أصول الجصاص - الجزء الرابع2

من معرفة المصادر
   وَأَيْضًا : فَإِنَّا إنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ , وَوُجُودُ دَلَائِلِ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ مُخْتَلِفَةٌ , لَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدٌ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا , فَإِنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَصْلِ . وَأَمَّا مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عِلَّةً , فَإِنَّا ( لَا ) نَعْتَبِرُهُ عِلَّةً . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ قَدْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلَّةِ , وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعَهُ بِارْتِفَاعِهَا , وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْحَقِيقَةِ , وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ فِيمَا تُوجِبَانِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَإِحْدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي حَكَيْته عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ وُجُودِ تَأْثِيرِهِ فِي الْأُصُولِ , وَالْأُخْرَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَزَوَالِهِ بِزَوَالِهَا , أَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ , وَكَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ , مُوجِبًا لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ جَرْيَ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولَاتِهَا دَلَالَةً عَلَى صِحَّتِهَا , وَإِنْ لَمْ ( يُعَضِّدْهَا ) دَلَالَةٌ غَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَنَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ , لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يُعَلِّلُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعَلُّلِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَاوَى إحْدَاهَا : دَعْوَى لِلْمَذْهَبِ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ خَصْمُهُ . وَالثَّانِيَةُ : دَعْوَاهُ الْعِلَّةَ الَّتِي خِلَافُ خَصْمِهِ إيَّاهُ فِيهَا ( كَهُوَ ) فِي نَفْسِ الْمَقَالَةِ . وَالثَّالِثَةُ : أَنَّهُ قَرَنَ إلَى دَعْوَاهُ الثَّانِيَةِ دَعْوَى تَالِيَةً تَجْعَلُهَا حُجَّةً لِمَقَالِهَا , لِزَعْمِهِ أَنَّهُ حِينَ قَالَ : فَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَقَالَ بِهَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى , قَدْ خَالَفَ خَصْمَهُ فِيهَا , وَهِيَ دَعْوَى ثَالِثَةٌ , لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا لِيَصِحَّ الْمَذْهَبُ . فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ , وَتَحْصِيلُهُ : أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ هَذِهِ أَنِّي ادَّعَيْتُ دَعْوَى أُخْرَى مِثْلَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ الثَّالِثَةِ كَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى ; لِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَصِحُّ بِأَنْفُسِهَا , إنَّمَا تَصِحُّ بِدَلَائِلِهَا . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضْرِبُ بِهَذَا مَثَلًا وَيَقُولُ : هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ : لِمَ سَرَقْتَ الْيَوْمَ ؟ فَيَقُولُ : لِأَنِّي سَرَقْتُ أَمْسِ . وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ , لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى دَعْوَى الْعِلَّةِ نَفْسِهَا . فَيَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي : أَنِّي قُلْته بِهَا . وَلَوْ جَازَ هَذَا , لَجَازَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ الَّذِي طُولِبَ بِتَصْحِيحِهِ . فَيَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِي دَعْوَايَ : أَنَّهُ صَحِيحٌ , وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ وَخَبْطٌ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا غَبِيٌّ . فَإِنْ قَالَ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْعِلَّةِ فِي فُرُوعِهَا وَعَدَمَ انْتِقَاضِهَا بِدَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا , وَفَقْدَ مُقَاوَمَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى لَهَا مُوجِبَةٍ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهَا , يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , لَانْتَقَضَتْ , وَدَفَعَتْهَا الْأُصُولُ , وَقَاوَمَهَا مِنْ الْعِلَلِ مَا يُوجِبُ فَسَادَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فَكَانَ اتِّسَاقُهَا وَعَدَمُ دَفْعِ الْأُصُولِ لَهَا وَمُقَاوَمَةُ عِلَلٍ أُخْرَى إيَّاهَا , هِيَ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِصِحَّتِهَا , فَلَمْ نَكُنْ فِيمَا ادَّعَيْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ مُقْتَصَرِينَ عَلَى الدَّعْوَى حِين عَضَّدْنَاهَا بِدَلَالَةٍ غَيْرِهَا وَهِيَ مَا وَصَفْنَا . قِيلَ لَهُ : قَوْلُك : إنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهَا أَصْلٌ غَلَطٌ ثَانٍ , بَلْ الْأُصُولُ كُلُّهَا تَدْفَعُهَا ; لِأَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ , قَدْ حَكَمَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلٍ لَمْ يُعَضِّدْهُ قَائِلُهُ بِدَلَالَةٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَوْلُك : إنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَى لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا , بَلْ يَقُولُ خَصْمُك : إنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى : ( إذْ لَا دَلَالَةَ لَك عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاك لَهَا , وَلَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى , لَمَا أَخْلَى اللَّهُ تَعَالَى ) مِنْ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا . فَصَارَتْ حَقِيقَةُ قَوْلِك هَذَا : إنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَقُمْ عَلَى فَسَادِهَا , وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَقُمْ عَلَى فَسَادِهَا دَعْوَى لَيْسَ بِدَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى ; لِأَنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : أَفَأَقَمْتَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهَا ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَهَلُمَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ . , وَإِنْ قَالَ : لَيْسَ هَهُنَا دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّتِهَا غَيْرَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِهَا . ( قِيلَ لَهُ : فَقُلْ مِثْلَهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ , إنَّهُ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ , وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ ذِكْرِ الْعِلَّةِ , فَإِذَا لَمْ يَسُغْ لَك هَذَا فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ , فَالْعِلَّةُ مِثْلُهُ ; لِأَنَّك مُدَّعٍ فِيهِمَا جَمِيعًا . وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَك عَلَى صِحَّتِهَا . وَقَدْ حَكَمَتْ الْأُصُولُ : بِأَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ , فَلَمَّا عَرِيَتْ عِلَّتُك هَذِهِ مِنْ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا , دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا ) . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اتِّسَاقَهَا وَعَدَمَ مُقَاوَمَةِ أُخْرَى لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّتِهَا . فَإِنَّا قَدْ قُلْنَا : إنَّ الْأُصُولَ قَدْ دَفَعَتْهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ . فَيَقُولَ : إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِي أَنَّهُ مُتَّسِقٌ لَا يَدْفَعُهُ أَصْلٌ , وَلَا يُقَاوِمُهُ مَذْهَبٌ غَيْرُهُ , وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا , فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْمَذْهَبِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعِلَّةِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ دَعْوَى الْمَذْهَبِ يُقَاوِمُهَا الْخَصْمُ بِضِدِّهَا . قِيلَ : وَدَعْوَى الْعِلَّةِ يُقَاوِمُهَا دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّهَا عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ , وَأَنَّ مَذْهَبِي صَحِيحٌ , فَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِكَ . أَلَا تَرَى : أَنَّ جَرْيَ الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولِهَا إنَّمَا هُوَ دَعْوَاك , وَقَوْلُك غَيْرُ مَقْرُونٍ بِدَلِيلٍ ; لِأَنَّك إذَا سُئِلَتْ عَنْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ فَقُلْت : إنَّهُ مَأْكُولٌ جِنْسٌ , فَاسْتَدْلَلْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَارٍ فِي مَعْلُولِهِ , كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ , أَنِّي قُلْت فِي الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ ( وَالْعَدَسِ ) وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ , فَلَمْ تَحْصُلْ مِنْهَا إلَّا عَلَى الدَّعْوَى . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّعَاوَى يَكْفِي فِي مُعَارَضَتِهَا قَوْلُ الْخَصْمِ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ادَّعَيْتَ , لَا فِي هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْتَ , وَلَا فِي غَيْرِهِ كَالْمَذْهَبِ نَفْسِهِ . إذَا خَالَفَك خَصْمُك فِيهِ , كَانَ خِلَافُهُ إيَّاكَ مُعَارِضًا لِقَوْلِك , وَمُقَاوِمًا لِمَذْهَبِك , إذَا لَمْ تُعَضِّدْهُ بِدَلَالَةٍ , فَتَحْصُلُ أَنْتَ وَهُوَ عَلَى الدَّعْوَى . وَيُقَالُ لَهُ : أَلَيْسَ الْقَائِلُونَ بِعِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا قَدْ أَجْرَى كُلٌّ مِنْهُمْ عِلَّتَهُ فِي مَعْلُولِهَا , فَوَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ , أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صَحِيحَةً , وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ قَدْ حَصَلَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا , ثُمَّ قَدْ قَاوَمَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَاحِبَتَهَا فِي بَابِ جَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا , ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعْوِزُ خَصْمَك فِي كُلِّ عِلَّةٍ تَعْتَلُّ بِهَا وَتَقْتَصِرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْت , أَنْ يَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّتِك مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِك , مُعَارِضَةً لَهَا وَيُجْرِيهَا فِي مَعْلُولِهَا . وَيَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي جَرْيُهَا فِي مَعْلُولِهَا . وَلَا يَنْفَكُّ حِينَئِذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ تُسَوِّغَ لَهُ ذَلِكَ , فَتُصَحَّحَ الْعِلَّتَانِ جَمِيعًا , وَهُمَا تُوجِبَانِ حُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ , وَيَلْزَمَك الْقَوْلُ بِهِمَا جَمِيعًا , وَاعْتِقَادُ وُجُوبِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذَا هُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحْكَامِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فَيُقَالُ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا التَّضَادِّ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , لَمَا أَدَّى إلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ; إذْ لَا يُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ . فَيَقُولُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا بِجَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا , فَهَذَا التَّضَادُّ الَّذِي ذَكَرْنَا ضَرْبٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى . وَاخْتِلَافٌ ثَانٍ هُوَ مُنْتَفٍ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا , دُونَ جَمِيعِهَا , لَمْ ( يَجْرِ ) الْجَمِيعُ مَجْرَى عِلَّتِهِ فِي مَعْلُولِهَا , مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الصَّحِيحَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا , وَلَوْ كَانَ مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي مَعْلُولِهَا عَلَامَةٌ لِصِحَّتِهَا , لَمَّا قَاوَمَتْهَا عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُقَاوِمُهُ الْبَاطِلُ , حَتَّى لَا يَنْفَصِلَ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } فَمَتَى وَجَدْنَا فِي مَذْهَبٍ هَذَا الِاخْتِلَافَ , عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى , فَنَحْنُ لَوْ اسْتَدْلَلْنَا بِالْآيَةِ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكَانَتْ كَافِيَةً فِي إفْسَادِهَا , فَقَدْ بَانَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَرْجِعْ فِي إثْبَاتِهِ إلَّا إلَى دَعْوَى . وَالْآخَرُ : أَنَّ الْأُصُولَ قَدْ حَكَمَتْ بِفَسَادِ كُلِّ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ لِقَائِلِهِ عَلَى صِحَّتِهِ . وَالْآخَرُ : أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَالْمَقَالَاتِ , وَذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . وَمِنْ أَشْكَالِ ذَلِكَ : مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعِلَّتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا , وَإِحْدَاهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْأُخْرَى : إنَّ أَعَمَّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ , فَيَقْتَصِرُ فِي تَصْحِيحِ أَعَمِّهِمَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَضِّدَهُ بِدَلَالَةٍ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ فِي عِلَّةِ الْأَكْلِ : إنَّهَا أَعَمُّ مِنْ عِلَّةِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ لِأَنَّ كُلَّ مُقْتَاتٍ مَأْكُولٌ , وَلَيْسَ كُلُّ مَأْكُولٍ مُقْتَاتًا , وَنَحْوُ مَا نَقُولُهُ فِي عِلَّةِ بَعْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ , وَعِلَّةِ مَنْ يَعْتَبِرُهَا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلِ فَعِلَّتُنَا أَعَمُّ , وَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ : إنَّ عِلَّتَنَا أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَعَمَّ , مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْرُنَهَا بِدَلَالَةٍ , وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي إنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ بِجَرْيِهَا فِي مَعْلُولِهَا , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ , إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الدَّعْوَى فِي زِيَادَةِ الْمَعْلُولَاتِ الَّتِي ادَّعَاهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَضِّدَهَا بِدَلَالَةٍ , فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ . بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ أَخَصَّهُمَا أَوْلَى , جَازَ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى خَصْمِهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُودِ حُكْمِ الْأَخَصِّ , وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَعَمِّ , مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِهَا , وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْقَائِلَ بِالْأَعَمِّ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ادَّعَاهَا , فَإِذَا صَحَّحَتْهَا الدَّلَالَةُ , صَحَّ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا , مَا لَمْ يَعْرِضْ فِيهَا مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ حُكْمِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْقَوْلُ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ وَاجِبٌ , كَوُجُوبِ الْقَوْلِ بِأَعَمِّ اللَّفْظَيْنِ إذَا أَوْجَبَا حُكْمًا وَاحِدًا . قِيلَ لَهُ : لَعَمْرِي إنَّ ( الْقَوْلَ ) بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهَا , فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَعَمِّهَا قَبْلَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ عِلَّةً لِلْحُكْمِ , فَقَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْذُولٌ , وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَعَمِّ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ : أَنَّ الْأَعَمَّ اسْمٌ لِلْخَاصِّ وَلِغَيْرِهِ , فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْأَعَمَّ فِيمَا ذَكَرَهُ عِلَّةٌ بِدَلَالَةٍ تُوجِبُهُ , فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ . وَمِمَّا يُغَالِطُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ : إنَّ عِلَّةَ الْأَكْلِ أَوْلَى مِنْ عِلَّةِ الْكَيْلِ ; لِأَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ , وَيُوجِبُ مِنْ الْحُكْمِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجِبُهُ الْآخَرُ , وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَّا إلَى دَعْوَى حَسْبَ مَا بُيِّنَ فِي إفْسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِجَرْيِ الْعِلَّةِ , وَالْقَائِلِينَ بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ , ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مُفَارِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ ; لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يَعُمَّانِ أَكْثَرَ الْمَأْكُولَاتِ وَكَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْكُولَةٍ : كَأَنْوَاعِ الطِّيبِ , وَالْأَصْبَاغِ , وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ , وَسَائِرِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , فَيُوجِبُ حُكْمَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي سَائِرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاعْتِبَارِ إنْ صَحَّ احْتَجْنَا أَنْ نَعُدَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ , وَنَعُدَّ الْمَأْكُولَاتِ , فَنَنْظُرَ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَنْوَاعًا فَيَكُونُ أَوْلَى , وَهَذَا الِاعْتِبَارُ سَاقِطٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ . وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فِي مِثْلِ هَذَا بِأَعَمِّ الْعِلَّتَيْنِ لَغْوٌ لَا مَعْنَى لَهُ ; إذْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَامَّةً فِي نَوْعِهَا جَارِيَةً فِي مَعْلُولِهَا , فَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى فِي بَابِهَا . بَابُ الْقَوْلِ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى وَاتِّفَاقِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي

	    قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى الْوَاحِدِ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ , كَتَعَلُّقِ إيجَابِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ وَدَمِ الْإِحْرَامِ بِالْجِمَاعِ , ( وَكَتَعَلُّقِ ) تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ , وَكَتَعَلُّقِ إبَاحَةِ الْمَنْكُوحَةِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ بِعَيْنِهِ , وَكَإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ وَحَظْرِ وَطْئِهَا . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى . إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ لَمَّا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى حَسْبِ مَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً فِيهَا , لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ عَلَامَةً لِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ , كَالِاسْمِ لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِلْحُكْمِ الْمُضَمَّنِ بِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ عَلَمًا لِتَحْرِيمِ شَيْءٍ , وَعَلَمًا لِإِبَاحَةِ شَيْءٍ آخَرَ . أَلَا تَرَى : أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ قَدْ صَارَ عَلَمًا لِإِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَرْبِيِّ , وَعَلَمًا لِتَحْرِيمِ التَّوَارُثِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ , وَيَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , فَكَذَلِكَ عِلَلُ الشَّرْعِ جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ كَوْنُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .  

وَجَائِزٌ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْأَحْكَامِ لِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ . أَلَا تَرَى الْبَيْعَ قَدْ يَفْسُدُ ; لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ , وَيَفْسُدُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ , وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ , أَوْ مَجْهُولٍ , وَقَدْ يَجِبُ الْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ , وَالْقِصَاصِ , وَالْكُفْرِ , وَلِمَعَانٍ أُخَرَ , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مُعَلَّقُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ لِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَكَقَوْلِنَا أَيْضًا : إنَّ النَّسَاءَ يُحَرَّمُ بِوُجُودِ الْجِنْسِ , عَلَى حِيَالِهِ , وَيُحَرَّمُ أَيْضًا بِوُجُودِ الْكَيْلِ , أَوْ الْوَزْنِ , وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذَوِي فَهْمٍ . بَابٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ

	   قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ عَلَى شَرَائِطَ تَتَقَدَّمُهُمَا , فَلَا يَكُونُ لِلْعِلَّةِ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ مُوجِبَةً لَهُ , وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ الزِّنَا يُوجِبُ الرَّجْمَ مَعَ شَرْطِ الْإِحْصَانِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْصَانِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِهِ مَعَ الزِّنَا , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجْمَ عُقُوبَةٌ , وَالْإِحْصَانَ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِقَابُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ : الْبُلُوغُ , وَالْإِسْلَامُ , وَالدُّخُولُ , وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ , فَعَلِمْنَا أَنَّ الرَّجْمَ يُسْتَحَقُّ بِالزِّنَا لَا بِغَيْرِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِبْ إلَّا بِوُجُودِ الْإِحْصَانِ , وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَصْلَ بَيْنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ , وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُهُ , , وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي إيجَابِهِ : أَنَّ مَا يَجِبَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ عِنْدَ تَقَدُّمِ تِلْكَ الشَّرَائِطِ , وَأَنَّ مَا لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لَهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْإِحْصَانَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ , حَتَّى لَمَّا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَجَبَ الرَّجْمُ , وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ , ثُمَّ أُحْصِنَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ لَمْ يَجِبْ الرَّجْمُ , فَعَلِمْت أَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الزِّنَا دُونَ وُجُودِ الْإِحْصَانِ . وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أَصْحَابُنَا عَلَى شُهُودِ ( الْإِحْصَانِ ضَمَانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ , وَأَوْجَبُوهُ  عَلَى شُهُودِ الزِّنَا ; إذْ كَانُوا هُمْ الْمُوجِبِينَ لَهُ , وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ ) الْإِحْصَانِ مُوجِبِينَ لَهُ , وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اُحْتِيجَ فِي إثْبَات الزِّنَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ , وَالنَّفْيُ فِي إثْبَاتِ الْإِحْصَانِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ . وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ مَذْهَبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ دُونَ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لَهُ : قَوْلُهُمْ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ , فَيَقْضِي الْقَاضِي عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ , ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ : أَنَّ عَبْدَهُ كَانَ جَنَى أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ , وَأَنَّ الْمَوْلَى عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ , فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا , ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ : أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ , وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْجِنَايَةِ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ مِمَّا لَمْ يُلْزِمْ بِهِ الدِّيَةَ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا بِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ , غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا عَلَى الْمَوْلَى , فَلَمَّا وُجِدَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْجِنَايَةِ , أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ . وَقَالُوا : لَوْ كَانَ شُهُودُ الْجِنَايَةِ شَهِدُوا أَوَّلًا بِالْجِنَايَةِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا , ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ : أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ , فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ , ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ , أَنَّ شُهُودَ الْعِتْقِ يَضْمَنُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ الدِّيَةَ ; لِأَنَّ لُزُومَهَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَتِهِمْ . أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ شُهُودِ الْجِنَايَةِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلدِّيَةِ , ثُمَّ لَمَّا وُجِدَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْعِتْقِ أَلْزَمَهُ بِهَا الدِّيَةَ , فَعَلَّقُوا وُجُوبَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ دُونَ مَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ .   

بَابٌ فِي ذِكْرِ الْأَوْصَافَ الَّتِي تَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ

          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ تَكُونُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا لِلْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ , كَقَوْلِنَا : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ وُجُودُ الْجِنْسِ . وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْأَصْلِ , لَكِنَّهُ يَتْبَعُ عَادَةَ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ بِهِ كَقَوْلِنَا : إنَّ كَوْنَهُ مَكِيلًا عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ أَيْضًا , وَكَوْنَهُ مَكِيلًا لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُ , وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالتَّعَامُلِ كَيْلًا , وَكَاعْتِلَالِنَا لِإِيجَابِ الْعُشْرِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ الْخُضَرِ وَنَحْوِهَا بِعِلَّةِ أَنَّهَا يُقْصَدُ الْأَرَضُونَ بِزِرَاعَتِهَا , قِيَاسًا عَلَى الْحِنْطَةِ , وَكَوْنُهُ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ إنَّمَا هُوَ عَادَةٌ جَارِيَةٌ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَلَيْسَ هُوَ صِفَةً لَازِمَةً لِنَفْسِ الْمَزْرُوعِ . وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَفْسَ الِاسْمِ , كَقَوْلِنَا : إنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , وَمَسْحِ التَّيَمُّمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَسْحٌ , وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِلْمُحْرِمَيْنِ إذَا قَتَلَا صَيْدًا : أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً كَامِلًا , بِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ فِيهَا صَوْمٌ , لقوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فَسَمَّاهُ كَفَّارَةً , فَاشْتَبَهَتْ كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ , لَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةً فِيهَا صَوْمٌ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ , فَالْقِيَاسُ ( صَحِيحٌ بِالِاسْمِ ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِلَالُ بِالِاسْمِ إذَا لَمْ يَعْدُ إلَى فَرْعٍ , كَمَا لَا  يَصِحُّ الِاعْتِلَالُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ إذَا لَمْ يَعْدُ إلَى فَرْعٍ , وَكَانَ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ . وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْأَصْلِ فَتُنْصَبُ عِلَّةً لِلْفَرْعِ يَجِبُ فِيهِ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ بِوُجُودِهِ , كَمَا قُلْنَا فِي الْمُحْرِمَيْنِ إذَا قَتَلَا صَيْدًا , وَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قَاتِلِ الْخَطَأِ بِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ فِيهَا صَوْمٌ , وَهَذَا جَمِيعًا حُكْمَانِ . وَكَقَوْلِنَا : إنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِ امْرَأَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ , بِعِلَّةِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ , قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ تَزْوِيجِهَا زَوْجًا آخَرَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً , وَتَحْرِيمُ الْأُخْتَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ , فِيهِمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ , عِلَّتُهُمَا كَوْنُهَا مُعْتَدَّةً , وَكَوْنُهَا مُعْتَدَّةً إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ . وَكَقَوْلِنَا : إنَّ الْمَنِيَّ نَجَسٌ لِأَنَّ خُرُوجَهُ يُوجِبُ نَقْضَ الطَّهَارَةِ ( قِيَاسًا عَلَى انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ , وَكَانَ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ عِلَّةً لِكَوْنِهِ نَجَسًا , وَانْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ ) حُكْمٌ . وَقَدْ تَشْتَمِلُ الْعِلَّةُ عَلَى أَوْصَافٍ بَعْضُهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأَصْلِ , وَالْآخَرُ حُكْمٌ , وَالْآخَرُ وَصْفٌ عَارِضٌ فِيهِ , كَقَوْلِنَا : إنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ إلَى مَوْضِعِ الصِّحَّةِ عِلَّةٌ لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ ; لِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ خَارِجٌ نَجَسٌ , فَكَوْنُهُ دَمَ عِرْقٍ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ , وَكَوْنُهُ خَارِجًا وَصْفٌ عَارِضٌ فِيهِ , وَكَوْنُهُ نَجَسًا إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ , لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لَهُ لَازِمًا وَلَا عَارِضًا . وَقَدْ يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَوْصَافٍ بَعْضُهَا حُكْمٌ وَبَعْضُهَا عَادَةٌ , كَقَوْلِنَا : فِي عِلَّةِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ السَّبُعِ : إنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ , لَا لِحُرْمَتِهِ , وَيُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ , قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ , فَقَوْلُنَا : مُحَرَّمُ الْأَكْلِ حُكْمٌ , وَقَوْلُنَا : يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْ سُؤْرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَادَةِ . وَقَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى وَصْفَيْنِ هُمَا جَمِيعًا حُكْمٌ , كَقَوْلِنَا : إنَّ النَّسَاءَ مُحَرَّمٌ فِي الْحَدِيدِ بِالنُّحَاسِ , ; لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَعَيَّنُ . فَقَوْلُنَا : أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ حُكْمٌ . وَقَوْلُنَا : مِمَّا يَتَعَيَّنُ حُكْمٌ أَيْضًا . 

بَابُ الْقَوْلِ فِي مُخَالَفَةِ عِلَّةِ الْفَرْعِ لِعِلَّةِ الْأَصْلِ

             قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ تُقْتَضَبُ الْعِلَّةُ مُتَعَلِّقًا بِمَعْنًى . وَتَكُونُ عِلَّةُ الْفَرْعِ غَيْرَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ , هَذَا جَائِزٌ فِي عِلَلِ الشَّرْعِيَّاتِ , وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ , قِيَاسًا عَلَى ( الْبُرِّ ) , وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُوجَبًا فِي الْبُرِّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّ الْبُرَّ إنَّمَا وَجَبَ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ بِالنَّصِّ لَا بِهَذَا الْمَعْنَى ; إذْ كَانَ دُخُولُهُ تَحْتَ النَّصِّ مُغْنِيًا عَنْ تَعْلِيلِهِ لِإِيجَابِ حُكْمِهِ , وَإِنَّمَا اقْتَضَيْنَا هَذَا الِاعْتِلَالَ لِلْفَرْعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْلَا الْفَرْعُ لَكَانَ ذِكْرُ ( هَذَا ) الِاعْتِلَالِ لِلْأَصْلِ لَغْوًا لَا مَعْنَى لَهُ , عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ أَصْلٍ ( ثَبَتَ ) بِنَصٍّ أَوْ اتِّفَاقٍ , فَإِنَّا مَتَى قِسْنَا عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ , أَوْ اقْتَضَيْنَاهَا , فَحُكْمُ الْأَصْلِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّصِّ , أَوْ الِاتِّفَاقِ , وَحُكْمُ الْفَرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ . وَقَدْ يَعْرِضُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مِمَّا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ , فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ , نَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ مُحَاذَاةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ تُفْسِدُ صَلَاتَهُ , وَالْعِلَّةُ فِيهِ : أَنَّهُ قَدْ قَامَ مَقَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَهُ بِحَالٍ , مَعَ ( اخْتِصَاصِهِ بِالنَّهْيِ ) قِيَاسًا عَلَى إفْسَادِ صَلَاةِ مَنْ قَامَ قُدَّامَ الْإِمَامِ , وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا فَسَادُ صَلَاتِهِ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَّةِ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ , وَالْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا أَفْسَدْنَا  صَلَاةَ مَنْ صَلَّى قُدَّامَ الْإِمَامِ , لَيْسَتْ بِهَذِهِ , , وَإِنَّمَا هِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِائْتِمَامِ بِالْإِمَامِ وَاتِّبَاعِهِ , فَمَنْ صَلَّى قُدَّامَ الْإِمَامِ غَيْرَ مُؤْتَمٍّ بِهِ وَلَا مُتَّبِعٍ لَهُ عِنْدَنَا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي بِهَا أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ , غَيْرُ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا ثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ الْمَقِيسِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا : قَوْلُهُمْ فِي رَجُلَيْنِ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى عَبْدٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ وَقَبَضَهُ . وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ , وَلَمْ يُوَقِّتْ الْبَيِّنَتَانِ , أَوْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ أَوْلَى ; لِأَنَّ عَدَمَ تَارِيخِ الْعَقْدَيْنِ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ , يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوُقُوعِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا , وَمَتَى حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مَعًا , سَبَقَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ , ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ , وَالْهِبَةَ لَا تُوجِبُهُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ , فَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ , مَا ذَكَرْنَا . ثُمَّ قَالُوا : لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّهْنِ , وَالْأُخْرَى عَلَى الْهِبَةِ , وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَاتُ بِالْقَبْضِ , فَإِنَّ الرَّهْنَ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ ; لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضَ , وَالرَّهْنُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي بَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الْيَدَيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ ضَمَانُ الثَّمَنِ , فَقَاسُوا الرَّهْنَ عَلَى الْبَيْعِ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِغَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ , لِكَوْنِ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ . وَنَحْوُهُ إذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْ مَالِكِهِ , وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ , فَيَكُونُ الْعِتْقُ أَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهِ قَبْضًا , فَصَارَ كَإِقَامَةِ رَجُلَيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ , وَشَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبْضِ , فَيَكُونُ صَاحِبُ الْقَبْضِ أَوْلَى , ثُمَّ جَعَلُوا التَّدْبِيرَ مِثْلَ الْعِتْقِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْضٌ , بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ , كَمَا لَا يَلْحَقُ الْعِتْقَ , فَالْعِلَّةُ الَّتِي قَاسُوا بِهَا التَّدْبِيرَ عَلَى الْعِتْقِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ غَيْرُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ فِي الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ الشِّرَاءِ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ . وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَمًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا  سَلَفَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ ( لَهُ ) , ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ إيجَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِمَعْنًى , ثُمَّ يُجْعَلُ بَعْضُ أَوْصَافِهِ عَلَمًا لِحُكْمٍ آخَرَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ , إنَّمَا صَارَتْ عِلَلًا عَلَى حَسْبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةَ الْأَحْكَامِ , وَالنُّكْتَةُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْأَمْرِ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِلَلًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا , أَنَّهَا ( لَمَّا ) لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا , وَإِنَّمَا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لَهَا , عَلَى حَسْبِ مَا يَنْصِبُهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَارَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَوْصَافِ عَلَامَةً لِحُكْمٍ , ثُمَّ تَكُونَ بَعْضُ أَوْصَافِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَامَةً لِحُكْمٍ آخَرَ غَيْرِهِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِهِ . وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجَزْنَا تَخْصِيصَ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ وُجُودِهَا , فَلِذَلِكَ امْتَنَعْنَا مِنْ اقْتِضَابِ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ , وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْضِعَ النَّصِّ , أَوْ الِاتِّفَاقِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً لِحُكْمِهِ ; إذْ كَانَ مَا يَثْبُتُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَكُونُ بَعْضُ أَوْصَافِهِ عَلَامَةً لَهُ مُقَيَّدًا لِلْحُكْمِ فِيهِ . وَمَنْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ , فَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهَا لِجَهْلِهِ بِمَعَانِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ , وَظَنِّهِ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ , فَامْتَنَعُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ تَجْوِيزِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِيهَا , فَمَنَعُوا تَخْصِيصَهَا وَأَجَازُوا كَوْنَ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى الْفَرْعَ وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْضِعَ النَّصِّ , وَمَنَعُوا وُجُوبَ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ , وَحُكْمِ الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا ; إذْ كَانَ هَذَا الْفَرْعُ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ . وَلَوْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا مَعَانِيَ مَا نُسَمِّيهِ عِلَلًا نُوجِبُ بِهَا قِيَاسَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , لَخَفَّتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . 

