أصول الجصاص - الجزء الرابع

من معرفة المصادر

الفصول في الأصول


الجزء الرابع



تأليف


أبي بكر،أحمد بن على الرازي، الجصاص المتوفى 370هـ



بَابُ الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فَصْلٌ : فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ , الْعِلَّةِ , وَالْقِيَاسِ , وَالِاجْتِهَادِ .

	 الدَّلِيلُ : هُوَ الَّذِي إذَا تَأَمَّلَهُ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْصَلَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ , وَسُمِّيَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ كَالْمُنَبِّهِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمُشِيرِ لَهُ إلَيْهِ , وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَادِي الْقَوْمِ وَدَلِيلِهِمْ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ , فَإِذَا تَأَمَّلُوهُ وَاتَّبَعُوهُ أَوْصَلَهُمْ إلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَؤُمُّونَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ : إنَّ ( فِي ) السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهَا تُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ بِحَالِهَا إلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الدَّلِيلُ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ , كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ , فَيَقُولُونَ عَلَى هَذَا : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي اللُّغَةِ , لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطْلِقُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلِيلٌ , وَلَا يَدْعُوهُ بِأَنْ يَقُولَ : يَا دَلِيلُ , إلَّا أَنْ يُقَيِّدُوهُ , فَيُرِيدُوا بِهِ الْمُنَجِّيَ مِنْ الْهَلَكَةِ , عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ الَّذِي يُنَجِّيهِمْ بِهِدَايَتِهِ .  فَيَقُولُونَ : يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ , يَا هَادِيَ الْمُضَلِّينَ . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } يَعْنِي يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ , وَيَقُولُ النَّاسُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ . فَيُقَيِّدُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ , إذَا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ ( بِهِ ) . الْمُنَجِّي وَالْمُبَيِّنُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ , لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الدَّلِيلِ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ , وَقَدْ يَقُولُ النَّاسُ لِلْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ - نَحْوُ الْأَمْيَالِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَادِيَةِ - : إنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى الطَّرِيقِ . وَلَا يُسَمُّونَ الَّذِي بَنَاهَا هُنَاكَ دَلِيلًا , وَإِنَّمَا يُسَمُّونَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُتَأَمِّلُ لَهَا دَلِيلًا , دُونَ الْوَاضِعِ لَهَا . وَيَدُلُّ عَلَى ( صِحَّةِ ) مَا ذَكَرْنَا : أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي : كَيْتَ وَكَيْتَ , وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الدَّلَالَةَ , وَالْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا , وَيَقُولُ السَّائِلُ لِلْمُجِيبِ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ : مَنْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا : أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ لَهُ وَالنَّاظِرَ فِيهِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ عِلْمُك بِالشَّيْءِ وَوُجُودُك لَهُ , قَالَ : لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا ؟ جَازَ أَنْ يُقَالَ عِلْمِي بِكَذَا , وَوُجُودِي لِكَذَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِ الدَّلِيلِ شَيْءٌ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا , وَلَا أَضْعَفُ , لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ الْأَجْسَامِ ؟ لَمْ يَصِحَّ ( أَنْ يَقُولَ ) : عِلْمِي بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ . بَلْ يَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِهَا أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ . وَيُوجِبُ هَذَا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَحْسُوسَاتُ مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ , لِعِلْمِنَا بِهَا وَوُجُودِنَا إيَّاهَا , وَالْعِلْمُ عِنْدَ ( هَذَا ) الْقَائِلِ هُوَ الدَّلِيلُ .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ الدَّلِيلُ مُوجِبًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ , وَلَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ , وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ , لَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يُوصَلُ إلَى عِلْمِهِ بِدَلَالَتِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ .
 	وَأَمَّا الْعِلَّةُ , فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ حُدُوثِهِ يَحْدُثُ الْحُكْمُ . فَيَكُونُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِهَا , وَمَتَى لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ , هَذِهِ قَضِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ , وَأَصْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ , لَمَّا كَانَ بِحُدُوثِهَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْمَرِيضِ , سُمِّيَتْ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ عِلَلًا , لِأَنَّ حُدُوثَهَا يُوجِبُ حُدُوثَ أَوْصَافٍ وَأَحْكَامٍ , لَوْلَاهَا لَمْ تَكُنْ . نَحْوُ قَوْلِنَا : حُدُوثُ السَّوَادِ فِي الْجِسْمِ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ , وَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ فِيهِ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا . وَنَقُولُ فِي الدَّلِيلِ : إنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجِسْمِ مِنْ الْحَوَادِثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهِ , وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لِحُدُوثِهِ , فَإِنَّ الْحَدَثَ دَلَالَةٌ عَلَى مُحْدِثِهِ , وَلَا نَقُولُ : إنَّهَا عِلَّةٌ لِمُحْدِثِهِ . فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ , وَأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا حَظُّهُ إيصَالُ النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُتَأَمِّلِ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ , وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْمَدْلُولِ . وَأَنَّ الْعِلَّةَ سَبَبٌ لِوُجُودِ مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَلَوْلَاهَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ . فَقَدْ تُسَمَّى الْعِلَّةُ دَلِيلًا عَلَى مَا هِيَ ( عِلَّةٌ ) لَهُ , مِنْ حَيْثُ كَانَ تَأَمُّلُهَا مُوصِلًا إلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ , فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ دَلِيلٌ , وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ عِلَّةً . وَالِاسْتِدْلَالُ : هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا , لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ .
	   ( وَالْقِيَاسُ : أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لِحُكْمِهِ ) . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ  أَحَدُهُمَا : يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ . وَهُوَ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ , إذَا نَظَرَ فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ . وَكَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ , قَدْ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : يُوجِبُ غَلَبَةَ الرَّأْيِ وَأَكْبَرَ الظَّنِّ , وَلَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ . وَذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ , وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , إذْ لَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ ( بِهِ ) , فَيُسَمَّى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ , تَشْبِيهًا لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَدَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ . وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ الْمَقِيسِ , وَهِيَ عِلَلُ الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا . وَالثَّانِي : قِيَاسُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ , وَمَوَاضِعِ الِاتِّفَاقِ , وَغَيْرِهَا . فَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ , فَلَيْسَ بِعِلَّةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ , لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ , هِيَ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ , يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا . وَعِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا , لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ سَائِرَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقِيسُ بِهَا أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ , قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ , إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ هِيَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ , وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ الْحُكْمِ , غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ , وَإِنَّمَا هِيَ سِمَاتُ وَأَمَارَاتُ الْأَحْكَامِ , يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا , كَدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِهَا , فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا , لِوُجُودِنَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ . وَإِنَّمَا هِيَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ , جُعِلَتْ  أَمَارَةً لِلْحُكْمِ , فَجَائِزٌ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي حَالٍ , وَلَا تُجْعَلَ أَمَارَةً لَهُ فِي أُخْرَى . كَذَلِكَ عِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ هَذِهِ سَبِيلُهَا .
	 وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ : فَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا يَقْصِدُهُ الْمُجْتَهِدُ ( وَ ) يَتَحَرَّاهُ , إلَّا أَنَّهُ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمٌ يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهَا , لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( عَلَيْهِ ) دَلِيلٌ قَائِمٌ , لَا يُسَمَّى الِاسْتِدْلَال فِي طَلَبِهِ اجْتِهَادًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : إنَّ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ , وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , لَا يُقَالُ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْمٌ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ وَفِي عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , بِمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ غَالِبَ ظَنِّهِ , وَمَبْلَغَ اجْتِهَادِهِ , دُونَ إصَابَةِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ , فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ , فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ , وَهُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ غَالِبُ ظَنِّهِ , وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ , مِمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ دَلَائِلُ قَائِمَةٌ كُلِّفْنَا بِهَا : إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ , لِظُهُورِ دَلَائِلِهِ , وَوُضُوحِ آيَاتِهِ . وَاسْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ يَنْتَظِمُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ , أَوْ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , فَيُرَدُّ بِهَا الْفَرْعُ إلَى أَصْلِهِ , وَتَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا . وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ - وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا - مِنْ قِبَلِ أَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا عَارِيَّةً ( مِنْهُ ) وَكَانَتْ كَالْأَمَارَةِ , وَكَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا عَلَامَةً  لِلْحُكْمِ : الِاجْتِهَادِ , , وَغَالِبُ الظَّنِّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ , فَلِذَلِكَ كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ . وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْ الِاجْتِهَادِ : هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يَجِبُ بِهَا قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ , كَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي جِهَةِ الْكَعْبَةِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا , وَكَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ , وَجَزَاءِ الصَّيْدِ , وَالْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ , وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ , وَالْمُتْعَةِ , وَنَحْوِهَا . فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ , كُلِّفْنَا فِيهِ الْحُكْمَ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ غَالِبُ الظَّنِّ , مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ يُقَاسُ بِهَا فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ . وَيَصِحُّ إطْلَاقُ ( لَفْظِ ) الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ جَمِيعًا , لِأَنَّا قَدْ ( نَقُولُ ) : اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , وَمِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ , أَنَّهُ لَا يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ , وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ لَكُلِّفْنَا  فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى نَصْبَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا , ثُمَّ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ مَدْلُولِهَا . وَإِنَّمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَوُرُودُ الْعِبَارَةِ فِيهِ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ , تَارَةً بِحَظْرٍ , وَأُخْرَى بِالْإِبَاحَةِ , وَأُخْرَى بِالْإِيجَابِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِيهَا مِنْ الْمَصَالِحِ . فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ , فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ إذَا كُلِّفْنَا حُكْمَهُ , فَنَكُونُ حِينَئِذٍ مُتَعَبِّدِينَ فِيهِ بِإِصَابَةِ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ , وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ ( وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ) .

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُوصَلُ بِهَا إلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ

	قَالَ أَبُو بَكْرٍ : تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِخْرَاجُ دَلَالَةٍ مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيفِ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا . وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ , وَهُوَ فِيمَا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : اسْتِخْرَاجُ عِلَّةٍ مِنْ أَصْلٍ يُرَدُّ بِهَا عِلَّةُ الْفَرْعِ , وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ , وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ قِيَاسًا . وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ وَمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ , لَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ , وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ . وَالثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ احْتِجَاجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ خَالَفَهُ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ , فَقَالَ : ( لَأُقَاتِلَنَّ ) مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ . فَقَالُوا : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ , وَأَمْوَالَهُمْ , إلَّا بِحَقِّهَا } فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا مِنْ حَقِّهَا ) . فَتَبَيَّنُوا صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعُوا ( إلَى قَوْلِهِ ) .  وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ عُمَرَ عَلَى الزُّبَيْرِ وَبِلَالٍ , وَنَفَرٍ مَعَهُمَا , حِينَ سَأَلُوهُ قِسْمَةَ السَّوَادِ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ , مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } إلَى قوله تعالى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } وقوله تعالى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فَلَوْ قَسَّمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ كَانَتْ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ فَعَرَفُوا صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ , وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ . وَكَذَلِكَ وقوله تعالى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ , لِأَنَّ فِي الْآيَةِ إبَاحَةً لِلْجِمَاعِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَصَادَفَ فَرَاغُهُ مِنْ الْجِمَاعِ طُلُوعَ الْفَجْرِ , أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا , وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ صِيَامِهِ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } , فَكَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً فِي أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَنْفِي صِحَّةَ الصَّوْمِ . وَنَحْوُهُ : اسْتِدْلَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } ثُمَّ قَالَ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَجَعَلَ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ . وَنَحْوُهُ : قَوْلُ مُعَاذٍ لِعُمَرَ - رضي الله عنه - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ حُبْلَى : إنْ يَكُنْ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ , فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا , وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ - رضي الله عنه - مِمَّنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ وَجْهُ ذَلِكَ , وَقَدْ كَانَ عُمَرُ أَعْلَمَ مِنْ مُعَاذٍ , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَمْلِهَا مَا عَلِمَ مُعَاذٌ  فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا , لِأَنَّ ظُهُورَ الْحَمْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ , فَعَلِمْنَا أَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحَمْلِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَوْلَا مُعَاذٌ هَلَكَ عُمَرُ . قِيلَ لَهُ : عَنَى لَوْلَا إخْبَارُهُ إيَّاهُ أَنَّهَا حُبْلَى لَرَجَمَهَا , فَيَتْلَفُ وَلَدُهَا , كَمَا يَقُولُ مَنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ قَتْلُ رَجُلٍ خَطَأً : فَقَدْ هَلَكْتُ , وَهُوَ لَمْ يَأْثَمْ , وَلَكِنَّهُ يَقُولُهُ اسْتِعْظَامًا لِمِثْلِ هَذَا . وَنَحْوُهُ قوله تعالى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } , فَعُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ ( وَنَحْوُ ) قوله تعالى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } . فَدَلَّ حِينَ وَعَظَهَا فِي تَرْكِ الْكِتْمَانِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا , وَفِي طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا , وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ لَمَا وَعَظَهَا بِالْكِتْمَانِ . ( وَنَحْوُ ) قوله تعالى : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ , وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } , لَمَّا وَعَظَهُ فِي الْبَخْسِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا قَالَ . وَمِنْهُ قوله تعالى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } فَدَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) أَمْرَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْمُدَايَنَةِ : اسْتِيثَاقٌ لِمَا يُخْشَى مِنْ الْجُحُودِ فِي الْعَاقِبَةِ , فَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَعُقُودُ الْمُدَايَنَاتِ .  وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ : وَمِنْهَا مَا هُوَ أَغَمْضُ وَأَلْطَفُ مِمَّا ذَكَرْنَا , وَهُوَ يُفْضِي مَعَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ الدَّلَائِلِ , فَإِنَّا قَدْ كُلِّفْنَا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ . وَأَمَّا قِسْمُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قِيَاسٍ , وَإِلَى غَالِبِ الظَّنِّ , وَإِلَى الِاسْتِدْلَالِ ( بِالْأُصُولِ ) , فَإِنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ , فَيَكُونُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ ( أَنَّهُ ) أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , فَيَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِهِ .
	 وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا : أَنَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ , فَسَوَّغُوا الْخِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي أَحَدِهِمَا , وَهِيَ مَسَائِلُ الْفُتْيَا , وَأَنْكَرُوهُ فِي الْآخَرِ , وَخَرَجُوا مِنْهُ إلَى التَّلَاعُنِ , وَالْبَرَاءَةِ , وَنَصْبِ الْحَرْبِ , وَالْقِتَالِ , لِأَنَّ دَلِيلَ الْحُكْمِ كَانَ قَائِمًا قَدْ كُلِّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْحَقِيقَةِ , فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الذَّاهِبَ عَنْهُ ضَالٌّ آثِمٌ تَارِكٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ لَمْ يَخْرُجُوا فِيهِ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا فِيهِ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ , إنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ .

بَابُ ذِكْرِ الدَّلَالَةِ عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ .

 	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رحمه الله : نَبْدَأُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى مُخَالِفِينَا فِي الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ . ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ . ثُمَّ نَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَمَذَاهِبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّظَائِرِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا نَفَاهُ وَحَظَرَهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ . إلَى أَنْ نَشَأَ قَوْمٌ ذُو جَهْلٍ بِالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ , لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ , وَلَا تَوَقِّيَ لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْجَهَالَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ الْبَشِعَةِ , الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا الصَّحَابَةَ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَخْلَافِهِمْ . فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامَ وَطَعَنَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ , وَإِلَى ضِدِّ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ , بِتَهْوِيرِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِهَذَا الشَّأْنِ , ثُمَّ تَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَفَرٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْبَغْدَادِيِّينَ , إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَطْعَنُوا عَلَى السَّلَفِ كَطَعْنِهِ , وَلَمْ يَعِيبُوهُمْ لَكِنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُكَابَرَةِ , وَجَحْدِ الضَّرُورَةِ أَمْرًا شَنِيعًا , فِرَارًا مِنْ الطَّعْنِ عَلَى السَّلَفِ  فِي قَوْلِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا : أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْخُصُومِ , وَعَلَى جِهَةِ بَوْنِ الْمَسَائِلِ , لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَوْلِ , فَكَانَ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُمْ قَدْ حَسَّنُوا مَذْهَبَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ , وَتَخَلَّصُوا مِنْ الشَّنَاعَةِ الَّتِي لَحِقَتْ النَّظَّامَ بِتَخْطِيئِهِ السَّلَفَ . ثُمَّ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْحَشْوِ مُتَجَاهِلٌ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ هُوَ , وَلَا مَا قَالَ هَؤُلَاءِ , وَأَخَذَ طَرَفًا مِنْ كَلَامِ النَّظَّامِ , وَطَرَفًا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مُتَكَلِّمِي ( بَغْدَادَ مِنْ ) نُفَاةِ الْقِيَاسِ , فَاحْتَجَّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ , مَعَ جَهْلِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْفَرِيقَانِ , مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُبْطِلِيهِ , وَقَدْ كَانَ ( مَعَ ذَلِكَ ) يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ , وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا حَظَّ لَهُ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ , فَأَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ , بَلْ هُوَ أَضَلُّ مِنْهَا , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفُرُوعِهَا , وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ , وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } إلَى قوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْمَعْرُوفُ إنَّمَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِغَالِبِ ( الظَّنِّ )  وَالرَّأْيِ , إذْ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ الْحَالِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرْضَعُ وَالْمُرْضِعَةُ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : قوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ , لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ , وَالْمُشَاوَرَةُ لَا تَقَعُ فِي شَيْءٍ فِيهِ تَوْقِيفٌ أَوْ اتِّفَاقٌ , أَوْ دَلِيلٌ قَائِمٌ , وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْرَاجُ رَأْيٍ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ . وَمِنْ ذَلِكَ وقوله تعالى { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ } وَلَا سَبِيلَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ , ( لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ . مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وَمَنْ غَابَ عَنْ الْكَعْبَةِ لَا يَصِلُ إلَى التَّوَجُّهِ إلَيْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَغَالِبِ الظَّنِّ ) وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ عَلَى غَالِبِ مَا يَسْتَوْلِي عَلَى قُلُوبِنَا مِنْهُ , وقوله تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ , وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وَإِصْلَاحُ مَالِ الْيَتِيمِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَحَرِّي الِاحْتِيَاطِ فِي تَمْيِيزِهِ وَحِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِغَالِبِ الظَّنِّ  وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ , فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ ( مِنْهُ ) بِشَيْءٍ , ثُمَّ يَخْتَارُ مِنْ آرَائِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ , وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ , وَلِيَنْفِيَ عَنْهُ الْفَظَاظَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهَا , وَلَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إلَى آرَائِهِمْ , وَإِنَّمَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ . قِيلَ لَهُ : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى آرَائِهِمْ - بِاعْتِبَارِ الصَّوَابِ مِنْهَا - بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ , لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُشَاوَرُونَ ثُمَّ لَا يُلْتَفَتُ إلَى رَأْيِهِمْ , زَادَ ذَلِكَ فِي وَحْشَتِهِمْ وَانْخِزَالِهِمْ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ , وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ , وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ يَرْتَفِعُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهَا . إذْ هُوَ بِالْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِمَا يُوجِبُ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُهُمْ أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ , وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ , مِنْ حَيْثُ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْوَحْيَ , فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُظْهِرُوا آرَاءَهُمْ , وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ , فَيَجْتَهِدُ مَعَهُمْ , وَيَخْتَارُ الصَّوَابَ عِنْدَهُ مِنْهَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : { أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ , قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَزَلَ مَنْزِلًا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ : أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلْتَهُ ؟ أَبِأَمْرِ اللَّهِ هُوَ فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ . أَمْ بِالرَّأْيِ وَالْمَكِيدَةِ ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هُوَ بِالرَّأْيِ فَقَالَ : أَرَى أَنْ تُبَادِرَ إلَى الْمَاءِ , فَتَنْزِلَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهِ فَقَبِلَ ذَلِكَ } . وَكَذَلِكَ { يَوْمَ الْأَحْزَابِ , لَمَّا عَزَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقَوْمًا مَعَهُ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ , عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِنُوا قُرَيْشًا عَلَيْهِ , قَالَتْ الْأَنْصَارُ : أَرَأْيٌ رَأَيْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ بَلْ رَأْيٌ . رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ , فَرَأَيْتُ أَنْ  أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا } فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَاَللَّهِ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا , وَنَحْنُ عَلَى الشِّرْكِ , إلَّا قِرًى أَوْ شِرًى , فَكَيْفَ نُعْطِيهِمْ الْآنَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا بِالسَّيْفِ , فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَهِدُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُهُمْ فِي أُمُورٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيٌ . ثُمَّ يَجْتَهِدُ مَعَهُمْ , فَيَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ صَوَابًا . لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالُوا لَهُ : أَرَأْيٌ هُوَ أَمْ وَحْيٌ ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( بَلْ هُوَ رَأْيٌ ) وَيُبَيِّنُ وَجْهَ اجْتِهَادِهِ وَغَالِبَ ظَنِّهِ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ { عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّك تُوَجِّهُنِي فِي الْأَمْرِ فَأَكُونَ فِيهِ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ . أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ ؟ فَقَالَ : الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ الْغَائِبُ } فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ , لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ حُكْمُ الشَّاهِدِ , إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَاهِدًا فِي كُلِّ حَالٍ , عَالِمًا بِالْعَوَاقِبِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ كَانَ يَكِلُهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَرَأْيِهِ . وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } إلَى قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } وَهَذَا الْخَوْفُ إنَّمَا هُوَ فِي غَالِبِ الظَّنِّ , لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِمَا يُؤْثِرُهُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَوْقَاتِهِ . وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَالِابْتِلَاءُ وَإِينَاسُ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالِاجْتِهَادِ , وَغَالِبِ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَزْمِ الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ لِأَمْوَالِهِ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وَكَانَ  ذَلِكَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ , وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَذَى حَدٌّ مَعْلُومٌ يُصَارُ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ أَذًى . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } وَهَذَا الْوَعِيدُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ الْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } وَهَذَا الْخَوْفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ , وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَيَانِهِ صَلَاحًا فِي غَالِبِ رَأْيِهِمَا , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } مَعْنَاهُ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ فِي اجْتِهَادِ رَأْيِهِ , وَمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ أَدْعَى إلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ , وَأَنْفَى لِلتَّنَافُرِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } . وَحُكْمُ الْعَدْلَيْنِ بِالْمِثْلِ , هُوَ إنَّمَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ الْكِفَايَةِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } . وَالْعَدْلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ  الِاجْتِهَادِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الْآيَةَ . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ - غَيْرَ الرَّافِضَةِ - أَنَّ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِاجْتِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَآرَائِهِمْ , فِيمَنْ يَرَوْنَهُ مَوْضِعًا لِلْخِلَافَةِ لِفَضْلِهِ , وَأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهِ , وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَازُعَ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , إذْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعَانِ فِي الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ . فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ , وَسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قوله تعالى : { فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الرَّدَّ إلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ , لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ , لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّك تَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْآيَةِ عَلَى الْوَضْعِ : أَنْ اتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَهَذَا وَاجِبٌ فِي حَالِ التَّنَازُعِ وَغَيْرِهَا . فَتَخْلُوا الْآيَةُ مِنْ فَائِدَةِ ذِكْرِ التَّنَازُعِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّك خَصَّصْتَ الْأَمْرَ بِالرَّدِّ فِيمَا قَدْ نُصَّ عَلَيْهِ , دُونَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ , وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي وُجُودَ الرَّدِّ فِي الْحَالَيْنِ , سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ , فَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ دُونَ  غَيْرِهِ . فَثَبَتَ أَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ وُجُوبَ الرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّبَاعِ مُوجَبِهَا نَصًّا وَدَلِيلًا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَيْضًا : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } , فَأَمَرَ بِاسْتِنْبَاطِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " أُولِي الْأَمْرِ " إنَّهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا , وَقِيلَ : إنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ , وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ مُرَادُونَ بِذَلِكَ , لِأَنَّ أُمَرَاءَ السَّرَايَا إنْ لَمْ يَكُونُوا ذَوِي عِلْمٍ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا هَذَا فِي أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ , لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ } قِيلَ لَهُ : إنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ , فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّ أَمْرَ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ , وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , مِنْ أُمُورِ الدِّينِ . فَإِذَا جَازَ الِاسْتِنْبَاطُ فِيهِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ , جَازَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا .

فَإِنْ قِيلَ : قَالَ تَعَالَى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ , فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , يَقُولُ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّانِي إلَيْهِ قِيَاسِي فَهُوَ حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( عَلَيَّ ) , وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا عِلْمُ الظَّاهِرِ , كَخَبَرِ الْوَاحِدِ , وَكَالشَّهَادَةِ , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } . فَإِذْ لَمْ نَجِدْ فِيهِ كُلَّ حُكْمٍ مَنْصُوصًا , عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ , وَمُودَعٌ فِي النَّصِّ , نَصِلُ إلَيْهِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : مَا نَزَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْطُورًا . وَالْآخَرُ : بَيَانُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يَحْتَاجُ مِنْهُ إلَى الْبَيَانِ . وَالثَّالِثُ : التَّفَكُّرُ فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاحْتَجَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ , لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }

   قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ رَدَّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى نَظِيرِهَا مِنْ الْأُصُولِ يُسَمَّى اعْتِبَارًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى : ابْتِدَاءُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الِاعْتِبَارِ , لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } فَأَخْبَرَ عَنْ ظَنِّهِمْ الْكَاذِبِ , أَنَّ  حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ وَالذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَالْمَعْنَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ اُحْكُمُوا لِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى مِثْلِ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ , فَيَسْتَحِقُّوا مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ أَنْ تَحْكُمَ لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي مَعْنَاهُ , الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ حُكْمِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الِاعْتِبَارُ : هُوَ التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ . قِيلَ لَهُ : هُوَ كَذَلِكَ , إلَّا أَنَّهُ تَفَكُّرٌ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ , عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا . أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : قَدْ اعْتَبَرْت هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الثَّوْبِ , إذَا قَوَّمْتَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ . فَكَانَ الْمَعْنَى : أَنَّك رَدَدْته إلَيْهِ , وَحَكَمْت لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِهِ , إذْ كَانَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ .
    وَحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ : رَأَيْت الْقَاشَانِيَّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ , هَذَا فِي نَفْيِهِ , وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ , اعْتَمَدَ الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى  عَلَيْهِمْ } , وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ ( عَلَى ) قوله تعالى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فِي قَتْلِهِمْ أَوْ فِدَائِهِمْ . فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه , بِالْفِدَاءِ , وَأَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه , بِالْقَتْلِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ , فَأَشْبَهْتَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام , فَإِنَّهُ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا أَنْتَ يَا عُمَرُ , فَإِنَّكَ أَشْبَهْتَ نُوحًا عليه السلام , قَالَ { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وَوَافَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , فَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ الْفِدَاءَ , وَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ . وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَمَا شَاوَرَ فِيهِ أَحَدًا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَخْذِهِ الْفِدَاءَ فِي قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلَى قوله تعالى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِدَاءَ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا . قِيلَ لَهُ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ , فَأَبَى بَعْضُهُمْ مَا ذَكَرْتَ , وَأَجَازَهُ آخَرُونَ , وَالْكَلَامُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا , لِأَنَّهُ كَلَامٌ بَيْنَ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَالْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ , بَعْدَ تَسْلِيمِ جَوَازِ  الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ . فَالْخَبَرُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُخْطِئًا فِي الْفِدَاءِ , فَعُمَرُ مُصِيبٌ فِي الْإِشَارَةِ بِالْقَتْلِ , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ فِي اسْتِعْمَالِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ .
 وَمِنْهُ : حَدِيثُ قِصَّةِ الْأَذَانِ , { وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهْتَمَّ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ لَهَا النَّاسَ , فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ , فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , فَلَمْ يُعْجِبْهُ , وَذَكَرُوا لَهُ شَبُّورَ الْيَهُودِ , فَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ : هَذَا مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ , وَذَكَرُوا لَهُ النَّاقُوسَ , فَقَالَ : هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى , ثُمَّ أُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ , فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَقِّنْهَا بِلَالًا } , فَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فِي جِهَةِ إعْلَامِ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ . فَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الرَّايَةِ , وَقَوْمٌ فِي الشَّبُّورِ , وَقَوْمٌ فِي النَّاقُوسِ , وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي اجْتِهَادِهِمْ . وَمِنْ ذَلِكَ { تَحْكِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا , فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ , وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } . 

فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى .

قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ وَسَنُبَيِّنُهُ , وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَهُوَ تَحْكِيمُهُ إيَّاهُ بِمَبْلَغِ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ , وَأَنْ يَكُونَ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ , غَيْرُ  قَادِحٍ فِي صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا , وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْت غَلَطٌ , لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ حَكَمَ فِيهِمْ بِالْجِزْيَةِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُجِزْهُ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَجَازَ حُكْمَهُ , لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا يَرَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَكَّمَ سَعْدًا , لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ سَيُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى , وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَهُ الِاجْتِهَادَ. 

قِيلَ لَهُ : فَكَذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُونَ : بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ , أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُوَافِقُونَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ , بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو , وَكَانَ الْكَاتِبُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَتَبَ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ , وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو , فَقَالَ سُهَيْلٌ : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا كَذَّبْنَاكَ وَلَكِنْ اُكْتُبْ : هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , فَقَالَ : النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ اُمْحُ رَسُولَ اللَّهِ , وَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ : مَا كُنْتُ لِأَمْحُوَهَا , فَمَحَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه اجْتِهَادَهُ فِي تَرْكِ مَحْوِهَا , لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْظِيمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَبْجِيلَ ذَلِكَ الِاسْمِ , وَرَأَى أَنْ لَا يَمْحُوَهُ هُوَ لِيَمْحُوَهُ غَيْرُهُ فَكَانَ ذَلِكَ طَاعَةً مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ( قَدْ ) فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك مَحْوَهَا لَمَحَاهَا بِيَدِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ { أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا هَرَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الصُّلْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .  بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلُوهُ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ لَهُمْ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ , فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ رَاجِعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ أَبُو بَصِيرٍ . وَلَحِقَ أَبُو بَصِيرٍ بِسِيفِ الْبَحْرِ وَلَحِقَ بِهِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلُوا يُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ } . وَكَانَ فِعْلُ أَبِي بَصِيرٍ ذَلِكَ , وَمَنْ صَارَ مَعَهُ , اجْتِهَادًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ إلَى مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ : عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , بِغَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ ذَلِكَ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَبِي بَصِيرٍ قَتْلَهُ الرَّجُلَ , وَلَا لَحَاقَهُ بِسِيفِ الْبَحْرِ , وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ ( لَحِقَ بِهِ ) .
 وَمِنْ ذَلِكَ " أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ , وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمَّا قُتِلُوا بِمُؤْتَةِ , وَكَانُوا أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ الْقَوْمُ بِلَا أَمِيرٍ اجْتَمَعُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ , فَانْحَازَ بِهِمْ , فَصَوَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( ذَلِكَ ) مِنْ فِعْلِهِمْ " وَكَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْ آرَائِهِمْ لَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم 

وَمِنْهُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ إلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا فِي كُلِّ عَصْرٍ - إذَا خَلَوْا مِنْ إمَامٍ - عَلَى أَغْلَبِ رَأْيِهِمْ فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَصْلَحِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ يُوَلِّي أُمَرَاءَ السَّرَايَا وَالْقُضَاةَ وَجُبَاةَ الصَّدَقَاتِ , كُلُّ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى . وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِرُشْدِهِ , وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ قَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ , مِنْ حَيْثُ لَا يَسَعُ الشَّكُّ فِيهَا . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ , وَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا , تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَصِيرُ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ , لِامْتِنَاعِ جَوَازِ الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ فِي جَمِيعِهَا . وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى : أَنَّهَا مُسْتَفِيضَةٌ فِي الْأُمَّةِ , قَدْ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ .

  فَمِنْ ( ذَلِكَ ) مَا رُوِيَ { أَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ رَجَعَ عَلَيْهِ سَيْفُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَتَلَهُ , فَشُكَّ فِي أَمْرِهِ , وَهَابُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ , فَسَأَلَ سَلَمَةُ أَخُوهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِهِ , فَقَالَ : مَاتَ جَاهِدًا مُجَاهِدًا لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ } وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ , أَنَّهُ يَضْرِبُ الْعَدُوَّ فَأَخْطَأَهُمْ . فَلَمْ يُعَنِّفْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعِبْ الْقَوْمَ الَّذِينَ تَهَيَّبُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ , بِاجْتِهَادِهِمْ . وَمِنْ ذَلِكَ ( حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ , وَأُنَاسًا مَعَهُ , فِي طَلَبِ قِلَادَةٍ أَضَلَّتْهَا عَائِشَةُ  فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ , فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ , فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ } فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ , إذْ لَمْ يَكُنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ التَّيَمُّمُ فَصَلَّوْا بِاجْتِهَادِهِمْ كَذَلِكَ , وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ نَجْدَانَ عَنْ { أَبِي ذَرٍّ , قَالَ : بَدَوْتُ بِالْإِبِلِ فَكُنْتُ أَعْزُبُ عَنْ الْمَاءِ . وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ , فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ , فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ , فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ , وَقَالَ : التُّرَابُ كَافِيكَ عَشْرَ حِجَجٍ , فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ } فَكَانَ يُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ بِاجْتِهَادِهِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ اجْتِهَادَهُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهُورٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ اجْتَهَدَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ , وَلَا خِلَافَ فِي سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ . وَلَمْ يَأْمُرْهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِعَادَةِ . وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ . فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ , كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ عَدَمِهِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَجْتَهِدْ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ , لِأَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ قوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } , يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ وَيَحْتَمِلُ اللَّمْسَ بِالْيَدِ , وَكَانَ عُمَرُ ( وَعَبْدُ اللَّهِ ) بْنُ مَسْعُودٍ , يَرَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا : اللَّمْسُ بِالْيَدِ , وَكَانَا لَا يَرَيَانِ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ . وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ : الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَاعُ . وَيَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ , وَهُوَ  مَوْضِعٌ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِاجْتِهَادٍ وَقِيلَ : وُجُوبُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْجُنُبِ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ .
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْقَوْلُ فِيهِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ أَبَا ذَرٍّ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ تَيَمَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ , وَصَلَّى بِهِمْ , لِأَنَّهُ خَافَ ضَرَرَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهُ صَلَّى بِنَا وَهُوَ جُنُبٌ , فَقَالَ : يَا عَمْرُو , صَلَّيْتَ بِهِمْ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : خَشِيتُ إنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ , وَقَدْ سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا } فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَمْرٍو الِاجْتِهَادَ فِي تَرْكِهِ الْمَاءَ وَالْعُدُولِ عَنْهُ إلَى التُّرَابِ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَصْحَابِهِ أَيْضًا الِاجْتِهَادَ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ , إذَا كَانَتْ الْحَالُ عِنْدَهُمْ وَفِي اجْتِهَادِهِمْ غَيْرَ مَخْفِيَّةٍ . وَمِنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ { أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ لَهُ : بِمَاذَا أَهَلَلْتَ . فَقَالَ : أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى , فَعَلَ كَذَلِكَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ , فَلَا أُحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ } . فَكَانَا مُجْتَهِدَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ عِنْدَهُمَا , عَلَى تَحَرِّي مُوَافَقَةِ إهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا ذَلِكَ .  وَمِنْهُ حَدِيثُ { أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ } فَأَفْطَرُوا عَلَى غَالِبِ ظُنُونِهِمْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ , وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً فَلُبِسَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ , فَلَمَّا انْصَرَفَ , قَالَ : يَا أُبَيّ , أَصْلَيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا مَنَعَك } فَأَخْبَرَ , أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ . فَجَاءَ بِلَالٌ إلَى أَبِي بَكْرٍ , فَقَالَ : أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ ؟ . قَالَ : نَعَمْ . فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ , فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ , فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّلَاةِ , فَصَفَّقَ النَّاسُ , وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ , فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ , فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ , وَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ , وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انْصَرَفَ . قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ , مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ , أَنْ يُصَلِّيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ التَّصْفِيقِ , مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ,  فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ . أَحَدُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَابَ أَقَامُوا رَجُلًا مَكَانَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ , وَصَلَّوْا خَلْفَهُ , ثُمَّ حِينَ صَفَّقَ النَّاسُ بِاجْتِهَادِهِمْ ; أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ , فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ بَدْءًا بِاجْتِهَادِهِ , ثُمَّ لَمَّا أَكْثَرُوا التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ حِينَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ , فَأَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَك , فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِ ; أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ , وَرَفَعَ يَدَيْهِ لِغَيْرِ عَمَلِ الصَّلَاةِ , ثُمَّ اسْتَأْخَرَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ , بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( لَهُ ) بِالثَّبَاتِ , لِأَنَّهُ غَلَبَ فِي رَأْيِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرِ إيجَابٍ , وَرَأَى التَّأْخِيرَ أَوْلَى تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمَامَهُ كَإِعْظَامِ عَلِيٍّ عليه السلام أَنْ يَمْحُوَ ذِكْرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ - رضي الله عنه - فِي قِصَّةِ { جَيْشِ الْخَبَطِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رضي الله عنه - حِينَ وَجَدُوا حُوتًا مَيِّتًا عَلَى السَّاحِلِ , فَامْتَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ وَقَالُوا : هُوَ مَيْتَةٌ . ثُمَّ قَالُوا : نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ , فَكُلُوا , فَأَكَلُوا , فَلَمَّا قَدِمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَازَهُ لَهُمْ } وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ .  وَمِنْهُ حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , عَنْ ثَابِتٍ , وَحُمَيْدٍ , عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ , فَنَادَاهُمْ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ , نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ : أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ . مَرَّتَيْنِ , فَمَالُوا كَمَا هُمْ رُكُوعًا إلَى الْكَعْبَةِ } وَكَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي اسْتِدَارَتِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ فِي صَلَاتِهِمْ . وَمُجْتَهِدِينَ فِي تَرْكِهِمْ اسْتِئْنَافَ الصَّلَاةِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِعٌ , قَالَ : فَرَكَعْتُ دُونَ الصَّفِّ , وَمَشَيْتُ إلَى الصَّفِّ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } فَأَجَازَ اجْتِهَادَ أَبِي بَكْرَةَ فِي رُكُوعِهِ دُونَ الصَّفِّ وَمَشْيِهِ إلَيْهِ . ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ , وَأَجَازَ لَهُ الرَّكْعَةَ الَّتِي فَعَلَهَا بِاجْتِهَادِهِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { مُعَاذٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُبِقُوا بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا فَأُخْبِرُوا , فَدَخَلُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَدَءُوا بِالْفَائِتِ , ثُمَّ تَابَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَقِيَ . حَتَّى جَاءَ مُعَاذٌ وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَتَابَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  وَتَرَكَ الْفَائِتَ حَتَّى قَضَاهُ بَعْدَ فَرَاغِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ , فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا } فَاجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِ الْفَائِتِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَجَازَ ذَلِكَ لَهُ , وَلَمْ يُعَنِّفْهُ , وَجَعَلَهُ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ . فَإِنْ قِيلَ : إنْ صَحَّ هَذَا , فَإِنَّ مُعَاذًا اجْتَهَدَ فِي تَرْكِ النَّصِّ , لِأَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ قَضَاءُ الْفَائِتِ , ثُمَّ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ , وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَ الِاجْتِهَادَ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ( قَدْ ) كَانَ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ تَرَكَهُمْ وَمَا فَعَلُوا , لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا . وَكَانَ جَائِزًا أَيْضًا تَرْكُ الْفَائِتِ عِنْدَهُ فَكَانُوا مُخَيَّرِينَ , فَاخْتَارَ مُعَاذٌ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَرْكَ الْفَائِتِ , وَكَانَ وَجْهُ اجْتِهَادِهِ : مَا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا كَانَ لِيَجِدَهُ عَلَى حَالٍ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا , فَسَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ , وَاسْتَحْسَنَ قَصْدَ مُعَاذٍ فِيهِ , وَتَحَرِّيَهُ لِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ حَالٍ , فَلَمْ يُصَادِفْ اجْتِهَادُ مُعَاذٍ مُخَالَفَةَ ( نَصِّ ) النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : { أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيُؤْذِنَهُ  بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَقِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَائِمٌ , فَنَادَى بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ . } فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ , وَكَانَ قَوْلُ بِلَالٍ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ . وَمِنْهُ مَا رُوِيَ : أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى , { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ , مَا الَّذِي أَحْدَثْتُمْ ؟ فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّنَاءَ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا : إنَّا نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ } وَكَانَ الْقَوْمُ أَحْدَثُوا الِاسْتِنْجَاءَ بِآرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ , وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ , لَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ . وَمِنْهُ مَا رَوَى الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو , عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ { مُعَاذٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ , قَالَ : كَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ } , فَأَجَازَ لَهُ الِاجْتِهَادَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا رَوَاهُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ . قِيلَ لَهُ : لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ , لِأَنَّ إضَافَتَهُ ذَلِكَ إلَى رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ تُوجِبُ  تَأْكِيدَهُ , لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ , إلَّا وَهُمْ ثِقَاتٌ مَقْبُولُو الرِّوَايَةِ عَنْهُ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ , وَاسْتَفَاضَ , وَاشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى رُوَاتِهِ , وَلَا رَدٍّ لَهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَصِيرَ مُرْسَلًا , وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُهُ } . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ { عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , قَالَ : جَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عَمْرُو , قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ : نَعَمْ . قُلْت : فَعَلَامَ أَقْضِي ؟ قَالَ : إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ } وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ فِيهِ كَذَلِكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً , فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ } وَلَا يُوصَلُ إلَى مَعْرِفَةِ أَعْلَمِ الْمُتَقَارِبِينَ بِالسُّنَّةِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ , فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَكْثَرِ ظَنِّهِ }  وَمِنْهُ { قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ حِينَ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ يَشْفَعُ فِيهِ , فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتِهِ , رَجَاءَ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْضُهُمْ , لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ بِقَتْلِهِ } وَكَانَ فِعْلُ عُثْمَانَ ذَلِكَ اجْتِهَادًا , فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . " وَحَدِيثُ { عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : أَنْتَ إمَامُ قَوْمِكَ , فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ } , وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } . 
  يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا , لِأَنَّ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ قَدْ يَعْرِفُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاقِلِينَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إبَاحَةِ الْمُعَالَجَةِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّبِّ وَالْأَدْوِيَةِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ , وَطَرِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ ( الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ ) فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى اخْتِلَافِ مُتُونِهَا وَطُرُقِهَا تُوجِبُ التَّوْقِيفَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ , وَإِنَّهَا فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا كَذِبًا , أَوْ غَلَطًا , أَوْ وَهْمًا , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ , وَشَبَّهْنَاهُ بِالْمُقْبِلِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَامِعِ : أَنَّ إخْبَارَهُمْ عَنْ فِعْلِهِمْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ , تَشْتَمِلُ عَلَى صِدْقٍ , وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ , فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مَعَ كَثْرَتِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُتَوَافِيَةً عَلَى تَوْقِيفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُمْ  عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ , فَقَدْ أَوْجَبَتْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ وُجُوهِ التَّوْقِيفِ بِذَلِكَ , وَمَنْ خَالَفَهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا , فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إبَاحَتَهُ لِلِاجْتِهَادِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ , وَاعْتِبَارِهِ بِنَظِيرِهِ فِي الْحُكْمِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي إبَاحَتِهِ لِلِاجْتِهَادِ , حُذِفَتْ أَسَانِيدُهَا كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ , وَلِأَنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ , يَتَصَدَّقُونَ وَيَصُومُونَ , قَالَ : وَأَنْتُمْ قَدْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ . قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَصَدَّقُونَ , وَ نَحْنُ لَا نَتَصَدَّقُ . قَالَ : وَأَنْتَ فَلَكَ صَدَقَةٌ : رَفْعُك الْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ , وَثَبَاتُك عَنْ الْإِثْمِ صَدَقَةٌ , وَعَوْنُك الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ . وَمُبَاضَعَتُك امْرَأَتَك صَدَقَةٌ , قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ جَعَلْتُمُوهَا فِي حَرَامٍ أَكُنْتُمْ تَأْثَمُونَ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ , وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ ؟ } فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَلَّهُ بِذِكْرِ الْمَحْظُورِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ الْمُبَاحِ , وَأَعْلَمَهُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ . وَقَدْ اعْتَرَضَ النَّظَّامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ , وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ , لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ , وَلَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ , لَكَانَ لَا فِعْلَ إلَّا مَحْظُورًا , أَوْ نَافِلَةً , وَلَبَطَلَ الْقِسْمُ الْمُبَاحُ . فَيُقَالُ لَهُ : مَا تُنْكِرُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْأَجْرُ ( إذَا قَصَدَ ) بِهِ الْعِفَّةَ , وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْحَرَامِ , وَشُكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى تَمْكِينِهِ إيَّاهُ مِنْ الْحَلَالِ , وَلِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ الِاغْتِسَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ , فَيَكُونُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْوَطْءِ الْمَقْصُودِ بِهِ هَذِهِ الْمَعَانِي , وَالْمُقَارِنَةُ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ , هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ دُونَ مَا يَقْصِدُ بِهِ التَّلَذُّذَ الَّذِي لَا يُجَامِعُهُ هَذِهِ  الْأَسْبَابُ , فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِهِ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِهَذَا الْوَطْءِ مَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْخَبَرِ , وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَهُنَا وَطْءٌ آخَرُ مُبَاحٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ , فَلَا يَبْطُلُ الْقِسْمُ الْمُبَاحُ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى مَا بَنَيْتَ مِنْ الْقَاعِدَةِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَمْ يَحُجَّ , أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ , أَكُنْتَ تَقْضِيهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَحُجَّ عَنْهُ وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : إنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ , وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ , لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ , أَفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ , أَكَانَ يَجْزِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : إنْ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَاقْضُوا اللَّهَ , فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ } . وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ إثْبَاتُ الْمُقَايَسَةِ , وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الرَّدِّ إلَى النَّظَائِرِ . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ أَيُفَرَّقُ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ , فَقَضَاهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ , قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ } . فَقَايَسَهُ , وَأَرَاهُ مَوْضِعَ الشَّبَهِ وَالنَّظِيرِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ  غُلَامًا أَسْوَدَ , فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : مَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ , قَالَ : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا أَوْرَقًا . قَالَ : فَأَنَّى تَرَاهُ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ } فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّهُ إلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ , مِنْ نَظِيرِ مَا سَأَلَ عَنْهُ , وَنَبَّهَهُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِحُكْمِهِ . وَمِنْهُ : حَدِيثُ { عُمَرَ قَالَ هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا , قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ , قَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ ؟ قُلْتُ : لَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ : فَفِيمَ إذًا } فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَرَدَّهُ إلَى نَظِيرِهِ , ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّدِّ . وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : هَذَا أَوَانُ ذَهَابِ الْعِلْمِ , فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ : كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَنَا ؟ وَاَللَّهِ لَنُقْرِئَنَّهُ أَبْنَاءَنَا وَلَيُقْرِئَنَّهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ بْنَ لَبِيدٍ , إنْ كُنْتُ لَأَعُدّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , أَلَيْسَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي يَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهَلْ أَغْنَى عَنْهُمَا ؟ } فَنَبَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اعْتِبَارِنَا بِهِمْ , مَعَ كَوْنِ الْكِتَابِ فِي أَيْدِينَا ( وَ ) رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ : كَيْفَ تَقْضِيَانِ بَيْنَ  النَّاسِ ؟ قَالَا : بِكِتَابِ اللَّهِ , قَالَ : فَإِنْ أَتَاكُمَا مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَا : بِالسُّنَّةِ . قَالَ : فَإِنْ أَتَاكُمَا مَا لَيْسَ فِي السُّنَّةِ ؟ قَالَا : نَقِيسُ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ , فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ , قَالَ : أَصَبْتُمَا } . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ , عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : كُلُّ قَوْمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ , فِي مَصْلَحَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ , يَزِرُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } , وَيَتَبَيَّنُ الْحَقُّ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْعَدْلِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , قَالَ لَهَا : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ فَقُلْتُ : إنِّي حَائِضٌ . فَقَالَ : إنْ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ } فَنَبَّهَهَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى , وَأَنَّهَا فِي سَائِرِ أَعْضَائِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّاهِرِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ { أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ , فَذَهَبْت فَاغْتَسَلْت , ثُمَّ جِئْت . فَقَالَ : أَيْنَ كُنْتَ ؟ قَالَ : كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ } فَنَبَّهَهُ عَلَى أَنَّ  الْجَنَابَةَ لَا تُوجِبُ نَجَاسَتَهُ , وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَجْلِهَا مِنْ الصَّلَاةِ , وَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ مِنْهُ , بِقَوْلِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , يَعْنِي كَيْفَ ذَهَبَ عَلَيْك هَذَا الِاعْتِبَارُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ الِاعْتِبَارِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهَا , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِهَا , وَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ جَوَازُهُ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ , إذْ يَمْتَنِعُ فِي حُجَّةِ الْعَقْلِ , أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ , وَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَحْظُرَهُ فِيمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَى مَوْضِعِهِ , فَيُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بَيْنَنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ . قِيلَ لَهُ : كَثِيرٌ مِنْ الْآيِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا , غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ وَلَا شَرْطٍ . مِنْهَا قوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ , لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ , فَصَارَ لِلْجِنْسِ , وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَحْنُ مُخَاطَبُونَ بِهِ , إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِشَيْءٍ دُونَنَا . وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَقَدْ بَيَّنَّا ( أَنَّ ) الْمُرَادَ بِهِ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ( نَصًّا ) وَدَلِيلًا , ( وَذَلِكَ ) مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ . وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ . وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ . وَمِمَّا يُوجِبُهُ أَيْضًا مِنْ السَّنَدِ : حَدِيثُ مُعَاذٍ , وَتَصْوِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ فِي اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا اتِّفَاقٌ , وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا . وَأَيْضًا : فَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ , بِحَيْثُ لَا مَسَاغَ لِلشَّكِّ فِيهِ . كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي , فَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , وَيَسْتَعْمِلُ الْقِيَاسَ , وَيَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ , لَا يَتَنَاكَرُونَهُ , وَلَا يَمْنَعُونَ إنْفَاذَ الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ بِهِ . وَكَذَلِكَ حَالُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مُسْتَفِيضًا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ( وَقَدْ ) وَقَعَ الْعِلْمُ لَنَا بِوُجُودِهِ مِنْهُمْ , كَعِلْمِنَا بِوُجُودِ الْخِلَافِ كَانَ بَيْنَهُمْ فِي كَثِيرٍ ( مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ ) : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ لَوْلَا عِلْمُهُمْ بِتَوْقِيفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( إيَّاهُمْ ) عَلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ( مِنْهُمْ ) مُتَقَرِّرًا مَعْلُومًا ( عِنْدَهُمْ ) مِنْ شَرِيعَتِهِ , قَدْ تَلَقَّوْهُ عَنْهُ وَعَرَفُوهُ مِنْ ( دِينِهِ ) لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هَذَا الْإِطْبَاقَ , حَتَّى لَا يُوجَدَ فِيهِمْ مُنْكِرٌ لَهُ , وَلَا مُتَوَقِّفٌ مُتَهَيِّبٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ , فَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا تَلَقَّوْهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَوْقِيفًا , كَمَا عَلِمْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْلِيَةِ إمَامٍ يَنْصِبُونَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُمْ تَلْقَوْا وُجُوبَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ تَوْقِيفًا , وَأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ مِنْ مِنْهَاجِ شَرِيعَتِهِ وَأَرْكَانِ دِينِهِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَوَافَقَتْ هِمَمُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ إجْمَاعَهُمْ , حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ , عَلَى مَا سَلَفَ مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ . وَقَدْ اسْتَقَرَّ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ ( حُجَّةٌ ) بِمَا قَدَّمْنَا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَالرُّجُوعِ إلَى النَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ , فِي ( اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ؟ قِيلَ لَهُ : هُوَ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ , وَطَرِيقَتِهِمْ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ , فَقَالُوا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ , وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَرَّكَةِ , فَلَمْ يَرَ عُمَرُ التَّشْرِيكَ أَوْلَى , فَقَالَ لَهُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ : هَبْ ( أَنَّ ) أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَيْسَ أُمُّنَا أُمَّ الَّذِينَ وَرَّثَتْهُمْ ؟ فَتَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ , وَرَأَى التَّشْرِيكَ حِينَ قَايَسُوهُ . فَقِيلَ لَهُ : لَمْ تُشَرِّكْ بَيْنَهُمْ الْعَامَ الْأَوَّلَ , وَشَرَّكْتَ الْعَامَ . فَقَالَ : ( ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا , وَهَذَا عَلَى مَا قَضَيْنَا ) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَرَامِ عَلَى أَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ : جَعَلَهَا بَعْضُهُمْ رَجْعِيًّا , وَبَعْضُهُمْ وَاحِدَةً بَائِنَةً , وَبَعْضُهُمْ ثَلَاثًا , وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ يَمِينًا . وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَلِيَّةِ , وَالْبَرِيَّةِ , وَالْبَتَّةِ وَالْبَائِنِ , وَنَحْوِهَا مِنْ الْكِنَايَاتِ . وَفِي الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ , وَفِي الْكَلَالَةِ , قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : ( أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي ) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا : ( أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ ) . وَقَالَ عَلِيٌّ : ( أَجْمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنْ لَا يُبَعْنَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ , ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أُرِقَّهُنَّ ) , فَأَخْبَرَ عَنْ رَأْيِهِ , وَرَأْيِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ , لِأَنَّ التَّوْقِيفَ لَا يَكُونُ رَأْيًا . وَمِنْهَا أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ : فِي الْمُكَاتَبِ , وَالْمُدَبَّرِ , وَفِي تَفْضِيلِ أُرُوشِ الْأَصَابِعِ , وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرَى التَّسْوِيَةَ فِي الْعَطَاءِ , وَكَانَ عُمَرُ يَرَى التَّفْضِيلَ . وَكَانَ عَلِيٌّ يَرَى التَّسْوِيَةَ . وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي طَرِيقُهَا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَهُ هَذَا الْكِتَابُ , وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ . وَأَجْمَعُوا عَلَى عَقْدِ الْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ بِآرَائِهِمْ , وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَصًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا غَيْرِهِ , وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ , وَهُوَ مُعْظَمُ أَمْرِ دِينِهِمْ , وَدُنْيَاهُمْ . وَلَمَّا قَالَتْ الْأَنْصَارُ : ( مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ) وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَمَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ الشُّورَى , لِأَنَّ الشُّورَى لَا تَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم . فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ , وَلَا عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِمَامَةِ , وَأَنَّهُ وَكَلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِمَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا , وَصَلَاحًا لِلْكَافَّةِ , وَعَلِمْنَا حِينَ عَقَدُوهَا لِأَبِي بَكْرٍ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَوْقِيفٌ لَهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نَصْبَ إمَامٍ بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ , ثُمَّ إنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ , وَرَضِيَتْ السِّتَّةُ وَالْجَمَاعَةُ بِذَلِكَ , لَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ , وَكَانَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيٍ مِنْهُ , وَالشُّورَى إنَّمَا هِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الرَّأْيِ , وَتَوْلِيَةُ مَنْ يَرَوْنَ ذَلِكَ لَهُ , ثُمَّ اجْتَهَدَ السِّتَّةُ فَجَعَلُوا الْأَمْرَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , عَلَى أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْهَا وَيَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى ( بِاجْتِهَادِهِ , ثُمَّ رَأَى ) عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَنْ يَتَّبِعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما , فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ , فَقَالَ عَلِيٌّ : أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ , وَاجْتِهَادِ رَأْيِي , وَعَرَضَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَبِلَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ , فَرَأَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يُوَلِّيَهُ ( مَنْ عَمِلَ فِيهِ ) بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ قَدْ صَلَحُوا عَلَى سِيرَتِهِمَا , وَفُتِحَتْ الْفُتُوحُ فِي أَيَّامِهِمَا , وَوُجِدَتْ فِيهِمْ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا , وَرَأَى مَوْعُودَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ صَحَّ فِيهِمْ , فِي قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِ الشُّورَى , وَاتَّفَقَتْ أَيْضًا فِي جَعْلِ الْأَمْرِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَاخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ أُخَرَ . فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ , ( وَإِنْ خَالَفَ بِهِ رَأْيَ غَيْرِهِ , بَلْ سَوَّغُوا لِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْهُمْ رَأْيَهُ ) وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . وَأَجْمَعُوا بِاجْتِهَادِهِمْ عَلَى وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ , وَعَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ , وَعَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ . وَالْقَضَايَا الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ الشَّكُّ فِيهَا , أَوْ أَنْ يَعْرِضَ فِيهَا رَيْبٌ لِذِي فَهْمٍ وَدِرَايَةٍ . وَشَبَّهَ عَلِيٌّ عليه السلام الْجَدَّ بِنَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْهُ جَدْوَلٌ , ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْهُ شُعْبَتَانِ , وَشَبَّهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِغُصْنٍ نَبَتَ مِنْ شَجَرَةٍ , ثُمَّ نَبَتَ مِنْ الْغُصْنِ غُصْنَانِ . ) وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ إلَى أَبِي مُوسَى : وَقِسْ الْأَمْرَ عِنْدَ ذَلِكَ , وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : ( لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي , وَلَسْنَا هُنَاكَ , فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ , فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاجْتِهَادُ فِي إدْرَاكِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُمْ سَائِغًا , لَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلَمَا جَازَ مِنْهُمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْقَائِلِ بِهِ , وَكَانَ لَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافٌ , فَيَقُولَ بِهِ بَعْضُهُمْ , وَيَنْفِيَهُ بَعْضُهُمْ , كَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا مِمَّا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَى الْقَائِلِ بِهِ فَلَمَّا تَوَافَوْا كُلُّهُمْ عَلَى تَجْوِيزِهِ - إمَّا رَجُلٌ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ , وَإِمَّا رَجُلٌ لَمْ يُنْكِرْهُ , إذْ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ قَوْلٌ فِي الْمَسَائِلِ - ثَبَتَ بِذَلِكَ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِيمَا طَرِيقُ الْحَقِّ فِيهِ وَاحِدٌ , وَلَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ , خَرَجُوا مِنْهُ إلَى اللَّحْنِ وَالْبَرَاءَةِ , وَنَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ , كَنَحْوِ اخْتِلَافِهِمْ ( فِي إنْشَاءِ ) حَرْبِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ , وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ , لَمَّا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا , وَكَانَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمًا بَارِزًا , لَمْ يُسَوِّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ , وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلَةُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ كَمَنْزِلَةِ الْخِلَافِ فِي الْجَدِّ , وَالْخَلِيَّةِ , وَالْبَرِيَّةِ , وَالْحَرَامِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى انْعِقَادِ اتِّفَاقِ السَّلَفِ , عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : فَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ , وَقَاضٍ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ , وَقَاضٍ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ } . قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي ( هَذَا ) : إنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُ حَكَمَ لِمَنْ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ بِالْجَنَّةِ , وَلَوْلَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَأْمُورٌ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فِي اجْتِهَادِهِ , لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ , لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مَحْظُورًا , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ عَلَى مُسَبَّبِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَمَى مُسْلِمًا مَحْظُورَ الدَّمِ , فَأَصَابَ كَافِرًا حَرْبِيًّا : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ . لِكَوْنِ السَّبَبِ الَّذِي عَنْهُ كَانَ مَحْظُورًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الَّذِي أَخْطَأَ : إنَّهُ فِي النَّارِ , فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا لَا نُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَإِنَّمَا نُجِيزُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ , عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ . وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ , فِي تَقْسِيمِنَا اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ , وَالْآخَرُ : خَارِجٌ عَنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَدَاخِلٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي كُلِّفُوا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ . فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَعِيدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ إنَّمَا خَرَجَ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ فِيمَا قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَظَهَرَتْ حُجَّتُهُ فَأَخْطَأَهُ , كَخَطَأِ الْخَوَارِجِ وَأَضْرَابِهِمْ , فَهُمْ فِي النَّارِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ , وَقَدْ رَوَاهُ . فَقَالَ : هَذَا الْحَرُورِيُّ مُجْتَهِدٌ وَهُوَ فِي النَّارِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : ( مَرَّ بِي أَنَسٌ وَقَدْ بَعَثَهُ زِيَادٌ ) إلَى أَبِي بَكْرَةَ يُعَاتِبُهُ , فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ , فَدَخَلْنَا عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ مَرِيضٌ , فَأَبْلَغَهُ عَنْهُ , وَقَالَ : إنَّهُ يَقُولُ : أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ عُبَيْدَ اللَّهِ عَلَى فَارِسَ ؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ رَوَّادًا عَلَى دَارِ الرِّزْقِ ؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَلَى الدِّيوَانِ وَبَيْتِ الْمَالِ ؟ فَقَالَ ( أَبُو بَكْرَةَ ) : هَلْ زَادَ عَلَى أَنْ أَدْخَلَهُمْ النَّارَ قَالَ أَنَسٌ : لَا أَعْلَمُهُ إلَّا مُجْتَهِدًا , فَقَالَ الشَّيْخُ : أَقْعِدُونِي إنِّي لَا أَعْلَمُهُ إلَّا مُجْتَهِدًا , فَأَهْلُ حَرُورَاءَ قَدْ اجْتَهَدُوا , فَأَصَابُوا أَمْ أَخْطَئُوا ؟ قَالَ الْحَسَنُ فَرَجَعْنَا مَخْصُومِينَ " فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ الْمُخْطِئِ فِي اجْتِهَادِهِ , فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَجْتَهِدَ - وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ - جَاهِلًا بِالْأُصُولِ , أَوْ حَافِظًا لَهَا جَاهِلًا بِطُرُقِ الِاجْتِهَادِ , وَوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ . فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ . وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ : قَالَ : فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ قَالَ : كَانَ قَوْلُهُ : إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَقْضِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ فَإِنْ قِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ , وَعَمَّ الْجَمِيعَ إذَا أَخْطَئُوا . قِيلَ لَهُ : خَصَصْنَاهُ فِيمَنْ ذَكَرْنَا , لِلدَّلَائِلِ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ , وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ : الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ , وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ . وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ , لِأَنَّ فِيهِ إبَاحَةَ الِاجْتِهَادِ , وَالْحُكْمَ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لِلْمُصِيبِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا . فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ , فَاسْتَفْتَى جَمَاعَةً كَانُوا مَعَهُ فِي التَّيَمُّمِ , فَقَالُوا : مَا نَرَى لَك إلَّا الْغُسْلَ , فَاغْتَسَلَ , فَمَاتَ , فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُ , فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ , أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ ؟ } وَرُوِيَ فِي خَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ { قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدِيَةِ الْجَنِينِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ , فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : كَيْفَ تَدِي مَنْ لَا أَكَلَ , وَلَا شَرِبَ , وَلَا صَاحَ , فَاسْتَهَلَّ . فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ النَّبِيُّ : أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ وَقَضَى فِيهِ بِالْغُرَّةِ } , فَكَانَ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدِينَ , وَلَمْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاجْتِهَادِ . قِيلَ لَهُ : نَحْنُ لَا نُجِيزُ الِاجْتِهَادَ مَعَ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَلَا مَعَ دَلِيلٍ قَائِمٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ : فَإِنَّهُمْ أَشَارُوا عَلَى الْمَرِيضِ بِالْغُسْلِ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ , وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } فَرَضِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْلَهُ , فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ ذَلِكَ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ . وَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ التَّيَمُّمَ , لِخَوْفِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ , فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَلٍ : فَإِنَّ الْقَائِلَ فِيهِ اعْتَرَضَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ سَمَاعِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجِبُ الْغُرَّةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ , فَكَانَ قَوْلُهُ مُنْكَرًا , مَرْدُودًا . فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ , وَتَسْوِيغِهِمْ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ ظَهَرَ مِنْهَا النَّكِيرُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الِاجْتِهَادِ , وَخَرَجُوا فِيهِ إلَى التَّلَاعُنِ , وَإِلَى اسْتِعْظَامِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا , مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , ( أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي , وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي , إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي ) وَقَالَ عُمَرُ ( أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ ) , وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : ( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ ) وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى , نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى ) يَعْنِي قوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نَزَلَتْ بَعْدَ قوله تعالى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } , وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ ) وَقَالَ : ( أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ , يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ , وَلَا يَجْعَلُ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ؟ ) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ , ثُمَّ اشْتَرَتْهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ . فَقَالَتْ : ( بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ أَخْبِرِي ) زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِهِ ( إنْ لَمْ يَتُبْ ) وَهَذَا غَايَتُهُ النَّكِيرُ وَالْوَعِيدُ . وَقَالَ عَلِيٌّ : ( لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ , لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ ظَاهِرَ الْخُفِّ ) . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : ( إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ , فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ ) وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ( قُرَّاؤُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ , وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ ) وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي ) وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : أَوَّلُ ( مَنْ قَاسَ ) إبْلِيسُ , وَإِنَّمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ وَقَالَ أَشْعَثُ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لَا يَكَادُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بِرَأْيِهِ وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لِلسَّائِلِ : ( لَعَلَّك مِنْ الْقَائِسِينَ ) وَتَذَاكَرُوا الْقِيَاسَ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ : إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَحْلَلْتُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ الشَّعْبِيُّ لَا يَقِيسُ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ لَا يُفْتِي بِرَأْيِهِ . الْجَوَابُ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ السَّلَفِ , الْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ , وَاسْتِعْمَالِ الْمَقَايِيسِ , فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ , وَالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ , الَّتِي يَعْجِزُ الْكِتَابُ عَنْ ذِكْرِهَا , وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا سَمِعَهَا الشَّكُّ فِيهَا . - فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِمَّا ذَكَرْت , فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي , وَثَبَتَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالِاجْتِهَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ , فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ مَا رَوَيْت مِنْ قَوْلِهِ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي , وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي , إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْيِي , فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ , إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ , وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَنْعُ الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ أَوْ دَلِيلِهِ , وَلَسْنَا نُجِيزُ الِاجْتِهَادَ فِي مِثْلِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ : أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ , وَقَوْلُ عَلِيٍّ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ , فَإِنَّمَا مُرَادُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ فِي الْجَدِّ لَطِيفُ الْمَعْنَى , غَامِضُ الْمَسْلَكِ , فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْقَوْلُ فِيهِ , إلَّا لِمَنْ كَانَ بَارِعًا مُتَقَدِّمًا فِي النَّظَرِ , عَالِمًا بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَالِاسْتِدْلَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدْ قَالَا فِي الْجَدِّ , فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا بِذَلِكَ مَنْعَ أَنْفُسِهِمَا وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْقَوْلِ فِي الْجَدِّ بِالِاجْتِهَادِ . وَإِنَّمَا أَرَادَا بِذَلِكَ , مَنْ تَقْصُرُ مَنْزِلَتُهُ عَنْ الْقَوْلِ فِيهِ , كَمَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَيْءٍ ذَكَرَهُ لَهُ , أَنَّهُ أَفْتَى بِهِ , فَقَالَ لَهُ : لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُك . وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى , فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُبَاهَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ فِي تَارِيخِ السُّورَتَيْنِ , وَالصَّحَابَةُ لَمْ تُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ , وَإِنَّمَا خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي حُكْمِهِمَا , فَقَالَا بِاسْتِعْمَالِ الْآيَتَيْنِ , وَجَعَلَا عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا - إذَا كَانَتْ حَامِلًا - أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ , وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ : أَنَّ قوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَلَمْ تَكُنْ الْمُبَاهَلَةُ الْمَذْكُورَةُ هَهُنَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَتَيْنِ , وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي تَارِيخِهِمَا , وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِي تَارِيخِهِمَا , إلَّا أَنَّهُ دَعَا مَنْ خَالَفَهُ إلَى اعْتِبَارِ آخِرِهِمَا نُزُولًا , فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ دُونَ غَيْرِهَا , وَهُوَ قوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ . فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ يُوجِبُ الْمُبَاهَلَةَ لِمَنْ أَنْكَرَ مَا قَالَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْجَدَّ أَبًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وقوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ } وَلَمْ يُوجِبْ الْمُبَاهَلَةَ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي الْحُكْمِ , إنْ أَوْجَبَهَا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي التَّسْمِيَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ فَإِنَّمَا نَبَّهَهُ بِهِ عَلَى وُضُوحِ الدَّلَالَةِ فِي إلْحَاقِ الْجَدِّ بِحُكْمِ الْأَبِ , وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ابْنِ الِابْنِ , وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِإِنْكَارٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , فَإِنَّمَا قَالَتْهُ عِنْدَنَا تَوْقِيفًا لَا اجْتِهَادًا , لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَلْحَقُ فَاعِلَهُ فِيهِ الْوَعِيدُ . وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ بَعْدَ قَوْلِهَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعِ . وَعَلَى أَنَّ إنْكَارَ عَائِشَةَ عَلَى زَيْدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمَا عَرَفَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاجْتِهَادِ , فَإِنْ كَانَتْ قَالَتْهُ تَوْقِيفًا فَهُوَ مَا قُلْنَا , وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَهُنَا . وَإِنْ قَالَتْهُ اجْتِهَادًا , فَقَدْ اسْتَعْمَلَتْ الِاجْتِهَادَ فِي إبْطَالِ ذَلِكَ الْبَيْعِ , وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى زَيْدٍ , فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت أَنْ تُثْبِتَ عَنْهَا نَفْيَ الِاجْتِهَادِ . فَقَدْ أَثْبَتَّ قَوْلَهَا بِالِاجْتِهَادِ , ثُمَّ يَصِيرُ حِينَئِذٍ الْكَلَامُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , أَوْ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَهَذَا الْبَابُ لَا مَدْخَلَ لِمُبْطِلِي الِاجْتِهَادِ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ , لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ , فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي رَدِّ التَّوْقِيفِ , فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ , لِأَنَّهُ يُلَاقِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا ( مِنْ ) طِينٍ , وَتُرَابٍ , وَقَذَرٍ ( وَلَا يُلَاقِيهَا , ظَاهِرُهُ ) إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْقِيَاسَ , لِأَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ ظَاهِرَ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ , فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُرَادُهُ نَفْيَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ , فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا , فَقَالُوا بِالرَّأْيِ . فَإِنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ , وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ , فَإِنَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذَمُّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ يَنْصَرِفُ الْقَوْلُ فِيهَا إلَى وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْمًا يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ . وَقَوْمٌ آخَرُونَ يَقُولُونَ : لِلْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا بِآرَائِهِمْ , وَبِمَا يَسْنَحُ فِي أَوْهَامِهِمْ , وَيَخْطِرُ بِبَالِهِمْ فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَادِثَةُ , مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءٍ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ , وَلَا رَدٍّ عَلَى نَظِيرٍ , وَقَوْمٌ يَجْتَهِدُونَ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ وَإِتْقَانِهَا . فَانْصَرَفَ ذَمُّ مَنْ ذَمَّ الرَّأْيَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ , لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - إنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ بِالرَّأْيِ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , قَوْلُهُ : إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ , فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا , فَقَالُوا بِالرَّأْيِ . فَخَصَّ بِالذَّمِّ مَنْ تَرَكَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْفَظَهَا , وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا , وَفَاعِلُ ذَلِكَ مَذْمُومٌ عِنْدَنَا , غَيْرُ مُسَوَّغٍ لَهُ الِاجْتِهَادُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ : وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا , يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ , هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ قَالَ : لَا أَقِيسُ ( شَيْئًا ) بِشَيْءٍ , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي , فَإِنَّ مَسْرُوقًا قَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ , مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ , وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ : يُجْعَلُ مَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ , فَخَرَجَ خَرْجَةً إلَى الْمَدِينَةِ , فَجَاءَ وَهُوَ يَرَى أَنْ يُشَرِّكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ . فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ : ( مَا رَدَّكَ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ؟ أَلَقِيتَ أَحَدًا هُوَ أَوْثَقُ فِي نَفْسِك مِنْهُ ؟ قَالَ : لَا . وَلَكِنْ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ , فَوَجَدْتُهُ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ قَوْلَ زَيْدٍ فِي نَفْسِهِ , وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ إلَيْهِ إلَّا بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ , أَوْجَبَا ذَلِكَ عِنْدَهُ . وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : ( لَا ) أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا , كَمَا لَوْ قَالَ : لَا أُفْتِي , لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي , لَمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْفُتْيَا جَائِزَةً , وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّوَقِّي , لِمَا قَدْ كَفَاهُ غَيْرُهُ . كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : ( أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يُسْتَفْتَى , إلَّا وَدَّ أَنَّ صَاحِبَهُ كَفَاهُ ) . مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَقِيسُ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ , كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ : ( أَكَانَ هَذَا ؟ فَقَالَ السَّائِلُ : لَا . فَقَالَ : أَجِمْنَا حَتَّى يَكُونَ ) . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ , وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إنَّمَا عُبِدَا بِالْمَقَايِيسِ , فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَقَايِيسَ الْفَاسِدَةَ , الَّتِي لَمْ يَقَعْ بِنَاؤُهَا عَلَى أُصُولٍ صَحِيحَةٍ , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْمَقَايِيسَ الصَّحِيحَةَ . وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى التَّوْحِيدِ , وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ جَائِزًا , وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى , وَهُوَ يَحْكِي عَنْ إبْرَاهِيمَ , الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حَدَثِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ , وَأَنَّهُمَا كَانَا كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ , وَالتَّغْيِيرِ بِالْحَرَكَةِ وَالزَّوَالِ , فِي قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ الْمَقَايِيسَ الَّتِي ( لَا ) يَقَعُ بِنَاؤُهَا عَلَى أُصُولٍ صَحِيحَةٍ . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ : إنْ أَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ , أَحْلَلْتُمْ الْحَرَامَ , وَحَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ , أَنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ , فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ , عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقِيَاسَ جَائِزًا فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَلَسْنَا نُجِيزُ الْقِيَاسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَإِنَّمَا نُجِيزُهُ , فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ , وَإِنَّمَا مَنَعَ قِيَاسًا يُحَرِّمُ مَا أَبَاحَهُ النَّصُّ , أَوْ يُبِيحُ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ , ( وَذَلِكَ ) لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّعْبِيِّ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى , وَجُلُّ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ إنَّمَا أَخَذُوا طَرِيقَةَ الْقِيَاسِ عَنْهُ , وَعَنْ أَمْثَالِهِ , وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ يَرَى الْقِيَاسَ إلَّا كَعِلْمِنَا بِأَنَّ حَمَّادًا , وَالْحَكَمَ , وَبَعْدَهُمَا ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانُوا يَرَوْنَ الْقِيَاسَ جَائِزًا فِي الْحَوَادِثِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ( الْقَضَاءُ عَلَى ثَلَاثَةٍ : آيَةٍ مُحْكَمَةٍ , أَوْ سُنَّةٍ مُتَّبَعَةٍ أَوْ رَأْيِ مُجْتَهِدٍ . ) وَقَالَ الْفُرَاتُ بْنُ أَحْنَفَ : ( قَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى رَجُلٍ , فَقِيلَ لَهُ : اقْضِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ , فَقَالَ إنَّمَا أَقْضِي بِرَأْيِي ) . وَذَكَرَ أَبُو حُصَيْنٍ : أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَضَى بِقَضِيَّةٍ ثُمَّ قَالَ : مَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ وَلَكِنْ لَمْ آلُ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ , فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ ( عَنْهُ ) أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ آثَارٍ , وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلَ الْحَدِيثِ . وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى , كَانَ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ . وَقَدْ كَانَ حِفْظُ الْآثَارِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ . فَمَعْنَى قَوْلِهِ : إنَّهُ كَانَ لَا يَقِيسُ , أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَفَاذُهُ فِي الْقِيَاسِ , كَنَفَاذِ غَيْرِهِ . كَمَا رُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ , وَإِبْرَاهِيمَ , وَأَبَا الضُّحَى , كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَذَاكَرُونَ , فَإِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ رِوَايَةٌ رَمَوْا إبْرَاهِيمَ بِأَبْصَارِهِمْ , فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ فِي الْقِيَاسِ أَنْفَذَ مِنْهُ , وَكَانَ الشَّعْبِيُّ أَحْفَظَ لِلْآثَارِ , فَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَقِيسُ , وَهُوَ يَعْنِي أَنَّ حِفْظَ الْآثَارِ , كَانَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ , كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ صَاحِبُ آثَارٍ , وَ ( فُلَانٌ ) صَاحِبُ قِيَاسٍ , وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يَقُولَانِ بِالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ . فَنُسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى أَغْلَبِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ , وَأَقَاوِيلُهُمْ فِيهَا , إنَّمَا كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ , وَالصُّلْحِ , أَوْ عَلَى جِهَةِ نَدْرِ الْمَسَائِلِ . لَا ( عَلَى ) جِهَةِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَضَاءِ . قِيلَ لَهُ : الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ , كَانُوا عَالِمِينَ بِفَصْلِ مَا بَيْنَ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ , وَبَيْنَ فَصْلِ الْقَضَاءِ , وَإِبْرَامِ الْحُكْمِ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فُقَهَاءَ , عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكَلَامِ , وَوُجُوهِهِ ( وَقَدْ ) نَقَلُوا إلَيْنَا قَضَايَاهُمْ , وَقَطْعَهُمْ لِلْحُكْمِ , بِالْأَقَاوِيلِ الَّتِي ذَهَبُوا إلَيْهَا . فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : ( إنَّ ذَلِكَ كَانَ ) عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخُصُومِ , لَجَازَ مِثْلُهُ فِي نَقْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَضَايَاهُ , لِأَنَّ النَّاقِلِينَ لَهَا قَدْ بَيَّنُوا أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ , وَإِبْرَامِ الْحُكْمِ , وَهُمْ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ , فِي مِثْلِ حَالِهِمْ الْغَلَطُ , وَاشْتِبَاهُ أَمْرِ الْقَضَاءِ , وَالصُّلْحِ عَلَيْهِمْ , حَتَّى لَا يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا , عَلِمْنَا سُقُوطَ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِثْلَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ فِي الْحَوَادِثِ . وَمَا عِلْمُ النَّاقِلِينَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ لَمْ تَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ إلَّا كَعِلْمِنَا بِأَقَاوِيلِ فُقَهَائِنَا , وَجَوَابَاتِ مَسَائِلِهِمْ , أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخُصُومِ , وَأَنَّهُمْ أَجَابُوا فِيهَا عَلَى أَنَّهَا أَجْوِبَةُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ , وَأَحْكَامُهَا , دُونَ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيمَا نَقَلُوا إلَيْنَا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ , عِبَادَاتٍ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ , وَلَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ وَالتَّوَسُّطِ فِيهَا , نَحْوُ : مَسَائِلِ الصَّلَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ , مِمَّا لَا يَجُوزُ الِاصْطِلَاحُ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ . أَجَابَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِجَوَابِهِ فِيهَا , عَلَى وَجْهِ إبْرَامِ الْحُكْمِ , وَإِلْزَامِ الْقَضِيَّةِ , فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ ذَكَرْنَا صَدْرًا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَنَذْكُرُ الْآنَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ حُجَجِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ . فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْعِبَادَاتِ ( قَدْ ) تَرِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ : وَاجِبٌ فِي الْعَقْلِ : فَيَرِدُ الْعَقْلُ بِإِيجَابِهِ , تَأْكِيدًا لِمَا كَانَ فِي الْعَقْلِ مِنْ حَالِهِ , وَذَلِكَ نَحْوُ التَّوْحِيدِ , وَصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ , وَالْإِنْصَافِ , وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ . وَالثَّانِي : مَحْظُورٌ فِي الْعَقْلِ : فَيَرِدُ الشَّرْعُ بِحَظْرِهِ , تَأْكِيدًا لِمَا كَانَ فِي الْعَقْلِ مِنْ حُكْمِهِ , قَبْلَ وُرُودِهِ , نَحْوُ : الْكُفْرِ , وَالظُّلْمِ , وَالْكَذِبِ , وَسَائِرِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ , وَهَذَانِ الْبَابَانِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ فِيهِمَا خِلَافَ مَا فِي الْعَقْلِ . وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ . وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا , لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَا إيجَابُهُ , إلَّا عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُ : مِنْ حُسْنٍ , أَوْ قُبْحٍ , وَفِي الْعَقْلِ تَجْوِيزُ كَوْنِهِ مِنْ حَيِّزِ الْوَاجِبِ , أَوْ الْمَحْظُورِ , أَوْ الْمُبَاحِ . فَإِذَا حَظَرَهُ السَّمْعُ عَلِمْنَا قُبْحَهُ , وَإِنْ أَوْجَبَهُ أَوْ أَبَاحَهُ , عَلِمْنَا حُسْنَهُ , فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا التَّصَرُّفَ فِي الْمُبَاحَاتِ بِحَسَبِ رَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا فِي اجْتِلَابِ الْمَنَافِعِ لِأَنْفُسِنَا بِهَا , وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهَا , نَحْوُ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَاتِ , وَالرِّحْلَةِ لِلْأَسْفَارِ , طَلَبًا لِلْمَنَافِعِ فِي زِرَاعَةِ الْأَرَضِينَ , وَأَكْلِ الْأَطْعِمَةِ , وَالتَّعَالُجِ , وَالْأَدْوِيَةِ , عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِنَا . وَالْغَالِبُ فِي ظُنُونِنَا : أَنَّا نَجْتَلِبُ بِهَا نَفْعًا , وَلَوْ غَلَبَ فِي ظُنُونِنَا أَنَّا لَا نَجْتَلِبُ بِهَا نَفْعًا , أَوْ ( نَدْفَعُ ) بِهَا ضَرَرًا , لَكَانَ تَصَرُّفُنَا فِيهَا قَبِيحًا , وَعَبَثًا , وَسَفَهًا , ثُمَّ كَانَتْ إبَاحَتُهُ ذَلِكَ لَنَا عَلَى ( هَذِهِ الْوُجُوهِ ) مَصْلَحَةً , وَدَلَالَةً عَلَى حُسْنِهِ , مَعَ كَوْنِ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنْ التَّصَرُّفِ مَوْكُولَةً إلَى اجْتِهَادِنَا , وَمَقْصُورَةً عَلَى مَبْلَغِ آرَائِنَا , وَغَالِبِ ظُنُونِنَا . وَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَنَا , وَيَكْفِيَنَا الْمُؤْنَةَ فِيهِ , كَمَا كَفَانَا أَكْثَرَ أُمُورِنَا الَّتِي حَاجَتُنَا إلَيْهَا ضَرُورَةٌ . وَلَكِنَّهُ وَكَلَ ذَلِكَ إلَى آرَائِنَا وَاجْتِهَادِنَا , لِمَا عَلِمَ لَنَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالتَّشَبُّهِ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ , وَلِيُشْعِرَنَا أَنَّ ثَوَابَهُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالسَّعْيِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا , وَالتَّرْغِيبِ فِي الْجَنَّةِ , الَّتِي لَا تَعَبَ فِيهَا وَلَا نَصَبَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهَا , وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمُبَاحَاتِ الَّتِي قَدْ عَلِمْنَا تَعَلُّقَهَا بِالْمَصَالِحِ كَتَعَلُّقِ الْمَحْظُورَاتِ , وَالْوَاجِبَاتِ , مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ , وَالتَّبْدِيلُ , ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِنَا , وَغَالِبِ ظُنُونِنَا , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ , إذْ كَانَ أَكْبَرُ الْمَصَالِحِ , مَا كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ , فَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي سَائِرِ حَوَادِثِ أَمْرِ الدِّينِ , مِمَّا لَمْ يَنُصَّ لَنَا فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ تَتَّفِقْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ وَافَقَنَا خُصُومُنَا مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ , وَالِاجْتِهَادِ , وَالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ غَالِبُ الظَّنِّ , فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ , وَمَا يُقَاتِلُونَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِي غَالِبِ ظُنُونِنَا , أَنَّهُ إلَى قُوَّةِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ , وَوَهَنِ الْكُفْرِ , وَسُقُوطِهِ , وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ . فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِ , كَانَ الْجَمِيعُ بِمَثَابَتِهِ . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ مَا وَصَفْنَا فِي بَعْضِ أُمُورِ الْحَرْبِ , وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ , كَانَ جَمِيعُهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا ذَكَرْنَا , اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَصَدَ رَجُلًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ . أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ , اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِهِ . فَإِنْ غَلَبَ فِي ) ظَنِّهِ أَنَّهُ مَازِحٌ لَاعِبٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ قَتْلُهُ . وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ قَاصِدٌ قَتْلَهُ , كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ . فَكَانَ حُكْمُ جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهِ مَنُوطًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ , وَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ أَحْرَى بِجَوَازِ ذَلِكَ فِيهِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَدْرَكَةً مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ , أَوْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ . وَمِنْ جِهَةِ مَعَانٍ مُودَعَةٍ فِيهَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْأَحْكَامِ بِهَا , فَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَرِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهَا , فِي أُمُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي أَغْيَارِهَا ( لِمُشَارَكَتِهَا ) لَهَا فِي مَعَانِيهَا . نَحْوُ قَوْلِهِ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } عُلِمَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ السَّبِّ وَالضَّرْبِ . وَنَحْوُ قوله تعالى : { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } وقوله تعالى : { وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } وَنَحْوُ قوله تعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ } فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ( بِهِ ) مَقْصُورًا بِهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , بَلْ كَانَ حُكْمًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ , مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ . عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَجِبُ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ , وَقَدْ يَجِبُ بِالْمَعْنَى , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا . وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُكْمِهِ فِي أَشْخَاصٍ ( بِأَعْيَانِهَا ) , وَأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُعَلَّقْ الْحُكْمُ فِيهَا بِاسْمِ عُمُومٍ . وَكَانَ الْحُكْمُ جَارِيًا عَلَى مَعَانٍ مُودَعَةٍ فِي النَّصِّ , نَحْوُ : حُكْمُهُ بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ . وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ . ( وَحُكْمُهُ فِي الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَتْ فِي سَمْنٍ : أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا أُلْقِيَتْ وَمَا حَوْلَهَا , وَإِنْ كَانَ مَائِعًا أُرِيقَ ) , وَنَحْوُ رَجْمِهِ مَاعِزًا حِينَ زَنَى وَتَخْيِيرِهِ بَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ وَلَهَا زَوْجٌ , ( وَأَمْرِهِ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ حِينَ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ) , ثُمَّ كَانَ كَحُكْمِ الزَّيْتِ : حُكْمُ السَّمْنِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ , وَكَانَ الْعُصْفُورُ بِمَنْزِلِهِ الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَ فِيهَا , وَكَانَ حُكْمُ غَيْرِ مَاعِزٍ مِنْ الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ : حُكْمَ مَاعِزٍ , وَكَانَ حُكْمُ غَيْرِ بَرِيرَةَ , وَغَيْرِ ابْنِ عُمَرَ : حُكْمَ مَا وَرَدَ فِيهِ الْأَثَرُ , وَنُصَّ عَلَيْهِ , لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِاسْمِهِ , ثَبَتَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ , وَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ , مِنْ الْمَعَانِي مَا يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا , وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا . فَالْجَلِيُّ مِنْهَا : نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا , مِمَّا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ . ( وَالْخَفِيُّ مِنْهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ ) فَحَيْثُمَا وَجَدْنَا الْمَعْنَى وَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ , إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى , كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْمِ وَبِالْعَيْنِ , كَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ , وَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِهِ , حَيْثُ وُجِدَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ وُرُودِ الْحُكْمِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ : الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْخَاصِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْجَمِيعَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرِيعَةِ , مُتَسَاوُونَ فِيهَا , إلَّا مَنْ خَصَّتْهُ الدَّلَائِلُ بِشَيْءٍ دُونَ سَائِرِهِمْ . وَقَدْ عَقَلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ حُكِمَ بِهِ فِي شَخْصٍ , فَهُوَ لَازِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ . فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَجَبَ مَا ذَكَرْت ( لَا ) مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ الْوَاقِعُ فِي شَخْصٍ فِي سَائِرِ الْأَشْخَاصِ مِنْ حَيْثُ ذَكَرْت , ( دُونَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى ) وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَنْ شَارَكَهُ فِيهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ , لَيْسَ هُوَ حُكْمًا فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ , وَأَنَّ حُكْمَهُ فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ , لَيْسَ هُوَ فِيمَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْمَعْنَى , وَأَنَّ حُكْمَهُ بِرَجْمِ مَاعِزٍ , لَيْسَ هُوَ حُكْمًا فِي سَائِرِ النَّاسِ , مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الزِّنَا . وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي بَرِيرَةَ بِالتَّخْيِيرِ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ , إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى , وَاعْتِبَارِهِ بِهِ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ وُجُوبُ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : وَلِمَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ , مِنْ حَيْثُ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِيمَا اسْتَشْهَدْتَ بِهِ . وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ؟ قِيلَ لَهُ : لَمَّا ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِالْمَعَانِي عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْنَا لَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي أَغْيَارِهَا مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى , كَمَا وَافَقْنَا خُصُومَنَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ : أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى , فَحَيْثُمَا وُجِدَ الْمَعْنَى وَجَبَ اعْتِبَارُهُ , وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , فَمِنْ حَيْثُ وُجِدَ سَاوَاهُ غَيْرُهُ فِي الْمَعْنَى , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَجَازَ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى وَإِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَوَادِثِ , أَجَازَهُ فِي جَمِيعِهَا , مِمَّا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنِّي أُجِيزُ اعْتِبَارَ الْمَعَانِي وَالْقِيَاسَ عَلَيْهَا فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْعَتَاقِ , وَفِي الصَّلَاةِ دُونَ الزَّكَاةِ , لَكَانَ قَوْلُهُ سَاقِطًا مَرْذُولًا . كَذَلِكَ مَنْ أَجَازَ اعْتِبَارَ الْمَعَانِي , وَأَجْرَى الْحُكْمَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ , وَمَنَعَ فِي بَعْضِهَا , مِمَّا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى , فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ . وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ حُجَجِ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ , فَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ عُقَلَاءُ ( قَدْ ) أَثْبَتُوا حُجَجَ الْعُقُولِ , وَأَحْكَامَهَا . فَأَمَّا مَنْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ وَقَالَ : بَلْ عَلَى الْعُقُولِ . وَنَفَى أَنْ تَكُونَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالتُّهْمَةِ بِالْإِسْلَامِ , وَأَنْ يَكُونَ مِنْ دُسُسِ الْمُلْحِدِينَ وَالزَّنَادِقَةِ , فِي الصَّرْفِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ , وَعَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى , وَمِثْلُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِحُجَجِ الْعُقُولِ , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِهِ . ثُمَّ يَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعُمُومِ الْآيَاتِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ . فَالرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم , فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حُكْمَ الْحَادِثَةِ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ , عَلِمْنَا وُجُوبَ الرَّدِّ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى , إذْ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا , وَإِنْ حُكِمَ بِهَا فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِفُ هُوَ بِلُزُومِهِ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ مِنْ الْعُمُومِ وَظَوَاهِرِ الْأَسْمَاءِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ : بِأَنَّهُ مَا مِنْ حَادِثَةٍ , إلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ . إمَّا بِحَظْرٍ , أَوْ إبَاحَةٍ , أَوْ إيجَابٍ , فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , أَوْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّصِّ , فَيُرَدُّ إلَى النَّصِّ , وَيُبْنَى عَلَيْهِ . فَلَمَّا امْتَنَعَ وُجُودُ النَّصِّ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ - لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهَا - لَمَا كَانَتْ حَوَادِثَ , وَلَكَانَتْ أُصُولًا , وَلِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ نُصُوصًا , وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّصِّ فِيهَا , إذْ كَانَتْ الْحَوَادِثُ لَا غَايَةَ لَهَا ( يُحِيطُ عِلْمُنَا ) ( بِهَا ) - ثَبَتَ أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا . ثُمَّ لَا يَخْلُو بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ , ( وَمَا ) يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ , مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ , أَوْ الْوَقْفِ فِيهَا , أَوْ رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي جُعِلَتْ عَلَمًا لِأَحْكَامِهَا , عَلَى مَا قَالَ الْقَائِسُونَ . وَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ وَالتَّخْمِينِ : بَاطِلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ . فَثَبَتَ وُجُوبُ رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا , وَجُعِلَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ فِيهَا , فَيُحْكَمُ لَهَا بِحُكْمِهَا , وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي نَقُولُهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَى وَجْهَيْنِ . نَصٍّ جَلِيٍّ , وَنَصٍّ خَفِيٍّ . فَأَمَّا الْجَلِيُّ : فَهُوَ الَّذِي يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ . وَأَمَّا الْخَفِيُّ : فَهُوَ الَّذِي يُدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ , وَالْفِكْرِ , وَالنَّظَرِ . فَتَكُونُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَقَدْ اسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ . قِيلَ لَهُ : أَدَلُّ مَا فِي هَذَا : أَنَّ قَوْلَك بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ . لِأَنَّ النَّصَّ فِي اللُّغَةِ : الْمُبَالَغَةُ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ , وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : نَصَصْت الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ , يَعْنِي أَظْهَرْت أَصْلَهُ وَمَخْرَجَهُ , وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَنُصُّ الْحَدِيثَ إلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ فِي نَصِّهِ . وَيَقُولُونَ : نَصَصَتْ الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ , إذَا بَالَغَتْ فِي إظْهَارِ مَا فِي وُسْعِهَا , وَطَاقَتِهَا مِنْ ذَلِكَ . وَ ( مِنْهُ ) الْمِنَصَّةُ . سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَيْهَا يَكُونُ ظَاهِرًا لِلْحَاضِرِينَ . فَإِذَا كَانَ النَّصُّ هُوَ الْإِظْهَارَ وَالْإِبَانَةَ , تَنَاقَضَ قَوْلُ الْقَائِلِ : نَصٌّ خَفِيٌّ , لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : ظَاهِرٌ خَفِيٌّ . وَوَاضِحٌ غَامِضٌ . وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ . فَبَانَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : نَصٌّ خَفِيٌّ . ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا ( لَهُ ) اللَّفْظَ , لَمْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ , فِيمَا أَرَدْنَا إثْبَاتَهُ , وَلَمْ يَقْدَحْ فِيمَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النَّصُّ الْخَفِيُّ , طَرِيقَ إدْرَاكِهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ عَلَى مَا قُلْنَا , أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي ( بِالنَّظَرِ ) إلَى الْعِلْمِ بِهِ . فَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ الَّذِي قُلْنَا . وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي بِالنَّاظِرِ إلَى ( الْعِلْمِ ) بِهِ . فَأَيْنَ كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَنْهُ حِينَ نَظَرُوا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَاخْتَلَفُوا فَلَمْ يُعَنِّفْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؟ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِيهَا , وَلَمْ يَدْعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إلَى اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ , بَلْ إنَّمَا فَزِعُوا إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ , عَلِمْنَا بِهِ بُطْلَانَ قَوْلِكَ . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى - وَلَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ - لَكَانَ سَبِيلُ الْمُخْطِئِ فِيهِ - عِنْدَ الصَّحَابَةِ - سَبِيلَ الْمُخْطِئِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطَأِ إلَى اللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ , وَإِلَى التَّحَزُّبِ فِي الْقِتَالِ . فَلَمَّا لَمْ نَجِدْهُمْ فِيهَا كَذَلِكَ , ثَبَتَ بُطْلَانُ قَوْلِك : إنَّ النَّصَّ الْخَفِيَّ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ . فَإِنْ قَالُوا : إنَّ النَّصَّ الْخَفِيَّ , هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } عُقِلَ بِهِ النَّهْيُ عَمَّا فَوْقَهُ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } عُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ , وَنَظَائِرَ ذَلِكَ . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْمَعَانِي مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِيهِ ( خِلَافٌ بَيِّنٌ , وَلَوْ كَانَ النَّصُّ الْخَفِيُّ الَّذِي ادَّعَيْته لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , لَمَا وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ ) بَيْنَ الصَّحَابَةِ , وَلَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ , فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِنَا إلَى الرُّجُوعِ إلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ , وَصَارَ الْمُدَّعِي النَّصَّ الْخَفِيَّ إنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ , وَكَذَلِكَ مَنْ ادَّعَى : أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ مُسْتَدْرَكَةٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا . فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ اعْتِبَارِك هَذَا الدَّلِيلَ دُونَ غَيْرِهِ . أَقُلْته بِنَصٍّ , أَوْ إجْمَاعٍ , أَوْ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ ؟ فَإِنْ ادَّعَى فِيهِ نَصًّا , أَوْ إجْمَاعًا , طُولِبَ بِإِيجَادِهِ , وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ . وَ ( إنْ ) قَالَ : قُلْته بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ . قِيلَ ( لَهُ ) : فَعَنْهُ سُئِلْتَ , فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّهُ ؟ وَعَلَى أَنَّهُ يُطَالَبُ بِإِظْهَارِهِ , وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إثْبَاتِهِ , لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الصَّحَابَةُ . فَإِنْ قَالَ : قُلْتُهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ . قِيلَ ( لَهُ ) : فَخَبِّرْنَا عَمَّا لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , هَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِي اللُّغَةِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَوْضُوعَ لُغَاتِهِمْ , وَلَا دَلَالَاتِهَا وَإِنْ قَالَ : لَا . قِيلَ لَهُ : فَإِنَّمَا سَأَلْتُكُمْ عَمَّنْ عَرَفَ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ وَدَلَالَاتِهَا , وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا , وَمِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ . فَإِنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . قِيلَ لَهُ : فَلِمَ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , مَعَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا ؟ وَخَبِّرْنِي عَنْ النَّصِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , هَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِي مَعْنَاهُ , وَمُوجَبِ حُكْمِهِ , بَيْنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ , وَالْعَارِفِينَ بِمَعَانِيهِ , وَدَلَالَاتِ لَفْظِهِ ؟ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِك . وَلَوْ كَانَ مَا قُلْت صَحِيحًا , لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِاعْتِبَارِهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ , وَلَوْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَنَبَّهَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ , فَكَانَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَاسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ , إذْ كَانَ لِذَلِكَ سَبَبًا مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَدَلَالَةِ الْخِطَابِ . وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُرِيَنَا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحَوَادِثِ . كَالْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ , وَكَالْخَلِيَّةِ , وَالْبَرِيَّةِ , وَغَيْرِهَا , مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا , دَلِيلًا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , فَعَلِمْنَا أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ , إنَّمَا عَبَّرَ عَنْ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا . فَأَخْطَأَ فِي تَسْمِيَتِهِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ تَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْمُخْتَلِفَةَ , وَالْمَعَانِيَ الْمُتَغَايِرَةَ . قِيلَ لَهُ : فَقَدْ وَافَقْتنَا عَلَى إثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي إدْرَاكِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ . وَحَصَلَ خِلَافُك لَنَا فِي الْعِبَارَةِ . فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ : أَنْ يُتْرَكَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الْعَقْلِ , قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ . فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْعَقْلِ أُقِرَّ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُوجِبُ حَظْرَهُ أَوْ إيجَابَهُ , كَانَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ , وَمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ أَيْضًا فِي قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ } . قِيلَ لَهُ : فَاسِدٌ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِالِاسْتِنْبَاطِ , وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى أُصُولِهَا , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وقوله تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } , وقوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وقوله تعالى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ , وَاسْتِعْمَالِ السَّلَفِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي حُكْمِ الْحَوَادِثِ : مِنْ نَحْوِ الْخَلِيَّةِ , وَالْبَرِيَّةِ , وَالْحَرَامِ , وَالْبَتَّةِ , وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ : اُتْرُكُوهَا زَوْجَتَهُ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ , وَلَا تَنْظُرُوا فِي حُكْمِ اللَّفْظِ . ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلُ لَا بُدَّ فِيهَا ( مِنْ ) اجْتِهَادِ الرَّأْيِ : كَنَحْوِ تَحَرِّي الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا , وَكَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى مَقَادِيرِهَا , وَقِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ , وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ . وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مُنَاقِضٌ فِي قَوْلِهِ , لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ رَدَّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ . وَهَذَا الْقَوْلُ حُكْمٌ مِنْهُ فِي الْحَادِثَةِ بِغَيْرِ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ فِيهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا اعْتِرَاضَاتِهِمْ , مِمَّنْ يَقُولُ مِنْهُمْ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ , أَوْ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا . وَمَنْ يَقُولُ بِتَرْكِ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ , لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ , وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ , فِي مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ , مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ , فَيُكَابِرُونَ وَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ , قَصْدًا مِنْهُمْ إلَى الْخِلَافِ , وَلِيُذْكَرُوا فِي الْمُخْتَلِفِينَ , وَكَذَلِكَ لَا نَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ إلَّا وَهُوَ يَسْتَعْمِلُهَا ضَرُورَةً , وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا أَوْ يَعْلَمُهُ وَيُكَابِرُ . وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْفِي خَبَرَ الْوَاحِدِ فَإِنَّمَا يَنْفِيهِ بِالْقَوْلِ , فَإِذَا فَتَّشْتَ مَذَاهِبَهُ وَجَدْتَهُ يَسْتَعْمِلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَيَقُولُ بِهَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ . فَصْلٌ . فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مُبْطِلُو الْقِيَاسِ مِنْ ( جِهَةِ ) ظَاهِرِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَزَعَمُوا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادَ الرَّأْيِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وقوله تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } قَالُوا : مَنْ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فَقَدْ شَمِلَهُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ , وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي بِقَائِسِهِ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ , فَهَذَا بَاطِلٌ . الْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّ قَوْلَهُ { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ , ; لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَدْرَكٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : نَصٍّ , أَوْ دَلَالَةٍ , وَالْقَائِسُونَ إنَّمَا تَبِعُوا الدَّلَائِلَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ , فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِنَصْبِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَحْكَامِهِ , فَلَيْسَ مُتَّبِعُ الدَّلِيلِ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَيُقْلَبُ هَذَا عَلَيْهِمْ . فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْقِيَاسِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ . وَكُلُّ قَوْلٍ رَجَعَ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُ بِهِ إلْزَامَ خَصْمِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ . وقوله تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } فَإِنَّمَا خَطَرَ بِهِ الْقَوْلُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ , فِيمَا كَانَ قَائِلُهُ كَاذِبًا ( بِهِ ) , وَلَيْسَ هَذِهِ صِفَةَ الْقَائِسِينَ ; لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِإِبَاحَةِ الْقِيَاسِ , وَمَا يُوجِبُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ . ثُمَّ يَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ : فِي أَنَّ الْقِيَاسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , فَيَكُونُ صَادِقًا , أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ , فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِإِبَاحَتِهِ كَاذِبًا , وَسَقَطَ اعْتِرَاضُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَجَعَ عَلَيْهِ حَسْبَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى , ; لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ : إنَّ الْقِيَاسَ حَرَامٌ . فَهُوَ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْكَذِبَ بِنَفْيِهِ الْقِيَاسَ عَلَى قَضِيَّتِهِ . وَأَمَّا قوله تعالى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَإِنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا يَقُولُ : إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , فَمَنْ قَالَ بِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ هَذَا السُّؤَالُ , ; لِأَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ حَقٌّ , وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ , وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : مَا أَدَّانِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْعِلْمِ , مَعَ تَجْوِيزِي الْخَطَأَ فِيهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَنَحْوِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ , فَلَمْ يَنْفَكَّ الْقَائِسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِعِلْمٍ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ . ( وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا : إبْطَالُ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالشَّهَادَاتِ , ; لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ ) . . وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا : إبْطَالُ الِاجْتِهَادِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ , وَفِي سَائِرِ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ , وَوَكَلَهُ إلَى اجْتِهَادِنَا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ . وَنَقْلِبُ هَذَا عَلَيْهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ . فَيُقَالُ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُبْطِلَةً لِقَوْلِك بِنَفْيِ الْقِيَاسِ , ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَك دَلِيلٌ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ . فَإِنْ قَالَ : قَدْ عَلِمْت يَقِينًا بُطْلَانَ الْقِيَاسِ . قَالَ لَك الْقَائِسُونَ مِثْلُهُ فِي بُطْلَانِ قَوْلِك , فَيُسَاوُونَك فِي دَعْوَاك , وَيَصِيرُ سُؤَالُك سَاقِطًا . وَأَمَّا قوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } فَإِنَّ الْقِيَاسَ مِمَّا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ , وَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهُ , ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ حُكْمِ كُلِّ حَادِثَةٍ نَصًّا فِي الْكِتَابِ , وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَصًّا وَدَلِيلًا . فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ مُوجَبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا . وَيَنْقَلِبُ هَذَا أَيْضًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّا نَقُولُ لَهُمْ : خَبِّرُونَا عَنْ قَوْلِكُمْ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ , أَهُوَ فِي الْكِتَابِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا . قِيلَ لَهُمْ : فَقَدْ خَالَفْتُمْ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى , وَاتَّبَعْتُمْ غَيْرَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ . فَإِنْ قَالَ : هُوَ فِي الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ قَامَتْ دَلَالَتُهُ فِيهِ . قِيلَ : مِثْلُهُ فِي ( نَفْيِ ) إثْبَاتِهِ . وَيَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا حِينَئِذٍ فِي اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِهِ , أَوْ إثْبَاتِهِ , فَلَا يَكُونُ لِلْآيَةِ حَظٌّ فِي الِاعْتِرَاضِ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُ مُبْطِلِي الْقِيَاسِ : بِأَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ , لَمْ تَثْبُتْ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ مِنْهَا شَيْءٌ , إلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ . قَالَ : وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ الْعَقْلِيَّاتِ , ; لِأَنَّ أُصُولَهَا ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ السَّمْعِ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ , ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ دَلِيلُهُ , وَقَدْ ثَبَتَ مَعْرِفَةُ الْبَارِي تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحْسُوسَاتِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ تَعَالَى مَحْسُوسًا , فَانْتَقَضَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ . وَلَمَا جَازَ أَنْ تَثْبُتَ لَنَا مَعْرِفَةُ الْبَارِي تَعَالَى مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَيْهِ , وَكَانَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ , وَالْعِلْمُ بِالْبَارِي تَعَالَى عِلْمَ اكْتِسَابٍ , جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ أُصُولُ الشَّرْعِ مَأْخُوذَةً مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ , وَيَكُونَ فُرُوعُهَا مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالسَّمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ مُنَاقِضٌ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَا فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ , ; لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ الْقِيَاسَ حُكْمٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ , وَقَدْ أَثْبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ السَّمْعِ , فَمِنْ حَيْثُ رَامَ بِمَا ذَكَرَ نَفْيَ الْقِيَاسِ فَقَدْ أَثْبَتَهُ , وَنَاقَضَ ( فِي ) احْتِجَاجِهِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا احْتَجَجْت فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِقِيَاسٍ عَقْلِيٍّ , وَلَسْت آبِي الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ . قِيلَ : وَكَذَلِكَ إثْبَاتُنَا لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ , إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ , لِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلُزُومِ الْقَوْلِ بِهِ . وَاحْتَجَّ آخَرُونَ مِنْهُمْ : بِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى مَقَادِيرِ الْعُقُولِ , ; لِأَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَفِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَحْكَامٍ . مُشْتَبِهَةٍ . ( وَكَذَلِكَ حَكَمَ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ بِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ , وَفِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ ) مِنْهَا : إبَاحَةُ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ عَدَدٍ . وَحَصْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ , وَحَرَّمَ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ الْحُرَّةِ الشَّوْهَاءِ , وَأَبَاحَهُ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ . وَأَوْجَبَ الصَّدَقَةَ فِي السَّوَائِمِ , وَأَسْقَطَهَا عَنْ الْعَوَامِلِ , وَحَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ , وَأَبَاحَهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ , وَسَوَّى بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي إيجَابِهِ رُبُعَ الْعُشْرِ فِيهِمَا , وَفَرَّقَ بَيْنَ صَدَقَةِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ , وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا . قَالَ : فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ , وَبِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ , وَبِأَحْكَامٍ مُشْتَبِهَةٍ ( فِي أَشْيَاءَ مُشْتَبِهَةٍ ) , وَبِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ , لَمْ يَكُنْ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّسْوِيَةُ , بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى أَصْلٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافُ . فَيُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا . ; إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ , بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ , وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ . وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ , ثُمَّ حَدَثَ التَّنَازُعُ فِي مَسْأَلَةِ فَرْعٍ , حَمَلْنَاهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَبْلَ التَّنَازُعِ , وَبَقَّيْنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَهُ , وَلَمْ نَنْقُلْهَا عَنْ ذَلِكَ ( الْحُكْمِ ) بِاخْتِلَافٍ . الْجَوَابُ : إنَّ مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ : اسْتِعْمَالُ قِيَاسٍ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ , وَقَائِلُهُ مُنَاقِضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَعَا إلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ وُقُوعَ التَّنَازُعِ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ , يُوجِبُ رَدَّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ( حَالُهُ ) قَبْلَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ , وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ , حَتَّى يَقُومَ دَلَالَةُ الْحَظْرِ , وَلَزِمَ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا يَحْظُرَ الْقِيَاسُ عَنْهُ وُقُوعَ التَّنَازُعِ , وَأَنْ يُبِيحَهُ حَتَّى يَقُومَ دَلَالَةُ الْحَظْرِ فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا اعْتَبَرْت فِي هَذِهِ الْأُصُولِ قِيَاسًا عَقْلِيًّا , لِأَنِّي حِينَ تَأَمَّلْتُ مَوْضُوعَهَا , فَوَجَدْتهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت , عَلِمْت أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْهَا . قِيلَ لَهُ : فَاقْبَلْ مِنَّا ( مِثْلَهُ ) إذَا قُلْنَا لَك : إنَّ قِيَاسَنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قِيَاسٌ عَقْلِيٌّ , لِوُجُودِ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَوَاضِعِهِ . وَأَمَّا ذِكْرُهُ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَبِهَةِ , وَ ( اتِّفَاقِ ) أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ , فَلَا مَعْنَى لَهُ , ; لِأَنَّا لَمْ نَقْبَلْ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَتْ الْمَسَائِلُ فِي صُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا وَأَسْمَائِهَا , وَلَا أَوْجَبْنَا الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهَا , مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَتْ فِي : الصُّوَرِ , وَالْأَعْيَانِ , وَالْأَسْمَاءِ , وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِيَاسُ بِالْمَعَانِي الَّتِي جُعِلَتْ أَمَارَاتٍ لِلْحُكْمِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ , فَنَعْتَبِرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا . ثُمَّ لَا نُبَالِي بِاخْتِلَافِهَا , وَلَا اتِّفَاقِهَا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ غَيْرِهَا . نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي : الْبُرِّ بِالْبُرِّ , مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ , وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ , مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ , اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَحْظُورَةَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ , أَوْ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ , فَحَيْثُ وُجِدَا أَوْجَبَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ . وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَبِيعَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ كَالْجِصِّ - وَهُوَ مَكِيلٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبُرِّ , مِنْ . حَيْثُ شَارَكَهُ فِي كَوْنِهِ مَكِيلًا , وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ , وَكَالرَّصَاصِ - هُوَ مَوْزُونٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذَّهَبِ , فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ , وَإِنْ خَالَفَهُ فِي أَوْصَافٍ أُخَرَ , فَمَتَى عُقِلَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ , وَجُعِلَ عَلَامَةً لَهُ , وَجَبَ اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وُجِدَ . أَلَا تَرَى : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا حِينَ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ , فَكَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ , إذَا كَانَ الْفَاعِلُ عَلَى وَصْفٍ , كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي الْفَاعِلِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ , إذَا كَانُوا مُحْصَنِينَ , فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ , وَفَرَّقَ ( فِيهِ ) بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ . عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ التَّنَجُّسِ مُجَاوَرَتُهُ لِلنَّجَاسَةِ , أُجْرِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الزَّيْتِ , وَالشَّيْرَجِ , وَسَائِرِ مَا تُجَاوِرُهُ النَّجَاسَاتُ . كَذَلِكَ تُرَدُّ الْفُرُوعُ إلَى الْأُصُولِ , بِالْمَعَانِي الَّتِي بِهَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ , فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْمَعْنَى حَيْثُ وُجِدَ , إلَّا أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ , مِنْهَا مَا يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا , وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا , فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى . ثُمَّ لَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ : مِنْ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ , دُونَ الْآخَرِ , لَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْفِقْهِ دُونَ غَيْرِهِ , فَيَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ , وَلَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ , أَوْ يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ , وَلَا يَجُوزُ فِي الصَّوْمِ , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ , كَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا لِلْحُكْمِ , لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ مَا وُجِدَ فِيهِ , وَسَقَطَ بِهَذَا سُؤَالُ السَّائِلِ فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ , ; إذْ لَمْ يُجْعَلْ الْخِلَافُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ , وَلَا الْوِفَاقُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّفَاقِ فِي الْحُكْمِ . وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ الَّذِي قَدْ جُعِلَ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ , وَعَلَمًا لَهُ , وَذَلِكَ يُعْلَمُ بِاسْتِبَارِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ . فَالْمُعْتَرِضُ بِمَا وَصَفْنَا جَاهِلٌ بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ ( الشَّرْعِ ) , وَهَذِهِ الَّتِي نَسَبَهَا عِلَّةُ الْحُكْمِ جَارِيَةٌ عِنْدَنَا مَجْرَى الِاسْمِ إذَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ , فَيَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ حَيْثُ وُجِدَ . وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا تَحْتَ الِاسْمِ مُخْتَلِفًا , وَاخْتِلَافُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ فِيمَا شَمِلَهُ الِاسْمُ , نَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } , وَمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ . وَاخْتِلَافُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ فِيمَا شَمِلَهُ الِاسْمُ , نَحْوُ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ , لِشُمُولِهِ جَمِيعَهَا فِي كَوْنِهِ عَلَامَةَ الْحُكْمِ . كَذَلِكَ الْعِلَّةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْقِيَاسُ , جُعِلَتْ عَلَامَةً لِلْحُكْمِ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ , يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي سَائِرِ مَا وُجِدَتْ فِيهِ , مِنْ مُخْتَلِفٍ وَمُتَّفِقٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا ( فِي ) الِاسْمِ , وَسَنَذْكُرُ إنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ( فِيمَا بَعْدُ ) كَيْفِيَّةَ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلْأَحْكَامِ وَأَمَارَاتٌ لَهَا , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِثَالًا لِنُبَيِّنَ بِهِ إغْفَالَ الْمُعْتَرِضِ بِمَا ذَكَرْنَا حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِسِينَ , وَجَهْلَهُ بِمَذَاهِبِهِمْ . وَهَذِهِ الْأَسْئِلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , إنَّمَا هِيَ لِقَوْمٍ مُتَكَلِّمِينَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ , وَقَدْ سَرَقَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْحَشْوِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذَا الشَّأْنِ , فَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِمَا لَا أَحْسِبُهُ عَرَفَ مَعْنَاهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ , فَنَاقَضَ فِي اسْتِعْمَالِهِ لَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . إلَّا أَنْ يَقُولَ : إنِّي إنَّمَا قَلَّدْت فِي هَذَا الْحِجَاجِ مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . فَنَقُولُ لَهُ : فَهَلَّا قَلَّدْتنَا فِي جَوَازِهِ دُونَ مَنْ اخْتَرْت تَقْلِيدَهُ فِي نَفْيِهِ ؟ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِتَقْلِيدِهِمْ , ; لِأَنَّهُ مَعَهُمْ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي اعْتِقَادِ أُصُولِ الدِّينِ ; إذْ كَانَ لَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إلَى أَنْ لَا يَعْتَقِدَ إلَّا شَرَّ الْمَذَاهِبِ وَأَقْبَحَهَا وَأَشْنَعَهَا , ثُمَّ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِيهِ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ فِي سُوءِ الِاخْتِيَارِ , وَقُبْحِ الِاعْتِقَادِ ( إلَّا بِخِذْلَانِ اللَّهِ إيَّاهُ ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ هِيَ الْعَلَامَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ , فَكَيْفَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ ؟ , وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الِاجْتِهَادَ , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ : الْكَيْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ , وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَكْلُ , وَعِنْدَ آخَرِينَ الْقُوتُ وَالِادِّخَارُ , عَلَى حَسَبِ رُجْحَانِ أَحَدِ ( هَذِهِ ) الْمَعَانِي فِي نَفْسِهِ , كَمَا يَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُونَ ( فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ , فَيُؤَدِّي بَعْضَهُمْ اجْتِهَادُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ , وَبَعْضَهُمْ إلَى نَاحِيَةِ الْغَرْبِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ , وَلَمْ يُوجِبْ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا بُطْلَانَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا , كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ ) فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ الْحُكْمِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ . وَعَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ عِلَلُهَا مُوجِبَةٌ لِأَحْكَامِهَا , وَلَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّينَ , عَلَيْهَا , وَلَمْ يَدُلَّ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ هُنَاكَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْحُكْمِ , وَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ , فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , فَلَا يُجْعَلُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا , فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ هُنَاكَ عِلَّةً لِحُكْمٍ وَاحِدٍ , وَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ قَالَ : إنَّ هُنَاكَ عِلَلًا لِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَسَنُبَيِّنُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ : بِأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْقَائِسِينَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , وَهُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ , فَلَا يَصِحُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يَصِحُّ لَهُ دَعْوَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ , حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ , لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْقَائِلِينَ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ , وَمُوجِبِي الْعَمَلِ بِهَا , وَإِذَا لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِالْأُصُولِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَشْبَهِ . ; إذْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ هُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَطَلَ الْقِيَاسُ عَلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , لِتَعَذُّرِ وُجُودِ عِلْمِ الْأُصُولِ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْ الْقَائِسِينَ , وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مَوْجُودًا غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ . الْجَوَابُ : إنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ , أَوْ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , ( أَوْ بِوُجُوبِ ) رَدِّ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَى أَصْلِ ( مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا ) , قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ ; إذْ كَانَ مُبْطِلُو الْقِيَاسِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِي الْعِبَارَةِ عَنْهَا , وَإِنْ آلَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ التَّحْصِيلِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ , وَإِنَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَنَقُولُ : إنَّ هَذَا الْحِجَاجَ - إنْ صَحَّ - أَبْطَلَ مَذْهَبَ كُلِّ قَائِلٍ فِي الْحَوَادِثِ بِشَيْءٍ , كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ لِجَمِيعِ الْأُصُولِ حَسْبَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى مُثْبِتِي الْقِيَاسِ , فَلَا يَأْمَنُ - إذَا كَانَ ذَلِكَ - أَنْ يَسْتَعْمِلَ النَّصَّ الْخَفِيَّ , وَهُنَاكَ نَصٌّ جَلِيٌّ . وَقَدْ غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ , أَوْ يَسْتَعْمِلَ حُكْمَ الدَّلِيلِ مَعَ النَّصِّ الَّذِي قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ , أَوْ يَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهَا قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ , وَهُنَاكَ نَصٌّ قَدْ نَقَلَ حُكْمَهَا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ , فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْقَوْلُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَلَى حَسَبِ مَا رَامَ بِهِ إبْطَالَ الْقِيَاسِ , فَهُوَ مِنْ حَيْثُ اعْتَرَضَ بِمَا ذُكِرَ عَلَى الْقِيَاسِ , مُفْسِدٌ لِأَصْلِهِ , هَادِمٌ لِمَقَالَتِهِ , وَكُلُّ سُؤَالٍ رَجَعَ إلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ رَامَ بِهِ إلْزَامَ خَصْمِهِ , فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ أَصْلِهِ . وَمَعَ هَذَا فَإِنَّا نُجِيبُهُ - وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ ( لَهُ ) - لِحَقِّ النَّظَرِ . فَنَقُولُ : إنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْقِيَاسُ مِنْ الْفُقَهَاءِ , مَنْ قَدْ حَفِظَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ وَعَرَفَهَا , وَعَرَفَ طُرُقَ الْمَقَايِيسِ , وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى الْأُصُولِ , فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ جَازَ , لَهُ الْقِيَاسُ - وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِ - وَلَمْ يُكَلَّفْ حِينَئِذٍ حُكْمَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْحَادِثَةَ إلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ الَّتِي تَحْضُرُهُ وَتَخْطِرُ بِبَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ رَأْيِهِ , وَحُضُورِ ذِهْنِهِ , كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ حَالَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مُتَفَاوِتٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ , وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْأَعْمَى مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَهُوَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَلَامَاتِ , الَّتِي يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الِاجْتِهَادُ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ , عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ , وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ , قَدْ يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ , وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا , فَيَقِيسُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ فِي عِلْمِهِ وَمَا يَحْضُرُهُ . وَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ , بِأَنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ : مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ , وَمَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَعَظُمَ مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ ; يَعْذُرُ الْمُخْطِئَ لِلْحُكْمِ , وَيُوجِبُ لَهُ الْأَجْرَ , فَضْلًا ( عَنْ ) أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَهُ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ , الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأَجْرَ . فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ , وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى : أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَوْجَبَ تَنَافِيَ أَحْكَامِهِ وَتَضَادَّهَا , لِتَحْرِيمِ بَعْضِهِمْ مَا يُحِلُّهُ الْآخَرُ , وَتَحْلِيلِ بَعْضِهِمْ مَا يُحَرِّمُهُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ هَذَا قَالَ : إنِّي قُلْتُ لِامْرَأَتِي : أَنْتِ عَلَيَّ . حَرَامٌ , فَقَالَ لَهُ : حُرِّمَتْ عَلَيْك , فَإِذَا سَأَلَ الْآخَرَ ( قَالَ ) : هِيَ مُبَاحَةٌ لَك , عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , مَا يُوجِبُ تَضَادَّ أَحْكَامِهِ وَتَنَافِيهَا . فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ أَصْلَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ يَنْبَغِي أَنْ نَضْبِطَهُ , حَتَّى تَزُولَ عَنْك فِيهِ الشُّبْهَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَتَكْفِينَا وَنَفْسَك فِيهِ الْمُؤْنَةُ , وَهُوَ أَنَّ الْقَائِسِينَ إنَّمَا يُجِيزُونَ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت , فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَفِيمَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ فِيهِ بِالْحَظْرِ تَارَةً , وَبِالْإِبَاحَةِ أُخْرَى , وَيَجُوزُ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُتَعَبِّدِينَ , كَمَا حَظَرَ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةَ , وَالصَّوْمَ , وَأَوْجَبَهُمَا عَلَى الطَّاهِرِ , وَجَعَلَ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ , وَفَرْضَ الْمُقِيمِ أَرْبَعًا , وَإِذَا كَانَ مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْمَسَائِلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , لَمْ يَقَعْ فِي آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ تَضَادٌّ وَلَا تَنَافٍ , ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا تَعَبَّدَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَتَعَبَّدَ هَذَا بِالْحَظْرِ , وَهَذَا بِالْإِبَاحَةِ , عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ , فَإِنْ اسْتَوَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ جِهَةُ الْحَظْرِ , وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ تُسَاوِي الْجِهَتَيْنِ فِيهِمَا كَانَ مُخْبِرًا , فِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ أَيَّهُمَا , فَيُنْفِذَهُ , وَيَمْضِيَ عَلَيْهِ , وَسَنُوَضِّحُ الْقَوْلَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا انْتَهَيْنَا إلَى الْكَلَامِ فِي الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا الْمُسْتَفْتِي : فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِالْحَظْرِ , وَآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ , فَإِنَّ الْمُفْتِيَ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَذْهَبِهِ عَلَى جِهَةِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ فِيهِ , غَيْرَ مُضَمَّنٍ بِشَرِيطَةٍ , وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ : إنْ اخْتَرْت فُتْيَايَ وَأَلْزَمْتَهَا نَفْسَك فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَيْك . وَإِنْ اخْتَرْت فُتْيَا مَنْ يُفْتِيكَ بِالْإِبَاحَةِ , فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَك , فَيَكُونُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ , أَحَدُ شَيْئَيْنِ : مِنْ حَظْرٍ , أَوْ إبَاحَةٍ , وَهُوَ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ قَوْلِ أَحَدِهِمَا , وَيَكُونُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ ( مُعْتَبَرًا فِي حَالَيْنِ ; لِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ ) فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلَانِ فِعْلَ الْمُبَاحِ لَهُ ذَلِكَ : مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ , وَالنَّظَرِ , وَالْوَطْءِ , وَنَحْوِهِ . وَالْوَطْءُ الَّذِي ( أُبِيحَ ) لَهُ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ( لِفُتْيَا هَذَا غَيْرُ الْوَطْءِ الَّذِي حُظِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ) لِفُتْيَا الْآخَرِ . وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَطْءَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ , عِنْدَ قَبُولِهِ فُتْيَا هَذَا , هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْلِيلُ عِنْدَ قَبُولِهِ فُتْيَا الْآخَرِ , وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ إجَازَةِ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . وَنَظِيرُهُ : أَنَّ سُجُودًا وَاحِدًا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى , إذَا أُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , وَمَعْصِيَةً إنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ السُّجُودَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ غَيْرُ السُّجُودِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِبَاحَةُ . ( وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا , وَكَانَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ , أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ , غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِبَاحَةُ ) , وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيمَا ذَكَرْنَا , مِنْ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِفِعْلَيْنِ , أَوْ تَعَلُّقِهِمَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . وَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُسْتَفْتِي : هَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَيْك , فَيُطْلِقَ لَهُ الْقَوْلَ فِيهِ , مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا قَدْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ : أَنَّ مُخَالِفِيهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُقِيمُونَ عَلَى فُرُوجٍ مَحْظُورَةٍ , وَغَاصِبُونَ لِأَمْوَالٍ مُحَرَّمَةٍ فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا , ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ , لَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلَخَرَجُوا فِيهِ إلَى اللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ , كَمَا خَرَجُوا إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَسُغْ الِاجْتِهَادُ فِيهِ . فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا , حَسْبَ إنْكَارِهِمْ فِي غَيْرِهَا , عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ ذَهَبَ إلَيْهِ قَائِلٌ مِنْهُمْ , فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ , فَقَدْ سَوَّغَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الْخِلَافَ , فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ( أَنَّهُ ) غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَثَبَتَ أَنَّ فُتْيَا الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ , يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي وَصَفْنَا , فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي , إذَا كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ , بِأَنْ يَقُولَ : إنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك , وَإِنْ اخْتَرْت قَوْلَ فُلَانٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لَك , كَمَا قَالَ : إنْ سَافَرْت فَفَرْضُك رَكْعَتَانِ , وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ لَك فِي رَمَضَانَ , وَإِنْ أَقَمْت فَفَرْضُك أَرْبَعٌ , وَمَحْظُورٌ عَلَيْك الْإِفْطَارُ , وَكَمَا يَقُولُ لِلْمُكَفِّرِ عَنْ يَمِينِهِ : إنْ كَفَّرْت بِالطَّعَامِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ , وَإِنْ كَفَّرْت بِالْعِتْقِ فَهُوَ فَرْضُك دُونَ غَيْرِهِ , وَالْكِسْوَةِ . فَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِيمَا بَيَّنَّا : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : أَعْتِقْ عَبْدِي فُلَانًا ; لِأَنَّهُ أَسْوَدُ : أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ , لِلْمَأْمُورِ عِتْقُ سَائِرِ عَبِيدِهِ السُّودِ , لِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِلَالِ , وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِنَا فِي تَعَارُفِنَا , لقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى , لَوْ نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ , بِأَنْ يَقُولَ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ التَّفَاضُلَ فِي الْبُرِّ , ; لِأَنَّهُ مَكِيلٌ , أَنْ لَا يَجُوزَ لَنَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ , لِأَجْلِ وُجُودِ الْكَيْلِ فِيهِ . الْجَوَابُ : إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِاعْتِبَارِ أَوَامِرِهِ وَرَدِّ مَا لَمْ يَنُصَّ ( لَنَا ) عَلَيْهِ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النُّصُوصِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى فِي أَمْرِهِ مَوْضِعَ النَّصِّ . الثَّانِي : أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ , وَوَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . فَإِذَا قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدِي ( فُلَانًا ) ; لِأَنَّهُ أَسْوَدُ , لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّةُ اعْتِلَالِهِ , وَأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ . فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهُ , ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي يُقَاسَ بِهَا سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً صَحِيحَةً , تَكُونُ عَلَمًا لِلْحُكْمِ , وَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِلَلِ , أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ , فَإِنَّهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ , وَقَدْ أَمَرَنَا مَعَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِهَا , وَرَدِّ النَّظَائِرِ إلَيْهَا , بِمَا أَقَمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ , فَلَزِمَ إجْرَاءُ اعْتِلَالِهِ فِي مَعْلُولَاتِهِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْعَبَثِ , وَلَا وَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ , وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تَجْرِي إلَى غَرَضٍ مَحْمُودٍ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلُهُ لِلنَّصِّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي نَظَائِرِهِ , مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ , وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ , وَصَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ . . وَسَأَلَ دَاوُد الْقَائِسِينَ سُؤَالًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ , فَقَالَ : خَبِّرُونِي ( عَنْ الْقِيَاسِ ) , أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ ؟ فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ , وَإِنْ كَانَ فَرْعًا فَفَرْعٌ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَائِسِينَ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِفِعْلِ الْقَائِسِ : إنَّهُ أَصْلٌ , أَوْ فَرْعٌ , كَمَا لَا يُقَالُ لِقِيَامِهِ , وَقُعُودِهِ , وَسُكُوتِهِ , وَحَرَكَتِهِ : إنَّهُ أَصْلٌ , أَوْ فَرْعٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِعْلُ الْقَائِسِ : أَنَّك تَقُولُ : قَاسَ فُلَانٌ قِيَاسًا , فَتَجْعَلُهُ فِعْلًا لَهُ . كَمَا تَقُولُ : قَعَدَ قُعُودًا , وَقَامَ قِيَامًا . وَإِنَّمَا وَجْهُ تَصْحِيحِ السُّؤَالِ , أَنْ يَقُولَ : خَبِّرْنِي عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ , أَوْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ , هَلْ هُوَ أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ : إنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ لِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ , وَفَرْعٌ عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ , فَأَصْلُهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ : الْكِتَابُ , وَالسُّنَّةُ , وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ , عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ , وَفَرْعُهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ الْقِيَاسِيَّةِ , الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ . وَيُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , أَصْلٌ هُوَ أَمْ فَرْعٌ ؟ وَيُسْحَبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ . الَّذِي سَأَلَ فِي الْقِيَاسِ . فِيمَا أَجَابَ بِهِ فَهُوَ جَوَابُ الْقَائِسِينَ فِي الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ . بَابٌ فِي ذِكْرِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رحمه الله - : لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ إلَّا بِرَدِّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ , بِمَعْنًى يَجْمَعُهُمَا , وَيُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } , وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْآخَرُ : الْقِيَاسُ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ , مَدْلُولٍ عَلَيْهَا , كَعِلَّةِ الرِّبَا , وَنَحْوِهَا , وَسَنُبَيِّنُ فِيمَا بَعْدُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَعْنًى - جَمَعَ حُكْمَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , وَغَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ - قِيَاسًا , سَوَاءٌ كَانَ الْجَمِيعُ بِنَظَرٍ , أَوْ اسْتِدْلَالٍ , أَوْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحْوَى النَّصِّ . فَيَجْعَلُ مَنْعَ ضَرْبِ الْأَبَوَيْنِ وَشَتْمِهِمَا قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَيَجْعَلُ مَنْعَ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ فِي الْأُضْحِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا . وَيَجْعَلُ حُكْمَ الزَّيْتِ حُكْمَ السَّمْنِ فِي مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِيهِ , قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ فِي السَّمْنِ . وَيَجْعَلُ رَجْمَ غَيْرِ مَاعِزٍ قِيَاسًا عَلَى مَاعِزٍ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , مِمَّا عُقِلَ بِوُرُودِ اللَّفْظِ حُكْمُهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي النَّصِّ بِعَيْنِهِ , بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ وَجَبَ فِيهِ لِلْمَعْنَى الْمَوْجُودِ فِي النَّصِّ ( الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ ) فِيهِ , وَيُسَمَّى هَذَا الْقِيَاسُ الْجَلِيَّ , وَيُسَمَّى مَا يُوصَلُ ( فِيهِ ) إلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , الْقِيَاسُ الْخَفِيَّ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عِنْدَنَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّظَرِ , وَالِاعْتِبَارِ , وَالتَّأَمُّلِ بِحَالِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ , وَالْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا , بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْجَمْعِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَوْجُودَةً فِيمَا سَمَّوْهُ قِيَاسًا جَلِيًّا , ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِي أَغْيَارِهِ , مِمَّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ قَبْلَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , وَقَدْ يَعْقِلُ ذَلِكَ الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا الْقِيَاسُ , وَعَسَى لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ , وَمُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ , فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحْوَى النَّصِّ , فَلَيْسَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ . وَيَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرْت عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِالْمَعْنَى , وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قِيَاسًا , وَالْآخَرُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : مِمَّا لَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَنَا , وَكَثِيرٌ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ يَقُولُونَ بِهِ مَعَ نَفْيِهِمْ الْقِيَاسَ , أَنْ يَتَسَاوَى حُكْمُ الشَّيْئَيْنِ فِي الْأَصْلِ , ثُمَّ يَرِدَ أَثَرٌ بِحُكْمٍ فِي بَعْضِ مَا ثَبَتَ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , فَيُفِيدَنَا مَا ( قَدْ ) عَقَلْنَا مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بَدْءًا , أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْأَثَرُ مُسَاوٍ لِمَا وَرَدَ فِيهِ , فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُمَا مِنْ وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا . وَذَلِكَ نَحْوُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي عَدَمِ وُقُوعِ الْإِفْطَارِ بِهِمَا , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ : أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ , وَنَحْوُ هَذَا مِنْ . الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ , فَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ , فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْجِمَاعَ نَاسِيًا لَا يُفْسِدُهُ , لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ , لَكِنْ مِنْ جِهَةِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْأَصْلِ , فِي كَوْنِهِمَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ , فَمِنْ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ , أَفَادَ فِي الْجِمَاعِ مِثْلَهُ , وَهُوَ كَمَا قُلْنَا : فِي أَنَّ الزَّيْتَ , وَالسَّمْنَ , وَالشَّيْرَجَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْأَصْلِ , فِي بَابِ جَوَازِ أَكْلِهَا إذَا كَانَتْ طَاهِرَةً , وَمُتَسَاوِيَةً فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ أَكْلِهَا فِي حَالِ النَّجَاسَةِ , فَكَانَ الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ , قَدْ أَفَادَ فِي الزَّيْتِ مِثْلَهُ , وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةُ الْمَيِّتَةُ , وَالْعُصْفُورُ الْمَيِّتُ , لَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ , ثُمَّ وَرَدَ الْأَثَرُ فِي الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ فِي السَّمْنِ , أَفَادَ الْعُصْفُورُ الْمَيِّتُ مِثْلَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ } قَدْ أَفَادَ النَّهْيَ عَنْ التَّغَوُّطِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ . وَأَفَادَ نَهْيَ غَيْرِ الْبَائِلِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ , مِنْ طَرِيقِ عِلْمِنَا تُسَاوِي أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ حُصُولِهَا فِي الْمَاءِ , لِتَسَاوِي أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ فِي لُزُومِ اجْتِنَابِهَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِقِيَاسٍ . لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَسَاوِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ , قَبْلَ وُرُودِ هَذَا الْخَبَرِ , فَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ لَمْ تَنْزِلْ الْمُسَاوَاةُ الْقَائِمَةُ فِي عُقُولِنَا قَبْلَ وُرُودِهِ , وَعَلَى هَذَا وُجُوبُ كَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ , ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ وُجُوبُ مُسَاوَاةِ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ . فَلَمَّا وَرَدَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ , أَفَادَ عِلْمَنَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُسَاوَاةِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُ . وَكَذَلِكَ الْقَيْءُ وَالرُّعَافُ وَسَائِرُ الْأَحْدَاثِ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ , ثُمَّ وَرَدَ الْأَثَرُ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُمَا عَلَى الصَّلَاةِ , إذَا وَقَعَا فِيهَا , عَقَلْنَا بِذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَسْبِقُ الْمُصَلِّيَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ , وَانْفَصَلَ حُكْمُ مَا يَقَعُ مِنْ الْآدَمِيِّ مِنْ الشَّجَّةِ وَنَحْوِهَا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ , لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ , وَفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى , فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضٍ , أَوْ غَيْرِهِ , وَهَذَا بَابٌ لَطِيفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا , لِئَلَّا يَلْتَبِسَ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ بِطَرِيقَتِهِ , وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَحْكُومِ فِيهَا , وَمُسَاوَاةِ أَغْيَارِهَا لَهَا , , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا , مِمَّا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ آنِفًا . بَابُ ذِكْرِ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ( الْقِيَاسِ ) فِي دَفْعِ النَّصِّ سَوَاءٌ كَانَ النَّصُّ ( ثَابِتًا ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ , أَوْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ , لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي دَفْعِهِ , وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ , وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ , الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى , مِنْ نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ , وَمُدَّةِ النِّفَاسِ , ( وَمُدَّةِ السَّفَرِ ) , وَالْإِقَامَةِ , وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ . وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ عَلَى جِهَةِ رَدِّ ( الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ ) نَحْوُ تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ , وَمِقْدَارِ الْمُتْعَةِ , وَتَحَرِّي الْكَعْبَةِ , وَنَحْوِهَا . وَلَا يَسُوغُ الْقِيَاسُ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ , وَلَا الْكَفَّارَاتِ , وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ , وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ , وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ , وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ , وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَثَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ جُمْلَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ , إلَّا عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا , إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَأَمَّا امْتِنَاعُ جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي دَفْعِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ : فَلَا خِلَافَ فِيهِ , وَلِأَنَّ النَّصَّ  وَالْإِجْمَاعَ يُوقِعَانِ الْعِلْمَ بِمُوجَبِهِمَا , وَالْقِيَاسَ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ , فَلَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا الْمَقَادِيرُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ( فَقَدْ ) قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِيمَا سَلَفَ . وَأَمَّا الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ : فَإِنَّ مِنْ الْكَفَّارَاتِ مَا هِيَ عُقُوبَةٌ , نَحْوُ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ , وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا مَعَ الْمَأْثَمِ , وَتُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ , فَكَانَتْ كَالْحُدُودِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ , كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ , وَفِدْيَةِ الْأَذَى , وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ , وَنَحْوِهَا , وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ ( فِي شَيْءٍ ) مِنْهَا . أَمَّا مَا كَانَ عُقُوبَةً , فَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُدُودِ , وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ قِيَاسًا , لِمَا نُبَيِّنُهُ . وَأَمَّا مَا لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ : فَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ , فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا . وَأَمَّا مَا كَانَ عُقُوبَةً مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ إثْبَاتُهَا قِيَاسًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ هَذَا بِضَرْبٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ مَقَادِيرَ عِقَابِ الْإِجْرَامِ , لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ عَلَى الْإِجْرَامِ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقَادِيرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ , فَلَا سَبِيلَ إذَنْ إلَى عِلْمِ مِقْدَارِ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْعِقَابِ بِالْإِجْرَامِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهَا قِيَاسًا .  فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَثْبَتُّمْ الْحُدُودَ بِالِاسْتِحْسَانِ فَضْلًا عَنْ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ( فِي بَيْتٍ , فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ مِنْهُ , وَشَهِدَ آخَرَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ مِنْهُ ) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُحَدَّ , وَيُحَدُّ اسْتِحْسَانًا , وَكُتُبُكُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ فِي الْحُدُودِ , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَصَّلْت مِنْ نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُك : إنَّا أَثْبَتْنَا الْحُدُودَ بِالِاسْتِحْسَانِ , فَلَيْسَ كَمَا ظَنَنْت , وَالْأَصْلُ الَّذِي عَقَدْنَاهُ فِي نَفْيِ إثْبَاتِ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ صَحِيحٌ , لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْتَ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّا إنَّمَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا : لَا تَثْبُتُ الْحُدُودُ قِيَاسًا ( أَنَّا ) لَا نَبْتَدِئُ إيجَابَ حَدٍّ بِقِيَاسٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ , فَلَا نُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا فِي غَيْرِ الزِّنَا قِيَاسًا , كَمَا أَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ الْبُرِّ قِيَاسًا عَلَيْهِ , وَلَا نُثْبِتُ حَدَّ السَّرِقَةِ فِي غَيْرِ السَّرِقَةِ , مِنْ نَحْوِ ( الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْخَائِنِ وَالْغَاصِبِ قِيَاسًا عَلَى السَّارِقِ , وَلَا نُثْبِتُ حَدَّ الْقَذْفِ ) مِنْ نَحْوِ التَّعْرِيضِ قِيَاسًا , وَلَا نُثْبِتُ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ قِيَاسًا عَلَى الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ , وَإِنْ ( كَانَ ) بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَوْجَبَهَا فِي الْإِفْطَارِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ , قِيَاسًا عَلَى رَمَضَانَ , وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي التَّعْرِيضِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحُدُودِ , فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا , بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إيجَابُ حَدٍّ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال عَلَى مَوَاضِعِ الْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ . أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى , وَإِنْ أَوْجَبَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي , فَإِنَّ مِنْ الزُّنَاةِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ , فَنَحْنُ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الْقِيَاسَ فِي إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا , فَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَأُرِيدَ بِهَا , وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الزُّنَاةِ الْمَخْصُوصِينَ مِنْ الْآيَةِ .  وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الْقِيَاسَ فِي إثْبَاتِهَا , فَإِنَّمَا يَقَعُ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ , فَيَكُونُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ مُوجَبًا بِالْآيَةِ , وَنَسْتَدِلُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ( لَمْ ) يُرْوَ بِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَوْجَبْتُمْ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْآكِلِ فِي رَمَضَانَ قِيَاسًا عَلَى الْمُجَامِعِ . وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُجَامِعِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ ( هَذَا ) كَمَا ظَنَنْتَ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ لَفْظٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ , وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ , فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ } وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ جِهَةِ الْإِفْطَارِ , وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ . وَأَيْضًا : فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ غَيْرُ مَا رُوِيَ فِي الْمُجَامِعِ , لَمَا كَانَ إيجَابُنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْأَكْلِ ( مِنْ ) جِهَةِ الْقِيَاسِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْجِمَاعِ ; لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يُوجِبُهَا عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ , وَالشَّافِعِيَّ يُوجِبُهَا بِالْإِيلَاجِ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ , وَفِي الْبَهِيمَةِ أَيْضًا . وَالْخَبَرُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي جِمَاعِ الْمَرْأَةِ فِي الْفَرْجِ , وَنُوجِبُهَا نَحْنُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مَأْثَمُهُ بِالْإِفْطَارِ فِيهِ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ . فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى غَيْرَ مَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ , تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ , وَاحْتَجْنَا إلَى طَلَبِ الْمَعْنَى عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ , ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَأْثَمِ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْثَمُهُ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ , وَكَانَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ , لِمَا اجْتَرَمَهُ مِنْ الْمَأْثَمِ , ثُمَّ وَجَدْنَا مَأْثَمَ الْآكِلِ مِثْلَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ , وَأَكْثَرُ الدَّلَائِلِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ , أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةَ , وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى  أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ , هُوَ حُصُولُ الْإِفْطَارِ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَأْثَمِ . فَأَثْبَتْنَا الْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ , ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِمَا وَصَفْنَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ قِيَاسًا فِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ وَلَا غَيْرِهَا . وَأَمَّا امْتِنَاعُ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ . فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , وَحَكَيْنَا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي " السِّيَرِ " فِي هَذَا الْبَابِ . فَكَرِهْتُ إعَادَتَهُ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا فِيمَا تَقَدَّمَ امْتِنَاعَ جَوَازِ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ , وَامْتِنَاعَ جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ , الَّذِي لَمْ ( يَثْبُتْ خُصُوصُهُ ) . وَامْتِنَاعَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا : ( فَإِنَّ ) الْأَصْلَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ . فَمِنْهَا : أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ كَقَوْلِك حَيَوَانٌ , وَجِنٌّ , وَإِنْسٌ , وَرَجُلٌ , وَفَرَسٌ , وَخَمْرٌ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْ اللُّغَةِ . وَمِنْهَا : أَسْمَاءُ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِهِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ , لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , وَلَا يُفِيدُ فِيهِ مَعْنًى , وَإِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ , لِتَعْرِيفِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ غَيْرِهِ , كَقَوْلِك : زَيْدٌ , وَعَمْرٌو , وَخَالِدٌ . وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِاللُّغَةِ , وَلَا بِمَوْضُوعَاتِ أَهْلِهَا وَاصْطِلَاحِهِمْ . لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ مَا شَاءَ , غَيْرَ مَحْظُورٍ بِذَلِكَ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا : أَسْمَاءٌ هِيَ أَوْصَافٌ لِلْمُسَمَّى بِهَا , وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمَوْصُوفِينَ ( بِهَا ) , أَوْ أَحْوَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا , أَوْ صِفَاتٍ يَكُونُونَ بِهَا . كَقَوْلِك : قَائِمٌ , وَقَاعِدٌ , وَمُؤْمِنٌ , وَكَافِرٌ , وَأَحْمَرُ , وَأَسْوَدُ , وَحَيٌّ , وَقَادِرٌ , وَنَحْوُ ذَلِكَ .  فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْأَسْمَاءِ يُفِيدُ أَوْصَافًا فِي الْمُسَمَّى ( بِهَا ) , , أَوْ أَسْمَاءً أُخَرَ , وَهِيَ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ , وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا يَرِدُ بِهِ التَّوْقِيفُ . نَحْوُ الْكَافِرِ , وَالْمُؤْمِنِ , وَالْمُنَافِقِ . وَنَحْوُ : الصَّلَاةِ , وَالزَّكَاةِ , وَالصَّوْمِ , وَالرِّبَا , وَنَحْوِهَا . هَذِهِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ , قَدْ وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ لَمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَهَا فِي اللُّغَةِ . فَمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ , فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْمًا إلَّا بِمُوَاصَفَاتِ أَهْلِهَا , وَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَيْهَا , حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إذَا سَمِعَهَا عَرَفَ الْمُرَادَ بِهَا , وَبِمَوْضُوعِهَا . وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ اسْمًا لِأَجْلِ اللُّغَةِ . وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُسَمَّى بِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ . سَبِيلُهَا الِاصْطِلَاحُ , وَمُوَاضَعَةُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى مَعَانِيهَا فِي الْأَصْلِ . وَمِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَا يُشْكِلَ مَعَانِيهَا عِنْدَ سَمَاعِهَا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ . وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَشْخَاصِ - وَهِيَ الْأَلْقَابُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ وَصْفُهَا بِاللُّغَةِ , وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا - فَلَيْسَ طَرِيقُهَا اللُّغَةَ , وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِيمَا قَصَدْنَاهُ , وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ وَالسَّمَاعُ , أَوْ غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِمَا شَاءَ مِنْهَا . وَأَمَّا أَسْمَاءُ الشَّرْعِ فَسَبِيلُهَا التَّوْقِيفُ . وَهِيَ تَجْرِي فِي بَابِهَا مَجْرَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ , فِي بَابِ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ سَبِيلُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوهَا كَمَا عَرَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ . , وَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا , وَكَانَ مَعْلُومًا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ سَمَّى الْمَاءَ خُبْزًا , أَوْ سَمَّى الذَّهَبَ نُحَاسًا , أَوْ سَمَّى الْفَرَسَ بَعِيرًا , أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ اسْمًا لَهُ , ( لَا ) فِي لُغَةٍ , وَلَا فِي شَرْعٍ .  قُلْنَا : لَا يَخْلُو الْمُثْبِتُ لِلْأَسْمَاءِ قِيَاسًا : مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى أَنَّهَا تَصِيرُ اسْمًا لِمُسَمَّيَاتِهَا فِي اللُّغَةِ , أَوْ الشَّرْعِ . فَإِنْ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ ذَلِكَ قِيَاسًا إنَّمَا يَصِيرُ اسْمًا لُغَوِيًّا , فَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللُّغَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ وَتَصِيرُ مِنْ اللُّغَةِ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا , وَمُوَاصَفَاتِهِمْ عَلَيْهَا , حَتَّى يَشْتَرِكَ فِي مَعْرِفَتِهَا سَائِرُ أَهْلِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لَا يَعْرِفُهُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ إلَّا الْقَائِسُ الَّذِي أَدَّاهُ قِيَاسُهُ بِزَعْمِهِ إلَى إثْبَاتِهِ , فَبَطَلَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمُثْبَتُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ اسْمًا لُغَوِيًّا , إنْ كَانَ مَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ يَصِيرُ اسْمًا شَرْعِيًّا , وَإِنَّ سَبِيلَ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ , كَمَا يَشْتَرِكُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِأَسْمَاءِ اللُّغَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْقَائِسُ دُونَ غَيْرِهِ , فَلَمَّا كَانَ مَا يُثْبِتُهُ الْقَائِسُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ خَارِجًا عَنْ هَذَا الْحَدِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ اسْمًا شَرْعِيًّا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَصِيرُ اسْمًا لَهُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِسِ دُونَ مَنْ لَمْ يَقِسْ , وَمَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي إثْبَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ , لَا يَكُونُ اسْمًا لِلشَّيْءِ الْمُسَمَّى بِهِ , مَعَ كَوْنِهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ الشَّرْعِ وَأُصُولِهِ , وَإِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ مِنْ أُصُولِهِ , فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا مَشْهُورًا مُتَعَالَمًا مُدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , الَّذِي يَشْتَرِكُ ( الْجَمِيعُ فِيهِ ) , دُونَ الْقِيَاسِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ , كَمَا كَانَتْ أَسْمَاءُ اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةُ لِلْأَجْنَاسِ , وَالْمُشْتَقَّةُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسَمَّيْنَ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِهَا , قَدْ عَرَفُوهَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَالتَّلَقِّي , دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ مُدْرَكٌ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , وَضَرْبٌ مِنْ طَرِيقِ الدَّلِيلِ . فَهَلَّا جَوَّزْتَ مِثْلَهُ فِي الْأَسْمَاءِ ؟ .  قِيلَ لَهُ : الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ فِيهَا أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ , فَيَكُونَ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِحَظْرِ شَيْءٍ , وَآخَرُ مُتَعَبِّدًا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِإِبَاحَتِهِ . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُتَعَبِّدًا فِي حَالٍ بِالْحَظْرِ , وَفِي حَالٍ أُخْرَى بِالْإِبَاحَةِ , فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْعِبَادَاتِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ , يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِهِ , وَبَعْضُهَا مَدْلُولًا عَلَيْهِ , مُسْتَدْرَكًا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ . فَمَنْ أَدَّاهُ قِيَاسُهُ إلَى الْحَظْرِ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَدَّاهُ قِيَاسُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ . وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَكْلِيفُ بَعْضِ النَّاسِ تَسْمِيَةَ شَيْءٍ بِاسْمٍ , وَتَكْلِيفُ آخَرِينَ أَنْ يُسَمُّوا ذَلِكَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ , وَأَنْ لَا تُسَمِّيَهُ بِالِاسْمِ الَّذِي كُلِّفَ الْآخَرُ تَسْمِيَتَهُ بِهِ , وَلَا وُجُوبُ تَسْمِيَتِهِ فِي حَالٍ , وَحَظْرُهَا فِي أُخْرَى , مَعَ تَسَاوِي أَحْوَالِ الْمُسَمَّيَاتِ . أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ : الصَّلَاةِ , وَالصَّوْمِ , وَالْإِيمَانِ , وَالْكُفْرِ , قَدْ تَسَاوَى النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي تَسْمِيَتِهَا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا , وَلَمْ يُكَلَّفْ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يُسَمِّيَهَا صَلَاةً , وَبَعْضُهُمْ أَنْ لَا يُسَمِّيَهَا صَلَاةً , مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهَا فِي الْحَالَيْنِ , وَكَذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ أَنْ يُسَمِّيَهَا الْيَوْمَ صَلَاةً , وَلَا يُسَمِّيَهَا بِهَا غَدًا . وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى أَسْمَاءِ اللُّغَةِ . فَلَوْ أَنَّ إنْسَانًا سَمَّى الْمَاءَ خَمْرًا , وَسَمَّى الْفَرَسَ رَجُلًا , لَمَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا فِي اللُّغَةِ , سَوَاءٌ ( قَالَهُ قِيَاسًا ) , أَوْ وَضْعًا , مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ . كَذَلِكَ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , لَا يَصِيرُ بِمَا يُثْبِتُهُ فِيهَا قِيَاسًا اسْمًا لَهُ ; إذْ كَانَ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْقَائِسُ , وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَالَمًا مَشْهُورًا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ , لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ قِيَاسًا , أَوْ وَضْعًا مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ , فِي بَابِ أَنَّهُ يَصِيرُ اسْمًا لَهُ فِي الْحَالَيْنِ .  فَإِنْ قِيلَ : أَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ لَيْسَتْ مُسْتَحَقَّةً لِمُسَمَّيَاتِهَا فِي اللُّغَةِ , وَلَمْ يَمْنَعْهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ اسْمًا صَحِيحًا , فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِي إثْبَاتِ أَسْمَاءِ الشَّرْعِ قِيَاسًا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَسْمَاءَ الْأَلْقَابِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهَا لَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسَ , بَلْ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ وَضْعَهَا , فَيُسَمِّيَ نَفْسَهُ وَفَرَسَهُ وَغُلَامَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا , مِنْ غَيْرٍ قِيَاسٍ , فَهَلْ تُجِيزُ مِثْلَهُ فِي أَسْمَاءِ الشَّرْعِ وَأَسْمَاءِ اللُّغَةِ , ( فَتُثْبِتُهَا وَضْعًا ) مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ , ثُمَّ تَصِيرُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَمَا حَاجَتُك إلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِهَا , وَقَدْ اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُ , أَوْ جَائِزٌ لَك أَنْ تَبْتَدِئَهَا وَضْعًا مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ , لِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْأَسْمَاءِ ( لِأَجْنَاسٍ , أَوْ شَرْعٍ ) لَا يَصِيرُ اسْمًا لِلْمُسَمَّى بِهِ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ أَثْبَتُّمْ أَسْمَاءَ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُسَمَّيْنَ بِهَا قِيَاسًا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : قَامَ فَهُوَ قَائِمٌ . وَقَعَدَ فَهُوَ قَاعِدٌ , فَهَذَا سَمَاعٌ لَيْسَ بِقِيَاسٍ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا وَجَدْنَا الْعَصِيرَ لَا يُسَمَّى خَمْرًا , قَبْلَ حُدُوثِ الشِّدَّةِ فِيهِ , ثُمَّ وَجَدْنَاهُ يُسَمَّى خَمْرًا , عِنْدَ وُجُودِهَا , ثُمَّ وَجَدْنَاهَا يَزُولُ عَنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ , وَحُدُوثِ الْحُمُوضَةِ وَجَبَ اعْتِبَارُ الِاسْمِ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا . يُسَمَّى كُلُّ مَا حَدَثَ فِيهِ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الشِّدَّةِ خَمْرًا , فَيُوجِبُ هَذَا أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرًا . ثُمَّ يَعُمُّ الْجَمِيعَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الِاعْتِبَارِ , وَأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ لَمَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لِغَيْرِ الْخَمْرِ ,  إذْ كَانَ سَبِيلُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ , أَنْ يَشْتَرِكَ أَهْلُهُمَا فِي مَعْرِفَتِهَا , ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَنَّ الِاسْمَ : هُوَ السِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ لَهَا , مِنْ اللُّغَةِ , أَوْ الشَّرْعِ , فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ مَا ذَكَرْته سِمَةً لِمَا سَمَّيْته بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا الشَّرْعِ , وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُمْ الْمُسَمَّى بِهِ مِمَّا سِوَاهُ . لَمْ يَثْبُتْ اسْمًا . وَعَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ مُنْتَقِضٌ عَلَى قَائِلِهِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : لَمَّا كَانَ الْبُرُّ مُحَرَّمًا فِيهِ التَّفَاضُلُ حِينَ كَانَ مَأْكُولًا , فَيُسَمَّى كُلُّ مَأْكُولٍ بُرًّا , فَيَكُونُ الْأَرُزُّ مُحَرَّمًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمِثْلٍ } وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَأْكُولَاتِ , وَمَنْ بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ صَارَ فِي حَيِّزِ الْمَجَانِينِ وَخَرَجَ مِنْ حُدُودِ الْعُقَلَاءِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا هُوَ لِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَ ( مَا ) لَيْسَ بِحُكْمٍ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ , وَلَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ حُكْمًا قَدْ تَعَبَّدْنَا بِهِ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَعَبُّدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّسْمِيَةِ ( فَحَسْبُ ) , دُونَ حُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى بِهِ , فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِأَجْلِ الْمَعْنَى لَا لِنَفْسِهَا , كَنَحْوِ الْمُؤْمِنِ , وَالْكَافِرِ , وَالْمُنَافِقِ , وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَدْحِ , أَوْ الذَّمِّ . لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا , لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْأَسْمَاءِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ الْأَسْمَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ , أَوْ لِغَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ لِلْأَحْكَامِ , فَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا الدَّلَائِلَ عَلَى أَحْكَامِهِ , وَعَلَّقَهَا بِأَسْمَاءٍ ثَابِتَةٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ , بِتَوْقِيفٍ مِنْهُ , أَوْ دَلَالَةٍ , وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ قِيَاسًا , لِأَجْلِ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ . وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْأَسْمَاءِ لِغَيْرِ الْأَحْكَامِ فَهَذَا مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّك إنَّمَا تُثْبِتُهُ اسْمًا لِلْقَائِسِ دُونَ غَيْرِهِ , فَهُوَ كَمَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ اسْمٍ بِنَفْسِهِ فَسَمَّى بِهِ شَيْئًا , نَحْوُ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ  فَرَسًا , فَهَذَا مَا لَا مَعْنَى لَهُ ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ ابْتَدَأَ وَضْعَ اسْمٍ لِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ , وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ . وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ هَهُنَا بِبَغْدَادَ فِي حُدُودِ الْمَجَانِينِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ , وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عُقَلَاءُ , مِمَّنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ النَّحْوِ , يَدَّعُونَ جَوَازَ قِيَاسِ الْأَسْمَاءِ , فَيَنْظُرُونَ إلَى أَصْلِ الِاسْمِ فِي اللُّغَةِ , وَإِلَى اشْتِقَاقِهِ , فَيَقِيسُونَ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ . وَلَقَدْ بَلَغَنِي : أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : مَا اشْتِقَاقُ الْجِرْجِيرِ , وَمَا أَصْلُهُ ؟ قَالَ : إنَّمَا سُمِّيَ جِرْجِيرًا ; لِأَنَّهُ يَتَجَرْجَرُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ , يَعْنِي يَتَحَرَّكُ . قِيلَ لَهُ : فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِحْيَتُك جِرْجِيرًا ; لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْقَارُورَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ ; لِأَنَّهَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا مَا يُجْعَلُ فِيهَا , ثُمَّ قَاسَ عَلَى هَذَا كُلَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ , فَسَمَّى جَوْفَ الْإِنْسَانِ قَارُورَةً , وَسَمَّى الْبَحْرَ قَارُورَةً , وَكَانَ النَّاسُ يَنْسُبُونَ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إلَى الْهَوَسِ وَالْجُنُونِ , وَيَحْكُونَ عَنْهُ وَعَنْ أَمْثَالِهِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَتَعَجُّبِ النَّاسِ مِنْ بَلَهِهِمْ .  فَصْلٌ: مَا خُصَّ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ . 
	قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْكِي : أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا خُصَّ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ , وَأَنَّ الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَخْصِيصِهِ أَوْلَى , ( إلَّا أَنْ ) يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا , فَيُقَاسَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ , أَوْ يَتَّفِقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ , فَيُقَاسَ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ , وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ , وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ : إنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأَصْلِ . وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا تَكُونَ الْقَهْقَهَةُ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ : أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي غَيْرِهَا , وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا , فَكَانَ الْقِيَاسُ أَلَّا تَكُونَ حَدَثًا فِيهَا , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهَا , لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهَا , ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهَا الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ , وَفِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي خَصَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ فِي صَلَاةٍ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ . وَمِثْلُهُ : مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ . وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَنْبِذَةِ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ . فَوَرَدَ الْأَثَرُ مُخَصِّصًا لَهُ مِنْ جِهَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ . فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فِيمَا وَرَدَ فِيهَا الْأَثَرُ , وَحَمَلَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا الْأَثَرُ عَلَى الْأَصْلِ . وَمِثْلُهُ : مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ نَاسِيًا , وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُفْسِدَ صَوْمَهُ , وَسَلَّمَ لِلْأَثَرِ مَا وَرَدَ فِيهِ , وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا , وَلَا الْكَلَامَ  وَالْجِمَاعَ فِيهَا نَاسِيًا ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ النَّاسِي وَالْعَامِدِ وَالْمَعْذُورِ ( وَغَيْرِهِ ) فِي بَابِ إفْسَادِ هَذِهِ الْقُرَبِ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا . إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ , وَحَمَلُوا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْأَثَرُ عَلَى الْقِيَاسِ . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ , وَأَجَازُوا لَهُ الْبِنَاءَ بَعْدَ الطَّهَارَةِ . وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وُجُوبَ الْحَدَثِ إذَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ , نَحْوُ أَنْ يَشُجَّهُ إنْسَانٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ , وَلْيَتَوَضَّأْ , وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ } فَإِنَّمَا خَصَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ , فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ فَلَمْ يَقِسْهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ احْتَلَمَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فَكَّرَ فَأَمْنَى : إنَّهُ يَغْتَسِلُ وَلَا يَبْنِي , وَقَالُوا : إنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ أَنْ يَبْنِيَ . وَاسْتُحْسِنَ أَلَّا يَبْنِيَ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ مَعَ حَدَثٍ , ثُمَّ سَلَّمُوا جَوَازَ الْبِنَاءِ مَعَ الْحَدَثِ لِلْأَثَرِ , وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ فَكَانَتْ الْجَنَابَةُ مَحْمُولَةً عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ إذْ لَمْ يَرِدْ فِيهَا أَثَرٌ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قِسْت عَلَى الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ : الْبَوْلَ , وَالْغَائِطَ , وَسَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ , إذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ . وَقِسْت الْمُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى الْآكِلِ نَاسِيًا . قِيلَ لَهُ : لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْته قِيَاسًا , وَإِنْ سَوَّيْنَا بَيْنَ الرُّعَافِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِ إذَا سَبَقَهُ , لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ الْخَبَرَ سَوَّى بَيْنَ ( جَمِيعِ ) ذَلِكَ فِي بَابِ جَوَازِ الْبِنَاءِ بَعْدَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ , وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ سَوَّى بَيْنَ  الْجَمِيعِ فِي مَنْعِ الْبِنَاءِ , فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا الْخَبَرُ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَكَذَلِكَ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا , إنَّمَا جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ الْآكِلِ نَاسِيًا ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُفْطِرْهُ بِالْأَكْلِ , لَمْ يُفْطِرْهُ بِالْجِمَاعِ . فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا الْأَثَرُ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ بِهِ كَانَ الْجِمَاعُ مِثْلَهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِ الْآكِلِ وَالْمُجَامِعِ , وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَسْبِقُ الْمُصَلِّيَ , وَبَيْنَ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ , لَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَنَا , لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ : مِنْ أَنَّهُ ( قَدْ ثَبَتَ ) أَنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ . فَإِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ فِي أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا يُفْطِرُ , فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حُكْمِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْأَصْلِ , فِي بَابِ أَنَّ عَدَمَهُمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ . وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرُوا مِنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْصُوصِ مَا قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ : إنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُمْ لَا يُجَوِّزُهُ ; لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فِي غَيْرِ السَّلَمِ . وَأَجَازُوهُ لِمُشَاهَدَتِهِمْ فُقَهَاءَ السَّلَفِ غَيْرَ مُنْكِرِيهِ عَلَى فَاعِلِيهِ مَعَ شُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فِي الْعَامَّةِ حِينَئِذٍ , فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ . ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ فِي الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا , فِيمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ مِنْ النَّاسِ بِاسْتِصْنَاعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ; إذْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي الْأَصْلِ مَانِعًا ( مِنْهُ ) فَمَا خُصَّ مِنْ جُمْلَةِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ بِأَثَرٍ , أَوْ اتِّفَاقٍ , فَكَانَ مُسَلَّمًا لَهُ , وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ : أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِمَا قَدَّمْنَا , فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ , فَإِذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيُّ فِي لُزُومِ إجْرَاءِ عِلَّتِهِ فِي مَعْلُولَاتِهِ , وَالْحُكْمِ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ أَصْلِهِ , إلَّا بِأَثَرٍ , أَوْ اتِّفَاقٍ .  فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ صَارَ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لِمُوجَبِ الْقِيَاسِ أَصْلًا , فَهَلَّا قِسْت عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ مِمَّا هُوَ فِي عِلَّتِهِ ؟ قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَتْ الْأُصُولُ الْأُخَرُ تَمْنَعُ مِنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي التَّخْصِيصِ قَدْ جَوَّزَهُ . فَلِمَ جَعَلْت الْمَانِعَ أَوْلَى مِنْ الْمُجَوِّزِ ؟
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ مَزِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قِيَاسِ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لَهُ , وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ , وَالْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْقِيَاسِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّا لَوْ قِسْنَا عَلَى الْأَثَرِ فِيمَا وَصَفْت لَعَارَضَهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ , فَلَا يُثْبِتُ قِيَاسُ الْأَثَرِ مَعَ مُعَارَضَتِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ ( لَهُ ) الْمُوجَبَ بِضِدِّ حُكْمِهِ , وَكَأَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَسْقُطَا , وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ , فِيمَا عَدَا الْأَثَرَ قَبْلَ وُرُودِهِ , فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . 

فَإِنْ قِيلَ : إذَا عَارَضَهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ , فَهُوَ أَيْضًا يُعَارِضُ قِيَاسَ الْأُصُولِ , فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى مَا ذَكَرْت , فَيُوجِبُ ذَلِكَ بُطْلَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ بِالْآخَرِ . وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ قِيَاسِ الْأَصْلِ أَيْضًا .

( قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ , لَا يُبْطِلُهُ مُعَارَضَتُهُ قِيَاسُ الْمَخْصُوصِ إيَّاهُ . فَيَكُونُ قِيَاسُ الْأَصْلِ مُبْطِلًا لِقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ , وَلَا يَكُونُ قِيَاسُ الْمَخْصُوصِ مُبْطِلًا لِقِيَاسِ الْأَصْلِ , وَكَانَ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ ) . 

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ تَتْرُكُونَ أَنْتُمْ الْقِيَاسَ إلَى قِيَاسٍ آخَرَ وَهُوَ أَحَدُ ضُرُوبِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَكُمْ , فَهَلَّا أَجَزْت تَرْكَ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَثَرِ الْمُخَصِّصِ لَهُ ؟ .

 قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ , مِنْ قِبَلِ تَرْكِ الْقِيَاسِ إلَى قِيَاسٍ آخَرَ , إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ ( مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ تُوجِبُهُ , فَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِمَا . ثُمَّ يَخْتَصُّ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ ) بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ يُوجِبُ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِهِ دُونَ الْآخَرِ . وَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا فَإِنَّمَا هِيَ فِي قِيَاسٍ تُوجِبُهُ الْأُصُولُ , مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْأَصْلِ . ثُمَّ يَرِدُ أَثَرٌ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْقِيَاسِ , فَيَخُصُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ جُمْلَتِهِ , فَيَجِبُ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُ مَا خَصَّهُ الْأَثَرُ , وَلَيْسَ هُنَاكَ قِيَاسُ أُصُولٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا يُرِيدُ ( فِيهِ ) قِيَاسَهُ عَلَى الْأَثَرِ , فَكَانَ حُكْمُ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ ثَابِتًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا , غَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ لِمَا بَيَّنَّا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ , وَأَنْ لَا يَتَحَالَفَا , وَتَرَكْتُمْ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ فِي إيجَابِ التَّحَالُفِ وَالتَّرَادِّ , ثُمَّ قِسْتُمْ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافَ فِي الْإِجَارَةِ .
    قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَانَ ( الشَّيْخُ ) أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : الْقِيَاسُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِوَجْهٍ يَدَّعِيهِ , يُخَالِفُهُ الْآخَرُ فِيهِ . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ , وَهُنَاكَ أَصْلٌ آخَرُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ وَالتَّرَادَّ غَيْرُ الْأَثَرِ . فَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَحَدَ وَجْهَيْ الْقِيَاسِ . وَالْكَلَامُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا خُرُوجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ . وَلَكِنَّا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ : الْقِيَاسُ عِنْدِي كَذَا , أَنَّ الْأُصُولَ مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْقِيَاسِ , فَالسُّؤَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ عَنَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ الْإِجَارَةِ مَعَ تَسْلِيمِهِ لِصِحَّةِ السُّؤَالِ , وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ إيجَابَ التَّحَالُفِ . وَإِنَّمَا خُصَّ حَالُ الْإِحْلَافِ بِالْأَثَرِ ; لِأَنَّا لَمْ نُوجِبْ التَّحَالُفَ فِي الْإِجَارَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ , بَلْ الْقِيَاسُ نَفْسُهُ يُوجِبُهُ فِي الْإِجَارَةِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى , ; لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ  الْمَنَافِعِ كَأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ . إذْ لَمْ يُمْلَكْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ , وَإِنَّمَا يُمْلَكُ حَالًّا فَحَالًّا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا . فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ مِلْكُ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَقْدِ , وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فِي حَالٍ ثَانِيَةٍ , صَارَ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ , وَهُوَ يَجْحَدُ الْبَيْعَ , فَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ . كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إذَا لَمْ تَثْبُتْ بَعْدَ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنَافِعِ . أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ لَا يَقَعُ بِهَا تَسْلِيمُ الْمَنَافِعِ , فَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى فِي شِرَاءِ عَبْدٍ يَجْحَدُهُ الْبَائِعُ , فَيَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ ; لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ مَوْجُودَةٌ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي بِاتِّفَاقِهِمَا جَمِيعًا , وَالْبَائِعُ مُعْتَرِفٌ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ . فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي . وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَاجْعَلْ الْأَثَرَ الْوَارِدَ فِي تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ أَصْلًا تَقِيسُ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ , كَمَا اعْتَبَرْت الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقِيَاسِ , وَتَخْصِيصِهِ عَلَى جِهَةِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , وَكَمَا تَقُولُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ فَتُلْحِقُهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ , لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ يُوجِبُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ لِمَا كَانَ أَصْلًا , وَكَانَ الْقِيَاسُ الَّذِي خَصَّهُ الْأَثَرُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ , فَقَدْ تَجَاذَبَ الْفَرْعَ أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَوْجَبَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ . وَالْآخَرُ : مَا يُوجِبُهُ الْأَثَرُ ; إذْ هُوَ أَصْلٌ . قِيلَ لَهُ : لَوْ اعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرْت كَانَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْخُصُوصِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ شَهَادَةَ سَائِرِ الْأُصُولِ لِقِيَاسِهَا أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَخْصُوصِ لِقِيَاسِهِ ; إذْ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلَيْنِ مِنْ الْقِيَاسِ أَرْجَحَ وَأَقْوَى فِي النَّفْسِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَاحِدٌ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ , مَعَ وُرُودِ الْأَثَرِ الْمُخَصِّصِ لَهُ , وَقِيَاسَ الْمَخْصُوصِ لَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالِاتِّفَاقِ . وَقِيَاسٌ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا : أَنْ ( لَا نَقِيسَ ) عَلَى الْمَخْصُوصِ , وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ عِلَّةً مَنْصُوصًا عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ , كَمَا أَنَّ حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ . فَصَارَ لِوُرُودِ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ مَزِيَّةً لَيْسَتْ لِلْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ , فَصَارَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْهُ . وَأَمَّا إذَا وَرَدَ الْأَثَرُ الْمُخَصِّصُ لِلْقِيَاسِ مُعَلَّلًا , فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ . نَحْوُ مَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ , إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ , وَإِنَّهَا مِنْ سَاكِنِي الْبُيُوتِ } . وَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْفَأْرَةِ , وَالْحَيَّةِ , وَنَحْوِهِمَا , مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ , وَقَوْلَهُ : إنَّهَا مِنْ سَاكِنِي الْبُيُوتِ , يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى . وَإِنَّمَا وَجَبَ إجْرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَظَائِرِهِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّعْلِيلَ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عِلَّةَ الْحُكْمِ , وَإِجْرَاءَهُ عَلَيْهِ , لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ . وَلَكَانَ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ . أَلَا تَرَى أَنَّ عِلَلَ الْعَقْلِيَّاتِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُفِيدُهُ , فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَعْلِيلِ مَعْنًى , عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنَّا اعْتِبَارُهُ فِي نَظَائِرِهِ , وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ , مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ . وَقَدْ قَالَ النَّظَّامُ وَهُوَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ : إنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ , يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ , وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُوبُ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , بَلْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ . وَهَذَا عِنْدَنَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ , فَإِنَّهُ يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ , مُعْتَبَرًا بِهِ . وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّعْلِيلِ , وَيَجْعَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا فِي كَلَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم .  فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قِيَاسُ سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ , فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } ; لِأَنَّ نَبِيذَ الزَّبِيبِ زَبِيبٌ طَيِّبٌ , وَمَاءٌ طَهُورٌ . وَيَلْزَمُك أَنْ تَقِيسَ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ , وَقِيَاسُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْآكِلِ نَاسِيًا , لِتَعْلِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَكْلَ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ ( بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْعَمَهُ , وَسَقَاهُ ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكْرَهِ , وَفِي الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ , وَاَلَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ , فَأَكَلَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ , حِينَ أَبَاحَ لَهُمْ الْأَكْلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ نَبِيذَ التَّمْرِ , غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : { ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَبِيذِ الزَّبِيبِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ مَنْ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ يَجْعَلُ مُرَادَ قَوْلِهِ { ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } أَنَّ أَصْلَ التَّمْرِ ( طَيِّبٌ ) وَالْمَاءُ طَاهِرٌ , فَلَا يَمْنَعُ مَا عَرَضَ فِي الْمَاءِ وَالتَّمْرِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ إلَى النَّبِيذِ مِنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ . وَهَذَا الِاعْتِلَالُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِالْخَلِّ لِطِيبِ ( الْأَصْلِ ) الَّذِي كَانَ فِيهِ , وَطَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ , وَلَجَازَ الْوُضُوءُ بِالْمَرَقِ , , لِهَذِهِ الْعِلَّةِ . وَهَذَا قِيَاسٌ مَدْفُوعٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ } عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ : { ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ : إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ , لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ .  وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا , فَلَمْ يُجْرِهِ أَحَدٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إبَاحَةَ الْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ مَرِيضٍ , أَوْ مُسَافِرٍ , أَوْ حَائِضٍ , أَنْ لَا يُفْطِرَهُ ذَلِكَ , وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ , لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِهِ ( مِنْ ) نَظَائِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ أَنَّ النِّسْيَانَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ الْأَكْلُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى , فَكَانَتْ هَذِهِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ .
قِيلَ لَهُ : فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ الْقَضَاءُ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْمَرَضَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى , وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ , فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَعْلِيلَ النِّسْيَانِ , فَلَمْ يَجِبْ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ . 

بَابُ ذِكْرِ الْأُصُولِ الَّتِي يُقَاسُ عَلَيْهَا

 	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ وَصَحَّ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ , فَجَائِزٌ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ , إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فِيهِ , سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الْمَعْنَى أَصْلًا ثَابِتًا بِتَوْقِيفٍ وَاتِّفَاقٍ , أَوْ بِدَلَالَةِ غَيْرِهِمَا , فَالْقِيَاسُ وَاجِبٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَعَلَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَعَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ , بَعْدَ أَنْ لَا مُخَصِّصَ لِلْقِيَاسِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ . يَجُوزُ الْقِيَاسُ أَيْضًا عَلَى حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ . وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا جَوَازُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ بِالدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ , كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ فِي جَوَازِ وُقُوفِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَهُ مُجِيزٌ . فَمِنْ حَيْثُ وَقَفَ أَحَدُهُمَا إذَا عَقَدَ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِهِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْآخَرِ . لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا , كَمَا نَقُولُ فِي إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ إذَا اشْتَرَكَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , قِيَاسًا عَلَى إفْسَادِهَا إذَا قَامَ قُدَّامَ الْإِمَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ قِيَامَهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ يُفْسِدُهَا , وَإِنْ خَالَفَنَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ , فَجَائِزٌ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ هَذَا الْفَرْعَ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ , مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ . وَتَكُونُ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَامَ مَقَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَهُ بِحَالٍ , مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِالنَّهْيِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ , وَكَمَا نَبْنِي تَحْرِيمَ النَّسَاءِ بِوُجُودِ الْكَيْلِ , أَوْ الْجِنْسِ عَلَى أَصْلِنَا فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ .  وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى , وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى حُكْمٍ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْأَصْلِ . . فَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا الْأُصُولَ ( الَّتِي يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا , فَالْوَجْهُ أَنْ نَذْكُرَ مَتَى تُقَاسُ الْحَادِثَةُ عَلَى الْأَصْلِ , وَهَلْ يُعْتَبَرُ الْأَصْلُ ) أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ مَعْلُولًا , ثُمَّ يُقَاسُ . أَوْ لَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ , وَيُقَاسُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ , كَانَ لِي أَنْ أَقِيسَ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلًا لَيْسَ بِمَعْلُولٍ , وَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ .
   قِيلَ لِأَبِي الْحَسَنِ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَهُنَا أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ , وَأَصْلًا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ . فَمَا أَنْكَرْتَ مِمَّنْ قَالَ : إنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ سَائِغٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَصْلٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ ؟ 
فَأَجَابَ : بِأَنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا دَلِيلٌ يَدُلُّنَا عَلَى أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ , إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ وُجُوبِ الْقِيَاسِ فِي الْجُمْلَةِ . فَلَوْ أَنَّا تَوَقَّفْنَا عَنْ الْقِيَاسِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَصْلٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ . لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا , وَمَا أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ , فَهُوَ فَاسِدٌ , ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيَاسِ قَدْ صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلَ , وَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ . وَفِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ أَصْلًا مَعْلُولًا . وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ أَصْلٍ مَعْلُولٍ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْت . 
فَأَجَابَ : بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ , فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَدَّ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَصْلٍ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ الْآخَرُ , فَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَعْلُولٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا الَّذِي سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ يَقُولُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ , مَعْنَاهُ عِنْدِي : أَنَّ الْفَقِيهَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ , أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ عَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ , وَاعْتِبَارِهَا بِنَظَائِرِهَا مِنْهَا , حِينَ يَجِدُ أَصْلًا مَعْلُولًا لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا . بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَرْضُهَا عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ , وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَشْبَهِ مِنْهَا , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ . أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُولٍ , فَلَا يَرُدَّ الْحَادِثَةَ إلَيْهِ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا , وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْأُصُولِ مَا قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهُ أَنَّهُ مَعْلُولٌ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ , ( إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ , وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الِاتِّفَاقِ ) , أَوْ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ , فَمِمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ : تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ , وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ مَعْلُولٌ , بِمَعْنًى يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَغْيَارِهِ , وَحَمْلُ مَا سِوَاهُ عَلَيْهِ , مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي عِلَّتِهِ , وَدَلَالَةُ فَحْوَى الْخِطَابِ ( بِهِ ) ظَاهِرَةٌ فِي كَوْنِهِ مُعَلِّلًا لِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ . { فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } فَلَمَّا مَنَعَ التَّفَاضُلَ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ فِيمَا ذُكِرَ وَأَبَاحَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ , دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى يَجِبُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ , وَاعْتِبَارُهُ فِي نَظَائِرِهِ , فَوَجَبَ حِينَئِذٍ طَلَبُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ . وَنَحْوُهُ { قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا , وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ , مِنْ أَجْلِهِ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ , فَثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ , وَوَجَبَ طَلَبُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ . وَمِنْ الْأُصُولِ مَا يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ { إنَّهَا مِنْ  الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ } { وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِبَرِيرَةَ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } . , ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ عَرْضُهَا عَلَى الْأُصُولِ , وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَشْبَهِ مِنْهَا , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ مِنْ جِنْسِهَا , أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا , بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ .
    وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ الْحَادِثَةَ إذَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ فَرَدُّهَا إلَى مَا قَرُبَ مِنْهَا , وَإِلَى مَا هُوَ مِنْ بَابِهَا وَمِنْ جِنْسِهَا , أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا , وَإِلَى خِلَافِ جِنْسِهَا . وَلِذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الِاعْتِكَافِ : ( إنَّهُ ) لَمَّا كَانَ لَبْثًا فِي مَكَان , وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ : قِيَاسًا . فَعَارَضُونَا بِالصَّوْمِ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ , ثُمَّ يَصِيرُ قُرْبَةً بِمُضَامَّةِ النِّيَّةِ إيَّاهُ . فَهَلَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَى الِاعْتِكَافِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً هُوَ النِّيَّةَ , حَسْبَ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ ؟       
        وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ إذَا أَلْزَمَ مِثْلَ هَذَا يَقُولُ : إنَّ رَدَّ الِاعْتِكَافِ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ; إذْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَبْثًا كَالْوُقُوفِ , وَمَا وَجَدْنَا لِهَذَا نَظِيرًا مِنْ جِنْسِهِ , فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ ( وَرَدُّهَا إلَيْهِ ) ( أَوْلَى مِنْ رَدٍّ ) إلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ ,  وَكَانَ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْإِمْسَاكِ : هُوَ النِّيَّةُ , وَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ , وَاَلَّذِي اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِ الْوُقُوفِ قُرْبَةً : هُوَ الْإِحْرَامُ , وَهُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ , فَكَانَ شَرْطُ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ شَرْطِ النِّيَّةِ ; إذْ كَانَ الصَّوْمُ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ , وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ الِاعْتِكَافِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَبْثٌ فِي مَكَان .
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الطَّهَارَةِ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , وَمَسْحِ التَّيَمُّمِ فِي كَوْنِهِ مَرَّةً أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ ; لِأَنَّ رَدَّ الْمَسْحِ إلَى مَسْحٍ هُوَ مِنْ بَابِهِ وَمِنْ جِنْسِهِ , أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى غَسْلٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِهِ . وَنَحْوُهُ إذَا اخْتَلَفْنَا فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ , فَرَدُّوهُ إلَى ثِيَابِ الْبِذْلَةِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ , كَانَ رَدُّنَا إيَّاهُ إلَى السَّبَائِكِ , وَالنُّقَرِ , أَوْلَى فِي بَابِ إيجَابِهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّيَابُ . وَكَقَوْلِهِمْ : فِي أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَافِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , قِيَاسًا عَلَى قِيَامِ أَكْثَرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ ( إذَا كَانَتْ أَرْكَانُ الْحَجِّ : الْإِحْرَامَ ) , وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ , وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ , ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْحَقْهُ فَسَادٌ , وَقَامَ مَقَامَ الْجَمِيعِ , وَلَمْ يَقِيسُوا فِعْلَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ : ( أَنَّ ) أَكْثَرَهَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ ; إذْ كَانَ رَدُّ الطَّوَافِ إلَى مَا هُوَ فِي بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْإِحْرَامِ , أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى مَا لَيْسَ مِنْ بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ . 
        وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ فِي الْحَادِثَةِ : إذَا كَانَتْ مِنْ أَصْلٍ مُخَالِفٍ لِأَصْلٍ آخَرَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي ( يُخَالِفُ ) لِأَصْلِ الْحَادِثَةِ فِي مَوْضُوعِهِ . 
   قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَدَّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي خَالَفَ أَصْلَ الْحَادِثَةِ رَأْسًا , كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ : إنَّ عَلَيْهِ دَمًا , وَقَدَّرُوا الرُّبُعَ اجْتِهَادًا , مَعَ كَوْنِ الرَّأْسِ عُضْوًا بِنَفْسِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ حَلْقِهِ رُبُعَ الرَّأْسِ , وَبَيْنَ حَلْقِ رُبُعِ أَحَدِ الْإِبِطَيْنِ ; لِأَنَّ لَهُ فِي الْبَدَنِ عُضْوًا نَظِيرَهُ , فَصَارَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنْ الرَّأْسِ الَّذِي لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي الْبَدَنِ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ , فِي أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا لَهُ مِنْهَا نَظِيرٌ , وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْهَا , فِي أَنَّ كَشْفَ الرُّبُعِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ , فَكَانَ يَمْنَعُ قِيَاسَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْإِحْرَامِ فِي أَحْكَامِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ يَسِيرَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا حُكْمَ لَهُ , وَأَنَّ يَسِيرَ الْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ شَيْءٍ . فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ , امْتَنَعَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . قَالَ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي , فَإِذَا اخْتَلَفَ ( أَحْكَامُ ) الْأَصْلَيْنِ فِي مَوْضُوعِهِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ عِلِّيَّتِهِمَا الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا , وَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقُ الْحُكْمَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ الْمُوجِبِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ . قَالَ : وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْحَلْقِ , وَلَا كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي اعْتِبَارِ الرُّبُعِ فِيمَا يَذْهَبُ مِنْ الْأُذُنِ , وَالْعَيْنِ , أَوْ الذَّنَبِ , بَلْ اعْتَبَرُوا فِيهَا بَقَاءَ الْأَكْثَرِ , وَمَنَعُوا قِيَاسَهُ عَلَى الْحَلْقِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِمَا وَصَفْنَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَأَبُو يُوسُفَ , ( وَمُحَمَّدٌ ) , فِيمَنْ جَامَعَ مِرَارًا فِي إحْرَامِهِ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ , أَنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ جِمَاعٍ دَمٌ عِنْدَهُمَا , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ دَمٌ وَاحِدٌ , مَا لَمْ يُكَفِّرْ , قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ , وَلَمْ يَرُدَّاهَا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ , لِمُخَالَفَةِ كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ لِكَفَّارَةِ رَمَضَانَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فِي الْأَصْلِ .  أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا يُسْقِطُهَا الْعُذْرُ , وَأَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ لَا تَجِبُ مَعَ الْعُذْرِ , فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُمَا فِي الْأَصْلِ , لَمْ تُرَدَّ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى . وَكَانَ يَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِنَا الْخُلْعَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا , ; لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا , ; لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ , وَكَذَلِكَ دَمُ الْعَمْدِ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الدَّمِ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ , وَيَجُوزُ إسْقَاطُهُ فِي الْمَرَضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ , وَيَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا تَجْرِي مِثْلُهَا فِي الْبِيَاعَاتِ . فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ , سَاغَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . 
      قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ : هُوَ ضَرْبٌ مِنْ تَرْجِيحِ الْعِلَلِ إذَا عَارَضَتْهَا عِلَلٌ غَيْرُهَا , فَيَكُونُ إلْحَاقُهَا بِجِنْسِهَا , وَ ( مَا ) هُوَ مِنْ بَابِهَا , وَفِي حُكْمِهَا أَوْلَى . فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْقِيَاسِ مَقْصُورًا عَلَى رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا , دُونَ غَيْرِهِ ( فَلَا , بَلْ ) الْقِيَاسُ جَائِزٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَادِثَةُ , وَعَلَى مَا يُعَدُّ مِنْهَا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ . وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا واعتلالاتهم تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ يَمْنَعُ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرُدُّ الْوَطْءَ الْكَثِيرَ الْوَاقِعَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى جِهَةِ الرَّفْضِ , وَالْإِحْلَالِ , فِي بَابِ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَطْءِ الْكَثِيرِ الْوَاقِعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ , لَمَّا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ , لَمْ يَجِبْ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ , كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ الْوَاحِدِ . وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( جَوَازَ ) قَضَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ , أَكَانَ يَجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ } وَرَدَّ إبَاحَةَ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَى الْمَضْمَضَةِ , وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا .  فَإِنْ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْقَائِسِينَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَادِثَةِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا , عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا , كَانَ سَائِغًا , وَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهًا يُقَوِّي فِي النَّفْسِ رُجْحَانَ الْعِلَّةِ عَلَى غَيْرِهَا , وَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَ الْجِنْسِ وَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَوِّيًا لِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ , وَ ( إنْ ) لَمْ يَرُدَّهُ إلَى جِنْسِهِ كَانَ جَائِزًا , وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ طَرِيقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ الِاجْتِهَادُ , وَغَالِبُ الظَّنِّ . فَمَنْ اعْتَبَرَهَا بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا سَاغَ لَهُ ( ذَلِكَ ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ عَلَمُ الْحُكْمِ , وَأَمَارَتُهُ , وَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ .

بَابُ وَصْفِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَيْفَ اسْتِخْرَاجُهَا

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ وَصْفًا لِلْأَصْلِ الْمَعْلُولِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ لَازِمًا لِلْأَصْلِ لَا يُزَايِلُهُ , وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا , بَلْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهِ . فَمِنْ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلْأَصْلِ : مَا هِيَ عِلَّةٌ فِيهِ , نَحْوُ صِفَةِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ , وَكَوْنِ دَمِ عِرْقٍ صِفَةً لَازِمَةً لِسَائِرِ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ , مَا خَلَا الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ , وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةً لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ . وَمِمَّا لَا يَكُونُ وَصْفًا لَازِمًا لِلْأَصْلِ , وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ الصِّفَةُ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ بِهِ : الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً لِلْأَصْلِ الْمَعْلُولِ . إذْ جَائِزٌ أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهِمَا كَيْلًا , أَوْ وَزْنًا . وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ مَا هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْمَعْلُولِ , وَبَيْنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلْأَصْلِ مِمَّا لَا يُفَارِقُهُ , وَلَيْسَ لِكَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ غَيْرَ مُفَارِقٍ لَهُ مِنْ مَزِيَّةٍ عَلَى الْآخَرِ فِي بَابِ الْعِلَلِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مُخَالِفَنَا قَدْ جَعَلَ الشِّدَّةَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؟ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَيَصِيرَ خَلًّا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ وَأَكْثَرَ , وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا وَاحِدًا . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَوْصَافِهِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ . فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَاتَ أَوْصَافٍ فَجَمِيعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كُلَّ وَصْفٍ مِنْهَا عِلَّةٌ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ . وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عِلَّةً , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ .  فَمِنْ الْعِلَلِ الَّتِي تَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ , نَحْوُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ , إذَا أَرَدْنَا قِيَاسَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ التَّفَاضُلِ , فَنَقُولُ : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وُجُودُ زِيَادَةِ كَيْلٍ فِي جِنْسٍ . فَكَانَتْ زِيَادَةُ الْكَيْلِ مَعَ الْجِنْسِ بِمَجْمُوعِهَا عِلَّةً لِفَسَادِ الْبَيْعِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْجِنْسَ عَلَى الِانْفِرَادِ عِلَّةٌ فِي ذَلِكَ , وَلَا الْكَيْلَ عَلَى الِانْفِرَادِ لِمَا وَصَفْنَا . وَنَظِيرُهُ : قَوْلُنَا فِي سُؤْرِ السِّبَاعِ الَّتِي يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهَا إنَّهُ نَجَسٌ , قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ , لَا لِحُرْمَتِهِ وَيُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ . فَالْعِلَّةُ هَهُنَا ذَاتُ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لَا لِحُرْمَتِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ فِي الْعَادَةِ , وَمَتَى أَخْلَلْت شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ , فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ لِمَجْمُوعِهَا عِلَّةً لِتَحْرِيمِ السُّؤْرِ . وَمِمَّا يَكُونُ الْعِلَّةُ فِيهِ وَصْفًا ( وَاحِدًا ) مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ . قَوْلُنَا : إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ , وَالْكَيْلَ وَالْوَزْنَ , كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ , فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ , وَكَانَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةً لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ . وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ لِلْأَحْكَامِ , وَعَلَامَاتٌ لَهَا , لَا عَلَى جِهَةِ إيجَابِهَا لَهَا كَإِيجَابِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهَا فِي ذِكْرِ وَصْفِ الْعِلَلِ , فَإِنَّمَا تُعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا حَسَبَ تَعَلُّقِهَا بِالْأَسْمَاءِ , فَيَكُونُ الِاسْمُ ( عَلَمًا لِوُجُوبِ ) الْحُكْمِ , لَا عَلَى جِهَةِ إيجَابِهِ لَهُ . كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ هَذِهِ سَبِيلُهَا , وَمِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرْنَا جَازَ وُجُودُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ - الَّتِي هِيَ عِلَلُ الْأَحْكَامِ - عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ( حُكْمُ ) عِلَلِ الشَّرْعِ مَقْصُورًا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ , وَالِاتِّفَاقِ  غَيْرَ مُتَعَدٍّ إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ , ; لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِهَذَا الْوَصْفِ لَمْ تَكُنْ عِلَلًا . وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ عِلَلِ الشَّرْعِ مَا لَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ وَلَا يُفَارِقُ الْمَنْصُوصَ , أَوْ الِاتِّفَاقَ . نَحْوُ قَوْلِهِمْ : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ , وَقَوْلِهِمْ : إنَّ أَوْلَادَ الْمَاشِيَةِ ضُمَّتْ إلَى أُمَّهَاتِهَا , إذَا حَدَثَتْ فِي الْحَوْلِ ; لِأَنَّهَا مِنْهَا , وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْرِفُ عِلَلَ الْأَحْكَامِ وَمَعَانِيَهَا , وَمَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ وَاضِحُ الْفَسَادِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ بِهَا , وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ بِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّصِّ عَنْ اسْتِخْرَاجِ عِلَّةٍ لِإِيجَابِهِ , فَلَا مَعْنَى لِاسْتِخْرَاجِهَا لَهُ , وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ وَاسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ , فَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ , فَلَا مَعْنَى لِاسْتِخْرَاجِ عِلَّتِهِ , وَإِنَّمَا تُسْتَخْرَجُ الْعِلَّةُ مِنْ النَّصِّ لِلْفَرْعِ , لَا لِنَفْسِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ لِلْقِيَاسِ بِهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ , وَكُلُّ عِلَّةٍ لَا يَقَعُ بِهَا قِيَاسٌ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ , فَلَا مَعْنَى لَهَا إذَنْ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا أَجَازَ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ , فَإِذَنْ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ سَاقِطٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّتِهِ , كَمَا سَقَطَ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا كَانُوا يَجْتَهِدُونَ آرَاءَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ فِي الْحَوَادِثِ , وَلَمْ  يَكُونُوا يَجْتَهِدُونَ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَلِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لِغَيْرِهَا إلَيْهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ , وَلَتَكَلَّمُوا فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَلِ النُّصُوصِ , وَإِنْ لَمْ يَقِيسُوا بِهَا , كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَلِ الْقِيَاسِ , وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ اخْتِلَافُهُمْ وَأَقَاوِيلُهُمْ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ , وَوُجُوهِ اسْتِخْرَاجَاتهمْ . فَدَلَّ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِبَارِهِ فَائِدَةٌ وَلَا مَعْنًى . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعِلَلَ إنَّمَا تُسْتَخْرَجُ ( لَأَغْيَارِ الْأَصْلِ ) . فَأَمَّا الْأَصْلُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْعِلَّةُ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِنَفْسِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ جَمِيعَ أَوْصَافِهَا ; لِأَنَّهَا ( لَا ) تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا . فَكَذَلِكَ ( غَيْرُ ) جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهَا بَعْضَ أَوْصَافِهَا الَّذِي لَا تَتَعَدَّى ( بِهِ ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَكِيمِ وَالسَّفِيهِ : أَنَّ الْحَكِيمَ تَتَعَلَّقُ أَفْعَالُهُ بِأَغْرَاضٍ مَحْمُودَةٍ , فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ مُتَعَلِّقَةً بِأَغْرَاضٍ مَحْمُودَةٍ , مِنْ حَيْثُ كَانَ حَكِيمًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْعَبَثُ , ( وَتِلْكَ ) الْأَغْرَاضُ هِيَ الْعِلَلُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى أُصُولَهَا . قِيلَ لَهُ : مِنْ هَهُنَا أُتِيتَ , وَذَلِكَ لِأَنَّك حِينَ جَهِلْتَ عِلَلَ الْمَصَالِحِ , وَعِلَلَ الْأَحْكَامِ , وَلَمْ تَنْفَصِلْ عِنْدَك إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى , أَجْرَيْتَهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا . وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَلَ الَّتِي يُقَاسُ عَلَيْهَا . أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ , وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ صَاحِبَ مُوسَى عليهما السلام لَمَّا فَعَلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي اسْتَنْكَرَ مُوسَى ظَاهِرَهَا مِمَّا لَمْ يَقِفْ مُوسَى عليه السلام عَلَى عِلَلِهَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ , وَلَمْ يَعْلَمْهَا إلَّا  مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ حِينَ بَيَّنَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ } { وَأَمَّا الْغُلَامُ } { وَأَمَّا الْجِدَارُ } وَعِلَلُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هِيَ أَوْصَافٌ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ , وَالْمَصَالِحُ نَفْسُهَا هِيَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا , وَقَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ النَّصِّ : أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا حِكْمَةً وَصَوَابًا , وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ . وَعِلَلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْحُكْمِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِهَا لَفَسَدْنَا , وَإِذَا تَعَبَّدَنَا بِهَا صَلُحْنَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِي شَيْءٍ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَلُ الَّتِي نَسْتَخْرِجُهَا مِمَّا لَا يَتَعَدَّى هِيَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ . 

قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ كَوْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَثْمَانًا , لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ ; لِأَنَّ كَوْنَهُمَا أَثْمَانًا إنَّمَا كَانَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَيْهِ , وَكَوْنُ الْأَوْلَادِ مِنْ الْأُمَّهَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ , وَأَنْتَ إذَا اسْتَخْرَجْتَ عِلَّةَ النُّصُوصِ فَإِنَّمَا تَسْتَخْرِجُهَا لِتَجْعَلَهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ الْأَحْكَامِ عِلَّةَ الْمَصْلَحَةِ , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ , لَمَّا كَانَ عِنْدَكَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ , أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ أَبَدِيًّا مَوْجُودًا , وَأَنْ لَا يَصِحَّ إبَاحَةُ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا ; لِأَنَّ عِلَلَ الْمَصَالِحِ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا . وَقَدْ عَلِمْنَا وُجُودَ كَوْنِهِ مَأْكُولًا مَعَ إبَاحَةِ التَّفَاضُلِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ فِي شَيْءٍ , وَأَنَّ عِلَلَ الْأَحْكَامِ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ أَوْصَافًا لِلْأُصُولِ الْمُقْتَضَبِ مِنْهَا الْعِلَلُ . وَعِلَلُ الْمَصَالِحِ إنَّمَا هِيَ مَعَانٍ فِي الْمُتَعَبَّدِينَ لَا فِي الْأُصُولِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا , وَتِلْكَ الْمَعَانِي لَا نَعْلَمُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا فِي الْجُمْلَةِ : أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدَنَا بِهِ . فَإِنْ قَالَ : قَوْلُكُمْ : إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةٍ لَا تَعْدُو النَّصَّ غَلَطٌ ; لِأَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّهُ نَعْلَمُ ( أَنَّ ) اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , فَقَدْ اسْتَفَدْنَا مَعْنًى لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعِلَّةُ لَمْ نَسْتَفِدْهُ . وَنَسْتَحِقُّ بِالتَّوَصُّلِ إلَى هَذَا الْعِلْمِ ثَوَابًا , فَيَكُونُ ذَلِكَ فَائِدَتَنَا فِيهِ . قِيلَ لَهُ : أَتَعْنِي بِقَوْلِك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , وَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّحْرِيمِ لَا مَحَالَةَ , أَوْ عَنَيْتَ أَنَّ الْمَعْنَى ( قَدْ ) كَانَ يَجُوزُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ , إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ نَصًّا . فَإِنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الْحِكْمَةِ , وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ لَا يُحَرِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى . قِيلَ لَهُ : فَقَدْ أَجَزْتَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ الْعَبَثِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا لَمْ يَقْتَضِ التَّحْرِيمَ , وَلَمْ يُوجِبْهُ مِنْ طَرِيقِ الْحِكْمَةِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إنِّي حَرَّمْته لِأَجْلِ الْمَعْنَى , كَمَا لَا يَجُوزُ , أَنْ يَقُولَ : حَرَّمْته لِأَجْلِ أَنِّي خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ , ( إذْ لَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْحُكْمِ ) فَإِنْ قَالَ : يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى فُرُوعِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ ; لِأَنَّهَا عِنْدَك غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ , وَقَدْ جَعَلْتهَا عِلَلًا لَهَا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَتْ تِلْكَ عِلَلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا , وَلَا نُعَلِّقُ وُجُوبَ الْحَقِّ بِهَا , وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَاتٌ كَالْأَسْمَاءِ , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا , وَأَنْتَ حِينَ عَلَّلْت النَّصَّ , فَإِنَّمَا رُمْتَ إثْبَاتَ عِلَلِهِ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا عَلَامَةٌ ; لِأَنَّ مَا قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ تَكُونُ عَلَامَةً لِحُكْمِهِ . فَإِنْ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّيْءَ مِنْ أَجْلِهِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ . قُلْنَا لَهُ : فَهَذِهِ عِلَلُ الْمَصَالِحِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ مَعَانِيَ ( فِي ) الْمُتَعَبَّدِينَ . مِنْ أَجْلِهَا , وَجَبَ أَنْ يَتَعَبَّدُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ ; إذْ كَانُوا بِهَا يَصْلُحُونَ , وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا لَفَسَدُوا عِنْدَهُ , وَلَا تَكُونُ تِلْكَ أَمَارَاتٍ لِلْأَحْكَامِ . فَقَوْلُك : إنَّ فَائِدَةَ الْعِلَلِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى أَنِّي أَعْلَمُ اللَّهَ لِمَ حَرَّمَهَا , كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِنَّمَا احْتَجْنَا إلَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ عِلَلِ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ , وَإِنَّمَا يُقَلِّدُونَ فِيهَا قَوْمًا جُهَّالًا مِثْلَهُمْ . ثُمَّ يُعَارِضُونَ عَلَى عِلَلٍ جَارِيَةٍ فِي فُرُوعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا بِعِلَلٍ يَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ غَيْرِ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى فَرْعٍ , وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُوجِبَةٌ لِمِثْلِ الْحُكْمِ الَّذِي تَنَازَعُوهُ فِي الْفُرُوعِ , وَيَظُنُّونَ أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ مُعَارِضًا لِتِلْكَ الْعِلَلِ الصَّحِيحَةِ , الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَوَاضِعِ الْخِلَافِ , فَيَنْتَظِمُونَ بِهِ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِلَالُهُمْ بِعَلَّةٍ لَا تَعْدُو مَوْضِعَ النَّصِّ , أَوْ الِاتِّفَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَوْ صَحَّ عِلَّةً لَمَا عَارَضَ اعْتِلَالَ الْخَصْمِ لِأَنَّهُمَا ( حِينَئِذٍ ) يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا , إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَى فِيمَا يُوجِبُهُ مِنْهُ , وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا : فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ , إذَا تَفَاضَلَا : إنَّهُمَا وُجُودُ زِيَادَةٍ فِي جِنْسٍ , فَيُعَارِضُونَ عَلَيْهَا بِأَنْ يَقُولُوا : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , أَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ , وَكَوْنُهُمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ لَا تَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ , وَإِذَا عَلَّلْنَا وُجُوبَ ضَمِّ الْأَوْلَادِ إلَى الْأُمَّهَاتِ ; لِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ فِي الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ . قَالُوا : الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ أَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ , فَيَجْعَلُونَ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى عِلَّةً لِلْحُكْمِ . وَيَرُومُونَ بِهِ مُعَارَضَتَنَا فِي اعْتِلَالِنَا . بِمَا وَصَفْنَا , وَهَذَا خَطَأٌ وَجَهْلٌ مُفْرِطٌ . , وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعِلَلَ تُقْتَضَبُ لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا حُكْمٌ مَعْلُولٌ بِالنَّصِّ . قَالُوا : فَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَنَا لِمَ حَرَّمَهُ , فَيَعْدِلُونَ عَنْ بَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى غَيْرِهَا ; لِأَنَّ عِلْمَنَا بِذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ الَّذِي تَنَازَعْنَاهُ , وَإِنَّمَا نَحْتَاجُ أَنْ يُعَارِضَنَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِنَا , وَإِلَّا كَانَتْ مُعَارَضَةً سَاقِطَةً . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهَا ( لَا يَعْدُوهَا , وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ عِلَّتَهَا جَمِيعَ أَوْصَافِهَا فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهَا جَمِيعَ أَوْصَافِهَا ) ; لِأَنَّهَا ( لَا ) تَعْدُوهَا , امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَوْصَافِهَا عِلَّةً ( لَهَا ) , مِمَّا لَا يَعْدُوهَا . وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقِيَاسِ بِهَا , فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي صُورَتِهِمَا وَذَوَاتَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا , مَا دَامَ يَجِدُ لَهُ شَبَهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ اشْتِبَاهَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ . فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : كَنَحْوِ قَوْلِ الْأَصَمِّ : فِي أَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا ( لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى لَا يُفْسِدُهَا ) . قَالَ : وَلَا شَيْءَ أَشْبَهُ بِالْقَعْدَةِ مِنْ قَعْدَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا , هُمَا مَفْعُولَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , فَوَجَبَ قِيَاسُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى . وَكَقَوْلِهِ : فِي نَفْيِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى نَفْيِ إيجَابِ سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَفْعُولَةِ مِنْ الصَّلَاةِ , كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ , وَالسُّجُودِ , وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى , وَذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ , وَنَحْوِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَفْعُولٌ فِي الصَّلَاةِ , فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَذْكَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَكَقَوْلِهِ : إنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ ( لَيْسَ بِفَرْضٍ , لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ ) سَائِرَ التَّكْبِيرَاتِ الْمَفْعُولَةِ بَعْدَهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ فَرْضًا , فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَشْبَهُ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ الْمَفْعُولَةِ فِيهَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا نَعْتَبِرُهُ مَا وَجَدَ فِي الْأُصُولِ شَبَهًا لِلْحَادِثَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ تَجِدْ لِلْحَادِثَةِ شَبَهًا فِي الْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَوْصَافٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ , فَقَالَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ : إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْحُرِّ , فَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ وَجَبَ فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ . قَالَ : وَهُوَ يُشْبِهُ الْحُرَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعِبَادَةُ , وَفِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ , وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ . وَيُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سِلْعَةٌ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى , وَأَنَّ عَلَى مُتْلِفِهِ الْقِيمَةَ . فَاعْتَبَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الشَّبَهَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ , وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَارِعُ قَوْلَ الْأَصَمِّ مِنْ وَجْهٍ , وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَمُوَافَقَتُهُ الْأَصَمَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ ظَاهِرَ الشَّبَهِ , وَعَدَّدَ وُجُوهَهُ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ , كَمَا ذَكَرَ الْأَصَمُّ ظَاهِرَ الشَّبَهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا . وَيُخَالِفُ قَوْلَ الْأَصَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصَمَّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ , وَذَوَاتِهَا , وَصُوَرِهَا , وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ . وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّهُ عَدَّ أَحْكَامَ الْحُرِّ وَأَحْكَامَ الْبَهِيمَةِ , فَجَعَلَ الْعَبْدَ مُشْبِهًا لِلْحُرِّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ , وَمُشْبِهًا لِلْبَهِيمَةِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ فِي الْأَحْكَامِ , لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالصُّوَرِ .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَعْتَبِرُ كَثْرَةَ الشَّبَهِ فِي الْأَحْكَامِ . فَمَا أَشْبَهَ الْحَادِثَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي أَحْكَامِهَا , أَوْلَى مِمَّا أَشْبَهَهَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ . وَكَذَلِكَ كُلَّمَا كَثُرَتْ جِهَاتُ الشَّبَهِ كَانَ الْحُكْمُ لِلْكَثْرَةِ عِنْدَهُمْ . نَحْوُ قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ إيجَابَ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْأَكْلِ ; لِأَنَّ الْجِمَاعَ - زَعَمَ - يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ , وَيَجِبُ بِهِ الْهَدْيُ , وَيُوجِبُ الْحَدَّ إذَا صَادَفَ غَيْرَ مِلْكٍ وَلَا شِبْهٍ , وَيُوجِبُ الْغُسْلَ . فَلَمَّا كَانَتْ الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْجِمَاعِ أَكْثَرَ مِنْهَا بِالْأَكْلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ; إذْ كَانَ الْأَكْلُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ الصَّوْمِ فَحَسْبُ , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْجِمَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهِ , أَوْلَى .
      وَيُحْكَى عَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا قِيَاسَ لِقَائِسٍ إلَّا عَلَى أَصْلٍ مَعْلُومٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ . 
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَأَنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ إجْمَاعَ الْقَائِسِينَ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا , وَمَتَى لَا يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ لَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَعْتَدَّ بِنُفَاتِ الْقِيَاسِ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ . وَقَالَ جُلُّ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ النَّظَّارِينَ : إنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي لَحَاقِ الْحَادِثَةِ بِأُصُولِهَا بِتَشَابُهِهَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ , يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ , فَإِذَا ثَبَتَ الْمَعْنَى بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ , وَجَبَ إجْرَاؤُهُ فِي فُرُوعِهِ , وَالْحُكْمُ لَهَا بِحُكْمِهِ , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى شَبَهًا مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ , أَوْ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ , أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاسْمِ ; إذْ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرَدَّ الْفَرْعُ إلَى الْأَصْلِ بِالِاسْمِ , إذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ , فَيَكُونُ الِاسْمُ حِينَئِذٍ عَلَمَ الْحُكْمِ , وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ , ( وَنُسَمِّيهِ عِلَّةً ) مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالتَّوَقُّفِ عَلَيْهِ . وَالْآخَرُ : بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا , وَهُوَ طَرِيقَةُ أَبِي الْحَسَنِ الَّتِي كَانَ يَسْلُكُهَا , وَيَعْتَبِرُهَا فِي الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ , وَهِيَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا , فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُمْ .

بَابٌ فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا

                 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ يُعْلَمُ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ , فِي نَفْيِ الْعِلَّةِ , أَوْ قَوْلُ مُثْبِتِيهِ فِي إثْبَاتِهَا , فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَصِحَّتِهِ , وَبُطْلَانِ قَوْلِ نُفَاتِهِ , ثُمَّ أَجْمَعَ مُثْبِتُوهُ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا , صَارَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِحَّتِهِ , وَقَدْ يَثْبُتُ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِالتَّوَقُّفِ عَلَى الْعِلَّةِ , وَبِفَحْوَى النَّصِّ وَبِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ , فَهُوَ خَبَرُ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ , وَمَا ثَبَتَ مَعْلُولًا بِالتَّوْقِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ } { وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِبَرِيرَةَ : مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَمَا يُعْلَمُ بِفَحْوَى النَّصِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ , وَبِزَوَالِهِ زَالَ . وَكَقَوْلِهِ فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ : { إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ , وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا } دَلَّنَا فَحْوَى خِطَابِهِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَعْنًى بِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ النَّجَسِ .  وَمِنْهَا مَا يُسْتَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا , بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ , نَحْوُ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ , وَامْتِنَاعِهِ بِخُرُوجِ الْعَرَقِ , وَالدَّمْعِ ( وَالْبُزَاقِ ) , وَنَحْوِهَا . فَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى انْتِقَاضِهَا بِخُرُوجِ الْبَوْلِ مُعَلَّلٍ , يَجِبُ اعْتِبَارُهُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ , فَيُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى اعْتِبَارِ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى .

بَابٌ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ .

    	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ كَانَتْ هِيَ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا , وَكَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَعْلُولًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْقِيَاسِ , وَاقْتِضَابِ الْعِلَلِ , فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا احْتَجْنَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْقِيَاسِ إلَى طَلَبِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ , وَتَبَيُّنِ مِمَّا لَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى حِيَالِهِ عِلَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَقِضُ . أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ , وَأَنَّهُ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ وَأَنَّهُ مَأْكُولٌ , وَأَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ , وَأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ , وَأَنَّهُ حَبٌّ وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ , وَأَنَّهُ جِسْمٌ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ عَلَى حِيَالِهِ , وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ عِلَّةَ الْحُكْمِ أَيَّ وَصْفٍ شَاءَ الْقَائِسُ جَعْلَهُ عِلَّةً . هَذَا مُمْتَنِعٌ غَيْرُ جَائِزٍ , فَوَاجِبٌ إذَنْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ بَعْضَ أَوْصَافِهِ , إمَّا وَصْفٌ وَاحِدٌ , أَوْ وَصْفَانِ , أَوْ ثَلَاثَةٌ , أَوْ نَحْوُهَا , بَعْدَ أَنْ لَا يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ .  وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ وَأَمَارَتُهُ - وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ( عِلَّةٌ لَهُ ) - لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ , وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ اقْتِضَابُ بَعْضِ أَوْصَافِهِ , وَجَعْلُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ ( كَهُوَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ) , فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلَّمَ لِمُدَّعِي الْحُكْمِ دَعْوَاهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ , كَذَلِكَ مُدَّعِي الْعِلَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى دَعْوَاهُ لَهَا دُونَ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهَا مِنْ وُجُوهِ ( الدَّلَائِلِ , فَالْعِلَلُ ) مُخْتَلِفَةٌ : فَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا . فَيَجِبَ اعْتِبَارُهَا فِي نَظَائِرِهَا , كَمَا اعْتَبَرَ عُمَرُ رضي الله عنه قوله تعالى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قِسْمَةِ السَّوَادِ فَحِينَ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِلَالِ عَرَفُوا صِحَّةَ اسْتِدْلَالِهِ , وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي إبَاحَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِاسْتِغْفَالِنَا عَنْ التَّأَهُّبِ لِقِتَالِهِمْ . فَلَوْ قَاتَلْنَا الْبُغَاةَ وَالْخَوَارِجَ جَازَ لَنَا صَلَاةُ الْخَوْفِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي الْمُشْرِكِينَ , لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبُغَاةِ وَالْمُحَارِبِينَ .  نَحْوُهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } { وَقَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ , وَلَيْسَتْ الْحَيْضَةَ فَتَوَضَّئِي } . فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : { إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ } , وَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ ; لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ , فَأَعْلَمَهَا : أَنَّ الَّذِي بِهَا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ , وَهُوَ دَمُ عِرْقٍ . قِيلَ لَهُ : لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ : إنَّهَا لَيْسَتْ الْحَيْضَةَ , فَلَمَّا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ , وَقَالَ : { إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ } , عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَفَادَهَا بِذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَيْضَةِ . وَالثَّانِي : تَعْلِيلُهُ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ بِأَنَّهَا دَمُ عِرْقٍ , لِيُعْتَبَرَ فِي نَظَائِرِهِ . وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ " إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ " مَعْنًى , وَلَا فَائِدَةٌ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّهَا لَيْسَتْ الْحَيْضَةَ , فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ , عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ , التَّنْبِيهَ عَلَى الْعِلَّةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا , وَرَدُّ نَظَائِرِهَا إلَيْهَا , حَتَّى يَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ , وَقَوْلُهُ : إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ , خَارِجٌ مَخْرَجَ الِاعْتِلَالِ . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ : { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } فَعَلَّلَ الْهِرَّةَ لِمَعْنًى يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَشْبَاهِهِمَا .
     قَالَ أَبُو بَكْرٍ : النَّاسُ فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعْلِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ نَصًّا عَلَى ( كُلِّ ) مَا فِيهِ الْعِلَّةُ , وَيُجْرِيهِ مَجْرَى لَفْظِ الْعُمُومِ . وَالنَّظَّامُ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ , وَهُوَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ . وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَاعِزُ ; لِأَنَّهُ ذُو أَرْبَعٍ , عَقَلْنَا مِنْ اللَّفْظِ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي أَرْبَعٍ ) . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ , وَلَا النَّصِّ فِي جَمِيعِ مَا فِيهِ الْعِلَّةُ . فَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ .  وَأَمَّا مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ مِنْهَا : فَإِنَّهُ يَجْعَلُ وُجُودَ هَذَا التَّعْلِيلِ وَعَدَمَهُ سَوَاءً , وَيَجْعَلُ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ , مِمَّا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ , دُونَ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إلْحَاقَ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ , إنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , لَا مِنْ طَرِيقِ , النَّصِّ وَالْعُمُومِ , ; لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ . وَقَوْلُهُ : فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ الْوُضُوءُ ; لِأَنَّهَا دَمُ عِرْقٍ , لَمْ يَتَنَاوَلْ الِاسْمُ مِنْهُ إلَّا دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ . وَقَوْلُهُ : إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ , لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي غَيْرِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ , وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ , دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ , وَلَيْسَ لِأَنَّ غَيْرَهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ , مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا مَعَهُ ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ : زَيْدٌ قَائِمٌ , لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَائِمٍ مَذْكُورًا مَعَهُ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي الْقِيَامِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ مَا فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ , فَإِنَّمَا يَجِبُ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الْعِلَلَ سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ , لَهَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي حُكْمِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ . فَمَتَى انْفَصَلَ الْحُكْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَمِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّلًا بِوَصْفٍ مِنْ ( الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ ) , عَلِمْنَا : أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا اعْتِبَارَهُ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ , وَإِجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي نَظَائِرِهِ . وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْوَصْفِ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ لَنَا : هَذَا الْوَصْفُ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى , وَخِطَابِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَضْعُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . فَمَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ , فَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنْهُ إجْرَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ , وَاعْتِبَارَهُ بِهِ . وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ : أَنْ تَنْحَصِرَ عِلَلُ الْقَائِسِينَ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ , ثُمَّ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ الْوُجُوهِ , إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا مِنْهَا , فَيَكُونَ فَسَادُ مَا عَدَاهُ مِنْ الْوُجُوهِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَحَدَ الْوُجُوهِ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عِلَّةً .  وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هُنَاكَ عِلَّةً قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ , وَأَجْمَعُوا ( عَلَى ) أَنْ لَا عِلَّةَ فِي الْأَصْلِ إلَّا إحْدَى مَا عَلَّلُوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا فَاسِدًا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْأَصْلَ مَعْلُولٌ بِعِلَّةٍ يَجِبُ بِهَا الْقِيَاسُ عَلَيْهِ , وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا عِلَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا صَحِيحَةً عَلَى اخْتِلَافِهَا , فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِهَا مَا عَدَا الْوَاحِدَةَ مِنْهَا , صَحَّتْ الْوَاحِدَةُ الَّتِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهَا . وَهَذَا كَمَا نَقُولُهُ أَيْضًا فِي الْمَذَاهِبِ وَأَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ : إنَّهُمْ مَتَى اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ , ثُمَّ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا , كَانَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِ سَائِرِ الْأَقَاوِيلِ غَيْرَ الْوَاحِدِ مِنْهَا , دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ . نَحْوُ قَوْلِنَا فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا : إنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ , ثُمَّ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى , فَسَادِ الْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ , وَعَلَى فَسَادِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ , وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُوقَفُ الْأَمْرُ , وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , صَحَّ الْقَوْلُ الرَّابِعُ , وَهُوَ أَنَّهُ وَلَدُهُمَا ثَابِتُ النَّسَبِ بَيْنَهُمَا . وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْعِلَلِ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا , فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ .
    وَمِمَّا كَانَ يَعْتَبِرُ أَبُو الْحَسَنِ فِي صَحِيحِ الْعِلَلِ وَهُوَ أَصَحُّ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا فِيمَا طَرِيقُهُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ , أَنْ يَنْظُرَ إلَى عِلَلِ الْقَائِسِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا فَمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامُ , وَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأُصُولِ . فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ , وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأُصُولِ . نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ وُجُودِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَعْلُولَةِ , مِنْ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ , وَجَدْنَا اعْتِبَارَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَوْلَى , لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ , أَوْ فَسَادِهِ , دُونَ الْقُوتِ وَالِادِّخَارِ , وَدُونَ الْأَكْلِ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا . وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ , ( لِأَنَّ الْعِلَلَ هِيَ .  الْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْأَحْكَامِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ . وَعِلَلُ الشَّرْعِ هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ ) , فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْبَابِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى بِكَوْنِهِ عِلَّةً مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ ; إذْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُقْتَضِيَةً لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى , أَنَّ الْبُرَّ بِالْبُرِّ لَوْ تَفَاضَلَا فِي الْجَوْدَةِ فِي كَوْنِهِمَا مَأْكُولَيْنِ , أَوْ مُقْتَاتَيْنِ , لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ حُكْمٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ , وَلَا فِي فَسَادِهِ , إذَا تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ . وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَتَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ , لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ , فَعَلِمْت أَنَّ سَائِرَ الْأَوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا مُخَالِفُونَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ , وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالزِّيَادَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ , فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى .
        وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُنَا : إنَّ اعْتِبَارَ الْخَارِجِ النَّجَسِ أَوْلَى بِإِيجَابِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ , مِنْ اعْتِبَارِ السَّبِيلِ , لِوُجُودِنَا الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْخَارِجِ , وَالسَّبِيلُ وَاحِدٌ فِي الْحَالَيْنِ , فَكَانَ اعْتِبَارُ الْخَارِجِ النَّجَسِ أَوْلَى لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ ( بِهِ ) , دُونَ السَّبِيلِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ إحْدَى دَلَائِلِ صِحَّةِ الْعِلَلِ وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , فَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا .
         وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا فِي عِلَلِ الشَّرْعِ . وَيَقُولُ : إنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ دَلِيلًا فِي عِلَلِ الْعَقْلِيَّاتِ . قَالَ : وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلَال عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا , مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الصَّحِيحَةَ وَاحِدَةٌ ( مِنْهَا ) , مَعَ وُجُودِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فِي جَمِيعِهَا .
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ( وَ ) هَذَا الَّذِي مُنِعَ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ  الْعِلَلِ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ , وَفِي مَعَانٍ قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ , مَعَ وُجُودِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : إنَّ وُجُودَ الشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ عِلَّةٌ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهَا , كَانَ قَائِلًا قَوْلًا فَاسِدًا , قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى فَسَادِهِ ; لِأَنَّهَا تُوجِبُ تَكْفِيرَ مُسْتَحِلِّ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ لِوُجُودِ الشِّدَّةِ فِيهَا . وَقَدْ يُمْكِنُ مِنْ نَصْبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ لِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ : أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهَا بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَصِيرَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِدَّةٌ , لَمْ يُكَفَّرْ مُسْتَحِلُّهُ , ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ كَانَ مُسْتَحِلُّهُ كَافِرًا , ثُمَّ إذَا صَارَتْ خَلًّا وَزَالَتْ الشِّدَّةُ زَالَ الْحُكْمُ بِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ , فَكَانَ حُكْمُ تَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الشِّدَّةِ , مَوْجُودًا بِوُجُودِهَا , ( وَ ) مَعْدُومًا بِعَدَمِهَا , مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ .
         وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : إذَا اخْتَلَفْنَا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا . فَأَجَازَهُ مُخَالِفُونَا قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ , وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ ذَلِكَ كَوْنَهَا بِكْرًا , وَمَنَعْنَا نَحْنُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا , وَرَدَدْنَاهُ إلَى الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا ( بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ ) . وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِنَا : بِأَنَّا وَجَدْنَا الْبُلُوغَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوِلَايَةُ , بِدَلَالَةِ أَنَّ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ , وَلَمْ نَجِدْ لِلْبَكَارَةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ , فَكَانَتْ عِلَّتُنَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ , لِمَا لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فِي الْأُصُولِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا , وَكَانَ رَدُّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ إلَى الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ , أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ .  فَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّهُ يُزَوِّجُهَا قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ , بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ , كَانَتْ عِلَّتُنَا صَحِيحَةً , لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , مِنْ مِنْ أَنَّ الصِّغَرَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا , وَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهَا ثَيِّبًا تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا , وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالصِّغَرِ , وَزَوَالُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالْبُلُوغِ , فَكَانَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ أَوْلَى عِلَّةً فِيمَا وَصَفْنَا ; إذْ كَانَ جَوَازُ عَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا النِّكَاحَ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى , فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ . 
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ عِلَلِ الشَّرْعِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَالٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِكَوْنِ الْمَعْنَى عِلَّةً ; لِأَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , يَجُوزُ عِنْدَنَا فِيهَا التَّخْصِيصُ , كَتَخْصِيصِ الِاسْمِ , وَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا , وَاعْتِبَارُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ - بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا - هُوَ عِنْدِي وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ , وَمَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِسِينَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ . وَقَدْ كُنْت أَرَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ , وَكَثِيرٌ مِمَّا فِي فَحْوَى النَّصِّ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى . أَلَا تَرَى : أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ { إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ , وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا } , قَدْ دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَاوَرَةَ النَّجَاسَةِ , هِيَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ ; لِأَنَّهُ حِينَ جَاوَرَتْ السَّمْنَ الْجَامِدَ أَمَرَ بِإِلْقَائِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِمَّا جَاوَرَهَا , دُونَ مَا لَمْ يُجَاوِرْهَا , وَلَمَّا جَاوَرَ الْمَائِعَ , أَوْ عَامَّتَهُ أَمَرَنَا بِإِرَاقَةِ الْجَمِيعِ . فَعَلَّقَ حُكْمَ التَّنَجُّسِ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ , وَأَزَالَهُ بِزَوَالِهَا , فَكَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ .  وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } بَعْدَ ذِكْرِهِ لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ . دَلَّ بِوُجُودِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْكَيْلُ وَالْجِنْسُ , أَوْ الْوَزْنُ وَالْجِنْسُ , عَلَى أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ وُجُودِ زِيَادَةِ الْكَيْلِ , أَوْ الْوَزْنِ , وَدَلَّ لِإِبَاحَةِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا عِلَّةُ الْجَوَازِ . فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَأَزَالَهُ بِزَوَالِهِ .
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ حَكَيْتَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ : أَنَّ أَحَدَ مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَلِ , أَنْ يَكُونَ لِلْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْأُصُولِ , وَيُعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ , وَهَلْ هُوَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ مَعْدُومًا ( بِعَدَمِهِ ) .
        قِيلَ لَهُ : بَيْنَهُمَا فَصْلٌ , وَهُوَ لَطِيفٌ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَاوَلَهُ , وَذَلِكَ ( أَنَّهُ ) يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْعِلَّةُ مِنْهُ , حَسْبَ مَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الثُّيُوبَةِ وَالْبَكَارَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِهَا فِي النِّكَاحِ , أَوْ زَوَالِهَا وَوُجُوبِ اعْتِبَارِ الصِّغَرِ , وَالْبُلُوغِ , فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ , أَوْ زَوَالِهَا , لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ حُكْمِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ لِأَجْلِ الصِّغَرِ , وَزَوَالِهَا عَنْهُ بِالْكِبَرِ , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا . وَمَا ذَكَرْته مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى , وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهِ , نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَنَا الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : لَمَّا وَجَدْت الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا وَالثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا , عَلِمْت أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْوِلَايَةِ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ , هِيَ الْبَكَارَةُ لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا . فَيُعَارِضَهُ خَصْمُهُ بِأَنْ يَقُولَ : لَمَّا وَجَدْت الثَّيِّبَ الْكَبِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ , وَالْبِكْرَ  الصَّغِيرَةَ يُزَوِّجُهَا , دَلَّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ تَزْوِيجِ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ , وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ , فَيَكُونُ دَلِيلُهُ عَلَى صِحَّةِ ( عِلَّتِهِ ) وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , وَزَوَالَهُ بِزَوَالِهَا , فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْعِلَّتَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَلَا يُمْكِنُ خَصْمَنَا أَنْ يُعَارِضَنَا فِي اسْتِدْلَالِنَا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُودِ تَأْثِيرِهَا فِي الْأُصُولِ , وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا , بِمِثْلِ اسْتِدْلَالِنَا , فَتَصِيرُ حِينَئِذٍ عِلَّتُنَا أَوْلَى , فَبَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مِمَّا كَانَ يَأْبَاهُ فَرْقٌ ( وَاضِحٌ ) .
             فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَنْ قَالَ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ , أَعْنِي وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعَهُ بِارْتِفَاعِهَا لَا يَصِحُّ لَهُ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُجِيزُ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى عِلَّةً لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بِعَدَمِهِ ; لِأَنَّهُ مَتَى اعْتَبَرَ هَذَا قَالَ لَهُ خَصْمُهُ : لَمَّا وَجَدْت الْحُكْمَ مَعْدُومًا مَعَ وُجُودِهِ وَمَوْجُودًا مَعَ عَدَمِهِ عَلِمْت أَنَّ مَا ذَكَرْته لَيْسَ بِعِلَّةٍ 
          قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى دَلَالَةً صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ , وَيَكُونَ الْحُكْمُ جَارِيًا عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ ( فَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ ) امْتَنَعْنَا مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ , وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً , وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَسَادُ الدَّلَالَةِ , كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وُجُودُ الشِّدَّةِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ وُجُودِهَا , وَعَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا , فَيُجْرِي هَذِهِ الْعِلَّةُ فِي النَّبِيذِ , ثُمَّ وَجَدْنَا حُكْمَ التَّكْفِيرِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَمْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشِّدَّةِ , وَزَائِلًا بِزَوَالِهَا , وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ كَوْنَ الشِّدَّةِ عِلَّةً لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ , مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْت بِهَا عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِكَ , كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا . 
   وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ جَازَ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ , جَازَ تَخْصِيصُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا , وَمِنْ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الَّذِي هِيَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْهُ , جَازَ تَخْصِيصُهَا , وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِيمَا لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ .