إيقاع الخطى

من معرفة المصادر

إيقاعُ الخُطى، هي قصة من تأليف الروائي العراقي محمود سعيد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القصة

أكثر من عشر سنين مرّت عليها في الغربة وهي لم تستطع التعوّد على حرارة ورطوبة الجوّ، يتغلّف جسدها بطبقة من الدّبق تجعلها تتضايق، تتقزّز، تستحضر آلام الغربة قسراً، تبدأ الوحدة تنفث سمومها بخبث بطيء، تستحيل ذرات، تصبح هلاماً خانقاً يتفاعل مع هواء حمام ساخن يسود كلّ مكان تلجأ إليه، يخنقها، يقتل أحلامها الصّغيرة في رؤية مكان بارد جديد تسافر إليه. لماذا تقضي الرّطوبة السّاخنة على الهدوء في نفسها؟ للرّطوبة علاقة بضيق النّفَس، بالتّنفّس، لكن ما علاقتها بضيق النّفْس؟ لماذا تسحق صدرها بثقل لا يمكنها تحملّه؟ ها هي تلجأ كالعادة إلى الماء البارد لتزيل لا جدار العرق حسب بل ثقل الرّطوبة التي استحالت إلى كآبة تكاد تزهق روحها. ارتعشت، كان رشاش الماء بارداً لذيذاً، أوّل شيء فعله غسل دموعها، أحست بالانتعاش يسري في بدنها، كانت تفكّر في البقاء مدة أطول تحت الماء البارد، لكنّها سمعت الهاتف يرنّ، سارت بهدوء كي لا تزلق، وهي تلفّ جسدها بالمنشفة، والمياه تقطر من شعرها على أعلى ثدييها، رقبتها، كتفيها، تنزل حتى سرّتها. حين وضعت السّماعة على أذنها، جاء وشيش هامس، أدركت أنّ المكالمة خارجيّة، تدفّق صوت أخيها مرحاً وهو يسلم عليها، غمرتها سعادة مفاجأة، ضحكتْ: قل لي كيف نقاوم هذا الحرّ؟

- لا تغادروا المرشّ.

- هذا ما نفعل، لكن لماذا تبقى بخيلاً؟

ضحك: بخيل في ماذا؟ هل تحتاجين شيئاً من المال؟

- لا.

- ماذا تريدين؟

- لماذا لا ترسل قليلاً من هواء إسبانيا البارد فتنعشنا؟

ضحك أخوها ضحكة قويّة: طلبت منهم.

- من تقصد؟

- باعة الهواء.

-ماذا قالوا؟

-لا يبيعون بالونات هواء.

- جد واحدا وأرسله بالبريد.

- لن يدخلوه، يخافون أن ينتهي هواءهم الطّيب.

- أنا وسعدون وعبير نشعر بالغربة، لا نستطيع السّفر، لم يبق أحد من معارفنا هنا، كلّهم سافروا، درجة الحرارة فوق الخمسين والرّطوبة مئة بالمئة، أشبه برطوبة البصرة في آب.

- تحمّليها.

-لا أستطيع، تخنقني. متى ستأتي؟ ضحك أخوها: لا تجعليني أبكي. قهقهتْ: سلامة عينيك من البكاء.

- اسمعي، أتعرفين إسماعيل صديقي؟

تسمّرت عيناها في الأرض: أيّ إسماعيل؟

- صديقي الذي استشهد في جبهة سوسنكرد سنة 87.

- هه تذكّرت الآن.

من دون شعور تدفقت الدّماء في وجنتيها، ألهبت كلّ جسدها، كانت تجلس على حافة السّرير، أمام المرآة، وكانت خصل شعرها المبلّلة تتدلى على ثدييها، وكانت قطرات الماء ما تزال عالقة بذؤابات الشّعر المبردة. أنتعشت الذّكريات، تنفّست نسائم الرّبيع على كورنيش شط العرب، أيّ لحظات سعادة انغمرت كالشّلال؟ قفزت من مكانها آلاف الكيلومترات، نحو الشّمال، اليوكالبتوس العملاق على كورنيش شطّ العرب يضوّع الكون برائحته القويّة، أزهار شجيرات الدّفلى، ورود الملكة الصّفراء الكبيرة، ورود الزّينة، سفن الهند الخشبيّة تصطفّ أمام الشّاطئ، نسائم الرّبيع الّلذيذة تحملها فوق السّحب. قال لها أبوها: انتظريني سأوصلك، ما يزال هناك متّسع من الوقت للدّوام! قالت: أحبّ أن أتمشّى عشر دقائق في الكورنيش قبل أن أصل إلى الطّبقة‘‘العبّارة’’.

كانت تشعر بسعادة لا توصف منذ أن تخرج من البيت وإلى أن تصل إلى مدرستها، في الطّبقة تنتظرها زميلاتها اللواتي يدرّسن معها في" كردلان"، ليعبرن النّهر معاً. متى انتبهت إلى أنّ هناك خطوات تسير وراءها، لم تدرِ. قرب بيت المتصرف الذي يقع في نهاية شارع الكنيسة أحسّت بها، لم تجرؤ على الالتفات، كان الشّارع خالياً في مثل تلك السّاعة من الصّباح، لم ترَ منذ خمس دقائق وإلى حدّ تلك الّلحظة سوى سيارة واجدة تمرق، ومن بعد نحو مئة متر هناك شبح امرأة تظهر وتختفي بين الأشجار، أسرعتْ فأسرعتِ الخطوات تتبعها، ثم أبطأت في مشيها فخففت الخطوات وقعها كذلك، كأنّها تحرص على أن تُبقى مسافة معيّنة بينهما.

تدفّقت الدّماء في وجنتيها، أحسّت بالحرارة تلهبها، تحرق جسدها، لكنّها تشجّعت. التفتتْ. شاب أنيق أسمر، عيناه سوداوان واسعتان ضاحكتان. وسيم، نحيف. يسير وراءها على يعد بضعة أمتار، أخذ قلبها يخفق بعنف. بدا الشّاب بابتسامته الخفيفة بعيداً عنها، غير مهتمّ بها كليّة. ينظر أمامه إلى شيء ما لم يكن بالتّأكيد هي، علمت أنّه يتعمّد إهمالها، مع ذلك ازداد اضطرابها. عبرت إلى الرّصيف الأخر من الشّارع. أصبح جدار الكورنيش الذي يفصل ماء النّهر يلامس تنورتها الزّرقاء. أحسّت بنوع من الأمان وهي تشاهد زميلتها عزيزة تسير أمامها وإنْ كانت على بعد، إلّا أنّها في وقت الحاجة تكون قادرة على نجدتها إذا هجم عليها. هدأ روعها بعض الشّيء، لكنّها أحسّت به يعبر الشّارع وراءها. اضطربت من جديد، يجب عليها أن تفعل شيئاً، أيّ شيء، تصرخ، تستنجد، لكنّها لم تفعل. كانت تسير حذو المراكب الهنديّة الخشب، خطواتها مرتعشة وقلبها يخفق بشدّة. هذه المراكب مفعمة بالحركة والحياة تضجّ بأجساد دكناء. لن يستطيع أن يؤذيها أمام أعينهم! أن يفعل أيّ شيء، إنّهم ينظرون إلى النّساء بأعين مدهوشة واسعة، وكأنّهم من عالم آخر، لكن ما إن تنظر في أعينهم حتى تزيغ أبصارهم. اطمأنّت، ظلّ يسير خلفها، وظلّت تخاف أن تلتفت نحوه.

أخيراً غمرتها الرّاحة، وصلت برّ الأمان. كانت هناك معلّمتان من زميلاتها وصلتا قبلها، لاحظت عزيزة اضطرابها، سألتها باهتمام عمّا بها، فتدفّقت الكلمات من شفتيها تشرح الأمر.

-لكنّه لم يتعرض لك! أليس كذلك؟

- لا.

- لم يقل أيّ كلمة!

- لا.

- لِم الخوف إذاً.

- كان الشّارع خالياً، خشيت أن يمسكني، أن يؤذيني.

- أيّتها المجنونة! أيمسك أحد فتاة في الشّارع؟

نسيتِ الأمر، حتى أنّها لم تتذكّره عند الغداء حينما تجتمع يوماً مع أمّها وأخواتها، لكنّها في الأيام التّالية طفقت تحسّ بالخطوات تتبعها، من أين يخرج؟ أين يختبئ؟ لم تدرِ! كلّ الذي تعرفه أنّها ما أن تتجاوز بيت المتصرّف حتى تسمع وقع الخطوات المألوفة، إيقاعها الرّتيب، لكنّها لم تنظر إلى الوراء ثانية، ظلّ الانطباع الأوّل عنه في مخيّلتها، أسمر أنيق وسيم ذو عينين باسمتين سوداوين، كان حجمه يكبر يومياً بهالة من تعليقات الزّميلات: الأسمر الذي وجد ظلّه، المحبّ الصّامت. لكنّه بعد نحو شهر اختفى، اختفى فجأة كما ظهر فجأة. اختفى بعد أن اعتادت عليه، وباختفائه فقدت ‘‘هي’’ ظلّها لا ظلّه، فقدت البهجة وتسلية التّعليقات التي عاشت حلاوتها بكلّ تفصيلاتها. خرجت من دائرة الاهتمام. ثم بدأت تعليقات معاكسة، ذهب مع الرّيح. ذهب ولم يعد. يا خسارة! قصّة انتهت في فصلها الأوّل.

كانت تضحك وقلبها يدمى، بعد ذلك ولأيام لا تحصى كانت خطواته تدّق الأرض برفق في داخلها ما إن تتجاوز بيت المتصرف، ترافقها في سيرها، تسرع وتبطئ وتتوقّف كما تفعل هي حتى الطّبقة، لكن ذلك لم يكن إلّا وهماً، لم يظهر من جديد، وحينما تفكّر في سبب انقطاعه لم تقع على العلّة قطّ، أكان يوم اختفائه استثناءً أو غير طبيعيّ في حياتها؟ تألّمت بعمق، لكنّها لم تدَعْ أحداً يطّلع على جرحها، أيّ أحد.

ثم تذكّرت أنّه انقطع في اليوم الذي قال لها أخوها سأرافقك حتى بيت المتصرف، ومن هناك سأذهب إلى القنصليّة لأجل التّأشيرة. فعل ذلك ثم ودّعها، سارتْ وكلّها آذان صاغية. انتظرت أن تسمع الخطوات، لكنّها لم تسمع شيئاً، لا في ذلك اليوم ولا في الأيام التّالية، كانت وحدها تسير، تتلفّت علّها تراه. لكنّه اختفى. أرأى أخاها وخشي من المجابهة؟ أإنسحب من المعركة قبل أن تبدأ؟ فقط لو عرفت لماذا انسحب؟ لماذا اختفى فجأة كما ظهر؟ كان السّؤال يحيّا في الليل حينما تأوي إلى فراشها، يطرق مسامعها برنين صاخب ذي إيقاع مؤلم، كم بلّل الدّمع وسادتها؟ ثم فجأة أخذت تضحك على نفسها، أيمكن أن يكون قد أثرّ فيها إلى هذا الحدّ؟ حتى أنّها لم تتبادل معه أيّ ابتسامة! أيّ كلمة! لا بل لم تلتقِ عيونهما سوى مرّات معدودات خطفاً من دون تركيز! كلّ ما كان بينهما رنين صوت أقدام ذات إيقاع رتيب ومعتاد على إسفلت أسود، ترى هل بقيتْ آثار قدميه على إسفلت الشّارع؟ يا لتفاهتها! بعد عشر سنين وحينما عاد أخوها من الدّراسة في الخارج سمعت غير مرّة أنّه يتبادل الدّعوات مع صديق كان يدرس معه في أوربا. تردّد اسم إسماعيل مرّات عدّة، ثم فجأة رأته. كما ظهر في الكورنيش، لكنّه هذه المرّة مع زوجته الأجنبيّة على العشاء عند أخيها. آنذاك بدا رجلاً لا يمتّ بأيّ صلة إلى الماضي، حتى أنّه لم ينظر إليها أيّ نظرة ذات معنىً. لم تهتزّ لمرآه قطّ، لكنّها أحست بالذّكرى تدفع الدّماء إلى وجنتيها، كانت الذّكرى منفصلة عنه، تعود لها وحدها، ملكها هي لا يشاركها فيها أحد حتى هو. لكنّها ودّت من كلّ قلبها كما في آخر صفحة من انفعالاتها السّابقة أن تعرف فقط لماذا انسحب فجأة! أدارت ظهرها لكي لا تلتقي عيونهما.