بَابٌ فِيمَا يُضَمُّ إلَى غَيْرِهِ فَيُجْعَلَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةَ الْحُكْمِ وَمَا ( لَا ) يُضَمُّ إلَيْهِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ

  	قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ وَصْفٍ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً ( مِنْ ) الْوُجُوهِ الَّتِي يَثْبُتُ عِلَلُ الشَّرْعِ مِنْهَا , فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ , فَإِنْ رَامَ أَحَدٌ ضَمَّ وَصْفٍ آخَرَ إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ , لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَيْنِ بِمَجْمُوعِهِمَا عِلَّةُ الْحُكْمِ , فَإِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا دُونَ أَحَدِهِمَا . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ الْعِلَّةَ فِي وُجُوبِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ كَوْنُهُ نَجَسًا خَارِجًا بِنَفْسِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ , لِلدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ ذَلِكَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْبَوْلِ مَعَ مَا وَصَفْت : أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ , قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً إلَى مَا ذَكَرْت , وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لِلسَّبِيلِ تَأْثِيرًا فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ , وَأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي زَوَالِهَا , فَغَيْرُ جَائِزٍ كَوْنُهُ مَشْرُوطًا مَعَ مَا وَصَفْنَا . وَكَذَلِكَ إذَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كَوْنُهُ مَكِيلَ جِنْسٍ , فَقَالَ لَنَا : مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ كَوْنَهُ مَكِيلًا مَأْكُولَ جِنْسٍ , لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ الْأَكْلَ مُتَعَلِّقًا بِهِ حُكْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ , فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ضَمُّ الْأَكْلِ إلَيْهِمَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِمَا عَنْهُ فِي كَوْنِهِمَا عِلَّةً .  وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِيمَا يَعْتَبِرُهُ الْمُخَالِفُ , فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ ضَمَّهُ إلَى الْعِلَّةِ مِمَّا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ , فَلَمْ تَسْتَقِمْ الْعِلَّةُ إلَّا بِضَمِّهِ إلَيْهَا , ضَمَمْنَاهُ إلَيْهَا , وَاَلَّذِي يَجِبُ ضَمُّهُ إلَى غَيْرِهِ وَجَعْلُهُمَا عِلَّةً هُوَ مَا لَا تَسْتَقِيمُ الْعِلَّةُ إلَّا بِهِ , وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِوُجُودِهِ , وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ قَوْلُ قَائِلٍ لَوْ قَالَ : إنَّ الْعِلَّةَ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ : أَنَّ السَّبُعَ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ , فَهَذَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَالْهِرَّ أَكْلُهُمَا مُحَرَّمٌ وَسُؤْرُهُمَا طَاهِرٌ , فَاحْتَجْنَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى تَقْيِيدِ الْعِلَّةِ بِوَصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْأَحْكَامِ . وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ , وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ , ; لِأَنَّا لَوْ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ لَزِمَ عَلَيْهِ سُؤْرُ الْهِرِّ ; لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِحُرْمَتِهِ , فَاحْتَجْنَا إلَى تَقْيِيدِهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ ( لَا ) يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ , وَإِنَّمَا صَحَّ إلْحَاقُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي صِحَّةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ , لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا . أَلَا تَرَى أَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ نَجَسٌ , وَسُؤْرَ الْهِرِّ طَاهِرٌ , وَلَمْ يَفْتَرِقَا فِي الْحُكْمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلْبَ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِهِ فِي الْعَادَةِ , وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْ سُؤْرِ الْهِرِّ . وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ سُؤْرُهُ نَجَسٌ وَسُؤْرُ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ , مَعَ كَوْنِهِمَا مُحَرَّمَيْ الْأَكْلِ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْكَلْبِ لِنَجَاسَتِهِ , وَتَحْرِيمَ أَكْلِ الْإِنْسَانِ لِحُرْمَتِهِ , لَا لِنَجَاسَتِهِ , فَاعْتَبَرَ شُرُوطَ الْعِلَلِ وَمَا يَصِحُّ ضَمُّهُ إلَيْهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ بِمَا وَصَفْنَا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا . وَمِمَّا يُشَاكِلُ مَا قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي دَعْوَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى مَضْمُومِ دَعْوَى الْخَصْمِ , الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَدَّعِيه عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ . وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِمَا , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِمَا , فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُرَاعَى الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ , هَلْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِأَجْلِ وُجُودِهِ وَزَائِلًا بِزَوَالِهِ ؟ أَوْ كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ الْمَعْنَى غَيْرَهُ ؟ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودًا لِبَعْضِ الْمَعَانِي , وَيَكُونُ  الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِ مَعْنًى غَيْرِهِ , وَزَائِلًا بِزَوَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي ( الَّتِي ) قَارَنَتْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الَّذِي اعْتَبَرَ ذَلِكَ فِيهِ , فَيَجْعَلُ الْخَصْمُ وُجُودَ الْحُكْمِ وَزَوَالَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ , دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَاعْتِلَالٍ : بِأَنَّهُ مُفْطِرٌ بِالْأَكْلِ , فَيَجْعَلُ إفْطَارَهُ بِالْأَكْلِ عِلَّةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ , بِدَلَالَةِ أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ يُفْطِرَانِ بِالْأَكْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا , وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا مَعْذُورٌ وَذَاكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ , وَلَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْأَكْلِ . وَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ بِالْأَكْلِ عِلَّةٌ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ , وَسُقُوطِهَا عَنْ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا أَفْطَرَا بِالْأَكْلِ , فَعَلِمْت أَنَّ كَوْنَهُ مُفْطِرًا بِالْأَكْلِ عِلَّةٌ لِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ , لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ . وَنَحْنُ مَتَى اعْتَبَرْنَا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ مَا ادَّعَاهُ فِيهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مِنْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّهُمَا مُفْطِرَانِ بِأَكْلٍ , لَيْسَ كَمَا ادَّعَاهُ ; لِأَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْكَفَّارَةُ ; لِأَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ فِيهِ , وَالْعُذْرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَفْطَرَا بِجِمَاعٍ لَمْ يَلْزَمْهُمَا كَفَّارَةٌ , وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , فَعَلِمْت أَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ , وَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُرِيَنَا أَنَّ حُصُولَ الْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ , إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي جَعَلْتهَا أَصْلًا فِي ذَلِكَ إنَّمَا سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا لِمَعْنًى غَيْرِ الْأَكْلِ . فَبَانَ بِذَلِكَ سُقُوطُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ( تَعَلُّقِ ) وَسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ , لِوُجُودِنَا الْحُكْمَ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ وَمَعْدُومًا بِعَدَمِهِ .  وَكَانَ كَذَلِكَ إنْ قَالَ : اتَّفَقْنَا أَنَّ مَنْ بَلَعَ حَصَاةً لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجِمَاعَ يُوجِبُهَا , وَالْأَكْلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُهَا فَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْأَكْلِ زَائِلًا بِزَوَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ غَلِطْتَ فِي دَعْوَاك أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ وَزَالَ بِزَوَالِهِ , وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى آخَرَ ( قَارَنَ الْأَكْلَ وَزَالَ بِزَوَالِهِ لَا بِالْمَعْنَى ) الَّذِي ادَّعَيْت ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي اسْتَشْهَدْت بِهِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَوْصَافٍ , ثُمَّ وَجَدْنَا الْحُكْمَ قَدْ يَجِبُ بِوُجُودِ وَصْفَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةٍ وَيَزُولُ بِزَوَالِهَا , فَلَيْسَ لَك أَنْ تَجْعَلَ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ , إلَّا وَلِخَصْمِك أَنْ يُعَلِّقَهُ بِوَصْفٍ آخَرَ وَبِبَاقِي الْأَوْصَافِ , فَإِذَا كَانَ الَّذِي بَلَعَ الْحَصَاةَ قَدْ اشْتَمَلَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَصْفَيْنِ . أَحَدُهُمَا ; أَنَّهُ أَكَلَ , وَالثَّانِي : أَنَّ مَأْثَمَهُ دُونَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ , وَدُونَ مَأْثَمِ آكِلِ الطَّعَامِ , فَلَسْتَ بِأَسْعَدَ بِجَعْلِك الْأَكْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ خَصْمِك بِجَعْلِهِ حُصُولَ إفْطَارِهِ بِمَأْثَمٍ , دُونَ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ عِلَّةً فِي ذَلِكَ , وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلَّةً صَحِيحَةً لِتَعَدِّيهَا إلَى فَرْعٍ فِيهِ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ غَيْرِ مَعْذُورٍ , ثُمَّ يُعَارِضُك فِي اسْتِدْلَالِك بِمِثْلِ دَلَالَتِك عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ , فَلَا تَحْصُلُ حِينَئِذٍ إلَّا عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ فِي قَوْلِك : إنَّ الْحُكْمَ كَانَ مَوْجُودًا ( بِوُجُودِ الْأَكْلِ ) عَلَى الْإِطْلَاقِ , مَعْدُومًا بِعَدَمِهِ , ثُمَّ يَنْفَصِلُ خَصْمُك مِنْك , وَيُسْقِطُ مُعَارَضَتَك إيَّاهُ , فَإِنَّ لِلْمَعْنَى الَّذِي اعْتَبَرَهُ فِي مِقْدَارِ الْمَأْثَمِ تَأْثِيرًا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ , وَلِزَوَالِهِ تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِهِ .  أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجَامِعَ فِي الْفَرْجِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِحُصُولِ إفْطَارِهِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَأْثَمِ , وَأَنَّ الْمُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ , لِقُصُورِ مَأْثَمِهِ عَنْ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ , وَأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجَامِعِ فِي الْفَرْجِ , وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِاخْتِلَافِهِمَا ( فِي ) مِقْدَارِ الْإِثْمِ , وَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَأْثَمِ الَّذِي مِقْدَارُهُ مِقْدَارُ مَأْثَمِ الْمُجَامِعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْطَارُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْأَكْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ فِي الْمُخْتَلِعَةِ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ , وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بِأَنَّهَا بَائِنَةٌ مِنْهُ , أَوْ بِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا . وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى وُقُوعِهِ قَبْلَ الْبَيْنُونَةِ , وَاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ , أَوْ أَنَّهَا لَا يَلْحَقُهَا ظِهَارُهُ . فَأَنْتَ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ إذَا كَانَ خَصْمُك مُجِيبًا إنْ شِئْت عَارَضْته عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ , فَنَنْصِبُ إيقَاعَ عِلَّةٍ بِإِزَائِهَا وَنَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِمِثْلِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهَا , بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُعْتَدَّةً ( مِنْهُ عَنْ طَلَاقٍ , وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ إيقَاعَ بَقِيَّةِ طَلَاقِهَا بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً ) مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ كَانَ زَوْجُهَا مَالِكًا لِإِيقَاعِ بَقِيَّةِ طَلَاقِهَا , بِعِلَّةِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْعِلَّةِ : أَنَّهَا مَتَى انْقَضَتْ عِلَّتُهَا لَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ , لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الَّتِي وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا , وَمَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً لَحِقَهَا طَلَاقُهُ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ ( وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ ) , فَإِذَا عَارَضْته بِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِلَالُهُ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ رَامَ حِينَئِذٍ تَرْجِيحَ عِلَّتِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ , وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُنْتَقِلًا عَنْ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ , وَيَكُونُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الِانْقِطَاعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ بَدْءًا تَصْحِيحَ عِلَّتِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ غَيْرَ مُضَمَّنٍ , بِمَعْنًى غَيْرِهِ .  وَإِذَا رَامَ تَرْجِيحَ اعْتِلَالِهِ بَعْدَ مُعَارَضَتِك إيَّاهُ بِمَعْنًى آخَرَ , فَقَدْ تَرَكَ الِاسْتِدْلَالَ , وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنًى غَيْرِهِ , مِمَّا يُوجِبُ عِنْدَهُ تَرْجِيحَ عِلَّتِهِ , اعْتِرَافًا مِنْهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي جِهَةٍ لِلدَّلَالَةِ وَتَصْحِيحِ الْمَقَالَةِ . , وَإِنْ شِئْنَا نَظَرْنَا فِي جِهَةِ اسْتِدْلَالِهَا هَلْ هُوَ عَلَى مَا ادَّعَى أَمْ لَا ؟ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا فِي حَقِّ النَّظَرِ . فَنَقُولُ لَهُ : مَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا ذَكَرْت تَعَلَّقَ بِالْبَيْنُونَةِ فَحَسْبُ ؟ وَلِمَ قُلْت : إنَّ امْتِنَاعَ وُقُوعِ طَلَاقِهِ مُتَعَلِّقٌ بِزَوَالِ النِّكَاحِ , وَوُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِهِ , مَعْدُومٌ مَعَ عَدَمِهِ ؟ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ ( الطَّلَاقِ ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَبِزَوَالِ جَمِيعِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ , وَيَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ يُوجِبُ بَقَاءَ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ . وَوُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ ( لَمْ يَمْنَعْ بَقَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ نَحْوِ لُزُومِ نَسَبِ وَلَدٍ لَوْ جَاءَتْ بِهِ , وَوُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ . وَلَمْ يَكُنْ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ ) تَأْثِيرٌ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ , وَيَكُونُ اعْتِلَالُهَا بِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْلَى ( مِنْ الْحُكْمِ ) الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِوُجُودِهِ , وَمَعْدُومٌ بِعَدَمِهِ ( لَوْ ) تَعَلَّقَ لَمَا وَجَدْنَا لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ التَّأْثِيرِ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ , وَلَمْ يَكُنْ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِهَا . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِبُطْلَانِ الطَّهَارَةِ ; لِأَنَّ امْتِنَاعَ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي رَفْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ , فَلَا يُؤَثِّرُ فِي بُطْلَانِ الطَّلَاقِ .  وَكَانَ اسْتِدْلَالُنَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ أَوْلَى , لِمَا وَصَفْنَا . وَمِثْلُهُ : قَوْلُ مَنْ خَالَفْنَا فِي الْمُجَاوَزَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ إذَا قُتِلَ خَطَأً , وَاعْتِلَالِهِ بِأَنَّهُ مَالٌ كَالدَّابَّةِ , وَالثَّوْبِ , وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مَالًا وَجَبَ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ , وَأَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَمْ يُجَاوَزْ بِهِ الدِّيَةَ . وَقُلْنَا نَحْنُ لَا نُجَاوِزُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ , أَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَ آدَمِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْجِنَايَةِ , وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ مُخَالِفٌ لِضَمَانِ الْأَمْوَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّ قَاتِلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ , وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ , وَأَنَّ كَوْنَهُ مَالًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ ; إذْ كَانَ إتْلَافُهُ مِنْ طَرِيقِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَكَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ مُجَاوَزَةِ الدِّيَةِ بِقِيمَتِهِ , فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى ; إذْ كَانَ كَوْنُهُ مَالًا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْ قَاتِلِهِ فِي الْخَطَأِ , وَالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ . وَمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ كَوْنِهِ مَالًا , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ فِي الدَّابَّةِ الْمُتْلَفَةِ , فَعَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكَوْنِهِ مَالًا ( دُونَ ) مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ضَمَانَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ , ( وَضَمَانَ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْوَجْهِ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ ) , فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِدِيَةِ الْحُرِّ فِي مَنْعِ مُجَاوَزَتِهَا وَنُقْصَانِهَا عَنْ الدِّيَةِ , لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ بَابِ الْجِنَايَةِ , وَلِأَنَّ دِيَاتِ الْأَحْرَارِ قَدْ تَنْقُصُ , وَلَا يُزَادُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُؤَقَّتِ . أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ , وَأَنَّ دِيَةَ الْجَنِينِ خَمْسُمِائَةٍ , فَعَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي , وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَعَارُضِ الْعِلَلِ وَالْإِلْزَامِ وَذِكْرِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ

      قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَكُونُ تَعَارُضُ الْعِلَّتَيْنِ إلَّا عَلَى وَجْهِ مُنَافَاةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِحُكْمِ الْأُخْرَى , وَهُوَ كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ , أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهَا , إلَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا لِضِدِّ حُكْمِ الْآخَرِ , وَمَتَى , لَمْ يَكُنْ الْخَبَرَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , لَمْ يَكُونَا مُتَعَارِضَيْنِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا صَحِيحَتَيْنِ , فَتَجْرِيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجَبِهَا . , وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً فِي فُرُوعٍ لَا تَجْرِي الْأُخْرَى فِيهَا . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَا صَحِيحَتَيْنِ جَمِيعًا , وَتَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ , وَهِيَ مِثْلُ الْخَبَرَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ , وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا حُكْمٌ وَاحِدٌ فَيُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا , نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ  النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ } { وَنَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ } فَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فِي أَعْيَانِ الْحُكْمِ , وَلَيْسَا مُتَعَارِضَيْنِ لِإِيجَابِهِمَا حُكْمًا وَاحِدًا . وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ , عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ , صَغِيرٍ , أَوْ كَبِيرٍ } فَهُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ . وَرُوِيَ فِي ( خَبَرٍ ) آخَرَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَنَسْتَعْمِلُهَا جَمِيعًا ; لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مُتَعَارِضَيْنِ . كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْعِلَّتَيْنِ يَجْرِي عَلَى هَذَا السَّبِيلِ . وَنَظِيرُهُ الْعَكْسُ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمًا وَاحِدًا , وَتَعَلَّقَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَاتٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى , لِاخْتِلَافِ الْقَائِسِينَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ مُدَّخَرٌ فِي جِنْسٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْأَكْلُ مَعَ الْجِنْسِ . فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَعَارِضَةً , وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَعْلُومَاتٌ ( لَيْسَتْ لِلْأُخْرَى ) , وَلَوْ كُنَّا خَلَّيْنَا , وَإِيَّاهَا , لَمَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً صَحِيحَةً مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا فِي فُرُوعِهَا إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا . أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ مِثْلُهَا ( كَانَ جَائِزًا , وَلَمْ تَكُنْ مُتَعَارِضَةً ) ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقُولَ : إذَا وَجَدْتُمْ الْكَيْلَ مَعَ الْجِنْسِ , فَحَرِّمُوا التَّفَاضُلَ , وَحَرِّمُوا أَيْضًا الْمُقْتَاتَ وَالْمُدَّخَرَ مَعَ الْجِنْسِ , وَحَرِّمُوا أَيْضًا كُلَّ مَأْكُولِ جِنْسٍ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعَارُضًا لَمَا صَحَّ وُرُودُ الْخَبَرِ , وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعَارُضًا ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا  تُوجِبُ حُكْمًا وَاحِدًا , إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ الصَّحِيحَةَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا , وَلَوْلَا الِاتِّفَاقُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ . وَمِمَّا تَكُونُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ أَعَمَّ مِنْ الْأُخْرَى فَلَا يَتَعَارَضَانِ إذَا كَانَا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا . فَنَحْوُ اعْتِلَالِنَا لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ بِنَفْسِهَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ , قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ , فَلَا يَصِحُّ لِمُخَالِفِنَا أَنْ يُعَارِضَنَا عَلَيْهَا , بِأَنْ يَقُولَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْبَوْلِ أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ السَّبِيلِ ; لِأَنَّهُ اقْتَضَبَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الَّذِي تُوجِبُهُ عِلَّتِي , فَهُمَا يُوجِبَانِ حُكْمًا وَاحِدًا , فَلَيْسَا إذًا مُتَعَارِضَتَيْنِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهَذَا , فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِمَا جَمِيعًا , وَنُصَحِّحُهُمَا , فَنُوجِبُ نَقْضَ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلِ . وَنُوجِبُهُ أَيْضًا بِخُرُوجِهَا مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا , كَمَا قُلْنَا بِالْخَبَرَيْنِ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ , وَأَكْثَرُ مُعَارَضَاتِ الْمُخَالِفِينَ أَنَّا عَلَى اعْتِلَالِنَا بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاعْتِلَالِ , وَيَظُنُّونَ أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ مُعَارَضَةً , وَهَذَا جَهْلٌ مِمَّنْ يَظُنُّهُ بِوُجُوهِ الْمُعَارَضَاتِ . وَكَثِيرًا مَا يُعَارِضُونَ أَيْضًا بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ( غَيْرِ ) مُوجِبَةٍ لِحُكْمٍ , فَيُعَارِضُونَ بِهَا عِلَّةً مُوجِبَةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ , مُتَعَدِّيَةً إلَى فُرُوعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا نَحْوُ قَوْلِنَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ : أَنَّهُ مَوْزُونُ جِنْسٍ . فَيَقُولُونَ : مَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّهُ أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ ؟ .  وَنَحْوُ قَوْلِنَا إذَا نَحْنُ عَلَّلْنَا ( فِي ) الْأَوْلَادِ فِي وُجُوبِ ضَمِّهَا إلَى الْأُمَّهَاتِ , بِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ فِي الْحَوْلِ عَلَى نِصَابٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْفَائِدَةِ . فَيَقُولُونَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ( فِي الْأَوْلَادِ ) أَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ . وَنَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ عِتْقَ بَرِيرَةَ إنَّمَا أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ ; لِأَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْعِتْقِ . فَيَقُولُونَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا , وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ , لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ عِلَّةً لَا تَتَعَدَّى الْأَصْلَ الْمَعْلُولَ فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ , فَهَذَا سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ : أَنَّ مِثْلَهُمْ يَكُونُ عِلَّةً , لَمَا كَانَتْ مُعَارَضَةً لِمَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّا نَقُولُ ( لَهُمْ ) : نُصَحِّحُ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا , وَنَسْتَعْمِلُهَا , فَنُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمَا ; إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ إيجَابُ حُكْمٍ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ , وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ أَنْ تَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّةِ الْحُكْمِ , تُوجِبُ حُكْمًا بِضِدِّ مُوجَبِ عِلَّتِهِ , فَتَكُونُ حِينَئِذٍ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً إذَا وَقَعَتْ عَلَى شُرُوطِهَا الَّتِي سَبِيلُ الْمُعَارَضَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا , نَحْوُ أَنْ نَقُولَ فِي عِلَّةِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ : لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْقَيْءِ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ , وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ , كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ , فَيَكُونُ هَذَا مُعَارَضَةً صَحِيحَةً عَلَى اعْتِلَالِنَا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ بِنَفْسِهَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ , فَيَجِبُ حِينَئِذٍ قَبُولُهَا , وَالنَّظَرُ فِيهَا , وَحَمْلُهَا عَلَى شُرُوطِهَا الَّتِي تَصِحُّ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا .  وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَا : فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِنَاظِرٍ قَبُولُهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا فِي التَّمَسُّكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلَّتِهِ الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا . .
    وَلَا تَصِحُّ الْمُعَارَضَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَارَضَ بِهِ فِي وَزْنِ اعْتِلَالِ الْمُعْتَلِّ , وَفِي عُرُوضِهِ . فَإِنْ اعْتَلَّ الْمُجِيبُ بِعِلَّةٍ لَمْ يُعَضِّدْهَا بِدَلَالَةٍ جَازَ لِلسَّائِلِ مُعَارَضَتُهُ بِعِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مُوجَبِ حُكْمِهَا , وَلَا يَقْرُنُهَا بِدَلَالَةٍ , وَيَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي اعْتِلَالِهِ , فَيَحْتَاجُ الْمُجِيبُ حِينَئِذٍ إلَى الِانْفِصَالِ مِمَّا عَارَضَهُ بِهِ السَّائِلُ , إمَّا أَنْ يَقْرُنَ عِلَّتَهُ بِدَلَالَةٍ تُبَيِّنُ بِهَا مِمَّا عَارَضَ بِهِ , أَوْ يُفْسِدَ اعْتِلَالَ السَّائِلِ بِضَرْبٍ مِنْ الضُّرُوبِ الَّتِي تَفْسُدُ بِهَا الْعِلَلُ . وَالْأَوْلَى بِالسَّائِلِ مُطَالَبَةُ الْمُجِيبِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ , وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْمُعَارَضَةِ قَبْلَ إظْهَارِ الْمُجِيبِ دَلَالَتَهُ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ . فَإِنْ عَارَضَهُ عَلَى دَعْوَاهُ الْعِلَّةَ بِعِلَّةٍ ادَّعَاهَا جَازَ , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَارَضَ عَلَى الْمَذْهَبِ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى ( صِحَّتِهِ بِمَذْهَبٍ ) يُضَادُّهُ , فَلَا يَجِدُ بُدًّا حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى خَصْمِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ , دُونَ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ . وَإِنْ قَرَنَ الْمُجِيبُ عِلَّتَهُ بِدَلَالَةٍ لَمْ تَصِحَّ لِلسَّائِلِ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِعِلَّةٍ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ , وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مُعَارَضَةً . وَلِلْمُجِيبِ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا وَلَا يَشْتَغِلَ بِهَا , فَإِنْ قَبِلَهَا كَانَ انْفِصَالُهُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ : إنَّ عِلَّتِي مَقْرُونَةٌ بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهَا , وَعِلَّتَك غَيْرُ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ , وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا , وَمَتَى  صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قَدَّمْنَا , لَزِمَ الْمُجِيبَ حِينَئِذٍ الِانْفِصَالُ مِمَّا عُورِضَ بِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ يُبَيِّنُ بِهِ " أَنَّ " اعْتِلَالَهُ أَوْلَى مِنْ اعْتِلَالِ خَصْمِهِ . . وَوُجُوهُ التَّرْجِيحِ مُخْتَلِفَةٌ : فَمِنْهَا : أَنَّ الْمُجِيبَ إذَا اعْتَلَّ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ , كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : عِلَّتِي أَوْلَى , ; لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا , وَعِلَّتُك مُسْتَنْبَطَةٌ , وَلَا حَظَّ لِلِاسْتِنْبَاطِ مَعَ النَّصِّ , وَذَلِكَ نَحْوُ مُعَارَضَةِ الْمُخَالِفِ لَنَا عَلَى عِلَّةِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِظُهُورِ النَّجَاسَةِ . فَإِنَّ قَلِيلَ الْقَيْءِ لَا يَنْقُضُهَا , وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ , وَيَحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا خَرَجَتْ مِنْ السَّبِيلِ أَوْجَبَتْ نَقْضَ الطَّهَارَةِ , وَهُوَ الْبَوْلُ , وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ لَمْ تُوجِبْهُ , وَهُوَ يَسِيرُ الْقَيْءِ . فَيُقَالُ : إنَّ اعْتِلَالَنَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ : { إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ } , فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْت فَتَسْقُطُ مُعَارَضَتُهُ . وَنَحْوُهُ إذَا اعْتَلَّ فِي مَنْعِ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا , بِأَنَّ الزَّوْجَ كُفْءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ , فَصَارَ كَسَائِرِ عُقُودِ النِّكَاحِ , إذَا وَجَبَ فِيهَا الْكَفَاءَةُ , وَلَا يَجِبُ الْخِيَارُ . فَنَقُولُ : إنَّ اعْتِلَالَ مَنْ اعْتَلَّ لِإِيجَابِ الْخِيَارِ بِأَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْعِتْقِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ , { وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِبَرِيرَةَ : مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } , فَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ , لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلِاسْتِنْبَاطِ مَعَ النَّصِّ .  أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِحُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ مَعَ حُكْمٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ , فَكَذَلِكَ الْعِلَلُ . . وَمَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا : قَدْ قَامَتْ دَلَالَتُهَا مِنْ جِهَةِ مَا لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فِي الْأُصُولِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا . وَالْأُخْرَى : دَلَالَتُهَا وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا , فَإِنَّ مَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ ( بِهَا ) وَتَأْثِيرُهَا فِي الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى , لِأَنَّ الْأُولَى تَشْهَدُ لَهَا الْأُصُولُ , وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِمَّا ذُكِرَ ; إذْ لَيْسَتْ فِي وَزْنِهَا وَمَنْزِلَتِهَا . .
 وَتَرْجِيحُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِمَا ضِدُّهُ الْعُمُومُ لَهَا يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا يُنَافِي الْعُمُومَ وَيَخُصُّهُ ; لِأَنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ , وَهُوَ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ هَذَا الِاعْتِلَالِ , فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يُنَافِي الْعُمُومَ وَيُضَادُّهُ . 
        وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُوجِبَةً لِرَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَا قَرُبَ مِنْهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا , وَالْأُخْرَى تُوجِبُ رَدَّهَا إلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا , فَإِنَّ مَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا وَمَا قَرُبَ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى , عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ , وَيَكُونُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ , نَحْوُ حَمْلِنَا لِمَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ , بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَسْحٌ , وَمَوْضُوعَهُ التَّخْفِيفُ , فَهَذَا أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمَسْحَ مِنْ بَابِ الْمَسْحِ , وَمِنْ جِنْسِهِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ .
         وَمَتَى تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ لَا يُعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ , جَازَ أَنْ يُرَجَّحَ الَّذِي مَعَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ , وَيَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ . وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَبْلَ هَذَا : أَنَّهُ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ , إذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ , فَإِذَا عَاضَدَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ , كَانَ لِمَا عَاضَدَهُ  قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَرَى أَيْضًا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ , إذَا كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ .
      وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ , إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ , وَيَكُونُ لِهَذَا الْقِيَاسِ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } . وَقَدْ يَقْوَى أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ بِأَنْ يُعَضِّدَهُ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ , فَإِذَا عَاضَدَ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ صَارَ لِهَذَا الْقِيَاسِ مَزِيَّةٌ وَرُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ بِهَذَا الْخَبَرِ , فَيَكُونُ أَوْلَى .

وَإِذَا اعْتَلَّ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ ( بِعِلَّةٍ ) لِحُكْمٍ , وَاعْتَلَّ الْآخَرُ ( بَعْدَ ذَلِكَ لِحُكْمٍ ) بِعِلَلٍ مِنْ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحُكْمَ الَّذِي عَضَّدَتْهُ عِلَّتَانِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ شَهِدَتْ لَهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ , وَالْأُخْرَى شَهِدَ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ الْوَاحِدَةَ مُعَارِضَةً لِلْعِلَلِ الْكَثِيرَةِ , وَلَا يُوجِبُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ , وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ يَحْتَمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ . وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةٌ , وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ , فَلَا مَزِيَّةَ لِلْمُثْبِتَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى لِأَجْلِ الْإِثْبَاتِ , وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يَطْلُبَ وَجْهَ التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ ; لِأَنَّ نَفْيَهُ الْحُكْمَ هُوَ حُكْمٌ مِنْ النَّافِي , وَإِثْبَاتُ اعْتِقَادٍ مِنْهُ بِصِحَّةِ نَفْيِهِ , وَهُوَ كَمَا قُلْنَا : إنَّ النَّافِيَ وَالْمُثْبِتَ مُتَسَاوِيَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ .

        وَمَتَى اعْتَدَلَ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ جَمِيعًا , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ ضِدَّ الْآخَرِ , فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى وُجُودَ ذَلِكَ , وَيَقُولُ : إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ , اسْتَحَالَ أَنْ يُخْلِيَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُجْتَهِدَ مِنْ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّهِ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا , فَيَصِيرَ إلَيْهِ .  وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ , وَيَجْعَلُهُ بِالْخِيَارِ , يَحْكُمُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ مِنْ قَائِلِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ , وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا مِثْلَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ , وَفِي الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ , وَفِي الِاجْتِهَادِ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ , وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأُمُورِ , وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا , فَيَعْتَدِلُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ , حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ . وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَاءَ , كَأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِمِثْلِهِ . فَقِيلَ لَهُ : ( اُحْكُمْ ) فِي ذَلِكَ بِأَيِّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَحْبَبْتَ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَوَتْ الْجِهَاتُ عِنْدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ الْجِهَاتِ شَاءَ . وَمَنْ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ حَظْرًا , وَالْآخَرُ إبَاحَةً , وَاسْتَوَى عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ , حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا ; لِأَنَّ مُوجَبَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ : الْحَظْرُ . وَمُوجَبَ الْقِيَاسِ الْآخَرِ : الْإِبَاحَةُ . فَلَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ . فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْقِيَاسِ الْآخَرِ مَعَهُ مُوجِبًا لِلتَّخْيِيرِ ; لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ مُوجَبِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ , ( فَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُوجِبُ تَخْيِيرًا , وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ ) الْقِيَاسَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا عِنْدَهُ إطْرَاحُهُمَا , وَطَلَبُ دَلَالَةِ الْحُكْمِ ( مِنْ ) غَيْرِهِمَا , كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا نَزَلَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .  وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْقِيَاسِ إذَا تَعَارَضَا مِمَّنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ يَقُولُ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهَا مِثْلَ ذَلِكَ . وَمَنْ أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا اخْتَارَ الْمُجْتَهِدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ , ثُمَّ اُخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا , وَاسْتُفْتِيَ فِيهَا , وَحَالُهُ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُجْحَانٍ حَصَلَ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ يَمْضِي عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ , وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِرُجْحَانٍ يَبِينُ لَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ . قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ( لَهُ ) ذَلِكَ لَجَازَ لَهُ إذَا اسْتَفْتَاهُ رَجُلَانِ يُفْتِي أَحَدَهُمَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَيُفْتِي الْآخَرَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْحَالِ , وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ . وَأَهْلُ التَّمْيِيزِ يَعُدُّونَهُ ضَرْبًا مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الرَّأْيِ , وَضَعْفِ الْعَزِيمَةِ . وَمُضِيُّهُ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ وَمُلَازَمَتُهُ الْمِنْهَاجَ الْوَاحِدَ حَسَنٌ فِي آرَاءِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ التَّنَقُّلَ , فَقَدْ صَارَ لِلْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ بَدْءًا هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الرُّجْحَانِ , كَانَ أَوْلَى بِالثَّبَاتِ عِنْدَهُ .

وَلَا يَصِحُّ الْإِلْزَامُ عَلَى عِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ لِحُكْمٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لَهُ . نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ كَيْلًا فِي الْجِنْسِ , لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ إيجَابُ الْعُشْرِ فِي كُلِّ مَكِيلِ جِنْسٍ . وَمَنْ جَعَلَ عِلَّةَ نَقْضِ الطَّهَارَةِ ( خُرُوجَ النَّجَاسَةِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا وُجُوبُ الْغُسْلِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ الْمَنْصُوصَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقْضَ الطَّهَارَةِ ) وَوُجُوبُ الطَّهَارَةِ حُكْمٌ ( آخَرُ ) , ( غَيْرُ ) نَقْضِهَا , بَلْ لَوْ جَعَلَ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ ( عَلَى الْإِطْلَاقِ ) لَزِمَهُ إيجَابُ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةً لِإِيجَابِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَالْغُسْلُ طَهَارَةٌ , وَيَلْزَمُهُ إيجَابُهُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ . وَإِذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ الْإِبِلِ عَفْوًا , وَجَعَلْنَا كَوْنَهَا عَفْوًا عِلَّةً لِامْتِنَاعِ تَغَيُّرِ الْفَرْضِ بِهَا , لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَلْزَمَ عَلَيْهَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ , قَدْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ , ; لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا كَوْنَ الْوَاحِدَةِ عَفْوًا لَا شَيْءَ فِيهَا عِلَّةً لِتَغَيُّرِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ , وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيمَا أُلْزِمَ , وَلَا حُكْمُهَا . فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ لَا يَلْجَأُ إلَيْهِ إلَّا جَاهِلٌ بِالنَّظَرِ . وَكَثِيرٌ مِنْ إلْزَامَاتِ الْمُخَالِفِينَ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى . وَإِنَّمَا الَّذِي نَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إسْقَاطِهَا تَحْقِيقُ الْمَعْنَى , فَإِنَّهَا مَتَى حَقَّقَتْ الْمَعْنَى فِيهَا اضْمَحَلَّتْ , وَإِذَا اقْتَضَتْ عِلَّةً لِحُكْمٍ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ , أَوْ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهَا إيجَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا , غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذَلِكَ الْوَصْفِ , أَوْ الشَّرْطِ . نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّا إذَا جَعَلْنَا بَيْعَهُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ عِلَّةً لِفَسَادِ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ حَالًا , لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ ; لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ الْوَصْفُ الَّذِي جَعَلَ الْعِلَّةَ لَهُ , وَإِذَا جَعَلْنَا خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عِلَّةً لِإِيجَابِ نَقْضِ الْوُضُوءِ , لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إيجَابُ الْغُسْلِ , وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا أَشْبَهَهُ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إذَا جَعَلْنَا وُقُوعَ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ عِلَّةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ الصَّائِمِ لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ قِيَاسُ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ , وَلَا الْأَكْلِ نَاسِيًا فِيهَا , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا سُقُوطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ , وَالْعِلَّةَ وُقُوعُ الْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ . قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ عِلَّةٍ نَصَبْنَاهَا لِحُكْمٍ , فَإِنَّهُ ( لَا يَلْزَمُنَا عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ فِي مَوْضُوعِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ إذَا أَفْسَدْنَا بَيْعًا ; لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَجْهُولٌ ) ( لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ ) إفْسَادُ النِّكَاحِ لِجَهَالَةِ الْمَهْرِ . وَكَذَلِكَ إذَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ ; لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ , لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهِ إبْطَالُ الْإِجَارَةِ , وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً , وَإِذَا أَسْقَطْنَا عَنْ الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ , لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا إسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّوْمِ . بَابُ ذِكْرِ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ

        	قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِي تَقْسِيمِ الْوُجُوهِ الَّتِي مِنْهَا تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ فَقُلْنَا : إنَّهَا تُسْتَدْرَكُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ , فَالْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ . وَالْآخَرُ : مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي بِالْمُجْتَهِدِ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ . وَإِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ . وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ , مِنْ غَيْرِ رَدِّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ , كَمَا قُلْنَا فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ , وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ , وَتَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ , وَمَهْرِ الْمِثْلِ , وَنَحْوِهَا . وَالثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَيْفِيَّتَهُمَا . وَنَذْكُرُ الْآنَ الْوَجْهَ الثَّالِثَ , وَطُرُقَهُ , وَوُجُوهَهُ مُخْتَلِفَةً , إلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْتَبِرُهُ . فَمِنْهَا : قوله تعالى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَيْضُ , لِأَنَّهُ نَقَلَهَا إلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ }  فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مَا يَغْلِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا , لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ بَعْدَ إخْبَارِهِ بِكَوْنِهِمْ ذَوِي أَمْوَالٍ قَبْلَ إخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا , لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي مِلْكِهِمْ بَعْدَ غَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا لَمَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ ؟ } حِينَ قِيلَ لَهُ : أَلَا تَنْزِلُ دَارَك ؟ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِنَجَاسَةِ { سُؤْرِ الْكَلْبِ , بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ سُؤْرِهِ } , وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ غَسْلُ الْأَوَانِي تَعَبُّدًا مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ , إذْ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَصْلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ يُغْسَلُ سَبْعًا } قَدْ دَلَّ عَلَى النَّجَاسَةِ , لِأَنَّ اسْمَ التَّطَهُّرِ فِي الْأُصُولِ لَا يُطْلَقُ ( فِي الْأَوَانِي إلَّا مِنْ ) النَّجَاسَةِ . وَمِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ : مَا كَانَ يَقُولُ فِي أَنَّ كُفْرَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِهَا لَمَنَعَ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ , كَالْوَثَنِيَّةِ , وَالْمَجُوسِيَّةِ , وَالْمُرْتَدَّةِ , إذْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ , وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى ( فِي ) نَفْسِ الْمَوْطُوءَةِ . وَنَحْوُ : إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِفِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ أُلْحِقَ بِهِ مَا كَانَ فِي بَابِهِ , وَاعْتُبِرَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ , كَمَا نَقُولُ : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ , وَجَازَ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا , وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا , وَمُدْرِكَهُ فِي أَقَلِّ أَفْعَالِهَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لَهَا , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَرَ عَنْهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ : أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .  وَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ عَلَيْهَا : أَنَّهَا مَاضِيَةٌ , وَإِنْ أَتَى بِأَكْثَرِ أَفْعَالِهَا . كَمَا أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا . كَمَا قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا إذَا عَقَدَهَا بِسَجْدَةٍ : إنَّهُ يَعْتَدُّ بِهَا , وَيَبْنِي عَلَيْهَا السَّادِسَةَ , وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقَلِّ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ . فَجَعَلُوا الْحُكْمَ لِأَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ , اسْتِدْلَالًا بِمُدْرِكِ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِهَا . وَجَعَلُوا الْأَقَلَّ كَالْكُلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ , لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى حُكْمِ الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَجَعَلُوا أَكْثَرَ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , اسْتِدْلَالًا بِقِيَامِ أَكْثَرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ مَقَامَ جَمِيعِهَا فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , وَلَمْ يَرُدُّوهُ إلَى أَصْلٍ , وَلَا رَدُّوا الصَّلَاةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ , لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ بَابِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَنَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ مَا يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكَاحِ , بِدَلَالَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ , ثُمَّ كَانَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ زَوْجٍ آخَرَ إلَيْهِ , كَحَالِ بَقَاءِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ مَنْعِ الزَّوْجِ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا بِمَنْزِلَةِ حَالِ بَقَاءِ عَقْدِهَا . فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ ضُرُوبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّةٍ , وَلَا قِيَاسَ يَكْتَفِي فِيهِ بِذِكْرِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْحُكْمِ , وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ بِالْأُصُولِ وَقَدْ يُمْكِنُ فِي أَكْثَرِهَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ بِعِلَّةٍ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَصْلِ , وَيَكُونُ أَقْطَعَ لِلشَّغَبِ . وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ سَائِغٌ , وَإِنْ خَالَفَك فِيهِ مُخَالِفٌ طَالَبَك بِحَمْلِهِ عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ , كَانَ لَك أَنْ ( لَا ) تُجِيبَهُ إلَيْهِ , وَتَقُولَ : إنَّ هَذَا عِنْدِي جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ  الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ ( وَضَرْبٌ مِنْ ) ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ , فَإِنْ خَالَفْتنِي فِيهِ فَلْيَكُنْ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ , وَيَكُونُ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَصْحِيحِهِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا . وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ , إنَّمَا هُوَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ , فَأَمَّا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ دَلَائِلِ الْخِطَابِ , فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ , لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى قِيَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ

بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِحْسَانِ

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ حِينَ ظَنُّوا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ حُكْمٌ مِمَّا يَشْتَهِيه الْإِنْسَانُ وَيَهْوَاهُ , أَوْ يَلَذُّهُ , وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَى قَوْلِنَا فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ .  فَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } وَرُوِيَ : أَنَّهُ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى , قَالَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ بِمَا يَسْتَحْسِنُ , فَإِنَّ الْقَوْلَ ( بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ شَيْءٌ يُحْدِثُهُ لَا عَلَى مِثَالِ مَعْنًى  سَبَقَ ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى مَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ , فَتَعَسَّفُوا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دِرَايَةٍ .  وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ , مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ بِهَا فِي أَيَّامِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ , قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ , وَكَانَ إبْرَاهِيمُ هَذَا رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ , قَدْ صَنَّفَ كُتُبًا مُسْتَفِيضَةً فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ , وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ , بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ بِإِثْبَاتِهِ . ( قَالَ فَقُلْتُ ) لَهُ : مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَكَ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَمَا كُنْت قَائِلًا بِإِثْبَاتِهِ ؟ فَقَالَ : قَرَأْتُ إبْطَالَ الِاسْتِحْسَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ , إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ , فَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ . وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ فِيهِ أَصْحَابُنَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ مَقْرُونًا ( بِدَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ ) لَا عَلَى جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى , وَوُجُوهُ دَلَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي عَمِلْنَاهَا فِي شَرْحِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا , وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَهُنَا جُمْلَةً , نُفْضِي بِالنَّظَرِ فِيهَا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ تَقْدِمَةٍ بِالْقَوْلِ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ .  فَنَقُولُ : لَمَّا كَانَ ( مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى ) بِإِقَامَتِهِ الدَّلَائِلَ عَلَى حُسْنِهِ مُسْتَحْسَنًا , جَازَ لَنَا إطْلَاقُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِصِحَّتِهِ . وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى فِعَالِهِ , وَأَوْجَبَ الْهِدَايَةَ لِفَاعِلِهِ , فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ } . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ قَالَ : { مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى سَيِّئٌ } فَإِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا هَذَا اللَّفْظَ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَمْنَعْ إطْلَاقُهُ بَعْضَ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ  بِصِحَّتِهِ عَلَى جِهَةِ تَعْرِيفِ ( الْمَعْنَى ) وَإِفْهَامٍ هُوَ الْمُرَادُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ اسْمًا لِمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ , وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ صِحَّتِهِ اسْتِحْسَانًا , حَتَّى يُسَمَّى النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَجَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم اسْتِحْسَانًا . قِيلَ لَهُ : إنَّ جَمِيعَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ , وَكُلُّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ صِحَّتِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مُسْتَحْسَنٌ لَا مَحَالَةَ , لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ , دُونَ بَعْضٍ لِاخْتِصَاصِ , كُلِّ مَعْنًى سِوَاهُ بِأَسْمَاءٍ مَعْرُوفَةٍ . فَلِمَا احْتَاجُوا فِيمَا عَرَفُوهُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إلَى اسْمٍ يُفِيدُونَ بِهِ السَّامِعَ الْمَعْنَى ( الَّذِي ) اخْتَارُوا لَهُ هَذَا اللَّفْظَ دُونَ غَيْرِهِ , مَعَ مَا وَجَدُوا لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ سَمَّى أَصْحَابُنَا عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ اسْتِحْسَانًا وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ , وَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَلَيْسَتْ الْأَسْمَاءُ مَحْظُورَةً عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِفْهَامِ بَلْ لَا يَسْتَغْنِي أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ إذَا اخْتَصُّوا بِمَعْرِفَةِ دَقِيقِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَطِيفِهِ وَغَامِضِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَأَرَادُوا الْإِبَانَةَ عَنْهَا وَإِفْهَامَ السَّامِعِينَ لَهَا ( مِنْ ) أَنْ يَشْتَقُّوا لَهَا أَسْمَاءً , وَيُطْلِقُوهَا عَلَيْهَا عَلَى جِهَةِ الْإِفَادَةِ وَالْإِفْهَامِ , كَمَا وَضَعَ النَّحْوِيُّونَ أَسْمَاءً لِمَعَانٍ عَرَفُوهَا وَأَرَادُوا إفْهَامَهَا غَيْرَهُمْ , فَقَالُوا :  الْحَالُ , وَالظَّرْفُ , التَّمْيِيزُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَكَمَا قَالُوا فِي الْعَرُوضِ : الْبَسِيطُ , وَالْمَدِيدُ , وَالْكَامِلُ , وَالْوَافِرُ . وَكَمَا أَطْلَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ اسْمَ الْعَرَضِ , وَالْجَوْهَرِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي عَرَفُوهَا وَأَرَادُوا الْعِبَارَةَ عَنْهَا , فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ , إذْ كَانَ الْغَرَضُ فِيهِ الْإِبَانَةُ وَالْإِفْهَامُ لِلْمَعْنَى بِأَقْرَبِ الْأَسْمَاءِ مُشَاكَلَةً وَأَوْضَحِهَا دَلَالَةً عَلَيْهِ . ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو لِغَائِبٍ الِاسْتِحْسَانُ مِنْ أَنْ يُنَازِعَنَا فِي اللَّفْظِ أَوْ فِي الْمَعْنَى . فَإِنْ نَازَعَنَا فِي اللَّفْظِ , فَاللَّفْظُ مُسَلَّمٌ لَهُ , فَلْيُعَبِّرْ هُوَ بِمَا شَاءَ , عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُنَازَعَةِ فِي اللَّفْظِ وَجْهٌ , لِأَنَّ لِكُلِّ ( وَاحِدٍ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا عَقَلَهُ مِنْ الْمَعْنَى ) بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ , لَا سِيَّمَا بِلَفْظٍ يُطْلَقُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ . وَقَدْ يُعَبِّرُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْمَعْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ تَارَةً وَبِالْفَارِسِيَّةِ أُخْرَى فَلَا نُنْكِرُهُ . وَقَدْ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ . وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : ( قِيسُوا الْقَضَاءَ مَا صَلُحَ النَّاسُ , فَإِذَا فَسَدُوا فَاسْتَحْسِنُوا ) وَأَنَّهُ قَالَ : ( مَا وَجَدْتُ الْقَضَاءَ إلَّا مَا يَسْتَحْسِنُ النَّاسُ ) وَلَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَطْلَقَ أَيْضًا لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ . وَاسْتَعْمَلَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ , فَسَقَطَ بِمَا قُلْنَا الْمُنَازَعَةُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ , أَوْ مَنْعِهِ .  وَإِنْ نَازَعَنَا فِي الْمَعْنَى , فَإِنَّمَا لَمْ يُسَلِّمْ خَصْمُنَا تَسْلِيمَ الْمَعْنَى لَنَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ , بَلْ تَضَمَّنَ لِجَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَذْكُرُهَا مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا : إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِثْبَاتُهُ بِحُجَّةٍ ( وَبَيَانُ وُجْهَةٍ )

بَابُ الْقَوْلِ فِي مَاهِيَّةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَيَانِ وُجُوهِهِ

          	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ يَكْتَنِفُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا : اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةُ الرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِنَا وَآرَائِنَا , نَحْوُ تَقْدِيرِ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } , فَأَوْجَبَهَا عَلَى مِقْدَارِ يَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ , وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَغْلَبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ . وَنَظِيرُهَا أَيْضًا : نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَعْرُوفِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } . ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمِثْلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقِيمَةُ أَوْ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ ( فِيهِ ) , وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَدْلَيْنِ , وَكَذَلِكَ أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِي مَقَادِيرِهَا نَصٌّ , وَلَا اتِّفَاقٌ , وَلَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } , وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَتَعْدِيلُهُمَا وَالْحُكْمُ بِتَزْكِيَتِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ .  وَنَظَائِرُهَا ) فِي الْأُصُولِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْهَا ( مِثَالًا ) يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ . فَيُسَمِّي أَصْحَابُنَا هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاجْتِهَادِ اسْتِحْسَانًا , وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْهُمْ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ
         وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي قَسَّمْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ بَدْءًا مِنْ ضَرْبَيْ الِاسْتِحْسَانِ : فَهُوَ تَرْكُ الْقِيَاسِ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , فَيَجِبُ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ , لِدَلَالَةٍ تُوجِبُهُ , فَسَمَّوْا ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا ( إذْ لَوْ ) لَمْ يَعْرِضْ لِلْوَجْهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ شَبَهٌ مِنْ الْآخَرِ يَجِبُ إلْحَاقُهُ بِهِ . وَأَغْمَضُ مَا يَجِيءُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ , وَأَدَقُّهَا مَسْلَكًا : مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , وَوَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ , لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَى إنْعَامِ النَّظَرِ , وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ فِي إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ يُنَبِّئُ عَنْ تَرْكِ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ , لَوْلَاهُ لَكَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْهُمَا : فَهُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ . وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِمَّا قَسَّمْنَا عَلَيْهِ الْكَلَامَ آنِفًا , فَنَقُولُ : إنَّ نَظِيرَ الْفَرْعِ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ , مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ , فَتَقُولُ : قَدْ حِضْت , أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُصَدَّقَ حَتَّى يُعْلَمَ وُجُودُ الْحَيْضِ مِنْهَا , أَوْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ , إلَّا أَنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنُوقِعُ الطَّلَاقَ . قَالَ مُحَمَّدٌ : وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ الْقِيَاسِ .
  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُصَدَّقَ , فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِأَصْلٍ مُتَّفَقٍ  عَلَيْهِ , أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُصَدَّقُ فِي مِثْلِهِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا , وَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ , وَإِنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ , فَقَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ : قَدْ دَخَلْتهَا بَعْدَ الْيَمِينِ , أَوْ كَلَّمْت زَيْدًا , وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ , أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ , وَلَا تَطْلُقُ , حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ , فَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ أَنْ لَا تُصَدَّقَ فِي وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي جَعَلَهُ الزَّوْجُ شَرْطًا لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ . وَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : إذَا حِضْت , فَإِنْ عَبْدِي حُرٌّ , أَوْ قَالَ : فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ , فَقَالَتْ : قَدْ حِضْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ , وَلَمْ تَطْلُقْ الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى , فَقَدْ أَخَذَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ شَبَهًا مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْأُصُولِ لَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَلْحَقَ بِهَا , وَيُحْكَمُ لَهَا بِحُكْمِهَا , إلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ لَهَا أَصْلٌ آخَرُ مَنَعَ إلْحَاقَهَا بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَأَوْجَبَ إلْحَاقَهَا بِالْأَصْلِ الثَّانِي دُونَهُ , وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وَرُوِيَ عَنْ السَّلَفِ : أَنَّهُ أَرَادَ : مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ : ( مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا ) دَلَّ وَعْظُهُ إيَّاهَا  وَنَهْيُهُ لَهَا عَنْ الْكِتْمَانِ , عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَبَلِ , وَشُغْلِهَا بِهِ , وَوُجُودِ الْحَيْضِ وَعَدَمِهِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } فَوَعَظَهُ وَنَهَاهُ عَنْ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ , عُلِمَ أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ . فَصَارَتْ الْآيَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا أَصْلًا فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ , إذَا قَالَتْ : أَنَا حَائِضٌ , وَتَحْرِيمُ وَطْئِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ , فَإِنَّهَا إذَا قَالَتْ : قَدْ طَهُرْت , حَلَّ لِزَوْجِهَا قُرْبُهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي , صُدِّقَتْ فِي ذَلِكَ , وَانْقَطَعَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ عَنْهَا , وَجُعِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ كَالْبَيِّنَةِ فِي بَابِ إسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْهَا وَانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا . وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ : أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ مَعْنًى يَخُصُّهَا , وَلَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا . فَيُوجِبُ عَلَى ذَلِكَ إذَا قَالَ الزَّوْجُ إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ , فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ أَنْ تُصَدَّقَ فِي بَابِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا , كَمَا صُدِّقَتْ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ إنْكَارِ الزَّوْجِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى يَخُصُّهَا , أَعْنِي : ( أَنَّ ) الطَّلَاقَ وَالْحَيْضَ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا , وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا . فَفَارَقَ أَمْرَ الْحَيْضِ إذَا عُلِّقَ بِهِ الطَّلَاقُ , الدُّخُولُ , وَالْكَلَامُ , وَسَائِرُ الشُّرُوطِ , لِأَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ قَدْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا , وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ( قَالُوا ) : إنَّهَا لَا تُصَدَّقُ عَلَى وُجُودِ الْحَيْضِ إذَا عَلَّقَ ( بِهِ طَلَاقَ غَيْرِهَا , أَوْ عَلَّقَ ) بِهِ عِتْقَ الْعَبْدِ , لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ ( قَوْلُهَا ) كَالْبَيِّنَةِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخُصُّهَا دُونَ غَيْرِهَا .  أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ : قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ , وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ( أُخْتَهَا ) كَانَ لَهُ ذَلِكَ , وَلَا تُصَدَّقُ هِيَ عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا , وَتَكُونُ عِدَّتُهَا بَاقِيَةً فِي حَقِّهَا , وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا , فَصَارَ كَقَوْلِهَا : قَدْ حِضْتُ . ( وَلَهُ ) حُكْمَانِ . أَحَدُهُمَا : فِيمَا يَخُصُّهَا وَيَتَعَلَّقُ بِهَا , وَهُوَ طَلَاقُهَا وَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , جُعِلَ قَوْلُهَا فِيهِ كَالْبَيِّنَةِ . وَالْآخَرُ : فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا , أَوْ ( فِي ) عِتْقِ الْعَبْدِ , فَصَارَتْ فِي هَذَا الْحَالِ شَاهِدَةً كَإِخْبَارِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ , وَكَلَامِ زَيْدٍ , إذَا عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ أَوْ الطَّلَاقَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك إذَا جَعَلْت قَوْلَهَا كَالْبَيِّنَةِ مِنْ وَجْهٍ , وَصَدَّقْتهَا فِيهِ فِي بَابِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا , أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ , حَتَّى تُصَدَّقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى غَيْرِهَا . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا كَالْبَيِّنَةِ فِي حَالٍ , وَلَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ فِي وَجْهٍ آخَرَ . قِيلَ لَهُ : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهَا هَذَانِ الْحُكْمَانِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا . وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ : مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ , حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ فِي بَابِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ , وَلَمْ نَحْكُمْ بِهَا فِي إيجَابِ الْقَطْعِ , وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْقَطْعِ لَمْ يَمْنَعْ إيجَابَ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْمَالِ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ هَذِهِ أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ , أَوْ أُمِّهِ , وَهِيَ مَجْهُولَةُ النَّسَبِ , وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا . وَلَمْ نَحْكُمْ بِالنَّسَبِ , فَأَثْبَتْنَا حُكْمَ إقْرَارِهِ مِنْ وَجْهٍ وَأَبْطَلْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ بَعْضُ  الْقِيَاسِ فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ إلْحَاقُهُ بِأَصْلٍ آخَرَ وَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ , دُونَ الْحَلِفِ بِدُخُولِ الدَّارِ , فَسُمِّيَ الِاسْتِحْسَانُ قِيَاسًا فِي هَذَا الْوَجْهِ , وَهُوَ لَعَمْرِي كَذَلِكَ فِيمَا بَيَّنَّاهُ . وَمِنْ نَظِيرِهِ أَيْضًا : الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهَا . أَلَا تَرَى : { أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى حَتَّى صَارَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ . وَرُوِيَ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَامَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ } , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِهَا . وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فَمَرَّتْ بَهِيمَةٌ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَصِقَ بِالْحَائِطِ فَمَرَّتْ الْبَهِيمَةُ خَلْفَهُ } , فَكَانَ الْمَشْيُ الْيَسِيرُ مَعْفُوًّا عَنْهُ . وَمَعْلُومٌ ( مَعَ ذَلِكَ ) : أَنَّهُ لَوْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ مِيلًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ , وَلَوْ جَعَلَ كُلَّ خُطْوَةٍ مِنْهَا بِحُكْمِ نَظِيرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَهَا , لَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ , وَإِنْ مَشَى مِيلًا قِيَاسًا عَلَى الْمَشْيِ الْيَسِيرِ , إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُنَا أَصْلٌ آخَرُ قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْمَشْيُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ , أَنَّهُ يُفْسِدُهَا , جَعَلُوا الْمَشْيَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَسْتَدْبِرْ الْقِبْلَةَ فِي حُكْمِ الْخُطْوَةِ وَالسَّيْرِ , وَأَفْسَدُوا الصَّلَاةَ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ , لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ .
    وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : مَسْأَلَةٌ يُشَنِّعُ بِهَا الْمُخَالِفُونَ عَلَى أَصْحَابِنَا , حِينَ قَالُوا فِي قَوْمٍ نَقَبُوا بَيْتًا وَدَخَلُوهُ وَسَرَقُوا مَتَاعًا وَلِيَ بَعْضُهُمْ إخْرَاجَهُ دُونَ الْبَاقِينَ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يُقْطَعَ الَّذِي وَلِيَ إخْرَاجَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ . وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنَقْطَعُهُمْ جَمِيعًا . فَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِمْ حِينَ اسْتَحْسَنُوا إيجَابَ الْقَطْعِ , وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ , وَمِنْ شَأْنِ الْحُدُودِ دَرْؤُهَا بِالشُّبُهَاتِ . وَذَهَبَ عَلَيْهِمْ : أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْحَدِّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى إيجَابِهِ .  وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِحْسَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إنَّمَا هُوَ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ , وَهَذَا هُوَ الْفَرْعُ الَّذِي يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ . وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ . فَأَمَّا الْأَصْلُ الَّذِي سَمَّاهُ قِيَاسًا : فَهُوَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْمًا لَوْ اجْتَمَعُوا فَأَكْرَهُوا امْرَأَةً حَتَّى زَنَى بِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ , أَنَّ الْحَدَّ عَلَى الَّذِي وَلِيَ الزِّنَا مِنْهُمْ , دُونَ مَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ , فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ وَلِيَ إخْرَاجَ الْمَتَاعِ , دُونَ مَنْ ظَاهَرَ فِيهِ وَأَعَانَ عَلَيْهِ , فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ . ثُمَّ وَجَدُوا أَصْلًا آخَرَ يَقْتَضِي إلْحَاقَ السَّارِقِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَهُمْ قُطَّاعُ الطُّرُقِ الَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ , وَقَتْلِ النُّفُوسِ , وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى جِهَةِ الِامْتِنَاعِ , وَالتَّظَاهُرِ , ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ , وَأَخَذَ الْمَالَ , وَحُكْمُ مَنْ ظَاهَرَ , وَأَعَانَ عَلَيْهِ , وَاشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةَ , لِأَجْلِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَوَصَّلُوا إلَى أَخْذِ الْمَالِ , وَقَتْلِ النُّفُوسِ , وَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى جِهَةِ الِامْتِنَاعِ وَالْمُحَارَبَةِ . كَذَلِكَ السَّارِقُ لَمَّا اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَهُوَ انْتِهَاكُ الْحِرْزِ وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِسْرَارِ , وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَنْ وَلِيَ إخْرَاجَ الْمَتَاعِ , وَحُكْمُ مَنْ ظَاهَرَ فِيهِ , وَأَعَانَ عَلَيْهِ , فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِهَذَا الْأَصْلِ الَّذِي فِيهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّبَبِ وَالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْهُ بِالزَّانِي . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ , أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَانِ : مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَعَانَ , فَاسْتَوَوْا جَمِيعًا فِي الْحُكْمِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ حَصَلَتْ الْغَنَائِمُ , وَهُوَ الْمَنَعَةُ وَالْمُظَاهَرَةُ عَلَى الْقِتَالِ , فَصَارَتْ مَسْأَلَةُ السَّرِقَةِ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِمَسْأَلَةِ الزِّنَا الَّتِي إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهَا بِوُجُودِ الْفِعْلِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ , وَيَحْصُلُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ  وَلَيْسَ الْغَرَضُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِاحْتِجَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ , وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ مِثَالًا لِمَسَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِيَكُونَ غَيْرُهُ فِيمَا سِوَاهُ , وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ تَفُوتُ الْإِحْصَاءَ . ( وَ ) فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ كِفَايَةٌ . وَرُبَّمَا جَاءَتْ مَسَائِلُ يَذْكُرُونَ فِيهَا الْقِيَاسَ ( وَ ) الِاسْتِحْسَانَ , ثُمَّ يَقُولُونَ : وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ فَيَتْرُكُونَ الِاسْتِحْسَانَ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ - فِيمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ , ثُمَّ اخْتَلَفَا - فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ : شَرَطْت طُولَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ , وَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ , شَرَطْت طُولَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَتَحَالَفَا وَيَتَرَادَّا السَّلَمَ , وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ : وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ . فَذَكَرُوا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ جَمِيعًا , ثُمَّ تَرَكُوا الِاسْتِحْسَانَ وَأَخَذُوا بِالْقِيَاسِ . وَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ : أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّوْبِ , فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَرْوِيٌّ وَقَالَ الْآخَرُ : هَرَوِيٌّ أَوْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ , فَقَالَ أَحَدُهُمَا : جَيِّدٌ , وَقَالَ الْآخَرُ : رَدِيءٌ , أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ , وَيَتَرَادَّانِ , لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ , وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ , وَكَأَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , إذْ كَانَ السَّلَمُ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ , فَوَجَبَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِ الذَّرْعِ  الْمَشْرُوطِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , إذْ كَانَ الذَّرْعُ صِفَةً . وَالسَّلَمُ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ , فَوَجَبَ بِالتَّحَالُفِ وَالتَّرَادِّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ , وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي قَالَ : بِهِ نَأْخُذُ . وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي ذَكَرَهُ : فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا شَرَطَ مِنْ مِقْدَارِ ذَرْعِهِ . وَقَالَ الْبَائِعُ : شَرَطَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ , وَقَالَ الْمُشْتَرِي : شَرَطَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ , أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ , وَلَا يَتَرَادَّانِ فَكَانَ هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ , وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْقِيَاسِ ( إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ ) الَّذِي سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا , وَكَانَ إلْحَاقُ مَسْأَلَةِ السَّلَمِ بِاخْتِلَافِهَا فِي الْجَوْدَةِ وَالْجِنْسِ , أَوْلَى مِنْهَا بِمَسْأَلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي ذَرْعِ الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّرْعَ لَمَّا كَانَ صِفَةً , وَكَانَتْ صِفَةُ الْأَعْيَانِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا الْعَقْدُ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ , فَوَجَدَهُ أَقَلَّ كَانَ بِالْخِيَارِ , إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ , وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِ ( نُقْصَانِ الذَّرْعِ , وَلَوْ وَجَدَهُ أَكْثَرَ كَانَ جَمِيعُهُ لَهُ , وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ بِحُسْبَانِ ) زِيَادَةِ الذَّرْعِ . فَعَلِمْت أَنَّ الذَّرْعَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ , فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمَا فِي الذَّرْعِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّحَالُفُ وَالتَّرَادُّ . وَأَمَّا السَّلَمُ : فَلَمَّا كَانَ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ , وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الذَّرْعِ اخْتِلَافًا فِي الصِّفَةِ صَارَ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ , ( وَ ) فِي الْجَوْدَةِ , وَالرَّدَاءَةِ , وَكَانَ إلْحَاقُهُمَا بِهَذِهِ أَوْلَى مِنْهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي ذَرْعِ الْعَيْنِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي شَرْطِ جِنْسِ الْعَيْنِ , أَوْ فِي شَرْطِ جَوْدَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ لَا تُوجِبُ التَّحَالُفَ , وَإِنَّمَا تَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ , وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي السَّلَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ  يُوجِبُ التَّحَالُفَ إذْ كَانَ عَقْدًا عَلَى صِفَةٍ , وَأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَتَى اخْتَلَفَا فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَجَبَ التَّحَالُفُ , وَالتَّرَادُّ , إذْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا فِيهِ . وَمِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الِاسْتِحْسَانَ وَأَخَذُوا بِالْقِيَاسِ : قَوْلُهُمْ - فِيمَنْ قَرَأَ سَجْدَةً مِنْ آخِرِ السُّورَةِ , فَرَكَعَ بِهَا - : إنَّ رَكْعَتَهُ تُجْزِيه مِنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي الْقِيَاسِ , وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تُجْزِيه . قَالُوا : وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ , فَذَكَرُوا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ , ( وَتَرَكُوا الِاسْتِحْسَانَ لِلْقِيَاسِ , وَلَهُمْ مَسَائِلُ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ , يَتْرُكُونَ مِنْهَا الِاسْتِحْسَانَ ) لِلْقِيَاسِ , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ فِي مِثْلِهَا تَنْبِيهُ الْمُتَعَلِّمِ عَلَى أَنَّ لِلْحَادِثَةِ شَبَهًا بِأَصْلٍ آخَرَ , قَدْ كَانَ يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهِ إلَّا أَنَّ إلْحَاقَهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ أَوْلَى . وَرُبَّمَا ذَكَرُوا الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فَيَتْرُكُونَهُ , وَيَرْجِعُونَ إلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ , وَيُسَمُّونَ قِيَاسَ الْأَصْلِ اسْتِحْسَانًا . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ - فِيمَنْ احْتَلَمَ فِي الصَّلَاةِ - : إنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَبْنِيَ , إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ أَنْ يَغْتَسِلَ , وَيَسْتَقْبِلَ . وَالْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ : هُوَ قِيَاسُ الْحَدَثِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِأَنْ قَاسَ عَلَى الْأَثَرِ . وَجَوَازُ الْبِنَاءِ مَعَ الْحَدَثِ اسْتِحْسَانٌ تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ , فَلَوْ قَاسَ عَلَى الْأَثَرِ ( لَجَازَ ) الْبِنَاءُ مَعَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ , لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَدَثَ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ . وَإِنَّمَا تَرَكُوا ( فِيهِ الْقِيَاسَ ) لِلْأَثَرِ , وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدَثِ دُونَ الْجِنَايَةِ , فَسَلَّمُوا لِلْأَثَرِ مَا وَرَدَ فِيهِ , وَحَمَلُوا الْبَاقِيَ عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ , فَسُمِّيَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ اسْتِحْسَانًا لَمَّا تُرِكَ بِهِ قِيَاسًا آخَرَ قَدْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ لَوْلَا مَا وَصَفْنَا
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْهُمَا , وَهَذَا الضَّرْبُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ , وَلَا تَرْكُهَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهَا , وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْحَادِثَةِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ وُجُوهِ الضَّرْبِ الْآخَرِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ , الَّذِي هُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ , ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ , فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : إنَّ الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي هُوَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ , أَنَّا مَتَى أَوْجَبْنَا حُكْمًا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ عَلَمًا لِلْحُكْمِ , وَسَمَّيْنَاهُ عِلَّةً لَهُ , فَإِنَّ إجْرَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَعْنَى وَاجِبٌ حَيْثُمَا وُجِدَ , إلَّا مَوْضِعًا تَقُومُ الدَّلَالَةُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ , فَسَمَّوْا تَرْكَ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ اسْتِحْسَانًا . وَقَدْ يُتْرَكُ ( حُكْمُ ) الْعِلَّةِ تَارَةً بِالنَّصِّ , وَتَارَةً بِالْإِجْمَاعِ , وَتَارَةً بِقِيَاسٍ آخَرَ يُوجِبُ فِي الْحَادِثَةِ حُكْمًا سِوَاهُ , وَإِلْحَاقُهَا بِأَصْلٍ غَيْرِهِ .  وَنَظِيرُ تَرْكِهِ بِالنَّصِّ : مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّغِيرِ يَمُوتُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ : ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا , لِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ , إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ , وَاسْتَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ عِدَّتَهَا وَضْعَ الْحَمْلِ , لقوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَسَمَّى تَرْكَ الْقِيَاسِ لِلْعُمُومِ اسْتِحْسَانًا . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا يَصِحُّ لَك مَا ادَّعَيْت فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ لِلْعُمُومِ , لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَرِدْ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا , إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } إلَى قوله تعالى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَلَمْ نَجِدْ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ذِكْرًا فِي الْآيَةِ , فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ مِنْ أَجْلِهَا .  قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْت , لِأَنَّ قوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ يَنْتَظِمُ الْمُطَلَّقَةَ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ( وَ ) إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي الْمُطَلَّقَاتِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ ( حُكْمِ ) الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا , اعْتَبَرَ جَمِيعُهُمْ وَضْعَ الْحَمْلِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ , وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا , فَصَحَّ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِ آيَةِ الْحَمْلِ فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَصَفْنَا . وَمِمَّا خَصُّوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ وَتَرَكُوا فِيهِ حُكْمَ الْعِلَّةِ : قَوْلُهُمْ فِي الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ : إنَّ الْقِيَاسَ يَقْضِي , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ . وَوَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّهُمْ وَجَدُوا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا إذَا تُرِكَتْ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ , أَوْ الْعَمْدِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي حَالِ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ , وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ , وَالْحَلْقُ , وَاللُّبْسُ فِي الْإِحْرَامِ . وَكَمَا لَا تَخْتَلِفُ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِي تَرْكِهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا , فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ , مِنْ حَيْثُ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ فُرُوضِهِ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ , كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهَا , ( كَمَا لَا وُضُوءَ فِيهَا ) فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ , لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَدَثًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نَقْضِ الطَّهَارَةِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ , إذْ لَا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الْأَثَرِ .  وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ , وَكَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْوُضُوءُ بِهِ , لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ , كَمَا لَا يَجُوزُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ , كَنَبِيذِ الزَّبِيبِ , وَشَرَابِ الْعَسَلِ , وَالْخَلِّ , وَالْمَرَقِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِيهِ . وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ لَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لَطَالَ بِهَا الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا , وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْهَا أَمْثِلَةً تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ : فَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ نَسَاءً , وَلَا الْحَدِيدَ بِالنُّحَاسِ , وَلَا شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ , وَلَا الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ , وَلَا الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ نَسَاءً . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا , نَحْوُ الثِّيَابِ الْمَرْوِيَّةِ بِالثِّيَابِ الْهَرَوِيَّةِ , فَصَارَ وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ : عِلَّةً لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ . وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِلَّةً صَحِيحَةً فِي مَوْضِعِهَا , لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا . وَلَيْسَ , هَذَا مَوْضِعُ بَيَانِ صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِلَالِ , فَلَوْ لَزِمُوا سَبِيلَ الْقِيَاسِ وَمَا يَقْتَضِيه هَذَا الِاعْتِلَالُ , لَوَجَبَ تَحْرِيمُ النَّسَاءِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , بِسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ , لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فِي نَظَائِرِهَا . إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ وَأَجَازُوهُ , إذْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ هُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا بِيَاعَاتِ النَّاسِ , وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ النَّسَاءِ فِيهَا بِسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ . وَمِنْ نَظَائِرِهِ أَيْضًا : مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ مُلَاقَاةَ النَّجَاسَةِ ( لِلْمَاءِ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهِ , فَقَالُوا فِي الْإِنَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ : إنَّ الْمَاءَ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ النَّجَاسَةِ ) , لِمُلَاقَاتِهِ لَهَا , وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ , وَلَا لَوْنُهُ , وَلَا رَائِحَتُهُ , فَلَوْ لَزِمُوا طَرِيقَ  الْقِيَاسِ وَأَجْرَوْا الْحُكْمَ عَلَى الْعِلَّةِ , لَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَطْهُرَ الثَّوْبُ الَّذِي تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ , أَوْ الْبَدَنُ أَوْ الْأَوَانِي أَبَدًا , وَإِنْ غُسِلَ خَمْسِينَ مَرَّةً , مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ يُلَاقِي نَجِسًا , فَيَتَنَجَّسُ , ثُمَّ يَزُولُ بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ , وَحُصُولِ حُكْمِهَا فِيهِ . فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ حُكْمُ هَذَا الْمَاءِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الثَّوْبِ , فَلَا يَطْهُرُ , كَذَلِكَ الْمَاءُ الثَّانِي يُلَاقِي مَاءً نَجِسًا , فَلَا تَزُولُ إلَّا بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ , وَانْتِقَالِ حُكْمِهَا إلَيْهِ , وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَمَا بَعْدَهُ , ( وَإِنْ كَثُرَ ) إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ , وَحَكَمُوا بِطَهَارَتِهِ إذَا زَالَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ , لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى طَهَارَتِهِ إذَا صَارَ بِهَذَا الْحَدِّ , فَهَذَا وَجْهٌ مِمَّا تُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ , وَحُكْمٌ مُوجِبٌ الْعِلَّةَ بِالْإِجْمَاعِ . وَمِمَّا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ , وَخَصُّوا الْحُكْمَ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِعَمَلِ النَّاسِ : مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ , وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } فَصَارَتْ أَبْدَالُ الْمَعْلُومِ مِنْ الْمَنَافِعِ كَأَبْدَالِ الْوُجُودِ مِنْ الْأَعْيَانِ , فِي بَابِ اعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً فِي الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ قَالُوا - إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا أَوْ دَارًا - : إنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّةِ كَهِيَ إلَى مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ , فَلَمْ يُجِيزُوهَا بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ , وَلَا عَلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ . فَلَوْ لَزِمُوا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَأَعْطَوْا الْعِلَّةَ حَقَّهَا مِمَّا يَقْتَضِيه مِنْ الْحُكْمِ وَيُوجِبُهُ , لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِنْسَانِ دُخُولُ الْحَمَّامِ حَتَّى يُبَيِّنَ مِقْدَارَ مَا يُعْطِي مِنْ الْأُجْرَةِ , وَمِقْدَارَ لُبْثِهِ فِي الْحَمَّامِ , وَمَا يَصُبُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَاءِ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ , وَاتَّبَعُوا عَمَلَ النَّاسِ , وَإِجَازَتَهُمْ لَهُ . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ : عَمَلَ النَّاسِ : أَنَّ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ قَدْ كَانُوا يُشَاهِدُونَ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ , فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَى فَاعِلِهِ , فَصَارَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُمْ لَهُ ,  وَإِقْرَارًا لَهُمْ عَلَيْهِ , إذْ كَانُوا هُمْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ , وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ , كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ خَارِجًا عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الَّذِي وَصَفْنَا . وَنَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا : قُعُودُ الْإِنْسَانِ فِي سِمَايَةٍ وَإِعْطَاءِ الْمَلَّاحِ مَقْطَعَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مَوْضِعِ الْعُبُورِ وَلَا بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يُعْطِيه . وَمِثْلُهُ أَيْضًا : شِرَاءُ الْبَقْلِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , مِمَّا يُعْطِي فِيهِ مَقْطَعَةٍ , فَيَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُ أَوْ يُعْطَى . وَكَذَلِكَ أَجَازُوا أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْطَالَ لَحْمٍ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْ الْقَصَّابِ , فَيُعْطِيَ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذَ اللَّحْمَ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ , حَتَّى يُسَمَّى فِيهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا وَصَفْنَا . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : الِاسْتِصْنَاعُ , وَهُوَ : أَنْ يَسْتَصْنِعَ عِنْدَ الرَّجُلِ خُفَّيْنِ , أَوْ نَعْلَيْنِ , أَوْ قَلَنْسُوَةً , أَوْ نَحْوَهَا , وَيُسَمِّي الثَّمَنَ , وَيَصِفُ لَهُ الْعَمَلَ . فَكَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ . كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ خُفًّا مَوْصُوفًا , أَوْ قَلَنْسُوَةً , أَوْ نَحْوَهَا , مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ , وَأَجَازُوهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَمَلِ النَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ , فَنَحْوُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ : إنَّ الشِّرَاءَ فَاسِدٌ إنْ أَعْتَقَهُ , فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيمَةُ , لِوُقُوعِ الْبَيْعِ عَلَى فَسَادٍ .  وَمَتَى أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا بَعْدَ الْقَبْضِ , كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ , فَلَوْ أَجْرَى حُكْمَ الْعَبْدِ الْمَشْرُوطِ عِتْقُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ . إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ , وَقَاسَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا , وَهُوَ : الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ : اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ , فَأَعْتَقَهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ , وَعَتَقَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ عِتْقُ الْعَبْدِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُلْزِمَةٍ فِي نَفْسِهِ , فَأَشْبَهَ شَرْطَ عِتْقِ الْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ الْمُعْتَقِ عَلَى مَالٍ . وَفَارَقَ سَائِرَ الشُّرُوطِ سِوَاهُ , مِثْلُ شَرْطِهِ فِي الْجَارِيَةِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ فَيَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي , فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا دُونَ الثَّمَنِ الْمَشْرُوطِ . إذْ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى مَالٍ أَصْلٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ , فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ , إذَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ , لِلْبُيُوعِ مُقْتَصَرًا بِهَا عَلَى مَا عَدَا الْعِتْقِ

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ

             قَالَ أَبُو بَكْرٍ : تَخْصِيصُ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا . وَعِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَأَبَاهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ , وَالشَّافِعِيُّ . وَاَلَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ , أَخَذْنَاهُ عَمَّنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يَعْزُونَهُ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا , يَحْكُونَهُ عَنْ شُيُوخِهِمْ الَّذِينَ شَاهَدُوهُمْ , وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ فِيهَا تُوجِبُ ذَلِكَ . وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ , إلَّا بَعْضَ مَنْ  كَانَ هَهُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي عَصْرِنَا مِنْ الشُّيُوخِ , فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ . وَلَهُ مَنَاكِيرُ - فِي هَذَا الْبَابِ - فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِهِمْ , لَا تُخَيَّلُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى رِيَاضَةٍ بِفِقْهِهِمْ , إنْ كَانَ مَا يَحْكِيه لَيْسَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ . نَحْوُ قَوْلِهِ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي تَمْرٍ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ فَلَمْ يَسْتَحِلْ نَبِيذًا , وَكَانَ حُلْوًا , وَإِنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ الْمُسْتَحِيلِ إلَى حَالِ الشِّدَّةِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ عِنْدَهُ . وَمَذَاهِبُهُمْ فِي تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَهُ إنْكَارُ مُنْكِرٍ , وَلَعَمْرِي إنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي خَصَصْنَا عِلَلَهَا بِمَعَانٍ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَذَاهِبِ بِجَوَازِ مَا وَصَفْنَا . وَتَقْيِيدُ الْعِلَّةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ . كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ : إنَّهَا وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ , فَمَتَى أَطْلَقْنَا ( الْعِلَّةَ ) عَلَى هَذَا الْحَدِّ احْتَجْنَا إلَى تَرْكِ الْحُكْمِ , مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , إذَا أَسْلَمَهَا فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ , فَيَكُونُ فِيهِ تَخْصِيصٌ مِنْ جُمْلَةِ مُوجِبِ الْعِلَّةِ . وَلَوْ قَيَّدْنَاهَا بِأَنْ قُلْنَا : إنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ هِيَ : وُجُودُ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ , كَانَ حُكْمُهَا حِينَئِذٍ جَارِيًا مَعَهَا مَوْجُودًا بِوُجُودِهَا , وَلَا تُوجَدُ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عَارِيَّةً مِنْ إيجَابِ حُكْمِهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا فِي الِابْتِدَاءِ : إنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ , لَمْ يَلْزَمْنَا عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ , لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ بِالْعُقُودِ عِنْدَنَا . وَاسْتِعْمَالُ التَّقْيِيدِ وَحَصْرُ الْعِلَلِ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا التَّخْصِيصُ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الَّتِي خَصُّوا أَحْكَامَهَا , إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْزَى إلَيْهِمْ مَا لَيْسَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ , لِأَجْلِ إمْكَانِ ذَلِكَ , ( وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ) .

بَابُ : الِاحْتِجَاجِ لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ

	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ عِلَلًا مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ , وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ لِإِيجَابِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَسُمِّيَتْ عِلَلًا مَجَازًا , تَشْبِيهًا لَهَا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِأَحْكَامِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا : جَوَازُ وُجُودِهَا عَارِيَّةً مِنْهَا , وَلَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَاسْتَحَالَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْهَا , كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ , لَمَّا كَانَتْ مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا اسْتَحَالَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً . فَلَمَّا وَجَدْنَا الْمَعَانِيَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا عِلَلًا لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ , غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ , ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا , وَإِنَّمَا وَجَبَ الْأَحْكَامُ بِهَا مِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَارَاتٍ لَهَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ مَا جَعَلَهُ الْقَائِسُونَ عِلَلًا لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ , قَدْ كَانَ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّحْرِيمِ , فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّهَا لَمْ تُوجِبْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِأَنْفُسِهَا , وَأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ أَمَارَةً لَهَا . فَلَا يَمْتَنِعُ إذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَنْ يُجْعَلَ عَلَامَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ , وَفِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ , كَمَا جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ , بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ , وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ .  أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمَيْتَةَ الْمُحَرَّمَةَ مَعَ قِيَامِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِيهَا , لَمْ يَمْتَنِعْ إبَاحَتُهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ , لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِنَفْسِ الْمَيْتَةِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ ( مَجِيءِ ) الشَّرْعِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ , وَإِنَّمَا الْحَظْرُ تَنَاوَلَهَا بِمَجِيءِ الشَّرْعِ , ثُمَّ جَازَ تَخْصِيصُ حَظْرِهَا بِحَالٍ دُونَ حَالٍ , كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنَّهَا مَتَى صَحَّتْ عِلَّةً وَأَمَارَةً لِلْحُكْمِ , فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي بَابِ امْتِنَاعِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ فِيهَا , لِأَنَّ طَرِيقَ اسْتِدْرَاكِهَا وَالْوُصُولِ إلَيْهَا دُونَ السَّمْعِ : إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ . قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّ وُرُودَ السَّمْعِ لَمْ يُخْرِجْهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا , لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِأَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ لِنَفْسِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَحُكْمُهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ , كَهُوَ قَبْلَ وُرُودِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى , فَوَاجِبٌ إذًا أَنْ يَعْتَبِرَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , فِي كَوْنِهَا عَلَامَةً لِلْحُكْمِ وَأَمَارَةً لَهُ , عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ لَمَّا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ : الْعَقْلَ , فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ , فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْعَقْلُ أَيْضًا , لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يَعْلَمُهَا , وَلَا يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا , ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا , فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِلَلُ . وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ : الْعَقْلُ , فَإِنَّ حَظَّ الْعَقْلِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ  لِلْإِيصَالِ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا أَمَارَةً لِلْحُكْمِ , ثُمَّ الْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يُجِيزُ تَخْصِيصَهُ , كَمَا يُجِيزُ تَخْصِيصَ الْمَسْمُوعِ نَفْسِهِ . أَوَلَا تَرَى : أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدْ كَانَتْ مَعْقُولَةً مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ مُعَاذًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَوَادِثِ ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ ذَلِكَ جَوَازُ وُرُودِ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَيْهَا , وَعَلَى أُصُولِهَا الْمَسْمُوعَةِ , وَلَمْ تَصِرْ مِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرْت بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ ( الْعَقْلِيَّةِ ) الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّبْدِيلُ . فَبَانَ بِمَا وَصَفْت سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ , وَصَحَّ أَنَّ كَوْنَهَا مُسْتَنْبَطَةً مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّخْصِيصِ فِيهَا . دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَمَّا كَانَتْ عَلَامَاتٍ وَسِمَاتٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهَا , صَارَتْ كَالْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ سِمَاتٌ وَأَمَارَاتٌ لِلْمُسَمَّيَاتِ . فَمِنْ حَيْثُ جَازَ أَنْ يُعَلَّقَ الْحُكْمُ ( بِالِاسْمِ ) فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَيْهِ , وَعَلَامَةً لَهُ , ثُمَّ جَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا لِحُكْمٍ آخَرَ غَيْرِهِ , مِثْلُ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمَ السَّبْتِ , وَكَانَ اسْمُ السَّبْتِ عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ , ثُمَّ أَبَاحَهُ لَنَا , فَصَارَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا لِلْإِبَاحَةِ , وَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَخْصِيصُهَا , مِنْ حَيْثُ جَازَ عَلَيْهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الْعِلَلُ الَّتِي هِيَ دَلَالَاتُ الْأَسْمَاءِ , هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَاهَا فِي بَابِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا , حَسَبَ جَوَازِهِ فِي الْأَسْمَاءِ , مِنْ حَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْصِبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْصَافَ الَّتِي هِيَ عِلَلٌ أَعْلَامًا , لِلْإِبَاحَةِ تَارَةً , وَلِلْحَظْرِ أُخْرَى , عَلَى حَسَبِ إيجَابِهِ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي مِنْهَا اقْتَضَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ . فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ( حُكْمُهَا حُكْمَهَا ) , فِي بَابِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا , كَجَوَازِهَا فِيهَا , فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً عَلَمًا لِلْحَظْرِ , وَتَارَةً عَلَمًا لِلْإِبَاحَةِ .  وَجِهَةٌ أُخْرَى : وَهِيَ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى السَّمْعِ , ثُمَّ جَازَ تَخْصِيصُ الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ , فَالْفَرْعُ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ ( عَلَيْهِ أَوْلَى ) بِالْجَوَازِ , إذْ كَانَ الْأَصْلُ آكَدُ مِنْ الْفَرْعِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ رَادَّ الْمَسْمُوعِ نَفْسَهُ يَسْتَحِقُّ التَّكْفِيرَ , وَرَادَّ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ , فَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ آكَدُ فِي بَابِ ثُبُوتِهِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ . فَمِنْ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُ الْمَسْمُوعِ , كَانَ تَخْصِيصُ عِلَلِهِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ لَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْعِلَلِ فِيمَا وَصَفْتَ بِالْأَسْمَاءِ , لِأَنَّ الِاسْمَ إنَّمَا جَازَ فِيهِ التَّخْصِيصُ , لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ( عِبَارَةً عَنْهُ , نَحْوُ قَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } , وَقَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْمُ ) عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ , وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعِلَلِ , لِأَنَّ الْعِلَلَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ لِوُجُودِهَا , وَمَتَى لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً . قِيلَ ( لَهُ ) : قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ إنْ كُنْتَ مِمَّنْ تَعْقِلُ مَعَانِيَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ . فَنَقُولُ : إنَّهُ لَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ ( جَازَ أَيْضًا تَخْصِيصُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ , مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ تَكُونَ أَمَارَةً لِلْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ ) أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُجْعَلَ الْعِلَّةُ أَمَارَةً فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ , كَمَا جَازَ فِي الِاسْمِ , فَلَوْ جَعَلْنَا ذَلِكَ ابْتِدَاءً دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِنَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ .  وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( إنَّ ) الْعِلَّةَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا , فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ , وَأَنَّهُ إنَّمَا ظَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ . أَنَّهَا بِوُجُودِهَا تَقْتَضِي مُوجِبَاتِ أَحْكَامِهَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ لَمَا جَازَ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا , وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ إنَّمَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ جَازَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ , فَجَرَتْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مَجْرَى لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ . كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ , وَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى تَخْصِيصِهَا . وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ , لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِلَلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا . إذْ كَانَتْ كُلُّهَا أَمَارَاتٍ غَيْرِ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا . وَأَكْثَرُ مُخَالِفِينَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا , وَيُنْتَقَضُ ( بِهِ عَلَيْهِمْ ) جَمِيعُ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ , وَيَتَعَاطَوْنَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا مَعْقُولٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ , وَالْمُسْتَنْبَطَة لَمْ يُوجِبْهَا السَّمْعُ ( وَإِنَّمَا صَحَّتْ بِالِاسْتِنْبَاطِ ) , وَهَذَا لَا يَعْصِمُهُمْ مِمَّا أَلْزَمْنَاهُمْ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُسْتَنْبَطَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمْعِ . فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا فِيمَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهَا وَهِيَ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ النَّصِّ أَوْلَى بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ . وَعَلَى أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ , إنَّمَا عَلِمْنَاهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ , لَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ . أَلَا تَرَى : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَعْرِفُونَهُ عِلَّةً , وَلَا يَعْتَبِرُونَهُ فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ , فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ .  وَمُخَالِفُونَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ دَلَالَاتِ الْقَوْلِ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ , فَالْعِلَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى لِلْعِلَّةِ حُكْمٌ فِيمَا لَمْ يَخُصَّ , وَلَا يَبْقَى لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ حُكْمٌ فِيمَا خَصُّوهُ , نَحْوُ قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } . وَنَظَائِرُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِهِ . .
    فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ تَخْصِيصِ الِاسْمِ وَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ , أَنَّ مَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِلْحُكْمِ وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهِ , وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهِ , فَمَتَى وُجِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً , وَلَيْسَ شَرْطُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ مُسَاعِدَةُ الْحُكْمِ لَهُ حَيْثُمَا وُجِدَ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ بِالِاسْمِ . قِيلَ لَهُ : إنَّ دَلَالَةَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ , وَمَعْدُومًا بِعَدَمِهِ , فَلَيْسَ كُلُّ خُصَمَائِكَ يُسَلِّمُونَهُ لَك , بَلْ قَدْ حَكَيْنَا فِيمَا سَلَفَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ , أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي عِلَلِ الشَّرْعِ , وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ , لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنْ هَذَا أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ . وَلِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ دَلَائِلُ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . ( فَيَقُولُ : إنِّي ) أَعْتَبِرُ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ , مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى تَنَافِي الْأَحْكَامِ وَتَضَادِّهَا , فَمَتَى أَدَّى إلَى ذَلِكَ احْتَجْتُ إلَى طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ , كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ : إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ , مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ , فَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ لَمْ يَدُلَّ .  أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الشِّدَّةَ فِي الْخَمْرِ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ , ثُمَّ وُجِدَ الْحُكْمُ , بِوُجُودِهَا , وَزَوَالُهُ بِزَوَالِهَا , ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا الشِّدَّةَ فِي الْخَمْرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ مُسْتَحِلِّهَا ( وَيَزُولُ كُفْرُ ) الْمُسْتَحِلِّ بِزَوَالِ الشِّدَّةِ , وَلَا نَجْعَلُ الشِّدَّةَ عِلَّةً لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ لِلنَّبِيذِ , مَعَ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا , وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا . وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا , عَلَمٌ لِكَوْنِهِ عِلَّةً مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ , وَكَمَا نَقُولُ جَمِيعًا فِي الْعُمُومِ : إنَّهُ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ . وَأَيْضًا : فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اعْتِبَارَ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهِ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً , إنَّمَا يُسَوَّغُ فِي الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصٌ , وَأَمَّا مَا قَامَتْ فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ فَإِنَّ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبْرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ وُجُوهِ دَلَائِلِ الْعِلَلِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ تَكَافُؤَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَتُنَافِيهَا . مِنْ قِبَلِ أَنَّك إذَا اسْتَنْبَطْتَ عِلَّةً فَأَوْجَبْتَ بِهَا حُكْمًا , ثُمَّ جَوَّزَتْ وُجُودَهَا عَارِيَّةً مِنْ الْحُكْمِ , جَازَ لِمُخَالِفِكَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَوْضِعَ التَّخْصِيصِ , فَيَجْعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفْيِ حُكْمِ عِلَّتِكَ , وَيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ عِلَّةً تُوجِبُ مِنْ الْحُكْمِ ضِدَّ مَا أَوْجَبَهُ عِلَّتُكَ , فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَكَافُؤِ الْعِلَّتَيْنِ وَبُطْلَانِهِمَا , فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى ذَلِكَ تَخْصِيصًا . قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ لَا يُجِيزُ وُجُودَ ذَلِكَ .  وَالْآخَرُ : ( قَوْلُ ) مَنْ يُجِيزُ وُجُودَهُ . ( فَأَمَّا ) مَنْ ( لَا ) يُجِيزُ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ مَعَ مُقَاوَمَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى بِإِزَائِهَا مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِضِدِّ مَا يُوجِبُهَا , فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَسْت وَاجِدًا ذَلِكَ أَبَدًا , وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ : ( إنِّي ) : أَنْصِبَ عِلَّةً بِإِزَاءِ عِلَّتِكَ أَقِيسُ بِهَا فِي نَفْيِ حُكْمِكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ عِلَّتُكَ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا ثَبَاتُ الْعِلَلِ مَوْقُوفٌ عَلَى دَلَائِلِهَا , وَغَيْرُ جَائِزٍ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَصْحِيحِ عِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْ الْأَحْكَامِ . وَلَوْ اسْتَدَلَّ خَصْمُنَا بِمِثْلِ دَلِيلِنَا عَلَى صِحَّةِ اعْتِلَالِهِ , كَانَ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ دَلَالَةٍ تُوجِبُ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا , هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ( غَيْرُ هَذَيْنِ ) الْقَوْلَيْنِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا , وَلَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِهِ , وَعَلَى صَوَابِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَافِئَهُ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَزِمَنَا ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ لَلَزِمَ مِثْلُهُ جَمِيعَ الْقَائِسِينَ لِنَفَّاتِ الْقِيَاسِ , لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا الْوَضْعِ : نَحْنُ نَنْصِبُ بِإِزَاءِ عِلَلِكُمْ عِلَلًا فِي مُنَافَاةِ مَا أَوْجَبَتْهَا , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُكُمْ الِانْفِصَالُ مِنْهَا , وَلَا مِنْ أَضْدَادِهَا فِيمَا عَارَضْنَاكُمْ بِهِ . فَيَكُونُ مِنْ جَوَابِنَا جَمِيعًا لَهُمْ : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا نَنْصِبُهُ مِنْ الْعِلَلِ بِإِزَاءِ عِلَّتِنَا يَجُوزُ أَنْ  تَقُومَ فِي الصِّحَّةِ مَقَامَهَا , مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَثَبَاتَهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الدَّلَائِلِ , وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْخَصْمِ أَنَّهَا عِلَّةٌ , فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ , لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ إلْزَامَهُ خَصْمَهُ . وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُ . وُجُودَ عِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفَصِلَ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ , فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الَّذِي اعْتَدَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مُخَيَّرًا فِي إمْضَاءِ أَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ دُونَ الْآخَرِ , وَصَارَ هَذَا فَرْضُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ . ( وَقَالَ ) قَائِلٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ : إنْ كُنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ الْعِلَلَ بِالْأَسْمَاءِ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ , فَإِنَّا إنَّمَا نُجِيزُ تَخْصِيصَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَصِّصَ لَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمَقْرُونِ بِاللَّفْظِ , وَأَنَّ مَا خُصَّ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادَنَا بِاللَّفْظِ . فَهَلْ تَقُولُونَ مِثْلَهُ فِي الْعِلَلِ ؟ وَتَجْعَلُونَ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِتَخْصِيصِهَا كَأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لَهَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَإِنَّا نُوَافِقُكُمْ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَطْلَقْتُمْ الْعِلَّةَ ثُمَّ خَصَّصْتُمُوهُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَهَا , فَهَذَا الَّذِي نُخَالِفُكُمْ فِيهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَافَقَنَا هَذَا الْقَائِلُ فِي الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي , وَاَلَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ : دَلَائِلُنَا الَّتِي ذَكَرْنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ أَحْكَامِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ , حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ الِانْفِصَالُ مِنْهَا وَلَا دَفْعُهَا . وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي هَذَا : إنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْعِلَلِ وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِهَا . وَهُوَ : أَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ , كَأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ إلَى لَفْظِ التَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : هَذَا الْمَعْنَى عَلَامَةٌ لِلْحُكْمِ إلَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا , كَمَا نَقُولُ فِي تَخْصِيصِ الِاسْمِ : إنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ كَأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ إلَيْهِ , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : اقْطَعُوا السُّرَّاقَ , إلَّا سَارِقَ كَذَا . لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَلَا نَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ كَانَ مُرَادًا بِالْعِلَّةِ . كَمَا لَا نَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ مِنْ الِاسْمِ كَانَ مُرَادًا بِالِاسْمِ .  وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نُطْلِقُ الْعِلَّةَ فَنَقُولُ : إنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ كَيْتَ وَكَيْتَ , إنْ كَانَ حُكْمُهَا مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ , كَمَا أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعَ السُّرَّاقِ , وَقَتْلَ الْمُشْرِكِينَ , وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ . وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْرِطَ مَوْضِعَ التَّخْصِيصِ مِنْ الْعِلَّةِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ , كَمَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ فِي أَسْمَاءِ الْعُمُومِ مَقْرُونَةً بِاللَّفْظِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْتُ وَاجِدًا أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا وَهُوَ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي الْمَعْنَى , وَإِنْ أَبَاهُ فِي اللَّفْظِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يُخَالِفُنَا ذَلِكَ يَقُولُ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ : إنَّهُ نَجِسٌ , لِمُلَاقَاتِهِ لِلنَّجَاسَةِ , ثُمَّ قَالُوا فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ : إنَّهُمَا يَطْهُرَانِ بِمُوَالَاةِ الْغُسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا , وَلَوْ مَرُّوا عَلَى الْقِيَاسِ لَمَا طَهُرَا أَبَدًا , لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمَاءِ لَا يُزَايِلُ الثَّوْبَ إلَّا بَعْدَ مُلَاقَاتِهِ لِمَاءٍ نَجِسٍ , وَكَذَلِكَ هَذَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ , يَلْزَمُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُجْزِهِ إلَّا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ , وَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ , فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ , وَصَبِّ الْمَاءِ . وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ هِيَ مَأْكُولٌ جِنْسٌ , ثُمَّ أَجَازَ بَيْعَ التَّمْرَةِ بِخَرْصِهَا فِي الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ مُسَاوَاةٍ فِي الْكَيْلِ , مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ إيجَابِ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا هَذَا كَلَامٌ فِي جِهَةِ الْمُسَاوَاةِ , وَالْمُسَاوَاةُ مَوْجُودَةٌ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالْخَرْصِ , وَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ الْعَرِيَّةِ بِالْكَيْلِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا فِيمَا كَانَ مَكِيلًا , أَنَّهُ بِالْكَيْلِ , وَفِيمَا كَانَ مَوْزُونًا بِالْوَزْنِ . وَالْخَرْصُ لَا تَحْصُلُ بِهِ مُسَاوَاةٌ , لِأَنَّ الْخَرْصَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ , وَمَا لَا يُوصَلُ إلَى حَقِيقَتِهِ . فَقَوْلُك : إنَّ الْمُسَاوَاةَ تُوجَدُ فِي الْعَرِيَّةِ بِالْخَرْصِ خَطَأٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقِيَاسُ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ قَلِيلِ النَّوْمِ , وَتَرْكُهُ لِلْأَثَرِ . وَقَالَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ : الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ , ثُمَّ تَرَكَ الْقِيَاسَ فِيهِ , وَقَالَ بِإِيجَابِ ضَمَانِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُهُ فِي حَالٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } . قِيلَ لَهُ : هُوَ حَقٌّ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْعِهِ , غَيْرُ حَقٍّ فِي مَوْضِعٍ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ عَلَى مَنْعِهِ . كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعُمُومِ حَقٌّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ , غَيْرُ حَقٍّ فِي مَوْضِعٍ قَدْ قَامَتْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ , وَالْمَنْعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ قَاضِيًا بِفَسَادِهَا , لَمَا اسْتَدْرَكَ عَلَى أَحَدٍ مُنَاقَضَةً فِي عِلَّةٍ يَعْتَلُّ بِهَا , لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّمَا خَصَّصَتْهَا لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا .

قِيلَ لَهُ : لَيْسَ شَرْطُ الْمُنَاقَضَةِ فِي عِلَلِ الشَّرْعِ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ , وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ , فَلَيْسَ لَك الِاعْتِرَاضُ بِهِ مَعَ خِلَافِنَا إيَّاكَ فِي أَنَّهُ مُنَاقَضَةٌ , وَلَيْسَ بِمُنَاقَضَةٍ . وَإِنَّمَا يَكُونُ مُنَاقَضًا عِنْدَنَا إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ , وَيُدَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ كَيْتُ وَكَيْتُ , ثُمَّ تُوجِدُهُ ( بَعْدَ ذَلِكَ ) غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ . فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى صِحَّتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُوجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ , غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ , وَيَكُونُ الْمُعْتَلُّ بِهَا ( مُنَاقِضًا مُخْطِئًا ) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , وَهُوَ أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ , فَيَتْرُكُ حُكْمَهَا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ صَحِيحَةٍ تُوجِبُ تَخْصِيصَهَا , فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقَضَةً , وَتَكُونُ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً , وَالْمُعْتَلُّ مُنَاقِضٌ  فِي ( تَرْكِهِ حُكْمَهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ ) , وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْتَلِّ بِهَا , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ تَخْصِيصِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَعْتَبِرُ مُخَالِفُونَا , وَوُجُودُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَوُجُودُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ , مُوجِبًا لِكَوْنِ الْمُحْتَجِّ بِذَلِكَ مُنَاقِضًا . فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ . تَخْصِيصُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُنَاقَضَةً فِي الْحِجَاجِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعِلَّةِ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي صِفَةِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ

	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِجُمَلِ الْأُصُولِ : مِنْ الْكِتَابِ , وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَخْبَارِ الْآحَادِ , وَمَا هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ مِنْهَا , مِمَّا هُوَ مَنْسُوخٌ , وَعَالِمًا بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ مِنْهَا . وَيَكُونَ عَالِمًا بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ , وَوَضْعِ كُلٍّ مِنْهُ مَوْضِعَهُ , وَحَمْلَهُ عَلَى بَابِهِ . وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْعُقُولِ وَدَلَالَاتِهَا , وَمَا يَجُوزُ فِيهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ . وَيَكُونُ عَالِمًا بِمَوَاضِعِ الْإِجْمَاعَاتِ مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ قَبْلَهُ . وَيَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ , وَطُرُقِ الْمَقَايِيسِ الشَّرْعِيَّةِ ( وَلَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ , لِأَنَّ الْمَقَايِيسَ الشَّرْعِيَّةَ ) مُخَالِفَةٌ لِلْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ , وَهِيَ طَرِيقَةٌ مُتَوَارَثَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , يَنْقُلُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ , فَسَبِيلُهَا أَنْ تُؤْخَذَ عَنْ أَهْلِهَا مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهَا , وَلِهَذَا خَبَطَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَقَايِيسِ الشَّرْعِيَّةِ , ثِقَةً مِنْهُ بِعِلْمِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ , فَتَهَوَّرُوا وَرَكِبُوا الْجَهَالَاتِ وَالْأُمُورَ الْفَاحِشَةَ . فَمَنْ كَانَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى أَصْلِهَا , وَجَازَ لَهُ الْفُتْيَا بِهَا إذَا كَانَ عَدْلًا . فَأَمَّا إنْ جَمَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَدْلًا , فَإِنَّ فُتْيَاهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , كَمَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا رَوَاهُ , وَلَا شَهَادَتُهُ إذَا شَهِدَ  وَلَيْسَ شَرْطُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , مَا ثَبَتَ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ , وَمِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ , لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ جَمِيعِ ذَلِكَ , حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ , لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقَائِسِينَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْتَهِدَ , لِفَقْدِ عِلْمِهِ بِالْإِحَاطَةِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ , وَيَرَى تَقْدِيمَهَا عَلَى الْقِيَاسِ . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , قَدْ اجْتَهَدُوا مَعَ فَقْدِ عِلْمِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ . أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَأَلَ عَنْ أَمْرِ الْجَنِينِ فَأُخْبِرَ بِهِ فَقَالَ : قَدْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ  ذَلِكَ بِآرَائِنَا , وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا : إذَا لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا , أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , ثُمَّ أُخْبِرَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مُوَافِقَةً لِرَأْيِهِ , فَسُرَّ بِهِ سُرُورًا شَدِيدًا . وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ مَجْنُونَةً حَتَّى أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ , عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ , وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ , وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ } . فَتَرَكَ رَأْيَهُ إلَى خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَرْجُمَ امْرَأَةً جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ التَّزْوِيجِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } . فَجَعَلَ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ , فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ , وَتَرَكَ رَأْيَهُ . وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُبِيحُ مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَالصَّرْفِ , حَتَّى جَاءَتْهُ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِتَحْرِيمِهَا , فَنَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ بِهِمَا , وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَلِمَ جُمَلَ الْأُصُولِ , وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا الْبَعْضُ , بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَالِاسْتِدْلَالَات الْفِقْهِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادُ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ الْحَادِثَةُ , فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الرِّبَا , فَحَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الرِّبَا , وَإِنْ كَانَ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ . وَقَدْ يُمْكِنُ الْمُجْتَهِدَ حَصْرُ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ , وَالْإِحَاطَةِ بِهَا , ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ إذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا رُوِيَ فِي بَابٍ وَاحِدٍ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا شَذَّ عَنْهُ , مِمَّا رُوِيَ فِي سَائِرِ  الْأَبْوَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحَادِثَةِ فِي شَيْءٍ , وَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْبَابِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّحَابَةِ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ جُمِعَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ السُّنَنِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ الْحَادِثَةُ , فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الْإِحَاطَةُ بِهَا . وَمِنْ بَعْدِهِمْ قَدْ حَصَّلُوا ذَلِكَ , وَجَمَعُوهُ , فَقَرُبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مُتَنَاوَلُهُ , وَسَهُلَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ جَوَّزَتْ الِاجْتِهَادَ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا , مِنْ فَقْدِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأُصُولِ , وَلَمْ يُفَرَّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَادِثَةُ , فَقَدْ حُفِظَ وَجُمِعَ , فَلَيْسَ كَمَا ذَكَرْت , وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْت , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مَا ذَكَرْت , كَانَتْ الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَمْعِهِ , لِأَنَّهَا كَانَتْ أَقْدَرَ عَلَى جَمْعِ مَا رُوِيَ فِيهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ , إذْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ بِالْمَدِينَةِ , لَمَّا كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ هَلْ فِيهَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَإِذَا لَمْ يَجِدْهَا عِنْدَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ , حَكَمَ فِيهَا بِرَأْيِهِ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ , وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْتُبَ بِهَا إلَى مَنْ بِسَائِرِ الْأَمْصَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَيَسْأَلُهُمْ عَنْهَا , فَإِذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لَوْ أَرَادَتْ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْهِ أَقْدَرَ , وَكَانَ ذَلِكَ لَهَا أَقْرَبَ مُتَنَاوَلًا , وَأَسْهَلَ مَأْخَذًا , ثُمَّ ( لَمْ يَفْعَلُوهُ وَاجْتَهَدُوا ) مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ . عَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَهُ لَيْسَ مِمَّا ذَكَرْتَ , وَأَنَّهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا , وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : قَدْ حَفِظَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ , لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَإِنْ أَكْثَرَ سَمَاعُهُ , فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ ( لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ ) الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفِقْهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّك مَتَى نَظَرْتَ فِي مُصَنَّفَاتِ النَّاسِ فِي أَخْبَارِ الْفِقْهِ , وَمَا جَمَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَدْتَ فِي كِتَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَا تَجِدُهُ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ , وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ الْإِنْسَانُ  جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ , لَمَا حَضَرَ ذِهْنُهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ , وَلَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَهُ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهُ شَيْءٌ . وَمَعَ تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَفِظَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبْوَابِ , لَمَا جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا حَفِظَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْحَادِثَةِ , إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا رُوِيَ فِي الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ قِيَاسَ الْحَادِثَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْبَابِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّا قَدْ نَقِيسُ الْبَيْعَ عَلَى النِّكَاحِ , وَعَلَى الْكِتَابَةِ , وَنَقِيسُ النِّكَاحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ , وَنَقِيسُ الْوَطْءَ عَلَى سُكْنَى الدَّارِ , وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَالْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ : أَنْ لَا يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ , حَتَّى يُحِيطَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا وَرَدَ مِنْ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا , فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ , وَهَذَا شَيْءٌ مَأْيُوسٌ وُجُودُهُ مِنْ أَحَدِ الْقَائِسِينَ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ لِمَنْ عَرَفَ جُمَلَ الْأُصُولِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا , وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا , لِأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَمْ يُكَلَّفْ حُكْمَهُ , وَلَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْقِيَاسَ عَلَى مَا يَحْضُرُهُ مِنْهَا . وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ : إنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لِمُحَاذَاتِهَا , وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِسَائِرِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ , وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ , وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهِ . وَإِنَّمَا شَرَطْنَا مَعَ الْحِفْظِ لِلْأُصُولِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِطَرِيقِ الْمَقَايِيسِ  وَالِاجْتِهَادِ , لِأَنَّ حِفْظَ الْأُصُولِ لَا يُغْنِي فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا عَالِمًا بِكَيْفِيَّةِ وُجُوبِ رَدِّهَا إلَى أُصُولِهَا , وَإِلَى الْأَشْبَهِ بِهَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ , وَحُفَّاظَ الْأَخْبَارِ لَا يُغْنِيهِمْ مَا حَفِظُوهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَرَدِّهَا إلَى أُصُولِهَا . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا , ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ , وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } .

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إذَا اُبْتُلِيَ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَازِلَةٍ , فَعَلَيْهِ مُسَاءَلَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهَا . وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } . فَأَمَرَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ مِنْ النَّوَازِلِ , وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتْ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , ثُمَّ التَّابِعِينَ , إلَى يَوْمِنَا هَذَا , إنَّمَا يَفْزَعُ الْعَامَّةُ إلَى عُلَمَائِهَا فِي حَوَادِثِ أَمْرِ دِينِهَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَخْلُو عِنْدَ بَلْوَاهُ بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِهْمَالِ أَمْرِهَا , وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا , وَتَرْكِ أَمْرِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِهَا , وَأَنْ يَتَعَلَّمَ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ حُدُودِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ , ثُمَّ يَمْضِي بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , أَوْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ , ثُمَّ يَعْمَلَ عَلَى فُتْيَاهُ , وَيَلْزَمُهُ قَبُولُهَا مِنْهُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْعَامِّيِّ إهْمَالُ أَمْرِ الْحَادِثَةِ , وَلَا الْإِعْرَاضُ عَنْهَا , وَتَرْكُ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ  قَبْلَ حُدُوثِهَا , لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ مِنْهَا بِالنَّصِّ وَبِالدَّلِيلِ , وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ تَرْكِهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُدُوثِهَا , إذَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا مُخْتَلِفًا فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , وَلَيْسَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي طَوْقِ الْعَامِّيِّ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ : إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْأُصُولَ , وَطُرُقَ الِاجْتِهَادِ , وَالْمَقَايِيسَ , حَتَّى يَصِيرَ فِي حَدِّ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ , وَعَسَى أَنْ يُنْفِذَ عُمُرَهُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْحَالَةِ . وَقَدْ يَكُونُ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ غُلَامًا فِي أَوَّلِ حَالِ بُلُوغِهِ , وَامْرَأَةٌ رَأَتْ دَمًا شَكَّتْ فِي أَنَّهُ حَيْضٌ , أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ , وَقَدْ حَضَرَهُمَا وَقْتَ إمْضَاءِ الْحُكْمِ حَيْثُ لَا يَسَعُ تَأْخِيرُهُ , فَثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَقَبُولَ قَوْلِهِمْ فِيهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ , فَلَيْسَ يَخْلُو إذَا كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , أَوْ أَنْ يَجْتَهِدَ , فَيَسْأَلَ أَوْثَقَهُمْ فِي نَفْسِهِ , وَأَعْلَمَهُمْ عِنْدَهُ . فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي أَوْثَقِهِمْ فِي نَفْسِهِ , وَأَعْلَمْهُمْ عِنْدَهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِي حَالِهِمْ , ثُمَّ يُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمْ لَدَيْهِ , وَأَعْلَمَهُمْ عِنْدَهُ . فَإِنْ تَسَاوَوْا عِنْدَهُ , أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ ( لِدِينِهِ ) , وَهُوَ قَدْ يُمْكِنُهُ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ الْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَمِ فِي ظَنِّهِ , وَأَوْثَقِهِمْ فِي نَفْسِهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا أَمْكَنَهُ الِاحْتِيَاطُ بِمِثْلِهِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ فَيُقَلِّدَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ , إذْ كَانَ لَهُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ .  أَلَا تَرَى : أَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي سُلُوكِ أَحَدِ طَرِيقَيْنِ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى سُلُوكِ أَقْرَبِهِمْ إلَى السَّلَامَةِ عِنْدَهُ , وَأَبْعَدِهِمَا مِنْ الْعَطَبِ , لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ . وَقَدْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ , بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ . كَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ , إذْ كَانَ فِي وُسْعِهِ ( الِاجْتِهَادُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرِّجَالِ ) . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ , هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ - وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - : إنَّ لَهُ تَقْلِيدَهُ , وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ . وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ , عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . ( وَقَدْ رَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ , عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ , نَحْوُ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ , وَذَلِكَ ( نَحْوُ ) قَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعُثْمَانَ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ , عَلَى أَنْ يَقْضِيَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , فَأَجَابَهُ ( إلَى ذَلِكَ ) , وَعَرَضَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ . فَقَالَ عَلِيٌّ : أَقْضِي بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَجْتَهِدُ رَأْيِي .  فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ يَرَيَانِ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِهِ , وَكَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِهِمَا . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الصَّرْفِ , فَأَجَابَ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ , فَقَالَ عُمَرُ : لَكِنِّي أَكْرَهُهُ . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : قَدْ كَرِهْته إذْ كَرِهْته . فَتَرَكَ رَأْيَهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهُ عَنْ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ , إذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِيهَا . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ تَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَتَرْكَ رَأْيِهِ لِرَأْيِهِ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْوِيَةِ رَأْيِ الْآخَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى رَأْيِهِ , لِفَضْلِ عِلْمِهِ وَتَقَدُّمِهِ , وَمَعْرِفَتِهِ بِوُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , فَلَمْ يَخْلُ فِي تَقْلِيدِهِ إيَّاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ , يُوجِبُ عِنْدَهُ رُجْحَانَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ عَلَى قَوْلِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا - عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ بَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِيَأْخُذَ بِهِ فِي شَيْءٍ اُبْتُلِيَ بِهِ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ , وَبَيْنَ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ غَيْرَهُ , يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ( فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ) إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْقَاضِي إذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ فِيمَا كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْحُكْمِ , فَأَجَازَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ فِي تَوْجِيهِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى مَنْ خَاصَمَ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ عَلَى قَوْلِهِ , وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ ( ثُمَّ ) جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ , جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ غَيْرَهُ , وَيَحْكُمَ بِهِ عَلَيْهِ .  فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } { وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَ تَقْضِي ؟ فَذَكَرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ } وَلَمْ يَذْكُرْ التَّقْلِيدَ . قِيلَ لَهُ : تَقْلِيدُهُ غَيْرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاعْتِبَارِ , إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ رَأْيَهُ أَرْجَحُ مِنْ رَأْيِهِ , وَنَظَرَهُ أَصَحُّ مِنْ نَظَرِهِ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

         	قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ كَانَ الِاجْتِهَادُ جَائِزًا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالَيْنِ , وَلَا يَجُوزُ فِي حَالٍ . فَأَمَّا إحْدَى الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ , فَهِيَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ يَبْتَدِئُهُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } وَقَدْ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْأَسْرَى , وَغَيْرِهِمْ . فَهَذِهِ الْحَالُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , لِإِبَاحَتِهِ إيَّاهُ لَهُمْ , وَأَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِهِ , وَإِعْلَامِهِ إيَّاهُمْ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي : اقْضِ بَيْنَ  هَذَيْنِ . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَقْضِي بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَإِنْ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ } وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : مِثْلَ ذَلِكَ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْتَهِدُوا بِحَضْرَتِهِ , فَيَعْرِضُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ مُبْتَدِئِينَ . فَإِنْ رَضِيَهُ صَحَّ , وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ . وَقَدْ { اجْتَهَدَ مُعَاذٌ فِي تَرْكِهِ قَضَاءَ الْفَائِتِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتِّبَاعِهِ إيَّاهُ , فَرَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ , فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا } . وَأَشَارَ عَلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بِالِانْتِقَالِ عَنْ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَهُ بِبَدْرٍ , فَقَبِلَ مِنْهُ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ اجْتِهَادَهُ . ( وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنْ يَلْحَقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ , فَفَعَلُوا ذَلِكَ ) وَكَانَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ , فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ { امْتِنَاعُ عَلِيٍّ مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّحِيفَةِ , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَحَاهُ بِيَدِهِ } . وَمِنْهَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اهْتَمَّ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ لَهَا النَّاسَ أَشَارَ بَعْضُهُمْ بِنَصْبِ رَايَةٍ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ , وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ شَبُّورَ الْيَهُودِ , وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ النَّاقُوسَ , فَلَمْ يُعْجِبْهُ , وَلَمْ يُنْكِرْ اجْتِهَادَهُمْ , إلَى أَنْ أُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَذَانَ } .  وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ مُسْتَبِدًّا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَهَذَا لَا يَجُوزُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَصٌّ ( قَدْ نَزَلَ ) وَهُوَ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ فِي الْحَالِ , فَيَكُونُ فِي إمْضَائِهِ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ ( وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ )

	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : يَقُولُ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَالْحَادِثَةُ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ( وَ ) قَدْ كُلِّفَ الْقَائِسُونَ إصَابَةَ ذَلِكَ , وَمُخْطِئُهُ مُخْطِئٌ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , إلَّا أَنَّهُ مَأْجُورٌ بِاجْتِهَادِهِ , وَمَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَصَمِّ , وَابْنِ عُلَيَّةَ , وَبِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ . وَيُحْكَى ( عَنْ ) ابْنِ عُلَيَّةَ : أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهِ بِاجْتِهَادِهِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّ أَصْحَابَهُ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَحْكُونَ عَنْهُ . فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ سَمَّيْنَاهُ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ : أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ . وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ : فَهُمْ الْقَائِلُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , بَلْ هُنَاكَ دَلَائِلُ هِيَ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ مِنْ الْأُصُولِ , يُسَوَّغُ رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا , عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ .  ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهَا . فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتَحَرَّى مُوَافَقَتَهُ فِي اجْتِهَادِهِ , إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفَ إصَابَتَهُ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ الْوَاسِطِيُّ : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ , هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , وَنُسَمِّيه تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ . قَالَ : وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْحَوَادِثِ شَبَّهَهَا بِالْأُصُولِ الَّتِي يَرُدُّ إلَيْهَا مُتَسَاوِيًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , وَإِنَّمَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ فِي اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ , فَالْأَشْبَهُ إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِهِ , لَا إلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ الْفَرْعُ .

وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَهُوَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ مَا أُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ حَكَيْت عَنْهُمْ أَلْفَاظًا مُتَلَبِّسَةً , حَقِيقَتُهَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَنَا , نَذْكُرُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حِكَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ . فَحَكَى هِشَامٌ , عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَلَكِنْ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَقَدْ أَدَّى مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ , وَهُوَ مَأْجُورٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , بِمَنْزِلَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ . وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْفَقِيهَيْنِ إذَا اجْتَهَدَا فِي الْحَادِثَةِ وَاخْتَلَفَا فَكِلَاهُمَا قَدْ أَصَابَ مَا كُلِّفَ , وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ فِيمَا صَنَعَ , وَأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ أَصَابَ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ بِعَيْنِهِ , وَأَخْطَأَ الْآخَرُ , لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا أَنْ يُصِيبَا الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ , وَلَوْ كُلِّفَا ذَلِكَ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا أَثِمَ , وَلَكِنَّهُمَا كُلِّفَا أَنْ يَجْتَهِدَا وَيَطْلُبَا , حَتَّى يُصِيبَا الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ فِي رَأْيِهِمَا , فَقَدْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كُلِّفَ . قَالَ مُحَمَّدٌ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَبِي يُوسُفَ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ , وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَاحِدٍ . قَالَ : وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ , وَكَانَ يَقُولُ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ إنَّمَا مُرَادُهُمْ عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَشْبَهَ وَاحِدٌ , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ . قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : هُنَاكَ مَطْلُوبٌ هُوَ أَشْبَهُ بِالْحَادِثَةِ , إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا تَعَبَّدَ بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ , الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِ : إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ : أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ أَنْ يَتَحَرَّى مُوَافَقَتَهَا , وَهِيَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهَا , وَإِنَّمَا كُلِّفَ مَا فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ : إنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يُصِيبَ الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ . قَالَ : وَلَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ فَأَخْطَأَهُ أَثِمَ , وَلَكِنَّهُ كُلِّفَ أَنْ يَجْتَهِدَ , وَيَطْلُبَ حَتَّى يُصِيبَ الصَّوَابَ بِعَيْنِهِ فِي رَأْيِهِ , فَأَخْبَرَ مُحَمَّدٌ : أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ , لَا الْأَشْبَهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ . وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ : إنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا لِلصَّوَابِ بِعَيْنِهِ , إنَّمَا مُرَادُهُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْطِئًا لِلْأَشْبَهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الدِّينِ , وَلَا خَطَأَ الْحُكْمِ , لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا : إنَّهُ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ , وَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِهِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ , وَاَلَّذِي كُلِّفَ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ , وَالْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ , وَلَا هُوَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ , إذَا لَمْ يُؤَدِّهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ , مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَا كُلِّفَ غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَدْ بَانَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ : أَنَّ الْأَشْبَهَ مِنْ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ . وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَبَّهُوهُ بِالْكَعْبَةِ , لِأَنَّ الْكَعْبَةَ الَّتِي أَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا هِيَ وَاحِدَةٌ , وَلَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهَا , وَالْحُكْمُ الَّذِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا تَحَرِّي مَجْرَوَاتُهَا , وَمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا الْكَعْبَةُ . وَشَبَّهَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بِمَا كُلِّفْنَا فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْمَقَادِيرِ , لَمْ نُكَلَّفْ نَحْنُ إصَابَتَهَا , وَالْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْنَا فِيهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ اجْتِهَادِنَا , وَغَالِبِ ظَنِّنَا أَنَّهُ الْمِقْدَارُ الْمَأْمُورُ بِاسْتِبْقَائِهِ , وَإِبْقَائِهِ دُونَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَذْهَبِ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ مِنْ الْقَائِلِينَ : إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَإِنَّ خِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِلَافٌ عَلَى مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ أَشْبَهُ الْمَطْلُوبِ الْمَظْنُونِ بِالِاجْتِهَادِ , وَعَلَى مَا بَيَّنَّا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ , وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِي رَأْيِهِ طَرِيقُ الْأُصُولِ إلَى كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا , وَغَالِبُ الظَّنِّ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَاسِ , وَاسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ . فَجَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ قِيَاسَ الشَّبَهِ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ , وَالْهَيْئَةِ , وَالْحُسْنِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَجَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الشَّبَهَ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَعِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ ( عِنْدَهُ ) مَا وَافَقَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , فَيَكُونُ أَشْبَهَ بِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَلَا يَكُونُ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرُدُّ الْحَادِثَةَ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْجُمْلَةِ أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الِاجْتِهَادُ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ , وَإِنَّمَا يَقْضِي فِيهِ بِالْأَشْبَهِ فِي اجْتِهَادِهِ , وَفِي غَالِبِ ظَنِّهِ , وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ وَأَمَرَ بِإِنْفَاذِهِ . فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , مِمَّنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا وَاحِدًا مَنْصُوبًا يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْأَشْبَهِ بِالْحَادِثَةِ فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنَّمَا يَقُولُ : إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَائِلَ , هِيَ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ مِنْ الْأُصُولِ , يَجِبُ إلْحَاقُ الْحَادِثَةِ بِأَشْبَهِهَا , عَلَى حَسَبِ مَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ . وَقَدْ يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى خِلَافِ مَا يُؤَدِّيه اجْتِهَادُ الْآخَرِ , فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَهَا شَبَهٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَحْكَامِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ , فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا وَاحِدًا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَلَيْسَ لِلْحَادِثَةِ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , تُوجِبُ حُكْمًا وَاحِدًا , يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ يُوَصِّلُ الْقَائِسَ وَالْمُسْتَدِلَّ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ وَيُعْذَرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْمُخْطِئِ لَهُ , وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَبِشْرٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الَّذِي كُلِّفَ إصَابَتَهُ , لَكِنَّهُ يَغْلِبُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ الْحُكْمُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ فِيمَا سَلَفَ , وَنَحْنُ نُعِيدُهُ لِيَكُونَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ , وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَهُوَ مَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ . وَذَلِكَ نَحْوُ وُجُوبِ اعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ , وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عليهم السلام , وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ , وَالْإِنْصَافِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى حَظْرِهِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ , كَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ , وَنَحْوِهِمَا . وَالْأَوَّلُ حَسَنٌ لِنَفْسِهِ , يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى سَائِرِ الْعُقَلَاءِ . وَالثَّانِي : قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ يَقْتَضِي الْعَقْلُ حَظْرَهُ , فَهَذَانِ الْبَابَانِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِمَا أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ , لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ , وَبَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ , وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ . وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِنَفْسِهِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا فِي حَالٍ , وَحَسَنًا فِي حَالٍ أُخْرَى , فَمَتَى أَدَّى إلَى قَبِيحٍ ( كَانَ قَبِيحًا ) , لَا يُتَعَبَّدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ . وَمَتَى لَمْ يُؤَدِّ إلَى قَبِيحٍ , صَارَ حَسَنًا , يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ . وَهَذَا الْقِسْمُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ , وَيَجُوزُ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ مِنْهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ بِشَيْءٍ , وَيَتَعَبَّدَ آخَرُ مِنْهُمْ بِخِلَافِهِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ . وَيَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِحَظْرِهِ , لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَبِيحٍ . وَيَجُوزُ إيجَابُهُ فِي حَالٍ أُخْرَى , لِعِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ . وَيَجُوزُ إبَاحَتُهُ فِي أُخْرَى مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ , إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ . وَهَذِهِ ( فِي ) الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ . وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ : فَلَيْسَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِمَا مَوْكُولًا إلَى آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ عَلَيْهِمَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً , تُفْضِي بِالنَّاظِرِ فِيهَا إلَى وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا . وَإِنَّمَا نَصَبَ الدَّلَائِلَ ( عَلَيْهَا ) فِيمَا كُلِّفْنَا عِلْمَهُ مِنْهَا , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا , بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ حَالُهُمَا مِمَّا يَقْتَضِي حَظْرًا ( وَ ) إيجَابًا . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ ( فِيهَا ) بِمَدْلُولِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ يَجِبُ فَسْخُ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ إذَا قَضَى فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ عِنْدَنَا . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : لَيْسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ , وَإِنَّمَا حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُتَعَبِّدًا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ , وَغَالِبُ ظَنِّهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ , عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي كَانَ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ لَهُ دَلِيلًا بِعَيْنِهِ عَلَى الْأَشْبَهِ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ , وَيَطْلُبُهُ بِاجْتِهَادِهِ , وَإِنَّمَا جَعَلَ لِلْحَادِثَةِ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا مِنْ الْأُصُولِ , وَأَخْفَى عِلْمَ الْأَشْبَهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ عَنْهُمْ , تَوْسِعَةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ , وَرَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ , وَنَظَرًا مِنْهُ وَتَخْفِيفًا , لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا إلَّا طَرِيقٌ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } . وَلَوْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَأَلَّا يَزِيغُوا عَنْهُ , وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ بِعَيْنِهِ , لَمْ تَكُنْ السَّلَامَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ يَضِلُّ تَارِكُهُ , وَيَأْثَمُ الْعَادِلُ عَنْهُ . وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ مَتَى كَانَ لِلْحَادِثَةِ وَجْهَانِ , أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْحُكْمِ , كَانَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَوْسَعَ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ ( وَلَا الْوُصُولَ ) إلَيْهِ بِعَيْنِهِ , إذْ لَمْ يَنْصِبْ لَهُمْ دَلِيلًا دُونَ غَيْرِهِ , وَجَعَلَ الْحُكْمَ الَّذِي تَعَبَّدَهُمْ بِهِ هُوَ ( مَا ) كَانَ فِي اجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ , دُونَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ( هُوَ ) الْأَشْبَهُ . وَلَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الْكِتَابِ , وَالسُّنَّةِ , وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ , وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ . فَأَمَّا دَلِيلُهُ مِنْ الْكِتَابِ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ , حِينَ غَزَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَرَقَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ نَخْلَهُمْ إرَادَةً مِنْهُ لِغَيْظِهِمْ , وَتَرَكَهَا بَعْضٌ , وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنَا أَنْ يُغْنِمَنَاهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْوِيبَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قوله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } فَكَانُوا مُجْتَهِدِينَ , فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مِمَّا ذَهَبُوا إلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِمَا , إذْ كَانَ ذَلِكَ مَبْلَغُ اجْتِهَادِهِمْ . وَنَظِيرُهُ : مَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ فِي غُزَاةِ بَنِي قُرَيْظَةَ , وَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِيهِ . فَصَوَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَمِيعَ , وَذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ , وَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إلَّا هُنَاكَ } . فَأَدْرَكَتْ قَوْمًا مِنْهُمْ صَلَاةُ الْعَصْرِ , وَخَافُوا فَوْتَهَا قَبْلَ الْمَصِيرِ إلَى هُنَاكَ , فَاخْتَلَفُوا . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ , وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا تُصَلُّوا الْعَصْرَ إلَّا بِهَا } , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا أَمَرَنَا بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ الْمَصِيرِ إلَيْهَا , مِنْ غَيْرِ تَرْخِيصٍ مِنْهُ فِي تَرْكِهَا إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا . فَفَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا رَأَى , ثُمَّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَظْهَرَ تَصْوِيبَ الْجَمِيعِ , إذْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِاجْتِهَادِ آرَائِهِمْ . وَمِنْ نَحْوِهِ : { مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ , فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ , وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ , فَصَوَّبَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَوَّبَهُمَا جَمِيعًا : أَنَّهُ شَبَّهَ أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَشَبَّهَ عُمَرَ بِنُوحٍ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَبِّهَهُمَا بِنَبِيَّيْنِ فِي فِعْلِهِمَا , إلَّا وَقَوْلُهُمَا جَمِيعًا صَوَابٌ . وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ بِحَقِيقَةِ النَّظَرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , لَمَا جَازَ تَصْوِيبُهُمَا , إذْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَانَ الْمُصِيبُ مِنْهُمَا عُمَرَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِبْقَائِهِمْ , وَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ( كَانَ ) أَبَاحَ لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ لَمَّا شَاوَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ . وَأَمَّا قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } فَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ , وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَسْرَى وَأَخْذُ الْغَنَائِمِ . فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّهْيِ مُتَوَجِّهًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي , مِنْهَا : أَنِّي أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ , وَلَمْ تَحِلَّ لِمَنْ قَبْلِي } , وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ قُرْبَانًا تَأْكُلُهَا النَّارُ , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَا أُحِلَّتْ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِكُمْ } . وَأَمَّا قوله تعالى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } , فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ : لَوْلَا مَا سَبَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُحِلٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنَائِمَ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ , لِبَقَائِهَا عَلَى حَالِ التَّحْرِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ , وَلَكِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبَاحَهَا لَهُمْ , فَلَمْ يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ بِأَخْذِهَا . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } وَلَوْ كَانُوا آخِذِينَ لِمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ لَأَمَرَهُمْ بِهِ , وَبِقَتْلِ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَسْرَى , إذْ كَانَ الْمَنُّ وَأَخْذُ الْفِدَاءِ خَطَأً , خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِهِ . وَفِي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَذَ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ , وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِي أَخْذِهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ , فَأَخْبَرَ عَنْ مَوْضِعِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ , بِإِبَاحَتِهِ أَخْذَهَا , لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ إذَا أَخَذُوهَا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَاخِلًا فِيهِ , إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَثْخَنَهُمْ بِقَتْلِهِ رُؤَسَاءَهُمْ وَهَزِيمَةِ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ , جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى , فَكَانَ سَبِيلُهُ فِي هَذَا الْبَابِ , سَبِيلُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ , فِي أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ الْأَسْرَى إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ , ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ حُكْمِهِ , وَبَيْنَ حُكْمِ سَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ , بِأَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ تَقَدَّمَ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْأَسْرَى , وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ الْمَنُّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ , أَوْ الْقَتْلُ . وَأَبَاحَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْذَ الْفِدَاءِ . فَقَالَ تَعَالَى : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( بِأَنْ يُفَضَّلَ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِ الْفِدَاءِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَنْ قَبْلَكُمْ مَعَ الْحَظْرِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى تَبْقِيَةِ الْأَسْرَى بِالْفِدَاءِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ فِي أُولَئِكَ الْأَسْرَى مَنْ يُسْلِمُ , وَيَحْسُنُ إسْلَامُهُ إذَا اُسْتُبْقِيَ وُفُودِي بِهِ , وَيَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْكُفْرِ . فَلَمْ يَكُنْ جَائِرًا فِي حُكْمِهِ وَلَا أَمْرِهِ , قَتَلَ مَنْ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ , إذَا كَانَ فِيهِ اقْتِطَاعٌ مِنْهُ لَهُ عَنْ النَّجَاةِ , وَالْوُصُولِ إلَى الثَّوَابِ بِإِمَاتَتِهِ وَقَتْلِهِ , وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُصِيبًا فِي اسْتِبْقَائِهِمْ , وَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ , وَسَقَطَ بِذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى إثْبَاتِ الْعَتْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ , وَاسْتِبْقَاءِ الْأَسْرَى . وَقَدْ احْتَجُّوا أَيْضًا - كَمَا ذَكَرْنَا - بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ } إلَى قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . فَلَمَّا مَدَحَهُمَا جَمِيعًا بِمَا وَصَفَهُمَا ( بِهِ ) مِنْ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ , دَلَّ عَلَى تَصْوِيبِهِ لَهُمَا فِي اجْتِهَادِهِمَا . وقوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } تَأَوَّلُوهُ عَلَى إصَابَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَمْ يُكَلِّفْهَا الْمُجْتَهِدَ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ( أَيْضًا ) : قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } . فَاقْتَضَى هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَاقْتَدَى هَذَا بِبَعْضِهِمْ وَهَذَا بِبَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُجْتَهِدِينَ مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : { تَحْكِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ , عَلَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِمَا يَرَاهُ صَوَابًا } , فَسَوَّغَ لَهُمْ أَيْضًا حُكْمَهُ فِيهِمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ حُكْمُهُ : مِنْ قَتْلٍ , أَوْ مِنْ اسْتِبْقَاءٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدْسِ وَالظَّنِّ , وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَحَرِّي الْأَصْوَبِ وَالْأَوْلَى . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمِ حَادِثَةٍ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إبْرَامِ الْحُكْمِ : { لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } دَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ حُكْمَهُ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى ( فِيهِ ) حُكْمٌ غَيْرُهُ . قِيلَ لَهُ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا فِي حُكْمِهِ , مِنْ حَيْثُ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَأَمْضَاهُ بِاجْتِهَادِهِ . ( وَلَوْ ) كَانَ حَكَمَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى ( أَيْضًا ) , إذْ سَوَّغَ إمْضَاءَ مَا رَآهُ صَوَابًا بِاجْتِهَادِهِ , وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي شَيْئَيْنِ , صَارُوا فِي أَحَدِهِمَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ , وَإِلَى التَّحَزُّبِ وَالْقِتَالِ وَاللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ . وَهُوَ مَا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ . وَكَانُوا فِي الِاخْتِلَافِ الْآخَرِ مُتَسَالِمِينَ غَيْرِ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ إيَّاهُ فِيهِ , وَهُوَ أَحْكَامُ حَوَادِثِ الْفُتْيَا , فَثَبَتَ بِذَلِكَ افْتِرَاقُ حُكْمِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ , دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ إلَى الْبَرَاءَةِ , وَاللَّعْنِ , وَالْقِتَالِ , رَأَوْا أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا مَنْصُوبًا , يُفْضِي إلَى الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِ , وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ . وَأَنَّ الْبَابَ الْآخَرَ الَّذِي سَوَّغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَةَ صَاحِبِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مَنْعٍ . رَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُكْمِهِ فِيهِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِهِ بِعَيْنِهِ , وَأَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْهُ فَلَهُ شَبِيهٌ وَنَظِيرٌ مِنْ الْأُصُولِ يُسَوَّغُ رَدُّهُ إلَيْهِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ , وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ . وَلَمَّا وَجَدْنَا السَّلَفَ يُجِيزُونَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ عَلَيْهِمْ - وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ , وَمَذْهَبِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ - وَيُجِيزُونَ فُتْيَاهُمْ فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ , مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا تَخْطِئَةٍ . دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا جَمِيعَ ذَلِكَ صَوَابًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ , وَأَنَّ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا تَعَبَّدَ بِهِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ كَانَ وَلَّى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْقَضَاءَ وَهُوَ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ وَغَيْرِهِ , وَوَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ , وَشُرَيْحًا الْقَضَاءَ , وَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ رَأْيِهِ وَمَذَاهِبِهِ . وَأَنَّ عَلِيًّا وَلَّى شُرَيْحًا قَضَاءَ الْكُوفَةِ , وَابْنَ عَبَّاسٍ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ , وَهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ . ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ , وَشُرَيْحٌ يُخَالِفُهُ فِي الْجَدِّ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ يَطُولُ شَرْحُهَا . وَاخْتَصَمَ عَلِيٌّ إلَى شُرَيْحٍ مَعَ يَهُودِيٍّ فِي قِصَّةِ الدِّرْعِ , فَقَضَى عَلَيْهِ شُرَيْحٌ لِلْيَهُودِيِّ . فَقَبِلَ قَضَاءَهُ , وَأَجَازَهُ عَلَى نَفْسِهِ , مَعَ خِلَافِهِ إيَّاهُ فِيهِ . فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ , وَقَالَ هَذَا دِينٌ حَقٌّ تُجِيزُونَ أَحْكَامَ قُضَاتِكُمْ عَلَيْكُمْ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَسْأَلُهُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ . فَقَالَ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ , وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ , فَأَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْته . فَقَالَ ( ابْنُ عَبَّاسٍ ) : عُدْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ : أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُلُثَ مَا بَقِيَ , وَمَنْ أَعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ أَخْطَأَ . فَأَتَيْته , فَقَالَ : لَمْ يُخْطِئْ , وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ وَشَيْءٌ رَآهُ . وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( فِي الْمُشْرِكَةِ ) : لِمَ ( لَمْ ) تُشْرِكْ عَامَ أَوَّلَ ؟ وَشَرَّكْت الْعَامَ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ عَلَى مَا فَرَضْنَا وَهَذَا عَلَى مَا فَرَضْنَا . وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَوْ جَمَعَتْ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحُكْمِ . فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا . وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَنَّك إذَا أَخَذْت بِقَوْلِ هَذَا أَصَبْت , وَبِقَوْلِ هَذَا أَصَبْت . فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمْ , وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ , وَإِنَّمَا تَرَكَ بَعْضُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي خَطَئِهِمْ , وَكَانَ خَطَؤُهُمْ مَوْضُوعًا كَالصَّغِيرِ مِنْ الذُّنُوبِ . قِيلَ لَهُ : أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ , لِأَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي مُوَاقَعَتِهَا , وَلَا مَأْجُورٍ فِي فِعْلِهَا , بَلْ هُوَ عَاصٍ , تَارِكٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَعَدَهُ غُفْرَانَهَا بِاجْتِنَابِهِ الْكَبَائِرَ , وَلَمْ يَقْطَعْ وِلَايَتَهُ بِهَا . وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْجُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ , وَمَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْجُورًا فِي اجْتِهَادِهِ الْمُؤَدِّي إلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَكَيْفَ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي نَصَبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ . وَجَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إلَى إصَابَتِهِ . فَإِنَّ بِمَا وَصَفْنَا تَنَاقُضَ هَذَا الْقَوْلِ وَفَسَادَهُ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ دَلَائِلُ قَائِمَةٌ تُوَصِّلُ النَّاظِرَ فِيهَا إلَى حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ . فَلِمَ عُذِرُوا فِي تَرْكِ إصَابَةِ مَدْلُولِهَا ؟ . وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حَوَادِثِ الْفُتْيَا وَالْحَوَادِثِ الَّتِي خَرَجُوا فِيهَا إلَى الْقِتَالِ , وَاللَّعْنِ , وَالْبَرَاءَةِ . وَدَلَائِلُ الْجَمِيعِ قَائِمَةٌ . وَكَيْفَ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا ( وَ ) أَحْكَامُهُمْ فِيمَا ( وَصَفْنَا , مِمَّا ) ( لَا ) خِلَافَ فِيهِ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَحْكَامَ حَوَادِثِ الْفُتْيَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ , وَأَمَّا مَا صَارَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا تَرَكَ النَّكِيرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَوَادِثِ مَسَائِلِ الْفُتْيَا مَعَ الْخِلَافِ . لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّا قَالُوهُ عَلَى غَالِبِ ظَنٍّ , وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ , وَقَدْ كَانَ مُخَالِفُوهُمْ يَدَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِمْ , فَلِذَلِكَ جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مُخَالِفِهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي تَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفُوهُمْ قَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ دُونَهُمْ . قِيلَ لَهُ : قَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْت أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمٍ بِعَيْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ , إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ مُتَظَنِّنًا غَيْرَ عَالِمٍ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ شَبَهِهَا بِالْأُصُولِ , وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , لَيْسَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ , وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ , إذْ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ , وَهُوَ مُكَلَّفٌ لِإِصَابَتِهِ لَمَا أَخْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دَلَالَةٍ لَهُ يَنْصِبُهَا عَلَيْهِ , وَلَوْ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا لَأَفْضَى بِالنَّاظِرِ إلَى الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ , وَلَكَانَ يَكُونُ مُخْطِئُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْطِئِ لِسَائِرِ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إصَابَتَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا , لَمَا خَلَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ , وَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ الْجَمَاعَةُ أَصَابَهُ الْبَعْضُ مِنْهَا وَدَعَا الْبَاقِينَ إلَيْهِ , فَيَتَوَافَوْنَ عَلَى الْقَوْلِ ( بِهِ ) لِوُقُوعِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِمَدْلُولِهِ . فَلَمَّا وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ , بَلْ كَانُوا بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ ثَابِتِينَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ فِي خِطَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا لِغُمُوضِ دَلَالَةِ الْحُكْمِ وَخَفْيِ نَقْلِهَا , وَلَمْ يُعْذَرْ فِي الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذُكِرَتْ , لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا وَوُضُوحِهَا . قِيلَ لَهُ : فَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى إصَابَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَالْحُكْمِ بِمَدْلُولِهَا ؟ وَهَلْ كَلَّفَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا بِعَيْنِهَا , وَنَهَاهُ عَنْ الْعُدُولِ عَنْهَا ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْذُورًا مَنْ كُلِّفَ إصَابَةَ الْحُكْمِ وَجُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَيْهِ , فَعَدَلَ عَنْهُ بِتَقْصِيرِهِ ؟ وَلَوْ جَازَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ فِي سَائِرِ مَا أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا وَصَفْنَا عِنْدَنَا جَمِيعًا وَعِنْدَ السَّلَفِ غَيْرَ مُعَنَّفٍ فِي خِلَافِهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ , عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ لَهُ دَلَالَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ . وَيُقَالُ لِمَنْ أَبَى مَا قُلْنَا : أَخْبَرْنَا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا , أَتُجِيزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إبْرَامَ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : حَتَّى يَعْلَمَ حَقِيقَةَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ لَهُ : فَالْمُخْتَلِفُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمْ عِنْدَك . أَفَتَقُولُ : إنَّ الْبَاقِينَ أَقْدَمُوا عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ , وَأَمْضَوْا أَحْكَامًا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَهُمْ إمْضَاؤُهَا ؟ فَإِنْ قَالَ : كَذَلِكَ فَعَلُوا . طَعَنَ فِي السَّلَفِ , وَلَحِقَ بِالنَّظَّامِ وَطَبَقَتِهِ , فِي طَعْنِهِمْ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الطَّعْنِ بِالِاجْتِهَادِ , وَجَوَّزَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى خَطَأٍ , لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ , لَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِمَا أَمْضَوْهُ مِنْ آرَائِهِمْ . وَأَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ . فَإِذًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إمْضَاءَ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . وَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا ( بِهِ ) وَهُوَ غَيْرُ مُصِيبٍ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ , فَوَاجِبٌ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كُلِّفَهُ مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادٍ , لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مُخْطِئًا فِيهِ بِعَيْنِهِ . فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَتِهِ ؟ قِيلَ : وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ أَيْضًا مُسْتَحِيلٌ , لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ مُوجِبًا بِالِاجْتِهَادِ - وَالِاجْتِهَادُ صَوَابٌ مَأْمُورٌ بِهِ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ خَطَأً غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ , لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالسَّبَبِ وَمَنْهِيًّا عَنْ مُسَبَّبِهِ . فَإِنْ قِيلَ : يَكُونُ هَذَا كَمَنْ قَصَدَ بِرَمْيَتِهِ مُشْرِكًا فَأَصَابَ مُسْلِمًا , فَيَكُونُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا فِي إصَابَتِهِ الْمُسْلِمَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا وَالِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ , وَهُوَ أَحَدُ الْأُصُولِ الَّتِي يُرَدُّ إلَيْهَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّامِيَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّسْدِيدِ وَالرَّمْيِ نَحْوُ الْكَافِرِ , وَالْكَافِرُ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالرَّمْيِ , وَالرَّامِي غَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْإِصَابَةِ , لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّمْيِ الَّذِي يُوجِبُ الْإِصَابَةَ , وَبَيْنَ الرَّمْيِ الَّذِي لَا يُوجِبُهَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي طَالِبِ الْإِصَابَةِ , كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ إنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي كُلِّفَهُ الِاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ . فَإِذَا أَخْطَأَ رَمْيَ الْكَافِرِ , وَأَصَابَ مُسْلِمًا , فَهُوَ غَيْرُ مُخْطِئٍ لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ الْحُكْمِ , وَإِنْ أَخْطَأَ الْمَطْلُوبَ . كَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ , وَإِنْ أَخْطَأَ الْمَطْلُوبَ فَقَدْ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفَهُ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الدِّينِ , وَلَا خَطَأً فِي الْحُكْمِ كَانَ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ . كَمَا أَنَّ خَطَأَ الرَّامِي لَيْسَ خَطَأً لِلْحُكْمِ , وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ , وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِرَمْيِهِ مُصِيبٌ لِحُكْمِهِ , مَأْجُورٌ عَلَى فِعْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ , مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي اجْتِهَادِهِ , مُصِيبٌ لِحُكْمِهِ مَعَ خَطَئِهِ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ بِاجْتِهَادِهِ . كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ رَمْيَ مُؤْمِنٍ فَأَصَابَ كَافِرًا حَرْبِيًّا , كَانَ رَمْيُهُ مَعْصِيَةً ( مَعَ إصَابَتِهِ الْكَافِرَ , لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي عَنْهُ كَانَتْ الْإِصَابَةُ مَعْصِيَةٌ ) إنْ كَانَ قَتْلُ الْكَافِرِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مَأْمُورًا بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ رَامِي الْكَافِرِ إذَا أَصَابَ الْمُسْلِمَ فَقَتَلَهُ , وَكَانَ فِعْلُهُ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ كَمَا كَانَ رَمْيُهُ لِلْمُسْلِمِ مَعْصِيَةً , وَكَانَ قَتْلُهُ لِلْكَافِرِ بِهَذَا الرَّمْيِ مَعْصِيَةً , لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَك مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ طَاعَةً فَمُسَبَّبُهُ طَاعَةٌ , وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَعْصِيَةً فَمُسَبَّبُهُ مَعْصِيَةٌ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ ( مِنْ غَيْرِ ) سَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ فَلَا يَجُوزُ , لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقْصِدَهُ بِالرَّمْيِ وَالْقَتْلِ , كَمَا أَمَرَهُ بِقَصْدِ الْكَافِرِ بِالرَّمْيِ وَالْقَتْلِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي وُجُوهٍ يَكُونُ قَتْلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى , كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ , وَيُرْجَمُ الزَّانِي , وَيُقْطَعُ السَّارِقُ , بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ , وَيَكُونُ ( إيقَاعُ ) ذَلِكَ بِهِمْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُقُوبَةِ , بَلْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالْأَعْوَاضَ الْجَسِيمَةَ , وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِنَا الْكَافِرَ , لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونُ الرَّامِي لِلْكَافِرِ إذَا أَصَابَ مُسْلِمًا مُطِيعًا فِي رَمْيَتِهِ وَإِصَابَتِهِ , وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا ( وَ ) وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ الرَّامِيَ مَأْمُورٌ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ , لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إيهَامِ الْخَطَأِ , وَمَا لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ فِي الْمُسْلِمِ . وَأَمَّا إذَا رَمَى الْمُسْلِمَ وَأَصَابَ الْكَافِرَ فَإِنَّ هَذَا الرَّمْيَ مَعْصِيَةٌ . وَإِنْ أَصَابَ بِهِ الْكَافِرَ . وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْكَافِرِ مَعْصِيَةً فِي أَحْوَالٍ , لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بِقَتْلِهِ , فَإِذَا كَانَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ قَدْ يَكُونُ طَاعَةً . وَقَتْلُ الْكَافِرِ قَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً , زَالَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَتِنَا , بِمَا حَاوَلَ بِهِ السَّائِلُ التَّشْنِيعَ بِتَجْوِيزِنَا كَوْنَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ طَاعَةً , وَعَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِ الْكَافِرِ , أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا فِي الْمَعْنَى , وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي اللَّفْظِ , وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ , فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ , مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَنَيْنَا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فِي الْمُسْلِمِ . فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ هُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ عِنْدَ اسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا غَمُضَتْ دَلَالَتُهُ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُخْطِئِ لَهُ . وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأُصُولِ : مِنْهَا أَنَّ الْقَائِمَ فِي صَلَاتِهِ قَدْ يَنْسَى , فَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ , وَقَدْ يَسْجُدُ قَبْلَ الرُّكُوعِ , وَيُسَلِّمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّسْلِيمِ , وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ وَجَمْعُ الْبَالِ وَتَرْكُ الْفِكْرِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ , فَيَسْلَمُ مِنْ الْوَهْمِ وَالْخَطَأِ . وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْمُجْتَهِدِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُعْذَرُ الْمُخْطِئُ فِيهَا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ لَا يُعْذَرُ فِيهِ إذَا أَخْطَأَ , لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ , وَاسْتِوَاءِ الْمُحْتَرِزِ وَغَيْرِهِ فِيهِ . قِيلَ : أَمَّا النَّاسِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ حُكْمُ غَيْرِهِ , وَمَا نَسِيَهُ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمُهُ , وَلَا مَأْمُورًا بِهِ سَوَاءٌ كَانَ نِسْيَانُهُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ , أَوْ لَا يُمْكِنُ , وَقَدْ أَدَّى فَرْضُهُ الَّذِي عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ النِّسْيَانِ فَرْضُ غَيْرِهِ , وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ عِنْدَ الذِّكْرِ حُكْمٌ آخَرُ , لَزِمَ فِي هَذِهِ الْحَالِ , وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي وَبَيْنَ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ , لَمْ يُكَلَّفْ حُكْمًا غَيْرَهُ . وَلَوْ جَعَلْنَا النَّاسِيَ لِمَا ذَكَرْت أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ لَسَاغَ رَدُّ الْمُجْتَهِدِ إلَيْهِ , لِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِي حَالِ النِّسْيَانِ لِمَا هُوَ نَاسٍ لَهُ وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الذِّكْرِ حُكْمٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ قَبْلَ الذِّكْرِ , وَبِذَلِكَ جَاءَ السَّمْعُ أَيْضًا , وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا : أَخْبِرْنَا عَنْ النَّاسِي الَّذِي وَصَفْت وَذَكَرْت أَنَّهُ لَوْ تَحَفَّظَ لَمَا نَسِيَ , أَتَقُولُ : إنَّ الْمُجْتَهِدَ وَزَّانَهُ , وَفِي مِثْلِ حَالِهِ , وَأَنَّهُ لَوْ تَحَفَّظَ وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : فَقَدْ جُعِلَ لَهُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ مُهْلَةً فِي اسْتِئْنَافِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى , وَثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى , فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَجِدْ نَفْسَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي بَابِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِصَابَتِهِ عِنْدَك . فَكَيْفَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَاسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ ؟ كَيْفَ ( لَمْ ) يَعْلَمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَك ؟ كَمَا تَرَى الْإِنْسَانَ إذَا تَحَفَّظَ وَجَمَعَ بَالَهُ وَفِكْرَهُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى صَلَاتِهِ , لَا يُخْطِئُ وَلَا يَسْهُو . فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفْت مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْوُصُولِ إلَى إدْرَاكِهِ وَإِصَابَتِهِ عُرُوضُ مَا ذَكَرْت لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَنَا سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِاسْتِيفَاءِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ . ( وَ ) فِي وُجُودِنَا الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ يُوَصِّلُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ , وَأَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ بِاجْتِهَادِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كُلِّفَهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّاسِيَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَنَحْوَ ذَلِكَ , أَلَيْسَ إذَا كَانَ خَلْفَهُ مِمَّنْ يَأْتَمُّ بِهِ مَنْ يُرَاعِي أَفْعَالَ صَلَاتِهِ إذَا نَبَّهَهُ عَلَيْهِ , وَأَعْلَمَهُ مَوْضِعَ إغْفَالِهِ وَنِسْيَانِهِ , فَذَكَرَ وَرَجَعَ إلَى الصَّوَابِ ؟ فَخَبِّرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ حِينَ اخْتَلَفُوا كَيْفَ لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصِيبُ مِنْهُمْ الْمُخْطِئَ عَلَى مَوْضِعِ خَطَئِهِ وَإِغْفَالِهِ , فَإِنْ نَبَّهَهُ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوَابِ , كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ خَطَأَهُ كَمَا يَسْتَدْرِكُهُ النَّاسِي إذَا ذُكِّرَ وَنُبِّهَ ؟ وَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْمُخْطِئِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَنْسَى إنْسَانٌ بَعْضَ فُرُوضِ صَلَاتِهِ , وَخَلْفَهُ قَوْمٌ يَأْتَمُّونَ بِهِ , وَيُرَاعُونَهُ , ثُمَّ لَا يُوقِفُونَهُ عَلَى خَطَئِهِ , وَلَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِ ؟ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا وُقُوعُهُ , فَكَيْفَ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِ تَوْقِيفِ الْمُخْطِئِ عِنْدَهُمْ , وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَقْبَلْ , وَلَمْ يُرَاجَعْ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , فَكَيْفَ اتَّفَقُوا عَلَى إجَازَةِ أَحْكَامِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ , وَسَوَّغُوا لَهُمْ الْفُتْيَا بِهَا , وَإِلْزَامَ النَّاسِ إيَّاهَا , وَأَحْسَبُهُمْ جَعَلُوهُمْ مَعْذُورِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ , فَكَيْفَ أَجَازُوا لَهُمْ إمْضَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ ؟ وَمَنْ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْعَالِمِ إجَازَةَ خَطَأِ الْجَاهِلِ عَلَى نَفْسِهِ ؟ وَكَانَ لَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَنْهَوْهُمْ فِي أَنْ يَتَعَدَّوْا أَحْكَامَهُمْ , إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا خَطَأٌ , خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنْ لَا يُلْزِمُوهَا أَنْفُسَهُمْ , وَأَنْ لَا يُلْزِمُوا النَّاسَ قَبُولَهَا وَإِنْفَاذَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ . فَإِنْ نَهَوْهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا , وَأَوْقَفُوهُمْ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِمْ فَلَمْ يَنْتَبِهُوا , وَعَرَّفُوهُمْ مَوْضِعَ الدَّلِيلِ فَلَمْ يَقْبَلُوا , وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ فَأَصَرُّوا عَلَى الْخَطَأِ , كَانَ لَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ الْخَوَارِجِ , وَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ , أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , وَيَمْنَعُونَ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَأَحْكَامَهُ الَّتِي هِيَ خَطَأٌ عِنْدَهُمْ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ حِينَ رَأَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يُجِيزُ الصَّرْفَ وَيُبِيحُ الْمُتْعَةَ أَنْكَرُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِحُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا بِالتَّحْرِيمِ ؟ فَلَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ بِذَلِكَ انْتَهَى عَنْ قَوْلِهِ فِيهِمَا , وَرَجَعَ عَنْهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ صَوَابًا أَنْكَرُوهُ , وَلَمْ يَعْذُرُوهُ ؟ وَلَوْ كَانَ سَبِيلُ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَهُمْ كَسَبِيلِ النَّاسِي لِرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ , لَمَّا تَرَكُوا مُوَافَقَتَهُ , كَمَا لَا يَتْرُكُ الْمَأْمُومُ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ إذَا نَسِيَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا أَعْطَيْتُمُونَا أَنَّ الْأَشْبَهَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ , فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئُهُ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ . قِيلَ لَهُ : نَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ هُنَاكَ أَشْبَهَ هُوَ الْمَطْلُوبُ , فَلَيْسَ إصَابَةُ الْأَشْبَهِ هِيَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ , إذَا لَمْ يُؤَدِّنَا الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ هُوَ مَا أَدَّانَا ( الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ ) , وَغَلَبَ فِي ظَنِّنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَشْبَهُ , وَلَمْ نُكَلَّفْ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ . وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ : إنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ مُحَاذَاتَهَا بِاجْتِهَادِهِ , وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا , لِأَنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ السَّبِيلُ إلَيْهَا , وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ تَحَرِّيه وَاجْتِهَادُهُ . وَكَمَا يُسَدِّدُ الرَّجُلَانِ سِهَامَهُمَا نَحْوَ كَافِرٍ فَيُصِيبُ أَحَدُهُمَا وَيُخْطِئُهُ الْآخَرُ , وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ , وَالْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ , لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا الْإِصَابَةَ , إذْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُمَا سَبِيلٌ إلَيْهَا وَكَمَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَبَقَ لَهُ عَبْدٌ فَأَرْسَلَ عَبِيدًا لَهُ فِي طَلَبِهِ كَانَ مَعْلُومًا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ حَكِيمًا , أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إصَابَتَهُ , وَإِنَّمَا أَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادَ فِي الطَّلَبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ , كَذَلِكَ الْأَشْبَهُ لَهُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهَا , وَإِنَّمَا كُلِّفَ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ , فَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي كُلِّفَهُ لَا غَيْرُهُ . وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُصُولِ الشَّرْعِ . مِنْهَا : أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِسْلَامَ وَالْإِقْرَارَ بِشَرَائِعِهِ , وَالْتِزَامَ أَحْكَامَهُ كَانَ عَلَيْنَا مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ , وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِ . وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُغَيَّبِ أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا مُعَطَّلًا , وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ الْمُغَيَّبِ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قوله تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجْرِيهِمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِمْ , مَعَ ( عِلْمِ ) اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُنَافِقُونَ , وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مُحِيطًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَانَ الظَّاهِرُ دُونَ الْبَاطِنِ , وَالْحَقِيقَةُ ( الَّتِي ) هِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ اسْتِشْهَادِ الْعُدُولِ ( فِي الظَّاهِرِ , وَلَا يَكُونُ مَنْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ قَوْمٍ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ) , وَإِنْ كَانُوا فِي الْمَغِيبِ غَيْرَ عُدُولٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ كَانَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ : بَنُو لِحْيَانَ , وَالْعَضَلُ , وَالْقَادَةُ , وَأَظْهَرُوا لَهُ الْإِسْلَامَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُوَجِّهَ لَهُمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ . فَوَجَّهَ مَعَهُمْ ثَلَاثَةً مِنْ الصَّحَابَةِ : خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ , وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي الْأَفْلَحِ , وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ . فَغَدَرُوا بِهِمْ , وَقَتَلُوا عَاصِمًا , وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ رحمهما الله , وَأَخَذُوا خُبَيْبًا , وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ دَسِيسًا مِنْ قَبِيلِ قُرَيْشٍ , ضَمِنُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالًا , فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قُنُوتِهِ حِينَ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ حَالِهِمْ , وَلَمْ يَعْلَمْ الْغَيْبَ فِي ضَمِيرِهِمْ , وَمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرِ , فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِغَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهِمْ , وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ , وَقِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ حِينَ اسْتَاقُوا الْإِبِلَ وَارْتَدُّوا . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُكَلَّفًا فِيهِ لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ , دُونَ الْحَقِيقَةِ , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ تَقْدِيرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا كُلِّفَ فِيهِ الظَّاهِرَ وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمَغِيبَ , لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ , وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عِلْمِ حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ , لَعَلِمَهُ مَنْ اجْتَهَدَ وَبَالَغَ فِي طَلَبِهِ . وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئُهُ عَاصِيًا , وَلَأَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ فِي حَوَادِثِ الْفُتْيَا , وَلَمَا أَجَازُوا خَطَأَ الْمُخْطِئِ عَلَى سَبِيلِ مَا بَيَّنَّاهُ , ثُمَّ احْتَسَبُوا الْمُخْطِئَ مَعْذُورًا بِاجْتِهَادِهِ فِي خَطَئِهِ . فَكَفَّ عُذْرَ مَنْ عَرَفَ خَطَأَهُ , ثُمَّ أَجَازَ حُكْمَهُ عَلَى النَّاسِ , وَعَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ الْعُذْرِ مَعَ وُقُوعِ ( الْعِلْمِ ) بِالْخَطَأِ . وَمِمَّا يَزِيدُ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ وُضُوحًا وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ , وَإِنَّمَا لَمَّا نَذْكُرُ مَعَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ , أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ , أَمْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ النَّظِيرِ ( وَالرَّأْيِ ) وَاَلَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حَتَّى يَعْلَمَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ , فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ السَّلَفُ عَالِمِينَ بِخَطَأِ الْمُخْطِئِ مِنْهُمْ , فَإِنَّهُ حَاكِمٌ بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ بَيَّنَّا ( فَسَادَ ) ذَلِكَ . وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِاجْتِهَادِهِ إذَا رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى خِلَافَهُ , وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , مَعَ فَقْدِ عِلْمِهِ بِإِصَابَةِ الْمَطْلُوبِ . وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , سَوَاءٌ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ أَوْ أَخْطَأَهَا , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَطَأِ . فَثَبَتَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ الْحُكْمِ . وَكَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إذَا تَحَرَّى مُحَاذَاةَ الْكَعْبَةِ كَانَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ . وَكَمَا أَنَّ الرَّامِيَ لِلْكَافِرِ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِإِرْسَالِ سَهْمِهِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ كَانَ مَأْمُورًا لِمَا كُلِّفَ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَصْلُ بَيْنَ التَّحَرِّي لِلْكَعْبَةِ , وَالرَّمْيِ , وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ , وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْعِتْقِ , وَالطَّلَاقِ , وَنَحْوُهَا تَرْكُ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْكَعْبَةِ , وَلَا عَيْنُ الْكَافِرِ الْمَرْمِيِّ , وَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْحَادِثَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ جَوَازِ تَرْكِ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا وَمَا فَصَلْت بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , فَإِنَّهُ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّ جَوَازَ تَرْكِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُوجِبْ جَوَازَ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ مُحَاذَاتِهَا , فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ , وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ كَمَا جَازَ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ , وَكَذَلِكَ جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَارَةِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِمَا يُودِي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , كَمَا جَازَ تَرْكُ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ , ثُمَّ لِمَا أُمِرَ بِإِمْضَاءِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ , وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا , بِأَنَّ نَفْسَ الْكَعْبَةِ وَالْمَرْمِيِّ لَيْسَ مَأْمُورًا , فَسُؤَالٌ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ سَائِلِهِ بِحَقِيقَةِ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَةُ الْأَشْبَهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ , وَالْأَشْبَهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ ( مُوَافَقَتَهُ , وَتِلْكَ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهَا لِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُجْتَهَدِ ) غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا , كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِالْكَعْبَةِ , وَلَا بِالْكَافِرِ الْمَرْمِيِّ , وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِتَحَرِّي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ ( وَمُحَاذَاةُ الْكَعْبَةِ ) هِيَ فِعْلُهُ إذَا فَعَلَهَا , وَمَأْمُورٌ بِالتَّسْدِيدِ نَحْوَ الْكَافِرِ , وَمُحَاذَاتُهُ بِرَمْيَتِهِ , وَذَلِكَ فِعْلُهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْمِيُّ مِنْ فِعْلِهِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا : اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا , وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْآرَاءِ , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قِصَرِ رَأْيِهِ عَنْ إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مُخْطِئًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى . وَسَبِيلُ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , سَبِيلُ الِاجْتِهَادِ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ . فَصْلٌ : فِي سُؤَالَاتِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ

قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ , وَقَوْلُ السَّلَفِ , وَالنَّظَرُ . فَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفِقْهِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَابَ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ , وَذَمَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ , وَعَنَّفَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } , وقوله تعالى { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ النَّهْيَ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ نَهْيًا عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . فَدَلَّ أَنَّ مَا أَدَّى إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ انْتَفَى مِنْ الِاخْتِلَافِ , وَنَفَاهُ عَنْ  أَحْكَامِهِ , وَأَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُوجِبُ جَوَازَ الِاخْتِلَافِ , وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الظَّنِّ وَالْحُكْمِ بِالْهَوَى . وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى إلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ دَلِيلٍ يُوجِبُ لَهُ الْقَوْلَ بِهِ . الْجَوَابُ : يُقَالُ لَهُمْ : أَخْبِرُونَا عَنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَعَابَ أَهْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ , وَنَهَى عَنْهُ , هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ . قِيلَ لَهُمْ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْهَادِيَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْ هَذَا الذَّمِّ , وَمِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا النَّهْيِ , لِكَثْرَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الْفُتْيَا . فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ . فَقَدْ صِرْتُمْ إلَى مَذْهَبِ الطَّاعِنِينَ فِي السَّلَفِ مِنْ سَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ . وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ , لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي الْأَصْلِ , وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ هَهُنَا فِي تَعَذُّرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ . فَإِذَا كَانَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعْذُورِينَ وَمَأْجُورِينَ , فَكَيْفَ ( يَجُوزُ ) أَنْ يَكُونُوا رضي الله عنهم مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ , فَقَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِنَا جَمِيعًا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا , وَلَا دَاخِلٍ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُوجِبَةً لِذَمِّ الِاخْتِلَافِ عَامًّا , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ عِنْدَ الْفَتَاوَى فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ مُسْتَحِقِّينَ لِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْمُومِينَ بِاخْتِلَافِهِمْ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ , فَلَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَاتِ .  فَثَبَتَ لِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مَذْمُومًا , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ مَذْمُومًا , نَحْوُ اخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ , وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِيهِمَا . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي أَحْكَامِ الْمُتَعَبِّدِينَ , وَلَمْ يَكُنْ مَعِيبًا وَلَا مَذْمُومًا , بَلْ كَانَ حِكْمَةً وَصَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَمْ يَنْفِهِ قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } , لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِهِ , وَأَحْكَامِهِ , هُوَ اخْتِلَافُ التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي , وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى . وَسَبِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا سَبِيلُ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ , وَالِاتِّفَاقِ , لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَعَبِّدٌ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ غَيْرِهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ . وَإِنْ كَانَ مَا تَعَبَّدَ بِهِ خِلَافُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ غَيْرُهُ . كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِهِ لِحُكْمِهِ , وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ تَخْطِئَةُ الطَّاهِرَةِ فِيمَا تَعَبَّدَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ الْحُكْمِ , كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُمْ جَمِيعًا مُصِيبُونَ . وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى , فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَمَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ , وَالْأَشْبَاهِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ , وَجَعَلَهَا أَمَارَاتٍ لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَلَوْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ حَاكِمًا بِالظَّنِّ وَالْهَوَى لَكَانَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ حَاكِمًا بِالْهَوَى , وَلَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ ,  وَلَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ , فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ فِيهِمْ , كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام فِي الْحَرْثِ , فِي قوله تعالى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ } إلَى وقوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } . قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ ( عَلَى ) أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام كَانَ هُوَ الْمُصِيبُ لِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ دُونَ دَاوُد عليهما السلام . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ : أَنْ لَيْسَ فِي قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } دَلِيلٌ ( عَلَى ) أَنَّ دَاوُد لَمْ يُفَهَّمْهَا , كَمَا أَنْ لَيْسَ فِي قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا } دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام . وَكَمَا أَنَّ قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ } لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ , إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ .  وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ , فَسَقَطَ سُؤَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا حُكْمُ دَاوُد فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ ( بِحُكْمٍ ) اسْتَمَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهَا عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } مَعْنَاهُ : أَنَّا عَلَّمْنَاهُ حُكْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ , وَلَمْ يُصِبْهَا دَاوُد عليه السلام ( فَخَصَّ سُلَيْمَانَ ) بِالْفَهْمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفَاهُ مِنْ الْحُكْمِ . قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مُصِيبَانِ جَمِيعًا : قوله تعالى : { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا , وَوَصَفَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ . وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَعَبَّدَا بِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ كَانَ دَاوُد مُصِيبًا لِلْحُكْمِ لِمَ نَقَضَهُ سُلَيْمَانُ حِينَ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام حَكَمَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ حُكْمِ دَاوُد فِيهَا ؟ قِيلَ لَهُ : الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَائِمٌ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَإِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْقَوْمِ الْحُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَمْ يُمْضِهِ , حَتَّى لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ قَالَ : الْحُكْمُ عِنْدِي كَيْتَ وَكَيْتَ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى سُلَيْمَانَ عليه السلام فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ , وَنَصَّ لَهُ  عَلَيْهَا , فَكَانَ قَوْلُ دَاوُد فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَمَا نَصَّ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ خِلَافُ حُكْمِ دَاوُد قَبْلَ أَنْ يُمْضِيَ دَاوُد مَا رَآهُ فِيهَا . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهُ فَهَّمَهَا سُلَيْمَانَ , يَعْنِي بِنَصٍّ مِنْ عِنْدِهِ , وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ لِدَاوُدَ فِي الْحُكُومَةِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَاد . مِنْهَا : إذْنُهُ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ } وَمِنْهَا : مَا كَانَ مِنْهُ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى , وَقَدْ كَانَ فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ , فَلَمْ يُعَرَّ مِنْ الْخَطَأِ فِيهِ . ( قِيلَ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْقَفَهُ عَلَى حَقِيقَةِ النَّظِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَطَأُ ) خَطَأً فِي الدِّينِ , وَلَكِنَّهُ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ , وَعُدُولٌ عَنْ حَقِيقَةِ النَّظِيرِ عَلَى مَا قُلْنَا . وَأَمَّا قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْك } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَنْبًا . وَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ ذَنْبٌ . وَالْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } يَعْنِي سَهَّلَ عَلَيْكُمْ .  وَاحْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ , عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ لَهُمْ : وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ الْحِصْنِ أَوْ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ } قَالُوا : فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ , وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ : إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ . وَبِقَوْلِ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ , فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , فَإِنْ اجْتَهَدْت فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ } , وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ مِثْلَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ  وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } , ( قَالُوا ) : فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُنَبِّئُ عَنْ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُتْيَا , وَهِيَ نَافِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ . الْجَوَابُ : أَمَّا حَدِيثُ , بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ } يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانُوا عَرَفُوهُ حِينَ فَارَقُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ , لِأَنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِهِ . وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ إذَا نَزَلُوا عَلَيْهِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا عِنْدَ نُزُولِهِمْ , فَيَلْزَمُنَا إمْضَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَرَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَصْلَحَ : مِنْ قَتْلٍ , أَوْ سَبْيٍ , أَوْ مَنٍّ , وَاسْتِبْقَاءٍ , وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقَوْمِ . فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنْتُمْ الْآنَ قَبْلَ نُزُولِهِمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ , وَإِنَّمَا تَعْلَمُونَهُ إذَا اجْتَهَدْتُمْ فِي أُمُورِهِمْ بَعْدَ نُزُولِهِمْ , وَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ , لَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ . فَيَكُونُ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ التَّعْزِيرِ لَهُمْ مِمَّا ( لَمْ ) يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ , وَعَسَى أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ  حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا فِيهِمْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إذَا أَصَابَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ - وَإِصَابَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ - ( فَلَهُ أَجْرَانِ ) وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ , فَيَكُونُ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ , مُخْطِئًا فِي أَحَدِهِمَا لِلْأَشْبَهِ , لَا لِلْحُكْمِ , إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَشْبَهُ هُوَ الْحُكْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ , وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الْحُكْمِ , وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ , كَخَطَأِ الرَّامِي لِلْكَافِرِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي أَحَدِهِمَا أَجْرَيْنِ , وَفِي الْآخَرِ أَجْرًا وَاحِدًا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَجْرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَعْدِ لَهُ بِالتَّفْضِيلِ , وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عِنْدَنَا , لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا وَعَدَ أَحَدَهُمَا زِيَادَةَ أَجْرٍ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ , وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ . وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعِدَّ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ , كَمَا هُوَ جَائِزٌ ( مُتَعَالَمٌ بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ حَكِيمٌ ) مِنْ الْحُكَمَاءِ لِرَجُلَيْنِ : ارْمِيَا هَذَا الْكَافِرَ . فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمَا فَلَهُ دِينَارَانِ , وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ ( مُمْتَنِعًا وَيَكُونُ ) الْفَضْلُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُصِيبِ مِنْهُمَا , تَحْرِيضًا لَهُمَا , وَتَطْيِيبًا فِي وُقُوعِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّسْدِيدِ , وَتَحَرِّي إصَابَةِ الْمَرْمَى , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا . وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَوَقَعَ مِنْهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ , وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي ذَلِكَ . كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ لِلْمُصِيبِ الْأَشْبَهَ , غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِنَفْسِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا وَعَدَ بِهَا تَحْرِيضًا وَحَثًّا عَلَى التَّقَصِّي فِي الِاجْتِهَادِ , وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحَرِّي الْمَطْلُوبِ .  فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ . قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ أَجْرًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ , حِينَ كَانَ الْوَعْدُ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلٍ يَكُونُ مِنْهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } . فَسَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ . وَوَجْهٌ آخَرُ فِي إيجَابِهِ الْأَجْرَيْنِ لِمَنْ أَصَابَ الْأَشْبَهَ مِنْهُمَا : وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ مُتَعَلِّقَةً بِضَرْبٍ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ , يُصَادِفُ بِهَا مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ , وَإِنْ كَانَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا دُونَهَا مِنْ التَّقَصِّي وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا , وَلَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا لِأَكْثَرَ مِنْهُ , وَلَا يُصِيبُ الْأَشْبَهَ مَعَ ذَلِكَ , فَيَكُونُ الضَّرْبَانِ جَمِيعًا مِنْ الِاجْتِهَادِ جَائِزَيْنِ , وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ , لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ . إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ لِلْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ مُسْتَحَقًّا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِ زِيَادَةِ اجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِ الَّذِي قَصَّرَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ . وَهَذَا جَائِزٌ سَائِغٌ , نَحْوُ وُرُودِ الْعِبَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : { وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ , وَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ الْفَضْلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } , فَأَبَاحَ لَنَا الْإِفْطَارَ , وَأَخْبَرَ بِالْفَصْلِ .  { وَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً مَرَّةً , وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ , ثُمَّ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ , ضَاعَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ } . وَأُبِيحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَإِنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا كَانَ أَفْضَلَ . ( وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ لَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ , فَإِنْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَهَا كَانَ أَفْضَلَ ) وَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِي إتْيَانِهَا , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّقَصِّي ( فِيهِ ) , وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ , فَيَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُصَادَفَةُ الْمَطْلُوبِ , الَّذِي لَوْ انْكَشَفَ أَمْرُهُ لِلْمُجْتَهِدِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ . وَاجْتِهَادُ دُونِهِ : قَدْ أُبِيحَ لِلْمُجْتَهِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ , وَلَا يَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ , وَإِنْ ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ أَنَّهُ ( قَدْ ) وَافَقَهُ . فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ , وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا , كَمَا قُلْنَا فِي نَظَائِرِهِ - الَّتِي وَصَفْنَا - فِي النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ . ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ بِهَذَا الْخَبَرِ : خَبِّرْنَا عَنْ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ , هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يَكُونُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ إذَا فَعَلَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بِهِ , وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى الْخَطَأِ ؟ وَإِنْ قَالَ : هُوَ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ . قِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى خَطَأٍ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ ؟ هَذَا خَلْفٌ فِي الْقَوْلِ .  وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ( قَالَ ) : { وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ , وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ } . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا , مَا هُنَاكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ أَحَدٍ . فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ فِي الْمَقَايِيسِ مُخْتَلِفَةٌ . فَمِنْهَا : مَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , وَالْحَقُّ فِيهِ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ . وَمِنْهَا : مَا يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا , لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ ( الْمَنْصُوصَةِ عَلَيْهِ ) وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ بَعْضٍ , وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ , وَمَا يَجُوزُ مِنْهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ , وَأَعْلَمُ بِمَوَاضِعِ النُّصُوصِ مِنْ بَعْضٍ , فَلَيْسَ إذًا فِي كَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْفِي صِحَّةَ قَوْلِنَا . وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ : مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ : ( أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ . وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ ) . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ ( فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ يَتَحَدَّثُ إلَيْهَا , فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ , وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا , فَقَالُوا : لَا شَيْءَ عَلَيْك , إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ , وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ , فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا , وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك , أَرَاك قَدْ ضَمِنْت , فَقَبِلَ قَوْلَهُ دُونَهُمْ , وَضَمِنَهُ ) . فَقَدْ أَطْلَقَ عَلِيٌّ رضي الله عنه اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ . وَبِمَا رُوِيَ ( أَنَّ عُمَرَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَصَبْت أَصَابَ اللَّهُ بِكَ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ وَلَكِنِّي لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ ) .  وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَاتِبًا كَتَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ الْقَضَاءِ , سُئِلَ عَنْهُ , فَكَتَبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ تَعَالَى عُمَرَ , فَأَمَرَهُ أَنْ يَمْحُوَهُ وَيَكْتُبَ : هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ , وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ وَمَا يُؤَدِّيه إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى , لَمَا امْتَنَعَ كَأَنَّ يَكْتُبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ . وَبِقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ : ( فَمَنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا , أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي ) . وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ , وَلَا يَجْعَلُ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ؟ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ ) . وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْته أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى ) نَزَلَتْ بَعْدَ قوله تعالى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } . وَبِقَوْلِ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : ( أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْت رَجُلًا عَلَى فَاحِشَةٍ . أَكُنْتَ تُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؟ قَالَ : لَا , حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي , قَالَ : فَقُلْتُ : لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْتُ أَنَّك لَمْ تُصِبْ ) . وَبِمَا رُوِيَ ( أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْ صَيْدٍ أَصَابَهُ حَلَالٌ ( يَأْكُلُ ) مِنْهُ الْمُحْرِمُ ؟ فَأَفْتَى بِأَكْلِهِ , ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ , فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ فُتْيَاهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لَأَوْجَعْتُك ) . ( وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : إنَّ شُرَيْحًا يَقْضِي فِي مُكَاتَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ : أَنَّ الدَّيْنَ وَالْكِتَابَةَ بِالْحِصَصِ , قَالَ : أَخْطَأَ شُرَيْحٌ ) , قَالُوا : فَقَدْ أَجَازَ هَؤُلَاءِ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ , وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَهُ عَلَيْهِمْ .  الْجَوَابُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ : وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ : إنَّمَا هُوَ إشْفَاقٌ ( مِنْهُمَا ) أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ آرَائِهِمَا , وَقَدْ كَانُوا يَعْرِضُونَ آرَاءَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرُوا , هَلْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْحَاضِرِينَ ؟ ( فَأَخْبَرَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ ) هُنَاكَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ رَأْيِهِمَا , فَاسْتِعْمَالهمَا لِلرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَطَأٌ , مِنْهُمَا وَمِنْ الشَّيْطَانِ , لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلرَّأْيِ مَعَ السُّنَّةِ , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه , تَسْأَلُهُ عَنْ مِيرَاثِهَا , قَالَ : ( مَا أَجِدُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا , وَسَأَلَ النَّاسَ , فَلَمَّا سَأَلَ أُخْبِرَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمَةً فِي مِيرَاثِهَا ) فَأَشْفَقَ حِينَ رَأَى فِي الْكَلَالَةِ مَا رَأَى , أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ رَأْيِهِ . وَيُبَيِّنُ لَك هَذَا : قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ( أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي , وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي , إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا أَعْلَمُ ) فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكَلَالَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي , لَمْ يَكُنْ قَوْلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ , وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ , مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( بِخِلَافِهِ ) . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه : لِعُمَرَ رضي الله عنه , فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ أَخْطَئُوا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدِي , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يَرْوِيه الْحَسَنُ , وَالْحَسَنُ لَمْ يُشَاهِدْ ( هَذِهِ ) الْقِصَّةَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه : مَا أَدْرِي أَصَبْت أَمْ أَخْطَأْت ؟ هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : لَا أَدْرَى أَصَبْتُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْأَشْبَهَ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ , أَمْ لَا .  وَأَمَّا امْتِنَاعُ عُمَرَ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ : هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ , فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ , يُوهِمُ أَنَّهُ ( قَالَ ) مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِيه . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ } وَمُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - : مَا نَصَّ عَلَيْهِ , وَأُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَلَا يَتَّقِ اللَّهَ زَيْدٌ ؟ وَقَوْلُهُ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته : أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ , فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا . وَذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ مُخَالِفَهُ فِي الْجَدِّ , تَارِكٌ ( لِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ) , فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيمَنْ يُخَالِفُ فِي الْجَدِّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته , لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : إنَّ مَنْ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْجَدِّ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ , وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُتْيَا , إلَّا قَوْمًا خَارِجِينَ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ . وَظَاهِرُ ذَلِكَ عِنْدَنَا : مِنْ قَوْلِهِ : إنْ أَخْبَرَ عَنْ اسْتِبْصَارِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ , فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُصِيبٌ - فِي الْحَقِيقَةِ - النَّظِيرَ , فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ - إعْلَامًا مِنْهُ لِلسَّامِعِينَ - بِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ , وَلَا نَاظِرٍ . وَلَوْ بَاهَلَ لَكَانَتْ مُبَاهَلَتُهُ مُنْصَرِفَةً إلَى أَنَّ هَذَا عِنْدِي كَذَا , وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ الْمُبَاهَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . ( فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى مُخَالِفِيهِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئِينَ لِلْحُكْمِ الَّذِي تَعَبَّدُوا بِهِ ) . وَكَذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْته , أَنَّ قوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ  أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نَزَلَ بَعْدَ قوله تعالى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } , إنَّمَا ( هُوَ ) إخْبَارٌ عَنْ عِلْمِهِ بِتَارِيخِ نُزُولِ السُّورَتَيْنِ , وَمَعْنَى الْمُبَاهَلَةِ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ , وَرَاجِعٌ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَوْ قُلْت غَيْرَ هَذَا لَرَأَيْت أَنَّك لَمْ تُصِبْ , فَإِنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّك لَمْ تُصِبْ عِنْدِي حَقِيقَةَ النَّظِيرِ , الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي فُتْيَاهُ : لَوْ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُكَ , فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَهْيَهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّسَرُّعِ فِي الْجَوَابِ , إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يَسْأَلُ عَنْهُ , مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ مِنْهُ إلَى إمَامِهِ , أَوْ إلَى مُشَاوَرَةِ قَوْمٍ مِنْ ذَوِي الْفِقْهِ .
  سُؤَالٌ : - وَمِمَّا يَسْأَلُ أَيْضًا : مِنْ أَيْنَ هَذَا الْمَذْهَبُ ؟ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ وَتَنَافِيهَا , وَإِلَى مَا يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَجَابَهُ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ . وَسُئِلَ آخَرُ : فَأَجَابَهُ فِيهَا بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ , وَمَعْلُومٌ : أَنَّ عَلَيْهِ الْمَصِيرَ إلَى قَوْلِ الْمُفْتِينَ , فَيُوجِبُ هَذَا عَلَيْهِ اعْتِقَادَ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ , فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ , وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَيَلْزَمُونَ عَلَى ذَلِكَ تَجْوِيزَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّيْنِ , فَيَأْمُرَ أَحَدَهُمَا بِإِيجَابِ حَظْرِ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ , وَيَأْمُرَ الْآخَرَ بِإِبَاحَتِهَا لَهُ بِعَيْنِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , فَيَكُونُ فَرْجٌ وَاحِدٌ مَحْظُورًا مُبَاحًا , عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ , فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي نَبِيَّيْنِ يَأْمُرَانِهِ بِذَلِكَ , لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ نَبِيٌّ وَاحِدٌ , بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : هَذَا مَحْظُورٌ عَلَيْك , وَمُبَاحٌ لَك فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ , يَمْتَنِعُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالُوا : وَيُوجِبُ تَجْوِيزَ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّبِيَّيْنِ : أَنْ يَكُونَ إنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ فَقَدْ أُبِيحَ لَهُ إذًا مُخَالَفَةُ أَمْرِ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ . قَالُوا : وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ لَوْ وَقَعَ لَهُ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ  جَمِيعًا , وَلَمْ يَبِنْ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُ مِنْ الْآخَرِ بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ : أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ , عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ ( مِنْهُمَا ) , وَأَنَّ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ , إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ , وَإِنْ كَانَ فِيهَا جَمَاعَةَ أَقَاوِيلَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا خَطَأً , وَالصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ غَيْرِهَا . الْجَوَابُ : أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَإِنَّمَا غَلِطَ السَّائِلُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ , فَظَنَّ فِيهِ شَيْئًا صَادَفَ ظَنَّهُ غَيْرَ حَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ , فَأَخْطَأَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِلْزَامِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُفْتٍ أَفْتَى بِشَيْءٍ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي اتِّبَاعَ فُتْيَاهُ وَمَذْهَبِهِ , فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ : إذَا تَسَاوَى عِنْدَك حَالُ الْفَقِيهَيْنِ , فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي قَبُولِ فُتْيَايَ أَوْ تَرْكِهَا , وَقَبُولِ فُتْيَا غَيْرِي , فَإِنْ أَخَذْتَ بِقَوْلِي , وَاخْتَرْتُهُ فَعَلَيْكَ فِيهِ كَيْتَ وَكَيْتَ . وَإِنْ اخْتَرْت قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِي - مِمَّنْ يَقُولُ بِضِدِّ مَذْهَبِي - لَمْ يَلْزَمْكَ اتِّبَاعُ قَوْلِي , وَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ مَا أَفْتَاكَ بِهِ دُونَ فُتْيَايَ . فَإِذَا أَفْتَاهُ الْمُفْتِيَانِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ , فَإِنْ يُصْدَرْ فُتْيَا ( كُلِّ ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قَائِلِهَا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ , فَيَكُونُ الْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ الَّذِي عَلَيْهِ , دُونَ غَيْرِهِ , وَيَكُونُ الْوَطْءُ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْحَاظِرِ مِنْهُمَا , غَيْرُ الْوَطْءِ الَّذِي يُجَامِعُ قَبُولَهُ مِنْ الْمُبِيحِ , إذَا أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ , وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ , فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَعْنًى غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ , وَهَذَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي النَّبِيَّيْنِ : جَائِزٌ أَنْ يَبْعَثَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : أَحَدُهُمَا بِحَظْرِ شَيْءٍ , وَالْآخَرُ بِإِبَاحَتِهِ , عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ , وَلَا يَقُولُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّبِيَّيْنِ : إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَحْظُورٌ عَلَيْك حَظْرًا بَاتًّا , بَلْ يَقُولُ لَهُ : إنْ اخْتَرْتَ الْمَصِيرَ إلَى هَذَا  الْقَوْلِ لَزِمَكَ حُكْمُهُ , وَلَك أَنْ لَا تَخْتَارَهُ , وَتَصِيرُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ الْآخَرِ , فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُك مَا يَخْتَارُهُ , وَيَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِمِثْلِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَاحِدٍ أَيْضًا . بِأَنْ يَقُولَ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بِأَنْ تُلْزِمَ نَفْسَك أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ , بِأَنْ يُقَالَ ( لَهُ ) : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَجْعَلَهُ طَلَاقًا , أَوْ لَا تَجْعَلَهُ كَذَلِكَ . فَإِنْ جَعَلْتَهُ طَلَاقًا كَانَتْ مُحَرَّمَةً , وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ طَلَاقًا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْكَ . كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ , وَبَيْنَ أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا , فَيَكُونَ عَلَى حَالِهَا , وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحَرِّمَ أَمَتَهُ بِالْعِتْقِ , وَبَيْنَ تَرْكِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالرِّقِّ . وَإِذَا كَانَ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ , جَازَ أَنْ يَفْرِضَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَيَكُونَ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى , كَمَا خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ نِسَائِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مُخَالَفَةَ أَحَدِ النَّبِيَّيْنِ إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ السَّائِلِ بِذِكْرِ الْمُخَالَفَةِ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ فَلَا , وَإِنْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْفِعْلِ فَجَائِزٌ , وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَقَدَ أَمْرَهُ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِك لَهُ , دُونَ اخْتِيَارِ ( أَمْرِ ) النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْآخَرِ . فَإِذَا اخْتَارَ أَمْرَ النَّبِيِّ الْآخَرِ , لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى .  وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ : فَجَائِزٌ إذَا صَادَفَ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ , وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعًا , كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فِعْلِهِ , وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فِي أَمْرِهِ . وَقَدْ سَأَلُوا فِي نَحْوِ هَذَا , بِأَنْ قَالُوا : أَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يَكُونَ نَاهِيًا لِلْمَأْمُورِ عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْآخَرِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ مُبِيحٌ , أَوْ أَنْ يَكُونَ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ , فَيَكُونُ اتِّبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً لِلْآخَرِ . فَنَقُولُ لَهُ : إنْ هَهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا , قَدْ ذَهَبَ عَلَيْك أَمْرُهُ , وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ مَعْقُولٌ بِشَرِيطَةِ اخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ إيَّاهُ , فَإِنْ اخْتَارَهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ , وَإِنْ اخْتَارَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْآخَرُ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا اخْتَارَهُ , وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إمْضَاءِ حُكْمِ آخَرَ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَإِذَا كَانَ مَصْدَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيَّيْنِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ , سَقَطَ اعْتِرَاضُ السَّائِلِ لِمَا ذُكِرَ , وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَمِرَّةً عَلَى أَصْلِ الْقَوْمِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ يُوجِبُ إبَاحَتَهَا , وَدَلِيلُ الْحَظْرِ يُوجِبُ حَظْرَهَا , صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ , لَوْ وَرَدَ عَلَى هَذَا النَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ , لِأَنَّ الدَّلَالَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْتَضِ التَّخْيِيرَ . وَإِيجَابُ التَّخْيِيرِ ضِدُّ مُوجِبِ الدَّلِيلِ جَمِيعًا . وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَهُمَا ثَابِتَا الْحُكْمِ , وَإِنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِذَلِكَ عَلَى جِهَةِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ . فَأَمَّا وُرُودُهُمَا مَعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمُحَالٌ . فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الدَّلِيلِ , لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا كَذَلِكَ لَا يُوجِبَا تَخْيِيرًا . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِمَدْلُولَاتِهَا , وَأَنَّهُ  يَجُوزُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً عَنْ مَدْلُولِهَا , وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهَا , عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَامَةً ( لَهَا ) وَسِمَةً , كَدَلَالَاتِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا عُلِّقَ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا , لَمْ يَمْتَنِعْ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَيَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِي نَفْيِهِ , فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ , مُنَفِّرًا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . وَالْكَلَامُ فِي حُكْمِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , لَمَّا صَارَا مُوجِبَيْنِ لِلتَّخْيِيرِ مِنْ مُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ , خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا . وَمَتَى قُلْنَا لِلْمُسَائِلِ : إنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ حَجْمِ مُوجِبِ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ , سَقَطَ سُؤَالُهُ , وَصَارَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهَا . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ وَجْهَ إيجَابِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَةِ الْحَظْرِ وَجِهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ , وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ لِلسَّائِلِ بِحَقِّ النَّظَرِ . فَنَقُولُ : قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ رُجْحَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ : أَنَّ الْمُوجِبَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ هُوَ الِاجْتِهَادُ , فَمَتَى زَالَ تَرْجِيحُ الِاجْتِهَادِ لَهُ , وَصَارَ الِاجْتِهَادُ مُوجِبًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا , اسْتَحَالَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ مَعَ نَفْيِ الِاجْتِهَادِ لَهُ , وَهُوَ إنَّمَا يَصِيرُ إلَى الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُ يَكُونُ نَفْيَ مُوجِبٍ لِلِاجْتِهَادِ , إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ قَدْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ , فَانْتَفَى بِذَلِكَ إثْبَاتُ التَّرْجِيحِ , إذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ يَبْطُلُ . وَلَوْ جَازَ نَفْيُ التَّسْوِيَةِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهَا لَجَازَ نَفْيُ الرُّجْحَانِ مَعَ إيجَابِ الِاجْتِهَادِ لَهُ , وَفِي إجَازَةِ ذَلِكَ إبْطَالُ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا , عَلِمْنَا أَنَّ تَسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ  وَالْإِبَاحَةِ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ , فِي أَنْ يُمْضِيَ أَيَّ الِاجْتِهَادَيْنِ شَاءَ , فَيَحْكُمُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ , لِاسْتِحَالَةِ جَمْعِهِمَا ( جَمِيعًا ) فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ , وَيُحِيلُ تُسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدَيْنِ . وَمَنْ قَبْلَهُ أَجَازَ ذَلِكَ ( وَيَقُولُ : لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ ) فِي الْعَادَةِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ , وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ جِهَتَا الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ . وَقَدْ يَتَسَاوَى عِنْدَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الْجِهَاتُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ , أَوْ فِي فَلَاةٍ فِي غَيْمٍ وَظُلْمَةٍ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِيمَا وَصَفْنَاهُ , وَقَدْ يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ , لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا وَتَسَاوِي جِهَاتِ الْإِحْكَامِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَجْهٌ . فَإِنْ قَالَ : فَإِذَا جَوَّزْتُمْ لِلْمُجْتَهِدِ تَسَاوِي الْحُكْمَيْنِ عِنْدَهُ , وَاعْتِدَالَهُمَا فِي نَفْسِهِ , وَأَوْجَبْتُمْ بِهِ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ , فَجَوِّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي حَالٍ , ثُمَّ يُعْقِبَهُ بِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْآخَرِ , وَالْعُدُولِ عَنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ , حَتَّى يَخْتَارَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ حَرَامٌ , طَلَاقَ امْرَأَتِهِ , وَيَخْتَارَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي لَفْظٍ قَدْ اعْتَدَلَ فِيهِ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ , ثُمَّ يَخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ , وَيَخْتَارَ رَدَّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ , مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ , وَلَا فِكْرٍ , وَلَا اجْتِهَادٍ , كَمَا كَانَ لَهُ بَدْءًا أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ , إذَا كَانَا عِنْدَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ . فَكَذَلِكَ يَخْتَارُ الثَّانِيَ عَقِيبَ الْأَوَّلِ , ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَخْتَارَ الْأَوَّلَ , لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِاعْتِدَالِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ . وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى هَذَا : أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتَيْنِ , فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمَا وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ , بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ , وَلَا يَخْتَارَ فِي الْأُخْرَى وَنَوْعِهَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ , وَأَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا إلَى أَنْ يُوقِفَ , وَيُحَرِّمَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ , وَلَا يُحَرِّمَ الْأُخْرَى إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .  كَمَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَيْنِ فَيُرَاجِعُ إحْدَاهُمَا , وَلَا يُرَاجِعُ الْأُخْرَى حَتَّى تَبِينَ . وَكَمَا أَنَّ لَهُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينَيْنِ أَنْ يَخْتَارَ فِي إحْدَاهُمَا الْعِتْقَ , وَفِي الْأُخْرَى الْكِسْوَةَ , أَوْ الْإِطْعَامَ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيزُوا لَهُ إذَا اسْتَفْتَاهُ رَجُلَانِ فِي الْحَرَامِ : أَنْ يُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِالطَّلَاقِ , وَيُفْتِيَ أَحَدَهُمَا بِأَنَّهُ يَمِينٌ , لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَهُمَا حَاضِرَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْجَوَابُ : أَنَّهُ مَتَى اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ , إلَّا بِرُجْحَانٍ يُبَيِّنُ لَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ . وَالْكَلَامُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا . وَمَتَى قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ جَائِزٍ , لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ . فَقِيلَ لَنَا : مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ كَسَائِرِ مَا أَلْزَمْنَاكُمْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ؟ فَشَرَعْنَا فِي ذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا , كَانَ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى . وَعَلَى أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُخَلِّي السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ , مِنْ إسْقَاطِ سُؤَالِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , وَهُوَ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ , ثُمَّ إذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ فِي فِعْلِ الْآخَرِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ , وَبَيْنَ تَبْقِيَتِهَا عَلَى النِّكَاحِ , وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُطَلَّقَةَ , وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا , فَتَبِينَ . وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ عِتْقِ عَبْدِهِ , وَبَيْعِهِ , أَوْ تَرْكِهِ . وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ مَا بِيعَ فِي شَرِكَتِهِ , أَوْ جِوَارِهِ بِالشُّفْعَةِ , وَبَيْنَ أَلَّا يَأْخُذَ , وَلَا يَطْلُبَ , فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ . وَمُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِقَالَةِ , وَالْخُلْعِ , وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُقُودِ , وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ , ثُمَّ إذَا وَقَعَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي تَرْكِ إيقَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ , سَقَطَ خِيَارُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُدُولُ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ , وَلَا فَسْخُ مَا كَانَ أَوْقَعَهُ , مِمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ قَبْلَ إيقَاعِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ : مُخَيَّرٌ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ , أَوْ يَدْخُلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ , فَيُصَلِّي أَرْبَعًا .  فَإِنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ سَقَطَ خِيَارُهُ , ( فَإِذْ قَدْ كُنَّا ) وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ , ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ ( إيَّاهُ ) ( وَأَمْضَاهُ ) , لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَمْضَاهُ , وَلَا الْعُدُولُ إلَى آخَرَ , فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِوُجُوهِ خِيَارِهِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالْإِيقَاعِ عَلَى بَقَاءِ خِيَارِهِ فِي فَسْخِ مَا أَوْقَعَ ( وَ ) الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ . وَسَقَطَ بِذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ لَنَا : بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ بَقَاءُ خِيَارِهِ , مَا لَمْ يَحْدُثْ هُنَاكَ عِنْدَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَارَ الَّذِي يَصْدُرُ لَهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ , مِمَّا لَا يُمْنَعُ اخْتِيَارُهُ ( لِأَحَدِ أَشْيَاءَ ) , مِنْ بَقَاءِ خِيَارِهِ دُونَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ لَهُ فِيهَا الْخِيَارُ , ثُمَّ إذَا أَوْقَعَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ خِيَارُهُ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْآخَرِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَذْكُرُ الْمَعْنَى الْمُسْقَطِ لِلْخِيَارِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ . وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لِلسَّائِلِ . نُحِقُّ النَّظَرَ إذْ كَانَ الْفَرْضُ حُصُولُ الْفَائِدَةِ . فَنَقُولُ : إنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ مَعْنًى قَدْ انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا عَلَى أَقَاوِيلَ ثَلَاثَةٍ : مِنْهُمْ : مَنْ أَبَى وُجُودَ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ , ( وَيَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ , فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ ) وَمِنْهُمْ : مَنْ يَقُولُ يَصِحُّ وُجُودُ تَسَاوِي الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ , إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَلَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا , حَتَّى يَبِينَ لَهُ رُجْحَانُهُ .  وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ , فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ الْآخَرِ , إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ , يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ عَنْهُ . فَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ , بِامْتِنَاعِ جَوَازِ انْتِقَالِ مَا اخْتَارَهُ عِنْدَ تَسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِهِ , مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ , يُوجِبُ لَهُ الْعُدُولَ إلَيْهِ عَنْ الْأَوَّلِ . فَمَتَى أَجَزْنَا لَهُ التَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ نَظَرٍ وَلَا رُجْحَانٍ , كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ . وَجِهَةٌ أُخْرَى : وَهِيَ ( أَنَّ ) التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالِاخْتِيَارِ مَعَ تَقَارُبِ الْحَالِ وَسُرْعَةِ الْمُدَّةِ , فِعْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ , إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَيْهِ , وَالْمَعْنَى عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ , وَلُزُومِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ , أَحْسَنُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ , وَالسِّيَرِ , وَالسِّيَاسَاتِ , مِنْ التَّنَقُّلِ فِي الْآرَاءِ وَيُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ذَا بَدَوَاتٍ , يَذُمُّونَهُ بِهِ , وَتَقِلُّ الثِّقَةُ بِرَأْيِهِ وَالِاسْتِنَامَةُ إلَى اخْتِيَارَاتِهِ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , صَارَ حُصُولُ هَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِلْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ضَرْبًا مِنْ الرُّجْحَانِ , وَوَجْهًا مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرُّجْحَانِ فِيهِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى , وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ إيَّاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الرُّجْحَانِ , أَوْجَبَ ذَلِكَ كَوْنَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ , وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْآخَرَ الْعُدُولُ إلَيْهِ . مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ التَّنَقُّلَ فِي الرَّأْيِ وَالتَّقَلُّبَ فِي الِاخْتِيَارِ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَسُرْعَةِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَهُ , يُوجِبُ الظِّنَّةَ بِصَاحِبِهِ , وَالتُّهْمَةَ لَهُ فِي إيقَاعِ الْهَوَى , وَاخْتِيَارِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , بِمَا تَسَلَّقَ بِهِ عَلَى إيثَارِهِ الْهُوَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ , وَعَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ . وَالْإِنْسَانُ مَنْهِيٌّ عَنْ فِعْلِ مَا يَطْرُقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْوُجُوهِ . وَرُبَّمَا تَسَلَّقَ أَيْضًا بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ , مِمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ  وَالْفُقَهَاءِ , إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى , وَالْجَهْلِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ , وَيَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ , وَاسْتِيكَالِ النَّاسِ بِهِ , كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ يَفْعَلُونَهُ , ثُمَّ يُوهِمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ مُسَوِّغٌ لَهُ فِي الدِّينِ , وَأَنَّ اجْتِهَادَهُ قَدْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ . فَلَمَّا كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إلَى هَذِهِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فِي التَّخْيِيرِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ ظِنَّةٌ وَلَا تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِهِ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ . وَسَائِرُ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ ذَلِكَ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ مَعْدُومَةٌ فِيهِ , فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ النَّقْلُ فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا نَظَرٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمُخَيَّرَ فِي إيقَاعِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اخْتِيَارُ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ , إلَّا ( بِجَاذِبٍ - يَجْذِبُهُ ) إلَيْهِ , وَدَاعَ يَدْعُوهُ إلَيْهِ , وَبِمَعْنًى يَتَفَرَّدُ بِهِ مِمَّا سِوَاهُ , كَنَحْوِ مَنْ يَدْعُوهُ دَاعٍ مِنْ نَفْسِهِ إلَى اخْتِيَارِ الطَّعَامِ , لِأَنَّهُ يَرَاهُ أَسْهَلَ مَطْلَبًا ( وَأَوْلَى ) بِسَدِّ الْجَوْعَةِ . أَوْ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ , لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا , أَوْ الْكِسْوَةِ , لِأَنَّهَا تَنْفَعُ فِي وُجُوهٍ لَا يَسُدُّ فِيهَا مَسَدَّهَا غَيْرُهَا , مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ , وَالزِّينَةِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُسَاوِي جِهَاتِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ , إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الرُّجْحَانِ , فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مُلَازَمَتُهُ وَالثُّبُوتُ عَلَيْهِ , إلَى أَنْ يَثْبُتَ مِنْ رُجْحَانِ الْآخَرِ عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ النَّقْلَ عَنْهُ . وَيَنْفَصِلُ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ تُنْقَلَ الْآرَاءُ وَتُبَدَّلُ الِاخْتِيَارُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ فِي أَحْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ , غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ . وَالتَّنَقُّلُ فِي اخْتِيَارٍ مِنْهُ يُخْرِجُهُ الِاجْتِهَادُ , لَا يَتَقَارَبُ أَوْقَاتُهَا إذَا كَانَ عَنْ نَظَرٍ وَفَحْصٍ , وَإِذَا  ظَهَرَ مِنْهُ التَّنَقُّلُ فِي وَقْتٍ قَرِيبِ الْمُدَّةِ أَوْجَبَ ذَلِكَ سُوءَ الظِّنَّةِ بِهِ , وَالتُّهْمَةَ بِإِيثَارِ الْهَوَى , وَالِانْتِقَالُ عَنْ مَذْهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَ انْتِقَالَهُ , فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ , مِنْ غَيْرِ حَادِثٍ مِنْ نَظَرٍ يَدْعُو إلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَرْجِعُ عَلَى سَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ سَأَلَ , لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالْقَائِلِينَ بِمَا يُسَمِّيه دَلِيلًا , أَوْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ , مِمَّنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ , فَهَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ ( قَائِمٌ ) فِي مَذْهَبِهِ , حَسَبَ مَا أَرَادَ إلْزَامَنَا إيَّاهُ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الْمُسْتَفْتِي إذَا اسْتَفْتَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا عَنْ مَسْأَلَةٍ نَازِلَةٍ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ , فَكَيْفَ يَصْنَعُ ؟ فَإِنْ قَالَ : يَنْظُرُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَفِي وُجُوهِ دَلَائِلِهِ , فَيُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ بِهِ . قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ , وَلَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأُصُولِ , وَالْمَعْرِفَةِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ , وَهُوَ غُلَامٌ قَدْ بُلِيَ بِالْحَادِثَةِ فِي أَوَّلِ حَالِ بُلُوغِهِ , أَوْ امْرَأَةٌ ( قَدْ ) بُلِيَتْ بِحَادِثَةٍ فِي أَمْرِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ بِأَمْرِهَا بِمَا يَتَعَلَّمُ الْأُصُولَ وَالتَّفَقُّهَ فِيهَا , حَتَّى يَصِيرَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ , وَيُهْمِلَا أَمْرَ الْحَادِثَةِ , وَعَسَى أَنْ لَا يَبْلُغَا هَذَا الْحَالَ أَبَدًا . وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ , مَرْذُولٌ , خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ , فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ قَوْلِ أَحَدِ الْمُفْتِيَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا عِنْدَهُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالثِّقَةِ . فَيُقَالُ لِهَذَا السَّائِلِ : فَمَا تَصْنَعُ إذَا اخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ ؟ . 
فَإِنْ قَالَ : هُوَ مُخَيَّرٌ ( فِي أَنْ يَأْخُذَ ) بِقَوْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ . 

( قِيلَ لَهُ ) : فَإِنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ , هَلْ يَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى قَوْلِ الْآخَرِ وَنَسْخِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . أَجَازَ مَا أَنْكَرَهُ فِي سُؤَالِهِ إيَّانَا , وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ سُؤَالِهِ . فَإِنْ قَالَ : لَا . قُلْنَا : مِثْلُهُ فِيمَا سَأَلَ , وَسُقُوطُ سُؤَالِهِ أَيْضًا . وَمِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ فِي ذَلِكَ : الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ , كَلِمَةً لَيْسَتْ عِنْدَهُ بِطَلَاقٍ , وَلَا عَتَاقٍ , وَعِنْدَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ أَنَّهَا طَلَاقٌ وَعَتَاقٌ . وَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , فَيُوجِبُ قَوْلُكُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعَ عَلَيْهِ , وَيُوجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إبَاحَةَ وَطْئِهَا , وَيُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الِامْتِنَاعَ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ , وَيُجِيزُ لِلْمَوْلَى اسْتِرْقَاقُهُ , وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّمَانُعِ وَالْفَسَادِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْعِبَارَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ عَلَى هَذَا , فَعَلَى الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِ , حَتَّى يَخْتَصِمَا إلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ , فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُمَا اتِّبَاعُ حُكْمِهِ , وَتَرْكُ رَأْيِهِمَا لِرَأْيِهِ ( فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ ) تَمَانُعٌ , وَلَا فَسَادٌ , وَلَا تَنَافِي فِي الْأَحْكَامِ , وَلَا تَضَادَّ . ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَةٌ مُقِرَّةٌ بِالرِّقِّ , مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا لَهُ ( إذَا ) أَعْتَقَهَا بِحَضْرَتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهَا , ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ , وَلَهُ ابْنٌ لَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهَا . أَلَيْسَ مِنْ قَوْلِك وَقَوْلِ النَّاسِ جَمِيعًا : إنَّهُ جَائِزٌ لِلِابْنِ اسْتِرْقَاقُهَا , وَوَطْؤُهَا , وَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الِامْتِنَاعُ , فِيهِ فَهَلْ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَضَادًّا فِي الْحُكْمِ ؟ فَإِذْ كَانَ وُقُوعُ مِثْلِهِ جَائِزًا فِيمَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ , فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَ رَأْيِهِ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ . فَهَلَّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي اجْتِهَادِهِ ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الصَّوَابِ إلَى غَيْرِهِ . قِيلَ لَهُ : لَمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , وَصَارَ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ دُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي خِلَافِ قَوْلِهِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ , وَجَبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ , وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمُهُ الَّذِي تَعَبَّدَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ .

 وَمِنْ سُؤَالَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا , لَمَّا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَقُولَ : قَوْلِي أَصْوَبُ , وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِي , وَلَمَا كَانَ دُعَاؤُهُ لِلنَّاسِ إلَى قَوْلِهِ بِأَوْلَى مِنْ دُعَائِهِ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ . فَلَمَّا وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا يَدْعُو إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ دُونَ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ , وَيَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَأَصْوَبُ , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ , لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصِيبُ وَأَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا , لَارْتَفَعَتْ الْمُنَاظَرَاتُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُنَاظِرَ لِيَرُدَّهُ عَنْ صَوَابِهِ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَهُ عَنْ صَوَابٍ هُوَ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ , وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ , إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اخْتِلَافَ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِكَثْرَةِ إصَابَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ . الْجَوَابُ : أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ تَخْطِئَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِيهِ وَتَصْوِيبُهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ تَخْطِئَةُ مُخَالِفِهِ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ فَرْضِهِ لِفَرْضِهِ . وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلطَّاهِرِ تَخْطِئَةُ الْحَائِضِ , لِأَنَّ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ فَرْضِ صَاحِبِهِ , كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , فَإِنَّ فَرْضَهُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ صَاحِبِهِ فِي اعْتِقَادِهِ .  وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ : قَوْلِي أَوْلَى وَأَصْوَبُ , بَعْدَ أَنْ يَعْتَدَّ بِشَرِيطَةِ مَا عِنْدَهُ فَيَقُولُ : هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ وَأَوْلَى , لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَهُ , فَيَقُولُ : هُوَ عِنْدِي أَصْوَبُ , لِأَنَّ فِي اجْتِهَادِي أَنَّ حُكْمَ هَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْأَصْوَبَ وَالْأَوْلَى لِمُخَالِفِي اتِّبَاعُ قَوْلِي , وَلَا الرُّجُوعُ إلَى اجْتِهَادِي , فَلَا يَقُولُ أَيْضًا : إنَّ الْأَصْوَبَ عِنْدَ مَنْ خَالَفَنِي خِلَافُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُخَالِفِيهِ إلَى قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ , فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ : إذَا كَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ قَدْ صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادٍ , وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ , وَفِيهِ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ - مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ مُصِيبِينَ - . مِنْهَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِقْصَاءُ فِي النَّظَرِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَحْصِ . وَالثَّانِي : اجْتِهَادٌ دُونَ ذَلِكَ , قَدْ يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ , وَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّظَرِ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْأَشْبَهِ , وَأَوْلَى بِمُصَادَفَةِ الْمَطْلُوبِ , وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَيْنِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ - وَأَنَّ مَا دُونَهُ أَبْعَدُ مِنْ مُوَافَقَةِ النَّظِيرِ وَإِصَابَةِ الْمَطْلُوبِ , وَأَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ( إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ ) وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ ( الْأَجْرَ ) الْوَاحِدَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا , جَازَ لِأَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ دُعَاءُ مُخَالِفِهِ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ وَاسْتِقْصَاءِ وُجُوهِ الْمَقَايِيسِ , لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهَذَا الْمَحَلِّ , وَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَ حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدَهُ , فَيَدْعُو إلَى ذَلِكَ , لِيَسْتَحِقَّ الْأَجْرَيْنِ , وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ ( جَائِزٌ )  وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ , لِيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى , وَإِيثَارِ الْهُوَيْنَا مِنْ غَيْرِ مُقَايَسَةٍ وَلَا نَظِيرٍ , وَأَنَّ مَا انْتَحَلَهُ وَجْهٌ يُسَوِّغُهُ الِاجْتِهَادُ , وَيَجُوزُ اعْتِقَادُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ تُسَاوِي الْعُلَمَاءِ فِي رُتْبَةِ الْعِلْمِ , وَأَنْ لَا يَفْضُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , إذْ كُلُّهُمْ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى : فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ , لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إذَا كَانَ عَلَى مَرَاتِبَ : مِنْهُ : مَا يُصَادِفُ ( بِهِ ) حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ ( وَمِنْهُ مَا يَقْصُرُ دُونَهُ , جَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ , وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مُوَافَقَةً لِلْمَطْلُوبِ ) كَانَ أَعْلَى رُتْبَةً فِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ . وَأَيْضًا : فَلَيْسَ الْعِلْمُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ , حَتَّى إذَا تَسَاوَى الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُصِيبٌ , وَجَبَ الْحُكْمُ بِتَسَاوِيهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِالْأُصُولِ أَنْفُسِهَا , وَمَوَاضِعِ النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ , وَقَدْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ , وَرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى النَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ , وَوُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ , وَاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي , وَبِحُكْمِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا مِنْ الْمَعَانِي . فَإِذَا كَانَتْ مَنَازِلُ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ , فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ بِتَصْوِيبِنَا الْمُجْتَهِدِينَ , إذَا كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ؟ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُ فِي الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ تَقُولُ : إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ تُقِيمَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ , وَتَجْعَلَ لِلْمُجْتَهِدِ سَبِيلًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِمْ طَلَبَهُ , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ  طَلَبَ مَا لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ . قِيلَ لَهُ : ( نَقُولُ ) : إنَّ الْأَشْبَةَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ صَادَفَهُ بِاجْتِهَادِهِ . وَمَنْ لَمْ يُصَادِفْهُ بِاجْتِهَادِهِ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ , وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفًا لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ , وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي ( تَحَرِّي ) مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ عِنْدَهُ , فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ الْأَشْبَهَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ . وَلَا يُطْلَقُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ , لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَهَذَا كَمَا نَقُولُ لِلْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ , وَلِرَامِي الْكَافِرِ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ : بِأَنَّ إصَابَةَ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ , وَإِصَابَةَ الْكَافِرِ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ , وَلَكِنَّا نُقَيِّدُهُ فَنَقُولُ : هُوَ مُكَلَّفٌ لِلِاجْتِهَادِ وَالِارْتِئَاءِ فِي مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ , وَإِصَابَةِ الْكَافِرِ , فَإِنْ أَصَابَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَخْطَأَهُمَا كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ , لَا غَيْرُهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفُوا , فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَجْتَهِدَ مُجْتَهِدٌ فَيَعْتَقِدَ أَنَّكُمْ مُخْطِئُونَ فِي إجَازَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ , فَيَكُونُ مُصِيبًا , وَأَنْ يَكُونَ الْخَوَارِجُ وَمَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَكُمْ مُصِيبًا , إذَا قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْحَوَادِثِ طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ , وَغَالِبُ الظَّنِّ , وَأَنَّ مِنْهَا مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ , يَأْثَمُ مُخْطِئُوهُ وَالْعَادِلُ عَنْهُ ( وَمِنْهَا : مَا لَا يَجُوزُ ) الِاجْتِهَادُ فِيهِ , وَيُخْطِئُ الْقَائِلُ بِهِ , قَوْلُ مَنْ أَبِي جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَنْ اسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ : قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا .  وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا إبَاحَةُ الدَّمِ بِالِاجْتِهَادِ , وَيَجُوزُ حَظْرُهُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , فِيمَا لَمْ يُنْصَبْ لَنَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ . أَلَا تَرَى : أَنَّا نُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ , وَنُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي حَظْرِهِ , فَيَكُونُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا مُصِيبِينَ . وَإِنَّمَا ( لَا ) يُسَوَّغُ ذَلِكَ فِيمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيهِ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ , فَيَذْهَبُ ذَاهِبٌ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ مُخْطِئًا , ثُمَّ يَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِيهِ فِي بَابِ الْمَأْثَمِ , وَعِظَمِ الْخَطَأِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الْوَاقِعُ فِيهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ وَافَقَكُمْ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَصْلِ , وَخَالَفَكُمْ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَزَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , وَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ ؟ هَلْ تَجْعَلُونَ مَذْهَبَهُ هَذَا ( مِنْ ) بَابِ الِاجْتِهَادِ , وَتُصَوِّبُونَهُ فِيهِ ؟ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْخَطَأِ فِي تَصْوِيبِكُمْ الْمُجْتَهِدِينَ , وَقَوْلُهُ صَوَابٌ , وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَقْتَضِي مِنْكُمْ الْقَوْلَ بِخَطَأِ قَوْلِكُمْ , مِنْ حَيْثُ صَوَّبْتُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ بِتَخْطِئَتِكُمْ . وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوا لَهُمْ الْقَوْلَ : بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , لَزِمَكُمْ ( الْحُكْمُ بِتَأْثِيمِهِمْ ) عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمْتُمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ رَأْسًا . قِيلَ لَهُ : لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا , وَبَيْنَ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا وَصَفْنَا , وَلَا يُسَوَّغُ عِنْدَنَا الِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ , كَمَا لَا يُسَوَّغُ فِي نَفْيِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ . وَالْحُكْمُ بِتَأْثِيمِ الْجَمِيعِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا , وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ , لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الَّتِي دَلَّتْ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ : هِيَ بِعَيْنِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا , فَالْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَأْثِيمِهِمَا وَاجِبٌ .

سُؤَالٌ : إنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلْ يَخْلُو الْقَائِلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ , مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا , أَوْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ؟ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا , فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ سَاقِطًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ طَلَاقًا فَكَيْفَ يَصِيرُ طَلَاقًا بِالِاجْتِهَادِ ؟ . الْجَوَابُ : إنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَيْسَ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا يَصِيرُ طَلَاقًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْقَوْلِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ بِحُكْمٍ بِعَيْنِهِ , لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيهِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ . فَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ طَلَاقٌ حَكَمَ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ , وَمَنْ غَلَبَ فِي رَأْيِهِ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا , لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ : بِأَنَّهُ طَلَاقٌ إلَّا عَلَى التَّقْيِيدِ وَالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا . فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَعْطَيْتُمْ الْقَوْلَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الطَّلَاقِ بِلَفْظٍ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ؟ قِيلَ لَهُ : جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِإِلْزَامِ الطَّلَاقِ بِمَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي نَفْسِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ تَعَالَى , بِأَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ طَلُقَتْ مِنْهُ , أَوْ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ كَذْبَةً طَلُقَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ . وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَنَا بِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ طَلَاقٌ , فَلَيْسَ اللِّعَانُ طَلَاقًا فِي نَفْسِهِ , وَفُرْقَةُ الْمَجْبُوبِ طَلَاقٌ فِي الْحُكْمِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ . فَإِنْ قَالَ : حُكْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَكُمْ أَمُبَاحَةٌ هِيَ أَمْ مَحْظُورَةٌ ؟ قِيلَ : إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قَدَّمْنَا , ( فَلَا نُطْلِقُ الْقَوْلَ : بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ , إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ) . فَإِنْ قَالَ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الظُّنُونِ , وَمَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ إلَّا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِهِ بِاعْتِقَادَاتِ الْمُعْتَقِدِينَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا , وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَمُعْتَقِدِهِ , وَلَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ . قِيلَ لَهُ : الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الظُّنُونَ قَدْ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ , عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَجَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ كُلُّ ظَانٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ , إذْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ , وَلِرَمْيِ الْكَافِرِ , وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَالنَّفَقَاتِ , وَنَحْوِهَا . وَنَحْوُ رَجُلَيْنِ الْتَقَيَا لَيْلًا فَغَلَبَ فِي ظَنِّ كُلِّ ( وَاحِدٍ ) مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ , قَدْ أُبِيحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَمَلُ عَلَى ( مَا غَلَبَ ) فِي ظَنِّهِ , وَقَتْلُ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ , وَجَمِيعًا مُطِيعَانِ فِيمَا يَأْتِيَانِهِ , مُصِيبَانِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا . إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ . وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ قَدْ تَعَبَّدَ اللَّهَ تَعَالَى الْحُكَّامُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ عِنْدَ التُّهَمِ , وَإِلْغَاءِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِمْ فِسْقُهُ , فَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا مُتَعَلِّقَةً بِالظُّنُونِ , قَدْ وَرَدَ ( بِهِ نَصُّ ) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ . وَاخْتِلَافُ الظُّنُونِ فِيهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي حَقَائِقِهَا . وَأَمَّا الْعُلُومُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ سَبِيلَهَا , لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا وَاحِدًا , هَذَا مَوْجُودًا وَهَذَا مَعْدُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ , وَجَائِزٌ أَنْ يَظُنَّهُ هَذَا مَوْجُودًا , وَيَظُنَّهُ آخَرُ مَعْدُومًا , فَيَصِحُّ وُقُوعُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ . وَلَا يَصِحُّ بِهِ عِلْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي إنْزَالِهِ عَلَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ , كَمَا يَصِحُّ ظَنَّانِ مُوجِبَانِ لَهُ حُكْمَ مُخْتَلِفَيْنِ , لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ ( الْوَاحِدِ ) حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ , فَعِلْمَانِ بِعِلْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . ثُمَّ يُقْلَبُ هَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ , فَيُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الظُّهْرِ أَهِيَ أَرْبَعٌ ؟ وَعَنْ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ ؟ وَعَنْ النِّسَاءِ هَلْ عَلَيْهِنَّ صَلَاةٌ ؟ . فَإِنْ قَالَ : لَا . خَرَجَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ . وَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . أَخْطَأَ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْجَمِيعِ . فَإِنْ قَالَ : ( لَا ) يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ بِالْإِضَافَةِ وَالتَّقْيِيدِ , فَيُقَالُ : إنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ عَلَى الْمُقِيمِ , وَرَكْعَتَانِ عَلَى الْمُسَافِرِ , وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ , مَحْظُورٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ , وَالطَّاهِرُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ , وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ فَرْضُهَا . وَإِذَا كَانَتْ ( هَذِهِ ) الْفُرُوضُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا خَالَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ بَيْنَ ( أَنَّ ) أَحْكَامَ الْمُكَلَّفِينَ لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , إلَّا بِتَقْيِيدٍ وَإِضَافَةٍ وَشَرْطٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا . وَلَمْ يَلْزَمْك عَلَى هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الظُّنُونِ وَالْجَاحِدِينَ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُعْتَقِدِيهَا . فَمَا أَنْكَرْت مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا . فَإِنْ قَالَ : فَهَلْ تَخْلُو هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا , أَوْ حَلَالًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قِيلَ لَهُ : الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعَيْنِهِ , لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِينَ , وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ هُوَ حُكْمُهُ عَلَيْنَا بِهِ . فَإِنْ قَالَ : فَإِذَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْحَظْرَ , وَبَعْضُهُمْ الْإِبَاحَةَ , فَقَدْ صَارَ مَحْظُورًا مُبَاحًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ , وَلَا بِأَنَّهُ مُبَاحٌ , لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ تَعَلَّقَا بِهِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذَا مُحَالٌ , وَلَكِنْ يُقَالُ بِتَقْيِيدٍ وَشَرْطٍ : إنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَى هَذَا , وَمُبَاحٌ لِهَذَا , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيه اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , كَمَا نَقُولُ : فَرْضُ الظُّهْرِ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعٌ , وَعَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ . فَإِنْ قَالَ : إنْ قَالَ الْأَوَّلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ , وَكَانَ مُجْتَهِدًا نَاظِرًا , أَوْ مُسْتَفْتِيًا مُسْتَرْشِدًا , فَاسْتَقَرَّ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ , فَاخْتَارَ الْمُسْتَفْتِي قَبُولَ فُتْيَا مَنْ رَآهُ طَلَاقًا , مَتَى تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً , حِينَ قَالَ الْقَوْلَ , أَوْ حِينَ اسْتَقَرَّ ( عِنْدَهُ ) حُكْمُ الطَّلَاقِ ؟ قِيلَ : إنَّمَا نَحْكُمُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا وَقْتَ فُصِّلَ مِنْ قَائِلِهِ , فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ , مِنْ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ مِنْ يَوْمَئِذٍ , وَمِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ , وَقَطْعِ التَّوَارُثِ , وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي الْمَاضِي مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ ؟ قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمِهِ , فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُ يَوْمَ الْقَوْلِ . وَلَسْنَا نَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ يَوْمئِذٍ بِهَذَا الْقَوْلِ شَيْءٌ , بَلْ نَقُولُ : " إنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْقَوْلِ عَلَى ( الشَّرْطِ ) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ , وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ . مِنْهَا : الرَّجُلُ يَجْرَحُ الرَّجُلَ فَيَكُونُ حُكْمُ جِرَاحِهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ , فَإِنْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ حَصَلَ لَهُ ( الْقَتْلُ الْآنَ بِالْجِرَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْجَارِحَ لَوْ مَاتَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ كَانَ ) حُكْمُ الْقَتْلِ ثَابِتًا عَلَى الْجَارِحِ , وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا يَوْمَ صَارَتْ الْجِرَاحَةُ نَفْسًا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : خَبِّرْنِي عَنْ الْمُجْتَهِدِ إذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى شَيْءٍ , أَيَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ ؟ أَوْ لَا يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ بِمَعْنًى يُحَدِّدُهُ ؟ قِيلَ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ , وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ . وَالْآخَرُ : أَنْ لَا يَلْزَمَهُ حَتَّى يُلْزِمَهُ هُوَ نَفْسَهُ . فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ : ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ ( ذَلِكَ ) فِي ظَنِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ : أُنَفِّذُ هَذَا الْحُكْمَ , وَالْتَزَمَهُ , فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ , وَلَا يَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ لُزُومِهِ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ نَفْسَهُ . وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي الْحَالِ مَا يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ , فَقَدْ يُلْزِمُهُ حَاكِمٌ خِلَافَ رَأْيِهِ , فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ , وَتَرْكُ رَأْيِهِ لَهُ , وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَخْتَارُ إلْزَامَهُ نَفْسَهُ , فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ . بَابُ : الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ

      	قَالَ أَبُو ( بَكْرٍ) : اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ ( أَقَاوِيلِ ) الْمُخْتَلِفِينَ , فِيمَا سَبِيلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا . ( فَقَالَ ) قَائِلُونَ : لَيْسَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنَّمَا الْأَشْبَهُ ( مَا يَغْلِبُ ) فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَشْبَهُ , ( وَكُلِّفَ إمْضَاءَ ) الْحُكْمِ بِهِ . وَأَمَّا ( الْأُصُولُ ) فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهَا إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ لِلْأَشْبَهِ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأُصُولِ , يَتَحَرَّاهَا الْمُجْتَهِدُ , هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ إلَيْهِ . وَقَالُوا بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ , وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا .  وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ ( دَائِمًا ) , وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا لِتَصْحِيحِ الِاجْتِهَادِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ : أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْوَاسِطِيِّ , وَيُسَمِّيه تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ , يَعْنِي أَنَّهُ يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ , فَإِذَا عَلِمْنَا فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا , فَنَحْنُ نُجَوِّزُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِهَا , فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الِاجْتِهَادِ , وَحَكَيْنَا أَيْضًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ : أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ , يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهَا بِاجْتِهَادِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِإِصَابَتِهَا , وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْأَشْبَهُ الْمَطْلُوبُ . لَا يُحْفَظُ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا , وَهُوَ قَوْلُهُمْ : الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَاحِدٍ , يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي أَنَّ لَهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا .  وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِمَا يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدُ حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , هُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ , وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَشَفَ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْأَشْبَهِ بِالنَّصِّ ( وَالتَّوْقِيفِ ) لَكَانَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ . وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ : ( مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ) فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام وَتَخْصِيصِهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام بِالْفَهْمِ , ( مَعَ إخْبَارِهِ ) بِإِيتَائِهِمَا الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام ( قَدْ ) أَصَابَ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ ( دَاوُد ) عليه السلام . فَثَبَتَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ سُلَيْمَانُ كَانَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ ( الَّذِي تَحَرَّيَاهُ ) جَمِيعًا بِاجْتِهَادِهِمَا , فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي فَهْمِ الْحَادِثَةِ , ( وَإِصَابَةِ ) الْأَشْبَهِ . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ لَهُ حَقِيقَةً يَتَحَرَّاهُ الْمُجْتَهِدَانِ فَرُبَّمَا أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا , وَأَخْطَأَهُ الْآخَرُ , لَمَا صَحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ , إذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَطَأَ الْحُكْمِ , فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَأُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ , ( أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ ) . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَشْبَهُ , أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ الْأُصُولِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِهِ وُجُودَ الشَّبَهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ , وَكَانَ  يَكُونُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ تَابِعًا لِوُجُودِ الشَّبَهِ , وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَرُدَّ الْحَادِثَةَ إلَى ( مَا شَاءَ ) مِنْ الْأُصُولِ , لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ , إذْ لَيْسَتْ تَخْلُو الْحَادِثَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا شَبَهٌ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا , عَلِمْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنَّمَا يَطْلُبُ أَشْبَهَ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ . فَلَوْ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ لَاسْتَحَالَ طَلَبُ الْأَشْبَهِ , مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ تَحَرِّيَ الْكَعْبَةِ . وَلَيْسَ هُنَاكَ كَعْبَةٌ , وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ رَمْيَ الْكَافِرِ , وَلَيْسَ هُنَاكَ مَرْمًى مَقْصُودًا بِالرَّمْيِ . وَكَذَلِكَ مَتَى اسْتَعْمَلْنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ , فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ هِيَ الْعَدَالَةُ , وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمْنَا لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكْلِيفُ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا , كَذَلِكَ لَوْ عَلِمْنَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهُ ( لَاسْتَحَالَ تَكْلِيفٌ ) فِي طَلَبِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَشْبَهُ الْأُصُولِ ( بِالْحَادِثَةِ عِنْدَهُ ) فَظَنَّهُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ , وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ , لِأَنَّ ( الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ يَتَكَلَّفُ ) الِاجْتِهَادَ لِيُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادَهُ إلَى أَنَّهُ ظَانٌّ , لِأَنَّهُ قَدْ ( حَصَلَ لَهُ الظَّنُّ ) مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ مُتَعَلِّقًا بِمَظْنُونٍ , هُوَ ( الْحَقِيقَةُ ) الْمَطْلُوبَةُ بِالِاجْتِهَادِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : فِي غَالِبِ ظَنِّي ( أَنِّي مُصِيبٍ ) لِلظَّنِّ , وَإِنَّمَا يَقُولُ : فِي  غَالِبِ ظَنِّي أَنِّي مُصِيبٌ لِلْحَقِيقَةِ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ ( عِنْدَهُ ) حَقِيقَةٌ مَطْلُوبَةٌ , فَالِاجْتِهَادُ سَاقِطٌ فِي طَلَبِ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الدَّلِيلُ عَلَى الْأَشْبَهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا , وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ : أَنَّ الْقَائِسِينَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ ( عِلَّةِ ) التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ : مِنْ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ , أَوْ الْوَزْنِ , أَوْ الْأَكْلِ , أَوْ الِاقْتِيَاتِ , مَعَ الْجِنْسِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَيْسَ بِأَشْبَهَ بِمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ بَعْضٍ , بَلْ هِيَ فِي الشَّبَهِ بِالْحَادِثَةِ مُتَسَاوِيَةٌ , لَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , صَحَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ مَا يَحْصُلُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ أَشْبَهَ . الْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَوْمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَشْبَهَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ وَنَحْوِهَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ ( كَذَلِكَ ) , عِنْدَ أَصْحَابِنَا دَائِمًا يُعْتَبَرُ الْأَشْبَهُ مِنْ طَرِيقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ , وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَشْبَهُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا . مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقَدَّمْ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا وَصَفْنَا , وَسَلِمَ لَنَا الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا . فَإِنْ قَالَ : إنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي دَلِيلِ الْعِلَّةِ , لَا فِي الْعِلَّةِ نَفْسِهَا , وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعِلَّةِ لَا عَلَى دَلِيلِهَا . قِيلَ لَهُ : وَهَذَا غَلَطٌ ثَانٍ , لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ إنَّمَا صَارَا عِلَّةً لِأَنَّهُمَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا , فَإِذَا كَانَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِمَا كَانَا أَشْبَهَ بِالْحَادِثَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالِاقْتِيَاتِ مِنْ بَابِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا .  فَتَبَيَّنَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَصْلِ الْمَقِيسِ ( عَلَيْهِ لَا إلَى ) ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ , ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِ , هَذَا السُّؤَالَ فِيمَا ( يَعْتَبِرُهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ ) الْأَشْبَهِ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ . فَيُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ الْكَيْلِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الِاقْتِيَاتِ , أَيَقُولُ : إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرِ ( مِنْ بَعْضِهِ ) ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ( شَبَهَ الْأَرُزِّ بِالْبُرِّ ) فِي كَوْنِهِمَا مَكِيلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي كَوْنِهِمَا مَأْكُولَيْنِ وَمُقْتَاتَيْنِ ( وَمُدَّخَرَيْنِ ) فَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ . فَإِذًا ( لَا ) اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِحُصُولِ ( الْأَشْبَهِ ) ( غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ ) , اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَهِ , وَيُعْتَبَرَ وُجُودُ ( الشَّبَهِ ) فَحَسْبُ . فَيُؤَدِّيك هَذَا إلَى إسْقَاطِ الِاجْتِهَادِ رَأْسًا , رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى أَيِّ الْأُصُولِ شَاءَ الْقَائِسُ , لِوُجُودِ الشَّبَهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَهَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَلَيْسَ قَدْ جَازَ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ , وَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عَدَالَةٌ , فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) الْحَوَادِثِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَوْ لَمْ نَظُنَّ أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَكَلُّفَنَا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهَا .  أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلِّفَنَا ( طَلَبَ ) عَدَالَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ بِفِسْقِهِ , وَإِنَّمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّنَا ظَنَنَّا أَنَّ هُنَاكَ عَدَالَةً فَاجْتَهَدْنَا فِي طَلَبِهَا . فَهَلْ تَقُولُ أَنْتَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ : إنِّي أَظُنُّ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهَا فِي الْحَقِيقَةِ ؟ . فَإِنْ قُلْت هَذَا : فَقَدْ تَرَكْت قَوْلَك : فِي أَنَّ الْأَشْبَهَ إنَّمَا يَتْبَعُ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ , لَا الْأَصْلَ الْمَطْلُوبَ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ , وَإِنْ أَقَمْت عَلَى قَوْلِك : إنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْبَهَ فِي الْحَقِيقَةِ , وَلَمْ يَصِحَّ لَك الِاسْتِشْهَادُ بِمَسْأَلَةِ الْمُتَحَرِّي فِي طَلَبِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ , بَلْ كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَيْك , مِنْ حَيْثُ لَوْ عَلِمْنَا أَنْ لَا عَدَالَةَ لَمَا صَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِهَا .

فَصْلٌ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْأَحْكَامِ , هَلْ يُسَمَّى دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى ؟

            فَقَالَ قَائِلُونَ : ( لَا يُقَالُ : إنَّهُ دِينٌ ) لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ لَنَا أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً , عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ . وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَيْضًا : أَنْ يَقُولَ : إنَّ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى يَحِلُّ تَرْكُهُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ , وَلَوْ جَازَ تَرْكُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَجَازَتْ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ فِيهِ إحْلَالُ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَمَنْ أَبَى إطْلَاقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى , لِأَنَّ أَصْحَابَ الِاجْتِهَادِ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ) قَدْ فَرَضَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى مَنْ أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ عَامِلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَا أَلْزَمُونَا مِنْ إيجَابِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً , فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ , لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُرُوضِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ لَمْ يُلْزِمْهُمْ ( ذَلِكَ ) . كَذَلِكَ إذَا قُلْنَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ : لَمْ يَلْزَمْنَا , وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , وَمَا عَدَاهُ خَطَأً , فَلَا يُطْلَقُ : أَنَّهُ دِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ خَطَأً , لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ . فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى أَنَّهُ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَلَا وَجْهَ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ : بِأَنَّ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى .

بَابُ : الْكَلَامِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ : زَعَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ : أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ , وَفِي التَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ , وَالْإِرْجَاءِ وَالْوَعِيدِ , وَفِي الْأَسْمَاءِ , وَالْأَحْكَامِ , وَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . كُلُّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ . إذْ كُلُّ قَائِلٍ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَجَمِيعُهُمْ مُصِيبُونَ , لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلِّفَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ , وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ رَأْيُهُ , وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهِ عِلْمَ الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ : أَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ , ( وَكُلُّ مَا ) أَجَزْنَا فِيهِ الِاجْتِهَادَ , وَصَوَّبْنَا فِيهِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ , فَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ . فَأَمَّا الْعَدْلُ وَالْجَبْرُ , وَالتَّوْحِيدُ وَالتَّشْبِيهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ فِيهِ بِجَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ . وَاَلَّذِي كُلِّفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ اعْتِقَادَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ النَّصِّ بِتَكْلِيفِ بَعْضِ النَّاسِ الْقَوْلَ بِالْعَدْلِ , وَآخَرِينَ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ , وَبِتَكْلِيفِ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ , وَآخَرَ الْقَوْلَ بِالتَّشْبِيهِ .  وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ , لِتَنَاقُضِ الْقَوْلِ بِهِ , وَاسْتِحَالَتِهِ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ , مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَعَلَيْهِ الرَّأْيُ , وَجَازَ تَكْلِيفُهُمْ الْقَوْلَ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ , لِجَوَازِ وُرُودِ النَّصِّ ( بِهِ ) , عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا , مُتَّفِقُونَ قَبْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ عَلَى إيجَابِ التَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِالْخِلَافِ فِيهَا , فَمَنْ صَوَّبَ الْجَمِيعَ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّا قَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ صِحَّةِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ , بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ مَعْقُولَةٍ كَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ , إثْبَاتُ الصَّانِعِ الْقَدِيمِ , وَأَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ , وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ عليهم السلام , وَنَحْوِهَا . فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَقَامَ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَدْلُولَاتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ عَنْ الدَّلِيلِ مُصِيبًا , إذْ قَدْ جُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ مِنْ جِهَةِ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ . وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَلِّقًا بِالِاعْتِقَادِ . فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ مِنْ الْجَبْرِيِّ وَالْمُشَبِّهِ اعْتِقَادَ مَا اعْتَقَدَهُ , لَكَانَ مُبِيحًا لِلْجَهْلِ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ . وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ بِهِ , وَبِكَوْنِهِ صَانِعًا قَدِيمًا , وَلَوْ جَازَ مِنْهُ إبَاحَةُ الْجَهْلِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ لَجَازَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْجَهْلِ ( بِهِ ) , فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ ( فِي ) وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ , وَهُوَ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ , وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ . وَعَدَلَ عَنْهُ , فَهُوَ ضَالٌّ غَيْرُ مُهْتَدٍ .  وَأَيْضًا : فَلَا يَخْلُو الْقَائِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُجَوِّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ , حَتَّى يَكُونَ مُكَلِّفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِحَّةَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَنَظَرُهُ , عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ , وَتَضَادِّ الْمَذْهَبَيْنِ , أَوْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّنَّ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ . فَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُمَا مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَةِ الْعِلْمِ , فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَاحِدَةٌ , لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ , فَتَكُونُ مَعْلُومَةً مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْعِلْمَيْنِ . كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ تَكْلِيفِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ , ( وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ كَلَّفَهُمَا الظَّنَّ فَحَسْبُ , دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ , مِنْ حَيْثُ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ) . وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ وَاحِدَةً , فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا , إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ , وَكَانَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النَّظَرِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَى مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ . فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلنَّظَرِ وَطَلَبِ الْحَقِيقَةِ , فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الظَّنُّ مُبَاحًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسَبَبِ مَا يَسْتَفْرِغُ مُدَّةَ النَّظَرِ , فَيُؤَدِّيه إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ . وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا : تَكْلِيفُ الظَّنِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , مِنْ جِهَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِمِثْلِهِ وَمِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ , وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ ظُهُورِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ مِنْهَا , وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ , عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَعَلَى تَأْثِيمِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ , وَهُوَ مُتَفَارِقٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْقِيَاسِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ مِمَّا طَرِيقُهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ , بَلْ حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إمْضَاءُ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَسَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ قَدْ حَصَلَتْ عَلَى حَقِيقَةٍ مَعْلُومَةٍ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا .  وَمِنْهَا : أَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ إنَّمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ , كَاخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ , وَالْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ . وَلَمَّا امْتَنَعَ وُرُودُ النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُ اعْتِقَادِهَا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ إنَّمَا كُلِّفَ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ , وَاسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ , دُونَ إصَابَةِ الْحَقِيقَةِ , إذْ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ . فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُمْ ذَلِكَ , دُونَ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهِ . كَمَا كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الِاعْتِقَادَ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ مِنْ جِهَتِهَا , مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ وَتَضَادِّهَا , فَكُلِّفَ وَاحِدٌ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الشِّمَالِ , إذَا غَلَبَ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ , وَكُلِّفَ الْآخَرُ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهَا فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ , عِنْدَ غَلَبَةِ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ , مَعَ تَضَادِّ الْجِهَتَيْنِ , وَاسْتِحَالَةِ وُرُودِ النَّصِّ بِهِمَا , وَالْكَعْبَةُ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَجِهَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ , وَلَا يُغَيِّرُهَا عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ . وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَى وَاحِدٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ : اعْتِقَادَ عَدَالَتِهِمْ وَإِمْضَاءَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ , وَفَرَضَ عَلَى آخَرَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ ( فِسْقُهُمْ ) : اعْتِقَادَ فِسْقِهِمْ , وَإِلْغَاءَ شَهَادَتِهِمْ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عُدُولًا أَوْ فُسَّاقًا , قَدْ حَصَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إحْدَى جِهَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ , وَتَقْوِيمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ , وَمَقَادِيرُ الْمَكِيلَاتِ , وَالْمَوْزُونَاتُ , قَدْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , قَدْ حَصَلَتْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ , إمَّا مُوَافِقَةً لِظَنِّ بَعْضِهِمْ , أَوْ مُخَالِفَةً لِظَنِّ جَمِيعِهِمْ , إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ مَا قَالُوا , وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّصِّ بِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي حَصَلَ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا , فَقَدْ صَحَّ تَكْلِيفُهُمْ الظُّنُونَ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَضَادِّهَا ,  بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ , فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ مِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ , وَنَحْوِهَا , وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاعْتِقَادِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ , وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْمَغِيبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَةِ الْمَظْنُونِ , إذْ لَمْ يُكَلَّفُوا الْمَغِيبَ . وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ إذَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ الشَّيْءَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ كَذَا , وَمُرَادُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدِي , وَفِي ظَنِّي , فَيَكُونُ صَادِقًا . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَجُوزُ إنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ , أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ , وَيَقُولُ آخَرُ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ جِهَةٌ أُخْرَى : إنَّ هَذِهِ جِهَتُهَا , وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا عِنْدَهُ لَا إلَى الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِيقَتِهَا . وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ عليهم السلام : أَنَّهُ أَمَاتَهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ { قَالَ كَمْ لَبِثْت قَالَ لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وَكَانَ صَادِقًا , لِأَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا كَانَ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ . وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وَكَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ , إذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ ظُنُونِهِمْ , وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ , { وَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } وَمَعْنَاهُ : لَمْ يَكُنْ عِنْدِي , فَإِذًا قَدْ جَازَ إطْلَاقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ الْمَمْدُوحِينَ , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُتَعَلِّقًا بِغَالِبِ ظُنُونِهِمْ , دُونَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ , وَدُونَ حَقِيقَةِ مَظْنُونِهِمْ , فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ غَلَبَةُ رَأْيِهِ مُتَعَبِّدٌ بِاعْتِقَادِ مَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ , وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , أَنَّهُ كَذَلِكَ , عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ , وَكَانَ إطْلَاقُهُ ( سَائِغًا حَائِزًا ) بِمَا عِنْدَهُ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ . الْجَوَابُ : أَنَّ مَا قَدَّمْنَا كَافٍ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ فِي إسْقَاطِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا , وَفِي إجَازَةِ مَا شَاءَ مِنْهُ هَذَا السَّائِلُ إجَازَةُ إبَاحَةِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ .  وَلَوْ جَازَ أَنْ يُبِيحَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ , وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَيَشْتُمَهُ , وَيَشْتُمَ أَنْبِيَاءَهُ عليهم السلام , وَهَذَا قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ( عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ) , فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهَذَا الْقَوْلِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ أَجَازَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ , مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ , حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مُعْتَقِدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدَهُ , وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ فِيهِ , دُونَ مَا خَالَفَ فِيهِ الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ , مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ . فَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ مُؤَدِّيًا إلَى انْسِلَاخٍ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلَّةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ , وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ , وَمِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ , ( وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ ) مَانِعًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ - عَلَى اخْتِلَافِهِمْ - وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اخْتِلَافِ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَأَفْعَالُهُ . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَحَرِّي الْكَعْبَةِ , وَتَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَالنَّفَقَاتِ , وَإِثْبَاتِ مَقَادِيرِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ لِغَالِبِ الظَّنِّ , وَتَكْلِيفِ كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مَعَ كَوْنِ الْحَقِيقَةِ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةً , وَامْتِنَاعُ وُرُودِ النَّصِّ بِهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودٍ لَا اخْتِلَافٍ , فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ , وَذَلِكَ ( أَنَّهُ ) لَيْسَ الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ هُوَ ظَنُّهُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ دُونَ غَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ ( الْفَرْضُ عَلَى الْمُتَحَرِّي ) الْحَاكِمِ لَيْسَ الْفَرْضَ الَّذِي كُلِّفَ وُجُودَ الظَّنِّ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا عَدْلٌ , أَوْ فَاسِقٌ وَكَذَلِكَ النَّفَقَاتُ وَنَحْوُهَا .  وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأُمُورٍ أُخَرَ قَدْ أُمِرُوا بِإِمْضَائِهَا عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْهُمْ عَلَى وَصْفٍ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّنُّ نَفْسُهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ . فَأَمَّا مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ هَذِهِ جِهَةٌ لِلْكَعْبَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَيْهَا , وَمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ عَدَالَةُ الشُّهُودِ , أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ , وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ الْمُسْتَهْلَكِ كَذَا , أَنْ يَلْزَمَهَا مُسْتَهْلِكَةَ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْلَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ , لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِطَلَبِهَا وَلَا التَّحَرِّي لِجِهَتِهَا . وَمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِخْبَارِ بِالِاجْتِهَادِ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ ( فَالتَّحَرِّي ) عَنْهُ سَاقِطٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلْزَامُ حُكْمٍ لِغَيْرِهِ فِي ضَمَانِ مَا احْتَاجَ إلَى التَّقْوِيمِ , فَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ . فَعَلِمْت أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُتَعَلِّقٌ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ , لَا الِاعْتِقَادِ لِلظَّنِّ , وَكُلُّ مَا كُلِّفَ مِنْ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِإِمْضَائِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ النَّاسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ , وَبَعْضَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى غَيْرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا , كَالْخَائِفِ وَنَحْوِهِ . وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ الْإِنْسَانَ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ هَذَيْنِ , وَيُكَلِّفَ آخَرَ أَنْ لَا يُمْضِيَ حُكْمًا بِشَهَادَتِهِمَا . وَجَائِزٌ أَنْ يُكَلِّفَ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ مُسْتَهْلِكَ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَ دَرَاهِمَ , وَيُكَلِّفَ آخَرَ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا , فَالْأُمُورُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا صِحَّةُ التَّكْلِيفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ , فَلِذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ مُصِيبِينَ , وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الظُّنُونِ الْمُخْتَلِفَةِ , إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْفُرُوضُ الَّتِي كُلِّفُوهَا , وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا كُلِّفُوا الْفُرُوضَ  عِنْدَ وُجُودِهَا , كَمَا يُكَلَّفُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَحُضُورُ أَوْقَاتٍ , وَأُمُورٍ لَيْسَتْ هِيَ فِي أَنْفُسِهَا فُرُوضًا . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ , لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ الِاعْتِقَادُ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ , لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُهُ , فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُبِيحَ اللَّهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَهُمْ اعْتِقَادَ مَا كَلَّفَهُمْ اعْتِقَادَهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ , وَهُوَ الَّذِي صَادَفَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَمَا عَدَاهُ فَضَلَالٌ وَبَاطِلٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .  كَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " ح " : فَرَغَ مِنْ نَسْخِ هَذَا الْكِتَابِ الْفُصُولِ لِلرَّازِيِّ بِعَوْنِ اللَّهِ الْمُجَازِي , الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَتِهِ , مُحَمَّدُ بْنُ مَاضِيٍّ , عَفَا اللَّهُ عَنْهُ , وَمَتَّعَ بِهِ مُسْتَنْسِخَهُ وَنَاظِرَهُ . الْعَصْرَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ , عَامَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ . أَحْسَنَ اللَّهُ عَافِيَتَهُ , وَذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " . وَكَتَبَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ " هـ " : " هَذَا آخِرُ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ , رحمه الله , فَرَغَ عَنْ كِتَابَتِهِ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَبُو حَنِيفَةَ , أَمِيرُ كَاتِبِ بْنِ أَمِيرِ عُمَرَ الْعَمِيدِ الْمَدْعُوّ بِقِوَامِ الْفَارَابِيِّ الْأَتْقَانِيِّ بِدِمَشْقَ , حَمَاهَا اللَّهُ عَنْ الْآفَاتِ , سِرَارَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ , وَكَانَ تَارِيخُ النُّسْخَةِ الَّتِي كُتِبَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ مِنْهَا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ , وَكَانَ وَفَاةُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ , وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ . قُوبِلَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ بِالْأَصْلِ الْمَنْسُوخِ مِنْهُ , فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ " . تَمَّ دِرَاسَةُ وَتَحْقِيقُ كِتَابِ " الْفُصُولِ فِي الْأُصُولِ " لِلْإِمَامِ الْجَصَّاصِ وَلِلَّهِ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ .