلى الآخرة وترك الدنيا شهيداً في حادث مثير لا تزال التساؤلات والتخمينات تتابعه حتى الآن، إن مصرع الشهيد أحمد بدوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة كان صدمة عنيفة ومفاجأة غريبة لكثيرين.
احترقت به طائرة القيادة هو ومجموعة نادرة من القادة العسكريين إثر تفتيش مفاجئ قام به. ولكن رغم صدور بيانات عددية تنسب الحادث المروع للقضاء والقدر إلا أن الكلام عن الحادث العجيب لم يتوقف حتى الآن .. كيف .. ولماذا .... 14 من أكفأ وأبرز قادة الجيش برفقة القائد العام في طائرة واحدة تحترق في لمح البصر؟ ..
عجباً .. اقتحمت هذه الصورة رأسي الآن وسيطرت عىل عواطفي حتى سقطت الدموع من عينيّ بغزارة وشعرت بحزن عميق.
كان صديقي .. ومن زملاء دفعتي ..
ضابطاً من الأبطال ..
شهيداً رحل في غموض ..
علامات الاستفهام والتعجب ومشاعر الحزن والأم تقابلك في كل مكان في الجيش وبين الناس ـ الكل يسأل ويتعجب ولا إجابة مقنعة..؟!!
أنا نفسي اهتززت للحادث هزاً عنيفاً.
هل لمجرد الزمالة والصداقة ورحلة العمر؟؟؟
أم لروعة الحدث وغرابته....؟؟؟؟؟
ربما ... ولكن، هناك شيء آخر ربطني بأحمد بدوي قبل أن يرحل بأيام، نعم قبل أن يرحل بأيام وبالمصادفة وعلى غير موعد لقاء كان مصادفة بيني وبينه .. في مكتبه بكوبري القبة.
يومها .. مررت على مكتبه فجأة .. أسأل عنه، قابلني سكرتيره مرحباً وقال لي إنه في اجتماع مع بعض قادة الجيش بدأ في الصباح ولم ينته بعد.
فطلبت منه ألا يزعجه ويفسد عليه اجتماعه .. فقط يبلغه بعد الاجتماع ..أنني حضرت وسلمته مذكرة مكتوبة من رئيس جمعية النصر لضباط المشاة شكوى منهم، يحطون القائد العام علماً بأن الأرض المخصصة لهم على الساحل الشمالي تعرضت للنهب من أحد ذوي الحظوة والنفوذ من سدنة السادات. والضباط يفوضون القائد العام للتصرف، ورجوني في الوساطة لحل هذه المشكلة.
هذا كان سبب حضوري إلى مكتب أحمد بدوي. أما القدر فكان يخبئ شيئاً آخر تماماً .. سبحان الله.
فالضابط الحمام سكرتير القائد العام بذكائه قدر حجم الصداقة التي تربطني بأحمد بدوي فجد أنها تسمح باختراق اجتماع القائد العام وقادة الجيش بصرف النظر عن عريضة الضباط التي سلمته إياها .. ففتح الباب فوراً على الاجتماع ودخل وخرج في لمح البصر ووراءه الفريق أحمد بدوي بنفسه .. مهللاً ومرحباً.
- أهلا يا علووي .. إيه الخطوة العزيزة دي، عايز تهرب وتروح فين..؟ إنت النهاردة بتاعنا وراك حاجة؟
- أبداً دنا قلت أفوت عليك .. أشوفك وأكلمك بخصوص مشكلة الضباط بتوع جمعية النصر.
- أنا اللي عاوزك .. في عندي كلام كتير لك .. وراك حاجة ولا تخش تقعد معانا تعالى .. تعالى .. هو إنت غريب، دول كلهم زملاؤك وبعضهم تلاميذك.
وجذبني أحمد بدوي من يدي إلى داخل مكتبه .. حيث فوجئت بمائدة الاجتماعات وحولها لواءات من قادة الجيش. الوجوه كلها أعرفها .. بعض الأسماء أذكرها والبعض لا ولكن الكل وقف .. والكل يعانق ويقبل .. والبعض يشد على يدي.
وجدت نفسي فجأة داخل اجتماع عسكري على أرقى مستوى في مكتب القائد العام .. يا إلهي ما هذا؟
وهنا بادرني أحمد بدوي بقوله:
- أقعد معانا .. إن مكنش وراك حاجة .. حنخلص بسرعة وبعدين نقعد سوى علشان أنا عاوزك .. والتفت أحمد بدوي بابتسامة إلى القادة العسكريين الذين بدا عليهم السرور للمفاجأة .. وقال:
- الأخ علوي .. طبعا عارفينه .. دفعتي وصديقي فقاطعه أحدهم:
- يا أفندم .. دي فرصة نشكره على دوره في تعديل قانون المعاشات العسكرية اللي استفاد منه معظم الضباط. فرد بدوي بسرعة:
- بس المعاشات العسكرية .. دحنا حنشكره على حاجات كثير ثانية بس يقعد معانا النهاردة.
وأشار أحمد بدوي إلى مقعد كبير وقال:
- إستريح هنا .. بالكثير ربع ساعة وحنخلص .. تشرب إيه ؟ وأمر لي بفنجان شاي جلست أحتسيه بينما هم في مناقشاتهم التي استغرقت ساعة تقريبا. لم أتململ لأني سمعت أحاديثهم .. أفادتني كثيراً، ثم وقفوا جميعاً .. وأدوا التحية العسكرية للقائد العام .. وقبلوني قبل أن ينصرفوا .. وشد الكثير منهم على يدي مرة أخرى .. ورجاني البعض في الاتصال به.
انصرف القادة جميعاً .. وأصدر أحمد بدوي أوامره بعدم دخول أحد علينا .. مكثنا معاً أنا وهو 3 ساعات كاملة في حوار صريح .. لا أنسى أبداً ما دار بيني وبينه في هذه الساعات.
وحدة مشاعر وصدق أحاسيس مع صفاء في التفكير ونقاء للضمير وسمو للهدف. لقد مات البدوي ورحل معه كل من شاهدتهم على مائدة الاجتماعات في هذا اليوم بالتمام والكمال. ولم ينج منهم أحد!!!!
كما جمعهم المكتب .. جمعتهم الطائرة المنكوبة.
سبحانك ربي ..
في هذا اللقاء المفاجئ بادرني صديقي أحمد بدوي بسؤال ضاحك .. طبعا بعد أن غادر القادة جميعا غرفة الاجتماع:
- قولي إنت عامل ايه الوقت ؟؟؟
- أعمل ايه يا أحمد .. دلوقتي .. زي امبارح
- أقصد بعد ما الراجل صفاكم جميعا من البرلمان.
- في الظل طبعاً يا صديقي كالعادة .. أنا أخذت على كده من زمان ..
دي سابع تصفية لي من يوم ما اشتغلت بالسياسة .. السبوع وحياتك انفجرت ضاحكا بصوت عال وقلت:
- بس كان الشرف أن أكون من أسباب حل البرلمان مرتين .. مرة في 68 والثانية في 1979، أولنية بسبب النكسة .. قلت عوزين نعرف سببها ونحاكمهم والثانية بسبب الحرامية. قلت عايزين نصفيهم ونحاكمهم .. كفرت طبعا.
- أهو صفاكم انت ..
وضحك ضحكة طويلة ساخرة شاركته فيها ثم استأنفت الحديث:
- والله يا أحمد حاجة غريبة كل مرة أخرج يخرج معايا 17 نائب محترم طبعا .. الظاهر إن العدد ده فيه سر ..
وهنا ضحك بدوي بصوت عال وعقب سريعاً
- أهو خلص منكم دفعة واحدة .. اللي قرفيه .. في البرلمان .. قول لي علاقتك بيه دلوقت؟؟
- لا علاقة بالمرة .. انت عارف عمل ايه معايا؟ .. اسمع العجب .. آل عايزني أستقيل من مجلس الشعب لأني ماليش مكان عنده في البرلمان. هددني إذا ماكنتش أستقيل وأخرج حيكلفني غالي قوي مش عارف ناوي يعمل فيا ايه.
- انت فاكر يا علوي الكلام اللي انا قلته لك لما تغدينا سوا في السويس من 3 سنين .. حاكم انا كنت متوقع لك كده من يومها .. قلت لك .. يا علوي حاول تناور .. السياسة عاوزة مناورات باستمرار .. لف ودوران. هي كده .. اللي بيلعبوا اللعبة دي كده .. دي لعبة لا يستمر فيها طويلاً الا بتوع المناورات والظاهر انت لا زلت عسكري زي حلاتي.
- أي والله .. عسكري يا احمد نفر كمان الصدق .. التفاني .. الإخلاص .. الانضباط صفات مش عارف أخلص منها أبداً أنا في المسئولية دي من ربع قرن شفت كثير وكثير أهو أنا دخلت البرلمان 4 مرات مقرتش أغير أسلوبي ولا مرة .. نعم للصواب .. ولا للخطأ .. على طول كده مهما كانت النتائج رغم المصائب التي حصلت لي .. يمكن أكون غلطان ..
- لا أبدا .. ما انتش غلطان.
ده حنا كلنا بنعتز بيك علشان الحتة دي بس، ده شرف لينا وفخر لينا كلنا أن يستمر واحد مننا في السياسة بهذه الصورة دول سقطوا كلهم وفضحونا وهزوا صورتنا وهزأونا وخلوا وشنا في الأرض من 52 إلى النهاردة.
حتى الراجل نفسه طلع زي ما قلت بالضبط.
فاكر قلت ايه يوم ما قعدنا في ميس الجيش الثالث في السويس
- جالك كلامي يا أحمد .. صدقت .. مظهره غير حقيقته. سيبك .. الإيمان .. والعيب .. وولادي ولادي .. كل اللي بيقوله غير اللي بيعمله نظريته اللي بيشتغل عليها لا تتغير. السياسة لا أخلاق فيها. خطته دائما تصفية القمم أولا بأول، ده قالي مرة بلسانه (انت أصلا عبيط واخدها مبادئ ..)
- مضبوط .. اللي انت بتقوله يا علوي .. أنا مكنتش مصدق يومها لما قلت لي كده عنه .. فاكر قلت لي ايه بالضبط .. فاكر ولا افكرك؟
- فاكر طبعا .. قلت لك انه مش حيسيب الأبطال الحقيقيينلحرب أكتوبر إلا لما يصفيهم جميعاً ويخلص منهم .. هي دي طريقته. ذاته بس .. ده لا يطيق أن يكون في الصورة غيره .. ومازلت أقول لك .. خد بالك من نفسك .. ولا تآمن له يا أحمد مهما قالك.
- أنا اتأكدت من كده قريبا جدا .. بس
- لا .. أنا بقى أعرفه من زمان عاشرته 30 سنة في كذا موقع. وسكنت معه في بيت واحد. هو ده أنور السادات.
تعال نراجع مسيرته من البداية إلى النهاية تلاقيه عاوز يبقى الرجل الأوحد في كل موقف .. الأضواء عليه .. ذاته وبس .. ذاته اللي قعد يبحث عنها طول عمره لغاية ما حطها في كتاب علشان يصفي فيه تاريخ مصر لحسابه .. ومايبقاش في التاريخ إلا هو .. البطل والأسطورة الأيام دي زاد عليه مرض السلطة والزعامة بعد حرب رمضان طبعاً .. أصحب أقواله وتصرفاته لا تطاق .. ده سعيد جداً للي بيقوله المنافقون دلوقتي (مصر السادات).
قال مصر السبع آلاف سنة حضارة أطول تاريخ في الأمم أصبحت مصر السادات ..
والله دول حايكونوا سبب في نهايته.
- ده أنا كنت متصور .. إنكم أصحاب قوي ..
- كنا أصحاب حقيقي .. تزاملنا في العمل وتجاورنا في السكن الكلام ده قبل النعم ومظاهر السلطان ما تبان عليه. قبل ما يسكن طبعاً في قصور وبينام في استراحات.
لما كان ساكن في شقة زي حالاتي .. ده كان فرحان قوي قوي بالشقة اللي أنا جبتهاله على النيل في الروضة في عمارة يمتلكها صديق لي ..
الحمد لله خناقاتنا دائما مع بعض على مواقف ومبادئ، وده اللي خلاه فقد الأمل فيّ واعتبرني من الخوارج على شخصه ونظامه. ده قال لي مرة انت انحرفت .. طبعا بالنسبة للنظرية اللي بيشتغل عليها.
- يعني أفهم إن فيه قطيعة بينكم دلوقتى؟.
- تماماً .. قطيعة .. زي ما قلت بالضبط السلطان والنفوذ والتآله جعله لا يقبل ولا يطيق النصيحة ولا الرأي الآخر نازل شعارات لا يعمل بها أبداً
العيب .. العائلة .. الحق .. أخلاق القرية .. عمال يقول كلام في الخطب وحقيقته حاجة تانية خالص، يا راجل .. ده البلد مشفتش فساد ولا تسيب ولا نهب ولا سرقة زي اللى شفته في عهد السادات ..
الناس اللي بتقول لبعض اللي ماسرقشي في عهد السادات .. عمره ما حيعرف يسرق أبداً ..
والعجيب إنه يفضل اللصوص والأفاقين .. ويصفي الكفاءات وأصحاب الضمائر .. دول لا يطيق رؤيتهم أو التعامل معهم بل العكس يتمنى نسفهم وفرمهم زي ما بيقول ..
- أفهم من كده .. إن العلاقة بينكم مقطوعة تماماً؟.
- مش مقطوعة بس .. دي الثقة انتهت، أنا لا أثق به .. وهو لا يؤمن بجانبي، عاوز يفرمني خصوصاً بعد ما اشتركت في تأسيس حزب الوفد اللي بيترعش منه ويعتبره منافسه على عرش مصر. ده مهددني إني حدفع الثمن غالي قوي. مع إني والله يا أحمد .. مكنتش بترد أبداً في إعطائه حقه في المواقف الجيدة اللي في صالح مصر طبعاً. خد مثلا .. حرب رمضان:
رغم إيماني بأن الأبطال الحقيقيين في هذه الحرب هما انتم يا أحمد اللي حضروا المعركة وخاضوها ببسالة الشهداء هما الأبطال الحقيقيين .. كل من ذهب ولم يعد .. اللي انجرحوا .. اللي فقدوا أجزا من أجسادهم اللي ضربوا المثل في شجاعة والجسارة والإقدام .. اللي وضعوا خطة العمليات للحرب وتصرفوا في المواقف الصعبة .. دول الأبطال الحقيقيين وبالرغم من كده شربتها وقلت على السادات إنه بطل في مجلس الشعب وأنا واثق واللي يعيش يفكر زميله يا أحمد إن صورته حتتهز وتنكشف لما خبايا الحرب تعلن وأسرارها الحقيقية تنعرف يوم ما يتكلم التاريخ بصراحة وتقرأ الوثائق الحقيقية.
خد مثلا .. مبادرة السلام.
أول من أيده من النواب .. أنا .. لأني مؤمن بأن ليس بأمامنا بديل لاستعادة الأرض والسيادة غير المفاوضات والتفاهم. فالضرورات تبيح المحظورات بعد ما جربنا الحرب كذا مرة من 1948 إلى النهاردة .. النزيف المصري زاد أوي ..
قلت عليه "زعيم" برده في مجلس الشعب .. تتصور مين عارف لما تنكشف أوراق اللعبة وتذاع الأسرار والوثائق ويتكلم التاريخ بصدق، حاتلاقيه خطفها لذاته في الوقت غير المناسب ولعبها لوحده بعيداً عن الفريق في سبيل المجد الذاتي والشهرة وليذهب الجميع إلى الجحيم زي عادته، فأنا برغم تأييدي للسلام فأنا حاسس إنها اتلعبت في غير مكانها وغير أوانها .. وبغير رجالها.
هنا قاطعني أحمد بدوي بفضول شديد وقال بصوت عال:
- إيه اللي أنتى بتقوله ده؟
- أيوه يا أحمد .. اقرأ السياسة بعمق وتابع الأخبار العالمية والتصريحات اللي عمالين نسمعها واربطها بأنور السادات .. بتاع السياسة لعبة لا أخلاق فيها واللي عودنا إنه لازم يشوف نفسه أولاً في كل موقف صعب .. زي ما عمل ليلة 23 يوليو لما راح السينما.
والمعلومات التي تجمعت لدى حتى الآن عن مبادرة السلام تشير إلى أنها كانت إستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط استقرت عليها الإدارة الأمريكية بصفة نهائية .. كبداية لحل مشاكل المنطقة.
هذه الإستراتيجية بعد دراسات كثيرة وتم التفاهم والاتفاق عليها مع فريق من قادة العرب وزعمائهم وأصبح هناك شبه اتفاق أن يقوم بها فريق من زعماء العرب بما يشبه مؤتمر قمة.
طبعا السادات على علم بالدراسات وألم بكل جوانب الخطة وقابل الساسة والزعماء وبينما كان يسعى إلى التقرب من الإدارة الأمريكية الجديدة جاءته الفرصة ليلعب مبادرة السلام بذاته لذاته .. بعد أن طبق عليها نظريته السياسية الثلاثية التي لا يتخلى عنها أبداً.
لا أخلاق في السياسة وأنا أولاً .. ومن بعدي الطوفان .. طبعا نفذها منفرداً ومبكراً ومفاجأة وربما ببعض التنازلات.
وكافأته الإدارة الأمريكية بأن سلطت عليه الأضواء العالمية واعتبرته بطل السلام وأضيف لاسمه بطل السلام بعد الحرب وتألق عالمياً مستغلاً تعطش الناس في العالم لكلمة "السلام" وانبهار الناس على اختلاف أجناسهم بلفظ "السلام" وارتبط اسمه بجائزة نوبل "للسلام" غطته أجهزة الإعلام العالمية بأكبر غطاء إعلامي يبهر الناس بالقصص والروايات وتمثيليات في الصحف والكتب والسينما والتليفزيون بكل لغات العام مما أوصله طبعا على ذروة مرض السلطة والغرور وحب الذات. بعد أن وضع القادة العرب كلهم في مأزق كبير .. وصفى القمم العربية وشل فاعليتها.
هو ده .. السادات .. في كل المواقف .. "ذاته ومن بعده الطوفان" هنا قفز أحمد بدوي من على مقعده وشد على يدي صائحاً بحزم وسرور:
- التحليل ده صح مية المية .. برافو عليك.
ثم ألقى بمفاجأة جدبدة في وجهي ..
- تتصور يا علوي ده بدأ يصفيني أنا كمان ..
- مش قلت ل كده مش حيسيب حد .. اطمئن .. لن تكون الأول ولا آخر من صفاه كل القادة العسكريين بتوع أكتوبر .. انتهوا تقريبا . فين همه؟ فيم الجمسي .. فين الشاذلي .. فين صادق .. فين الليثي .. ده مش بس بيصفي يا ريته يقف عند التصفية دهب يلفق قضايا ويشوه سمعة وبيدخل سجون كله بالقانون وللأسف الجهاز الإعلامي بيقوم معاه بدور كبير في تزييف الحقائق حاجة غريبة يبدو أن عنده أجهزة شيطانية للتصفيات ﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ شياطين لا ضمير لهم ولا خلق مصلحتهم الشخصية ونفاق الحاكم وبس يا راجل .. ده عمل مذبحة في البرلمان .. وصفى نواب الشعب .. سمعت في التاريخ عن نائب يفصل من البرلمان؟
كمال حسين ... الشيخ عاشور .. عبد الفتاح حسن .. أبو العز الحريري .. طردهم من المجلس وبعدين صفى المجلس كله .. حله، وخلص من المعارضة كلها بكل فصائلها دفعة واحدة وعمل استفتاء مزيف وانتخابات مزيفة نتائجها لحسابه طبعا 99,9% ثم بدأ في تصفية الرأي الآخر في البلد كلها.
مذبحة في نقابة المحامين وأخرى في نقابة الصحفيين وثالثة في نقابة المهندسين .. كبير العائلة المصرية يصفي كل القمم والنابغين .. يصفي كل من له ضمير أو رأي او تاريخ أو موقف .. يصفي كل الكفاءات لتبقى العناصر الموالية له ولذاته فوق القمم، ده صفى الكلمات والشعارات من مضمونها.
صفى "القيم" وترك الفساد والنهب يرتع في أرض مصر ويمتص دماء الشعب .. أنت نسيت يا أحمد؟.
ده صفى "الجيش المصري" قبل كده وضيع أموال "مصر" وتسبب في موت ىلاف من شباب مصر وخرب اقتصاد مصر، وهنا في لهفة وانزعاج صرخ أحمد بدوي:
- ايه ده اللي أنت بتقوله .. الجيش المصري اتصفى .. إزاي .. إزاي وأنا القائد العام ووزير الدفاع.
- إي والله يا أحمد .. التاريخ بيقول كده .. لازم نقرأ التاريخ كويس علشان منقعش في مطبات جديدة .. التاريخ بيقول أنور السادات ضيع الجيش وخرب الاقتصاد بس ماكنتش انت القائد العام كان عبد الحكيم عامر !!
السادات سبب خراب مصر
انت فاكر حرب اليمن؟
إزاي بدأت
مين .. يا أحمد .. اللي غرز الجيش المصري في اليمن ..
الناس كلها فاكره إنه جمال عبد الناصر ..
مظلوم جمال عبد الناصر. ده كان ضحية أنور السادات ..
الأصل في حرب اليمن هوه أنور السادات مش جمال عبد الناصر. السادات هو الفاعل الحقيقي والمتسبب الأصلي لهذه المذبحة
صحيح أن جمال عبد الناصر في الفترة دي بالذات .. سبتمبر 1962 كان في قمة المرارة والألم والمرض ..
كان يعاني ألماً نفسياً شديداً. يمضي وقته كله منكباً على الأوراق والتقارير التي ترد إليه في بيته ليسهر عليها طول الوقت في مكتبه متقوقعاً مكتئبا. التقارير ترفع إليه في الوقت الذي بدأ فيه يشك في كثير من الناس وأصبح غير مطمئن لأحد وفي معاناة مستمرة ضد التيارات التي انفجرت ضده في ذلك الوقت بعد الفضائح والخسائر التي تولدت عن انفصال سوريا عن مصر في سبتمبر 1961 .. ما فعله السوريون وما قالوه في دمشق آلم جمال كثيراً.
الأثر السيئ الذي أحدثه الانفصال في الأمة العربية هز شخصية ونفسية جمال هزاً عنيفاً ..
بعد أن كانت الوحدة والموجة الإعلامية التي صاحبتها قد نصبته زعيماً حقيقياً للأمة العربية أحس جمال عبد الناصر بعد الانفصال أنه سقط من ارتفاع شاهق ! فبعد أن كانت الجماهير خلال الوحدة وفي دمشق بالذات تحمله من على الأرض حماساً واعتزازاً أصبحت اليوم تتندر عليه وتشمت فيه.
كان جمال عبد الناصر متألماً جداً من جراح الانفصال وظلت سوريا وما حدث فيها هي فكرة ومصدر أحلامه المخيفة.
ثم بدأ الصراع بينه وبين صديقه الحميم عبد الحكيم عامر إثر الفضائح التي كشف عنها الانفصال.
كان عبد الناصر يحس أن عبد الحكيم عامر والضباط الذين أحاطوا به في دمشق هم سبب الانفصال .. بل هم أنفسهم يساندون عبد الحكيم في صراعه معه داخل القوات المسلحة ..
عبد الحكيم عامر وضباطه يشكلون مركز قوي رهيباً يهز سلطان جمال عبد الناصر. فكر عبد الناصر في إعادة تنظيم القوات المسلحة بعد الانفصال فكانت هذه فرصته الوحيدة للتخلص من الضباط الذين تسببوا في الانفصال وإبعاد عبد الحكيم عامر الذي كان يقضي لياليه كلها بين مجموعة من الضباط هم أنفسهم شركاؤه في نكسة الانفصال .. ليغدق عليهم من المال العام بسخاء الشقق .. السيارات .. السفريات .. المصاريف السرية والمكافآت طبعاً في النهاية ولاؤهم له دون سواه .. مما جعل عبد الناصر يعيش في دوامة مع نفسه وفي صراع مع صديق عمره وفي حالة عدم ثقة مع أقرب الناس إليه وفي حالة نفسية موزعة بين الشك والريبة والاكتئاب والحسرة.
ولاء الجيش موزع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر .. كلا الرجلين يصارع الآخر ويخشاه ويحاول أن يستقطب الآخرين من حوله .. تمزق في قمة القيادة وكان هذا هو الصراع الثاني بعد صراع عبد الناصر ونجيب في بداية حكم 23 يوليو 52 .. أما السادات .. كعادته طبعا .. فقد كان يمارس لعبته التقليدية .. يبحث عن ذاته .. ولاؤه لا هنا ولا هناك .. لا لعبد الناصر ولا لعبد الحكيم عامر ولكن للسادات.
السادات رجل الذات والملذات
نظريته التقليدية: أنا قبل كل شيء وبعدي الطوفان .. مارسها بنجاح ليلة الانقلاب في 23 يوليو 1952 .. وأوصلته إلى قمة من القمم في هذا النظام كان يوزع وقته بين عبد الناصر المشير ويتظاهر بالولاء هنا وهناك. السهرات مع المشير والضباط أصحاب الحظوة الغارقين في النعم والكرم .. الكل يسبحون بحمد المشير .. وفي مقدمتهم السادات طبعاً وفي نفس الوقت وفي أي مناسبة يجتهد في إظهار ولاء آخر للرجل القابع في بيته عبد الناصر فكلما كانت هناك فرصة للسادات يتقرب بها إلى قلب أو عقل عبد الناصر لا يتردد أبداً لأنه لم يكن يدري لمن الغلبة في النهاية .. فالصراع مستمر وكلا الرجلين يتمتع بثقة قطاع كبير ومؤثر من الناس. أمسك السادات العصا من النصف كعادته ..
ولكن عبد الناصر رغم مرضه واكتئابه، أحس بحقيقة السادات فبدأ يعامله بفتور بعد أن تأكد من المعلومات التي وردت إليه أن السادات يرجح كفة المشير عليه ويلقي بنفسه على أعتابه وفي مجالسه.
كان عبد الناصر في ذروة الألم والمرض نتيجة صدمة الانفصال .. يتشكك في كل ما يرد إليه من معلومات يقرأ تقارير كثيرة متضاربة مما جعل بعض قراراته في النهاية غير صائبة.
أصبح حزيناً ومعقداً تماماً من كثير من الشخصيات التي عملت معه .. يحس أنهم خدعوه .. كان عبد الناصر أيضاً ساخطاً على كل القيادات العربية غاضباً منها ومن تصرفاتها خصوصاً الشماتة التي حدثت عند الانفصال 1961.
في مقدمة هؤلاء كان الإمام أحمد إمام اليمن وولده البدر لم ينس لهما عبد الناصر قط ما حدث بعد قيام الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958. فقد جاءه ولي عهد اليمن البدر إلى القاهرة برسالة من أبيه الإمام أحمد وكانت رسالة أعجب من العجب فصدقها جمال عبد الناصر. تقول الرسالة أن منجم الإمام أحمد نظر إلى السماء فوجد نجم عبد الناصر في ارتفاع فأرسل ولده البدر إلى القاهرة ليلحق بنجم الجمهورية العربية المتحدة التي أسسها عبد الناصر لأنها جمهورية ساطعة.
وخدع عبد الناصر وعقد اتفاقية اتحادية بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن وضع عبد الناصر يده وهو الزعيم الذي تهتف له الجماهير في يد النظام الإمامي العفن في صنعاء .. ووقع عب الناصر والإمام أحمد ميثاق اتحاد الأمم العربية في مارس 1958.
وأعطى جمال عبد الناصر اليخت الحرية ليركبه الإمام أحمد ومعه الهدايا والعطايا من مصر ليعود بها إلى بلاده بعد الوحدة مع مصر.
بل أرسل عبد الناصر بعثة عسكرية من اثنى عشر ضابطاً للتدريب والإشراف على الجيش اليمني.
صدق عبد الناصر دعوى المنجم اليمني في ارتفاع نجمه وأغفل كل التقارير الرسمية التي كانت أمامه والتي تؤكد له أن اليمن تعيش في ظل حكم كهنوتي اسمه المملكة المتوكلية اليمنية.
إن الحالة الاقتصادية في اليمن سيئة جداً والخزانة خاوية تماماً.
إن الجيش اليمني لا وجود له والسخط منتشر في كل مكان.
إن الشعب اليمني بائس جائع يسير كالأشباح من الهزال.
إن الدولة غير مسئولة عن الجنود، والضباط لا قيمة لهم ولا تستطيع أن تفرق بين الضابط والجندي إلا عندما تلاحظ الرتب العسكرية على كتفه .. جاكتة لون وبنطلون لون آخر .. جندي جاوز الستين وجندي في العشرين من عمره .. كل عسكري يدبر نفسه من الأكل والشرب والملابس .. كرنفال عجيب .. لا يملكون حتى المسدسات للدفاع عن النفس.
الكل أمام البؤس والشقاء سواء.
كان عبد الله السلال في ذاك الوقف رئيساً للحرس الخاص بالبدر
كان أول ما فعله الإمام بمجرد وصوله أن حبس البعثة العسكرية المصرية في قصر الضيافة بصنعاء وأخذ المغانم التي حصل عليها والأموال من مصر .. حتى حدث الانفصال في 1961 .. فأرسلهم إلى القاهرة فوراً.
ثم أذاع قصيدة يتهكم فيها على الانفصال وعلى عبد الناصر في خريف 1961 هاجم فيها مصر بشدة وبألفاظ قاسية مما عقد جمال عبد الناصر وأغضبه كثيراً.
لذلك فعندما نقلت الأخبار في 18 / 9 / 1962 الأنباء من اليمن بأن البدر اغتال الإمام أحمد بالسم وتولى أمر اليمن وعين السلال رئيساً لأركان حرب الجيش اليمني أسعدت هذه الأخبار جمال عبد الناصر تماماً وخففت من سخطه وألمه من الإمام أحمد وانفصال سوريا عن مصر .. كانت الطامة الكبرى التي حطمت أملاً كبيراً لعبد الناصر عاش بعدها حبيس منزله وأسرته وتجرع هزيمة الانفصال وحده مع شماتة الكثيرين.
أما السادات رجل الذات دائماً فكان يقدر الموقف بدهاء في تلك الفترة يقضي بعض الوقت مع نفسه يفكر في ذاته ويمضي السهرات بين قعدات المشير وسهرات أخرى عائلة متنوعة بعضها مع صديق له حميم هو شخصية يمنية ومتزوج من مصرية تربطهما صداقة قوية بحرم السادات، فكانت هناك سهرات بين السادات وحركه والدكتور عبد الرحمن البيضاني وحرمه في الشقة الأنيقة التي يمتلكها الدكتور البيضاني على النيل بمنيل الروضة، هناك كان السادات يقضي وقتاً ممتعاً في جلسات عائلية إلى منتصف الليل أحياناً والحديث ممتع مع المثقف اليمني.
فالدكتور البيضاني يعيش في القاهرة من مدة طويلة يحلم وهو في القاهرة في تصفية صراعات وخلافات سياسية قديمة بينه وبين الإمام أحمد وبعض رؤساء القبائل في اليمن.
وكانت للبيضاني تطلعات كثيرة ولكنها كانت مركزة على المال والثراء.
حتى كانت ليلة 26 سبتمبر 1962 السادات وزوجته والبيضاني وزوجته الكل يستمع إلى نشرة الأخبار تنقل خبراً من اليمن يقول ..
- مقتل البدر.
- تمرد باليمن بقيادة السلال.
- إعلان الجمهورية اليمنية.
أثارت هذه الأخبار الجميع ودارت مناقشات سريعة واستنتاجات وتقديرات كانت كلها نتيجة دراسات وتطلعات البيضاني.
ورغم أن حقيقة الأمر والذي لم تقله الأخبار هو أن الخزانة اليمنية كانت خاوية تماماً كالعادة والرواتب لم تصرف منذ ثلاثة شهور .. فتمرد الضباط والجنود .. وعندما فشل البدر في تدبير طلبات الضباط المتمردين هرب إلى الحدود.
إلا أن البيضاني استمع إلى أخبار نشرة لندن واعتبرها فرصة العمر لعبد الناصر لاستعادة مكانته المفقودة في الأمة العربية.
وأكد أن قنبلة واحدة على قصر البدر كفيلة بالإطاحة بالعهد له.
واقترح البيضاني على السادات أن ينقل هذه الأخبار إلى عبد الناصر فوراً ربما تسعده وتفتح أمامه الباب فهو يعرف أن شماتة الإمام أحمد بعد الانفصال هزت كبرياء عبد الناصر وآلمته كثيراً ..
وهنا وجد السادات الفرصة الذهبية ليتقرب إلى عبد الناصر المحطم، عله بهذه الأخبار يستطيع أن يمثل دور الولاء على عبد الناصر ويزيل التوتر الذي بدا منه نحوه وكان هذا يقلق السادات كثيراً وذلك الفتور الذي أحسه من عبد الناصر نحوه .. وفعلا قام السادات دون أدنى تفكير إلا في مصلحته الشخصية ولإظهار الولاء لبد الناصر لمحاولة الوصول إلى قلبه من خلال هذه الأخبار وتمثيل دور الناصح الأمين المخلص لعبد الناصر لاسترداد الزعامة المفقودة في الوطن العربي.
أمسك السادات بالتليفون واتصل بعبد الناصر وأخبره بما سمعه من إذاعة لندن ونقل إليه وجهة نظر البيضاني.
وسعد عبد الناصر فعلا عند سماعه هذه الأخبار وصدق أنه سيخرج بها من أزمته وطلب من السادات أن يحضر فوراً إليه ومعه البيضاني ليستكملوا بحث الموضوع .. سعد البيضاني تماماً بنجاح فكرته ووصلها إلى عبد الناصر بهذه السرعة .. أحس في داخله أنها فرصة ذهبية له أيضاً لتحقيق أحلامه وتطلعاته في النفوذ والمناصب بل في تصفية الحسابات القديمة مع أعدائه في اليمن بإمكانيات مصر.
تحرك الجميع إلى بيت عبد الناصر بمنشية البكري.
وهناك دار حوار طويل استخدم فيه كل منهم ملكاته وتطلعاته ..
السادات قدم البيضاني لعبد الناصر على أنه رجل المعجزات الملم بكل التفاصيل في اليمن بل أكد له أن البيضاني على صلة تامة بكل القبائل والمشايخ باليمن.
ووضح لعبد الناصر أنه يمكنه بالبيضاني أن يدير ثورة في اليمن من القاهرة بنفس مبادئ يوليو 1952 ودار حوار طويل ومثير بين الرجال الثلاثة عرضت فيه النقاط الآتية:
- أن وقوف عبد الناصر إلى جانب ثورة اليمن تقرب بينه وبين الشارع العربي في كل مكان من الوطن العربي .. وفي هذا رد اعتبار لما حدث من السوريين في دمشق في سبتمبر 61.
- أن مجرد ظهور قوة مصغرة من القوات المصرية على أرض اليمن سيكون له أثر نفسي رائع على الشعب اليمني .. يمنع التدخل الأجنبي.
- أن ثورة في اليمن بمعاونة مصر ستسقط جدران العزلة المفروضة على مصر حالياً.
- أن يقوم الجهاز الإعلامي المصري بمعركة إعلامية فور اعتراف القاهرة بالثورة اليمنية وفي هذا مشاركة وجدانية ورمز أصيل للوحدة العربية.
وعبد الناصر الغارق في آلامه وأحلامه ينصت إلى الرجلين اليمني والمصري بإعجاب ثم بدأ في داخله يحس ببوادر الأمر في عودته زعامته للأمة العربية بعد أن صدق من الكلام الذي سمعه هذه الليلة أن ثورة اليمن جاءت عوضا له عن جراحه في سوريا .. بل أنه بثورة اليمن سوف يهز عروشاً ويغير الخريطة السياسية لشبه الجزيرة العربية بل العالم أجمع.
كان عبد الناصر يسمع هذا الكلام وهو يفتقر تماماً إلى دراسة علمية عن حقيقة الخلافات في اليمن وكانت هذه الحقائق غائبة أيضاً عن البيضاني نفسه .. فالبيضاني يعيش في مصر بعيداً عن كل شيء في المجتمع اليمني إلا ما يقرؤه في الكتب والمجلات.
ولكن سرعان ما وافق عبد الناصر على التدخل في اليمن وأمسك بسماعة التليفون يبلغ المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش قراره المفاجئ بالتدخل في اليمن وتحدث معه طويلاً وأفهمه في النهاية أن السادات والبيضاني سيكونان في تنسيق التحرك الفوري إلى اليمن وكان رد المشير التقليدي على هذا الكلام:
رقبتي يا ريس ..
ومن هنا بدأ مستنقع اليمن .....
مستنقع اليمن
كان موضوع الثورة في اليمن يشغلني كثيراً، ولست أزعم أن في يدي أسرار قضية اليمن. والواقع أن التدخل في اليمن لمساندة ثورة السلال له قيمة عربية لا جدال فيها. هذا ما يردده المدافعون عنها .. ولست أخالفهم في الرأي، إيماناً مني بأن حركة يوليو مصرية في بدايتها، عربية في شمولها، وعقيدة مني أن مصر العرب، وبالعرب، عليها أن تقوم بدور الأخ الأكبر .. ومركز الإشعاع، وقطر الرحى .. والدرع والجيش المقاتل حتى لو كان هذا بعض الأحيان قدراً يحملها فوق طاقتها.
ولكن التدخل في اليمن لم يكن موفقاً من الناحية العسكرية .. إي لم ينفذ لم تنفيذا جيداً .. وإذا كان الإخفاق من قيادة القوات المسلحة في التعامل مع حركة الانفصال والقضاء عليها وهي في مهدها قد سرى همساً ولم يتناوله تحقيق، فإن ما علمته عن اليمن وفي اليمن يستحق الكلام .. بل والصياح .. كان من قادة اليمن من هم دفعتي .. دفعة شمس بدران .. كما يقولون، ومن هؤلا زميل أحترم كفاءته العسكرية جاءني بعد عودته من سوري إثر الانفصال وقال:
- يا علوي أن أتوجس خيفة من تعاملنا مع الروس !
قلت : كيف؟
قال: في صبيحة الانفصال فوجئت بقائد الموقع الذي أنا فيه يحاصرني بالدبابات، تمهيداً لرحيلي .. ووقتها كنت في السويداء، وقد جازف ضابط سوري يعشق مصر فارتدى زيد رزين لأن السويداء عاصمة جبل الدروز الذي لقبه جمال عبد الناصر بجبل العرب، وبلغ موقعي وهمس في أذني:
- يجب ن أقول لك أن سلطان باشا الأطرش ينتظر أي أمر من جمال عبد النصر ليحرك كل الدروز ضد الانقلاب. فقلت له:
- لا حيلة لي وأنا شبه أسير.
واستطرد زميل الدفعة يقول لي:
- وبعد هذه الواقعة بدقائق دخل عدد من الضباط الروس الذين كانوا يعملون كخبراء في سوريا وراحوا يعانقون الضباط السوريين مهنئين، وسمعتهم يرددون عبارات عن التحرر والحرية والثورة على الاستعمار المصري.
وقال الزميل:
- ولهذا لا أطمئن إلى هؤلاء الناس، إنهم أما جمال عبد الناصر بوجه، ومن خلفه بوجه آخر.
فقلت له:
أنت تعلم أن الشيوعية ضد القومية العربية، ودورها في تحريك الشيوعيين في سوريا بقيادة خالد بكداش في تفجير الوحدة دور معروف. والتقيت بهذا الزميل بعد عام .. كانت ثورة اليمن قد اندلعت بعد عام من الانفصال، ورأى جمال عبد الناصر أن يرسل قوات مصرية إلى اليمن لتساند الثورة .. وكان ينظر إلى هذه العملية على أنها التعويض النفسي الوحيد الذي تسوقه له السماء بعد مرارة الهزيمة والشعور بالإحباط .. ومرض السكر الذي تتابع عليه بعد الانفصال.
وكان زميلي أول من تلقى نبأ عملية اليمن .. تلقاها يوم 26 سبتمبر سنة 1962 .. على أن العملية ستبدأ صباح 27، فقد اتصل رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة ليبلغه "تلقينا" أمراً من أننا نؤيد ثورة اليمن، وسوف ندعمها، ومطلوب مننا الاستعداد لأي تدخل عسكري فيها.
ثم قال له:
- نريد خرائط عسكرية عن اليمن.
وأترك الرواية المريرة لزميلي الذي قال لي:
- ولم يكن عندنا خرائط عن اليمن، ولا في المخابرات لم نكن نملك إلا الخرائط التي يرسها التلاميذ في المدرسة الابتدائية وقد قالت المساحة العسكرية أن الخرائط التي تملكها من أيام الأتراك .. ولم بعد بد من الاستعانة بخرائط وزارة التربية والتعليم، عكفنا عليها لساعات نحاول أن نضع عليها ما نعلم بالاجتهاد من معالم حديثة.
وقال زميلي القديم:
- وكانت عملية الاستطلاع من نصيب مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر، وقد قامت به طائرة خاصة في الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل، ومعه قوة محدودة من جنود الصاعقة .. وكانت مهمته محددة "كتابة تقرير عن الموقف".
وقال الزميل:
- وكان أول انطباع عن الموقف أن عبد الله السلال قائد الثورة شخصية لا يمكن أن تمضي إلى الأمام بثورة سوف تواجه تحديات كثيرة .. وقد كتب مكتب المشير تقريراً يقول فيه أن الثورة ليست عليها سيطرة كاملة .. وأن موقفه يحتاج إلى دعم سريع يتحدد في قوة عمادها العربات المدرعة وأفراد الصاعقة المدربون لمعاونة الثورة في السيطرة على الموقف.
وكان الطلب غير عادي .. فكيف تنقل قوات بأسلحتها لمسافة آلاف الكيلومترات؟ وكيف نخطو إلى المستقبل في هذه الأرض المجهولة التي حارت فيها الألباب، حتى أن الإنجليز وهم يحتلونها تقوقعوا في السهل الخصيب على الشاطئ، وتحاشوا ما عداه؟
سألت الزميل:
- وماذا أغراكم بالتدخل ؟
فقال:
- الروس .. لقد عرضوا على جمال عبد الناصر أن يضعوا كل ما يملكون في خدمته .. نعم لقد كنت ميالاً إلى تصديق ان الروس كانوا أحد الأسباب الدافعة التي جعلت جمال عبد الناصر يندفع إلى اليمن فدرست القضية دراسة ميدانية، واستمعت إلى عشرات الضباط الذين قاتلوا هناك، وأبلوا أحسن البلاء.
لقد ساعد الروس جمال عبد الناصر في أن يمد جسراً جوياً إلى اليمن. وتواجدت القوات التي طلبها مدير مكتب المشير بالسرعة المطلوبة في مواقعها، حتى قال الضباط أنها عملية سريعة سرعان ما تنتهي! ولكن تقارير قيادة المخابرات في ذلك الحين قامت بدراسة موقف الإمام البدر، ومدى انتشار قواته، وأرسلت تقريراً خطيراً بأنه من الضرورة التي تبلغ مبلغ الحتمية العسكرية أن تكون لنا قوات في السهل الساحلي، من الكثرة بحيث تقوم بعمليات التفاف وتطويق لقوات البدر، حتى نقضي عليها، قبل أن تقضي هذه القوات على ثورة السلال، وعلى قواتنا المحدودة العدد التي ركبت الجسر الجوي وأحدثت بوصولها المبكر دوياً عالمياً!
وكان الخطأ في تقارير قيادة المخابرات في ذلك الحين أنها ألبست البدر ثوب نابليون، ورأت أن نقل القوات الكبيرة هو الكفيل بصيانة سمعة القوات المسلحة المصرية. أي أنهم وضعوا على الورق تصوراً مبالغاً فيها، إلى حد الوهم في بعض نقاطه. وطلبوا نقل قوات مبالغ فيها إلى حد النزوة في أكثر نقاطها!
ونقلت القوات المسلحة بالبحر، وعلى الجسر الجوي الذي دعمه الاتحاد السوفييتي، وأفهم السوفييت جمال عبد الناصر بعد أن تقدم القتال واتسع أن أمريكا مع الإمام البدر، والسعودية. وكان يهم السوفييت جداً أن يوسعوا الشقة بين مصر والسعودية، ومن هنا لم تتردد القوات المصرية، بل وطائرات سوفييتية ـ كما قال لي بعض القادة الكبار ـ في العدوان على مناطق سعودية جاءت التقارير أن هجمات الحكم الرجعي تبدأ منها.
وقبل أن أستطرد أقول إنني ذهبت إلى اليمن ضمن وفد من مجلس الشعب، لنرى القضية على الطبيعة، ولنرى أمجادنا في اليمن على حد قولهم، وفيما انشغل بعض أعضاء الوفد بالاستماع إلى هذه الانتصارات وأكاليل الغار ثم الشراء من الأسواق بأسعار زهيدة، بأحاط ي عدد من زملائي، وأعداد من تلاميذي من الضباط الصغار ليعرضوا عليّ الجانب المظلم من القضية .. أو الوجه الآخر من العملة .. وكانت أول أسئلة الضباط الصغار هي: قل لنا يا من علمتنا الإستراتيجية في الكلية الحربية ما هو الهدف الحقيقي من حملة اليمن؟!
وعرفت أن الأراضي الجبلية في اليمن تمتص أكثر قواتنا، وأن انتشار القوات يعرضها للخطر الشديد .. لأن الجبال لها مئات القمم .. وكل قمة يمكن أن تتحكم في طريق، ويكفي أن يقبع يمني ملكي على قمة من هذه القمم ليقطع الطريق على فصيلة كاملة! وهكذا أصبحت السيطرة على الموقف صعبة، مما جعلنا نقذف إلى اليمن بمزيد من القوات بلغت في بعض الأحيان خمسين ألفاً كانت تتوزع، بل تتفتت ـ على حد التعبير الذي سمعته ـ في هذه المجاهل الغامضة. لأنه كثيراً ما كان يحدث أن تجد القوات نفسها في واد لا تعرف اسمه، وليس موجوداً على خرائط المدارس التي بين أيديها.
وناقش معي الضباط ما كان يطرح عليهم من أن القتال في اليمن هو التدريب الحقيقي للمعركة القادمة مع إسرائيل .. لتشابه الظروف .. وكانت للضباط ـ بفضل المعايشة ومواجهة الموت في كل لحظة ـ وجهة نظر مختلفة، فقد قالوا لي عن مسرح العمليات في اليمن يختلف تماماً عن مسرح العمليات في سيناء، وأن هذا المسرح الشاق في اليمن يستهلك المعدات بسرعة مذهلة، كما أن القتال يدور ضد أفراد متناثرين ليس عندهم طيران ولا أسلحة حديثة ولا كفاءة قتالية .. ولكنهم يملكون سر الأرض ومغاورها وقمم جبالها، فالكفاءة القتالية للمقاتل المصري ليس محكها القتال في اليمن .. لأن القتال ضد أفراد ليس مثل القتال ضد جيوش مدربة أرقى تدريب، وتملك أحدث أسلحة!
ومع هذه الظروف الشاقة فإن المقاتل المصري صنع المعجزات، لقد صعد الجبال بالدبابات، وأنشأ المطارات بسرعات قياسية، وكان يبحث عن قوات البدر بالطائرات الهليكوبتر التي يهبط بها في مساحات من الأرض لا تتجاوز الأمتار المحدودة، فإذا أقلع فالموت يحف به من كل جانب، لأن المساحة التي يقلع منها ضيقة والهاوية تحته على عمق ألوف الأمتار! هذا المقاتل أيضاً قاتل في ظروف مناخية لم يألفها .. فمن قمم الجبال ما يغطيه الجليد، وصقيع هذه المواقع يجمد الأطراف .. وكان المقاتل المصري يعمل فوق كل الصعاب.
غير أن الحكم على عملية اليمن من ناحية القيادة السياسية يختلف عن الحكم عليها من ناحية القيادة العسكرية، إنا لقيادة العسكرية تتلقى أمر القيادة السياسية وتنفذه دون مناقشة .. فهذا هو شرف العسكرية وواجبها، وقد كان التذبذب في اتخاذ القرارات مفزعاً للقيادة العسكرية. ومن أمثلة هذا ما حدث للواء أحمد شكري بطل موقعة حرض الذي عين سفيراً لليمن.
وبحكم الرؤية الدقيقة الصادقة التي توافرت لأحمد شكري في اليمن ـ مقاتلاً أولاً ثم دبلوماسياً بعد ذلك ـ كان له رأي في السلال يختلف عن الكثيرين .. وهناك واقعة معروفة، عندما وصل السلال ذات مرة إلى القاهرة .. فسأله عبد الناصر: "كيف رضاك عن أحمد شكري؟" .. فقال السلال: "نحن نختلف أحياناً" .. وهمس جمال عبد الناصر في أذن أحمد شكري: "أرجو أن تنتهي هذه الخلافات" .. فقال أحمد شكري بعسكرية لا تعرف المساومة: "لن تنتهي هذه الخلافات يا سيادة الرئيس لأن هذا الرجل يستغل اسم مصر .. واسمك للتنكيل بالقبائل..". وكان معروفاً أن السلال كثيراً ما يلقي القبض على خصومه فإذا لجأ أهلهم إلى أحمد شكري فإن ما يقولونه إن مصر هي التي ألقت القبض على المعتقين .. وهددهم بأحمد شكري .. ويسمع أحمد شكري . ويكتب للقاهرة .. والقاهرة لا تجيب.
إن القيادة السياسية ترى أن عبد الله السلال هو مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ اليمن ..
وفطنت القيادة السياسية متأخرة ـ ومتأخرة جداً ـ إلى أن السلال لا يمثل قوة ولا قبلية وليس له سند .. وتأكدت لها أعماله التي وسعت الهوة بين القوات المسلحة المصرية في اليمن .. وشعب اليمن، رغم أن هذه القوات كانت قد بدأت مهمة حضارية تتمثل في إنشاء المدارس والمستشفيات وزراعة الأرض القاحلة .. وهنا سحبته القيادة السياسية، ووضعت مكانه حسن العمري ..
وضاع غطاء الذهب!!
وفجأة غضبت القيادة السياسية على حسن العمري .. فأصدرت تعليماتها بنقله إلى القاهرة، حيث أخذوه من المطار إلى السجن الحربي. وقد علمت أن التهمة التي كانت موجهة إلى العمري أنه لم يكن يوصل إلى القوات التي تناصر البدر النقود التي ترسلها مصر كلها .. بغرض تحويل هذه القوات إلى الولاء للجمهورية اليمنية .. وقد سرب العمري من معتقله دفاعاً عن نفسه، فقال إن أحد المكلفين بتوصيل هذه النقود إليه هو الذي كان يختلس منها .. وهذا المكلف كان له منصبه في رئاسة الجمهورية. وقال العمري أنها ما كان ليجرؤ أو ليجد "الصفاقة" ليحصي النقود قبل أن يوقع بتسلمها .. وقد أعادت القيادة السلال إلى اليمن رغم صفحاته السود، وعارض أحمد شكري الذي لم يعلم بالقرار إلى قبل تنفيذه بساعات، فأقيل من منصبه!
وعلمت أيضاً أن القيادة كانت تنثر الريالات الذهبية التي تحمل صورة ماريا تريزا ـ إمبراطورة النمسا ـ من الطائرات فقد سحب كل رصيد الذهب المصري من البنك المركزي وتبدد بهذا غطاء العملة المصرية، ولم تكن هذه الكميات تلقى تماماً على القوات الملكية .. وإنما كان جزء منها يبقى لمن يحملونها. وكل هذه المعلومات كان أحد المسئولون يعرفونها سماعاً ولكنهم لا يملكون الدليل عليها، وعندما ناقش أحد كبار الضباط المشير عبد الحكيم عامر في الموقف المتدهور في اليمن قائلاً:
- إن القوات المصرية في اليمن تتكلف مليون جنيه كل مطلع شمس .. هز المشير عبد الحكيم عامر رأسه موافقة .. وقال:
- وما العمل؟
فقال الضابط الكبير:
- إنني أعتقد أن مهمتنا الأساسية كقوات مسلحة أن نحمي مصر، ويوم أخل بحجم قواتي المسلحة في مصر فإنني لا أستحق البقاء لحظة واحدة في مقعدي!
وأمن عبد الحكيم عامر على رأي هذا القائد بقوله:
- اليمن ليست "بلاعة" .. اليمن "خرارة" !
كانت القيادة تلتزم العناد في كل ما يتعلق باليمن .. وأيما تقرير يصل إليها عن أن من المصلحة والحكمة أن تنكمش العملية وتتقلص وتنتهي وأيما رأي يؤيد التفاوض مع السعودية لإنهاء مشكلة اليمن كان يقابل بالرفض أو السكوت .. والواقع ـ فيما رواه لي الضباط ـ أنهم كانوا يحسون بأصابع الروس وراء هذا العناد لأنهم كانوا ينقلون لجمال عبد الناصر أنه يحارب أمريكا من ناحية، ويحارب الصين الشعبية من ناحية أخرى، ومن أجل هذا يزودونه بالمزيد من السلاح والمزيد من الطائرات .. وقد ثبت بعد هذا أن كل هذا أصبح ديناً على مصر .. وهو الدين الذي أصبح سداده حتى الآن مشكلة من مشاكلنا الاقتصادية.
كان الروس يصورون لعبد الناصر "شياطين" في اليمن .. لم تكن موجودة .. أما الضباط المصريون ـ الذين يحملون أرواحهم على أكفهم ببطولة نادرة المثال ـ فقد كان رأيهم أن موقفنا في اليمن هو موقف من أخرج عفريتاً من القمقم ثم عجز عن إرجاعه إليه! وإذا كنت سمعت عشرات القصص عن اختلاسات الضباط .. فإنها تدور حول أسماء معينة لا أظن أنها ستفلت من العقاب إلى الأبد .. ومن هؤلاء الضباط من أثروا في مهماتهم بسوريا أيام الوحدة .. أثروا من جيب مصر لأن مصر كانت تتحمل الغرم دائماً.
هؤلاء .. مع عدد آخر انضم إليهم بحكم ولائه للقيادة العسكرية أو حتى القيادة السياسية سعوا إلى الإثراء على حساب اليمن، والإثراء دائماً من جيب مصر .. من شقاء العامل، وعرق الفلاح، ومعاناة دافع الضرائب.
وكان هؤلاء الضباط يذهبون إلى اليمن بالواسطة .. وهي أول مرة في التاريخ يذهب فيها الضباط لساحة القتال "بالواسطة" لأن الذهاب إلى ساحة القتال كان يعنى العودة بسيارة وثلاجة وسخان وغسالة .. وبضعة مئات أو أولف من الجنيهات، ثم الحصول على شقة من شقق الحراسة.
أما الضباط الصغار الشرفاء، الذين كانوا يمارسون القتال، والجنود .. أبناء مصر العظام الذين كانوا يتعرضون للذبح، لأن لكل رأس من رؤوسهم ثمناً عن الملكيين فقد كانوا يراقبون ما يحدث والمرارة تعتصر نفوسهم .. والتذمر الحزين في أعماقهم .. أنهم قالوا لي أنهم يموتون .. والضباط "المحاسيب" يكونون الثروات.
ولعل من مآثر عبد المحسن المرتجي التي لا تنسى له عسكرياً أنه استطاع لملمة القوات المصرية في اليمن وتركيزها في مناطق محدودة جعلها كحائط الفولاذ، وأشاع فيها الإحساس بالأمان بعد أن كانت متفرقة ومبعثرة .. وهذا بدوره عاون على إمكان الاستغناء عن عدد منها ليعود في الوقت المناسب إلى مواقعه في سيناء، ليؤدي مهمته الأساسية في الدفاع عن مصر.
ولكن فئة من الضباط "الأثرياء" العائدين مع هذه القوات "المنهكة" هي الفئة التي يدينها التاريخ لأنها فئة الانسحاب، إنها تخلت عن عسكريتها التي شعارها النصر أو الموت .. لأن الحياة الرغدة التي تعيشها هذه الفئة جعلت الشعار "النصر أو الفرار" .. كان الأسبوع الذي قضيته في اليمن مع الوفد البرلماني أسبوعاً حزيناً .. وقد عدت وفي أذني عبارة ساخرة قالها ضابط صغير هي "إنهم يقولون إننا نقاتل اليمن من أجل القومية العربية .. ولكننا نرى أن حرب اليمن مزقت القومية العربية" .. وعدت وفي أذني تعليقات المنافقين من الضباط المنتفعين بحملة اليمن، فهؤلاء يظنون أنني سأنقل رأيهم إلى المسئولين فيضاعفون لهم المزايا، ويغضون الطرف أكثر عن عمليات الإثراء على حساب الشعب.
وكتبت كل هذا في تقرير، وقدمه إلى خلية التنظيم الطليعي التي أنتمي إليها، واستهول بعض الأعضاء هذه المعلومات، وقالوا إنني استمعت إلى فئة ساخطة، وه عادة فئة تهتز من أصوات المدافع، وأن الالتزام يحتم أن نحمي قرار القيادة السياسية بشأن اليمن .. وطال الجدل .. واشتد .. وأصررت على موقفي ..
ورفع التقرير إلى المستويات العليا، وعندما أقول المستويات العليا أعني علي صبري بداية ثم جمال عبد الناصر نهاية، لأنه كان يقرأ هذا النوع من التقارير الهامة يوماً بيوم.
ولم أسمع في هذا الشأن كلمة ..
أطبق الصمت المبين على تقريري عن اليمن، ولكن هذا لم يمنعني من التصدي مرة أخرى لموضوع اليمن.
وعندما جاء المشير عبد الحكيم عامر إلى مجلس الشعب ليدلي ببيان عن اليمن ودور القوات المسلحة فيه .. وما أن انتهى من بيانه حتى وقفت لأناقشه بصراحة فيما قال .. وهنا فوجئت مفاجأة غير سارة من المجلس، فقد تعالت أصوات زملائي تمنعني من الاسترسال .. ثم تحولت الأصوات إلى صفير استنكار ودبدبة أقدام .. فوقفت لدقائق مذهولاً لما أسمع، حزيناً لما أرى .. وغادرت المنبر وأنا أتصبب عرقاً من الخجل لأن يبدو في المجلس الذي يتحدث باسم الشعب هذا الموقف المخزي من مناقشة قضية هي في تقديري أهم قضايا الساعة.
ولكنني لم أنس! لم أنس أن أقذف بكل الأوراق التي في يدي والتي تحتوي على كل معلوماتي عن اليمن، فوق طاولة أمناء المجلس .. ولم أعد إلى مقعدي، بل غادرت القاعة والدموع في عيني .. والكلمة الصادقة .. كلمة الحب لمصر حبيسة في صدري وأنا ألعن التنظيم السري الذي حول المجلس إلى تلك الصورة.
والحق أنني منذ ذلك اليوم عذبتني أسئلة كثيرة: "ترى من هم أصحاب المصلحة الحقيقية في مغالطة الشعب؟ ترى من يغلق أبواب الديمقراطية؟ ثم .. إلى متى تطفو أصوات النفاق فوق السطح .. وتعلو فوق الكلمة الموضوعية الشريفة؟".
لقد كانت مذبحة اليمن ثقلاً كبيراً على أكتاف هذا الشعب ومدخلاً خطيراً لا تحمد عقباه ..
يكفي أنها أفسدت الأخلاق والضمائر.
نعم أفسدت اليمن الأخلاق في مصر ..
فقد أوجدت مذبحة اليمن في مصر طبقة مستفيدة من استمرار الحرب في اليمن .. من راغبي الثراء السريع .. تجار المذابح .. أثرياء الحرب.
إنهم يريدون بحور الدماء لكي تستمر بحور الذهب والفضة.
اثروا ثراءً فاحشاً من هذه الحرب ويطالبون بالمزيد .. ولن يأتي المزيد إلا باستمرار الدم ودفن الزهور في اليمن.
الشياطين .. إن بيوتهم في مصر تحولت إلى متاجر وتحف ..
لقد كانت عملية ذهاب الجيش المصري إلى اليمن عملية استدراج استعماري لمصر للوقوع في فخ يقضي على حكم عبد الناصر تماماً.
ولم يدرك عبد الناصر هذا ..
فالاتحاد السوفيتي طبعا لا يريد حلاً لتورط مصر في اليمن .. فإن الوجود المصري في اليمن هو أعظم انتصار له. لقد كان ذات يوم يريد أن يصل إلى المياه الدافئة.
وها هو اليوم وصل إلى المياه الدافئة والحارة معاً.
لقد كانت نصيحة الاتحاد السوفيتي من البداية لعبد الناصر عن طريق عملائه المحيطين به:
"أدخل اليمن .. والاتحاد السوفيتي يفتح لك الجسر الجوي والبحري وخط الإمداد المستمر إلى هذه البلاد مهما كانت التكلفة .. وقد كان".
أما الولايات المتحدة .. فإنها تريد أن تظل مصر في وحل اليمن تنفق كل ما لديها من مال وقوة ..
ومصر دائماً تدفع الثمن لأخطاء وغرائز ومرض الحكام.
عبد الحكيم عامر بدأ يقول في مجالسه:
"الله يجازي اللي كان السبب ............ إتورطنا وانتهينا ...".
ويقصد بكلامه .. السادات طبعا..!
وعبد الناصر يعترف بأنه تورط في هذه الحرب وأنه يريد ان يخرج بشيء من الكرامة...؟؟
ولكن كيف.....؟؟؟؟؟
انتهى عبد الناصر تماماً ومعه مصر في هذه الحرب التعيسة.
لقد أصبح عبد الناصر بعد حرب اليمن رئيساً لشعب فقير .. هرب منه كل العمالقة والكفاءات .. كل شيء هرب من مصر حتى البركة رحلت عن مصر.
حرب اليمن كانت ذروة الخراب لمصر ولأهل مصر.
الضحية في حرب اليمن هي أمة بأسرها هي الأمة المصرية.
مصر ماتت لعدم وجود من يقول لعبد الناصر المريض:
قف ......... أو ماذا تفعل بمصر..؟؟ أو إلى أين...؟؟؟؟؟؟
عبد الناصر لم يجد فيمن حوله من يقول له أين الصواب وأين الخطأ.
من يقول له إن مصر ماتت من شدة الطغيان.
مصر أصبحت غابة كبيرة ضاعت فيها القوانين وماتت فيها العدالة وانتحر الحق وتبخرت الأخلاق.
وسرعان ما فطنت إلى سر هذه الضجة التي حدثت في جلسة مجلس الشعب بعد أن عرف تلك الحقائق الثلاث:
- أولاً: أن السادات هو المسئول الأول عن حرب اليمن وهو في نفس الوقت رئيس مجلس الشعب.
ثانيا: أن المشير عبد الحكيم عامر بدأ يصرح في كل مكان بمرارة أن السبب في حرب اليمن هو السادات.
- ثالثاًَ: أن التنظيم السري الذي أقامه جمال عبد الناصر بين نواب الشعب أصبح يتحكم في سلوكيات وقرارات المجلس وفعلاً بدأت فاعليته تظهر في هذه الجلسة.
لم أنم تلك الليلة .. من الألم ومن الحسرة على بلادي وعلى نفسي.
في حاجة إلى معجزة لتخرج بها من اليمن. لقد أصبحت اليمن الثقب الكبير في الاقتصاد المصري.
آه .. لو أنفقنا ما أنفقناه في اليمن على قرى مصر وشعب مصر لشهد العالم دولة عظيمة وقوة ورائدة في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن كيف الخروج .. وعبد الناصر في ذروة التورط .. وفي شدة المرض.
نعم التورط والمرض.
حتى أنه عندما بدا يعيد حساباته ليخرج من اليمن أسرع السوفييت ليبلغوه أن إسرائيل حشدت قواتها على حدود سوريا وتهدد باحتلال دمشق.
فبدأ عبد النار يسارع إلى حشد عسكري آخر في سيناء بقوات لم تتدرب على الحرب طبعا في مواجهة إسرائيل التي تساندها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي بكل الإمكانيات.
تقدير موقف عجيب وبحسابات خاطئة.
عبد الناصر .. لم يجد فيمن حوله من يقول له:
أن القوات المصرية الموجودة في مصر هي بقايا الجيش المصري.
أما القوة المقاتلة الحقيقية .. فلا تزال مغروزة في الجنوب .. في اليمن .. فوق الجبال اللعينة .. وفي الظروف الصعبة ..
عبد الناصر يدخل مرة أخرى حرباً جديدة بالطبول والعدسات وحرب الكلام والبيانات والخطب .. ومصر في حالة من الخراب الاقتصادي.
مصر تدخل حرباً جديدة بلا أي استعداد .. والهزيمة حتمية، لأن الهزيمة الحقيقية والخراب بدأ في اليمن.
أنفقت مصر في حرب اليمن أكثر من عشرة آلاف مليون جنيه وعشرين ألف شهيد ..
مما كان له أكبر الأثر في تدهور الموقف الاقتصادي ثم تدهور الجنيه المصري وتضخم الديون على مصر. سلسلة من النكبات لمصر ..
لأن الرجل يحكم ويحارب وهو مريض دون مراجعة حقيقية وكانت النتيجة:
- نكبة الوحدة مع سوريا ثم نكبة الانفصال عن سوريا ثم نكبة اليمن قم نكبة الجيش المصري المفترى عليه في 5 يونيو سنة 1967.
كلما أراد الرجل المريض الخروج من نكبة تورط في نكبة أخرى أكبر منها والضحية دائماً مصر وشعب مصر. إن مصر أنفقت في السنوات من 1967 إلى 1973 أكثر من ستة عشر ألف مليون جنيه على المعركة وحدها فإذا أضيفت إليها خسائر مصر في اليمن التي عشرة آلاف مليون جنيه إسترليني فضلاً عن أطنان الذهب التي وزعت على القبائل اليمنية حتى تعرَّى نقدنا تماماً من غطائه، وفقد عشرات الألوف من شبابنا. فإذا أضفنا إليها التنمية الاقتصادية المرتجلة وخسائر القطاع العام المتسيب. أدركنا الحجم الرهيب لموقف مصر في هذه الحقبة من تاريخها.
هذه الأموال الطائلة المبددة لو أنفقت على قرى مصر كلها وعددها أربعة آلاف قرية لكان نصيب كل قرية أربعة ملايين جنيه تكفي لجعلها مثل قرى الولايات المتحدة تماماً.
أين ذهبت هذه الأموال كلها؟!
ولصوص حملة اليمن.
وموردو السلاح والسماسرة وموردو الهزائم.
ولصوص القطاع العام والمال العام.
كل ذلك سببه غياب رقابة الشعب والديمقراطية، وحكم الرجل الواحد المريض والتنظيم الواحد الكسيح. ولك الله يا مصر....!!!
السادات يبحث عن الذات
وما إن انتهيت من حديثي عن مذبحة اليمن حتى رد أحمد بدوي في حزن واكتئاب ومرارة:
يعني الجيش دائما ضحية مرض السلطة .. الجيش دائماً مفترى عليه.
طبعاً مفترى عليه .. وكل ما تنكشف الحقائق .. سنتأكد من أن المصائب دائماً تأتي من القمم المريضة ونزواتها في غياب الديمقراطية.
وهنا اعتدل بدوي في جلسته .. بعد أن كان يسمعني مسترخياً. وفجأة فجر قنبلة لم أكن أتوقعها أبداً وذلك عندما قال بمرارة:
أنا كمان السادات .. بدأ يصفيني ..
فوجئت بهذا التصريح من صديقي القائد العام .. انطلقت بعده أقول له ..
مش جديدة عليه .. ماهو الدور عليك يا بطل .. انت فاكر حيسيبك يعني مش ممكن .. د هانت من أبطال حرب أكتوبر البارزين ولك شعبية في الجيش احنا بنتعامل مع حاكم لا يهمه غير نفسه .. ذاته وبس .. ده حتى ذاته .. باعها في كتاب بملايين الجنيهات ليزداد ثراء على النفوذ اللي عنده .. عليك العوض يا مصر.
بدأ أحمد بدوي يفتح قلبه على مصراعيه .. كان الكلام يتدفق بهدوء وفي صوت حزين:
تصدق .. يا علوي .. أنا بقالي أسبوع لا أنام في الليلة غير ساعة واحدة وبالعافية.
عمال أفكر ليل ونهار ومش عارف أوصل لحل.
إمبارح .. صحيت في نصف الليل وقمت وأذخت العربة وخرجت من البيت فجأة لوحدي لا سواق .. ولا حراسة .. ولا حد عرف أنا رايح فين حتى أنا نفسي مكنتش عارف رايح فين.
بصيت لقيت نفسي في سكة المطار .. بعد ألماظة بشوية في الهواء الطلق.
رحت واقف على جنب وركنت العربية وقعدت طول الليل لوحدي .. باصص للنجوم في السماء في اتجاه الصحراء .. سرحان وغرقان في التفكير ومش عارف أوصل لنتيجة أعمل إيه .. أستقيل .. أو أنتظر لما يصفيني زي غيري..؟؟؟
إيه الكلام اللي انت بتقوله ده يا راجل ؟؟..
إنت مش عارف نفسك مين .. ده إنت قائد الجيش .. القائد العام. فاهم يعني إيه .. قائد الجيش؟
يعني عارف استمراره في تصفية القيادات الوطنية والكفاءات النادرة بالأسلوب اللي هوه ماشي بيه ده نهايته إيه.
انفجار مفاجئ طبعاً .. زي 23 يوليو 1952 بالضبط إحنا عايشين نفس المناخ الآن .. والله أعلم بقى المغامرين الجدد دول .. حيكون نوعهم إيه المرة دي. أكيد حنخش مغامرة جديدة غامضة .. يدفع ثمنها الشعب مرة ثانية .. والله أعلم بنتائجها.
حرام والله حرام .. إحنا المسئولين .. وإحنا اللي ربنا حيحاسبنا وحنتحمل ذنوب تراخينا وعدم القيام بأدوارنا صح.
إزاي؟..
يعني يا أحمد أنا ولا أنت واللي زينا لسه ماتأكدناش أن كل نكبات مصر الآن سببها انحرافات 23 يوليو 1952 .. الضياع اللي حصل لمصر .. لسه حنستنى لما الجيش يطلع لنا مغامرة جديدة بعد 30 سنة نكبات وضياع وخراب؟.
تاني نعّرض بلادنا لنزوات مغامرين جدد مين عارف مين همه .. لونهم إيه .. وراهم إيه .. في الغالب حيكونوا شباب صغيرين لا خبرة لهم زي بتوع 23 يوليو 1952 .. أعتقد بلادنا لا تتحمل تجربة جديدة غامضة.
دي ضاعت وانتهت .. الله يكون في عون الناس .. البلد عاوزه إصلاح حقيقي عاوزه ضمائر وكفاءات مخلصة ومؤمنة .. وحلول علمية بأسلوب ديمقراطي مش انقلاب .. لا .. لا .. لا أبداً انتخابات حرة نزيهة أتي الشعب بها بمن يصلح .. مش انقلاب عسكري طائش جديد يأخذ الشكل الانتقامي في البداية ويرفع شعارات جديدة وبعدين يودي البلد في داهية زي اللي داير في كثير من بلاد العالم الآن .. بلاد كثر حولنا عمالة تنهار وتخرب وتتخلف وتجوع على يد مجانين.
أحمد .. بقول لك إيه . لا سمح الله لو حصل كده كلنا حنروح جهنم كلنا .. حسابنا عند الله حيكون شددي قوي .. لأننا سكتنا وإحنا عارفين الأسرار والأبعاد وفي إيدينا الحل وتركنا النار تشتعل وتحرق مصر.
مش فاهم .. وضح أكثر .. خرجني من قلقي الله يخليك .. انت اشتغلت في السياسة فترة طويلة ولك تجربة ورؤية .. يمكن الاستفادة منها.
أحسست بشيء يريد أن يخرج من صدري وبدأت أتكلم بمرارة وألم:
واضح تماماً أن الرجل يحكم بعقلية ونفسية مريضة.
تصرفاته وأقواله وتصريحاته وحركاته كلها تؤكد ذلك .. يحكم ومعظم من حوله يقولون له نعم "يا كبير العائلة" دون مناقشة .. يبطش ويضرب ويفرم بالقانون انكشف تماماً وكل الشعب الآن يرفضه باستثناء قلة من المنتفعين الذين يبحثون عن الثراء السريع من المال الحرام .. والطبقة دي أصبحت ممقوتة من الشعب.
أما الششرفاء والمفكرون وأصحاب الضمائر والشباب فكلهم رافضينه .. حتى قادة الجيش كلهم قرفانين منه زي حالتنا .. أنا حاسس بكده.
ده رأيك .. يا دفعة .. طب خد اقرأ ده بقى.
وهنا ناولني أحمد بدوي ملفاً كبيراً أخرجه من مكتبه .. كتب عليه بالأحمر "سري للغاية" أخذت أتصفحه بلهفة على امتداد نصف ساعة أمضاها هو في بعض الاتصالات التليفونية. انتهيت بعد القراءة السطحية للملف إلى حقائق غريبة فهمت منها أن الفريق أحمد بدوي الضابط الأصيل الذي أعرفه .. قد نفد صبره تماماً .. رائحة الفساد فاحت فاحت أيضاً في الجيش .. صفقات السلاح .. العمولات والاستغلال اللامعقول فاقت بكثير قضايا الأسلحة الفاسدة في الأربعينيات .. حتى أن مضابط مجلس العموم البريطاني قد سجلت أخيراً رداً عجيباً لوزير الدفاع الإنجليزي يرد على أحد نواب المعارضة في مجلس العموم البريطاني يؤكد له أن العمولات التي تدفع عن الأسلحة لمصر كبيرة ويطلب الدفع مقدماً ولشخصيات مرموقة ومسئولة.
بكل ازدراء .. ألقيت الملف أمامي وأنا أغلى من الداخل ..
وعلق أحمد بدوي بحزن عميق وبدأت الدموع تظهر في عينيه ..
تصدق يا علوي .. حتى اللي بيتظاهروا بأنهم في خدمة المعوقين وضحايا الحرب بدأوا يدخلون بضاعة مهربة .. عملوا جسراً للتهريب على حساب أولادنا المساكين الشجعان اللي أعطوا كل شيء لمصر وفقدوا أعضاء من أجسادهم علشان يملأوا جيوبهم بالمال الحرام حتى ملابس الجيش اتغيرت علشان يأخذوا عمولات .. تتصور .. تتصور ..
هنا لم أستطع أن أسمع المزيد .. وقلت:
وبعدين .. وبعدين .. التاريخ .. التاريخ حيحاسبك على كده .. شرفك وبطولتك العسكرية اللي خرجت بها من الحرب حتضيع .. لو سكت أو ترددت وكان رده سريعاً وحماسياً:
يا راجل .. أنا روحي بقت هنا .. بقول لك مابنمش .. أودي وشي فين من الضباط .. كلهم بيتكلموا بصوت عالي النهاردة عن الفساد واستغلال النفوذ والرشوة والثراء الحرام المجنون.
أبداً مش ممكن .. ولو كان ثمنه روحي وحياتي.
أنا فعلا وضعت قواعد جديدة بالنسبة لاستيراد الأسلحة والتفتيش عليها ومراقبتها .. حاولت أشل هذه العصابات ولكن الرجل زعل قوي قوي قوي.
ومن يوميها وشه إتغير معابا واتقلبت نفسيته ومقدرش يكتم في نفسه وفاتحني بخبث خصوصاً بعد ما رفضت أوامره بإرسال الأسلحة لبعض الدول الإفريقية وقلت له يومها إن إحنا مش عاوزين نكرر مأساة اليمن وسوريا والكنغو .. عارف قالي إيه؟: (إيه الحكاية إنت نسيت إين ىالقائد الأعلى للجيش ولا إيه .. عاوز تعمل عرابي وفاكرني أنا الخديوي؟ ..)
ضحكت أنا وأحمد البدوي بصوت عال .. أنا طبعاً ضحكت لأن هذه الكلمات بالذات ليست غريبة عليّ فأنا سمعتها منه بنفسي مرة في إحدى الخناقات الحادة معه.
واستمر أحمد بدوي يكمل حديثه في مرارة:
السادات كلمني بصراحة إنه غير مرتاح للعلاقات اللي بيني وبين بعض كبار ضباط الجيش .. وقال لي عايزين انضباط .. عارف انضباط في مفهومه يعني إيه كان عايزني يا سيدي أخرج نخبة من أصدقائي المقربين إلى المعاش .. من أكفأ ضباط الجيش .. أسلوب خبيث وفاهم إني مش حأفهمه عاوز يكسر شعبيتي في الجيش طبعاً متضايق من التفاف الضباط حولي.
واسترسل بدوي يروي حكايات كثيرة ومريرة وغريبة فهمت منها أن هناك صراعاً على أشده بين السادات والقائد العام للجيش أحمد بدوي .. وأن أحدهم في طريقه حتماً إلى تصفية الآخر..!
لكن بكل الحزن والألم والأسى أن المشير أحمد بدوي صديقي وأخي .. هو الذي ذهب .. نعم أحمد بدوي هو الذي احترق مع 13 لواءً في الطائرة الغامضة هم أنفسهم الذين كانوا في مكتب القائد العام في ذلك اليوم بالمصادفة ..
رفعت يدي إلى السماء وتمتمت بالفاتحة ترحماً على أرواحهم جميعاً .. حاولت بعدها أن أركز اهتمامي على العرض العسكري بصعوبة.
وكانت كاميرا التليفزيون لا تزال مركزة على المنصة .. نعم على المنصة.
منصة العرض حيث وقف السادات يحيي قوات العرض وهو في قمة الزهو والسعادة.
وشريط الذكريات مع هذا الرجل بدأ يدور سريعاً في رأسي، ولساني يتمتم بالآية الكريمة "حسبنا الله ونعم الوكيل".
حاولت أن أتغلب على الغضب الشديد الذي انتابني وأنا أراه على شاشة التليفزيون فوق المنصة.
في الوقت الذي تغلي مصر كلها من شدة الإجراءات القمعية التي أقدم عليها لتلفيق القضايا وممارسة الضغوط على الأحزاب وإغلاق صحفها .. وحل البرلمان .. وتصفية النقابات المهنية وأخيراً تلك الصفوة من الساسة والنواب والوزراء السابقين ورؤساء الأحزاب والنقابيين الذين اعتقلهم.
حتماً السادات لا يعي ولا يقدر ما يفعل.
وأصبح الشعب المصري بكل طبقاته وفئاته في قمة الغضب من سياسة السادات وتصرفاته.
وفعلا تمزقت الجبهة الداخلية في مصر تماماً .. وانعزلت مصر عن الأمة العربية. ولكن السادات استمر في حملاته الإعلامية ضد الدول العربية وقادتها والتدخل في شئونها من خلال خطابات عشوائية وتلسنة على الزعماء العرب بالاسم.
واستمر السادات في تلفيق القضايا لكثير من المصريين بتهمة الاتصال بجهات أجنبية أو التآمر على نظام حكم السادات مستغلاً القوانين الاستثنائية التي استنها له رجاله بالبرلمان لإعطائه السند للزج بالمواطنين في غيابه السجون مثل قانون العيب والقانون الاشتباه والإجراءات الاستثنائية.
للأسف التفت حول السادات لتنفيذ هذه السياسة البغيضة حفنة من المنتفعين كلهم جرفهم تيار الوصولية والانتهازية فنافقوا السادات علانية بلا حياء ولا ضمير ولا أخلاق فزادوه غروراً على غروره وساهموا معه في إجهاض الشعب المصري ثم شدوا على يده عندما امتدت لشد الوثاق على أعناق الشرفاء من أبناء مصر وقياداته حتى طفح الكيل بالمصريين جميعاً.
وأصبحت قصص خيلائه وغروره واستبداده وظلمه واستغلاله على كل لسان. هو والمنتفعين من حكمه في جميع الميادين إفساداً للحياة السياسية ونهباً لثروات البلاد وامتصاصاً لقوت الشعب بالسمسرة والتلاعب في الغذاء والكساء والدواء والسلاح.
القصص تأتي من كل مكان والشعب يئن ويتألم وينكت أحياناً تعبيراً عن شدة الألم. فمصر التي لا يتجاوز دخل الفرد فيها ثلاثين جنيها في الشهر والتي لا يجد ملايين الشبان فيها المسكن الملائم والتي يعيش فيها الملايين في المقابر والخيام وعلى الأرصفة في الشوارع لا يطلبون من الحاكم الذي يحكمهم إلا يتخلى بالنزاهة وألا يسمح لنفسه أو للذين يكنزون الملايين من التمادي في غيهم كما فعلتا لطبقة المحيطة بالسادات.
فلا يجوز مثلا أن يكون رئيس مصر "أشيك" رجال العالم ويرتدي أفخر الثياب التي تستورد له خصيصاً من الخارج.
بينما الموظف المصري الشريف لا يجد القدرة على شراء كسوة له ولعياله تقيه برد الشتاء وحرارة الصيف.
لا يجوز أن يدعو السادات إلى حفل باذخ لعرض أفخر وأغلى الأزياء في العالم يستضيف فيه أشهر المغنيين العالميين بينما تخرج بين الحين والحين طائرة خاصة من مصر حاملة الأهل والخلان إلى بعض دول العالم لشراء بضائع من أشهر المحلات العالمية . وكانت بعض هذه المحلات تفتح أبوابها خصيصاً في أيام العطلات لهذه القوافل المصرية على حساب شعب مصر المسكين منهك ..
ناهيك عن انتقاله المستمر والدائم بين الاستراحات على طول البلاد وعرضها ومن خلفه كل أجهزة الدولة حراسة ونفاقاً بالصوت والصورة والقلم.
هذا استفزاز متعمد لكل شريف على أرض مصر ولكل كادح ومكدود من أبناء مصر.
في الوقت الذي لا تجد فيه الفلاحة المصرية القدرة على شراء ثوب جديد تستبدله بثوبها العتيق الذي امتلأ بالرقع.
لقد كثرت الحواديت وامتلأت الصحافة العالمية والعربية بكل اللغات بالصور والريبورتاجات عن فضائح السادات وأسرته والمقربين إليه.
كل هذا جعل الشعب المصري كعادته دائماً عندما تحل لعنته على الحاكم .. يرفع الناس أيديهم إلى السماء دعاءً وتوسلاً في الصلاة وفي الصيام وفي السجود وفي القيام وعند سماع الأذان يدعون الله بحانه وتعالى ويتوسلون إليه أن ينقذهم من هذا البلاء.
فالعوام في مصر وفي كل العصور يدعون على الحكم المستبد الظالم بقطم وسطه ويقولون في براءة: ربنا يقطم وسطه .. ربنا يقطع رقبته .. ربنا يخلصنا منه.
فألسنة الخلق أقلام الحق .. هذا ما حدث للعشب المصري أخيراً .. تسمع الناس في كل مكان على ألسنتهم هذا الدعاء على السادات إلا المنتفعين الذين أثروا ثراءً فاحشاً في عهده سواء من الانفتاح أو الأمن الغذائي أو الصفقات المشبوهة أو المقاولات أو التهريب أو السمسرة، والآخرين الذين تربعوا على عرش المواقع الإعلامية المؤثرة والصحافة لمنع النقد وتعتيم صورة وسمعة كل من له رأي وذلك حماية لعهد السادات، فكثرت الحملات الإعلامية المضللة والظالمة.
أجاد السادات استخدام قوانين التسلط وتقنين الظلم وكبت الحريات.
زيف السادات إرادة الشعب في كل الاستفتاءات والانتخابات وكانت النتائج دائماً وبلا حياء 99,9% في الوقت الذي كان فيه الشعب يدرك تماماً أن الإقبال على صناديق الانتخاب كان نادراً. لم يخجل السادات من أن يظهر على شاشة التليفزيون وبأسلوب استفزازي منفر وبكلمات ليست للبشر ليعلن أمام الشعب .. أنه لن يرحم .. وأنه سيفرم .. ثم يتباهى بأنه ألقى بالشرفاء كالكلاب في السجون.
غابت عن السادات حقيقة هامة، هي أن هؤلاء الذين يتكلم عنهم هم صفوة الأمة من الأئمة والساسة والقادة والمفكرين الذين يحبهم الشعب ويثق بهم.
كلمات السادات الأخيرة كان الناس يسمعونها في حزن وألم واستنكار واشمئزاز.
سبحان الله .. هي بعينها لم تتغير ..
"لعنة الطغاة" .. فالطغاة تركيبة واحدة في كل العصور .. لا يثبتون على قول .. ولا يؤتمنون على فعل .. كل الطغاة كانوا محرومين من الرضا .. رضا الله سبحانه وتعالى .. ورضا الناس ورضا الضمير .. ورضا النفس .. ورضا التاريخ.
والسادات في أيامه الأخيرة أصبح هذا كله مهما تظاهر بالإيمان أو بشر الناس بالرخاء. أن قوة السلسلة من قوة أضعف حلقاتها وبدونها تنقطع وتتفرق.
فالضعفاء المساكين الشرفاء من أبناء مصر، كانوا أول المتوسلين إلى الله جلت قدرته أن يخلصهم من ظلم السادات. ولعنة الشعب لا تقاوم أبداً. وعلى الباغي تدور الدوائر. هذا هو قانون الوجود الأزلي الذي لم يخطئ أبداً مع أي طاغية متجبر في أي عصر من عصور التاريخ. وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
أحملق بصعوبة في شاشة التليفزيون لمتابعة العرض العسكري الرائع ولكن الكاميرا لا تزال مركزة على المنصة.
السادات يرفع بصره مختالاً فخوراً فرحاً بالصور الملونة التي بدأت تتساقط من الطائرات صور السادات تلقى بها الطائرات من السماء وهي تقدم عرضاً بهلوانياً جميلاً جذب إليه الأبصار .. كل من على المنصة نظر إلى السماء يتابع العرض الجوي.
كان بحق عرضاً رائعاً تماماً هو أجمل فقرات العرض تقريباً وأكثرها جسارة. الطيارون يتشقلبون في الجو في حركات كلها مخاطرة، بينما تخرج الألوان الجذابة من الطائرات وتملأ السماء حتى شغل هذا المنظر الجميع عن متابعة سير عربات المدفعية الضخمة التي بدأت تمر أمام المنصة في تلك اللحظة.
وفجأة ... اهتزت شاشة التليفزيون ... ثم اختفت الصورة من عليها تماماً.
أصوات طلقات نارية تسمع .. بينما الشاشة مظلمة تماماً.
طلقات نارية كأنها مارش عسكري مثير، بعدها توقف الإرسال تماماً، لا صوت ولا صورة الشيطان ... لابد أن التيار الكهربائي انقطع .. آه .. سيرحمني من متابعة العرض الجميل ..
قمت بسرعة من أمام التليفزيون لأحضر راديو ترانزستور صغير أحتفظ به في غرفة نومي لأتابع عليه نشرات الأخبار .. عله يسد الفراغ حتى يعود التيار الكهربي. أخذت أقلب مفاتيحه بعصبية، علني أسمع شيئاً من العرض العسكري. وفجأة نطقت إحدى المحطات وأعلنت أن الرئيس المصري أصيب أثناء العرض .. وأنه نقل من على المنصة إلى المستشفى ..
مفاجأة مذهلة .. مفاجأة غريبة جعلتني أصمت تماماً من هولها، وظللت في صمت وذهول حتى نطقت إحدى المحطات الأجنبية وأكدت أن السادات اغتيل على المنصة في ساحة العرض، بدأ بعدها التليفزيون يذيع مارشات عسكرية دون صورة وأيضاً الراديو الصغير .. أناشيد وطنية لمصر ..
أناشيد وطنية كلها في حب مصر .. لها وحدها .. وما عداها إلى زوال .. نعم إلى زوار، أليس كل من عليها فان؟ .. البشر كلهم زائلون .. نعم زائلون .. كل البشر وليس السادات وحده .. لتحيا مصر .. لتحيا مصر .. لتحيا مصر .. وجدت نفسي أهتف وأصيح بصوت عال كأنني في مظاهرة جماهيرية: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. وتحيا مصر ..!
سيطر عليّ فضول شديد .. رغبة في معرفة أي شيء عما حدث على المنصة. المنصة تدخل الآن التاريخ .. نعم هذه المنصة تدخل التاريخ من أوسع الأبواب .. التاريخ الآن يسجل حدثاً هاماً جداً جداً. إن نهاية السادات على هذه المنصة وبهذه الصورة حدث تاريخي لم يسبق له مثيل. يا إلهي، هل من مدكر .. أريد أن أعرف كل شيء حالاً ... أريد أن أرى كل شيء يحدث على المنصة الآن ألف محطات التليفزيون بأصابعي ومحطات الراديو الترانزستور بعصبية. هل حقيقة انتهى السادات بهذه السرعة!؟
مش معقول .. ما حدث على المنصة .. مش معقول بالمرة .. إيه ده .. دعاء الجميع عليه .. استجيب بهذه السرعة وبهذه المفاجأة الخاطفة؟ .. سبحان الله .. سبحان الله .. قادر على كل شيء .. الإذاعات بدأت تؤكد الخبر .. ثم بدأت توضح التفاصيل .. بدأت أسمع .. أسمع كل شيء وبكل اللغات أسمع العجب. نعم العجب الذي لم يكن يتوقعه إنسان أبداً .. السادات .. مات .. مات .. ورحل عن الدنيا .. الرجل .. الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وخيلاء .. مات وانتهى ولن يعود. يا رب .. كان منذ لحظات يتحدى كل شيء تحدى العباد وهددهم وتوعدهم وأسمعهم كلمات العنف والبطش والقوة .. كلمات لا يقولها بشر .. قال السادات للناس بعظمة وكبرياء .. إن الرحمة بيده والفرم أيضاً بيده .. سبحانك يا قوي يا عزيز يا جبار جل جلالك .. حسب السادات أن الدنيا بين يديه. نسى السادات أنه مخلوق ضعيف وعبد لا حول له ولا قوة.
هكذا يختفي السادات في ثوان .. أبداً .. مش معقول. لا أصدق ما أسمع. يا إلهي .. يا رب .. يا قوي .. يا قادر .. يا ملك .. يا قدوس. جل جلالك. ثم أخذت أتمتم بأسماء الله الحسنى جميعا .. علني أخرج من حيرتي وعجبي .. سبحان الله .. سبحان الله .. قادر على كل شيء.
وجدت نفسي أصيح بصوت عال جدا دون أن أدري: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر.
ظللت أسمع تفاصيل الحدث الجديد الغريب، وبدأت الصورة تكتمل عندي لما حدث فوق المنصة. بعدها أغلقت الراديو والتليفزيون معا، وتوقفت عن سماع أي جديد.
استلقيت على فراشي وسبحت بعيداً بعيداً بعيداً بعيداً، في تأمل مع الضمير والقلب، في تفكر مع الخالق سبحانه وتعالى، الذي يحيي ويميت، والذي يسمع ويرى، والذي هو قادر على كل شيء .. وحده لا شريك له، له الملك.
لساني يتمتم بكلام الله سبحانه وتعالى ..
(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) صدق الله العظيم.
حقاً .. حقاً .. وصدقاً يا الله.
تماماً .. هذه هي البروج المشيدة .. والسادات في يوم الزينة .. وعلى المنصة وهو في خيلائه .. يموت وينتهي وسط البروج المشيدة.
السادات يلقي مصرعه وهو على قمة البروج المشيدة .. على المنصة بين القادة .. عقلي بدأ يحلل ويتأمل ويسأل .. ولا مجيب.
من يا ترى الذي قتل السادات .... ؟؟؟
أسمع صوتاً من داخلي يجيب بسرعة غريبة ...
لا أحد قتل السادات ..
السادات هو الذي قتل نفسه ..
إزاي .. إزاي .. مش معقول ... كيف يقتل نفسه ؟
أيوه ... (السادات هو الذي قتل نفسه ...)
السادات قتل نفسه
نعم .. الاستفزاز والتحدي لإرادة الأمة .. قتل السادات .. الفساد وكبت الحرية والتلاعب بالقوانين هي .. قتلة السادات.
أليس السادات هو الذي تبنى سياسية القمع وتزييف إرادة الأمة والتلاعب بالدستور وحل البرلمان لتصفية المعارضة؟
أليس السادات هو الذي تبنى مخططاً فوضوياً سماه الأمن الغذائي .. استغل للتلاعب بقوت الشعب وامتصاص دمائه لحساب حفنة من الفاسدين وتجار السوق السوداء وأثرياء المال الحرام؟
ألم يكن السادات في طريقه إلى تزييف تاريخ مصر ليتصدر زعامة البلاد والعباد في كل العصور، ويهدر قيمة وشرف العلم والعلماء؟
ألم يكن السادات في نيته إقامة مجمع للأديان مخالفاً لشريعة الله بعد أن أصدر قانوناً للأحوال الشخصية يتعارض مع حدود الله؟
ألم يكن السادات في مخططه توصيل النيل شريان الحياة في مصر إلى إسرائيل، وهدد برهن القنال ووعد بإقامة ميناء غير مصري على أرض مصر متحدياً إرادة الشعب وعقول الساسة والعلماء والحكماء؟
ألم يحتضن السادات اللصوص أصحاب الملايين من المال الحرام يزكيهم وينصبهم ويستقبلهم ويتصور معهم ويجلسهم على مقاعد النواب في مجلس الشعب ومجلس الشورى ليزدادوا فساداً وإثراءً وليعبثوا بكل شيء، بينما شرفاء مصر يعيشون رحلة عذاب دائم .. طوابير في كل مكان أمام الغذاء الفاسد والكساء المتواضع، حتى العلاج .. حتى النقل والمواصلات .. حتى التعليم أصبحت كلها طوابير في عهد السادات؟
ألم تصبح الرشوة في عهد السادات هي العملة الوحيدة للتفاهم مع السلطة والإدارة؟
نعم .. السادات سلم مفاتيح البلاد لشواذ البشر، وقلدهم الأمور وعزل كل الشرفاء .. السادات أحرق الملفات التي تدين العصابات التي نهبت مصر.
نعم .. السادات صفى الرقابة الإدارية في لحظات وأحرق الملفات حمايةً للانحراف والمنحرفين ..
ألم يزد الأغنياء غنى من المال الحرام، والفقراء فقراً في عهد السادات؟ .. إن العبث وغياب الضمير والتخطيط العشوائي والتسيب وكثرة القوانين والقرارات المتضاربة التي فصل بعضها لمصلحة أثرياء النهب والسلب وحماية للصفقات المشبوهة التي يعقدها الكبار لحسابهم على حساب الشعب ومن دمه ..؟
ألم يأو السادات شاه إيران الطاغية السفاح الطريد من بلاده متصنعاً شجاعة زائفة ومتحدياً دولة إسلامية وإرادة شعب صديق؟
إن رائحة الفساد في عهد السادات طغت على كل شيء، وأصبح التسيب ظاهرة عامة في كل مكان.
أليس السادات هو الذي ترك الطبقة الجديدة الطفيلية تمارس حياة صاخبة من الاستغلال رفعت أسعار كل شيء بشكل جنوني حتى أصبح الشرفاء مساكين في هذا الوطن يعيشون حياتهم المتواضعة بصعوبة بالغة وفي استفزاز دائم؟
ألم يحطم السادات كل القيم في نفوس الشباب. وسد كل أبواب الأمل في طريقهم .. لقد أمضيت ساعات مستلقيا على سريري .. لا أنام .. وكيف أنام .. إنني أتذكر .. إنني أحلل .. إنني أتأمل .. إنني أبحث عن الحقيقة وفجأة أجد نفسي مرة أخرى أصيح وأهتف من أعماقي وأهلل الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد.
سؤال واحد يلح على تفكيري .. لم أجد له إجابة واضحة حتى هذه اللحظة. ربما لأنني لم أستوعب بعد تفاصيل ما حدث على المنصة.
نعم، المنصة التي شاهدت هذا الحدث التاريخي اليوم يا ترى..؟؟؟؟
هل هو انقلاب عسكري متكامل .. قام به مخططون؟؟
أم هو تصفية جسدية .. قام بها مغامرون؟؟
يا ترى ... مغامرون ... أم ثائرون ... أم عقائديون
يا ترى ... عسكريون ... أم مدنيون
يا ترى ... مصريون .. أم غير مصريين
أم ... أم ... أم ... أم
أكاد أصاب بدوار .. حتى أتى المساء.
وبدأت الأخبار الدقيقة عن حدث المنصة تتوالى من جميع الإذاعات وبكل اللغات، وعرف الناس لأول مرة أنهم أربعة ـ وليس رجلا واحداً مصريين .. شباب .. عقائديون ..
إن ما حدث على المنصة اليوم لم ينه السادات وعهده فقط.
بل أنهى معه كل نظام يوليو 1952.
بل وفتح بمعجزة الباب على مصراعيه لمصر كي تنفض عنها غبار الماضي تماماً وتبدأ إصلاحاً حقيقياً لكل مشاكلها.
بل كشف أكذوبة 15 مايو التي اصطنعها السادات لتبدأ مصر تصحيح التاريخ.
بل رفع الستار عن الفضائح كلها لتتساقط عصابات اللصوص مصاصي دماء الشعب ويبدأ القصاص العادل.
بل أجهض كل الشعارات المزيفة والإجراءات القمعية والقوانين الاستثنائية وأصبحت مصر لجميع أبناءه.
بل ووقى مصر انفجارا حتمياً كان على الطريق إذا طال عهد السادات.
بل أعاد إلى الشباب الأمل في المستقبل وانتشلهم من حطام اليأس وضياع الانتماء والولاء للوطن. وتحققت لعنة الشعب على الحاكم مرة أخرى بأسلوب لم يشهد التاريخ مثيلاً له من قبل ..
ما حدث على المنصة سجلته آلاف العدسات وملايين الأبصار لكل الجنسيات ليكون أشهر أفلام الموت في التاريخ. هو فيلم ... "المنصة" من على المنصة ذهب السادات .. وترك لغزاً كبيراً يحير الناس لسنوات .. لن يحل هذا اللغز إلا عندما ترفع الستائر وتقرأ الملفات والوثائق أو تصبح الحقيقة عارية بعد أن يتكلم التاريخ بصدق وأمانة .. ولكن هل كل إنسان يستطيع الانتظار؟
أنا شخصياً لم أنم دقيقة واحدة ليلة المنصة، فقد شغلتني المنصة وجعلتني أفكر .. وأفكر .. أنا شخصياً لن أنتظر .. لأني لا أطيق الانتظار، بل سأحاول من الآن أن أحل اللغز. فأنا لا أصدق بسهولة .. وأنا لا أكذب بعناد .. ولكني أجهد نفسي دائما في البحث عن الحق والحقيقة، أجري وراءها في كل مكان .. أمضيت عمري وفلسفة حياتي .. الحق والحقيقة هما المجردة .. الحق والحقيقة هما رسالة عمري وفلسفة حياتي .. الحق والحقيقة هما شفاء لنفسي وغذاء لروحي .. الحق والحقيقة أتقرب بهما إلى الله ..
الحق والحقيقة من أجل الناس. وفي سبيل الله والوطن .. من اجل الحق والحقيقة سأبدأ محاولة لحل لغز المنصة. سأقلب صفحات التاريخ وأبدأ القراءة مرة أخرى بمنظار الذكريات، فقد علمتني تجربتي تحليل الأحداث والأقوال في عالم السياسة الملئ بالألغاز بنظرية تقول ـ أربط دائماً بين ثلاث تصل إلى الحقيقة:
- تجارب الماضي.
- أحداث الساعة.
- احتمالات المستقبل.
يوم في السجن مع جماعة التكفير والهجرة
أنا بحق ممن شدهم التيار الديني للشباب في مصر، والذي بدأ يظهر في أعقاب نكسة 1967، فقد كان رداً .. طبيعياً وإيجابياً من شباب مصر على النكسة العسكرية والنكبة الاقتصادية والانهيار الأخلاقي الرهيب.
إن التيار الديني كان بمثابة ثورة الشباب على نظام يوليو 1952، الذي فشل تماماً في تحقيق أهدافه التي أعلنت في بداية حكم عبد الناصر. التيار الديني كان الصوت العالي للشباب ضد الانحرافات والصراعات التي أدت بالبلاد للضياع والخراب.
ضياع كل شيء: الأرض والشعب .. الثروة والكرامة .. ومستقبل الشباب .. الحقيقة تقول إن مصر كانت ضحية المرض والفساد والجهل والطغيان والنزوات الشخصية.
من يقرأ التاريخ جيداً يلاحظ أن أزهى عصور التصوف في كل أنحاء الدنيا، وفي كل عصور التاريخ كانت في فترات الظلم والظلام وفي فترات الاستبداد السياسي الخارج على عقيدة الأمة، ففيها يحاول الناس الرجوع إلى الله في محاولة للاستغاثة بالقوى ليصرع البغي بعد أن يمهله فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
هذا ما حدث تماماً في مصر في أعقاب نكسة 67 .. فصائل كثيرة من شباب مصر اشتدت رغبتهم في التصوف والانقطاع للعبادة فلجأوا إلى الله والتمسوا العدالة فيما وراء الدنيا، حيث لا ظلم ولا فساد ما داموا فقدوا الحكم العادل والقدوة الحسنة في وطنهم.
فصائل أخرى هاجرت خارج مصر واستوطنت بلاداً أخرى بعد أن سدت كل الآمال في وجوههم داخل بلادهم وأصبح العيش الشريف في مصر مستحيلاً.
وكان يقيني دائماً أن تصوف مصر لم يكن سلباً بل إيجاباً.
إن الاعتصام بالله دائما قوة تعين على الوقوف في وجه الطغيان .. التصوف ليس أبداً هروباً من الواقع، وإنما التصوف اعتصام بالقوة الحقيقية التي تعين المتصوف على أن يقول للطغيان: قف مكانك ..
كنت أتابع نشاط الجماعات الدينية بإعجاب شديد، أئمة ووعاظاً ودعاة بل خداماً في بيوت الله.
كان من الشباب المثقف المهندس والطبيب والتاجر والعامل الماهر، كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في أدب الفضلاء وتواضع العلماء .. "إنما دعوة المصطفى لمصر كنانة الله في أرضه فمن أرادها بسوء أهلكه الله". وحمدت الله أن جيلاً نظيفاً من البشر في طريقه إلى مواقع المسئولية بعد أن عم التسيب والفساد والانحلال وأصبحت رائحة الحرام تزكم الأنوف في كل مكان ..
أذكر وأنا نائب في برلمان 76 أن صدمتني أنباء تناقلتها الصحف تقول أن إحدى الجماعات الدينية خطفت وقتلت وزيراً سابقاً وعالماً جليلاً هو الشيخ الذهبي وزير الأوقاف السابق رحمة الله عليه.
أكدت البيانات الرسمية وقتئذ أن جماعة دينية هي التي خطفت وقتلت، سموها جماعة التكفير والهجرة، قالوا أنها تكفر الحاكم إذا لم يطبق حدود الله وتدعو الشباب إلى الهجرة، قالوا أنها تدير تنظيماً ضخماً من الشباب المثقف في الجامعات والشركات تحت قيادة شاب مسلم اسمه شكري مصطفى .. قالوا أنها تبدأ بالفرد المسلم، ثم الجماعة الإسلامية سعياً وراء المجتمع المسلم وصولاً للدولة الإسلامية .. قالوا عنها حواديت لا يصدقها العقل وتجعل الباحث عنا لحقيقة مثلي يتوه ويجد صعوبة بالغة في تقصي الحقيقة والوصول إليها. قالوا عنها متطرفة أضاعت الشباب وأفسدت عقيدته وضيعت مستقبله.
قالوا عنها الكثير .. والكثير .. وأخيراً نسبوا إليه جريمة الخطف والقتل .. وأنا الباحث عن الحق والحقيقة كادت الصورة البراقة للجماعات الإسلامية تهتز في أعماقي.
لم أصدق البيانات الرسمية فقد كانت قاتمة أكثر من اللازم وكلها تركز على تشويه صورة الجماعات الدينية .. وهنا وفي عناد شديد قلت لنفسي أبداً .. أبداً .. لا تعترف .. إلا بعد أن تتحرى الحقيقة بنفسك .. لا تفقد إنبهارك بهم بهذه السرعة .. بل اجتهد كعادتك .. وابحث عن الحق والحقيقة بنفسك، ألست نائباً عن الأمة .. لقد علمتني التجربة الطويلة ألا تكون البيانات الرسمية مرجعي الوحيد، لأنها دائما تكون موجهة لخدمة خط سياسي أو تثبيت قدم مسئول في الحكم.
قلت لنفسي لا تظلم الشباب إن الأمانة التي في عنقك تحتم عليك البحث عن الحقيقة أولاً .. الست ضمير الشعب ولسانه؟ خصوصاً أن الاتهام مرجه في البيانات الرسمية إلى شباب متدين والضحية أيضاً عالم جليل متدين. هنا قررت أن أسعى بحثاً عن الحقيقة واستخدمت ل أسلحتي البرلمانية فتقدمت باستجواب لوزير الداخلية الذي كان في نفس الوقت رئيساً للحكومة وزعيماً لحزب الأغلبية "حزب مصر"، وكان هذا تحدياً سافراً وأجهزة الإعلام مستمر في الهجوم على الجماعات الدينية متهمة إياها بالتطرف والخروج على سماحة الدين والعقيدة. والاستجواب في لغة البرلمان هو اتهام للحكومة قد يصل إلى طرح الثقة بالحكومة، ثم إن هذا الاستجواب بالذات أخذ شكل التحدي لحزب الأغلبية ورئيسه، خصوصاً وأنه أتى مباشرة بعد خروجي من الحزب الحاكم وانضمامي إلى صفوف المعارضة.
.. وفهم بعضهم أني قصدت بالاستجواب إحراج الحكومة، وفهم البعض الآخر أني قصدت بالاستجواب استعراض عضلات المعارضة، ولكني وكعادتي دائماً في تحضير مادة كلامي في البرلمان أبدأ بدراسات طويلة وتحريات واسعة وتنقلات كثيرة لأرى وأسمع بنفسي قبل أن أتكلم احتراماً لأمانة الكلمة. وقد انشغلت تماماً بقضية قتل الشيخ الذهبي وقررت أن أصل إلى الحق والحقيقة لنفسي مهما كلفني ذلك من عناء وتعب.
وفي الجلسة المحددة للاستجواب حاول حزب الأغلبية كعادته أن يفسد الاستجواب ولا يصل به إلى هدفه خصوصاً عندما وقفت على المنبر وأعلنت صراحة اتهامي لجهاز الأمن بالانشغال بالأمن السياسي وإغفال أمن الشعب. كان استجواباً طويلاً مليئاً بالدراسات والاتهامات حتى أنهم أطلقوا عليه أعنف استجواب شهدته الحياة البرلمانية في مصر، ونصحوا رئيس الحزب الحاكم ألا يعرض نفسه لهذا الاستجواب وينيب عنه نائبه تحت عذر المرض المفاجئ حتى لا يتلقى في صدره اتهامات عنيفة موجهة إلى قلب الحزب ولكنني لم أعبأ بالشكليات وركزت على جوهر الحق والحقيقة التي أسعى إليها.
هل حقاً الجماعات الدينية التي بهرتني هي جماعات تطرف وفساد تمارس الخطف والقتل..؟
هل القضية كما قدمتها أجهزة الإعلام والبيانات الرسمية .. وراءها خلفيات لا يعلمها أحد..؟ .. وقفت على المنبر في مجلس الشعب وقلت إني كنائب أعرف أن هدف الشرطة هو وقاية الشعب من الجريمة قبل وقوعها وليس بعدها، خاصة أن الضحية وزير سابق وعالم جليل .. فلماذا تأخرت أجهزة الأمن في الوصول إلى هذه الجريمة .. بهذه الكلمات بدأت استجواب الحكومة وأوضحت مفهومي لرسالة الأمن .. أن يكون أمن الشعب وليس امن الحاكم، لم يرد بخاطري أبداً وأنا أتكلم تحت قبة البرلمان أن هناك شاباً يتابعني بإمعان على شاشة التليفزيون من مخبأ سري هرب إليه، بينما أجهزة الأمن تعلن أنها تبحث عنه دون جدوى .. ضابط شرطة برتبة رائد اسمه أحمد طارق عبد العليم هو نفسه المتهم السادس في هذه القضية، وكان لا يزال هارباً والشرطة تبحث عنه.
وفوجئت بعد أسبوع من الاستجواب برسالة تصلني بالبريد وعلى ظهرها كتب "الراسل .. الرائد أحمد طارق عبد العليم" وكانت صورته تظهر يومياً في الصحف تحت عنوان مطلوب "القبض عليه" وتخصيص مكافأة لمن يرشد عنه. حيرتني هذه الرسالة كثيراً ووضعتها أمامي وأخذت أفكر فيما قال فيها .. إنه يدعو الله أن يراني ويلتقي بي ليضع أمامي كل حقائق هذه القضية.
ولكن كيف وأين..؟ حيرني تماماً وجعلني أدعو الله أن ألقاه لعلني أصل من خلاله إلى الحقيقة.
وبعد أسبوع من هذه الرسالة قرأت الصحف أنه تم القبض على الضابط الهارب، وبدأت المحكمات العسكرية لقيادات جماعة التكفير والهجرة. فقررت أن أتحرك بنفسي لأتقصى الحقيقة خصوصاً أن الشك بدأ يراودني في كثير من البيانات التي أذاعتها الحكومة .. وذهبت إلى المحكمة العسكرية التي عقدت جلساتها في ثكنات العباسية وهناك تابعتني أبصار الجميع وأنا أدخل قاعة المحكمة العسكرية بدهشة .. كأن الكل يريد أن يسألني .. لماذا أنت هنا...؟؟؟؟
بعضهم تدارك السبب بين استجواب البرلمان والمحاكمة أما أنا فكنت أسعى وراء الحقيقة التائهة .. هل الجماعات الدينية قاتلة محترفة.؟؟
في هذا اليوم حضرت جلسة المحاكمة كلها من البداية إلى النهاية وما إن أعلنت هيئة المحكمة رفع الجلسة حتى اندفعت ناحية قفص الاتهام، كانت مفاجأة غريبة لي إذ عرفني الضابط المتهم أحمد طارق عبد العليم دون أن يراني من قبل .. أشار إلي ثم نطق باسمي مرحباً ثم مد يده من داخل القفص يحاول أن يعانقني مهللاً ثم سألني بصوت عال:
هل وصلتك رسالتي؟
نعم .. وبناء علها أنا هنا النهاردة ..
فأدار وجهه إلى متهم آخر يقف بجانبه وقال له ..
يا أبو سعد .. الأستاذ علوي حافظ النائب اللي قلت لك أنني أرسلت له جواب وأنا هربان قبل أن يقبض علي بأيام .. وهنا نظر إلي شاب وسيم وهو شكري أحمد مصطفى قائد هذه الجماعة وابتسم ابتسامة عبر بها عن ترحيبه بي ومد يده وصافحني هو يقول:
يا أستاذ علوي إحنا كلنا مدينون لك بما قلته في البرلمان رغم أنك لم تلتق بنا من قبل. يا ريت نقدر نقعد معاك نتكلم علشان الصورة تكون واضحة تماماً أمامك. وأعتقد أنه يمكنك التوصل بطريقة ما لنراك عندنا في السجن .. بكره يوم جمعة مفيش محاكمة ومسموح لنا بالزيارة .. إحنا مش عاوزين زيارات بكرة .. يا ريت تيجي لنا في السجن ونقعد معاك أنا وزملائي.
كانت الكلمات تخرج من فمه مع بسمة هادئة، وكان الطلب غريباً ومفاجئاً .. لم أستطع أن أرد فوراً بالإيجاب أو النفي. ولكنني وعدت أن أسعى لتحقيق هذه الرغبة فأنا أريد الوصول للحقيقة في هذه القضية، لأن الاستجواب في البرلمان لن يحقق أهدافه إلا إذا عرفت كل خلفيات هذا الحادث الذي شغل الناس في كل مكان .. وانصرفت من أمام قفص الاتهام مباشرة إلى غرفة المداولة واستقبلني رئيس المحكمة مبتسما وقال لي أنه لاحظني عند دخولي قاعة المحكمة فهو يعرفني من مدة طويلة ولكنه كان أيضاً متعجباً لحضوري المحكمة العسكرية فقلت له:
لا تتعجب .. باختصار أنا لي استجواب في البرلمان حول هذه القضية.
شفتك في التليفزيون بس حاجة غريبة ليه مكملوش كلامك كله.
إنهم لا يذيعون غير وجه واحد للصورة .. ما إنت عارف لا مكان للرأي الآخر.
الحمد لله أنهم أعلنوا أن فيه استجواب موجه للحكومة حول قضية خطف واغتيال الشيخ الذهبي .. المهم لا الخطف ولا الاغتيال هو اللي أنا جاي أدور عليه النهاردة، فيه أسرار عند المتهمين محدش يعرفها غيرهم .. هو ده موضوع بحثي وشكري هو اللي طلب ذلك.
بس كل الناس عرفت من الكلام اللي انذاع إن الاستجواب كان عنيفاً جداً وكان يهم الكل وأنا واحد منهم إن إحنا نعرف ما تم في البرلمان بالكامل.
دي سياسة التعتيم الإعلامي على كلام المعارضة في البرلمان، والتعليمات دائما تصدر بعدم إذاعة الاستجوابات ولا الأسئلة التي تقدمها المعارضة، وتلويث سمعتها إذا أمكن، ولكن بالنسبة للقضية دي مقدروش لأن الناس اتشدت إليها من للحظة الأولى، والاستجواب كان موجهاً لرئيس الحزب والحكومة ووزير الداخلية وهو رجل واحد.
أنا في خدمتك ما عنديش تعتيم هنا.
كتر خيرك .. جزاك الله خيراً بالطريقة دي حتساعدني في البحث عن لغز وراء القضية دي محيرني، فيه حاجة تايهة .. فيه غموض وأسرار .. أنا متأسف جداً مش عايز أؤثر على هيئة المحكمة.
أبداً .. ماتخفش إحنا اتجاهنا محدد جداً في القضية وهو محصور في جريمة الخطف والقتل، الجريمة والعقاب وأنت سيد العارفين .. ثم إحنا محكمة عسكرية أولا وأخيراً وأنت عسكري أصلاً وعارف المحاكمات العسكرية وإجراءاتها ضحكنا بصوت عال أنا والمحكمة في غرفة المداولة .. بعدها قلت لهم:
أنا اللي يهمني الجاني السياسي ثم التيار الديني في مصر رايح فين قضية الشباب المتدين شباب مصر والتوهان اللي فيه الشباب بصفة عامة واللي أنا متعجب له أن شباب متدين تربى على موائد الإيمان .. يتمتع بنعمة البصيرة .. يعيش في صفاء وسكينة إزاي يقتل ويخطف .. حاجة غريبة.
ده إنت باين عليك متصوف يا أستاذ علوي .. البصر والبصيرة .. الصفاء والسكينة وموائد الإيمان.
يا سيادة اللواء .. أنا الحمد لله فررت إلى الله من زمان وبالتحديد من يوم 5 يونيو سنة 1967 بعد النكسة اللي ضيعت مصر .. فررت تماماً إلى الله مع الذين فروا إليه لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
المهم مش عايز أشغل هيئة المحكمة أكثر من كده .. أنا لي طلب صغير .. تسمح لي بلقاء المتهمين الستة الأول في زيارة خاصة بالسجن، طبعاً أقصد أبو سعد والمجموعة القيادية.
إشمعنا دول....؟؟؟
هما اللي طلبا مني هذا الطلب بإلحاح .. شباب ومتهم في قضية خطيرة وحاسس إن عندهم حاجات عايزين يقولوها ..
فاجأني رئيس المحكمة بحماس لم أكن أتوقعه:
لك ما تريد ..
وأخذ يحرر بيده تصريح مقابلة في سجن القلعة لليوم التالي مباشرة وانصرفت من غرفة المداولة سعيداً جداً بهذه الخطوة التي لم أكن أبداً أتوقع النجاح فيها ولكنها إرادة الله.
وفي فجر اليوم التالي "الجمعة" توجهت إلى سجن القلعة مباشرة ومعي تصريح المحكمة وكانت زيارتي مفاجأة لمأمور السجن الذي استقبلني بحفاوة لم تخف تعجبه من التصريح الذي أحمله ورجاني أن أعطيه فرصة للاتصال التليفوني بالوزارة لإخطارها بحضوري وأخذ التعليمات اللازمة .. وغاب عني عشر دقائق عشر بعدها يكرر الترحاب بي ويقول:
عشر دقائق بس يا سيادة النائب يكون مكتبي جاهزاً للمقابلة حجيب المتهمين هنا علشان نقدر نقعد معاهم سوا.
رددت بسرعة:
سوا يعني إيه .. أنا جاي لزيارة خاصة.
دي تعليمات الوزارة .. الزيارة في مكتبي وبحضوري.
تعليمات مين؟؟؟
سيادة الوزير بنفسه ..
لا .. لا .. كده المقابلة مش حتحقق الهدف بتاعها لأن فيه كلام شخصي جداً بيني وبين الشبان ووجودك حيمنعهم من الكلام .. وبعدين المقابلة بتصريح من المحكمة المسئولة والمحكمة نفسها عارفه كده .. ثم أني نائب عن الكل، عن المتهمين وعن المحكمة وعنك وعنهم وعن الوزير ذاته .. عن الشعب كله، أنا أمثل الجميع اللي في الشارع واللي في البيت واللي في السجن أيضاً ..
ومن حقي ..
وقاطعني الضابط الكبير ولكن بأدب جم وهو يقول:
يا سيادة النائب .. تقديرك ومعزتك وقك موضع اعتبار واحترام بس تعليمات الوزارة محددة أعمل فيها إيه ..
ثم ضحك وهو يضع يده على كتفيه مشيراً إلى موضع الرتبة العسكرية وهنا أخرجته من الحرج بسرعة ندما قلت له:
أقول لك .. أطلب لي الوزير على التليفون ..
وأنا أتفاهم معاه .. فقال وطلب النبوي إسماعيل على التليفون ودار حوار معه انتهى بالسماح لي بالانفراد بالستة الزعماء في إحدى زنازين السجن في خلوة معهم على انفراد وطول النهار ..
نجاح آخر لم أكن أتوقعه وحمدت الله عليه كثيراً ..
يوم في السجن
ودخلت السجن وفي الزنزانة التي فيها أبو سعد "شكري أحمد مصطفى" أمضيت يوماً .. يوماً كاملاً تناولنا سوياً الفطار والغداء والعشاء .. أديت فيها الصلاة جماعة خلفه .. الضحى والظهر والعصر والمغرب كان الإمام هو أبو سعد نفسه وفي الزنزانة ..
وبدأ أحمد شكري يتكلم .. أما أنا والخمسة الآخرون فأخذنا ننصت باهتمام ..
كل الحديث كان مفاجآت مذهلة وأسراراً لم أكن أتوقعها أبداً ..
ألخص الآن من ذاكرتي ومن النقاط التي كتبتها يومها بعد أن عدت إلى منزلي بصعوبة بالغة ..
قال أبو سعد في أسلوب عذب رقيق وبهدوء وبوداعة:
إحنا مش اسمنا التكفير ولا الهجرة.
إحنا الجماعة الإسلامية،
ده اسمنا الحقيقي مسلمين .. مسلمين وهذا أول طلب تقدمنا به إلى المحكمة .. قلنا عايزين هيئة تحكيم من كبار العلماء تستمع إلى فكرنا ومنهجنا في جلسة علنية وبعدين تحكم علينا إن كنا مسلمين ولا كفاراً قبل ما تنظر المحكمة في الخطف والقتل اللي إحنا أبرياء منه تماماً ..
شياطين .. ربنا حينتقم منهم .....!!!!!
إحنا 50 ألف (خمسون ألفاً) في مصر، وعشرة في الكويت وعشرون في السعودية وحوالي 100,000 (مائة ألف) آخرين في بقية العالم العربي والإسلامي. ما بين مهندس وطبيب وعامل وصاحب عمل وكل المهن. النواة في تنظيمنا هي "الجماعة الإسلامية".
ندعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونطالب بالشريعة الإسلامية لتكون المصدر الوحيد للتشريع .. التكفير والهجرة دي تسمية أطلقتها علينا أجهزة الأمن طبعا للإساءة إلينا كجزء من حملة موجهة للضرر لتشويه سمعتنا ومنهجنا ولمحاربتنا .. ده طبعا علاوة على الروايات والحكايات والحواديت والقصص الخيالية اللي بيلفقوها عنا ومليانة إثارة زي أفلام السينما فيها جنس وسرقة وخطف وقتل علشان الناس تكرهنا وتقرف مننا ولا تسمعنا وتزدرينا وبكده ينجح المخطط الشيطاني الموجه ضدنا لإبادتنا والقضاء علينا ووأد رسالتنا الإسلامية.
إحنا مش بدعة يا أخ علوي ..
أبداً والله مش بدعة ولا إحنا أول ظاهرة في تاريخ الدعوة الإسلامية .. أبداً .. أبداً . ده إحنا مسلمين مجددين.
التجديد في الإسلام ليس معناه التغيير أو التبديل لأصول الدين .. إنما معناه تجلية أصول الدين .. يعني تخليصه من غثاثة الزيغ وشوائب الأوهام.
يا سيد .. علوي
التجديد أصل من أصول الإسلام .. ده أمر واجب يحتمه ناموس الكون. وتقضي به سنة الحياة الاجتماعية في هذا الوجود المتغير المتطور.
تعرف يا أخ علوي.
مجرد ظهور إمام مجدد في الدين هو منة إلهية لصالح الخلق ولضمان الحياة .. ده امتداد لهذا الدين بين الناس على امتداد الزمان.
التجديد هو إصلاح ديني للعمل على بقاء أصول الدين خالصة من شوائب الأوهام والخرافات.
علماء الإسلام يستمدون الدعوى إلى التجديد في الدين من نص الحديث الشريف " إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها ".
ده كلام المصطفى رسول الله (ص). مش كلامي أنا يا سيادة النائب المحترم ده والله حديث صحيح .. نص على صحته البيهقي والحاكم وابن حجر وغيرهم من علماء الحديث ومن أعلام التجديد الذين بعثهم الله على رأس كل مائة سنة أمثال الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام الغزالي والفخر الرازي والسيوطي والرملي والدردير والبصري والجرجاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، صحيح أن بعض هؤلاء موضع اختلاف وبعضهم موضع اتفاق.
لكن في كل الأحوال التجديد هو ثمرة الاجتهاد وغايته. يا سيد علوي .. الاجتهاد في الدين مذهب مشروع بين علماء المسلمين له مؤهلاته ومقوماته. والمجتهد له أن يجدد مش يقلد لن الاجتهاد يتنافى في طبيعته مع التقليد ويأبى أن يستمر على الجمود.
ثم التجديد في الدين له جانبان:
- جانب علمي: يتحقق بالاجتهاد والعمل على إحياء ما درس من أحكام الشريعة والسنة وما خفي من العلوم الدينية.
- وجانب عملي: ويكون بالعمل على نفع الأمة ودفع المكاره عن الناس ونصرة الحق وأهله. من هنا نجد أن التجديد في الدين هو إصلاح ديني ليس معناه أبداً التغيير أو التبديل أو النسخ للأصول التي قام عليها هذا الدين وصار عقيدة للناس.
إنما معناه تجلية هذه الأصول في بساطتها وقوتها لعلاج الأمة وتخليص العقائد مما يلحق بها من أوهام واستجابة دائمة لما تقتضيه نصرة الحق ودفع المكاره عن الناس ..
من هنا يا أخ علوي ..
نجد أن التجديد بهذا المعنى أمر يفرضه الإسلام منطوقاً ومفهوماً في تعاليمه التي تعني بحياة الإنسان في دنياه وآخرته.
فالإسلام ليس مفهوماً جامداً ولكنه قوة فكرية تلهم المؤمن دائماً وتحثه على إعمال الفكر في حل مشكلاته الطارئة ومواجهة الضرورات التي تأتي بها مفاجآت الحياة. وفي هذا أيضاً حديث للرسول (ص) : "لا تجتمع أمتي على ضلالة" ، وأيضاً قوله (ص) : "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن". أعتقد يا سيادة النائب. واضح من هذه الإشارة النبوية الكريمة تكريم لرأي الجماعة وإقرار الاجتهاد والتجديد في الدين. من هنا تتابعت حركات التجديد في الفكر الإسلامي واستمرت في كل العصور لمدافعة الأساطير والأوضاع الوثنية التي كانت تتسلل إلى المجتمع الإسلامي من مخالطة المسلمين بالأمم الأخرى ولمقاومة الأوهام والخرافات التي كانت بعض الطوائف تحاول أن تلبسها لباس الدين.
مرة باسم الفلسفة .. مرة باسم التصوف
مرة بدافع الإسراف في التعلق بالدنيا. لذلك لم يخل كل عصر من العصور من إمام مجدد ومجتهد. لولا هؤلاء لأصبح اسم الإسلام فقط عقيدة لها طقوسها ومراسيمها يحتفظ بها المسلمون في قلوبهم في حين تتلاشى تماماً كقوة تصل المسلمين بنظام السياسة وأساليب الحكم واتجاهات الحياة الاجتماعية.
فمثلا لم يكن للإسلام ولا علماء المسلمين في عهد الخليفة العثماني أي شأن إلا في مساجد المسلمين وتكايا الدراويش .. حتى أكلهم لم يكن إلا من خيرات المسلمين.
ده اللي عاوز يعمله الخليفة السادات في مصر في القرن 21 في عهد الصواريخ والذرة والإلكترونيات والبرلمان والأمم المتحدة دا اللي عاوز يعمله أشيك رجل في العالم في الإسلام في مصر.
عارف يا أخ علوي ..
معنى سياسة الفصل بين مطالب الدنيا وتعاليم الإسلام .. إيه.
معناه القضاء على الإسلام والمسلمين بدعوى أن الإسلام هو الذي يعوق تقدم المسلمين ويعطل تحركهم إلى الأمام.
هذا فكر شرير لغزو العالم الإسلامي وتحطيمه من الداخل .. هذا ما حدث تماماً في عهد الخلافة العثمانية. عندما مني الإسلام بحركة هدامة من الخارج هدفها تحطيم الروح الإسلامية ووحدة العقيدة بين المسلمين.
لولا أن هيأ الله للإسلام في تلك الفترة المظلمة الثائر المصلح المجدد الحكيم "جمال الدين الأفغاني".
لقد كان بحق بعثاً جديداً للإسلام والمسلمين أعقبه تلميذه ومريده الإمام محمد عبده ثم عدد آخر كبير من العلماء المجددين ..
دي يا سيد علوي ..
رسالة جماعتنا الإسلامية وعقيدتها أن نتحرك في حكمة واتزان وتؤدة .. ولكن السادات وأجهزته .. بدلا من مناقشتنا وحوارنا ليقتنعوا أو يقنعونا ..
فقد طالبنا مراراً بأن يفسحوا لنا صدور علماء الدين في جلسات علنية. لنتحاور لنلتقي أو نبتعد .. ثم تصدر الأبحاث والمجلدات التي تعين الدارسين المجتهدين وتربط الدين بالعصر ..
لا .. لم يستجب السادات وسلط علينا أجهزته لتصفيتنا بأسلوبها التقليدي بتزييف نشاطنا وصورتنا أمام الجميع وإطلاق اسم التكفير والهجرة علينا ليزدرينا الناس ويخافونا. وسرعان ما يقوم جهاز السادات المتخصص في تلفيق القضايا وطبخ المؤامرات الوهمية.
والسادات طبعا يقتنع بما يرفعونه إليه من تقارير ملفقة لأنه أساسا مقتنع بنظرية أن ما يفعلونه هو الأسلوب الوحيد للتخلص من التيار الديني الخطير وقياداته. وهذا أصبح ليس بغريب أن يسمع الناس روايات وحكايات وريبورتاجات في الصحف تؤكد "التطرف الديني" وتشوه حقيقة الجماعات الدينية.
ثم يزج بالأبرياء كل يوم في السجون والمعتقلات من خيرة أبناء مصر، وسكت شكري أحمد مصطفى وهو في حزن عميق ثم استمر في حديثه .. هذه السياسة ليست بنت اليوم أبداً هي استمرار لسياسة القهر والمطاردة والتشريد والسجن والاعتقال التي تعرضت لها الحركة الإسلامية في مصر من أوائل الخمسينات.
.. إنني أرجح .. والله أعلم أن هناك قوة خفية وراء ذلك كله جعلت أجهزة الأمن مخلب القط وهي مختفية. فالأسلوب واحد لم يتغير .. يبدأ باصطناع أحداث تكون تكأة لتصفية وإرهاب كل من يعمل في حقل الدعوة الإسلامية ..
فالمؤامرات تحاك بإتقان مع تضخيم الأحداث لتبرير التصفية الجسدية في النهاية طبعا وتنتهي كلها بالقانون وبأحكام الإعدام تصدرها محاكم ثم تغطية إعلامية رهيبة تردد أسماءً وألفاظاً مثيرة مثل الفتنة الطائفية .. التنظيمات السرية .. الهوس الديني .. الإرهاب والتطرف .. التكفير والهجرة.
أحسست وشكري يتكلم أن الزنزانة بمن فيها الكل وأنا منصتون تماماً وفي سكون تام لاحظ أبو سعد أنني أسمع في صمت تام .. فبادرني:
يا أخ علوي .. أرجو أن أكون قد أوضحت ..
فهززت رأسي بالإيجاب .. فقهقه ضاحكاً ومد يده وصافحني وهو يقول:
تقبل عضوية الجماعة؟
ابتسمت وابتسم الجميع ونظر أحدهم إلى أبو سعد.
حان موعد صلاة الظهر فقام أحدهم يؤذن للصلاة ثم أدينا الفريضة داخل الزنزانة خلف أبو سعد بدأت إدارة السجن تحضر لنا طعام الغداء وأكلنا سوياً على الأرض في الزنزانة وبعد الغداء مباشرة استرسل شكري في الكلام الذي بدأه قبل الغداء.
- طبعا الآن .. وضح أمامك يا أخ علوي .. إحنا مين .. منهجنا إيه .. عقيدتنا إيه .. وعددنا كام .. هل إحنا بالإسلام أو على الإسلام.
- أعتقد الكلام واضح تماماً يا أبو سعد.
- متهيأ لي أن الغموض عندك محصور في موضوع الشيخ الذهبي .. والله .. عالم جليل ورجل طيب . هو أيضاً ضحية السادات .. السادات الخديوي الجديد اللي مصمم يحكمنا بالعافية باسم رب العائلة ..
لازم يحط الجماعات الإسلامية المجددة كلها في قفص الاتهام .. علشان يفصل الدين عن السياسة ويريح نفسه .. إرضاء لشهواته وتعلقه بالدنيا.
السادات دنيوي بكل ما تعنيه الدنيوية.
مزق الناس تماماً .. وأعاشهم في خيالات .. اسمع يا سيدي بقى حكاية الشيخ الذهبي .. السادات يا سيدي عين الشيخ الذهبي وزيراً للأوقاف .. ونسي أو تناسى أنه أولا وأخيراً عالم فاضل له قيمته .. وفي وزارة الأوقاف اكتشف الشيخ الذهبي الذي لا يعرف الحرام أبداً عصابات لنهب وسلب أموال المسلمين اللي هو مسئول عنها أمام الله .. والسادات يعلم الكثير عن اللصوص بعضهم كان يتكلم باسمه على طول وفي ركابه في كل الرحلات الخارجية والداخلية ينفقون فيها بسفه أموال المسلمين نهب مستمر دون رقيب أو حسيب على هؤلاء الشياطين.
لا مستندات ولا فواتير والإجابة دائماً على ألسنتهم جاهزة .. دي سياسة عليا .. دي أوامر عليا .. دي توجيهات الرئيس.
حتى وصل ذات يوم إلى وزارة الأوقاف شيك بالملايين تبرعاً لتجديد وفرش بيوت الله من شخصية عريبة لها قيمتها .. سرقت العصابة هذه الملايين كغيرها وعندما طلب سفير عربي من الوزير الذهبي أن يقدم له بياناً بأوجه إنفاق الشيك لم يكن أمام الرجل الطيب الذهبي للخروج من الحرج سوى حل واحد أن يطلب إعفاءه من الوزارة وجمع كل ما لديه من أوراق ومستندات رسمية تحمي ظهره إذا ما سئل يوماً أمام القانون أو البرلمان أو التاريخ عن كيف تم تبديد أموال المسلمين في عهده وهو وزير للأوقاف.
لكن السادات طبعاً رفض إعفاءه وإجابته إلى طلبه بل أبقاه حتى تتمكن شياطينه من تلجيم الرجل وتهديده حتى يضمن سكوته إلى الأبد.
كانوا يخشون أن يتكلم وهو شيخ وقور وعالم جليل لم يسمع عنه من قبل في عالم الفساد. بلا شك أن كلامه إذا تكلم سيسمع ويحدث أثراً غير طيب عليهم وسينكشف أمرهم. ثم المستندات والوثائق الرسمية التي نقلها إلى بيته فكر الشياطين كيف يصلون إليها.
كان الحل سهلاً جداً في تفكير المتخصصين في تخطيط المؤامرات وتلفيق القضايا في عهد السادات.
وصلوا إلى خطة جهنمية.
تبدأ بإحداث وقيعة بين الشيخ الذهبي والجماعات الإسلامية التي لم يستطيعوا احتواءها أو إيقاف نشاطها أو وقف نموها وجفوة بين الشيخ وقيادات الجماعات الإسلامية تبدأ بنشر مادة إعلامية لتشويه سمعة الجماعات الإسلامية بقلم الشيخ الذهبي ويحدث صراع بين الشيخ الذهبي وهذه الجماعات الإسلامية يكون لها دوي في العالم الإسلامي والعربي. فإذا ما تكلم الشيخ الذهبي يوماً عن فضائح أو سرقات أو غيره يكون كلامه قابلاً للتشكيك والريبة فلا يصدقه أحد وتكون الجماعات الإسلامية في موقف عدائي منه تساعد في التعتيم عليه والتشكيك فيه وفعلا طلب منه رسمياً باعتباره أحد أعضاء الحكومة أن يكون على رأس لجنة من علماء الدين تضع بحثاً علمياً عن الجماعات الإسلامية المتطرفة، وبالذات الجماعة التي أطلقوا عليها اسم "جماعة التكفير والهجرة" ووضعوا تحت يده هو واللجنة معلومات مزيفة مضللة تؤكد للجنة العلماء أن الجامعات المصرية قد امتلأت بجمعيات دينية متطرفة تسيطر على الشباب وتمهد للفتنة الطائفية.
وقامت أجهزة الإعلام بتغطية الخطة بحملة إعلامية واسعة هدفها تشويه الجماعات الدينية وتلويث سمعة قادتها واختلاق الروايات والحكايات حولهم والصور الشاذة لهم ونجحت الخطة الشيطانية وأمسك العالم الجليل الشيخ الذهبي القلم وكتب بنفسه مقدمة البحث العلمي المطلوب الذي أعدته لجنة العلماء عن التطرف الديني.
قامت بعد ذلك أجهزة السادات بعمل مونتاج مناسب للبحث العلمي وطبعوه في كتيبات نشروها في الجامعات بأسلوب مثير جداً أدى إلى النتيجة التي خططوا لها، إذ اعتبرت الجماعات الدينية أن الشيخ الذهبي في موقف معاد منها بعد نشر البحث وانتشار الكتيبات .. وهنا أسرعنا بطلب مقابلة ورجونا تحديد موعد مع الشيخ الذهبي لإيضاح الرؤية وطرح الحقائق أمامه وكان هدفنا المناقشة الهادئة، وفي النور مع العالم الجليل وهيئة العلماء الذين أعدوا البحث حتى يكون الحكم علينا صائباً لكي لا يقع هو ولا نحن في الكمين الذي أعده له شياطين السادات ولكن للأسف رفض العالم الجليل الشيخ الذهبي مقابلتنا أو الحوار معنا وكان هذا طبيعياً لأن التعليمات صدرت إليه من السادات بألا يلتقي بنا فهو أحد وزراء نظامه.
ودارت الأيام .. والفضائح مستمرة والسرقات والنهب رائحته تفوح من كل مكان وبالذات من وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
الوزير يكرر الرجاء لإعفائه وإبراء ساحته من المنصب الوزاري ويصر على موقفه هذا. وفكروا في تصفية الرجل نهائياً حتى يضمنوا سكوته إلى الأبد بعد الحصول على المستندات التي تحت يده وكانت هذه هي الخطة ولم يكن هذا بجديد .. أو غريب عليهم فالشيطان الذي يستطيع تلفيق قضية لبرئ .. من السهل عليه أن يصفى أي إنسان بالموت وكانت الحنكة أن تنفذ الخطة بإتقان على يد رجال ظاهرهم أنهم من الجماعة الإسلامية وحقيقتهم أنهم من المرشدين او من المخبرين المبثوثين في صفوف الجماعات الإسلامية لنقل أخبارها.
- إزاي .. إزاي .. أنا مش فاهم الحتة دي.
- سأوضحها لك يا أستاذ علوي ..
لما عجزت أجهزة السادات عن القضاء على الجماعات الإسلامية التي انتشرت في الجامعات وبين صفوف المثقفين لم يكن أمام تلك الأجهزة إلا طريق واحد للسيطرة على تلك الجماعات ومعرفة ما يجري بداخلها أولاً بأول .. باختيار بعض ضعاف النفوس الذين يمكن شراؤهم بالمال أو التهديد من المخبرين والمرشدين للدخول في هذه الجماعات والتعايش معها بنقل أخبارها ونشاطها أولاً بأول إلى الأجهزة وطبعا غنت عارف أن الذين يقبلون القيام بهذه المهمة .. مهمة التجسس والوقيعة هم عينة واحدة من الناس لا ضمير ولا أخلاق ولا دين لهم هم يعبدون السلطان وينفذون أوامره مقابل شهوة دنيوية رخيصة.
وباستمرار نهايتهم واحدة أن الأجهزة نفسها التي استخدمتهم تحرقهم وتصفيتهم بالموت عندما ينهي التكليف الموكل إليهم حتى تدفن الأسرار معهم هذا ما حدث بالضبط مع الشيخ الذهبي بدأت بوقيعة مخططة خبيثة بينه وبين الجماعات الإسلامية ثم جريمة شيطانية لخطفه وقتله بواسطة عملائهم فينتهي الشيخ الذهبي ومعه أسراره وتنفى قيادات الجماعة الدينية وتشوه سمعة التيار الديني في مصر ..
ألم تسمع .. عن ذهب المعز وسيفه .. هو نفس السياسة .. ذهب السادات وسيفه.
خطف الشيخ الذهبي وقتل بواسطة عملاء أجهزة السادات ثم سرعان ما هللت أجهزة الإعلام وغطت الحادث بروايات وحكايات ملفقة عن الجماعات الإسلامية لتخويف الشعب منهم وإلصاق جريمة الخطف والقتل للقيادات التي يريدون التخلص منها.
وأخيراً محاكمة عسكرية عاجلة تنتهي بصدور حكم الإعدام للقيادات والسجن والاعتقال للشباب المسلم الطاهر البرئ والتنكيل بهم وضياع مستقبلهم وتعذيبهم بوحشة. وإلا فبماذا تفسر تنحية السادات للنائب العام بعد نظر القضية بأيام بعد أن وصل رجال النيابة إلى أول خيوط الحقيقة فيها ..
فجأة السادات يصدر فرماناً بإحالة القضية إلى القضاء العسكري وتشكيل محكمة عسكرية خاصة لها .. وهنا .. اللغز ..؟! واضح تماماً أن رجال النائب العام وفقهم الله وكادوا يعرفون لغز هذه القضية ويكشفون القناع عن مرتكبيها الحقيقيين.
وكان الحل الذي اقترحه الشياطين طبعا هو المحكمة العسكرية .. لإعدام قيادات الجماعة الإسلامية بعد إدانتهم .. ثم تقوم الأجهزة بتصفية جماعات المسلمين وتشويه سمعتها أمام الرأي العام .. ووأد الاجتهاد في الدين .. وإراحة السادات من وجع الدماغ، السادات بذلك يؤذي مصر ويؤذي الإسلام ويؤذي الشباب ويعرض البلاد إلى ما لا تحمد عقباه ..
ربنا يستر .. استر يا رب .. استر يا رب..!
وأخذ يتمتم بآيات كريمة .. ويدعو بأدعية كثيرة:
سبحت بنا في تأمل عميق ونحن داخل الزنزانة منصتون وفي وقار.
بدأ الجميع يذكرون الله في صوت جميل اهتزت له الزنزانة وحولتها إلى طاقة من النور بدأ بعدها أبو سعد يكمل حديثه في حزن عميق عندما قال:
هكذا يبيد السادات الشباب المسلم النظيف الذي باع دنياه ليشتغل بالله بينما هو وشياطينه يبددون أموال المسلمين وينفقونها ويفسدون بها الشباب .. في قطاعات أخرى تماماً ذهب المعز وسيفه .. لا، بل ذهب السادات وسيفه.
السادات حاول أن يحتوي الشباب في منظمات لا مضمون لها بعد تفريغهم من عقولهم. بعد ذلك يهتفون ويصفقون ويبحثون عن ذواتهم ومنافعهم الشخصية فقط .. وينضمون إلى صفوف المنافقين والمنتفعين بل المشركين الذين نسوا الله واتجهوا للتهليل والتعظيم لرأس العائلة وكبيرها الملهم "أنور السادات".
أناشيد وشعارات ومؤتمرات ورحلات ومعاهد ينفق عليها ببذخ وبلا حدود حتى بلغ حجم الإنفاق على هذا الشباب الملايين .. لا لإنشاء الساحات أو الأندية أو تعليمهم رياضة الروح أو الجسد ولكن لإقامة المهرجانات وتعبئتهم في تنظيم اختير له اسم "الطلائع" تكريساً للحاكم بعد أن يلقنهم برامج كاملة كلها تزييف للتاريخ والحقائق والوقائع .. برامج لا تمت إلى أو الوطنية بصلة .. كلها لإرضاء السادات ونفاقه والهتاف بحياة الزعيم الملهم والرئيس المؤمن.
ولم يكن السادات يوماً هذا أو ذاك .. سبحان الله الواحد الأحد هذا حال مصر اليوم.
إما النفاق والسير في مواكب السلطة وإما إلى الجحيم..! واضح جداً أن الخديوي أنور السادات يعود بنا إلى الحكم العثماني وما أصاب الإسلام في عهدهم ..
كادت الدموع تنساب مني بحرارة وأنا أستمع إلى هذا التحليل .. وصحت اخل الزنزانة متسائلاً فجأة:
أقدر أعمل حاجة..؟! من أجلكم؟
يا سلام .. تقدر تعمل كتير يا أخ علوي.
إزاي..؟؟؟؟
تنقل إلى السادات .. اللي أنت سمعته مننا .. وتقول له الحقيقة، وتطالبه بمراجعة النفس .. أيوه مراجعة النفس .. تطالبه بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ..
وتعرف حقيقة الجماعات الدينية وأهدافها ونشاطها .. لأنه مشوه في ذهنه وأعتقد التقارير المزيفة التي ترفع له هي السبب والنهاية إيه .. ظلم شباب مسلم .. فر إلى الله .. وأراد أن يخدم العقيدة والوطن .. ووأد التجديد في الدعوة الإسلامية وتخويف الناس من أنظف أبناءهم وأطهرهم .. لا مخرج من الفساد الذي عم وانتشر بشكل وبائي في مصر إلا بالعودة إلى الله لا طريق إلا طريق الله .. كلهم شباب مؤمن طاهر مخلص ومثقف تربوا على موائد الإيمان "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".
واستطرد أبو سعد يكمل حديثه الطويل داخل الزنزانة:
شوف يا أخ علوي .. إحنا عارفين إنك صديقه ..
كنت .. إنما دلوقتي أعتقد لا .. أنا في المعارضة الآن ويعتبرني السادات من الخوارج عليه وعلى نظامه بل يعتبرني الآن من الذين ثاروا على نظام 23 يوليو بالكامل .. ودي حقيقة لا أنكرها بل تشرفني. يعني لا صلة..؟؟
أنا متأسف جداً .. لما تكون فيه مصلحة للدين أو للوطن أو الناس أنا أتنازل عن كل شيء خاص بي وأمارس واجبي كنائب عن الشعب.
عظيم جداً .. كده .. نقدر نعتمد على الله ونوكلك عنا للقيام بدور وساطة بيننا وبينه.
أستغفر الله .. مش وساطة أبداً .. بل نصيحة تنقلها عنا إليه والدين النصيحة .. والله على ما نقول شهيد.
أنا .. تقصد أنا يا أبي سعد ..
أيوه أنت يا أخ علوي .. مدام دخلت الزنزانة معنا وكلنا عيش وملح.
وضحكوا جميعا على دعابة أبي سعد الذي استمر يوضح كلامه فقال:
قل له كل الكلام اللي سمعته النهاردة .. قول له الحقيقة .. حاول تخرجه من الظلام والضلال إلى نور الحق يمكن يفوق وربنا يتوب عليه ويلهمه الصواب وإذا نجحت وخليته يتنازل ويقابلنا يبقى خير كبير .. جرب .. والثواب لك عنا وعن الجماعات الإسلامية.
يعني أفهم إنكوا تسعوا إلى مصالحة مع النظام؟ ورأسه؟!
ليه لا .. أصل مفيش خلاف ولا صراع .. مجرد سوء نية وسوء رؤية وعدم فهم .. من جانبه طبعاً وجانب أجهزته .. هو السلطة والحكم وإحنا العقيدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حاولت أن أداعبه ضاحكاً:
وإنتوا في السجن .. وهو في قمة السلطان .
يا ريت ده إحنا على أبواب غرفة الإعدام .. ثق بهذا .. ده إحساسنا وإذا ما حدث .. والله سيحدث ما لا تحمد عقباه في مصر.
فاهم .. معلش .. اللهم اعف عنا وارحمنا.
واستمر يتمتم بآيات قرآنية وأدعية وهنا قلت له:
أنا يا أبو سعد .. قبلت المهمة من الآن .. من الصبح سأتوكل على الله وأتصل به ربنا يهديه .. هذه أمانة في عنقي .. هل لك طلب محدد .. قبل ما أمشي؟
أبداً والله .. مجرد أن السادات يعرف الحقيقة ويعرف دوره الحقيقي في هذه الدنيا ويقتنع بفتح حوار علني لنا مع علماء الدين المعاصرين ليحكموا لنا أو علينا إذا جاء التحكيم لصالحنا .. يفتح لنا طريق لنؤدي دورنا في المجتمع بسماحة وفي النور وعلى أجهزة الإعلام .. في حوار عقلاني مع الكتاب والسنة .. لا تطرف ولا فتنة طائفية ..
إحنا خلقنا في النور ودائماً في النور من النور وإلى النور .. ربنا يصلح حاله .. يصفي الفساد ويواجه الحرام والظلم .. رحمة بالعباد .. رحمة بمصر المحروسة مهد الأولياء والصالحين. فقط نريد منه أن يكون حاكماً عادلاً وصالحاً.
- أنا معكم تماماً .. كلنا نتمنى ذلك لبلادنا .. وأولادنا .. سأرد عليكم بإذن الله .. فور الوصول إلى نتيجة.
- أي نتيجة قبول أو رفض سيان.
استمر اللقاء حتى صلينا المغرب جماعة ثم تناولنا العشاء في زنزانة أبي سعد والحديث مستمر وممتع غادرت بعده سجن القلعة وأنا أحمل أدق رسالة وأخطر أمانة في حياتي.
قررت أن أبدأ من الصباح أصعب دور في حياتي ودعوت الله أن يكلل مسعاي بالنجاح وحتى لا أنسى أمسكت القلم قبل أن أنام وحاولت أن أدون كل ما سمعته في زنزانة سجن القلعة طيلة هذا اليوم.
كنت أتمنى أن أسجله على شريط بصوت أبو سعد.
فقد كان بحق غداء ممتعاً ورائعاً. ـ الصفاء والنقاء والصوت الجميل الهادئ والحديث المتمكن والسرد الممتع لأحاديث المصطفى (ص) دلل بها كثيراً في حديثه الطويل .. كان وجهه جميلاً صبوحاً متألقاً بعكس ما كانوا يشوهون صوره في الصور التي كانت تأتي بها أجهزة الإعلام في الصحافة لتشويه السمعة والصورة والتعتيم الإعلامي لإخفاء الحق والحقيقة أما الحقيقة التي شاهدتها فكانت ابتسامة مؤمنة وصفاء زاهياً وكلمات حكيمة.
أما نصيحة أبو سعد فقد نقلتها إلى السادات بالحرف الواحد لم أزد عليها ولم أنقص منها شيئاً .. السادات يسمع ويهز رأسه و "البايب" في فمه، وساق فوق ساق وكأنه يعرف ما أقوله مسبقاً .. الشياطين أعتقد أنهم نجحوا في تسجيل كل ما دار في الزنزانة بالصوت والصورة لقد فعلوها معي قبل ذلك مراراً بفضل أجهزة التنصت الدقيقة الحديثة التي استوردها من الخارج بالملايين .. على كل النصيحة خرجت من قلوب شباب مؤمن والحدث كله كان نوراً على نور .. السادات يدير إلى أذنه طريقته المعروفة .. ويقول مداعباً ..
- إيه يا علوي إنشاء الله يكون السجن عجبك .. يوم بحاله مع التكفير والهجرة لازم غسلوا مخك تماماً.
واستطردت أرد عليه بلا توقف ووجدتها فرصة أن أقول له وجهة نظري بالكامل.
- والله أنا خايف من المستقبل يا ريس.
- التماسهم معقول قوي .. هما طالبين لقاء مفتوح بين أب وأولاده.
وأعتقد أن أي حوار هادئ بلا أضواء حيفيد الكل .. والله على الأقل حتبقى الرؤية واضحة جدا والحقيقة تبان .. وتبقى فرصة لادة دينيين وأئمة أفاضل أن يقولوا رأيهم بصراحة في الجماعات الدينية يمكن تحل المعجزة وتنتظم مسيرة الشباب في إطار سياسة الدولة .. أنا أعتقد أن مطاردة الجماعات الدينية يجب أن تتوقف إذا ثبت أنهم على صواب .. ليه يا ريس لا يتركوا يشكلوا حزب علني يمارس حقه أو يندمجوا كتيار داخل حزب يتنفسوا بصوت عالي ويمارسوا نشاطهم في النور .. دول أبناء مصر ومثقفيها.
هنا رد السادات بغضب:
- يا سلام .. يا سلام .. ده الظاهر إنهم غسلوا مخك تماماً.
وقاطعته قائلاً:
- عدهم كبير يا ريس .. وكلهم مثقفين .. ومؤمنين وطاهرين .. والله دول أنظف شريحة شباب شفتها في مصر لغاية دلوقتى.
أحسست أنني فشلت في إقناع الرجل وهممت بالوقوف مستأذناً في الانصراف، شاكراً له حسن اللقاء والاستماع مكتفياً بما قلت، فحتى إذا كنت قد نسيت شيئاً فقد تأكدت من كلامه أنه قد سمع تسجيلاً كاملاً بما حدث في الزنزانة بالصوت والصورة وربما أضافوا إليه تحليلات من عندهم فهم يجيدون عمليات التنصت والمونتاج الجيد.
لاحظ السادات على وجهي الغضب فطلب مني أن أجلس ثم بدأ يتكلم بلهجة هادئة:
- شوف يا علوي .. العيال دول ولادي برضه .. طمنهم.
وفهمت من هذه الخاتمة وبهذا الأسلوب أنه قد سمع النصيحة .. وانصرفت.
في لك اليوم أتذكر أنني نمت نوماً هادئاً فقد أفرغت الأمانة من صدري وفي صباح اليوم التالي هرولت مبكراً إلى قاعة المحكمة العسكرية بالعباسية لألقاهم قبل الجلسة وأتكلم معهم وأطمئنهم وهم في قفص الاتهام.
همست في أذن أبو سعد في قفص الاتهام:
- الأمانة وصلت .. اطمئنوا فيه أمل.
لم أستطع أن أزيد على هذه الكلمات لأن الحراسة شديدة والتنصت أشد .. أبو سعد يبتسم ويضغط على يدي فتأكدت أنه فاهم الرد ثم قال:
- عاوز أشوفك تاني.
إنشاء الله حكون على اتصال مستمر معاكم.
- يا ريت .. جزاك الله عنا كل خير.
في هذه الجلسة حدثت مفاجأة جديدة فقد وافقت المحكمة على طلب تقدم به الدفاع لعقد جلسة سرية لمتهم الأول فقط شكري أحمد مصطفى أبو سعد ومحاميه فقط ليشرح للمحكمة الخط الفكري للجماعة بالتفصيل ثم رفعت الجلسة على أن تعقد جلسة سرية بعد ذلك وإذا بي أقفز مسرعاً إلى غرفة المداولة لأحصل على موافقة لحضور هذه الجلسة السرية .. وكنت على موعد مع يوم مشهور آخر ..
يوم الزنزانة في سجن القلعة حيث سمعت الأسرار العجيبة.
ويوم الجلسة السرية في غرفة المداولة لأسمع الخط الفكري لجماعة المسلمين وقد كان أبو سعد بملابس السجن الزرقاء والنور على وجهه يتلألأ.
الأبواب مغلقة والمستمعون فقط المحكمة والمحامى وانا وأجهزة التسجيل والتصوير ويوم كامل يقف أبو سعد على قدميه بيديه على مكتب رئيس المحكمة يتكلم بهدوء كأنه في محراب أو في مدرج الجامعة يلقي محاضرة متمكنة تخرج الألفاظ من شفته في عذوبة ورشاقة وهدوء يشرح بالتفصيل الخط الفكري لجماعة المسلمين يتناول كل سور الكتاب الكريم ومعظم السنة النبوية الشريفة بالشرح والتفسير والربط مع العصر الذي نعيشه في ذكاء وعمق لم يتعب ولم يتنهد رأسه الجميل الصغير وشعره الأسو الكثيف ملئ بالنور .. كنت أتأمل في وجهه وهو يتكلم .. محال .. محال يا ربي أن تفكر هذه الرأس في الخطف أو القتل، إنها خلقت لتعظ وتعلم .. لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
بدأت أصدق أن هذه الجريمة من تخطيط شياطين في جهاز السادات عدت هذه الليلة إلى فراشي وأنا سابح في بحر من المعرفة الجديدة لكثير كنت أجهله وكثير كنت لا أعلمه .. إنه بحث يوم جميل ودرس طويل مفيد وفي الصبح وفي كل صباح بعد هذا اليوم حرصت على أن أتابع المحكمة العسكرية حتى أنهت المحكمة نظر القضية وكانت صدمة كبرى لي عندما أصدرت المحكمة حكمها بإعدام أبو سعد والخمسة الذين أمضيت معهم اليوم الكامل في زنزانة سجن القلعة.
كل نفس ذائقة الموت وتبلوكم بالشر والخير قتنة حقاً .. لكل أجل كتاب انزعجت جداً لحكم المحكمة.
عشت أنتظر الأمل أن يصدر السادات قراراً بالعفو أو تخفيف الأحكام أو يعيد المحاكمة ومرت الأيام ثقيلة أحسسن فيها بقلق تام فدخلت على رئيس مجلس الشعب في مكتبه ورجوته بحكم موقعه كرئيس لمجلس الشعب وبحكم قرابته من الرجل أن يتدخل لدى أنور السادات ويوقف الإعدام ويطلب التخفيف ورويت له ما حدث بيني وبين السادات.
فطلب مني أن أكتب بيدي مذكرة بذلك لم أتردد في كتابتها فوراً سلمتها له وأعتقد أنه حملها إلى السادات في نفس اليوم.
ولكن يبدو أن السادات كان يخطط لشيء آخر تماماً.
اتضح لي ذلك من أسامة الشقيق الأصغر للضابط المتهم أحمد طارق عبد العليم الذي جاء إلى منزلي فجأة وهو حزين قرب منتصف الليل يخبرني برسالة من أبو سعد وزملائه يقولون لي في الرسالة التي أبلغني إياها أسامة أن الجماعة عوزين يشوفوك بسرعة ياريت يكون بكرة أو بعد بكرة ..
وفي الصبح توجهت إلى وزير الداخلية في مكتبه لأنه بعد حكم المحكمة أصبح هو وحده صاحب الإذن بزيارة السجن وطلبت منه تصريحاً بزيارة المحكوم عليهم بالإعدام فرد علي:
- قوي .. قوي .. تحت أمرك.
وأعطاني فعلا تصريحا لليوم بعد التالي.
وفي صباح الموعد المحدد للزيارة وقبل ذهابي إلى السجن صدمت وحزنت وبكيت عندما علمت أن أبو سعد وزملاءه تم إعدامهم في منتصف الليل بطريقة غريبة ومثيرة . إي والله في منتصف الليل وفي موعد سابق لزيارتي التي حددها الوزير بنفسه. البقاء لله .. البقاء لله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون. الإعدام تم في عجلة تدعو إلى الريبة والشك مخالفاً للعرف والقانون دفنوهم في مدافن الصدقة معاً لأنها كانت وصيتهم وطلبهم قبل دخول غرفة الإعدام معاً إلى مقابر الفقراء والمساكين .. كما كانوا في الزنزانة معاً .. وربما يكون معهم المرشد الذي دس بينهم في القضية لتموت جميع الأسرار معهم لتحل اللعنة على الشياطين. أليس هذا دليلاً جديداً على صدق وحقيقة كل ما سمعت منهم ورأيت ..
يا إلهي .. يا إلهي .. الصبر على البلاء ..
أخذت أتمتم أثناء عودتي من السجن ..
اللهم رحمتك .. اللهم رحمتك .. اللهم عفوك ..
اللهم فاشهد أني قد بلغت.
وأقرأ الفاتحة على أرواحهم الطاهرة طوال النهار وجاءني أسامة مرة أخرى ليلاً .. حزيناً .. باكياً .. ليبلغني أغرب رسالة وأغرب وصية جعلتني أبكي معه عندما قال:
- يا خسارة .. يا أستاذ علوي. أبو سعد كان عايز يشوفك بل ما يموت .. كان عايز يحط عندك سر كبير .. كان عايز يقول لك على المكان اللي فيه كتاب الخلافة.
- إيه كتاب الخلافة ده ؟
- ده يا سيدي الأصل الوحيد للكتاب اللي كتبه بنفسه المرحوم شكري أحمد مصطفى عن مسيرة الجماعة وفكرها وأهدافها.
- يا ترى فين الكتاب ده يا أسامة.
- الله أعلم .. السر مات معه .. الله يرحمه.
وقرأنا الفاتحة بصوت عال وبكينا أسامة وأنا.
- أعتقد أن هناك من يحمل الأمانة .. جول كثير أوي وفي كل مكان مظمون جيداً والاستشهاد في سبيل الله والعقيدة أسمى أمانيهم.
- يا خسارة .. يا خسارة ..
اللهم يرحمهم (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) صدق الله العظيم
يا ترى .. هل انتهت قصة الجماعات الإسلامية أم بدأت؟
أنا ما زلت .. تائهاً..؟؟
لك الله يا مصر ..
اللهم افتح لنا طريق الرشد .. ومكنا من الاستفادة من أخطاء وخطايا الماضي القريب البعيد .. نمت وأنا أقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء أبو سعد وزملائه .. رحمهم الله ..!!
7 أكتوبر 1981 ..في اليوم التالي لحادث المنصة
استيقظت قبل أذان فجر 7 أكتوبر 1981 لأتوضأ ثم أسرع الخطى إلى مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها. وجدت نفسي أجلس في نفس المكان الذي اعتدت الجلوس فيه من ثلاثة عشر عاماً.
على وجه التحديد من مارس سنة 1968 وأنا أتردد على هذا المقام الطاهر مساء كل أحد لم أنقطع أبداً إلا لسفر خارج القاهرة.
هنا ومنذ ثلاثة عشر عاماً تماماً فررت إلى الله. لقد عات ذاكرتي مرة أخرى إلى جلسة مجلس الأمة في 28 فبراير سنة 1968 التي عقدها المجلس في أعقاب مظاهرات الطلبة، بل ثورة الشباب على نكسة يونيو 1967 فقد خرج شباب مصر يهتف لأول مرة ضد نظام يوليو 1952 ويحمل جمال عبد الناصر أسباب الهزيمة ويطالب بالحساب والعقاب .. وكان الشباب على حق في كل ما طالب به.
كنت آخر المتحدثين في هذه الجلسة كما ذكرت من قبل. تكلمت ساعات أفرغت فيها كل ما في صدري من أحاسيس ومشاعر كلها حسرة على وطني الذي ضاع. طالبت بمحاكمة المسئولين عن النكسة. هاجمت منظمة الشباب التي كانت تسيطر عليها عناصر موالية تماماً للاتحاد السوفيتي. ولأول مرة يسمع برلمان الشعب نائباً يقول لجمال عبد الناصر: ابدأ بنفسك ثم من حوالك ويسأله: أين الحقيقة؟! وأنت المسئول الأول عما حدث، مشاعر المجلس كانت معي تماماً. قوطعت كلماتي بالتصفيق الحاد. عبرت تماماً وبكل صدق عن مشارع الشارع السياسي في ذلك الوقت. مجلس الأمة يتجاوب مع صيحات الشباب الذين قادوا المظاهرات في وجه النظام لأول من 1952. بعد الجلسة حدث صدام عنيف جداً بيني وبين السادات في مكتبه بدأ قبل منتصف الليل على إثر انتهاء كلماتي فقد حاول أن يحاسبني عما قلت تحت القبة فصددته بعنف. كان مرتبكاص ومذعوراً يأخذ غرفته رائحاً غادياً بين مكتبه ونهاية الغرفة في حالة عصبية وهو يصيح في غضب ليسمع من كانوا في الغرفة وكانوا وزراء النظام ومجموعات من المخابرات العامة وأمن الدولة، صاح السادات بصوت عال في وجهي:
- أقول إيه لجمال عبد الناصر .. أقوله ما عرفتش أسيطر على الجلسة بسبب علوي حافظ .. تقصد إيه من قولك بحفنة شاذة تحكم البلاد .. تقصد مين؟؟! ثم مين اللي أنت بتطالب تحاكمهم وتعزلهم وتعدمهم قولي مين .. إسمعوا ..
ثم أخذ يردد كلمات عصبية تعبر عن الخوف والجزع وهنا دخل عدد كبير من النواب إلى مكتبه على صوت صياحه ووجدت نفسي فجأة كأنني في مظاهرة وطنية مثل التي شاهدتها البلاد طيلة الأسبوع الماضي الذي بدأ بـ 21 فبراير سنة 1968 على أثر صدور الأحكام ضد ضباط الطيران في محاولة لتحميلهم مسئولية النكسة كنوع من التمويه على الأسباب الحقيقية للهزيمة لامتصاص غضب الشعب وهنا وجدت نفسي أصيح بعنف في وجه أنور السادات الغاضب الخائف:
- أقصدكم كلكم .. إنتم خربتم البلد الله يخرب بيوتكم .. ضيعتم الأرض وضيعتم الشعب .. ولسه بتسألني أقصد مين .. منتش عارف أنا قلت كل اللي عندي وأنت سمعته في الجلسة .. ثم إنك لا تملك أبداً أن تراجعني على أي كلمة قلتها تحت قبة المجلس.
وكدنا نشتبك بالأيدي لولا تدخل النواب الذين حاول البعض منهم تهدئة الموقف وقالوا لأنور السادات وكان منهم سيد جلال شيخ النواب.
- علوي حافظ عبر عن مشاعرنا جميعاً وقال اللي بيقولها لشعب .. في كل مكان النس تطالب بالحساب ..كفاية خداع بقى الناس أكلت وشنا ..
هنا انفعل أنور السادات بشدة لتجاوب النواب معي كما تجاوبوا من قبل في الجلسة وصاح غاضباً.
- ده انحراف.
وهنا رددت عليه بانفعال والنواب يحاولون منعي من الاعتداء عليه بالضرب:
- إوعى تقول انحراف .. أنتم اللي منحرفين وساقطين ولازم تحاسبوا وتحاكموا على نكبة البلاد الله يخرب بيوتكم زي ما خربتم مصر.
لولا جرس التليفون الذي رن فجأة على الجهاز الموصل مباشرة بين أنور السادات وجمال عبد الناصر فاندفع أنور السادات يرد لأنه يعرف أن المتكلم هو جمال عبد الناصر وبدأ حديث سمعت أنور السادات يرد عليه بهذه العبارات بحزن وألم وبصوت منخفض:
- سيادتك سمعته يا ريس .. أنا بصراحة ماقدرتش أسيطر على الجلسة ..النواب كلهم كانوا متجاوبين معاه .. ودلوقتي واقف في مكتبي وحواليه النواب وعمال يشتمني ويتوعدني وعاوز يضربني .. والله ما أنا عارف أعمل ايه.
واستدار نحوي يعد أن كان يتكلم ووجهه للحاضط المجاور للتليفون ووجه الكلام إلي ..
تعالى يا علوي ..
وناولني سماعة التليفون لأفاجأ بصوت جمال عبد الناصر يتحدث في لهجة حزينة جداً.
- علوي .. أنا سمعت كلمتك كلها بنفسي .. وأنا بكلم أنور دلوقتي علشان كده ممكن أرجوك أن تعود إلى بيتك الآن ونلتقس بكره الصبح في بيتي للتفاهم في كل اللي أنت قلته الليلة أرجوك يا علوي أرجوك يا علوي علشان خاطري أنت على حق في كل كلمة ولكن فيه ظروف حأشرحها لك بكرة الصبح ..
تألمت جدا لسماع صوت جمال عبد الناصر في التليفون فق كان حزيناً جداً مهموماً لدرجة أن الدموع سقطت من عيني. أحسست أن من واجبي أن أنفذ له رغبته فالصبح قريب خصوصاً وأن كلامي في الجلسة كان واضحاً جدا قلت فيه كل ما أريد. وضعت السماعة على التليفون على وعد بالحضور في الصباح بعد أن أنهى المكالمة ووعدته ووجهت كلامي لأنور السادات مرة ثانية:
- أنا حروح الآن .. بس احتراماً لمشاعر جمال عبد الناصر .. أما الكلام اللي أنت قلته فأنا أرفضه ولا أسمح به .. لازم تفهم أنني نائب عن الشعب وأني أتكلم في البرلمان.