وبعد مدة أخرى طويلة أيضاً. حينما سمعت باستشهاده حزنت بعمق لكنّ حزنها لم يرافقها طويلاً كما رافقها السّؤال الملحاح ذو الرّنين الصّاخب الذي يدّق صدغيها بقوّة فيكاد يخرِجُ عينيها: ما سبب اختفائه الفجائيّ؟

- ذكرى، أمازلت على الهاتف؟ ما لك سكتّ؟ ضحكتْ: إنّي أسمعك، ماذا تريد أن تقول؟ أبن إسماعيل؟

-نعم.

-ما به؟

في تلك الّلحظة في بيت أخيها وعندما واجهته للمرّة الأولى تركّز انتباه الجميع على ابنه عماد، ابن إسماعيل، كان اسمر وسيماً يشبه أباه في كلّ شيء إلا عينيه كانتا خضراوين كعيني أمّه لا سوداوين كعيني أبيه، أخذ الطّفل يلعب مع ابنها، انسجما حتى أنّ ابنها طلب منها في اليوم التّالي أن تأخذه إلى بيت إسماعيل ليلعب مع ابنه عماد، بصعوبة أقنعتْ ابنها باستحالة ذلك.

- ذكرى. أين أنت؟ أتسمعينني؟

ضحكت من جديد: نعم، إني أسمعك، أتذكر ابنه، لكنّي نسيت اسمه.

- عماد.

- نعم عماد، ما به؟

- عماد ابن إسماعيل سيتّصل بك اليوم أو غداً.

- من أين يتصل؟

- سيكون قريباً عليك في دبي.

- ولماذا جاء؟

- أهذا سؤال يا ذكرى؟ لماذا أخرجت ابنك إلى أوربا؟ إنّها الحرب. أيوجد غير النّجاة بالرّوح؟

عندما كان يلعب مع ابنها ظهرا وكأنهما في السّن نفسها، ابنها الآن في التّاسعة والعشرين، أي أنّ عماد أكبر من أبيه عندما لعب لعبة مطاردتها الصّامتة ببضع سنوات، ترى أله وسامة أبيه؟

- أأقطع المكالمة وأعود لأتصل بك في الليل؟

- لماذا؟

-ما هذا الانقطاع؟ منك أو من خطوط الهاتف؟ في الصّيف تؤثر أشعة الشّمس في الأقمار الصّناعية؟

- الخطوط سليمة، أنا أسمعك.

سمعت صوت ضحكته من بعيد. ضحكت هي أيضاً: لكنّي لم أفهم ماذا تريد أن تقول لي؟

- سأجيء بعد أسبوع، وجدت عملاً لعماد، أتريدين أن أكلّم سعدون؟

- ذكرى، بدأت الخطوط ترتبك من جديد، سأتّصل بك مرّة أخرى.

- لا، لا، أسمعك، لكنّي لا أعرف ماذا تريد؟

قهقه من جديد: ألم أقل لك؟

- لا، قلت أنّ عماد سيتصل فقط.

- آه. نسيت. سيتوجّب عليك أن تستضيفه في بيتك إلى أن أجيء، عندئذ آخذه عندي.

- لا بأس.

- أهناك حاجة للاتّصال بسعدون.

- لا. سأخبره أنا.

- أترينه سيوافق؟

- لم لا؟

- في أمان الله.

- في أمان الله.

لشدّ ما تطوي الأيام صفحاتها بلا مبالاة، ما هذا العبث؟ كاد يُمحى من القلب فلم يعود الآن؟ لم تدرِ كم بقيت السّماعة في يدها، لكنّها كانت ماتزال تمسد شعرها، ما زالت طراوة الماء البارد تنعش إهابها، وما زالت الخطوات في الكورنيش تتبعها، وما زال وقع تلك الخطوات يكهربها، يشلُها خوفاً ونشوة معاً، ومازالت تحسّ بالدّماء تتدفّق في وجنتيها وكلّ جسدها، نعم، مازالت تلك الّلحظات المحتدمة تلهب مخيّلتها بسؤال لا جواب له: لماذا اختفت تلك الخطوات وعلى حين غفلة؟

1988