الفصل الثاني: وصف قشرة الأرض
الفصل الثاني: وصف قشرة الأرض
يمكننا أن نصف الأرض من الناحية الطبيعية بأنها عبارة عن كرة من الصخر هائلة الحجم تتكون قشرتها الخارجية من عدة أغلفة ترتكز على نواة باطنية مركزية هي التي تعرف باسم كتلة الباريسفير (مشتقة من الكلمة اليونانية Baros ومعناها قل). وتتكون هذه الكتلة الباطنية في جملتها من معادن ثقيلة كالحديد والنيكل، وهي لهذا كثيرا ما يطلق عليها اسم كتلة النيف Nife على أساس أن هذه الكلمة تجميع بين الحرفين الأولين من كلمة نيكل، وكلمة حديد Ferrum. ووجود هذه المعدنيين بنسبة كبيرة في باطن الأرض هو السبب في إعطاء الأرض تلك الخاصية المغناطيسية التي تتميز بها.
أما الأغلفة الخارجية التي تحيط بالنواة المركزية فتتمثل في الغلاف الصخري Lithosphere (مشتقة من كلمة Litho اليونانية ومعناها صخر)، والعلاف المائي Hyposphere ، والغلاف الغازي Atmosphere، ويمكننا أن نضيف إلى هذه الأغلفة الثلاثة غلافا آخر وهو الغلاف الحيوي Biosphere. وعلى هذا نجد أن هنالك أربعة نطاقات تحيط بنواة الكرة الأرضية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أغلفة الكرة الأرضية
الغلاف الغازي
أما الغلاف الغازي فهو عبارة عن طبقة من الغازات والأبخرة تغلف الكرة الأرضية وتتألف في جملتها من غازي النيتروجين والأكسجين (78%، 21% حجما على التوالي)، بالإضافة إلى غازات اخرى تتقاسم نسبة ضئية من مجموع الغازات التي يتألف منها الغلاف الغازي. وتتمثل في غاز الأرجون Argon، وغاز الهيلوم Helium، وثاني أكسيد الكربون ، وبخار الماء . وسنرى فيما بعد كيف أن الغلاف الغازي باعتباره بمثابة المحور الذي تتمثل فيه كل صور الجو وظواهره لابد أن يكون له أثر كبير في تشكيل سطح الأرض وتغيره.
الغلاف المائي
أما الغلاف المائي الذي يتمثل في مياه المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار، فيغطي حوالي 71% من مساحة الأرض، ولا يقتصر امتداد هذا الغلاف على مناطق الأحواض المحيطية ومجاري الأنهار والبحيرات فوق قشرة الأرض، بل يمتد أيضا على مناطق الأرض ممثلا في تلك المياه الجوفية التي تملأ الفراغات البينية في التربة، كما تملأ الشروخ والفوالق التي توجد بكثرة في بعض الأنواع الصخرية، فكأن هنالك إذن طبقة مستمرة من المياه التي تحيط بالكرة الأرضية بحث تملأ الأحواض المحيطية وتتشبها بها صخور الكتل القارية . ولهذا الغلاف المائي هو الآخر آثار كبيرة على تشكيل قشرة الأرض كما سنرى فيما بعد عند الكلام عن جيومورفولوجية السواحل وأثر المياه الجوفية في تغيير سطح الأرض سواء بالنحت أو بالإرساب.
الغلاف الحيوي
أما الغلاف الحيوي فهو عبارة عن ذلك النطاق الذي تتمثل به شتى صور الحياة على سطح الأرض، بحيث يمتد هو الآخر مغلفا للكرة الأرضية في منطقة الاحتكاك بين الغلافين الغازي والصخري، وذلك لأنه تكون في الواقع نتيجة التفاعل بين هذين الغلافين. وأهمية هذا الغلاف بالنسبة لدارسي الجغرافيا بصفة عامة أهمية عظمى لا يمكن إغفالها، كما أن له تأثيرا مباشرا في تشكيل سطح الأرض، إذ أنه بالاضافة إلى كونه يمثل أحيانا عاملا مساعدا في تكوين بعض الأنواع الصخرية نجده كثيرا ما يساهم كذلك في عمليات النحت المختلفة.
الغلاف الصخري
أما الغلاف الصخري فهو ذلك الغلاف الذي يتأثر – كما بينا من قبل – تأثيرا كبيرا بالأغلفة السابقة، وهو الذي كثيرا ما يطلق عليه اسم قشرة الارض، وتتكون هذه القشرة الخارجية من أنواع عديدة ومتباينة من الصخور تتوزع على سطح اليابس، وتتكون منها قيعان المحيطات، مع ملاحظة أن صخور الغلاف الصخري على اليابس تغطيها دائما طبقة صخرية مفككة كونتها عوامل عديدة ومتعددة، وهذه الطبقة المفككة هي التي تتألف منها التربة وبعض الإرسابات الرملية كتلك التي تملأ المناطق الحوضية في الجهات الصحراوية.
ويكن أن نقسم الغلاف الصحري إلى ثلاثة مناطق متفاوتة في السمك والكثافة والتكوين الصخري ، نجدها على النحو الآتي:
القشرة السطحية الخارجية
وأهم ما يميزها أن الصخور التي تتكون منها صخور غير متجانسة Heterpgenous أفقيا عند مستوى معين، إذ تتألف في بعض الجهات من تكوينات صخرية رسوبية، وتتألف في جهات أخرى من صخور نارية سواء كانت هذه الصخور النارية حمضية ترتفع بها نسبة السليكا الداخلية في تكوينها أو صخور نارية قاعدية تقل بها نسبة السليكا، وقد جرى العرف على تسمية مجموعة الصخور النارية الحمضية أو الجرانيتية – بمعنى آخر – بصخور السيال Sial (وهي كلمة تجمع بين الحرفين الأولين لمادتي السليكا Silica والألومنيوم ALuminium) كما أنه كثيرا ما تعرف الصخور النارية القاعدية أو البازلتية بصخور السيما Sima (وهي كلمة تجمع بين الحرفين الأولين من صخور عضوية)، وإزاء هذا التباين في التكوين الصخري لهذه القشرة نجد أنه كثيرا ما يطلق عليها اسم طبقة السالسيما Sal-Sima.
طبقة السيال
تتكون في جملتها من صخور جرانيتية متجانسة، وهذا هو الفرق الرئيسي بينها وبين القشرة الخارجية التي تعلوها. وتتكون هذه الصخور من الناحية المعدنية من نسبة كبيرة من السليكا بينما يحتل معدن الألومنيوم المقام الثاني بين مجموعة المعادن التي تدخل في تكوينها. وتبلغ كثافتها في المتوسط 2.7 ولاحظ أن سمك هذه الطبقة يختلف من مكان إلى آخر على سطح الأرض، إذ تكاد تختفي اختفاءا تاما من قاع المحيط الهادي، كما أن سمكها تحت المناطق الجبلية أكبر بكثير من سمكها تحت المناطق السهلية، ولهذا نجد أنه من الصعوبة بمكان أن نحدد سمكها تحديدا دقيقا، ويكفي أن نذكر هنا أن المتوسط الذي اتفق عليه معظم العلماء هو 50 كم تقريبا.
طبقة السيما
وتتكون من صخور نارية قاعدية تتراوح كثافتها بين 2.9-3.6 ويبلغ سمكها حوالي 120 كم. ويمكننا أن نتصور دائما تلك الطبقة السفى من الغلاف الصخري ليست في حالة تامة من الصلابة بل تتميز بمرونة واضحة، واذا أخذنا بهذه الفكرة أمكننا أن نفسر تعرض القشرة الخارجية للأرض للالتواء والانثناء والهبوط، ولاستطعنا كذلك أن نفسر ظاهرة النشاط البركاني على أساس أن هذه الطبقة المرنة قد تتحول المواد التي تتكون منها إلى حالة منصهرة إذا ما ارتفعت درجة حرارتها لسبب من الاسباب. ولهذا يمكن أن نقول بأن طبقة السيما تعتبر في الواقع المصدر الرئيسي لحمم اللابه والمصهورات البركانية التي تنبثق من فوهات البراكين.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة في تلك الطبقة تفكك وتفاعل المواد المشعة التي يكثر وجودها في طبقة خارجية من قشر الأرض لا يزيد سمكها على العشرين ميلا، كما توجد هذه المواد في نفس الوقت بنسب أقل في الطبقات الداخلية التي تتكون منها الكرة الأرضية. ولهذا السب يمكننا أن نعزو ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة بالتعمق في باطن الأرض – بالمعدل المعروف، وهو درجة واحدة مئوية في كل ارتفاع 31.8 مترا – إلى أثر تحلل وتفكك المواد المشعة السابق ذكرها ، وهذه الظاهرة لا تتعلق اذن بكون باطن الأرض في حالة منصهرة أو شبه منصرة – كما يعتقد عدد كبير من العلماء – بحيث تنبعث منه الحرارة على هيئة موجات تنتقل من باطن الأرض إلى سطحها، بل ترجع إلى أن المعدل السابق ذكره، قد سجله العلماء في المناجم والآبار العميقة التي توجد في قشرة الأرض، والتي انما ترتفع درجة الحرارة فيها نتيجة لتفكك المواد المشعة السابق ذكرها. ولهذا لا يمكننا أن نجزم بأن درجة الحرارة ترتفع باطراد كلما تعمقنا في باطن الأرض من قشرتها إلى مركزها حتى تصبح درجة حرارة المركز أثر من 5000 درجة مئوية وهي درجة أعلى من درجة غليان الحديد.
تحليل المنحى الهبسومتري لتضاريس الكرة الأرضية
يتميز سطح الغلاف الصخري بالاضافة إلى الخصائص السابقة بتباينه في الارتفاع والانخفض، واذا حاولنا أن نرسم رسما بيانيا لمستى سطح الأرض بحيث نوضح فيه أعلى ارتفاع تصل إليه تضاريس الأرض الموجبة وأعمق غور تصل اليه تضاريسها السالبة (شكل 1)، لوجدنا أن هنالك منسوبين واضحين، أحدهما يمكن أن نطلق عليه اسم الرصيف القاري Continental platform ، ويمكن أن نسمى الآخر بمستوى الرصيف البحري العميق Deep-sea platform. ويعرف الخط المنحدر الذي يصل بين هذه المنسوبين بالمنحدر القاري Continental slope، وكثيرا ما تغمر مياه المحيطات والبحار الأجزاء الهامشية من الأرصفة القارية، وتعرف الأجزاء المغمورة بالمياه من هذه الرفارف بالرفارف القارية Continental shelves، وغالبا ما تمتد مثل هذه الحافات بعيدا عن خطوط الوساحل، ويتراوح انخفاضها عن مستوى سطح البحر بين 150-200 متر، ولهذا نجد أن الأحواض المحيطية تبدأ في الواقع عند نهايات الرفارف القارية المغمورة بالمياه وليس عند خطوط السواحل كما قد يتصور البعض. وتبلغ جملة المساحة المغمورة من هذه الأرصفة حوالي 11 مليون ميل مربع تقريبا، وهي تلك التي تعرف بالبحار الساحلية Epicontinental seas، ومن أمثلتها بحر الشمال، وخليج هدسون، بحر البلطيق، ومساحات كبيرة من البحر الأبيض المتوسط.
وجدير بالذكر أنه إبان العصر الجليدي عندما تكونت الغطاءات الجليدية السميكة فوق مساحات واسعة من شمال اوروبا، وشمال قارة أمريكا الشمالية، كانت معظم البحار الساحلية التي توجد في هوامش الكتل القارية عبارة عن أرضي يابسة لا تغمرها مياه المحيط. وقد ظهرت هذه البحار بعد ذوبان الجليد وانتهاء العصر الجلديي، وعلى هذا اذا افترضنا نظريا ذوبان الغطاءات الجليدية المتراكمة في وقتنا الحالي – فوق جزيرة جرينلند والجزء الأكبر من مساحة قارة أنتاركتيكا، فلابد أن يعق هذا طغيان مياه المحيط على تلك الكتل القارية وتكون بحار ساحلية على غرار خليج هدسون وبحر البلطيق وبحر الشمال.
تباين تضاريس الكتل القارية
وتتميز الكتل القارية بوجه خاص بتباين تضاريسها من سهول إلى هضاب إلى سلاسل جبلية يصل أقصى ارتفاع لها إلى 29140 قدم (قمة إفرست). أما قيعان الأحواض المحيطية فهي دون شكل أقل تضرسا من كتل القارات ذاتها، ولكنها رغم هذا توجد بها بعض الجزر والحافات البحرية الغائصة Submarine ridges كحافة دولفن Dolphin ridge، التي توجد غائصة تحت مياه المحيط الأطلسي الشمالين وتظهر لها نتوؤات بارزة توجد على هيئة جزر كمجموعة جزر آزور التي هي في الواقع عبارة عن بعض القمم العالية لهذه الحافة، التي تخترق المحيط الأطلسي الشمالي من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي. ومن أمثلة هذه الحافات أيضا حافة تشالنجر الغائصة تحت مياه المحيط الاطلسي الجنوبي، والتي لها هي الأخرى نتوءات بارزة فوق سطح البحر تظهر على هيئة جزر محيطية كجزيرة أسنسيون Ascension Island، وجزيرة تريستان داكونا Tristan da Cunha.
كما تتميز كذلك قيعان المحيطات بوجود أخاديد بحرية عميقة تجاور في معظم الحالات نطاقات جبلية التوائية تمتد على طول هوامش الكتل القارية، ويتمثل الاقليم الرئيسي لمثل هذه الأخاديد البحرية في ذلك النطاق الدائري الذي يقع حول المحيط الهادي، حيث توجد هذه الأخاديد متجاورة مع الجزر القوسية التي توجد في شرق آسيا كجزر ألوشيان Aleutian، وجزر كوريل Kurile، وقوس الجزر اليابانية، وقوس جزر ريو كيو Ryu Kyu، وقوس جزر الفلبين، وقوس جزر سوندا، وتجاور كل هذه الاقواس الجزرية أخاديد بحرية عميقة لعل أكثرها غورا أخدود إمدن، الذي يوجد إلى الشرق من جزر الفلبين إذا يزيد عمقه على 10800 متر.
ظاهرة التوزان الأرضي
ظاهرة التوازن الأرضي Isostasy، لم تعد مجرد نظرية قد يشك في صحتها، بل انتقلت من حيز المسائل النظرية إلى حيز الظاهرات الحقيقية التي تشاهد بالحس والتي استطاع العلماء أن يسجلوها في كثير من جهات العالم وأن يعتقدوا فيها اعتقادا راسخا.
ويمكن ايجاز هذه النظرية في أن ارتفاع الكتل القارية بالنسبة للأحواض المحيطية إنما يرجع إلى أن الصخور التي تتكون منها كتل القارات صخور قليلة الكثافة خفيفة الوزن وهي صخور السيال الجرانيتية التي لا مفر من طفوها فوق صخور السيما الثقيلة الوزن والمرتفعة الكثافة، والتي تتكون منها قيعان الأحواض المحيطية،ولذلك تبدو تلك الكتل كالسفن الطافية فوق سطح الماء. ويمكن القول كذلك بأن السلاسل الجبلية ترتفع هي الأخرى فوق سطح القارات لأنها تتكون من صخور قليلة الكثافة لها جذور تمتد إلى أعماق بعيدة عن سطح الأرض.
ولكي تحتفظ كتل السيال الجرانيتية – التي تكون القارات – بتوازنها فوق طبقة السيما البازلتية التي تكون قيعان الأحواض الميحيطة، ولكي تحتفظ السلاسل الجبلية المرتفعة أيضا بتوازنها فوق كتل القارات، لابد أن يغطس ويتعمق جزء كبير منها في طبقة السيما يبلغ في المتوسط حوالي ثمانية أمثال الجزء الظاهر من هذه الكتل فوق سطح الأرض. وهي في هذا تشبه الجبال الثلجية التي إنما يساعد على حفظ توازنها فوق سطح الماء أن أجزاءها الغائصة تبلغ في المعتاد تسعة أمثال الأجزاء الظاهرة منها فقو سطح البحر، فالأجزاء الغاطسة من كتل السيال في طبقة السيما عبارة عن أعمدة تحفظ توازن الأجزاء الظاهرة فقو طبقة السميا أو الطافية فوقها بمعنى آخر. فكأن كتل القارات إنا يساعد على حفظ توزانها أنها تتألف من مواد جرانيتية خفيفة تتمعق في مادة السيما البازلتية الثقيلة، وبذا تشغل في هذه المادة الأخيرة فراغا لولاه لشغتله المواد البازلتية، ولأصبحت الجبال والقارات موادا زائدة عن حاجة الارض، ولكانت عرضة لأن تتطاير مع دوران الكرة الأرضية.
ويؤدي الأخذ بنظرية التوازن إلى الاعتقاد بأن طبقة السيما التي تمثل الطبقة السفلية من الغلاف الصخري، لابد أن تكون في حالة سائلة كي تتمكن كتل السيال من أن تتعمق فيها بسهولة. أما اذا كانت طبقة السيما في حالة تامة من الصلابة فلا يمكن بأي حال لجذور كتل السيال من أن تتعمق فيها. ولكننا اذا تذكرنا ما قيل من قبل من أن طبقة السيما في حالة مرنة، فإن هذا يفسر لنا توازن كتل السيال فوق طبقة السيما المرنة المطاطة التي تتكون منها في أغلب الحالات قيعان الأحواض المحيطية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اختلاف التوازن الأرضي
ومن المؤكد الآن أن حالة التوازن الأرضي حالة نظرية نادرا ما تتم، وذلك بسبب العمليات الجيولوجية التي تؤثر في منطقة ما ويتسبب عنها إزالة بعض التكوينات من قمم الجبال وإرسابها في المناطق المنخفضة، كما أن تراكم الرواسب بشتى أنواعها وتكون الغطاءات الجليدية إلى غير ذلك مما ينجم عن العمليات الجيولوجية المختلفة التي تشكل سطح الأرض، لابد أن يؤدي إلى الاخلال بحالة التوازن الأرضي التي ذكرناها. فاذا ما عملت عوامل النحت مثلا على تقطيع سلسلة جبلية متصلة إلى مجموعة من القمم الجبلية تفصل بينها أودية عميقة، أو اذا أزالت هذه العوامل بعض التكوينات من تلك القمم، فان معنى هذا أن كتلة عمود السيال الذي يتعمق في مادة السيما تحت السلسلة الجبلية المذكورة لابد أن تتناقص، ولابد أن يزيد في نفس الوقت الضغط الواقع على عمود مجاور يقع تحت منطقة دلتاوية نتيجة تراكم الوراسب الدلتاوية فوقه، ولهذا لابد أن تحدث حركة ما في طبقة السيما بحيث تعمل على استعادة توازن هذين العمودين إلى ما كانا عليه قبل تعرضهما لعوامل النحت والإرساب، فيهبط العمود الذي زادت كتلته ، ويرتفع العمود الذي اقتطعت منه بعض التكوينات، ونظرا لمرونة الطبقات السفلى من الغلاف الصخري وعدم سيولتها فإن مثل هذا الارتفاع والهبوط في الكتل اليابسة لابد أني يستغرف وقتا طويلا لكي يتم، وتسمى مثل هذه الحركات البطئية التي تتعرض لها قشرة الأرض بالحركات التوازنية isostatic movements.
أثر الغطاءات الجليدية في التوازن الأرضي
وتعتبر كتلة شبه جزيرة اسكندناوة التي تأثرت أكثر ما تأثرت بالغطاءات الجليدية التي تكونت في عصر البلايستوسين – أي ما يقرب من 25 ألف سنة – مثالا واضحا لما يحدث إذا ما تعرضت قشرة الأرض نتيجة ضغط الغطاءات الجليدية ، أثناء العصر الجليدي كان الجليد يغطي مساحة كبيرة من شبه جزيرة اسكندناوة والمناطق المحيطة بها تبلغ أكثر من مليون ونصف مليون ميل مربع وامتد الجليد من شبه الجزيرة صوب الجنوب والجنوب الشرقي، وغطى مساحات واسعة من شمال اوروبا، وقد بلغ متوسط سمك هذه الطبقة الهائلة من الجليد أثر من ثلاثة ألاف قدم، ووصل إلى أكثر من ستة آلاف قدم في بعض جهات النرويج. وقدر ضغط هذا الغطاء الجليدي السميك بأنه يعادل ضغط كتلة ضخمة من الصخر تبلغ حوالي 80 طنا على القدم المربع من قشرة الأرض.
وكان لابد إزاء هذا الضغط الهائل من أن تنوء قشرة الأرض وتتحول إلى حوض واسع عميق بلغ متوسط عمقه حوالي 275 مترا، وقد ظل هذا الحوض موجودا لفترة طويلة من الزمن بعد ذوبان الغطاءات الجليدية مما أدى إلى طغيان مياه البحر على كثير من جهاته، فمنذ بضعة آلاف من السنين كان بحر البلطيق وخليجا بوثنيا وفنلندا أكثر اتساعا مما هما عليه الآن، اذ أن بحر البلطيق القديم الذي يعرف باسم بحر بولديا والذي تكون في الانخفاض الهائل الذي أعقب ذوبان الجليد في شمال اوروبا، كان يشغل مساحة واسعة كما كان يتصل بالمحيط الأطلسي عبر سلسلة من البحيرات التي توجد في بلاد السويد الوسطى (ومنها بحيرة فنر Wenner وفتر Wetter) ويمتد بين هذا المحيط والبحر الأبيض الروسي مارا بسهول فنلندا، كما أن بلاد النرويج كانت هي الأخرى أكثر انخفاضا مما هي عليه الآن إذ غمرت المياه معظم سواحلها بعد انتهاء عصر الجليد، ثم أخذت الأرض ترتفع ارتفاعا تدريجيا بطيئا، وأخذت مياه المحيط في الانحسار، وظهرت الفيوردات على طول سواحل النرويج بعد أن كانت غائصة تحت مياه بحر الشمال، كما ارتفع قاع بحر يولديا القديم وانكمشت مساحته. ومازالت توجد في الوقت الحالي بعض الشواطئ المرتفعة في فنلندا وشبه جزيرة اسكندناوه ، ووجودها دليل قاطع على أن هذه المنطقة قد ارتفعت أكثر من 900 قدم منذ بداية فترة الارتفاع التالية للعصر الجليدي حتى وقتنا الحالي.
وترتفع المناطق الشمالية من خليج بوثنيا في الوقت الحالي ارتفاعا محسوسا بمعدل قدم واحد في كل 28 سنة، ويقدر أن هذا الاقليم لابد أن يرتفع 700 قدم أخرى حتى يستعيد في النهاية توازنها الذي فقده ، نتيجة تراكم الغطاءات الجليدية.
توزيع اليابس والماء
يتميز التوزيع الحالي لليابس والمياه ببعض الحقائق الفريدة التي أثارت الشئ الكثير من الجدل والنقاش بين العلماء منذ أن تم اكتشاف المعالم الرئيسية لتضاريس الكرة الأرضية. والذي يهمنا من هذه الحقائق ثلاث:
أولا: تركز المساحة الكبرى من اليابس في نصف الكرة الشمالي ،وتركز معظم الماء في نصفها الجنوبي. وهذه الحقيقة نجدها معكوسة تماما في المناطق القطبية، اذ أن المنطقة القطبية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية عبارة عن منطقة حوضية تملؤفها المياه ويحيط بها اليابس من كل الجهات تقريبا، أما شقيقتها في النصف الجنوبي من الكرة فعبارة عن كتلة قارية مرتفعة تحيط بها المياه من كل جهاتها.
ثانيا: تتميز القارات الثلاث الجنوبية: أفريقيا، وأستراليا، وأمريكا الجنوبية بامتدادها امتدادا كبيرا في نصف الكرة الجنوبي، كما تتميز أطرافها الجنوبية بضيق واضح اذا ما قورنت بالأجزاء الشمالية منها.
ثالثا: تقابل اليابس والماء، اذ أن حوالي 44.6% من مساحة سطح الكرة الأرضية تتميز بأن الماء فيها يتقابل مع الماء في الجانب اللآخر من الكرة، بينما نجد أن 1.4% فقط من جملة مساحة سطحها يتقابل فيها اليابس مع اليابس. والذي يهمنا في الواقع في هذا الصدد هو أنه 5% من مساحة اليابس تقابلها مياه المحيطات على الجانب الآخر من الأرض.
وقد ظلت هذه الحقائق الثلاث مجهولة لفترة طويلة إلى أن تمكن العلماء من نزع ستر مجاهلها، ورغم هذا ما زال الغموض يكتنف تفسيرها. وقد تقدم عدد كبير من العلماء بنظريات حاولوا فيها أن يفسروا بعض الحقائق الفريدة المتعلقة بتوزيع اليابس والماء، ويكفي أن نعرض في هذا المجال لبعض النظريات الهامة منها.
النظريات الهامة التي تفسر توزيع اليابس والماء
أولا: النظرية التتراهيدية
فقد تقدم الأستاذ لوثيان جرين بنظريته التتراهيدية Tetrahedral theory المشهورة (في كتاب باسم بقايا الأرض المنصهرة Vestiges of the molten globe) ، وقد نجحت هذه النظرية في أنها فسرت الحقائق الثلاث السابقة التي ترتبط بتوزيع اليابس والماء على سطح الكرة.
وفي اعتقاد صاحب هذه النظرية أن باطن الأرض قد تعرض للانكماش لانخفاض درجة حرارته لسبب ما مما أدى الى تكون فراغ بين الباطن المنكمش والقشرة الخارجية للأرض أعقبه تجعد في هذه القشرة وميلها الى اتخاذ شكل هرم ثلاثي بحيث تحتل البحار والمحيطات وجوه جوانبه، بينما تمتد على حوافه الكتل اليابسة اذا ما قام هذا المنشور على احدى رؤوسه. فالمحيط المتجمد الشمالي فينظر جرين يحتل السطح العلوي للهرم الثلاثي، وتحتل سيبريا وألاسكا الجوانب العليا على طول حافته الوسطن،ويظهر نفس نمط التوزيع على الجانب الآخر للهرم الثلاثي، حيث توجد الأمريكتين وآسيا وأستراليا ممتدة على حوافه، أما قارة أنتاركتيكا فتحتل رأسه (شكل-4).
واذا كان هذا التوزيع – كما هو واضح – يتمشى الى حد كبير مع التوزيع الحالي لليابس والماء الا أنه يتنافى تمام مع نظرية التوازن الأرضي، اذ أن الكرة الأرضية لو اتخذت بانكماشها شكل الهرم الثلاثي فان عامل التوازن الأرضي كفيل في النهاية بارجاعها الى شكلها المعروف، لأن ثقل حواف هذا الهرم لابد أن يؤدي إلى هبوطها وعودة الأرض إلى اتخاذ شكلها الكروي. كما أنه لو كانت النظرية صحيحة لوجب أن يكون أحد وجوه جوانب الهرم الثلاثي أكبر مساحة من الوجوه الأخرى، لأن هذا الجانب هو الذي يحتله المحيط الهادي.
وعلى أي حال كان من المحتمل أن تحدث فعلا ظاهرة انكماش الارض، واتخاذها شكل هرم ثلاث، لو كانت الكرة الارضية أصغر حجما من كوكبنا الذي نعيش فوق سطحه.
ثانيا تكون الأحواض الميحيطة واختفاء مادة السيال منها
ومن الموضوعات التي كانت محل نقاش العلماء ،واختلف فيها وجهات نظرهم ولم يصلوا إلى رأي قاطع بشأنها، موضوع تكون الأحواض المحيطية واختفاء طبقة السيال منها، اذ أنه اذا سلمنا بأن الكرة الأرضية قد انتقلت تدريجيا من المرحلة الغازية الأولى إلى السيولة ثم الصلابة –وما يتبع من ترتيب الكثافات الأرضية بحيث تطرد السليكات القليلة الكثافة الى الطبقات العليا من الأرض وترتكز المواد الثقيلة في باطن الأرض – اذا سلمنا بهذا لكان من المتوقع أن تغطي مادة السيال الجرانيتية التي تكون كتل القارات سطح الأرض بأكمله مكونة قشرة سطحية متصلة الأجزاء، بحيث تغلف الكرة الأرضية، ولكن مادة السيال تكاد تختفي في الواقع من قيعان المحيطات وبصفة هاصة من قاع المحيط الهادي.
ويدعو هذا بطبيعة الحال الى التساؤل عن مصير المواد السيالية التي كان مفروضا أن تملأ الأحواض المحيطية. فمن قائل بأن مادة السيال لابد أن تكون قد انتزعت من قشرة الأرض في مناطق الأحواض المحيطية، إلى قائل بأن هذه المادة مازالت تحتويها القشرة الخارجية للأرض.
أما أنصار الرأي الأول فيتزعمهم الأستاذ أزمند فيشر Osmond Fisher الذي علل اختفاء مادة السيال من قاع المحيط الهادي بالذات بأن الحوض الهائل الذي تشغله مياه هذا المحيط ما هو الا تلك المنطقة من قشرة الأرض التي سلخت منها مادة السيال لتكون كتلة القمر، وذلك في الوقت الذي تصلبت فيه القشرة الارضية (مع ملاحظة أن مادة السيال قد تم تكونها بعد أن تحولت الأرض إلى حالة الصلابة، وتم ترتيب الكثافات الأرضية بحيث ترتكز المواد الثقيلة في الباطن، وتطرد المواد الخفيفة (السيال) إلى السطح الخارجي. ومعنى هذا أن مادة السيال لم تكن قد تكونت بعد عندما كانت الأرض في حالة منصهرة)، ومما يؤيد نظرية فيشر أن حجم المادة التي تكون الكتلة الاجمالية للقمر يكفي لأن يملأ الفراغ الذي تشغله مياه المحيط الهادي بطبقة سمكها حوالي 60 كيلو مترا. وقد وجهت هذه النظرية بعض الاعتراضات التي يكفي أن نذكر منها ما يأتي:
(أ) أن سمك طبقة السيال التي تفترض النظرية انتزاعها من الأرض يفوق كثيرا سمك كتل السيال التي تكون القارات. (ب) أن كثافة المواد التي تكون كتلة القمر تزيد كثيرا على كثافة مادة السيال التي تكون الكتل القارية.