لم يرد أنور السادات لأن انفعال النواب كان عالياً جداً وصاحوا في نفس واحد:
- ياللا يا أخ علوي إحنا حنوصلك لغاية البيت .. أنت عملت اللي عليك .. وعبرت عن مشاعرنا وده رأينا كلنا.
حملوني على الأعناق إلى خارج المجلس ووضعوني في سيارة أحدهم اندفعت بي إلى منزلي وورائي أكثر من مائة سيارة تحمل أعضاء مجلس الشعب جميعاً.
أي والله لقد اجتمع مجلس الشعب كله تقريباً في منزلي في الساعات الأولى من يوم 29 فبراير سنة 1968 .. منزلي لم يتسع لهم جميعاً بطبيعة الحال فوقف بعضهم على سلم المنزل من الدور السابع حتى مدخل البيت حتى الذي لم يجد له مكاناً استمر في سيارته تجمعت كل سيارات نواب الشعب في شارع منزلي .. كانت مظاهرة برلمانية تاريخية لم يسبق لها مثيل في أعقاب جلسة صاخبة لم تحدث من قبل تحت قبة البرلمان.
لم أحس في تلك الليلة متى نمت وكيف نمت فقد كنت مرهقاً للغاية ولكنني أغمضت عيني وأنا أرى نواب الشعب في غرفة نومي تخرج من أفواههم كلمات كلها دفء وتأييد لموقفي في تلك الليلة لم أدر إلا عندما استيقظت في الصباح لأسرع في الذهاب إلى بيت جمال عبد الناصر فقد كان الموعد المحدد هو العاشرة صباحاً وهناك كانت مفاجأة جديدة لي عندما وجدت السادات قد وقف يستقبلني بالأحضان بعد أن رسم ابتسامة على وجهه إذ وجدت أنور السادات مع جمال عبد الناصر في غرفة مكتبه وبادرني عبد الناصر بالترحيب وقال موجهاً حديثه للسادات:
- إوعى تفتكر يا أنور أنني إضايقت من كلام علوي إمبارح .. أنا سمعته كله وسمعت هتفات النواب وتصفيقهم وتعليقهم .. علوي كان آخر واحد اتكلم في الجلسة وكان أحسن واحد عبر عن إحساس الناس فعلاً وطلب طلبات معقولة جداً أنا بدأت فعلاً أحصرها وأضعها في برنامجي الذي أنوي إعلانه قريباً لإزالة آثار العدوان والنكسة.
أنا فعلا أعد برنامجاً شاملاً سأعلنه خلال أيام .. وكان يقصد برنامج 30 مارس الشهير .. التقارير التي جاءتني إمبارح كلها تحاول أن تشوه صورة علوي حافظ وتربط بين كلامه في المجلس ومظاهرات الطلبة واتصالات خارجية يقوم بها وعلاقات مع قادة الجيش .. كل ده كلام فارغ لأنهم ما يعرفوش الدور الحقيقي اللي بيلعبه علوي حافظ منذ أكير من سنتين بيني وبين الأمريكان.
علوي يا أنور نظيف جداً وعفيف قام بدور خطير بيني وبين الأمريكان كان أميناً ومخلصاً رغم الإغراءات التي تعرض لها واللي ما يقدرش يقاومها كثير من الناس ولكنه التزم دائماً بمصلحة البلد ولذلك أنا أحترمه وأقدره ولا أصدق فيه أي كلام فارغ زي ده. هذا السر تضمنه كتابي الأول مهمتي السرية الذي صدر.
أنور السادات يهز رأسه وهو يستمع إلى جمال عبد الناصر عن هذا السر لأول مرة وأنا صامت تماماً. واسترسل عبد الناصر في الكلام موجهاً حديثه إلي وهو يربت على كتفي:
- هل يا علوي فيه كلام كنت عايز تقوله ومقلتوش لغاية دلوقتي نقدر نتكلم فيه مع بعض.
وهنا رددت بسرعة:
- طبعا طبعا أنا لي كلمة عايز أقولها لك وأنور معانا .. استمر في الاتصال بصحابك زي ما كنا ماشيين وخليك على اتصال بي وربنا يسهل إن شاء الله كانت هذه الكلمة آخر ما سمعته من جمال عبد الناصر.
جلسنا حوالي ساعة بعدها نتكلم في موضوعات شتى حاول فيها الرجلان عبد الناصر والسادات يشعراني بأن العلاقة بيننا لم تتأثر بالكلام الذي تم تحت قبة البرلمان بالأمس.
ثم دارت الأيام لتحمل مفاجأت جديدة وغريبة تتعارض تماماً مع هذا الكلام.
صدر قرار بفصلي من الإتحاد الإشتراكي أنا وكل النواب الذين تحمسوا لي في جلسة 28 فبراير سنة 1968. كما ذكرت من قبل.
وبعدها صدر بيان 30 مارس الذي كان يحوي الكثير من الاقتراحات التي وردت بكلمتي في 28 فبراير 68 ثم حل البرلمان ومنعت من الترشيح فيه وخرجت إلى الظل لفترة طويلة حتى مات جمال عبد الناصر وجاء أنور السادات ليحكم مصر.
سبحانه الحي الذي لا يموت.
لماذا عادت هذه الذكريات إلى رأسي الآن، وأنا هنا أما مقام السيدة نفسية رضي الله عنها. ربما المقام الطاهر يذكرني باللحظات التي قررت الفرار إلى الله فيها واعتزال السياسية في سنة 1968.
ربما أن كلا الرجلين مات .. عبد الناصر والسادات وأنا ما زلت حياً أرزق ..
ربما أن ما حدث على المنصة أمس هو السبب .. شيء عجيب حقاً .. سبحان الله.
لكنني في كل الأحوال أحسست بأن نهاية نظام 23 يوليو 1952 انتهى على المنصة بالأمس.
كل النظام من أوله إلى آخره بعد أن مات الرجلان.
لكن بقي سؤال يفرض نفسه عليّ ولا أعرف إجابة له:
هل حقيقة أن الشباب المسلم قتل السادات ؟!!
وبسرعة أجد إجابة على لساني تقول:
لا .... لا ... أبداً لا تصدق.
ثم بدأ شريط الذكريات يدور مرة أخرى في رأسي:
المنصة .. المنصة .. المنصة ..
المنصة ذاتها تشهد على السادات.
ليست منصة الأمس فقط.
حقيقة أن منصة الأمس شاهدت القصاص ولكن هناك عدسة التاريخ سجلت كل شيء في حينه فوق منصات أخرى. منصة الحكم.
ومنصة الشعب.
وأخيراً منصة الجيش.
والله الذي يعلم ما في الصدور. سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت.
ماذا فعل السادات بالشباب الديني؟
لقد ارتكب السادات في حقهم خطأ كبيرا.
طاردهم بعنف .. ولفق لهم القضايا .. ورفض منهم النصيحة.
ثم السادات يعرف أن الدين هو المأوى الفعلي لشباب مصر الممزق نفسياً بعد ضياع مصر.
فالجماعات الدينية بحق وفرت للشباب المصري الأمن النفسي والأمان الاجتماعي.
فالدين هو حصن الشباب فعلا الكتاب الكريم والسنة الشريفة أودعت في قلوبهم نوراً.
لكن السادات عندما كبل الحريات وعطل الحوار.
جعل نفراً منهم يفكر في تصفية الظلم والطغيان بل في تصفية الرجل نفسه.
تصفية الرجل الذي جعل الأغنياء أكثر ثراء والفقراء أكثر تعاسة؟
فسد الطريق تماماً أمام كل مجاهد شريف من الشباب عندما أحسوا أنه إذا جاع الشرفاء فليذهبوا إلى الجحيم أو يهاجروا إلى أوطان أخرى أما هو فاختار أن يكون رب العائلة الغنية الطفيلية المستغلة في مصر. نعم السادات تل نفسه.
لأنه نسي أن في مصر أقدم حضارو فلم يقرأ دروس التاريه لأنه لا يقرأ إلا ما يطربه.
لأنه اتخذ قرارات سريعة طائشة وليدة مرض السلطة وعشق الذات.
لأنه تبنى ديمقراطية شاذة عجيبة ذات أنياب كما قال فقضت عليه هو أولاً.
لأنه أغلق سمعه وأغمض عينيه عن الحقيقة والنصيحة والحوار والناس ورفض كل كلمة حق .
السادات يعلم ...
أن الدين النصيحة ... فكيف لإنسان ألا يتقبل النصيحة؟
وأن الحوار شريعة الله ... فكيف لإنسان أن يرفض ما شرعه الله ؟
وأن الناس ولدوا أحراراً .. فكيف لإنسان أن يُنَصِّبْ ذاته وصياً على الناس؟
ومع ذلك يفرض السادات على الشعل أحزاباً معينة.
زيتجاهل أن الشعب هو سيد نفسه وصاحب القرار وصاحب الحق وحده في اختيار المصير .. فمن حق كل إنسان أن يختار الحزب الذي يعتنق مبادئه.
وليس من حق السادات أبداً أن يعين للناس الأحزاب.
إن الأحزاب تولد في حضن الشعب لا في رئاسة الجمهورية.
فقبل أن يخلق الله الأرض ومن عليها.
دار حوار بين الله جل جلاله والملائكة فيما يختص الخلافة في الأرض.
فيقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:
"وإذ قال ربك للمللائكة إني جاعل في الأرض خليفة .. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ... قال إني أعلم ما لا تعلمون ... وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ... قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".
لا أنسى أبداً ما حييت.
آخر كلمة قالها لي السادات وأنا نائب عن الشعب ومنتخب لرابع برلمان.
نسي نفسه وتصور أن البرلمان أيضاً ضمن ممتلكاته الشخصية.
ولم يع كيف يخاطب نواب الشعب.
لا أنسى أبداً لغة التهديد والوعيد عندما قال لي بكبرياء:
( إنت ملكش عندى مكان في البرلمان .. أكتب لي استقالتك)
وعندما رفضت هذه الرغبة الشاذة هدد وتوعد وقال لي :
( ده حيكلفك .... غالي قوي ... )
ولكنني أحمد الله على أنني لقنته درساً لن ينساه كل من سيحذو حذو السادات، ليتعلم الحكام كيف يخاطبون نواب الشعب ويعرفون تماماً أن الحر يملك هز العرش والسلطان، عندما تقدمت بعدها للبرلمان باستجواب وقانون وكنت أقصد بهما السادات وعصابته.
استجواب ... (أمسك حرامي)
وقانون ... مراجعة ذمة الشخصيات العامة من 1952 حتى الآن.
والهدف كان مقاومة الفساد الذي استشرى بعنف، وأيضاً وقف تيار السلب والنهب الذي اجتاح مصر في عهد السادات، ولتصفية الطبقة الطفيلية التي صنعها السادات ممن التهموا الانفتاح الاقتصاد كما التهموا من قبل الإصلاح الزراعي ثم الحراسات فالتأميمات ثم تصفية الإقطاع، ثم تصاهروا وارتبطوا وكونوا أخطر الاحتكارات الاقتصادية التي شاهتها مصر.
احتكارات الرأسمالية الطفيلية.
ثم بأ يظهر لهم جيل جديد أشد شراسة منهم في امتصاص دماء الشعب أطلق الناس في مصر عليهم ... اسم الأطفال المعجزة والقطط السمان.
وهناك الشواذ من بدأ ينفرد ببعض التوكيلات التجارية الضخمة ويعقد صفقات مريبة ويفتح مكاتب سرية في عواصم العالم لنهب ثورة مصر وتهريبها.
يتقاضون العمولات الضخمة التي رفعت الأسعار في جنون لم يسبق له مثيل في كل شيء من القمح إلى السلاح إلى الدواء إلى المبيدات الحشرية ثم بدأوا يتسلطون على الحكم ويتحكمون في رقاب العباد بعد أن سيطروا تماماً على السادات نفسه الذي أصبح عميدهم وربهم.
نعم قتل السادات نفسه.
بعد أن تربع على العرش طويلاً وألهه المنافقون والمنتفعون كثيراً. وهذا شيء طبيعي يلازم حكم الفرد وإلا فلماذا إذن كافحت الشعوب مئات السنين للقضاء على حكم الفرد ولاقت في سبيل الله تلك الأهوال والأخطار وبذلت الأرواح . لقد كافحت الشعوب في سبيل ذلك لتضمن دساتيرها في النهاية تحديد فترة تبوأ الحكم منصبه لا يجوز تاوزها لأي سبب من الأسباب . فيمارس الحاكم سلطاته تحت الإحساس المستمر بأن يوماً سيجيئ تصبح فيه قراراته وتصرفاته محل المحاسبة والمناقشة فهذا وحده الضمان الوحيد الكفيل بوقف المخالفات والتجاوزات والجور على حقوق الشعب وأموالها.
نعم قتل السادات نفسه.
بعد أن تمكن منه مرض السلطة فأصبحت قراراته كلها سريعة ووليدة الخاطر في كل شيء في السياسة في الاقتصاد في الإدارة دون تخطيط علمي سليم ولا حساب للأولويات التي يحتاجها الشعب حتى أن خياله بدأ يشط في كل شيء حتى أنه ترجم التاريخ ترجمة خاطئة وتصور السادات أنه حقيقة صانع ثورات بل في مقدوره في أي لحظة أن يصنع ثورة جديدة أخذ يهدد الشعب بها في جلسات المصاطب التي كان يعقدها له في التليفزيون، يسرد فيها الخرافات والأكاذيب عن ذاته وينسب إليها البطولات والأساطير ونسي السادات أن 23 يوليو نفسه الذي أمضى ليلته في سينما الروضة واختلق بلاغاً كاذباً تقدم به إلى الشرطة ليكون في الأمان كان انقلاباً أيده الشعب وليس قورة وأن الذين شاركوا في قيامه أحياء يرزقون.
نعم قتل السادات نفسه.
لأنه لم يعط انتباهاً إلى أجراس الخطر التي دقت مراراً تحت قبة البرلمان لقد فجرت الأصوات الجادة في مجلس الشعب كثيراً من القضايا وقدمت عديداً من المقترحات لصالح الوطن عندما مارس نواب شرفاء واجبهم بأمانة وإخلاص فتدفقت الاستجوابات والأسئلة وكانت المناقشات غنية تماماً .. الآراء والحلول العملية لمشاكل الناس.
ولكن السادات وسدنته والمنتفعين بحكمه حرضوه على المحترمين من نواب الشعب فبدأ يضيق بهم ويهددهم ويتوعدهم حتى أقام مذبحة النواب المشهورة ففي عهده لأول مرة في تاريخ الحياة البرلمانية يفصل نائب من البرلمان. وبدلاً من أن يراجع السادات نفسه ويحكم ضميره وعقله ويعود إلى صوابه في قراراته وتصرفاته اندفع وراء جنوح ذاته وحل مجلس الشعب ليتخلص من الأصوات الجادة الشريفة دفعة واحدة.
فقبة البرلمان تشهد بأنني سجلت أن ولائي كان دائماً للشعب.
مهما تعرضت ذاتي للخطر والضر.
لم يكن السادات يعجبه أدائي البرلماني ومنهجي وسلوكي السياسي فكان يصفني دائماً بالعنف ويصفني دائما "عنيف .. عنيف .. عنيف".
وفاته أن يقول أنني كنت دائماً عنيفاص في الحق لأنني أبحث عن الحقيقة لصالح الشعب لا لصالح الذات. كلماتي كلها سجلت في مضابط مجلس الشعب في برلمانات أربعة.
كلمات حق في وجه سلطان جائر.
سلوكي البرلماني كان دائماً منذ كنت أصغر النواب إلى أن خرجت مع الصفوة من نواب مصر لم يتغير قبل قيام الأحزاب ولا بعدها، لا عندما كان أنور السادات رئيساً لمجلس الشعب ولا رئيساً للجمهورية وسواء كان موقعي مع الأغلبية أو في صفوف المعارضة.
نعم دائما للصواب ولا باستمرار الخطأ.
لم تكن جلسة 28 فبراير 1968 هي الجلسة الوحيدة التي وصل السادات فيها إلى قمة ثورته وقمة غضبه مني كما ذكرت ولكنها مرات عديدة وهو على المنصة وأيضاً وهو على منصة الرئاسة سامحه الله صفاني وعزلني مرات وصلت إحداها إلى محاولة تلفيق قضية قلب نظام الحكم ولكن يد الله دائماً فوق أيديهم.
وبدأ العد التنازلي!
غضب مني السادات لأسباب كثيرة ..
نعم غضب منر وثار عليّ عندما استقلت من حزب مصر عب أحداث 18 و 19 يناير 1977.
نعم غضب مني عندما قلت عن مظاهرات الشعب إنها ثورة الجوع وقال هو عنها انتفاضة حرامية.
نعم غضب مني عندما انضممت إلى صفوف المعارضة وأعلنت اشتراكي في تأسيس حزب الوفد إيماناً مني عندما طالبت بإلغاء مخصصات رئيس الجمهورية الراحل وترشيد ميزانية رئيس الجمهورية الحالي.
نعم غضب مني عندما اترحت أن يخرج نواب المعارضة في مسيرة تحد لرئيس الجمهورية يقدمون له فيها عريضة أمام قصر عابدين تطالب برفع الحصار والتعتيم الإعلامي على آراء المعارضة كما فعل أحمد عرابي مع الخديوي.
نعم غضب مني عندما قلت له في جلسة علنية: ليس من حقك أبداً أن تصحح لنواب الشعب آراءهم، فأنت لا تملك المراجعة أو الحساب أو العتاب أو اللوم لنواب الشعب.
نعم غضب مني عندما عارضت منح الضباط الأحرار معاشات استثنائية وقلت له أن بعضهم يستحق المحاكمة والسجن على الخراب والنكسة.
نعم غضب مني عندما قلت لأحد مساعديه أنك أحد أفراد عصابة تنهب مصر .. اختشوا واتقوا الله يا لصوص مصر. نعم قتل السادات نفسه .. لأنه سمع الكثير من الحقائق من نواب الشعب تحت قبة البرلمان لكنه لم يكن ينتبه ولم يع ما ردده المحترمون منهم. كان لا يذهب إلى البرلمان إلا ليلقي بيانات رسمية في افتتاح دورة جديدة، أو في المناسبات أو ليقذف بتهديد ووعيد من الرئيس المؤمن والزعيم الملهم كما كان يسميه المنافقون لقد جاء السادات يوماً ليصرخ تحت قبة البرلمان في وجه لا مفهوم لها في قاموس السياسة.
العيب .. العيب .. العيب
وكان ذلك على أثر استجواب استغرق خمس ساعات تقدمت به إلى وزير التجارة والتموين لمحاسبته على قرار غير مروس اتخذه فأحدث شللاً وارتباكاً في سوق المال والتجارة وتسبب في رفع الأسعار واختفاء السلع، لم يعجب السادات أنني تجاسرت وطالبت بطرح الثقة بالوزير وهو حق شرعي ودستوري لنواب الشعب كسلطة رقابة فجاء السادات في أعقابها ليقول للنواب عيب .. عيب .. عيب.
وأخذ ينظر إلي وهو يتكلم ويقول: النواب اللي بيقفوا بالساعات يسبوا الوزراء في شرفهم .. في حاجة اسمها العيب .. فين القيم .. فين أخلاق القرية.
كلام غريب وتعقيب عجيب من رئيس دولة تحت قبة البرلمان.
حبس اسمي داخل صدره ولكنه وجدها فرصة لتهديد كل النواب المعارضين في المجلس وتقوية المنافقين والمصفقين منهم.
كان في مجلس الشعب بحق نخبة تفخر بها الحياة البرلمانية في الإخلاص والأداء الرائع نواب محترمون سجل لهم التاريخ كلمات رائعة ومواقف بطولة تحت القبة.
كانت كلها مصابيخ على طريق الحرية والديمقراطية وأجراساً دت بعنف ولكن السادات لم يسمع، أو سمع ولم ينتبه، وأسرع المنتفعون ليضعوا له قانوناً جديداً أسموه قانون العيب لمعاونته في خنق الحرية وتكبيل الديمقراطية .. لم يدركوا وهم ينافقون أن كل القوانين التي وضعوها لحساب السادات العيب والاشتباه والأحزاب والعزل السياسي ..
كل هذه التشريعات الشاذة سيقتل بها السادات نفسه .. ثم يكونون هم أول من يحاكم بها وفي مقدمتهم عائلة السادات بعد أن حاكمهم التاريخ يوم صدورها ووضعهم في مزبلة التاريخ.
نعم قتل السادات نفسه .. لنه سمع من المعارضة في مجلس الشعب الكثير ولم ينتبه .. فأنا أحد الذين قالوا الكثير في البرلمان.
قلت يوماً ..
إن النكسة العسكرية التي نكبت مصر سنة 67 والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها شعب مصر الآن. كلها نتيجة قرارات خاطئة كشفت الأيام أن وراءها شللاً فاسدة من شواذ البشر سموهم في الماضي أهل الثقة وأطلقنا عليهم بعد أن وصل الوطن لقمة المأساة مراكز القوى ..
إن الرارات غير المدروسة سواء كانت في الاقتصاد أو الحرب أو السياسة هي التي أوصلتنا إلى المعاناة والعذاب الذي يكتوي بناره شعب مصر الآن.
ضعوا القدوة في مواقع القيادات لا هؤلاء المنتفعين من الشواذ خلقاً ووطنيةً وكفاءةً ومن هنا يبدأ الإصلاح.
قلت يوماً ..
حان الوقت بمراجعة القطع الأثرية النادرة التي خرجت من المتحف المصري بأوامر عليا ولم تعد ..
قلت يوماً ..
حولوا قصر المنتزه بالإسكندرية إلى منطقة سياحية حرة .. أعيدوا القصور الملكية كما كانت عليه .. لتكون مورداً مورداً ثابتاً لمصر .. حاسبوا كل من نهب هذه القصور ثم بنى لنفسه فيلا وكابينة وعمارة أو اقتنى عزبة بدون وجه حق.
الشعب يريد أن يعرف أين ذهبت أموال أسرة محمد علي؟؟؟؟
يا لصوص مصر .. يا لصوص مصر .. اختشوا.
قلت يوماً ..
إن القطط السمان والأطفال المعجزة والمناطق الحرة والموانئ وإقطاع الشقق المفروسة كلها مظاهر تستفز الكادحين الشرفاء في مصر.
إن 80% من الشعب المصري دخله الآن لا يزيد على 30 جنيه شهرياً .. إن الشريعة الإسلامية هي الأمل الوحيد لوقف التسيب والانحرافات والاستغلال والسرقة في مصر .. إنها قارب النجاة.
قلت يوماً ..
أقترح إعفاء الموظفين والعاملين في الولة من كل أنواع الضرائب أو مضاعفة مرتباتهم فسلحفاة الأجور لا يمكن أن تلح بحصان الأسعار أبداً
مطلوب سياسة اقتصادية حكيمة تربط الأسعار بحزم وترفع مستوى المعيشة بشكل حقيقي. أريد أن أعرف بالضبط هل نحن هنا نمثل أثرياء التضخم أو عامة الشعب.
فالثراء الفاحس من المال أصبح ظاهرة عامة تزكم الأنوف وتستفز الشرفاء في مصر.
قلت يوماً ..
إن طبقة جديدة من أبشع المستغلين تتقاضى حالياً أرقاماً فلكية لتمليك الشقق أو تأجيرها بينما البيوت القديمة تتساقط يومياً على أصحابها فزاحم الأحياء الموتى في قبورهم، وفقد عالم الموت قدسيته وجلاله .. لقد أصبحوا ولا مأوى لهم بعد ذلك إلا المساجد والقبور والمخابئ وا{صفة، والحكومة عاجزة تماماً عن موجهة هؤلاء أو إنقاذ هؤلاء .. انتبهوا ..
فشباب مصر في حالة استفزاز دائم.
قلت يوماً ..
إن مراجعة أمينة لخطة التصنيع في مصر أصبحت ضرورة بعد أن تكدس الإنتاج وتراكمت اليون حاكموا الفوضى التي خططت الصناعة في مصر على منافع شخصية وجهل دون نظرية علمية أمينة أو ضمير وطني. والمخزون الراكد ينبئ بكارثة اقتصادية على الطريق.
إن الصناعة في مصر كان يجب أن تبدأ بتطوير صناعة الغزل والنسيج ودعم وتطوير الصناعات القائمة فعلا قبل الدخول إلى متاهة وأكذوبة من الإبرة إلى الصاروخ.
إن المشروعات الفاشلة يجب أن تراجع بأمانة ويحاكم المتسببون فيها.
قلت يوماً ..
التجارة في مصر تتداولها قرارات سريعة ومتضاربة دون دراسة علملية أو عملية بل إن بعضاه يصدر لصالح عصابة معينة بعقد صفقات مريبة .. إن كل بيوت التجارة الشريفة العريقة قد اضيرت وارتفعت وارتفعت الأسعار بجنون.
قلت يوماً ..
ألغوا فوراً التظيم النسائي وتنظيم الطلائع حتى لا نربي شباب مصر على تزييف التاريخ وعبادة الحاكم. أنشئوا وزارة للرياضة وحولوا إليها كل ميزانيات الشباب التي تنفق على الاستعراضات والحفلات .. ارحموا الشباب وألغوا قانون الخدمة العامة فوراً فالعمل التطوعي أجدى من السخرة والإجبار.
قلت يوماً ..
فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر يجب أن يكون موقعه الصدارة والقمة دائماً وله حصانته .. إن هذا المنصب الجليل يجب أن يكون بالانتخاب من بين هيئة كبار العلماء لا بالتعيين حتى تستقيم الأمور في مصر ويصبح للدين ورجاله مكانتهم فبدونها لا تنصلح الأمور أبداً.
قلت يوماً ..
اتركونا نتكلم فالشعب نفد صبره .. الأسعار وصلت إلى الحد اللا معقول، إن الإنسان المصري الشريف ذا الدخل المحدود لا يستطيع الوصول إلى السلع الضرورية له ولأولاده، سواء كانت غذاء أو كساء أو دواء أو إيواء .. نحن في طريقنا إلى الهاوية .. أتعرفون ما الهاوية .. الجوع .. نعم الجوع .. والجوع كافر .. جوع القلوب وجوع البطون .. والكفر سيكون مصدر كل النكبات في هذه الأمة.
قلت يوماً ..
إن من حق أي مواطن أن يجد مسكناً ملائماً له في وطنه .. لا ليعيش في جهنم داخل بلده كما يحدث للملايين الآن خصوصاً للشباب ..
إن كارثة حتماً ستقع داخل أحد الأحياء القديمة بسبب المياه الجوفية التي أتى بها السد العالي. فمعدلات انهيار المنازل في الأحياء القديمة سريعة ومستمرة ومتكررة.
من الذي يبني للفقراء مساكنهم إذا تهدمت..؟؟
ألم يحن الوقت لتفكير جرئ شجاع جاد لإعادة تخطيط وتجديد الأحياء القديمة قبل الكارثة؟
قلت يوماً ..
أقترح تسوية كل الضرائب المتعثرة على الممولين بسماح 50% وفتح ملفات جديدة للجميع، لفض المنازعات التي ضاع فيها الوقت والمال بين الطرفين.
الكل بدأ يشعر بالظلم والضياع .. انتهى الانتماء الأصيل لهذا الوطن ونامت الضمائر.
قلت يوماً ..
أن كوارث السد العالي بدأت تظهر وتهدد البلاد والعباد. فمصر هبة النيل وستستمر هبة النيل إلى ما شاء الله .. ضاعت البركة وقل الخير بعد السد العالي وانتشر الخراب في مصر الخضراء.
لا تترددوا ولا تتأخروا في طرح السد العالي بما له وما عليه في مؤتمر دولي علمي يعقد في القاهرة ليقول العالم المثقف والمتخصص رأيه في هذا المشروع بالتحديد .. وتحديد العيوب لنبدأ العلاج حتى لا نورث الأجيال القادمة كوارث من السد العالي.
قلت يوماً ..
صارحوا الشعب بحقيقة الديون .ـ حجمها الحقيقي وأسبابها ومن المتسبب فيها يجب أن يحاكموا جميعاً بلا استثناء لقد أجرموا في حق هذا الوطن وتسببوا في خراب اقتصاد مصر.
فالناس تتعجب كيف وصل الحال بمصر إلى هذا الخراب والضياع. الكل يريد أن يعرف حقيقة هذه المأساة.
قلت يوماً ..
أوقفوا مذبحة النواب فورا ..
إن النائب المحترم لا يفصل أبداً .. إنه تعبير حي عن إرادة الشعب .. والشيخ عاشور محمد نصر النائب الذي هتف في البرلمان "يسقط أنور السادات" يعبر عن رأي له حصانته .. يحيا في لغة السياسة رأياً، ويسقط في لغة السياسة رأياً آخر، لم يخطئ النائب عاشور نصر عندما أعلن عن رأيه أبداً. والنائب كمال الدين حسين الذي أرسل برقية إلى السادات، ينصحه فيها، هو أيضاً رأي له احترامه وحصانته وكمال الدين حسين نائب عن الشعب .. إن حصانة النواب يجب أن تحترم. وفصلهم من البرلمان أكبر جريمة وفضيحة في حق الديمقراطية .. إنها سابقة خطيرة سيعلنها التاريخ.
قلت يوماً ..
لا مكان في السياسة للفظ العيب والقيم، فهي شعار غريب ومخادع لإخفاء حقيقة الحكم الديكتاتوري وخطاياه. انتبهوا .. الحوار هو إبداء الرأي وسماع الرأي الآخر والرافض للحوار كالرافض للعيش في مجتمع إنساني.
قلت يوماً ..
إن مراجعة ملكيات الذين تولوا مناصب عامة من ليلة 23 يوليو 52 حتى الآن أصبحت ضرورة للاطمئنان على طهارة الذيل واليد للقادة والمتصدرين في العمل السياسي.
انتبهوا ..
فقد انحرف الكثير منهم .. الشعب يعرفهم جميعاً ولا يثق بهم يجب أخذحق الشعب منهم وتجريدهم من الملكية غير المشروعة ومحاكمتهم.
قلت يوماً ..
إن العلم الأخضر ذا الهلال والثلاثة نجوم هو علم مصر الأصيل المعبر عنها .. عن أرضها وعن شعبها وعن نيلها يجب أن يعود ليرفرف على مصر لتعود معه البركة التي رحلت عنا .. إني أتقدم بقانون إلى المجلس الموقر لإلغاء العلم الأحمر الأبيض الأسود والعودة إلى العلم الأخضر الجميل القديم.
انتبهوا ..
فالعلم الأحمر الأسود الحالي أتى بالخراب والهزيمة والفساد والانهيار الاقتصادي وضياع المصريين . وكان رمزاً لجمهوريات ثلاث سقطت من سجل التاريخ.
لقد دقت الأجراس بعنف تحت قبة البرلمان .. فقد تكلم نواب الشعب كثيراً، استجوابات وأسئلة ومقترحات وقوانين .. لقد أيدت المعارضة بكل فصائلها دوراً رائعاً في تاريخ الحياة البرلمانية كان منهم عمالقة سيخلدهم التاريخ. لهم مواقف وكلمات لا تنسى. إن أصوات حرة تحت القبة لعمالقة تكلموا بأمانة وعبروا عن إرادة الشعب ببسالة وبأسلوب برلماني رفيع أمثال محمود القاضي وممتاز نصار ـ كمال الدين حسين ـ إبراهيم شكري ـ عبد الفتاح حسن ـ حلمي مراد ـ خالد محيي الدين ـ عاشور نصر ـ أحمد طه ـ صلاح أبو إسماعيل ـ عادل عيد ـ علي سلامة ـ أبو العز الحريري ـ مدكور أبو العز.
لقد دقت الأجراس بعنف تحت قبة البرلمان ..
سمعها أنور السادات لكنه لم يفكر إلا في التخلص من هؤلاء النجوم العمالقة.
لم يع السادات الكلام لأنه كان مريضاً بزهو السلطة وجبروت الحكم وانه باع نفسه بثمن بخس، ونسي أن قبة البرلمان هي الشعب وأن ما ينطق به النواب هو إرادة الشعب.
السادات كان لا يهمه إلا ذاته في المقام الأول يفكر دائماً وأبداً كيف يحصنها من كل كلمة وية حرة تقال تحت قبة البرلمان ونسي أن الحاكم القوي لا يخاف الكلمة القوية سواء قيل من نائب أو من كاتب .. من شاب أو من شيخ .. من مثقف أو من أمي .. من مؤيد أو معارض .. من خصم أو صديق فالكل في حق الحياة سواء، فلا حياة لأمة تدفن حرية الرأي.
واليوم الذي لا يسمع فيه الحاكم رأياً معارضاً يجب أن يتطلع تحت سريره .. فاختفاء الصوت المعارض معناه أن أصحاب الرأي والفكر يتجمعون تحت الأرض.
إن الخلاف في الرأي دائماً دليل على أن الفكر الحر على قيد الحياة. فالرأي الآخر هو دليل الاستقرار وهو ينطلق من الحناجر والأقلام في كلمات ومقالات وفي الهواء الطلق، وهو ينطلق من المدافع الرشاشة إذا اضطررناه إلى الاختباء تحت الأرض. إن الزعماء في كل العالم يتعرضون كل يوم لكل أنواع القذف بالطوب والحجارة والبيض والطماطم، وللاغتيال، يحيا ويسقط على الدوام في ةفم الشعب ومن حق الشعب لأن هذا قدر القيادة والزعامة. وللأسف فإن الرئيس المؤمن أنور السادات. نسي أن الصديق أبا بكر والفاروق عمر بن الخطاب قد طلبا يوماً من المسلمين ان يقاوموا سياستهما بحد السيف .. أما نحن في مصر والآن فأظن أننا لسنا بحاجة إلى سيف بقدر حاجتنا إلى أصوات حرة وأقلام حرة ونواب أحرار.
لأن القلم من روح الله.
أليس هو سبحانه وتعالى الذي علم بالقلم ..
ولكن السادات كان في زهو السلطان لا يسمع ولا يرى ولا يعي ولا يهتم .. لقد تمكن منه مرض السلطة حتى سقط ..
وسقط السادات
إنا لله وإنا إليه راجعون
لقد سقط السادات على المنصة بالمدافع الرشاشة، سقط نظام 23 يوليو 1952 كله على المنصة ظهر 6 أكتوبر 1981، الجمهوريات الثلاث سقطت نجيب وعبد الناصر والسادات .. وهنا العظة والعبرة.
يا ليت السادات يكون آخر حكام مصر المرضى يا ليت السادات يكون آخر مصري يحكم في ظل ديمقراطية مزيفة، في يقيني أن دعاء مصر سيكون بدءاً من اليوم من المصريين جميعا والله مجيب الدعاء وما ذلك على الله بعزيز . عندما تمر أجيالهم أمام هذه المنصة التاريخية فأمامها سيحكي التاريخ درسا تسمعه كل الأجيال وأيضاً ستدق الأجراس دوماً أمام هذه المنصة.
إن قراءة صحيحة لتاريخ هذه المرحلة التي بدأت صباح 23 يوليو 1952 وانتهت ظهر 6 أكتوبر 1981 وأمام المنصة بالعقل وليس بالعاطفة بالتجرد الوطني وليس بالمنفعة الذاتية بالعمق وليس بالرؤية السطحية بالأرقام وليس بالأناشيد والشعارات. نجد أن هذه المنة التاريخية تحولت من ظهر 6 أكتوبر 1981 إلى رمز .. إلى نداء حي يعبر دائماً عن سقوط نظام ردئ إلى غير رجعة.
دعونا نتخيل لو أن جمال عبد الناصر حكم مصر لفترة واحدة بعد دستور 1956 كانت سينتهي حكمه عام 1961 .. وهو في قمة مجده .. وهو في أعلى سماوات صعوده .. لكنه للأسف استمر .. فضاع وضاعت مصر.
دعونا نتخيل لو أن السادات حكم لفترة واحدة .. كان حكمه سينتهي بعد حرب رمضان 1973 .. وهو في قمة مجده .. وفي أعلى سماوات صعوده .. لكنه للأسف استمر .. فضاع وضاعت مصر.
أما أنا بعد هذا المشوار الطويل والدرس المرير الذي عشت كل فصوله وبكل ألم وحسرة ..
أمامك أيتها المنصة
أعلن أنني مع كل من يعمل على أن يون نظام الحكم في مصر برلمانياً في ظل حزبية حقيقية. فالديمقراطية هي لاف في الرأي وهي حوار وهي مناقشة يكفينا أننا عشان أكثر من 30 سنة في ظل قوانين غير عادية وفي حياة غير عادية وفي جو استثنائي خانق.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع كل من ينادي بأن نعيش حياة عادية، الحكم فيها للأمة وهي مصدر السلطات . رئيس الجمهورية رمز للولة فقط يتم انتخابه كما يتم انتخاب نائبه بصورة مباشرة ولمدة معينة تحدد في الدستور على أن تكون المسئولية الوزارية تضامنية ومحددة وقرار المجلس النيابي نهائياً في كل الأمور بأعلى صوتي .. سأهتف من أجل مصر . دائماً وأبداً:
- لا ... لا ... للرجل الواحد
- لا ... لا ... للحزب الواحد
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع الشعب المصري الذي يطالب بالديمقراطية فوراً لأنه مارسها فعلا منذ أكثر من مائة عام قبل أن تقوم الديمقراطية في أمم كثيرة. فقد كانت عندنا أحزاب قبل أن يدخل الجيش البريطاني مصر ويحل البرلمان ويعطل الدستور. والمعركة التي خاضها شعب مصر عشرات السنين كانت من أجل الاستقلال والدستور ومن أجل حق هذا الشعب أن يحكم نفسه بنفسه بصفته شعباً بلغ الرشد ليس في حاجة إلى وصاية من أحد. إنها روح الإسلام الخالد.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع تعدد الأحزاب لأن الأحزاب هي إرادة الشعب تنبعث من تحت الأرض لا تفرض من فوق في كل يوم تظهر آراء جديدة وأفكار جديدة واتجاهات جديدة ومن الظلم ومن الظلم أن نحبس هذه الأفكار في ستة أحزاب لا يزيد أنصارها جميعاً على مليون صوت أما عشرات الملايين فهم بعيدون تماماً عن الأحزاب الستة الموجودة. أن الشعب وحده هو الذي يؤلف الأحزاب وهو الذي يلغي الأحزاب.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع الذين يطاليون فوراً بوضع دستور جديد يرضاه الشعب، يتجرد من المواد الشاذة التي تقيد الحريات وتكمم الأفواه ـ لتصبح الشريعة الإسلامية فيه المصدر الرئيسي للتشريع والسبيل القوي لعلاج الخراب. وأن يعود للمسجد دوره رئةً للشعب ومنطلقاً للزحف والبناء.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع كل من يهتف بسقوط مبدأ الاستفتاء إلى بالنسبة للتعديلات الدستورية التي يقررها المجلس النيابي أولاً لأن الديمقراطية في مصر أقدم من الديمقراطية في أي بلد آخر وأن معالجة أخطاء الديمقراطية تكون بديمقراطية أكثر وبحرية أكثر.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني مع كل من يعتقد أننا كنا قدوة للعالم الثالث في قيام حكم الفرد وفي إلغاء الحريات وإلغاء حقوق الإنسان وواجبنا اليوم بعد سقوط هذا النظام في مصر أن نتحول لنكون قدوة للعالم الثالث في إعادة حكم الشعب وإعادة الحريات وإعاة حقوق الإنسان.
أمامك أيتها المنصة:
أعلن أنني ضد التجربة الفاشلة للتطبيق الاشتراكي في مصر، المستوردة والمفروضة علينا، لقد فشلت التجربة تماماً 100% لأن القائمين على تطبيق الإشتراكية عندنا كان همهم الإثراء السريع العاجل مهما كانت وسيلته. كانوا قدوة سيئة لكل شعب مصر. كانت الحراسات للنهب والتأميم للسلب والمصادرة للسرقة والمال العام للخطف كل من أراد أن ينهب فقد نهب وكل من أراد أن يثرى من المال الحرام فقد أصبح غنياً، لقد أصبح المليونيرات في مصر بالآلاف بشرف وبغير شرف من المال الحلال أو من المال الحرام. لم يكن لأي معنى كريم وجود طيلة 30 عاماً الماضية إلا في ذهن وفي أعماق قلة شريفة طاهرة عفيفة عالية الصوت قوية النبرات تمت نصفية معظمهم من كل المواقع.
درس المنصة
نعم.. سقط النظام كله الذي بدأ صباح 23 يوليو 1952.
وانتهى على المنصة ظهر يوم 6 أكتوبر 1981.
نعم ..سقط وانتهى مع السادات.
سقط بعد أن أضاع ثلاثين عاماً من عمر الشعب.
نعم ..المنصة ستبقى رمزاً لنهاية عصر من أسوأ عصور التاريخ في مصر.
مصر ضحت وخربت وضاعت وتخلفت وأفلست فيه.
نعم ..المنصة ستكون رمزاً لبداية عصر من أبهى عصور التاريخ.
إذا فهمنا الدرس ووعينا العبرة والعظة وعرفنا ماذا يريد الناس.
نعم ..ماذا يريد الناس بعد سنوات القهر والطغيان ثم سنوات الكذب والخداع؟
ماذا يريد الفقراء والشباب والأجيال الصغيرة البريئة؟
الكل بدأ يتكلم بصوت عال وبنبرات واضحة.
بعد أن تكلمت الرشاشات أمام المنصة.
يمكنك أن تسمع بوضوح الناس يقولون: لا نريد .. ونريد.
كما أسمعتنا الرشاشات عى المنصة بالأمس: يسقط ... ويحيا.
الآن بعد 6 أكتوبر 81.
الناس يقولون بصوت عال جداً: لا نريد حزباً واحداً ملهماً.
بل نريد حياة ديمقراطية سليمة بأحزاب حقيقية يدخلها الشعب كل الشعب.
لا نريد نجيباً جديداً ولا عبد الناصر آخر ولا سادات.
بل نريد أن تصبح الأمة حقيقة هي مصدر السلطات.
لا نريد تزويراً ولا تلفيقاً حتى يتمتع الشعب بحقه في حرية اختيار نوابه وممثليه.
لا نريد نعم نعم من جوا القلب بل نريد نعم ولا معا.
بل نريد حياة برلمانية فلا قيود ولا أغلال تحاط بكل ضمانات الحرية والاستقلال.
لا نريد انتخابات بالقائمة المطلقة أو القائمة النسبية.
بل نريد الحق المقدس للناس ـ اتقوا الله ـ لسنا في حاجة إلى تجارب جديدة كفى ما حدث من خراب وضياع. لا نريد إمعات ولا وصوليين ولا منتفعين.
بل نريد كفاءات وقدرات وضمائر في برلمانات تراقب وتحقق وتدقق وتفحص كل مليم ينفق من أموال الشعب.
لا نريد شعارات وهتافات واناشيد .. باسم الصحوة أو النهضة.
بل نريد دراسات علمية بكفاءات وقدوات في مواقع القيادات وتعرية شاملة لكل الانحرافات.
لا نريد صحافة مكممة تطبل وتزمر للحاكم.
نريد صحافة حرة تعبر عن مشاعر الشعب.
انتبهوا أيها السادة.
لقد بدأت الأجراس تدق فوق المنصة.
ولن تستمر الأجراس تدق طويلاً.
يجب أن يبدأ الإصلاح فوراً بتغيير شامل في خطوات متتالية منتظمة لا بديل عنها ولا تحتمل الانتظار.
الدستور
الأحزاب
الصحافة الحرة
لا تحرموا الناخب من اختيار النائب الذي يمثله.
إنه حق مقدس للناس.
هذا هو طريق الإصلاح يبدأ بالتغيير بالشامل بإرادة الشعب حتى لا تضيع مصر مرة أخرى.
اللهم فاشهد .. أني قد بلغت.
اسأل الله لي ولزملائي من الضباط الأحرار شباب 1952 شيوخ اليوم، الأحياء منهم والأموات الذين استطاعوا أن يكونوا أطهاراً حتى ظهر 6 أكتوبر 1982.
ليس كل من خرج ليلة 23 يوليو 1952 ولكن لهؤلاء فقط.
اسأل الله لي ولهم المغفرة والتوبة وحسن الختام بعد درس المنصة.
لم نكن ندري .. والله على ما أقول شهيد.
ونحن شباب صغير السن في مطلع الخمسينات أننا نقدم بلادنا الحبيبة ليلة 23 يوليو إلى حفنة غير رشية وإلى عهد استبد فيه القهر والطغيان والكذب والخداع والضياع عندما غابت الديمقراطية.
غفر الله لنا وحفظ مصر.
وعوضكم خيراً يا شباب مصر.
تلك إجاباتي عن سؤالي الحائر.
" قل أي شيء أكبر شهادة ..
قل الله شهيد بيني وبينكم" ""صدق الله العظيم"".
أبطال حادث المنصة
الحديث عن قاتلي السادات له أهمية كبرى ولذلك أفردت له هذا الفصل من كتابي هذا .. وبداية فإنه يطيب لي ان أطلق عليهم لفظ الأبطال الأربعة، فالقاتل مجرم بمدلول اللفظ، وهم ليسوا كذلك على الإطلاق، فأسماء خالد الإسلامبولي وعبد الحميد عبد السلام وعطا طايل وحسين عباس سوف تعرف طريقها للخلود إن آجلاً أو عاجلاً، وسوف تضمها صفحة واحدة في التاريخ مع اسم سليمان الحلبي البطل المصري الذي خلص شعبه من كليبر.
عموماً فأنا لا أعني بذلك تشبيهاً بين القتيلين، اللهم إلا الجرأة والإقدام التي جمعت بين الأبطال الأربعة وسليمان الحلبي.
ولما لا يكونوا أبطالاً وقد عبروا بكل الصدق عما يجيش في صدر كل شاب مصري في هذه الأيام، وقد فتحت السجون أبوابها لأترابهم دون جريرة أو ذنب ارتكبوه إلا بدعوى إحداث فتنة طائفية في البلاد هم أبعد الناس عن أن يقدموا على مثل هذه الأقعال، وما أراها إلا حجة لكبت هذا الشباب الذي مثل خطراً واضحاً على الحكم بعدما أصبح يمثل قطاعاً عريضاً من شباب البلاد البلاد خاصة المثقفين والمتعلمين منهم .. ولست هنا بصدد تحليل هذا الموقف، إلا أنني أردت أن أعكس التأييد الشعبي لمثل هذه الخطوة التي قوبلت بارتياح شديد خاصة بعد أن هدأت النفوس من روعة الحدث نفسه.
وعندما أصفهم بالأبطال فإنما أعني الكلمة بمعناها الحرفي، ويقيني في ذلك أنهم عبروا تماماً عن رغبة كامنةفي الصدور كما أسلفت، وخاصة أن هؤلاء مثلوا اتجاهاً شبابياً أرى فيه الحل الأوحد والذي أأمل من خلاله لمستقبل طيب عندما يأتي الدور على هؤلاء الشباب ليتولوا القيادة بطبيعة الحياة التي لن تخلّد إنساناً مهما كان .. ولعلني هنا أشير إلى نقطة هامة هي أن الأبطال الأربعة وهم محور حديثي لم يمثلوا تياراً متعنتاً أو متطرفاً كما يحلو للبعض أن يسميهم، بل إنهم شباب معتدل عاش حياة عادية متمسكا فيها بدينه الحنيف، ولعل ذلك ما يؤكد كلامي مرة أخرى من أنهم عبروا تماماً عما يتمناه كل مصري في هذا الوقت من الزمان.
السادات هدفهم
كان هدفهم الأول والأخير هو الخلاص من شخصية أنور السادات التي تحولت في الفترة الأخيرة من حياته إلى شخصية متسلطة تهدد مستقبل البلاد بما انحرف به إلى اتجاهات لا يعلم إلا الله وحده مداها لو أنه أمد في حياته أعواماً أخرى، بل لا أبالغ إذا قلت شهوراً قليلة أخرى وذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي على السواء، ولأنهم يدركون تماماً أن المسألة لا تحتاج إلى قلب نظام الحكم كما افترى عليهم البعض لأنهم يدركون أيضاً أن نظام الحكم عندنا مبني وقائم في الأساس على شخصية الحاكم، وأخيراً فهم بعيدون عن هوى السلطة والحكم، فقد كان هدفهم الأوحد هو الخلاص من هذه الشخصية، وقد كان بإمكانهم ـ لو أرادوا ـ لأن يقضوا على مساعديه ووزرائه لو أن هدفهم هو الاستيلاء على مقاليد الحكم، ولكنهم اكتفوا بجعله عبرة للحكام الآخرين.
فلم يكن الأمر قلباً لنظام الحكم كما ادعى البعض وأجهزة الإعلام بهدف التمهيد لضرب هذا التيار بأجمعه، ولعل ما يؤكد كلامي هو الإعداد المبسط لعملية اغتيال السادات .. أربعة أو خمسة شباب التقوا عند نقطة حتمية الخلاص من الحاكم ـ أو فرعون كما أطلقوا عليه ـ بعد ان حكموا عليه بالإعدام لما ارتكبه ـ في المقام الأول ـ في حقهم كشباب بدأ من ضيق الحياة التي يعيشونها ونهاية بجرح أليم دفين في صدر كل منهم من جراء قراراته الأخيرة.
فخالد الإسلامبولي، وهو شاب متعلم يمثل قطاع شباب الجيش أخوه وابن خالته وزوج شقيقته ضمتهم زنازين السادات، وعبد الحميد عبد السلام "الضابط السابق"، وعطا طايل "المهندس"، وحسين عباس "الرقيب المتطوع" تمنوا لحظة الاشتراك في مثل هذه الخطوة منذ زمن ليس ببعيد .. ولم لا، وكل منهم أصبح مهدداً في حياته ومستقبله، فالمسألة بالنسبة لهم لم تكن طمعاً في سلطان . وإن كان قد تيسر أمامهم في منصة اكتظت بمعظم رجالات السلطة وليست بينهم "طلقة" يدافعون بها عن حياتهم،وفي المقابل كان لدى هؤلاء الأربعة ما يكفي للقضاء عليهم جميعاً .. وإنما الهدف كما لت هو خلاص البلاد من شرور حاكم طاغ أعماه مرض السلطة، وركبه الغرور، حتى خال نفسه آخر الفراعنة، بل لا نعد متجاوزين إذا قلنا أنه كفر عندما قال: "لا يبدل القول لدي" ... وسبحان رب العالمين، القادر القاهر .. المعز المذل.
السادات قتل نفسه
كثيراً ما أضحكني تحليل البعض لقتل السادات من أنه مخطط أجنبي أو أمريكي على وجه التحديد بدعوى الحفاظ على نظام الحكم في مصر .. وبداية فإنني أقول أن أي نظام حكم عننا في مصر يمثله شخص واحد .. أما الشعب فما تزال كلمته مكبوتة رغم مسحة الديمقراطية التي نعيشها، ثم لماذا تحرص أمريكا على الخلاص من هذا النظام، مع ثقتها الكاملة بأن ما تريده من السادات سينفذ كاملاً ..
وهؤلاء الذين يدعون أن أمريكا كانت وراء خلع شاه إيران، أما رأوا الإجماع الشعبي هناك على خلعه، أم أنهم بمنطقهم هذا قد جعلوا الشعب الإيراني بأكمله عملاء أمريكا ثاروا لتنفيذ ما أرادته أمريكا .. بل ماذا كانت تفعل أمريكا لحاكم بفظه شعبه.
عموماً لا أريد أن أكرر كلامي بأن الحدث كان شعبياً بحتاً، ومن غير جهد أو اجتهاد إذا أردنا أن نعرف قاتل السادات الحقيقي، فلن نجد سوى السادات نفسه، الذي حكم على نفسه بالإعدام بسياسته الداخلية والتي اختتمها بعدة قرارات نسفت كل ما فعله من غنجازات.
إن عملية اغتيال السادات على النجو الذي تمت به، والإعداد الذي سبقها، لا ينم أبداً عن جهة أجنبية كانت وراءها، وأن مسألة تزامن الاغتيال مع استعراض الطائران لم يكن إلا توفيقاً زاد من عامل المفاجأة، والتي كانت حتماً ستتم ولو لم تستعرض الطائرات في هذه اللحظة بالذات.
من هم الأبطال الأربعة؟
• خالد أحمد شوقي الإسلامبولي من مواليد ملوي في 14 نوفمبر 1958 .. ملازم أول، تخرج في الكلية الحربية عام 1978 مع مرتبة الشرف .. له أخ واحد "محمد"، وأختان "أنيسة وسمية" وهو الثالث بينهم .. لم يتزوج يجيد الرماية وحصل على عدة بطولات بها في القوات المسلحة ..
• عبد الحميد عبد السلام عبد العال علي.. من مواليد ملوي في 12 مارس 1953 .. ملازم أول سابق .. لاعب رفع أثقال وحاصل على بطولة في الرمح أثناء تعليمه الثانوي .. له خمسة أشقاء وشقيقتان: عاصم وعفاف وعفت وعبده وعرفان وعزة وعلي .. متزوج وله ابن واحد اسمه عبد السلام كان عمره 9 أشهر عند اغتيال السادات ..
• عطا طايل حميدة رحيل .. من مواليد قرية رحيل مركز الدلنجات محافظة البحيرة، وكان عمره وقت تنفيذ العملية 27 عاماً .. ملازم أول مهندس احتياط، تخرج في هندسة الإسكندرية قسم ميكانيكا .. كان على وشك الزواج ...
• حسين عباس محمد من مواليد ملوي محافظة المنيا، وكان عمره وقت تنفيذ العملية 28 عاماً .. رقيب متطوع بالقوات المسلحة .. له شقيق وشقيقتان .. متزوج ورزق بولده الوحيد قبيل اغتيال السادات بخمسة أيام .. قناص ماهر ..
نظرة على المستقبل
وبعد .. ترى هل نجح الأبطال الأربعة فيما رموا إليه، واعتبر به اولو الألباب، واستمعنا جميعاً جيداً إلى ناقوس التحذير الذي دقوه على مسامعنا، أم ان التاريخ سوف يكتب عن اغتيال السادات بأنه لحظة انفعالية من بعض شباب مصر لم تترك أي آثار تحولية في ركب حياتهم؟
في يقيني أن الإجابة الموضوعية عن هذا السؤال .. أن نظام الحكم لم يستوعب الدرس، وأن المناخ السائد لم يتغير كثيراً عنه قبيل اغتيال السادات، بل لا نبالغ إذا قلنا أن السلطة لجأت إلى الزج بالشباب المسلم وراء القضبان بأعداد أكبر من أيام حكم السادات .. وما يتم حالياً من محاولات لاغتيال بعض الشخصيات التي مارست التعذيب، او مورس التعذيب على عهدها، لهو أصدق دليل على أن الصدور تغلي وأن السلطة لم تستوعب الدرس، ولم تع جرس الإنذار الذي دق بعنف يوم السادس من أكتوبر عام 1981.
والشعب يفهم جيداً ويعي ـ بذكاء شديد ـ أن الخطب الرنانة والحديث المسهب عن الديمقراطية والحرية، ما هو إلا أشكال ديكورية فقط، وأن قانون الطوارئ ما زال قائماً كالسيف على الرقاب، وأن القوانين سيئة السمعة ما زالت تطارد الأبرياء، وأن الدستور ما يزال مفصلاً لإعطاء رئيس الدولة سلطات واسعة بغير حساب .. كل هذا يؤكد أن حادث المنصة يوم 6 أكتوبر 1981 لم يكن إلا مجرد الشرارة الأولى لأحداث ضخام ستجد السلطة نفسها أمامها ذات يوم قريب وجهاً لوجه .. ويومها سوف يعرف الظالمون أي منقلب ينقلبون.