ويرد مؤيدو نظرية فيشر على هذين الاعتراضين بأن من المحتمل أن الجزء الذي انتزع من مادة السيال ليكون كتلة الثمر، لم يقتصر على هذه المادة وحدها، بل انتزعت معه أجزاء من مادة السيما، وهذا يعلل السمك الزائد والكثافة الكبيرة.
ولكن حتى مع امكان الرد على هذين الاعتراضين على هذا النحو، إلا أن نظرية فيشر عليها أن تواجه الاعتراض الرئيسي الذي يهدمها من أساسها، وهو أنه من الممكن فقط أن يحدث الانسلاخ لكتلة القمر من قشرة السيال والكرة الأرضية في مرحلة السيولة. وكما وضحنا من قبل لم تتكون طبقة السيال إلا عندما كانت الأرض صلبة بعد أن تم طرد مواد السيال الخفيفة إلى سطحها. أما انسلاخ كتلة القمر من الأرض وهي في حالة صلبة فأمر لا يمكن حدوثه من الناحية الميكانيكية.
أما أنصار الرأي الآخر القائل بأن مادة السيال مازالت تحتويها القشرة الخارجية للأرض، فيعتقدون بأن هذه المادة قد أزيحت من مناطق الأحواض المحيطية والبحار لتتركز في كتل القارات ذاتها.
وهنالك نظرية واحدة هي التي يمكن أن تفسر إمكان حدوث تلك الإزاحة وهي نظرية التيارات التصاعدية الساخنة (Convectional Currents Hypothsis)، وقد تقدم بهذه النظرية الجيولوجي الانجليزي السير آرثر هولمز A. Holmes، وكتوضيح بسيط لهذه النظرية يكفي أن نشاهد ما يحدث عند غليان سائل غليظ القوام، وما يحدث بالذات للزبد الناتج عن الغليان، إذ تعمل الحرارة القادمة من أسفل على دوران السائل دورانا بطيئا، ثم يتعرض سطح هذا السائل لتيارات تصاعدية ساخنة في الوسط تقريبا تتجه بعد ذلك أفقيا نحو الأطراف بحيث تزيح الزبد الناتج عن الغليان في طريقها، ثم تأخذ هذه التيارات مرة أخرى في الهبوط. وعند هبوط هذه التيارات يتراكم الزبد عن الأطراف لخفة وزنه وهو بهذا لا يهبط بهبوط التيارات الحرارية.
وقد حدث للكرة الأرضية شئ شبيه بهذا إلى حد كبير عندما كانت في حالة منصهرة (في مرحلة السيولة)، إذ حدثت هذه التيارات التصاعدية في بعض المناطق وانتشرت بعد ذلك أفقيا، ويعتقد الكثيرون أن مثل هذه التيارات الحرارية التصاعدية مازالت مستمرة حتى وقتنا الحالي ولكن على نطاق أضيق بكثير مما كانت عليه عندما كانت الكرة الأرضية في حالة منصهرة.
وقد تمكنت تلك التيارات التصاعدية أثناء حركتها الأفقية من إزالة مادة السيال الخفية من مناطق معينة هي التي أصبحت أحواضا محيطية فيما بعد، أما في المناطق التي كانت تتقابل فيها تيارات أفقية تابعة لنظام معين من التيارات الصاعدة مع تيارات أفقية أخرى تابعة لنظام آخر، فكانت تحدث فيها تيارات هابطة مما أدى إلى تراكمها وتركز مادة السيال فوق مناطق التيارات الهابطة ومثل هذه المناطق هي التي أصبحت كتلا قارية فيما بعد.
ومازال موضوع نشأة القارات والأحواض المحيطية حتى وقتنا هذا موضوع يحوطه شئ كثير من الغموض. ونظرية التيارات التصاعدية الساخنة لهومز نطرية كما يبدو تطابق المنطق العلمي إلى حد كبير ولكنها لي تصبح قضية مسلما بها وبصحتها لابد أن يتناولها العلماء بالنقد لكي يتمكنوا من اكتشاف عيوبها وتلافيها. هذا وتوجد نظريات أخرى عديدة يحاول أصحابها أن يفسروا بها نشأة القارات والمحيطات، وأغلب هذه النظريات تعتمد في أساسها علىمبدأ زحزحة القارات الذي خلقه العالم ألفرد لوثر فجنر وشاع وانتشر بعد ذلك في شتى وجهات العالم لمطابقته للقواعد الجيوفزيقية وتمشيه مع ظاهرة التوازن الأرضي.