أصول الجصاص - الجزء الثالث

من معرفة المصادر

الفصول في الأصول

الجزء الثالث

تأليف


أبي بكر،أحمد بن على الرازي، الجصاص المتوفى 370هـ





بَابٌ ذِكْرُ نَسْخِ النَّاسِخِ مِنْ الْأَحْكَامِ

	     قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ يَرِدُ النَّسْخُ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمِ , وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَسَخَهُ قوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ( وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } نَسَخَهُ قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ . وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قوله تعالى . { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ بَدْءًا , وَأَنَّهُ نُسِخَ بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ اللَّذَيْنِ نُسِخَ بِهِمَا .  ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا . الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ , وَالرَّجْمُ } وَهَذَا الْحَدُّ مَنْسُوخٌ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } . وَعَنْ الْمُحْصَنِ رَجْمُهُ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ ( مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ وَبِقَوْلِهِ : ) { يَا أُنَيْسُ اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا , فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } , فَلَمْ تُوجِبْ الْآيَةُ النَّفْيَ , وَلَمْ يُوجِبْ الْخَبَرُ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ , وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ ( بْنِ الصَّامِتِ ) لِأَنَّهُمْ نُقِلُوا مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى إلَى مَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ , بِلَا وَاسِطَةٍ لِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي , قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ثُمَّ كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ وَقِصَّةُ مَاعِزٍ بَعْدَ ذَلِكَ . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ : إبَاحَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ حُظِرَ ثُمَّ أُبِيحَ , ثُمَّ حُظِرَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رحمه الله , ذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ , فَرَوَى : أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ , وَرَوَى : أَنَّ قُدُومَهُ مِنْهَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ , وَالنَّبِيُّ عليه السلام كَانَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ , قَالَ : فَسَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي , وَقَدْ كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ . قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ , فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ , فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ :  عليه السلام إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ , وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ : أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمًا لِيَوْمِ بَدْرٍ . وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي إبَاحَتِهِ أَيْضًا قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ ( لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ) وَرُوِيَ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ } . فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ مُشَاهَدَةَ حَالِ : إبَاحَةِ الْكَلَامِ مِنْهَا , وَهُوَ ( مِمَّنْ ) لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا , وَلَمْ يَكُنْ ( حِينَئِذٍ ) مِمَّنْ يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ , أَوْ عَسَى لَمْ يَكُنْ  وُلِدَ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ : إبَاحَتُهُ بَعْدَ حَظْرِهِ , ثُمَّ حَظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِهِ , نَحْوُ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ , } وَلِأَنَّ ( النَّاسَ قَدْ ) اتَّفَقُوا : أَنَّ آخِرَ حُكْمِهِ كَانَ الْحَظْرَ , وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا : مُتْعَةُ النِّسَاءِ , لِأَنَّهُ ( رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَبَاحَهَا , ثُمَّ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ } , وَرَوَى سَمُرَةُ الْجُهَنِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَبَاحَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , ثُمَّ حَرَّمَهَا } ( فَدَلَّ أَنَّهَا ) أُبِيحَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ , ثُمَّ حُظِرَتْ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ , فَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا الْحَظْرَ ) .

بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ

	 رُوِيَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ . وَأَنَّ الرَّحِمَ ( بَعْدَ ) قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } . فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا , وَيَقُولُ : إنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ قَالَ : فَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ فَقَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ اسْتَحَقَّ ( الْحَلِيفُ ) الْمِيرَاثَ , إذَا كَانَ عَاقَدَهُ وَوَالَاهُ عَلَى ( أَنَّهُ ) يَرِثُهُ إذَا مَاتَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ مَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُ وَارِثًا مِنْكُمْ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , فَلْيَضَعْ أَحَدُكُمْ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ ) .  وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ , لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ , وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ , كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ , وَلَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَنْسُوخًا عِنْدَ وُجُودِ الِابْنِ , كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ ( ذِي رَحِمٍ ) أَوْ وَلَاءٍ , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِيرَاثَهُ حَيْثُ شَاءَ , بِحُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ : وُجُوبُ الْإِرْثِ بِالْمُعَاقَدَةِ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ فِي حَالِ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَوْجَبَهُ لِلْحَلِيفِ مَعَ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ , وَمَعَ عَدَمِهِمْ , وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ , فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } . فَقَدْ صَرَفَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا كَانَ جَعَلَهُ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْمَيِّتِ , فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقِدِ , فِي حَالِ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو رَحِمٍ : فَحُكْمُ الْإِرْثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ , فَكَأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى إحْدَى حَالَيْ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْحَلِفِ ( وَهِيَ حَالُ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ دُونَ غَيْرِهَا , وَنُفِيَ هَذَا الْحُكْمُ ) فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتْرُكُ الْمَيِّتُ فِيهَا ذَا رَحِمٍ عَلَى مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقَدَةِ . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ قوله تعالى { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ النَّاسُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سُتُورٌ , فَكَانَ خَادِمُ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَعَ  أَهْلِهِ , فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ لِذَلِكَ , فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَالَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ , لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بَاقٍ , وَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ , مَتَى زَالَ السَّبَبُ عَادَ الْحُكْمُ , كَالْحَائِضِ لَا صَلَاةَ عَلَيْهَا , لِأَجْلِ وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي إذَا زَالَ لَزِمَتْهَا الصَّلَاةُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلصَّلَاةِ عَنْهَا , لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ , مَتَى زَالَ عَادَ حُكْمُ لُزُومِهَا , وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ , فَنُقِلَتْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ , وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْآيَةُ فِي إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَسْبَابِ السَّاتِرَةِ لَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الدَّاخِلِينَ إلَيْهِمْ , مِنْ خَدَمِهِمْ , وَأَوْلَادِهِمْ , فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ , وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ نُقِلُوا عَنْهُ بِالْآيَةِ إلَى غَيْرِهِ ( فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ ) الَّذِي مِنْ ( أَجْلِهِ ) أُمِرُوا بِذَلِكَ ( زَالَ ) الْحُكْمُ.

بَابٌ الْقَوْلُ فِي لُزُومِ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام

	   قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ قَائِلُونَ : لَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا عليه السلام فِي شَرَائِعِهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا , وَإِنَّمَا الْمَبْعُوثُ إلَيْنَا نَبِيُّنَا عليه السلام , وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَتُهُ خَاصَّةً دُونَ شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام . وَقَالَ آخَرُونَ : كُلُّ مَا ثَبَتَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ فَهُوَ لَازِمٌ لَنَا , ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا , وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ , بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّ حُكْمَ كَيْتَ وَكَيْتَ قَدْ كُنْت شَرَعْته لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ , وَيُخْبِرُنَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام . وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ , فَيَلْزَمُنَا ذَلِكَ , عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ عليه السلام .  وَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ , لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَبَدَّلُوهَا , فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رِوَايَةِ مَنْ حَكَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ كَذَا , وَلَا إلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ أَيْضًا , لِأَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ , بِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ . وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله فِي كِتَابِ الشِّرْبِ , لِإِجَارَةِ الْمُهَايَأَةِ فِي الشِّرْبِ , بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ , حِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } . وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً : أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهَؤُلَاءِ لَازِمٌ لَنَا . ثُمَّ جَائِزٌ لَنَا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ إنَّمَا رَآهُ لَازِمًا لَنَا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام . وَقَدْ كُنْت أَرَى أَبَا الْحَسَنِ رحمه الله كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ , وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَظَاهِرُ احْتِجَاجِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ ؟ قَائِلٌ : قَدْ كَانَتْ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى آخِرِ الْأَبَدِ مَا لَمْ يُنْسَخْ .  أَوْ يَقُولُ : إنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ لَمْ تَلْزَمْ النَّاسَ كَافَّةً عَلَى التَّأْبِيدِ , وَإِنَّمَا لَزِمَتْنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عليه السلام , وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عليه السلام , لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ عليهم السلام . أَوْ يَقُولُ قَائِلٌ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ثَابِتَةً , لَا مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ هَذَا , إذَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا عَلَى مَا قَالَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ بَدْءًا وَلَا مِنْ جِهَةِ : أَنَّهَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا شَيْءٌ , وَإِنْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : أَنَّهُ شَرَعَهَا لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَوْ النَّبِيُّ عليه السلام : أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لَنَا . فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ بَعِيدٌ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ هَكَذَا , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا , وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوَامِرُ أَوَامِرَ لَنَا , وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ ( خُصِصْت بِخَمْسٍ لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي , مِنْهَا : أَنِّي بُعِثْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ , وَكُلُّ نَبِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ ) وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا طَلَبُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَنَتَّبِعُهَا , وَلَدَعَا النَّبِيُّ عليه السلام النَّاسَ إلَيْهَا دُعَاءً عَامًّا , كَدُعَائِهِ عليه السلام إلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَامًّا , وَلَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام تَعْلِيمُهَا الصَّحَابَةَ وَتَبْلِيغُهَا إيَّاهُمْ , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَقَلُوهَا  كَنَقْلِهِمْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عليه السلام . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَحِيفَةً فَقَالَ : مَا هَذِهِ فَقَالَ : التَّوْرَاةُ , فَغَضِبَ عليه السلام وَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ لَوْ كَانَ مُوسَى عليه السلام حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي } فَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا , لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا وَعَنْ تَعَلُّمِهَا . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ , فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ نَتَّبِعَ مِنْهَا مَا قَدْ بَدَّلُوهُ . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَهُ لَهُ , فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ : ( لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ) , دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى عليه السلام لَمْ تَكُنْ قَائِمَةً ثَابِتَةَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً ثَابِتَةً لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا , مَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا , فَهَذَا الْوَجْهُ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمَقَالَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا . فَنَقُولُ : إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام , فَلَزِمَ النَّاسَ حِينَئِذٍ حُكْمُهَا , مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عليه السلام , لَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ شَرِيعَةً لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلَى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ  عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك } إلَى قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } فَبَقِيَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ : أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَلَى شَرِيعَتِهِ , وَلَزِمَتْنَا مِنْ حَيْثُ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا , لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ : أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فَتَكُونُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةً لَنَا مِنْ حَيْثُ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا , فَإِلْزَامُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا فِعْلَهَا بِالْقُرْآنِ , لَا لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا مَبْعُوثِينَ إلَيْنَا , وَلَا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ أَمْرًا لَنَا عِنْدَ وُرُودِهَا . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ سَجْدَةِ ( ص ) مِنْ أَيْنَ سَجَدْت ؟ قَالَ : أَوَمَا تَقْرَءُوا { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ }  إلَى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَكَانَ دَاوُد مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ , فَسَجَدَهَا دَاوُد عليه السلام , وَسَجَدَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ , لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لقوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ إلَى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَتِهِ , فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ شَرَائِعِ مِثْلِهِ , الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْأُمَمِ فِيهَا . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّهُ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ , وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ , وَقَدْ أُمِرَ بِاقْتِدَائِهِمْ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَسَاوَى الْجَمِيعُ فِي تَكْلِيفِهِ : مِنْ التَّوْحِيدِ , وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عليهم السلام , وَنَحْوِهِ , مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ . وَوَجْهٌ آخَرُ : أَنَّ شَرَائِعَهُمْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهَا , لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْأَزْمَانِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا , فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ مِمَّا فِي الْعُقُولِ إيجَابُهُ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً  وَمِنْهَاجًا } وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْآخَرِينَ . الْجَوَابُ : أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام عَلَى التَّوْحِيدِ , وَأَنَّ قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } رَاجِعٌ إلَيْهِ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ , فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ , مِنْ قَبْلِ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى يَتَنَاوَلُ مَا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى تَوْحِيدِهِ , وَعَدْلِهِ , وَسَائِرِ صِفَاتِهِ , وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرَائِعِهِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ , يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فَسَمَّى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُدًى , وَقَالَ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى : مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ فِيهَا , وَعَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَةِ إدْرَاكِهَا السَّمْعُ , ثُمَّ سَمَّى الْجَمِيعَ هُدًى , فَدَلَّ أَنَّ اسْمَ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِمَا فِي الْعَقْلِ إيجَابُهُ , دُونَ مَا يَدُلُّ السَّمْعُ عَلَى وُجُوبِهِ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , اقْتَضَى عُمُومُ قوله تعالى : { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ هُدًى , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ دُونَ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ , لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِهِ , وَكُلُّ كَلَامٍ هَذَا حُكْمُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ , وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ , فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ لَفْظِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آبَاءَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ , وَأَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ ذَوِي شَرَائِعَ , وَقَدْ أُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ , فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال عَلَى التَّوْحِيدِ , فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِمَا ذَكَرَهُ , مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْآيَةِ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا , ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ , وَإِخْوَانِهِمْ , وَذُرِّيَّاتِهِمْ , وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ , فَأُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ أَيْضًا ,  وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ , وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } جُمْلَةً , لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ إلَّا وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام , أَلَا تَرَى إلَى قوله تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَأَيْضًا : فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ : يَقْتَضِي الِاقْتِدَاءَ بِالْجَمِيعِ , فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ شَرِيعَةٌ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا وَاجِبٌ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَخْصُوصٌ مِنْ اللَّفْظِ , إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَنْبِيَاءَ خَاصَّةً . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ : مِنْ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا , فَلَا مَعْنَى لَهُ , لِأَنَّ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام : النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ , كَذَلِكَ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا , وَتَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا مَا اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ حُكْمُهُ إلَى مَبْعَثِهِ عليه السلام , فَجُعِلَ شَرِيعَةً لَهُ دُونَ مَا نُسِخَ مِنْهَا , وَعَلِمْنَا بِالنَّاسِخِ مِنْهَا مِنْ الْمَنْسُوخِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيهَا , لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ , ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِهِ , فَأَمَّا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا تَتَبُّعُهُ , لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّسُولِ عليه السلام . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كُنَّا مُتَعَبِّدِينَ بِذَلِكَ , لَكَانَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ وَتَتَبُّعُهُ , فَلَيْسَ بِمُوجِبِ مَا ذُكِرَ , لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ إذَا صَارَ شَرِيعَةً لَنَا فَقَدْ اكْتَفَيْنَا بِوُجُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , عَنْ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى . وَنَقُولُ : إنَّ كُلَّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ , لِأَنَّا لَا نَصِلُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ يُوثَقُ بِهَا , وَمَا كَانَ هَذَا حُكْمُهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنَّا تَكْلِيفُهُ , فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا شَيْءٌ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِهِ - فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرِيعَةً لَهُمْ , فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِإِيجَابِهِ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حِكَايَةُ كَوْنِهِ شَرِيعَةً لِمَنْ قَبْلَنَا - فَيَكْفِي بِهَذَا عَنْ طَلَبِهِ وَتَتَبُّعِهِ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا .  وَأَمَّا قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَغَيْرُ مَانِعٍ مِمَّا قُلْنَا : مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرَائِعِ , فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا , وَذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي خَالَفَ بِهِ شَرِيعَتُنَا شَرَائِعَهُمْ , هُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّسْخُ , فَلَا يَلْزَمُنَا اسْتِعْمَالُهُ , وَقَدَّمْنَا ذِكْرَ قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } إلَى قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهَذَا الظَّاهِرُ قَدْ اقْتَضَى الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَمِيعِ , لِأَنَّ الدِّينَ اسْمٌ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ جَمِيعًا . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } لِأَنَّ الْمِلَّةَ اسْمٌ يَجْمَعُ ذَلِكَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُنْسَخُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ عليه السلام : قوله تعالى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } إلَى قوله تعالى : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } , وَالظَّالِمُونَ , وَالْفَاسِقُونَ فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ الرَّجْمِ , فَنَبَّهَ بِهَا عَلَى كَذِبِهِمْ , وَبَهَتَهُمْ فِي كِتْمَانِهِمْ لِأَمْرِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَلِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ , فَقَالَ تَعَالَى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ , فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ , ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } إلَى قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } فَحَكَمَ بِإِكْفَارِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الرَّجْمِ , الَّذِي كَانَ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عليه السلام , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ شَرِيعَتِهِ فِيهِ , فَصَارَ كَأَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِإِكْفَارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِتَرْكِهِمْ الرَّجْمَ الَّذِي كَانَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ , لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَرْكِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ , وَاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِسِمَةِ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِتَرْكِهِمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ , إذْ هُمْ  مَأْمُورُونَ فِيهَا بِتَرْكِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ , إلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ , صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِمُوسَى عليه السلام فِي تِلْكَ الْحَالِ , بَلْ صَارَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوخَةً بِشَرَائِعِ الرَّسُولِ عليه السلام , إذْ كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ . وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا : وَهُوَ قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } إلَى قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } - وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ - فَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ صَارَ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عليه السلام بِعَيْنِهِ , وَإِعْلَامِهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَذَلِكَ , لَمَا كَانَ الْيَهُودُ ظَالِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ , عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عليه السلام , فَدَلَّ : عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْوَصْفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عليه السلام . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ , وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى دِينِهِ , عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةً لِعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام وَدُونَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام , أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام دُونَ كَوْنِهِ مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى عليه السلام . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَسِمَةَ الْفِسْقِ , لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِعِيسَى عليه السلام , لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ عليه السلام فِي شَرَائِعِهِ , بَلْ يَقْتَضِي : أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْبَقَاءِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عليه السلام , وَبُلُوغِهِمْ دَعْوَتَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عليه السلام , مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخِلَافِهَا وَنَسْخِهَا , وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ , لِأَنَّهُمْ زَالُوا عَنْ حَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ , مِنْ اتِّبَاعِهِ , وَالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ , عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ

      	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا فِي أُصُولِ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخَالِفِي الْمِلَّةِ , وَعَلَى مَنْ شَذَّ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جُمْهُورِ الْأُمَّةِ , مَا يُغْنِي وَيَكْفِي . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ جُمَلًا , ثُمَّ نُعَقِّبُهَا بِفُرُوعِهَا الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا , وَاَللَّهُ نَسْأَلُ الْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَخْبَارِ : فَنَفَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ , وَأَنْكَرَتْ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْهَا , وَنَفَتْ الْيَهُودُ كُلَّ خَبَرٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ , وَأَثْبَتَتْ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ , مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ : لَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهَا مَعْصُومًا . وَقَالَ آخَرُونَ : شَرْطُ صِحَّتِهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ بِهَا عُدُولًا , أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى , لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ , وَلَيْسُوا بِأَعْيَانِهِمْ . وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ : لَا يُعْرَفُ بِخَبَرِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ شَيْءٌ , وَمِنْ فَوْقِ الْأَرْبَعَةِ إلَى  الْعِشْرِينَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِخَبَرِهِمْ , وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُعْلَمَ , إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ , وَعَلَى نَفْيِهِ , وَأَمَّا الْعِشْرُونَ فَقَدْ يُعْلَمُ صِحَّةُ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ , إذَا كَانَ الْعِشْرُونَ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ سَوَاءً , أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ النَّظَّامُ : خَبَرُ الْوَاحِدِ يُضْطَرُّ إلَى الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ , وَمَتَى عَلِمَهُ اضْطِرَارًا عِنْدَ مُقَارَبَةِ أَسْبَابِهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ اثْنَيْ عَشْرَ , لقوله تعالى : { وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ سَبْعِينَ رَجُلًا . فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ بَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْمِلَّةِ , وَبَعْضُهَا شُذُوذٌ عَنْ كَافَّةِ الْأُمَّةِ . وَالْوَجْهُ : أَنْ نَبْتَدِئَ بِذِكْرِ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا عَلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ , وَمَا صَحَّ عِنْدَنَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا , ثُمَّ بِإِفْسَادِ مَا خَالَفَهَا وَخَرَجَ عَنْهَا .

بَابٌ ذِكْرُ وُجُوهِ الْأَخْبَارِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَحْكَامِهَا

	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله , جُمْلَةً فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ وَأَحْكَامِهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِي الْأَخْبَارِ , وَأَنَا أَذْكُرُ مَعَانِيَهَا مُخْتَصَرَةً دُونَ سِيَاقَةِ أَلْفَاظِهَا , فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ , فَكَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهَا عَلَى نَسَقِهَا , وَاقْتَصَرْت مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِ فِيهَا . ذَكَرَ : أَنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ فِيهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ . وَقِسْمٌ مِنْهَا : يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ . وَقِسْمٌ : يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَمَا وَقَعَ الْعِلْمُ بِمُخْبِرِهِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ , وَامْتِنَاعِ جَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مُخْبِرِهِ , كَعِلْمِنَا بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَخُرَاسَانَ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عليه السلام دَعَا النَّاسَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَجَاءَ بِالْقُرْآنِ , وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ , وَأَمْرُهُ إيَّانَا : بِالصَّلَاةِ , وَالزَّكَاةِ , وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَحَجِّ الْبَيْتِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ عِيسَى رحمه الله : وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمُ اضْطِرَارٍ وَإِلْزَامٍ , لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ , رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام , كَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عليه السلام يَقُولُ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا , خَارِجًا عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ , كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ , وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَوْمٌ , وَأَنَّ الْمَوْجُودِينَ أَوْلَادُ أُولَئِكَ , وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حَدٌّ مَعْلُومٌ , وَلَا عِدَّةٌ مَحْصُورَةٌ . وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ الْعَشَرَةَ وَالْعِشْرِينَ قَدْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَعْنَاهُ عِنْدِي إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَشَاعِرِينَ , يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ . قَالَ عِيسَى رحمه الله : لِأَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ : هُوَ مَا يَقَعُ لَنَا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ , الَّذِي لَا مَجَالَ لِلشَّكِّ مَعَهُ , وَلَا مَسَاغَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ , وَذَكَرَ مَا فِي هَذَا الْقِسْمِ , مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ , عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ , فَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ , نَحْوُ قوله تعالى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ } الْآيَةَ , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ م فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ , فَوُجِدَ مُخْبَرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى . وَنَحْوُهُ : مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عليه السلام وَنَحْوُ ذَلِكَ , مِمَّا لَا يَخْفَى كَثْرَةً , فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ وَوَصَفَ . فَمِنْهُ مَا وُجِدَ فِي أَيَّامِهِ , وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يَكُونُ بَعْدَهُ , فَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ . وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا : إنَّا إذَا رَأَيْنَا النَّاسَ مُنْصَرِفِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ , فَاعْتَرَضْنَاهُمْ سَائِلِينَ لَهُمْ عَنْ مَجِيئِهِمْ فَقَالُوا : جِئْنَا مِنْ الْجَامِعِ , وَقَدْ صَلَّيْنَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً : أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ , مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ , وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَرَضْنَا قَافِلَةَ الْحَاجِّ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَسَأَلْنَاهُمْ , فَقَالُوا : حَجَجْنَا , وَوَقَفْنَا بِعَرَفَاتٍ , عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِأَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ , مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . قَالَ عِيسَى : وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي يُعْلَمُ كَذِبُهُ حَقِيقَةً , فَكَنَحْوِ أَخْبَارِ مُسَيْلِمَةَ وَإِضْرَابِهِ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ , أَخْبَرُوا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَانَتْ كَذِبًا وَزُورًا , وَادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ  دَلَائِلَ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ مِنْ النُّبُوَّةِ , فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا , فَبَانَ كَذِبُهُمْ , وَانْكَشَفَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمْ . قَالَ : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ قَائِلٍ : رَأَيْت رِجَالًا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ , وَرَأَيْت دَارًا وُجِدَتْ مِنْ غَيْرِ بَانٍ بَنَاهَا , وَرَأَيْت النَّاسَ تَفَانَوْا بِالْقَتْلِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ , فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ , ثُمَّ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ بِمِثْلِ خَبَرِهِ , فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . قَالَ : فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ , فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يَتَوَاتَرُ بِهَا الْخَبَرُ , وَيَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ , فَيَجُوزُ فِي خَبَرِهِمْ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ , فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ , فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ , عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا , مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ مِنَّا بِصِدْقِهِ , وَلَا الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ . وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْفِسْقَ وَالتُّهْمَةَ بِالْكَذِبِ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَصَدَ عِيسَى إلَى ذِكْرِ تَقْسِيمِ الْأَخْبَارِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِمُخْبِرِهَا دُونَ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَارِنُهُ , دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ , وَسَنُفَصِّلُهَا بِاسْتِيفَائِنَا لِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُتَوَاتِرٌ , وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ . فَالْمُتَوَاتِرُ مَا تَنْقُلُهُ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ عَدَدِهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ صِفَتِهِمْ الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ , فِيمَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ . وَغَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ : مَا يَنْقُلُهُ وَاحِدٌ وَجَمَاعَةٌ , يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَقْلِهِ . فَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ : فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ بِاضْطِرَارٍ , مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ , لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ . وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُهُ , وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهِهِ , بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُتَوَاتِرِ , وَمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا . الْكَلَامُ عَلَى مَنْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ قَالَ : الَّذِينَ دَفَعُوا وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ طَرِيقُ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ  بِالِاسْتِدْلَالِ مَبْنِيًّا عَلَى عُلُومِ الِاضْطِرَارِ , فَمَنْ جَحَدَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ مَا جَحَدَهُ , مِمَّا لَا يَشُكُّ هُوَ وَلَا وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فِي مُكَابَرَتِهِ , وَدَفْعُ مَا لَا يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً , كَمَا نَتَكَلَّمُ فِي دَفْعِ عُلُومِ الْخَبَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ , إذْ لَا فَرْقَ فِي عُقُولِ النَّاسِ جَمِيعًا كَامِلِهِمْ وَنَاقِصِهِمْ وَذَكِيِّهِمْ وَغَبِيِّهِمْ , بَيْنَ مَا عَلِمُوهُ وَتَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا نَاسٌ قَبْلَنَا , وَأَنَّ السَّمَاءَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وِلَادَتِنَا , وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا أَجْدَادٌ وَمُلُوكٌ ( قَبْلَ ) وُجُودِنَا , وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُشَكِّكَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ , كَانَ كَمَنْ رَامَ تَشْكِيكَهَا فِي وُجُودِ نَفْسِهِ , وَوُجُودِ مَا نُشَاهِدُهُ وَنُحِسُّهُ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ وَغَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ . وَأَنَا ذَاكِرٌ : إنْ عَلِمْنَا ذَلِكَ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا , وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نَاسٌ مِثْلُنَا , وَتَكُونُ الْبُلْدَانُ الْفَانِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهَا , وَكَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ , وَالْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ : أَنَّهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَتَى أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى خُرَاسَانَ , قَصَدُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ , وَإِذَا أَرَادُوا مِصْرَ خَرَجُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِكَوْنِ خُرَاسَانَ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ , وَكَوْنِ مِصْرَ نَاحِيَةَ الْمَغْرِبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ , وَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِمْ تَقْرِيرًا لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ , وَلَا تَشْكِيكَ أَنْفُسِهِمْ فِيهِ , كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ التَّغْرِيرُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ , ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ فِيهِ خَوَاطِرُ , وَلَا تَعْتَرِيهِمْ الشُّكُوكُ , وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافٌ , فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ عَلِمُوا صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ثَارَتْ إلَيْهِمْ , مِنْ جِهَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ وَالشُّهُودُ , وَلَا الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقْصِدُونَ سَمْتَ الشَّرْقِ إذَا أَرَادُوا خُرَاسَانَ , وَسَمْتَ الْمَغْرِبِ إذَا  أَرَادُوا مِصْرَ , لِمَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ عِلْمٍ , إذْ قَدْ يَغْلِبُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً , وَتَسْكُنُ نَفْسُهُ إلَى مَا لَا يَرْجِعُ مِنْهُ إلَى يَقِينٍ . قِيلَ : إنَّ مَا وَصَفْت أَنَّهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ , وَسُكُونُ نَفْسٍ , عُلِمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ , وَإِنَّمَا تَوَهَّمْتُمْ أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا . فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُمْ اضْطِرَارًا , لَمَا جَازَ أَنْ يُدْفَعَ , وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ أَنْ نَكُونَ عَالِمِينَ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُمْ . قِيلَ لَهُ : لَمْ تَدْفَعُوا أَنْتُمْ كَوْنَ هَذِهِ الْبُلْدَانِ , وَلَا وُجُودَ السَّمَاءِ , قَبْلَ مَوْلِدِكُمْ , وَلَا وُجُودَ أَجْدَادِكُمْ , وَإِنَّمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ حِينَ تَوَهَّمْتُمْ : أَنَّ عِلْمَكُمْ هَذَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ , كَظَنِّ مَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ , وَالْأَصْلُ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ . إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ عِبَادَهُ وَتَرْغِيبَهُمْ فِيمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ , وَتَعَبَّدَهُمْ بِمَا فِيهِ مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ , عَلَى سُنَّةِ رُسُلِهِ عليهم السلام , بَعْدَمَا قَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ وُجُوبَ اجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِيهَا , وَفِعْلَ مَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِهَا , وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ الرُّسُلِ صلوات الله عليهم إبْلَاغُ كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ , وَمُشَافَهَتُهُ بِمَا تَعَبَّدَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا , خَالَفَ بَيْنَ طَبَائِعِ النَّاسِ , وَهِمَمِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ , لِيَجْمَعَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَصَالِحِهِمْ , فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ , وَلِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُمْ اتِّفَاقٌ , وَمِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ . وَأَجْرَى بِذَلِكَ عَادَةً تَقَرَّرَتْ فِي نُفُوسِ النَّاسِ , كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْخَبَرِ عَلَى مُخْبَرَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ , عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ , فَصَادَفَ ذَلِكَ وُجُودَ مُخْبَرِهِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ تَيَقَّنَ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ , ثُمَّ وَفَّقَ بَيْنَ طَبَائِعِهِمْ فِي اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ , وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ , وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ نَقْلَهَا وَإِذَاعَتَهَا , لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِ الشَّرَائِعِ , وَمَا بِهِمْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ , فَكُلُّ خَبَرٍ وَرَدَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَنَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ , وَالْهِمَمِ , غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ , لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ , أَوَّلُهُمْ كَآخِرِهِمْ , وَوَسَطُهُمْ كَطَرَفِهِمْ , فَأَخْبَرُوا عَمَّنْ شَاهَدُوهُ وَعَرَفُوهُ  اضْطِرَارًا بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِ , لِامْتِنَاعِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ , عَنْ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ , وَذَلِكَ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَخْبَارِ مِنْ نَاقِلِيهَا إنَّمَا يَكُونُ حَسَبَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ , وَالْعِلَلِ الْمُثِيرَةِ لِنَقْلِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ مَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى نَقْلِهِ , مِنْ نَحْوِ مُخْبِرٍ إنَّهُ رَأَى نَاسًا يَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ , وَآخَرِينَ يَتَبَايَعُونَ فِيهَا , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى نَقْلِ مِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ اخْتِرَاعُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا , وَإِنَّمَا تَتَّفِقُ عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ . وَمَعْلُومٌ الِاخْتِلَافُ ( فِي ) دَوَاعِي النَّاسِ وَأَسْبَابِهِمْ . فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ وُقُوعُ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ : أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ , حَتَّى يُخْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَصَارَ قِطْعَتَيْنِ , وَبَقِيَتَا طُولَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتَا . فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ , إلَّا عَنْ تَوَاطُؤٍ . وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا كَالصِّدْقِ , فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نَقْلِ خَبَرِ أَمْرٍ قَدْ شَاهَدُوهُ , وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ غَيْرِ مُتَشَاعِرِينَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالصِّدْقِ دَاعٍ تَجْمَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ , وَهُوَ مُشَاهَدَةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ , وَمَا جُعِلَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ اسْتِنْقَالِ كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ . فَلَمَّا كَانَتْ هُنَاكَ دَوَاعِي تَدْعُو إلَى نَقْلِهِ , وَسَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ , وَكَانَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ مُسْتَقِلًّا فِي طِبَاعِهِمْ سَوَاءً كَانَ عَلَيْهِمْ فِي إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ ضَرَرٌ , أَوْ لَمْ يَكُنْ , صَارَتْ هَذِهِ الدَّوَاعِي سَبَبًا لِنَقْلِهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ , لِتَبْلُغَ الْحُجَّةُ بِالْإِخْبَارِ مَبْلَغَهَا , وَتَنْتَهِي مُنْتَهَاهَا.
    وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إلَى اخْتِرَاعِهِ , وَالْإِخْبَارِ بِهِ , وَلَا سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى وَضْعِهِ , بَلْ الدَّوَاعِي مُتَّفِقَةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْإِشَاعَةِ , فَإِنْ اتَّفَقَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَجْمَعُهُمْ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ تَوَاطُؤٍ وَتَرَاسُلٍ , فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى , بَلْ يَظْهَرُ وَيَنْتَشِرُ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ , حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ . وَعَلَى أَنَّا قَدْ شَرَطْنَا فِي ذَلِكَ : امْتِنَاعَ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشَاعُرِ فِيهِ , عَلَى حَسَبِ امْتِحَانِنَا لِأَحْوَالِ النَّاسِ , فَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُخْبِرِهِ لَا مَحَالَةَ , وَلَيْسَ سَبِيلُ الْإِخْبَارِ فِي هَذَا السَّبِيلِ اعْتِقَادَ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ , وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عَلَى مِثْلِهِمْ اخْتِرَاعُ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ , مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى امْتِحَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ , فَوَجَدْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا , لَا يَجُوزُ مِنْهَا وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ , وَوَجَدْنَاهُمْ يَجُوزُ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى اعْتِقَادِ مَذْهَبٍ فَاسِدٍ , فَإِنَّمَا رَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى الْمَوْجُودِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ , فِيمَا صَحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ , وَفِيمَا امْتَنَعَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا مَنَعْنَا وُقُوعَ اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْهُمْ , لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ , وَدَوَاعِيهِمْ , وَأَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبْتَدِئَ اخْتِرَاعَ خَبَرٍ فِي شَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ , فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِ صَاحِبِهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ , لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَّفِقَ دَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ وَالْإِخْبَارِ بِهِ , لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ خُطُورُهُ بِبَالِ جَمَاعَتِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْإِخْبَارُ بِهِ وَنَقْلُهُ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ . وَأَمَّا اعْتِقَادُ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ , فَإِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ , وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ , إلَّا بِدُعَاءِ دَاعٍ لَهُمْ إلَيْهِ , أَوْ لِشُبْهَةٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ اعْتِقَادِهِ فَيَعْتَقِدُونَهُ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ : أَنْ يَدْعُوَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ جَامِعٌ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ , وَقَدْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا , إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ وَصَفْنَا حَالَهُمْ , وَإِنْ اتَّفَقَ التَّوَاطُؤُ مِنْ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَانْتِشَارِهِ , وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَضْمَحِلَّ وَيَبْطُلَ , فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِقَادَاتِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ نَقَلَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَتْلَ الْمَسِيحِ عليه السلام وَصَلْبَهُ , وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ , وَنَقَلَتْ الْمَجُوسُ أَعْلَامَ زَرَادُشْتَ وَمُعْجِزَاتِهِ , وَهُوَ كَذَّابٌ , مَعَ اخْتِلَافِ  أَسْبَابِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ . وَكَيْفَ نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ مَعَ وُجُودِ مَنْ وَصَفْنَا   بِخَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ , وَلَا شَكَّ فِي كَذِبِهِ , وَهُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ . قِيلَ لَهُ : شَرْطُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ : أَنْ يَنْقُلَهُ قَوْمٌ وَصْفُهُمْ مَا ذَكَرْنَا , وَيُخْبِرُوا عَنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا . وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَمْ يَكْذِبُوا عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِيمَا نَقَلُوا , وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذَا الْخَبَرِ لَيْسَ كَآخِرِهِ , أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ , إذْ نَحْنُ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي سَمَاعِهِ , كَمَا أَنَّ عُلُومَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ مُشَاهِدُوهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَا , فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِمُخْبِرِ أَخْبَارِهَا , وَلَا مَعَ سَمَاعِنَا لَهَا , عَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ خَبَرِهِمْ كَانَ عَمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ , فَقَلَّدُوهُمْ فِيهِ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ : أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ عليه السلام فِي الدُّنْيَا , كَعِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهَا , مِنْ حَيْثُ كَانَ أَوَّلُ خَبَرِهِمْ كَآخِرِهِ فِي امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ , وَاخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ , فَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ أَرْبَعَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطُ , وَالْخَطَأُ , وَالتَّوَاطُؤُ فِي النَّقْلِ , وَأَمَّا الْيَهُودُ : فَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ قَصْدِهِمْ إيَّاهُ لِقَتْلِهِ , وَإِنَّمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : يَهُوذَا , كَانَ مِمَّنْ يَصْحَبُ الْمَسِيحَ . وَاجْتَعَلَ مِنْهُمْ عَلَى دَلَالَتِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا , وَقَالَ لَهُمْ : الَّذِي تَرَوْنِي أُقَبِّلُهُ هُوَ صَاحِبُكُمْ , فَلَمَّا رَأَوْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ هُنَاكَ أَخَذُوهُ , وَقَتَلُوهُ , عَلَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ , وَلَمْ يَكُنْ هُوَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى قَتْلَ رَجُلٍ ( إلَّا مَنْ يَجُوزُ ) عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ فِي الْأَخْبَارِ ,  وَالنَّاقِلُونَ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَتْلَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ , وَهَؤُلَاءِ , إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ فَأَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَوَاطَئُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَصْلُوبًا قَدْ قَالُوا : إنَّ الْمَصْلُوبَ كَانَ الْمَسِيحَ , وَلَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ , وَلَا سَائِرُ مَنْ نَقَلُوا إلَيْهِ الْخَبَرَ بِهِ , إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } حِينَئِذٍ كَذَّبَ الْخَوَاطِرَ فِي أَمْرِهِ , وَشَكَّ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , وَاعْتَقَدَ الْمُسْلِمُونَ بُطْلَانَ خَبَرِهِمْ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْحَوَارِيُّونَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ ظَاهِرِينَ مِنْ الْيَهُودِ , حَتَّى طَلَبُوا الْمَسِيحَ لِيَقْتُلُوهُ , وَإِنَّمَا سَمِعُوا مِمَّنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مَصْلُوبًا , قِيلَ : إنَّهُ الْمَسِيحُ , وَأَمَّا الْيَهُودُ فَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ , وَإِنَّمَا رَجَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ يَهُوذَا الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } فَإِنَّ أَوَّلَ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي ظَنِّهِمْ , أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ , أَوْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى نَقْلِهِ , لَمَّا جَازَ وُقُوعُ الشَّكِّ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ أَخْبَارَ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ فِي قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ , كَمَا لَا يَجُوزُ تَشْكِيكُ أَحَدٍ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِيمَا ذَكَرْت لَجَازَ عَلَى قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ , أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ رَجُلٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ , أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا مَقْتُولًا , فَلَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا , وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَسِيحَ قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا , هُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ , وَمَنْ عَرَفَهُ حَيًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ , هُوَ الَّذِي ذَكَرَ : أَنَّهُ عَرَفَهُ مَقْتُولًا , مَصْلُوبًا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت , لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ , وَلِأَنَّ نَقْلَهُمْ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ لَوْ كَانَ فِي وَزْنِ نَقْلِهِمْ لِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا , لَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَتْلِهِ , وَصَلْبِهِ , كَوُقُوعِهِ بِكَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا , وَلَيْسَ لِنَقْلِ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا سَبَبٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِهِ , وَلَا مَدْخَلَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ , وَالْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَدْ اعْتَرَضَهُمَا أَسْبَابٌ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ بِهِمَا مِنْ قَوْمٍ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ  عِلْمًا , وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ : أَنَّهُمْ لَمَّا فَقَدُوا الْمَسِيحَ , وَرَأَوْا رَجُلًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا , قَالَ لَهُمْ مَنْ بِحَضْرَتِهِ : هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ , فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ , مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , وَلَا تَأَمُّلٍ لِأَصْلِهِ , وَمَا يَجُوزُ فِيهِ , مِمَّا لَا يَجُوزُ . وَأَيْضًا : فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَلَا اخْتِرَاعُ الْكَذِبِ فِي خَبَرٍ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ , لَمَا أَوْجَبَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ , لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا نَقَلُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا شَخْصًا مَقْتُولًا مَصْلُوبًا , فَهُمْ صَادِقُونَ فِي رُؤْيَتِهِمْ لِشَخْصٍ هَذِهِ صِفَتُهُ , وَلَوَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا شَخْصًا قَدْ قُتِلَ وَصُلِبَ , فَأَمَّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ أَوْ غَيْرُ الْمَسِيحِ فَلَمْ يَكُنْ يَقِينًا , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ شَخْصٍ مِثْلِ الْمَسِيحِ , فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ , فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ , وَظَنَّهُ الْقَاتِلُونَ وَاَلَّذِينَ رَأَوْهُ مَصْلُوبًا , بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ , وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ إلَيْهِ , لِوُجُودِ الشَّبَهِ . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَهُ , قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ , فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ خَبَرِهِمْ عَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ , وَعِلْمِ اضْطِرَارٍ , لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ . وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِعْلُ خَبَرٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ , لِأَنَّ شَرْطَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ يُخْبِرَ بِهِ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَمْرٍ عَرَفُوهُ اضْطِرَارًا . فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرْجِعُ خَبَرِهِمْ إلَى ظَنٍّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ , فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ : أَنَّهُ كَانَ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُ الْمَسِيحِ وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ , حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ إلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ . ؟ ؟ ( قِيلَ لَهُ ) : لِأَنَّ قَلْبَ الْعَادَاتِ وَنَقْضَهَا جَائِزَانِ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا ( كَانَ يُرَى جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ) , وَدُخُولِ إبْلِيسَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ مَرَّةً وَفِي صُورَةِ  سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ مَرَّةً أُخْرَى ) , وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ , فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام شَخْصًا عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ , لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ دِحْيَةُ , وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَوِّزَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عليه السلام , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي مُشَاهَدَتِهِمْ لِشَخْصٍ مَقْتُولٍ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ , مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ هُوَ لَا مَحَالَةَ , مَعَ تَجْوِيزِهِ لِنَقْضِ الْعَادَةِ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ مِثْلَهُ , أَوْ إلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ . فَلَمَّا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالشَّوَاهِدِ الصَّادِقَةِ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّهُمْ { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } عَلِمْنَا أَنَّ : الْأَمْرَ جَرَى فِي أَصْلِ الْخَبَرِ عَنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ , عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا . وَأَمَّا الْمَجُوسُ : فَإِنَّ الَّذِي تَدَّعِيهِ فِي أَعْلَامِ زَرَادُشْتَ يَجْرِي مَجْرَى الْخُرَافَاتِ , الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ , وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا يَعُدُّونَهُ لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ فَرَسٍ لِلْمَلِكِ فِي جَوْفِهِ , ثُمَّ أَخْرَجَهَا , وَعَادَ الْفَرَسُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ , وَمَرْجِعُ هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ إلَى الْمَلِكِ وَقَوْمٍ مِنْ خَاصَّتِهِ , وَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ , وَأَنَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْمَلِكِ لَمَّا اخْتَبَرَهُ فَرَأَى حِيلَتَهُ وَدَهَاءَهُ وَاطَأَهُ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ , عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدَ أَرْكَانِ شَرَائِعِهِ الَّتِي يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا لِلتَّدَيُّنِ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ , وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ , ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَلِكُ قَوْمًا مِنْ خَاصَّتِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الْفَرَسِ , فَتَلَقَّوْهُ وَانْتَشَرَ الْخَبَرُ بِهِ , ثُمَّ حَمَلَ النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ , ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُ , وَنَشَأَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ , وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ , وَأَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ , ثُمَّ مَا زَالَ مَنْ يَنْتَحِلُ مِنْهُمْ الدِّينَ وَيَتَخَصَّصُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ , وَيَزِيدُ فِيهِ , وَيُشِيعُهُ فِي الدَّهْمَاءِ , فَيَنْقُلُوهُ إرَادَةً مِنْهُمْ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ , وَبِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ , وَكَانَتْ الْعُلُومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الْفَرَسِ مَقْصُورَةً عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ , لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ , وَيَمْنَعُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ انْتِحَالُهُ , وَالنَّظَرُ فِيهِ ,  وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ . وَكَانَتْ سَائِرُ النَّاسِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ أَخْبَارَ زَرَادُشْتَ وَأَمْرَ الدِّينِ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ , يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ , فَلَمْ يَثْبُتْ بِأَخْبَارِهِمْ صِحَّةُ مَا أَخْبَرُوا عَنْهُ مِمَّا ادَّعَوْهُ . وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ زَرَادُشْتَ : إنَّ لِلَّهِ ضِدًّا مُغَالِبًا فِي مُلْكِهِ , مَعَ مَا يُضِيفُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَامَتْ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ : إنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَقِدُونَهَا . عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُخَرِّفًا , وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُظْهِرَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ حُجَّةً وَالْمُخْبِرُونَ بِهَا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْهَا , وَمَتَى شَاءُوا اخْتَرَعُوهَا , وَأَخْبَرُوا بِهَا , وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهُ , فَأَمَّا مَا كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ وَيُمْكِنُهُمْ اخْتِرَاعُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ كَيْفَ شَاءُوا , فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ : إنَّ الْأَخْبَارَ فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَخْبَارًا , حَتَّى يَلْزَمَنَا مَا ذَكَرْت , وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا مَتَى قَارَنَهَا أَحْوَالٌ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُخْبِرِينَ , بَلْ اللَّهُ الْمُتَوَلِّي لَهَا وَوَاضِعُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , حَتَّى خَالَفَ بَيْنَ أَسْبَابِ الْمُخْبِرِينَ وَعِلَلِهِمْ , وَأَجْرَى الْعَادَةَ بِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ ذَكَرُوا : أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ اضْطِرَارًا , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ , فَالْحُجَّةُ إنَّمَا لَزِمَتْ بِالْأَخْبَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ افْتِعَالَ الْكَذِبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْبِرِينَ , لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا يُؤْمِنُنَا كَذِبُهُمْ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ حُكْمَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الشَّاهِدِ وَمَا يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا امْتَحَنَّا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ , فَوَجَدْنَا الْجَمَاعَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا شَأْنَهَا , يَمْتَنِعُ جَوَازُ اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ مَشَاهِدِهِ , مَعَ بَقَاءِ الْعَادَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا صِدْقًا , وَأَنَّ مُخْبَرَهُ وَاقِعٌ عَلَى مَا أَخْبَرُوا بِهِ , وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا جَوَّزْنَا الْكَذِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرٍ , وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْكَذِبِ مِنْهُ , فَرَجَعْنَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا إلَى مَا اقْتَضَتْهُ أَحْوَالُ الشَّاهِدِ , وَخَبَرُ إنَّ الْعَادَةُ , فَجَوَّزْنَا مِنْهُ مَا أَجَازَتْهُ , وَمَنَعْنَا مِنْهُ مَا مَنَعَتْهُ .  وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْكَثِيرِ فِي هَذَا كَحُكْمِ الْقَلِيلِ , لَوَجَبَ إذَا جَازَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ , وَتَكَلُّمُهُ مِنْ عَرَضِ الْكَلَامِ , أَنْ يَجُوزَ مِنْهُ إنْ أَتَى بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ , إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى الِانْفِرَادِ , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْجَمُ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِمَّا فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ , فَيَخْتَرِعَهُ وَيَنْتَبِهَ مُبْتَدِئًا بِهِ . أَنْ نُجَوِّزَ مِنْهُ إنْشَاءَ قَصَائِدَ مِثْلِ قَصَائِدِ امْرِئِ الْقَيْسِ , فِي وَزْنِهَا وَأَلْفَاظِهَا وَنَظْمِهَا , وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ التَّظَنِّي وَالْحُسْبَانِ , فَيُصَادِفُ وُجُودَ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ , أَنْ يُجَوِّزَ مِنْهُ أَنْ يَظُنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَخْطِرُ بِبَالِهِ وَيَتَوَهَّمَهُ , فَيُخْبِرَ بِهِ , ثُمَّ يَتَّفِقَ أَنْ يُصَادِفَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وُقُوعَ مُخْبَرِهِ , وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ ضَرُورَةً , فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إذَا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ إذَا انْفَرَدَ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ , الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ فِي خَبَرِهَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا اكْتِسَابٌ , وَلَيْسَ بِعِلْمِ اضْطِرَارٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ : بِمَا قَدَّمْنَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ اضْطِرَارِيًّا اسْتِوَاءُ حَالِ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي الْعِلْمِ , كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ , لِأَنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا كُنَّا نَعْلَمُ فِي حَالِ صِبَانَا بِكَوْنِ أَجْدَادِنَا وَأَوَائِلِنَا كَعِلْمِنَا الْآنَ بِهِمْ . وَأَيْضًا : . فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالِاكْتِسَابِ لَجَازَ لِبَعْضِنَا أَنْ لَا يَكْتَسِبَهُ ( وَلَا يُسْتَدَلُّ ) عَلَيْهِ , فَلَا يُعْلَمُ بِصِحَّتِهِ , لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ ( لَا يَعْرِفُهُ ) مَنْ لَا يَسْتَدِلُّ . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ اكْتِسَابًا , لَجَازَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ , وَلَجَازَ وُجُودُ الشَّكِّ فِيهِ مَعَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ , فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ , وَكَانَ الْمُنْكَرُ لِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا كَالْمُنْكَرِ لِبَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ بِحَاسَّتِهِ , عَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا وَصَفْنَا اضْطِرَارٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ , تُثْبِتُ التَّوَاتُرَ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ اضْطِرَارًا .
     فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ التَّوَاتُرِ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ : فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ رحمه الله , كَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ , الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ , كَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى : أَنَّ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالِاسْتِدْلَالِ , لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ عِلْمَ اضْطِرَارٍ . وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رحمه الله فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ , وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا لَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتُهُ مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ الْأَخْبَارِ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه السلام : مِنْ { إبَاحَتِهِ مُتْعَةَ النِّسَاءِ , ثُمَّ حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ } , وَمِثْلُهُ أَخْبَارِ الرَّجْمِ , وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام جَمَاعَةٌ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِهِمْ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِ , أَوْ وُقُوعُ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِيهِ , فَنَعْلَمُ بِتَأَمُّلِنَا حَالَهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ , وَلَا تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ ; لِأَنَّا لَمْ نَتَأَمَّلْ حَالَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ , وَلَمْ نَسْتَدِلَّ عَلَى صِحَّتِهَا , لِمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهَا . وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ , وَيُعَارِضُ هَذَا الْخَبَرَ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ   وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِهِ نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ , وَرَجَعَ إلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا . وَقَدْ قَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ ( فِي الرَّدِّ ) عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَا يَخْلُو الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : يَضِلُّ تَارِكُهُ , وَيَأْثَمُ , وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ وَالْخَطَأِ . وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجْمِ يَرُدُّهُ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ بِهِ الْخَبَرُ كَمَا تَوَاتَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ , وَلَا يَكْفُرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ , وَإِنَّمَا خَالَفُوا النَّاقِلِينَ , فَأَخْطَئُوا فِي التَّأْوِيلِ , وَعَارَضُوا بِظَاهِرِ الْكِتَابِ . قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِثْلُ خَبَرِ الصَّرْفِ , وَخَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , يُخَطَّأُ مُخَالِفُهُ ,  وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ , وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ , لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَارَضَ حَدِيثَ الصَّرْفِ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } وَالْخَوَارِجُ خَالَفَتْ الْإِجْمَاعَ , وَخَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ . وَقَالُوا : إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ , فَأَخْطَئُوا , وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ , وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ , وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ , لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يُدْرَى هُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ , أَمْ لَا , وَيُرَدُّ قَضَاءُ مَنْ قَضَى بِهِ ( لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَرُدُّهُ ) . قَالَ : وَمِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ , مَنْ اسْتَحَقَّ دَمًا بِالْقَسَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ كَاذِبُونَ فِي حَلِفِهِمْ , وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ . قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا نَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنْهَا , وَاخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا , مَعَ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهَا , كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ , وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَكُونُ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : اثْنَانِ . وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ السَّفَرِ فِيهِ , وَمَا أَشْبَهَهُ طَرِيقُهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ , وَلَا يَأْثَمُ الْمُخْطِئُ , فِيهِ وَلَا يَضِلُّ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَقْسِيمِ مَنَازِلِ مُوجِبِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا حَكَيْنَا عَنْهُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ , أَنَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ , لِأَنَّ خَبَرَ الرَّجْمِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ , لَكِنْ لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ بِهِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا , وَلَا يُعَدُّ الْخَوَارِجُ خِلَافًا , فَإِنَّمَا يُوجَبُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لِمُسَاعَدَةِ إجْمَاعِ السَّلَفِ إيَّاهُ , وَجَعْلُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَخَبَرِ الصَّرْفِ دُونَ ذَلِكَ , لِأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى السَّلَفِ قَدْ ذَهَبُوا إلَيْهِمَا , إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ , وَأَخْطَئُوا بِتَرْكِهِمْ ذَلِكَ , وَلَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الضَّلَالِ .  وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ مِمَّا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ , كَإِخْبَارِ أَهْلِ بَلَدٍ بِخَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ , وَكَإِخْبَارِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ بِخَبَرِ كُلٍّ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَّهُ يَعْتَقِدُ النَّصْرَانِيَّةَ , فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ ( إذَا أَدْلَى ) الْمُخْبِرُونَ بِهِ فَصَارُوا بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ كِتْمَانُ خِلَافِ مَا أَظْهَرُوهُ , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِمَالِ خَبَرِهِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ . وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ الرُّوَاةُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ , كُلٌّ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْآخَرُ , فَعُلِمَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ غَيْرُ كَاذِبَةٍ , وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَلَى صِدْقٍ , وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ لَنَا صِدْقُ الصَّادِقِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِ , فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُعْلَمُ مُخْبَرُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ , وَلَمْ يَجِدْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِمْ الْخَبَرُ عَدَدًا . وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي ذَلِكَ , وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُو الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ , لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فَهُوَ تَوَاتُرٌ . وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا : أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى صِدْقِهِمْ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا فِي أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا , أَنَّا مَتَى حَكَمْنَا بِشَهَادَتِهِمْ أَنْ لَا نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمْ , وَأَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ , إذْ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ فِي شَهَادَتِهِمْ , وَأَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ فِي مَغِيبِ شَهَادَتِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ أَمْضَيَا الْحُكْمَ بِهَا . قَالُوا : وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْنَا التَّعَبُّدَ بِمَا وَصَفْنَا , مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَادُّ وَيَتَنَافَى . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ , وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا خَبَرُهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ , حَتَّى إذَا كَثُرَ الْعَدَدُ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ مِنْهُمْ , أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ لَا مَحَالَةَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَهُدَانَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ , وَذَلِكَ : أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا : شَرْطُ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا مُجْتَمِعِينَ , وَيَكُونُوا مُتَشَاعِرِينَ , يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً أَوْ عِشْرِينَ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ  مُتَشَاعِرِينَ يُخْبِرُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ , لَمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , إذَا جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ , وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَسْوَاقِ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى تَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَرُبَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرُ , يَشْهَدُونَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِجِنَايَةٍ فِي نَفْسٍ , أَوْ عِرْضٍ , أَوْ مَالٍ , فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِمْ . فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَنْ يُسْتَدَلَّ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ : عَلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الْمُخْبِرِينَ هَذَا مِقْدَارُهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُ إنْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا . قِيلَ لَهُ : نَحُدُّهُمْ جَمِيعًا , لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَحْضُرُوا جَمِيعًا , فَيَشْهَدُونَ مُجْتَمِعِينَ , وَإِلَّا كَانُوا قَذَفَةً . وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَحَدَدْتهمْ جَمِيعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُ لَوْ شَهِدَ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ . هَلْ يَقَعُ لَك الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ ؟ وَهَلْ نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا فُسَّاقًا , لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنْ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى جَاءُوا غَيْرَ مُتَشَاعِرِينَ , وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فِيهِ ؟ . قِيلَ لَهُ : إنْ جَازَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ , لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , إلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ , إذْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ حَقًّا لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْحُكْمَ , أَوْ يَعْلَمَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ حُكْمِهِ , ثُمَّ يَصِيرَ إلَى عِلْمِهِ , أَوْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا , أَوْ السَّرِقَةِ , أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي عِلْمِهِ , أَوْ فِي مُخْبِرِ عِلْمِهِ , فَيَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ سِوَاهُ , حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا . وَأَيْضًا : فَإِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ , وَالْأَرْبَعَةَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا سَوَاءٌ , فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيهَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا فِي شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .  فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إذَا أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ عَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَوَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا بِخَبَرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ هُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ , قَدْ عَلِمُوهُ اضْطِرَارًا , وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوقِعَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فَكَذَبُوا فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَخْبَرُوا عَنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاقِعًا عِنْدَ خَبَرِ الْخَمْسَةِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ , بِخَبَرِ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ فَمَنْ دُونَهُمْ , وَأَنْ يَكُونَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ , وَالْبَاقُونَ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ , وَلَا مُشَاهَدَةٍ , وَمَعَ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَوْ انْفَرَدَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعِلْمُ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ إخْبَارِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا , وَلَيْسَ الْمُخْبِرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ بِخَبَرِهِ , فَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْجَمَاعَةِ صَادِقِينَ فِي خَبَرِهِمْ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ الْمُخْبِرِينَ , وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَأَقَلَّ مِنْهُمْ , بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ لِمَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَدَدٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ عِنْدَنَا , إلَّا أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا : أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , وَيَقَعُ بِخَبَرِ الْكَثِيرِ , إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ , لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ , وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِخَبَرِ جَمَاعَةٍ , وَلَا يَقَعُ بِخَبَرِ مِثْلِهِمْ فِي حَالٍ أُخْرَى , حَتَّى يَكُونُوا أَكْثَرَ , عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ خَبَرَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ , وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا : أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا , إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ خَبَرِهِمْ , لِأَنَّا لَمَّا امْتَحَنَّا أَحْوَالَ النَّاسِ لَمْ نَرَ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ , وَالْكَثِيرُ يُوجِبُهُ , إذَا كَانُوا بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ , فَلَا سَبِيلَ إلَى تَحْدِيدِهِ , وَإِيجَابُ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ , فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ لِسَامِعِهِ , إذَا كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ , مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُقَارِنُهُ , وَلَا يُوجِبُهُ إلَّا إذَا قَارَنَتْهُ أَسْبَابٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ . فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِاضْطِرَارٍ , فَوَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ سَامِعٍ صِدْقَ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ شَاهَدَهُ مِنْ كَذِبِهِ , وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ , إذَا لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ , وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ , فَمَتَى وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حَكَمْنَا بِهَا , وَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ , فَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى بَيِّنَةٍ , وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْيَمِينِ , وَوَاجِبٌ أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ الزَّوْجِ أَوْ صِدْقُهُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ , فَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَنَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِدْقِهِ حَكَمْنَا بِكَذِبِهِ وَحَدَدْنَاهُ , وَلَا نُوجِبُ بَيْنَهُمَا لِعَانًا , وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا , وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ كَافِيًا لَنَا بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا مَا جَازَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ الْآخَرُ عَلَى صِدْقِهِ , مَعَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِأَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهِ , مَعَ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ كَذِبٌ , وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ . وَأَوْجَبَ أَيْضًا : أَنْ لَا تُعْتَبَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَقَعُ لِلْحَاكِمِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ , فَإِنْ وَقَعَ  لَهُ عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِذَلِكَ عُلِمَ صِدْقُهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ حُكِمَ بِكَذِبِهِمْ , عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِخَبَرِ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ , وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ , لِأَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا السَّامِعِ , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُك إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِ عِنْدَ هَذَا الْخَبَرِ : هُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ , وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ , لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُخْبِرِينَ يُحْدِثُ اللَّهُ عِنْدَ خَبَرِهِ لِلسَّامِعِ عِلْمًا , فَاقْتِصَارُك بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَا مَعْنَى لَهُ , وَعَلَى أَنَّ مَا أَلْزَمْنَاهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ , لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَبَرِ , وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ , وَإِنْ أَحْدَثَهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ , فَلَا مَعْنَى إذًا لِلْكَلَامِ فِي تَبْيِينِهِ فِي نَظَرٍ وَحِجَاجٍ , وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُضْطَرُّ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ , وَعَلَى هَذَا الْخَبَرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهُ , لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ , وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا لِنَتَثَبَّتَ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ , وَأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الشُّهُودِ يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِحَالٍ , لَمَا جَازَ أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ , بِأَنْ لَا نَقْطَعَ بِصِحَّةِ مَا عَلِمْنَاهُ ضَرُورَةً . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ إذَا صَحِبَهُ أَسْبَابٌ , وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقَارِنُ الْخَبَرَ شَيْءٌ آكَدُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي ( قَارَنَتْ أَخْبَارَ ) النَّبِيِّ عليه السلام , الْمُوجِبَةَ لِتَصْدِيقِهِ , ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ خَبَرِ الِاسْتِدْلَالِ , إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام , وَخِطَابِهِ إيَّاهُ , وَأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , وَإِلَى السَّمَاءِ , وَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَاحِدٌ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ لَكَانَ خَبَرُ النَّبِيِّ عليه السلام أَوْلَى الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ . فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ عليه السلام , عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ .  فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يُرَى الرَّجُلُ يَمُرُّ بِبَابِ دَارِ الرَّجُلِ فَيَرَى جِنَازَةً مَنْصُوبَةً وَمُغَسَّلًا مَوْضُوعًا , وَيَسْمَعُ صُرَاخًا فِي الدَّارِ , فَيَسْأَلُ عَجُوزًا خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ عَنْ ذَلِكَ , فَتَقُولُ مَاتَ فُلَانٌ , فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهَا , وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مَجْلِسًا حَافِلًا وَرَأَى رَجُلًا فِي الصَّدْرِ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ , فَيَسْأَلُ رَجُلًا مِنْ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْجَالِسِ فِي الصَّدْرِ فَيَقُولُ : فُلَانٌ الْقَاضِي , فَلَا يَرْتَابُ السَّامِعُ بِخَبَرِهِ , وَلَا يَشُكُّ فِي قَوْلِهِ , فَعَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِمْ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت , وَذَلِكَ لِأَنَّك لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ سُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهِ وَلَا يَقِينِ الْعِلْمِ , وَقَدْ تَسْكُنُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَشْيَاءِ ثُمَّ يَتَعَقَّبُهَا , فَيَجِدُهَا بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَ فِيهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ نُفُوسُهُمْ سَاكِنَةٌ إلَى اعْتِقَادَاتِهِمْ , وَلَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ وَلَا يَقِينٍ , بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَكُفْرٍ , ثُمَّ إذَا تَعَقَّبُوا اعْتِقَادَاتِهِمْ , وَنَظَرُوا فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ , وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ , عَلِمُوا فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ , وَقَدْ يَسْهُو الرَّجُلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثَلَاثًا وَيُسَلِّمُ , وَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا . فَإِنْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : إنَّمَا صَلَّيْت ثَلَاثًا , شَكَّ فِيمَا كَانَتْ نَفْسُهُ سَاكِنَةً إلَيْهِ , فَلَا اعْتِبَارَ إذًا بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلْمًا لِلْيَقِينِ . وَعَلَى أَنَّا قَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَمَّدُونَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي ذَكَرْت أَنَّهَا إذَا قَارَبَتْ الْخَبَرَ أَوْ أَوْجَبَتْ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ بِمُخْبَرِهِ وَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا أَغْرَاضٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مُجُونٍ وَخَلَاعَةٍ . وَقَدْ بَلَغَنَا : أَنَّ أَبَا الْعِيرِ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ قَدْ كَانَ يَتَعَمَّدُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى  وَجْهِ الْمُجُونِ وَالْخَلَاعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ لِهَذَا السَّائِلِ ( عَنْ ) الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدَّارِ : إنَّ هَذِهِ الْعَجُوزَ قَدْ غَلِطَتْ أَوْ كَذَبَتْ , وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ فَأَحْضَرُوا الْجِنَازَةَ وَالْمُغْتَسَلَ , ثُمَّ تَبَيَّنُوهُ حَيًّا , أَوْ قَالَ هُوَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ , وَلَمْ يَمُتْ , لِشَكِّ السَّائِلِ فِي خَبَرِهَا , وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَقِينًا وَعِلْمًا ضَرُورِيًّا لَمَا جَازَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِضِدِّهِ , وَلَمَا جَازَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرُهُ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ . فَإِنْ قَالَ : لِمَ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ إذَا أَخْبَرَتْ بِشَيْءٍ شَاهَدَتْهُ وَعَلِمَتْهُ ضَرُورَةً إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْوَاحِدِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ , فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَتَى أَخْبَرَ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ . قِيلَ لَهُ : إنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أَخْبَرَتْ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَقَعَ لِلسَّامِعِ بِقَوْلِهَا عِلْمُ الِاضْطِرَارِ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهَا , أَوْ عِلْمُ اكْتِسَابٍ , فَإِنْ أَوْجَبَ خَبَرُهَا عِلْمًا مُكْتَسَبًا فَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمَاعَةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ : إنَّ الْعِلْمَ حَادِثٌ مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ خَطَأٌ , لِأَنَّ السَّامِعَ إنَّمَا اسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ , فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ جَارِيًا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ , وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ , فَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ مُجْتَمِعِينَ وَكَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ , فَالْعِلْمُ حَادِثٌ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ , دُونَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ , إذَا كَانُوا قَدْ عَلِمُوا مَا أَخْبَرُوا بِهِ ضَرُورَةً , وَإِنْ كَانُوا أَخْبَرُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ , فَإِنْ أَحْدَثَ اللَّهُ بِهِ الْعِلْمَ عِنْدَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا : جَوَّزُوا إحْدَاثَ اللَّهِ لَهُ الْعِلْمَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ , إذَا انْفَرَدَ بِخَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأَخْبَارِ عَنْهُ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ إذَا تَقَدَّمَتْهُ جَمَاعَةٌ تُخْبِرُ بِمِثْلِ خَبَرِهِ , وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِإِحْدَاثِ الْعِلْمِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ مَتَى وُجِدَتْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ أَوْجَبَ خَبَرُهَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ , وَأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُدُوثِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ( لَوْ ) كَانَ يُوجِبُ عِلْمَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْأَسْبَابِ , لَجَازَ أَنْ تُخْبِرَ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِخَبَرٍ , فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , إذَا لَمْ يُقَارِنْ خَبَرَهُمْ أَسْبَابٌ  تَقْتَضِي إيجَابَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ , وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ بِبَغْدَادَ مَنْ قَدْ نَشَأَ فِيهَا , وَأَتَى عَلَيْهِ خَمْسُونَ سَنَةً , وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَكَّةَ , وَالْمَدِينَةَ , وَالشَّامَ , وَمِصْرَ , لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارِنْ مَا سَمِعَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ أَسْبَابٌ تُوجِبُ لَهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ , وَهَذَا فَاسِدٌ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ ضَرُورَةً , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي وَصَفْنَا حَالَهَا إنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ خَبَرِهَا بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَجُوزُ وُجُودُ الْإِخْبَارِ مِنْهَا عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَتْهُ وَعَرَفَتْهُ ضَرُورَةً , ثُمَّ لَا يَقَعُ لِسَمَاعِهِ ضَرُورَةُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا . وَجَرَيَانُ الْعَادَةِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَرُورَةَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ بِحَالٍ , فَكَانَ أَمْرُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مَحْمُولًا عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ , وَعُرِفَ بِامْتِحَانِ أَحْوَالِ الْأَخْبَارِ وَالْمُخْبِرِينَ . وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِاثْنَيْ عَشْرَ , وَالْعِشْرِينَ , وَالسَّبْعِينَ , فَشَيْءٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ , وَيَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ , وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدًا أَقَلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ , أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الِانْفِصَالُ مِنْهُ , إذْ لَيْسَ فِي اقْتِصَارِهِ بِالْبَقَاءِ بِهِ عَلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ , وَأَمْرِ الْعِشْرِينَ بِالْجِهَادِ , وَاخْتِيَارِ السَّبْعِينَ لِحُضُورِهِمْ مَعَ مُوسَى مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِالْأَخْبَارِ , إذْ لَيْسَ هُنَاكَ خَبَرٌ أُمِرُوا بِنَقْلِهِ دُونَ مَنْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا , وَقَدْ يَلْزَمُ الْجِهَادُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ , وَجَازَ كَوْنُ النَّقِيبِ وَاحِدًا لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ .
         فَصْلٌ 
     وَأَمَّا مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ . وَيُقَالُ لَهُمْ : أَلَيْسَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ الْبُلْدَانِ الثَّابِتَةِ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَكُمْ فِي صِحَّتِهَا , وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِهَا , مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا . فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَنْ خَالَفَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا الْعَقْلُ لَا الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ , وَلَا الِاخْتِلَافُ , وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الصَّحِيحِ , وَفَسَادِ الْفَاسِدِ , ثُمَّ إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لَمْ يُعْتَبَرْ خِلَافُ مُخَالِفٍ فِيهَا , وَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهِ , فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ صِحَّتَهَا مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ , وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ تُوجِبُ عَلَى الْيَهُودِ عَلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ شَيْءٌ مِنْ أَعْلَامِ مُوسَى لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا , إذْ كَانَتْ الثَّنَوِيَّةُ وَالْمَجُوسُ وَسَائِرُ الْمُلْحِدِينَ يَجْحَدُونَهَا , فَلِمَا صَحَّتْ أَعْلَامُ مُوسَى عليه السلام لِوُجُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّوَاطُؤُ , يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَيَثْبُتَ , وَأَنْ لَا يَقْدَحَ فِيهَا خِلَافُ مَنْ خَالَفَ . 
     فَصْلٌ:
      وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا نَعْرِفُ صِحَّةَ الْخَبَرِ إلَّا بِقَوْلِ الْمَعْصُومِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ , مِنْ جِهَةِ : أَنَّ عِلْمَ الرُّومِ وَسَائِرِ مُلْكِ الْكَفَرَةِ فِي بِلَادِهَا تَكُونُ أَقَاوِيلُهُمْ وَسَائِرُ مُلُوكِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ النَّائِيَةِ عَنْهَا - كَعِلْمِنَا بِكَوْنِ أَوَائِلِنَا وَأَسْلَافِنَا , فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ لَوَجَبَ أَنْ ( لَا ) يَعْلَمَ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَيْئًا ( مِنْ  أَخْبَارِهِمْ ) , وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ مِنَّا لَا يَعْرِفُ صِحَّةَ وُجُودِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ , وَكَوْنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ . وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَلْقَ الْمَعْصُومَ فَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ . فَإِنْ قَالَ : لِمَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ , جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي خَبَرِهِمْ . فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا , قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ , عَلَى مَنْ نَفَى صِحَّةَ الْأَخْبَارِ رَأْسًا , فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ مُوجِبِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ , وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ

          	فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ لِمَا تَصْحَبُهُ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ . وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ , وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَالْآخَرُ : لَا يُوجِبُهُ . ثُمَّ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ عَلَى وُجُوهٍ , مِنْهُ : مَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا وَرَدَ عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْهُ : مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِقْدَارٌ مِنْ الْعَدَدِ , وَهُوَ : الشَّاهِدَانِ , وَيُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ . وَمِنْهَا : مَا يَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ جَمِيعًا , كَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ , يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ , وَالْكَافِرِ , وَالْعَبْدِ , وَالصَّبِيِّ , فِي وُجُوهٍ مِنْهَا . وَمِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ : مِنْ عَدَالَةٍ , أَوْ عَدَدٍ , وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَبْيِينِ وُجُوهِهِ , إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ . فَنَقُولُ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُوجِبَةَ لِلْعِلْمِ لِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَة لِصِحَّتِهَا عَلَى وُجُوهٍ , مِنْهَا : إخْبَارُ النَّبِيِّ عليه السلام عَنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ , وَعَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ , قَدْ  شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الشَّوَاهِدُ الصَّادِقَةُ , وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ , الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ , فَأَوْجَبَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ إخْبَارِهِ عليه السلام , وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ عِلْمُ اكْتِسَابٍ , وَاقِعٌ مِنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ , وَلَيْسَ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ . أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَاسْتَوَى السَّامِعُونَ بِخَبَرِهِ , فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ , وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عليه السلام لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ , مَعَ سَمَاعِهِمْ بِخَبَرِهِ , وَمُشَاهَدَتِهِمْ لِأَعْلَامِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ خَبَرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ كَانَ شَاهَدَهُ , وَلَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ . وَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّذِي نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ : مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ عليه السلام فِيهِ , فَيَكُونُ تَصْدِيقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِهِ , وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ : مَا قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام , فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ . وَكَذَلِكَ خَبَرُ مُخْبِرٍ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ , أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِدْقِهِ . فَبِذَا كُلِّهِ نَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ , وَهِيَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حَقٌّ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا : أَنْ يُخْبِرَ مُخْبِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ , وَقَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ , فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ , فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ : فَلَا تُنْكِرُهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ , وَامْتَحَنَّاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ : تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مِثْلِهِ , إذَا لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ , وَهُوَ فِي هَذَا الْبَاب يَجْرِي مَجْرَى كِتْمَانِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ , وَالْأَعَاجِيبِ الْحَادِثَةِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ كِتْمَانُهَا , فَكَذَلِكَ تَرْكُ النَّكِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ مِثْلِهِمْ , فَبِمَا وَصَفْنَا سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ . أَلَا تَرَى : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ فِي مَحْفِلٍ عَظِيمٍ , بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْآرَاءِ : إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ : أَنْ سَارَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ , وَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ , فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ , كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةَ الْمَسِيحِ , وَأَنَّهُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ عَلَى  هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْهُ , أَنْ تُخَلِّيَهُ مِنْ تَكْذِيبِهِ , وَظَاهِرُ النَّكِيرِ عَلَيْهِ , كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى مِثْلِهَا خَبَرٌ لَا أَصْلَ لَهُ , عَلَى شَيْءٍ يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ , لِأَنَّ الْعِلَّةَ مِنْ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتْمَانِ , وَاخْتِلَافُ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ , وَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِمِثْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَعَنْ سَبَبٍ يَجْمَعُهُمْ , وَالْمُوَاطَأَةُ , عَنْ مِثْلِهِمْ إذَا كَانَتْ ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْكَتِمْ . كَذَلِكَ كِتْمَانُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ , لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ اسْتِثْقَالَ كِتْمَانِ مِثْلِهَا , وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِخْبَارَ بِهَا , وَجَعَلَ لَهُمْ دَوَاعِيَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَدْعُوهُمْ إلَى إشَاعَتِهَا وَنَشْرِهَا , سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ فِي كِتْمَانِهَا ضَرَرٌ , أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ مَوْتَ الْخُلَفَاءِ وَقَتْلَهُمْ وَخُلْفَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ - لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ فِيهِ , حَتَّى يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ وَالْبَيْعَةِ لِآخَرَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يُخْبِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِهِ , وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى غَيْرِهِ , وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ : أَنْ يَدْخُلَ رَجُلٌ بَغْدَادَ فَيَسْأَلَ عَنْ دَارِ الْخَلِيفَةِ , أَوْ عَنْ مَسْجِدِ جَامِعِ الْمَدِينَةِ , فَلَا يُرْشِدُهُ أَحَدٌ إلَيْهِ , حَتَّى يَبْقَى طُولَ دَهْرِهِ بِهَا فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَدُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ , وَبِمِثْلِهِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ الرَّافِضَةِ : إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَصَبَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ لِلْإِمَامَةِ بَعْدَهُ , وَنَصَّ عَلَيْهِ . لِأَنَّ نَصْبَ النَّبِيِّ لِإِمَامٍ بَعْدَهُ , وَتَعْيِينَهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ - أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ , وَأَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَلْعِ خَلِيفَةٍ فِي زَمَانِنَا , وَالْبَيْعَةِ لِغَيْرِهِ , لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا , وَلِأَنَّ عِلَلَهُمْ وَأَسْبَابَهُمْ تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ , كَمَا تَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا , وَلَوْ جَازَ كِتْمَانُ مِثْلِهِ لَجَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَعَلَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عليه السلام نَبِيٌّ آخَرُ بَعَثَهُ , فَكَتَمَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهُ , وَلَجَازَ أَنْ يَقُولَ آخَرُ : إنَّ النَّبِيَّ كَانَ غَيْرَهُ فَكَتَمَتْهُ الْأُمَّةُ , وَادَّعَتْ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ , وَفِيمَا دُونَ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامَةِ وَتَعْيِينِهَا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْكِتْمَانُ . فَكَيْفَ بِمِثْلِهِ , لِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ , وَأَجَلَّ فِي الصُّدُورِ , كَانَ حِرْصُ النَّاسِ عَلَى نَقْلِهِ أَشَدَّ , وَكُلْفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ أَكْثَرَ , فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى : أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ شَرَطَ  أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْآحَادِ : أَنْ لَا يَكُونَ وُرُودُهُ فِيمَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ , لِأَنَّ مَا كَانَ بِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ تَوَقُّفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ , وَلَوْ فَعَلَ لَمَا جَازَ وُقُوعُ الْكِتْمَانِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ , وَتَرْكُ نَقْلِهِ مَعَ تَدَيُّنِهِمْ بِوُجُوبِ نَقْلِهِ , وَمَا يَرْجُونَ مِنْ الثَّوَابِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِذَاعَتِهِ وَنَشْرِهِ . فَأَمَّا مَا قُلْنَا : مِنْ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عليه السلام لِمُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ - فَيُوجِبُ لَنَا ذَلِكَ عِلْمًا بِصِدْقِهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا انْصَرَفَ : لَا جُمُعَةَ لَك . فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ سَعْدًا قَالَ لِي : لَا جُمُعَةَ لَك . فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : لِمَ يَا سَعْدٌ ؟ قَالَ : إنَّهُ تَكَلَّمَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : صَدَقَ سَعْدٌ } . وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالنَّبِيُّ عليه السلام يَخْطُبُ وَقَرَأَ آيَةً : مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ , فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ , قَالَ لَهُ أُبَيٌّ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك الْيَوْمَ إلَّا مَا لَغَوْت , فَذَكَرَ الرَّجُلُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام , فَقَالَ : صَدَقَ أُبَيٌّ } فَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْ النَّبِيُّ عليه السلام هَذَيْنِ الْمُخْبِرَيْنِ بِمَا أَخْبَرَا بِهِ لَكَانَ ظَاهِرُ خَبَرِهِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ , وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ , فَلَمَّا صَدَّقَهُمَا وَقَعَ لِسَامِعِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِمَا فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَأَمَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ بِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ فِي خَبَرِهِ , نَحْوُ مَا رُوِيَ : أَنَّ { زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ  عليه السلام فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ قَدْ دَفَعَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ كَلَامًا , قَالَ : لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ , فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَلَفَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ مَا قَالَهُ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ صَدَّقَك } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْقَوْلِ . وَأَمَّا : إخْبَارُ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ يُحِيلُهُ عَلَى قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَبْلُغُ ذَلِكَ الْجَمَاعَةَ فَلَا تُنْكِرُهُ , أَوْ يَذْكُرُهُ لِحَضْرَتِهَا فَلَا تَكْرَهُ , فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَسِيَرِهِ , وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ , مِمَّا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِهِ كَانَتْ شَائِعَةً مُسْتَفِيضَةً , يُحِيلُونَهَا عَلَى مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَاتِ الْعَظِيمَةِ , فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ , فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ بِهِ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ , وَتَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى قَائِلِهِ , إذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَتِهِ , عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ . وَكَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ , كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهَا : الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ , لِأَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي مَنَعَتْ وُقُوعَ الْإِخْبَارِ مِنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَصْلَ لَهُ - هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ إقْرَارِهَا مَنْ يَدَّعِي مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ لَا يَفْقَهُونَهُ عَلَى دَعْوَاهُ وَخَبَرِهِ , وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ اكْتِسَابٌ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ , لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا وَصَفْنَا .
          وَأَمَّا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ , وَمُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ - فَإِنَّهُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } إنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ , وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ  وَاسْتِقَامَتِهِ . وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا , { إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ , أَوْ يَتَرَادَّانِ } وَنَحْوُهُ : حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي { أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ } وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ } . قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا , فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا , وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ , فَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا شُذُوذٌ , لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ - فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ , أَوْ بِخَبَرِ مِثْلِهِ , مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي التَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ , وَالنَّظَرِ فِيهَا , وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ - دَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ : عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إلَى حُكْمِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ , فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مُسَاعَدَةُ الِاتِّفَاقِ لِحُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْتُمْ دَلِيلًا  عَلَى صِحَّتِهِ , وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لَهُ غَالِطًا , وَيَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ , مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي عَامَّةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي وَصْفُهَا مَا ذَكَرْنَا , أَنَّ فُقَهَاءَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : إنَّمَا صَارُوا إلَى حُكْمِهَا حِينَ سَمِعُوا وَبَلَغَهُمْ أَمْرُهَا , وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا , وَيُجِيزُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا لَهَا وَاتَّبَعُوهَا , فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُمْ أَجْمَعُوا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخَبَرِ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ , مَعَ مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ تَسْلِيمِهِمْ , فَحُكْمُهُ خَطَأٌ , خَطَأٌ لَا مَعْنَى لَهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الدَّلَائِلِ .
    وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ . وَالْآخَرُ : لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ . وَأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ . وَالْآخَرُ : يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ . وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهَا . فَأَمَّا الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَقِسْمٌ مِنْهَا : الشَّهَادَاتُ . وَالْقِسْمُ الْآخَرُ : أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ , عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ . فَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ : أَحَدُهَا : الشَّهَادَاتُ عَلَى مَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ , وَهُوَ : الْحُدُودُ , وَالْقِصَاصُ . فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا إلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فِي الزِّنَا , وَرَجُلَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ , وَلَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ . وَالثَّانِي : الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ , وَعَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ , وَذِي الْحِجَّةِ - إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ , وَلَا يُقْبَلُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ .  وَالثَّالِثُ : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ , وَعَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ - فَيُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا , فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي مَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ . وَلَا يُقْبَلُ : أَعْلَمُ , وَأُخْبِرُ . وَالثَّانِي : مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَةِ الشَّاهِدِ . وَهِيَ : أَنْ ( يَكُونَ ) بَالِغًا , عَاقِلًا , حُرًّا , مُسْلِمًا , عَدْلًا , غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ , صَحِيحَ النَّظَرِ , طَائِقًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ , نَافِيًا لِمَا يُؤْذِيهِ , لَا تَجُرُّ شَهَادَتُهُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا , وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَغْرَمًا . وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ فَهِيَ : نَحْوُ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ , وَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ , وَالْبَيْعِ فِيمَا عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ , وَنَحْوُ : قَوْلُ الْآذِنِ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَى غَيْرِهِ , فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ , وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ , وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ , مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّ السَّامِعِ كَذِبُ الْمُخْبِرِ , وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا : مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .  وَمِنْهَا : مَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُخْبِرِ , حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ فِي خَبَرِهِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ خَبَرِ الْوَكِيلِ , وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ , وَخَبَرِ الْأَذَانِ وَنَحْوِهِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَنَحْوُ خَبَرِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ رَسُولًا , فَلَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ عِنْدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ رَجُلَيْنِ , أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ , وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ . أَوْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَدْلًا , فَشُرِطَ فِيهِ : أَحَدُ وَصْفَيْ الشَّهَادَةِ , وَهُوَ الْعَدَدُ , أَوْ الْعَدَالَةُ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَهُ , فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا , وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ , حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ رَجُلَيْنِ , أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا , أَوْ رَجُلًا عَدْلًا . وَالْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ : مَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مِنْ الْأَعْدَادِ , وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوْصَافِهَا , بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ , وَبَعْضُهَا إجْمَاعٌ , وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأُصُولِ , وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْكَلَامِ فِيهَا , إذْ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِأُصُولِ الْفِقْهِ . وَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ : فَالْأَصْلُ فِي قَبُولِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } إلَى قوله تعالى : { فَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } . فَحَظَرَ الدُّخُولَ بَدْءًا , إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ , ثُمَّ أَبَاحَهُ بِإِذْنِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَوَصْفِ الْمُخْبَرِ فِيهِ . وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ بَرِيرَةَ : إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا فَتُهْدِيهِ فَقَالَ : هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } فَقَبِلَ قَوْلَهَا : فِي إنَّهَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا , وَقَدْ كَانَ مَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهَا , فَصَدَّقَهَا عَلَى انْتِقَالِهِ إلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ } .

بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ

	      قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : نَتَكَلَّمُ بِعَوْنِ اللَّهِ فِي تَثْبِيتِ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ , وَاحِدًا كَانَ الْمُخْبِرُ , أَوْ أَكْثَرَ , ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَبَى إلَّا قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , ثُمَّ نَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فُرُوعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَشُرُوطِهَا , بِمَا يُسَهِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ : قَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله لِذَلِكَ بِحُجَجٍ كَافِيَةٍ مُغْنِيَةٍ , وَأَنَا ذَاكِرٌ جُمْلَةً , وَنَتْبَعُهَا بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَمَا احْتَجَّ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وقوله تعالى : { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } . فَنَقُولُ : إنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ , وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِتْمَانِ , فَثَبَتَ وُقُوعُ الْبَيَانِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ إذَا أَخْبَرُوا , فَدَلَّ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ , لِوُقُوعِ بَيَانِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِخَبَرِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لِيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ وَيَنْتَشِرَ فَيُوجِبَ الْعِلْمَ . قِيلَ لَهُ : لَمَّا ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ , دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ , وَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ , لِأَنَّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانُ فِي خَبَرِهِمْ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ ( فَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ )  فَإِنْ قِيلَ : لَا دَلَالَةَ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ , وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ . فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ قوله تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } إخْبَارًا مِنْهُ بِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا أُخْبِرُوا - دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ , وَوُجُوبِ الْتِزَامِ حُكْمِهِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرُوا بِالْإِخْبَارِ بَيَانًا لَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَقَلُّ أَحْوَالِ مَا يُوصَفُ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِهِ , لُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ , إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ . وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : قوله تعالى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَالْفِرْقَةُ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ , وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةٌ , ثُمَّ جَعَلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْفِرْقَةَ , وَهِيَ بَعْضُهَا , فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ مَنْ دُونَ الثَّلَاثَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ , يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وَقَدْ يَتَنَاوَلُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ . أَلَا تَرَى إلَى قوله تعالى { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } قَدْ قِيلَ : إنَّ أَقَلَّهَا وَاحِدٌ , فَكَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالطَّائِفَةُ اسْمٌ قَدْ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ , وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إيجَابَ قَبُولِ خَبَرِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَمَرَ الطَّوَائِفَ بِالْإِنْذَارِ لِيَتَوَاتَرَ بِهِمْ الْخَبَرُ , فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ , وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إذَا أَخْبَرَتْ . قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو قوله تعالى : { وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رُجُوعَ الطَّوَائِفِ وَدَوَرَانَهَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حِيَالِهِمْ , أَوْ رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى قَوْمِهَا دُونَ قَوْمِ طَائِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا . فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ تَنْفِرْ الطَّائِفَةُ مِنْهُمْ : إنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمٍ : إنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ , وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ . صَحَّ أَنَّ  الْمُرَادَ رُجُوعُ كُلِّ طَائِفَةٍ أُفْرِدَتْ مِنْ قَوْمٍ رُجُوعُهَا إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ , ثُمَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ لِقَوْمِهَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ بِخَبَرِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِهِمْ قَبُولَ خَبَرِهَا وَإِنْذَارَهَا . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَ الطَّوَائِفِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ , ثُمَّ دَوَرَانَ جَمِيعِهَا فِي الْقَبَائِلِ عَلَى فِرْقَةٍ , لَكَانَ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا , مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ جَازَ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ , وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْآيَةِ لَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عليه السلام , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ لَا مَحَالَةَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ , لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمْ , فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ عليه السلام بِالِاجْتِمَاعِ لِلتَّفَقُّهِ , ثُمَّ الدَّوَرَانِ عَلَى الْقَبَائِلِ لِلْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ عَنْهُ , بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ لِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْهُمْ , وَالْوَافِدُ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِهِمْ . دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ فِي إبْلَاغِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ , بِمَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ إنَّمَا أُمِرَتْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا وَإِبْلَاغِهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , لِيَنْتَشِرَ الْخَبَرُ عَنْهَا , وَيَسْتَفِيضَ , فَلَا يَكُونُ فِي أَمْرِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْإِنْذَارِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا , كَمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى حِيَالِهِ , وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحْدَهُ . قِيلَ لَهُ : ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوفِهِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عليه السلام بِالْإِنْذَارِ قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ قَبُولِ خَبَرِهِ , دُونَ مَعْنًى آخَرَ يَنْضَافُ إلَيْهِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وقوله تعالى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ }  وقوله تعالى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ وَبِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُوجِبَيْنِ - لِقَبُولِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا , إذْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّ ( أَمْرَنَا بِإِقَامَتِهَا ) وَأَدَائِهَا - مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا , فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ حُكْمِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام حُكْمًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ , سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِسَمَاعِهِ , أَوْ مُشَارِكًا لِغَيْرِهِ فِيهِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى : أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِخَبَرِهِ , وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ غَيْرُهُ , فَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ , فَدَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ تَعَلُّقَ قَوْلِهِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَحْدَهُ , وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ تَعَلُّقَ صِحَّتِهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ . وَأَيْضًا : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَمَعْنَاهُ لِكَيْ يَحْذَرُوا , فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ مَا سَمِعُوهُ , كَمَا قَالَ { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي إيجَابِهِ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِ طَائِفَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا , لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الطَّائِفَةِ فِي شَيْءٍ , وَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ , مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى . قِيلَ لَهُ : إنَّمَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أُنْذِرَتْ الطَّائِفَةُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ الْعُقُوبَةِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أُخْبِرَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ , وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - لَمَا كَانَ الْإِنْذَارُ قَدْ أَلْزَمَهُ شَيْئًا , إذْ كَانَ الْحَذَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاجِبًا قَبْلَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ وَبَعْدَهُ  فَإِنْ قِيلَ : الْمَعْنَى لِكَيْ يَحْذَرُوا , فَلَا يَأْمَنُوا أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ صَحِيحًا , فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ الْبَحْثَ عَنْهُ , حَتَّى يَعْلَمَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ إنْ كَانَ صَحِيحًا , فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ إلَى مُوجِبِ حُكْمِهِ . قِيلَ لَهُ : إنْ لَمْ يَكُنْ إنْذَارُ الطَّائِفَةِ قَدْ أَلْزَمَهُ حُكْمًا فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ , إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ قَبْلَ إنْذَارِهَا وَبَعْدَهُ , وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ : احْذَرْ وَاطْلُبْ الْآثَارَ وَالسُّنَنَ , لِتَعْرِفَ الْمُتَوَاتِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام شَيْءٌ . وَهَذَا يُوجِبُ إسْقَاطَ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ , وَإِيجَابَ الْحَذَرِ بِهِ , وَمَا أَدَّى إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ فَهُوَ سَاقِطٌ , وَفَائِدَةُ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . وقوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وقوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَنَحْوِهِ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ . فَمِنْهُمْ : مَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِهَا فِي لُزُومِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا , وَقَدْ ثَبَتَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ , فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ , لِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ . وَمِنْهُمْ : مَنْ يَضُمُّ إلَيْهَا قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فَتَوَكَّدَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ , وَأَوْجَبَ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى , دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ , وَتَرْكِ التَّثَبُّتِ فِيهِ , وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَنَا , لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ خَاصَّةً مَوْجُودَةً بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَبْلَهَا فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . فَالْمَعْقُولُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ : إيجَابُ التَّفْرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ , ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي أَوْجَبَ بِهَا التَّفْرِقَةَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ , فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا  عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهَا , وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ . كَأَنَّهُ قَالَ : أَوْ خَبَرُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ , فَكُلُّ بَعْضٍ أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بِهِ بَيْنَهُمَا , فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ فِيمَا وَصَفْنَا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ , فَوَجَبَ قَبُولُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ , وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ , وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } قَالَ : فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إجَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَعَاهُ وَهُوَ وَاحِدٌ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُشَافَهَةِ النَّبِيِّ عليه السلام إيَّاهُ لَيْسَ هُوَ دُعَاءَ النَّبِيِّ عليه السلام فِي الْحَقِيقَةِ , كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ النَّبِيِّ عليه السلام , فَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ مَنْ عَدَا النَّبِيَّ عليه السلام إلَّا بِدَلَالَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَا جَازَ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ : دَعَانِي فُلَانٌ , وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِ بِرَسُولٍ تَنَاوَلَ لَفْظَ الْآيَةِ , دَعَا النَّبِيُّ عليه السلام إيَّاهُمْ شِفَاهًا , وَبِإِرْسَالِهِ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ . قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ عليه السلام إيَّاهُمْ شِفَاهًا مُرَادٌ بِالْآيَةِ , وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ , وَمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ , فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى حَصَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ : ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا جَاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُ ( مَدْعُوٌّ مِنْ ) رَسُولِ اللَّهِ , أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , إذْ لَيْسَ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْ الرَّسُولِ , دُونَ أَنْ يَنْقُلَهُ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ , فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ , بِدَلَالَةٍ تَحْتَاجُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام  وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنَّهُ احْتَجَّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } قَالَ وَالْآذِنُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ مَا يُقَالُ لَهُ , فَمَدَحَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ , فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ . قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ , أَنَّهُ قَالَ : { يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ شَيْءٌ أَوْهَى مِنْ هَذَا , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ مِنْ غَيْرِهِ , أَوْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ , أَوْ الشَّهَادَاتِ , فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , بَلْ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُهُ , وَالْأَخْذُ عَنْهُ , فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ . وَلَيْسَ يَجُوزُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبُولَ الشَّهَادَاتِ فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ , لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مَعْلُومَةٍ , لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا . وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا هَاهُنَا , فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوُهَا , وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ .
      فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ , فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ , فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ . فَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا , ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } . وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ : { لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ تَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ { أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ  وَبِعَالٍ } وَأَنَّهُ { أَمَرَ بِالْغَدَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ , نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَهْلِيَّةِ } { وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ } . وَأَنَّهُ { قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ } وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ كَنَحْوِهَا تُوجِبُ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ , وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهَا فِي طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأُمَّةِ , وَقَدْ تَلَقَّتْهَا وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي نَقْلِ الْعِلْمِ وَأَدَائِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ , وَفِي قَبُولِ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ . وَقَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله بِذَلِكَ , وَرَوَى بَعْضَهَا مُرْسَلًا , وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ احْتِجَاجِهِ بِذَلِكَ وَيَقُولُ : كَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مُبْطِلِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ . وَقَدْ اخْتَلَفَ قَائِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي قَبُولِهِ , فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ رَأْسًا . وَإِنَّمَا وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِهِ : أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهَا , بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ قَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا , وَتَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ فِي لُزُومِ نَقْلِ الْعِلْمِ , وَدَلَالَتُهَا وَاضِحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّهُ قَالَ : { فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَأَخْبَرَ : أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فِقْهٌ , وَلَيْسَ يَكُونُ فَقِيهًا إلَّا وَقَدْ لَزِمَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ . وَكَذَلِكَ النِّدَاءُ , لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُنَادِي - وَهُوَ وَاحِدٌ - لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى . وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ : وَهُوَ رُسُلُ النَّبِيِّ عليه السلام إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ , أَرْسَلَ عليه السلام إلَى كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ رَسُولًا وَكِتَابًا , وَكَانَ فِي كُتُبِهِ إلَيْهِمْ , الدُّعَاءُ إلَى التَّوْحِيدِ , وَالتَّصْدِيقُ بِالرِّسَالَةِ , وَجُمَلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُهَا , وَالْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِإِرْسَالِهِمْ وَكَتْبِ الْكُتُبِ مَعَهُمْ مَعْنًى . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : التَّصْدِيقُ وَالتَّوْحِيدُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالْخَبَرِ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وَأَمَّا الرِّسَالَةُ : فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ عليه السلام النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِهِ , وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى يَدِهِ , وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ , وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرُّسُلَ , لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ . وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ : أَنَّهُمْ إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا , وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا , فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ . وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ عليه السلام عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ , كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ , وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ . وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْأَحْكَامِ , وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ , وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا , وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا , فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ , كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ . قِيلَ لَهُ : أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ , إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ , فَأَمَرَهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ , وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ , لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا , فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ : تَوْجِيهُ الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا , وَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ , ثَبَتَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ , قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام  قَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ عَنْهُ إلَّا مَا كَانَ حَقًّا , وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْوُلَاةِ , يَتَوَارَثُهَا أَعْقَابُهُمْ , كَسَائِرِ الْفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ , نَحْوُ " مَا خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " , وَأَنَّ الْمَلَائِكَة غَسَّلَتْ حَنْظَلَةَ " , وَنَحْوَهَا مِنْ الْأُمُورِ . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ وُلَاتَهُ مَعْصُومُونَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ , عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْقَائِلِ . وَضَرْبٌ آخَرُ : وَهُوَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فِي الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً , قَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً : وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِهَا , وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ بِهِ , كَمَا عَلِمْنَا ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا : أَنَّهُ قَوْلُ قَائِلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ , وَكَمَا نَعْلَمُ ضَرُورَةً إذَا أَخْبَرَنَا النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُنْصَرِفُونَ فِي طَرِيقِ الْجَامِعِ قَدْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ , أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَ خَبَرُهَا عَلَى صِدْقٍ , وَإِنْ  لَمْ يُقْطَعْ بِصِحَّةِ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ , إذَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَهُمْ , وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِاضْطِرَارٍ : أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَرَوَتْهُ , ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ , يُخْبِرُ بِهِ الْخَاصَّ مِنْ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ نَقْلُهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ , وَلَا يُشِيعُهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ , عَلَى مَا كَانَ يَحْدُثُ مِنْ الْحَوَادِثِ , وَيُبْلَى بِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ , فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَنْ بُلِيَ بِهَا , دُونَ كَافَّةِ النَّاسِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ حُكْمِهِ , لَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ عليه السلام ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ إشَاعَتِهِ وَإِظْهَارِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ الْحُكْمُ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ , مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُمْ إلَى الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ , وَمَنْ لَا يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ . وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَمَنْ تَابَعَهُمْ , وَأَتْبَاعِهِمْ , فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ . وَاَلَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ , وَالْعَمَلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِهَا , وَلَا رَدَّ لَهَا . وَقَدْ أَوْرَدَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا . مِنْهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ : كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ , وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْته , فَإِنْ حَلَفَ صَدَّقْته , وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ , ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ , إلَّا غَفَرَ لَهُ اللَّهُ }  وَقَبِلَ أَبُو بَكْرٍ شَهَادَةَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ , وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ , عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي { إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ } وَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا " وَقَبِلَ عُمَرُ رضي الله عنه خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ } وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } . وَقَبِلَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ , وَالْمُغِيرَةِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دِيَةِ الْجَنِينِ " . وَقَبِلَتْ الْأَنْصَارُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . وَقَبِلَ أَهْلُ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ حِينَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ , فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : { كُنَّا لَا نَرَى بِالْمُخَابَرَةِ بَأْسًا , حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا , فَتَرَكْنَاهَا } وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْأَلُ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمُورٍ , كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا أَنَّهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ بِعِلْمِهَا . وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ , وَعَلَيْهِ جَرَى أَيْضًا أَمْرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ فَاجِرَةٌ , قَلِيلَةُ الْفِقْهِ , جَاهِلَةٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ , فَخَالَفَتْ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ , وَسُنَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ , إلَى  آرَائِهِمْ , وَعَارَضُوهَا بِنَظَرٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَمَا أَمْكَنَهُمْ بِهِ تَصْحِيحُ مَقَالَتِهِمْ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : تَفَرُّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِوَايَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ , خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ , وَدُعَاءُ النَّاسِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرًا لَأَنْكَرُوهُ عَلَى رُوَاتِهَا , وَمَنَعُوهُمْ مِنْهَا , إذْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي رَوَيْته عَنْ الصَّحَابَةِ فِي تَثْبِيتِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ : هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ , فَكَيْفَ جَعَلْته أَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى خَصْمِك وَهُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُنَازِعُك فِيهَا . قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ وَظُهُورَهُ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقِّيَهُمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَالثَّانِي : أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا كَوْنَ ذَلِكَ وَوُجُودَهُ مِنْهُمْ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ خَبَرٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ , كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , ( إلَّا ) أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِاضْطِرَارٍ : أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِي بَعْضِ مُخْبَرَاتِهَا , وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ . وَلَعَلِمْنَا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حَوَادِثِ الْمَسَائِلِ , وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فِيهَا . وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ  عليه السلام كَانَتْ إذَا حَدَثَتْ لَهُنَّ حَوَادِثُ فِيمَا خَصَّهُنَّ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ : أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ , وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُنَّ , وَأَنَّهُنَّ كُنَّ يَقْتَصِرْنَ فِيهَا عَلَى أَخْبَارٍ مِنْ خَبَرِهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ عليه السلام يُكَلِّفُهُنَّ الْحُضُورَ لِذَلِكَ , فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ . وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ : اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُفْتِي , مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَعَلَى أَنَّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ , وَذَكَرَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ , وَقَدْ ضَمِنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اعْتِقَادِهِ , وَمَذْهَبُهُ الْحُكْمُ الَّذِي أَمْضَاهُ عَلَيْهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ لَمَا جَازَ حُكْمُهُ , وَقَدْ قَبِلَ الْجَمِيعُ خَبَرَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ , وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ , فَصَارَ أَصْلًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ , عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهُ عَلَيْهَا . وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي , وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَخْبَرَا عَنْ رَأْيِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا , فَإِذَا أُخْبِرَ حُكْمَ النَّبِيِّ عليه السلام فِيهِ , فَهُوَ أَوْلَى ( مِنْ قَبُولِ ) خَبَرِهِمَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ : إنَّ هَذَا أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ : كَيْتَ وَكَيْتَ , لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ , فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي لَزِمَ السَّامِعَ حُكْمُهُ , وَالْعَمَلُ بِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي : إنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْقُرْآنِ , لَزِمَهُ قَبُولُ قَوْلِهِ , وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرْت . قِيلَ لَهُ : لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ , وَأَمَّا الْحُكْمُ : فَإِنِّي أُثْبِتُهُ , وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُ خَبَرِ الْمُفْتِي , لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ  الْحُكْمِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ , وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ مَتَى فَقَدُوا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ , رَجَعُوا إلَى اسْتِعْمَالِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ . قِيلَ لَهُ : إنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ , وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ الظَّنِّ . وَالْأَثَرُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ , وَإِنْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ , لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَقُولُ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ عَنْ الرَّسُولِ عليه السلام فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ النَّظَرَ مَعَ الْأَثَرِ , وَقَدَّمْنَا الْأَثَرَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَيْهِ . وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ , فَانْتَفَى قَبُولُهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ , وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ قَائِلِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَاوِيهِ . وَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ , فَانْتَفَى بِهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي ( بَدْءِ دُعَائِهِ ) النَّاسَ إلَى التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ , إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ , وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ  لِصِدْقِهِ , فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ , وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ , لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ , إذْ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ , وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ . وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَذَلِكَ : أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ , وَالْحُكْمَ بِهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ , لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ قَبُولِهِ , فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ , كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ : إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ , وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ , إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا , كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ , وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْحَقِيقَةِ . وَالْآخَرُ : حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا : قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا , وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { إنَّ ابْنَك سَرَقَ , وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا , وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ , { وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لِمُعَاذٍ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ , يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ , وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ إعْلَامًا , وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ . وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ , حَكَمْنَا بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِلْمِ , حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ صِدْقِهِمْ , وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ , وَكَانَ خَبَرُ  الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ , لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ , إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ , لِيَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا , وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ , وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا , لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ . وَمَعْلُومٌ : أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ , وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا . فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا , وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا , مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا , بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ , مِنْ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ , لَمْ يَتَعَدَّدْ ذَلِكَ , لِأَنَّ قوله تعالى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقوله تعالى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ , فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ , وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ , أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ , وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَخْبَارُ الْآحَادِ الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ , وَالْإِقْرَارَاتِ , وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا , وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ , وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ , لَا عِلْمَ الْمُضَمَّنِ , فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ , لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وقوله تعالى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا }  قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا نَقُولُ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ , وَلَا نُكَلَّفُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ , وَمِنْهَا مَا اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ , وَمَا قَبِلْنَا فِيهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ - فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , وقوله تعالى : { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } لَا يَنْفِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا , وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا السَّائِلُ , لَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ أَخْبَارَ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا , وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ : مِنْ حَظْرِ مُبَاحٍ , أَوْ إبَاحَةِ مَحْظُورٍ , فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةً مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ , عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ إصَابَةَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَضِيَّةَ هَذَا السَّائِلِ يَمْنَعُ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولَ قَوْلِ الْمُفْتِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ , وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ , فَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ , إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ : قَدْ طَهُرْتُ مِنْ حَيْضِي , أَوْ قَدْ حِضْت , فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَحَظْرِهِ , لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ هَؤُلَاءِ مَقْبُولَةً مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُخْبَرَاتِهَا , عَلِمْنَا بِهِ فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ لَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ , لَمَا سَاغَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , لِأَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ يُفْضِيَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ , وَإِنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ الظَّنِّ وَأَكْثَرُ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الدِّينِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا , فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عليه السلام لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ  الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ , فَكَانَ غَيْرُهُ بِمَثَابَتِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ صِدْقَهُ . فَلَا مَعْنَى لَهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عليه السلام بَدْءٌ فَإِنَّمَا كَانَ مَعَ دُعَائِهِ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ , وَكُلِّ مَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ , وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي ( كُلِّ مَا ) كَانَ سَبِيلُهُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْخَبَرِ مُجَرَّدًا دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ . ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ , صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً لِصِدْقِ إخْبَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ . وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ , فَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُنَا بِهَا الْعَمَلُ دُونَ الْعِلْمِ . فَالْمُسْتَدِلُّ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعْتَقِدٌ لِمَا وَصَفْنَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ فِي الشَّهَادَاتِ , وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ , فِي الْفُتْيَا , وَحُكْمِ الْحَاكِمِ , وَنَحْوِهَا , لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ , مَعَ تَفَرُّدِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهَا , وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام - فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ , لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عليه السلام لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ , حَتَّى تُقَارِنَهُ دَلَائِلُ غَيْرِهِ تُوجِبُ صِحَّتَهُ , وَخَبَرُ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ , دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ لَهُ . فَأَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ , دُونَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ , وَالْقَطْعِ عَلَى عَيْنِهِ . وَقُلْنَا : إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ عليه السلام لَمَّا اقْتَضَى وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ , وَمَا دَعَا إلَيْهِ , احْتَاجَ إلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ , فَلَمْ نَجْعَلْ الْمُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ عليه السلام فِي خَبَرِهِ , وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ظَنَّ السَّائِلُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ بِلَا دَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ مُوجِبَةٍ لِتَصْدِيقِهِ , وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ النَّبِيِّ عليه السلام , إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ .
     فَصْلٌ:
       قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ مَعَهُ مُوجِبُ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ , مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , فَهُوَ دَالٌّ : عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , وَرَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَنَا ذَاكِرُهَا , وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْقَوْلِ فِيهَا , إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ , وَأَنَا أَذْكُرُ مَوْضِعَ اعْتِرَاضَاتِهِ , وَأُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ . فَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } . أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ , وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسَمَّى طَائِفَةً , وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي أَمَرَ الطَّائِفَةَ بِالنُّفُورِ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ , كَمَا لَوْ قَالَ : فَلَوْ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ , عُلِمَ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ : أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ , فَلَا سَبِيلَ إلَى تَثْبِيتِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ , وَلَا شَرْعٍ , بَلْ الدَّلَائِلُ مِنْ الْقُرْآنِ , وَقَوْلِ السَّلَفِ ظَاهِرَةٌ : أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَنَاوَلُ  اسْمَ الطَّائِفَةِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } . وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ : أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ . فَقَدْ تَأَوَّلَ السَّلَفُ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْوَاحِدِ , وَلَوْلَا أَنَّهَا اسْمٌ لَهُ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَدَلَّ : أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَ . وَمَوْجُودٌ أَيْضًا : فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ : أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ وَالْبَعْضِ وَالْخَبَرِ يَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ : أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا شَاءَ مِنْهَا , مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ , كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ بَعْضُهَا , أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , كَانَتْ الطَّائِفَةُ بِمَعْنَى الْبَعْضِ , فَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ مِنْهَا . وَقَالَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ عليه السلام - الْوَاحِدَ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ : إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ , لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُدُولِ دُونَ الْفُسَّاقِ . وَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ , وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ , وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ , كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْعَدْلِ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ مِنْ الْحُكْمِ - دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَحْدَهُ , وَإِنْ أُمِرَ بِالْأَدَاءِ لِيَنْتَشِرَ وَلِيَسْتَفِيضَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا سَلَفَ . وَنَقُولُ أَيْضًا : إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ يَقْتَضِي قَبُولَ خَبَرِهِ , وَمَا يُؤَدِّيهِ , كَمَا اقْتَضَى قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } , وقوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا , هَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ  الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ , وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ , وَهُمْ الْفُسَّاقُ , كَمَا أَنَّ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمَا إقَامَةَ الشَّهَادَةِ , وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ , إذَا دُعِيَا لِلشَّهَادَةِ , ( وَأَنَّهُ وَاجِبُ ) التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِمَا , وَلَا يَقْدَحُ وُجُوبُ التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ , فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ كَمَا يَقُولُ فِي الْعُمُومِ : إنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ , ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَتِهِ . وَذَكَرَ : أَنَّهُ لَيْسَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ عليه السلام الْعُمَّالَ عَلَى الْبُلْدَانِ وَاسْتِعْمَالُ السُّعَاةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ - دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ , لِأَنَّ قَبُولَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاجِب عَلَى رَعِيَّتِهِ , وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَبَيْنَ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِهِ , وَإِذْ قَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ بِكَذَا , أَوْ أَمَرَ بِكَذَا - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ , فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ بِمَنْزِلَتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانَ يَبْعَثُهُمْ النَّبِيُّ عليه السلام - لَمْ يَكُونُوا يَقْتَصِرُونَ فِي تَعْلِيمِ رَعَايَاهُمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْإِسْلَامِ , ثُمَّ إنْ أَجَابُوا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ , وَجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْكَافَّةُ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَعَايَا الْوُلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِهِمْ , وَإِنَّمَا لَزِمَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَتْ بِهِ الْوُلَاةُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام . وَذُكِرَ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ : أَنَّهُ جَائِزٌ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى , غَيْرِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي حَكَى إخْبَارَهُ , فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ .  وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ , وَلَا يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخْبِرٌ آخَرُ وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لَنُقِلَ , فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إلَّا خَبَرُ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ , وَأَنَّ الصَّحَابَةَ صَارَتْ إلَى حُكْمِ خَبَرِهِ , عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ . وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ , وَإِنَّمَا رَجَمَهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ شُهُودٍ عَلَيْهِ بِالزِّنَا , وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا , وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ لِلزِّنَا وَحْدَهُ , وَلَكِنْ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَبِلَ عَنْ ذَلِكَ , فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ , وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ فَحَسْبُ , لَكِنْ لِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ , وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا , وَلُزُومُ هَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ السُّنَنِ كُلِّهَا , لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي حُكْمٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام حَكَمَ بِهِ لِحُدُوثِ حَادِثَةٍ - أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا . وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا , لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ جَمَاعَةٍ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ فِي نَحْوِ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ . وَذُكِرَ : أَنَّ رَاوِيَ خَبَرِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , وَكَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ , لِأَنَّهُ بَلَغَ عَامَ الْخَنْدَقِ , فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضْبِطُ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ فِيهِ , لِأَنَّ خَبَرَ مَسْجِدِ قُبَاءَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ , وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْهَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى إسْنَادٍ , حَتَّى قَدْ صَارَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا , لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِيهِ بَعْضَ صَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , وَبَعْضَهَا إلَى الْكَعْبَةِ , فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَئِذٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَضْبِطُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّ سِنَّهُ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا , لِأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ , وَكَانَ سِنُّ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ  عَشْرَةَ سَنَةً , لِأَنَّهُ قَالَ : عُرِضْت يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام , وَلِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً , فَلَمْ يُجِزْنِي , وَأَجَازَنِي يَوْمَ أُحُدٍ , وَبِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . وَمَنْ رَوَى : أَنَّ سِنَّهُ كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً , وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ , لِأَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ , وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَوَى قِصَّةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ لَمَا رَوَاهَا , وَلَا قَطَعَ بِهَا , وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَرْوِي مَا يَرْوِيهِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , أَوْ مِنْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ , هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ , وَيُقَالُ : إنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام سَمَاعًا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا , وَالْبَاقِي سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ , وَلَمْ يُطْعَنْ فِي رِوَايَتِهِ لِمَا رَوَاهُ سَمَاعًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صِغَرِهِ , بَلْ قَدْ قَبِلَهُ النَّاسُ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا . رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ , وَأَحْكَامِهَا , فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ فِيهَا عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ خَالَتُهُ - لِيَعْرِفَ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ , وَكَانَ أَصْلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا , وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَجْلِ صِغَرِهِ . وَمِمَّنْ كَانَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَرَوَى عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ , فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِ , وَبَيْنَ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ : زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ , وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ , وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ , وَابْنُ الزُّبَيْرِ , فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ , فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيمَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ بِالسِّنِّ فِي وَقْتِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَحْكِيهَا . وَذُكِرَ : أَنَّ الْأَنْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَاقُوا شَرَابَهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ مُخْبِرٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ , عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ , كَمَا كَسَرُوا الْأَوَانِيَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ مَالًا لَهُمْ قَبْلَ سَمَاعِ الْخَبَرِ , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ قَدْ أَوْجَبَ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَهُ لَمَّا أَسْرَعُوا إلَى إتْلَافِهِ , وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْجِرَارَ تَأْكِيدًا لِأَمْرِ التَّحْرِيمِ , وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعَادَةِ فِي شُرْبِهَا , كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَقِّ رَوَايَا الْخَمْرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا , وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَبِّهَا , تَأْكِيدًا لِأَمْرِ تَحْرِيمِهَا , وَتَغْلِيظًا  عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ عَادَاتِهِمْ عَنْهَا . وَذُكِرَ فِي قَبُولِ عُمَرَ رضي الله عنه خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي { تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } : أَنَّهُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَكَانَ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ . وَمَعَ ذَلِكَ إنَّ الضَّحَّاكَ ذَكَرَ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ , فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ اسْتَدَلَّ عُمَرُ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا كَوْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ , عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَيْسَ يَقُولُ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَحَلَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ , وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُسَمَّى رَاوِيَةَ عُمَرَ , وَكَانَ يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ : مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِقَضَايَا عُمَرَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ . وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ . فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الضَّحَّاكَ حَكَى لِعُمَرَ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ , فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا عِنْدَ عُمَرَ وَقْتَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ لِذَلِكَ , إنَّمَا كَانُوا فِي قَبَائِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ , وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا ذَكَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ , فَكَانَ غَائِبًا عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَلَا مَعْنَى إذًا لِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ الْقِصَّةِ , وَتَرْكِ النَّكِيرِ مِمَّنْ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَى رَاوِي الْخَبَرِ , إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَهَا الَّذِينَ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِمْ كَانُوا حَضَرُوا عِنْدَهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ . وَذُكِرَ فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رحمه الله فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ : أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَحْرَيْنِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَهَذَا تَظَنِّي وَحُسْبَانٌ , وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ , وَلَا بِرِوَايَتِهِ , وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ : أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِذَلِكَ , وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْبَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ , وَذَكَرَ : أَنَّ رُجُوعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ , حِينَ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا , وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَدْ أَخْبَرَاهُ جَمِيعًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَقَدْ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاعْتِبَارَ . وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ  مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَرْوِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً تَوَاتَرَ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِهَا , فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِهِ , فَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ , فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ اسْتَدَلَّ بِهَا مُثْبِتُو خَبَرِ الْوَاحِدِ بِتَنَاوُلِهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي إفْسَادِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ , فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ . ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , وَنَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } ) قَالَ : وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ , حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ عليه السلام مُصَدِّقًا . عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ , فَجَاءَ وَادَّعَى : أَنَّهُمَا أَرَادُوا قَتْلَهُ , فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْوَلِيدِ . فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ فِسْقَهُ وَجَعْلَهُ فَاسِقًا بِإِخْبَارِهِ بِالْكَذِبِ - فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْوَاحِدِ , وَإِنْ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ الظَّاهِرُ , لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ فَسَقَ فِي إخْبَارِهِ , كَمَا فَسَقَ الْوَلِيدُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ , بَلْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ , فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَحْدَهُ . فَالنَّبِيُّ عليه السلام قَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ , وَمَقَادِيرِهَا , وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ . وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ . ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِسْقِهِ حِينَ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَذِبٍ , أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ . فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ لَعَلَّهُ قَدْ فَسَقَ فِي قَوْلِهِ . قِيلَ لَهُ : فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَسَقَا , وَتَمْنَعُ فِي  قَبُولِ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا , وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا عِنْدَنَا , يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَسَقُوا , فَهَذَا اعْتِبَارٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ : أَنَّ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ , وَأَنَّ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِشَهَادَتِهِ , فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ , ثُمَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ قِيَاسَ الْأَخْبَارِ عَلَى الشَّهَادَاتِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَلَيْسَتْ الشَّهَادَةُ أَصْلًا لِلْأَخْبَارِ , لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْعَبِيدِ , وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ , وَخَبَرِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ . وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا : عَلَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , إلَّا مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ , وَأَنَّ ( شَهَادَةَ ) النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ مَقْبُولَةٌ فِي الْوِلَادَةِ , وَنَحْوِهَا , فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَاتِ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ لِلْأَخْبَارِ . وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ أَصْلًا لِذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ الْخَبَرُ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ , كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ , وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ النِّسَاءِ , وَإِنْ كَثُرْنَ , مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ , كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا , فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَنَّ الْأَخْبَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالشَّهَادَاتِ . وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ فِي الْأَخْبَارِ , رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ , فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ : أَنَّ الشَّهَادَاتِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ , وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْأَخْبَارِ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُعَايَنَةِ . وَالْأَخْبَارُ يُقْبَلُ فِيهَا : فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ , وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ , وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ , وَالْخَبَرُ يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ السَّامِعِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالنَّقْلِ عَنْهُ , وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ , إلَّا بِتَحْمِيلِ الشَّاهِدِ إيَّاهُ , وَأَمْرِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ . وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ , وَقَبِلَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ , بِأَخْبَارٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ الطَّرِيقِ  الَّتِي يَعْتَبِرُهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ . بَلْ لَا يُمْكِنُهُ حَتَّى إثْبَاتُ خَبَرٍ يَرْوِيهِ اثْنَانِ , عَنْ اثْنَيْنِ , حَتَّى يُبْلِغُوهُ النَّبِيَّ عليه السلام . فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ ؟ مِنْهَا : أَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ { ذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما . فَقَالَ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ } قَالَ : فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ عليه السلام بِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا , وَلَوْ كَانَ يُوجِبُ حُكْمًا لَمَا احْتَاجَ إلَى مَسْأَلَةِ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ . فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا شَرَائِطَ فِي قَبُولِهِ . مِنْهَا : أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا حَكَى شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُهُ جَمَاعَةٌ , ثُمَّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْجَمَاعَةُ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ , وَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , فَامْتَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْفَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ , وَيَنْفَرِدَ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ دُونَهُمْ , فَلِذَلِكَ سَأَلَ غَيْرَهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : إنَّك صَلَّيْت رَكْعَةً , لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنْ خَلْفَهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ , أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خَبَرِهِ , وَكَمَا نَقُولُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ , لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْضُرَ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ لِطَلَبِ الْهِلَالِ , فَيَنْفَرِدَ بِرُؤْيَتِهِ وَاحِدٌ دُونَهُمْ , مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي صِحَّةِ الْإِبْصَارِ , وَاتِّفَاقِ هِمَمِهِمْ فِي الطَّلَبِ . وَذَكَرَ أَيْضًا : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يُشْهِدْ فِي عُهُودِهِ وَالْإِقْطَاعَاتِ لِلنَّاسِ أَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ , فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْأَخْبَارِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : أَمَّا الْعُهُودُ وَالْإِقْطَاعَاتُ : فَإِنَّ فِيهَا حُقُوقًا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ , كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ , فَاحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَوْثِقَةً لَهُمْ , وَحُجَّةً يَصِلُونَ بِهَا إلَى إثْبَاتِهَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ فِي شَيْءٍ . أَلَا تَرَى : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ كَتَبَ كُتُبًا فِي الْأَحْكَامِ , وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا أَحَدًا , نَحْوَ كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ضُرُوبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَكِتَابِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فِي الصَّدَقَاتِ , وَكِتَابِهِ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ , وَكِتَابِهِ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ , وَلَمْ يُشْهِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا شُهُودًا , لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهَا كَانَ لِلْخَبَرِ , لَا لِلشَّهَادَةِ  وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ : أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرَ اثْنَيْنِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام اقْتَصَرَ فِي كُتُبِ عُهُودِهِ وَإِقْطَاعَاتِهِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَحَسْبُ , بَلْ الْمُسْتَفِيضُ : أَنَّهُ كَانَ يُشْهِدْ فِيهَا جَمَاعَةً أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ , فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إشْهَادُهُ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِنْ فِعْلِ الْأَئِمَّةِ : بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه حِينَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ , أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ . وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك , فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ , فَحَكَمَ لَهَا بِالسُّدُسِ , وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ , حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ , وَرَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْحَبْسِ , حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا , وَقَالَ : " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا , وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا , بِقَوْلِ امْرَأَةٍ , لَا أَدْرِي أَصَدَقَتْ , أَمْ كَذَبَتْ " وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُوجِبَةٌ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ . وَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ , وَطَلَبَا مُخْبِرًا آخَرَ مَعَهُ , وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ ذَكَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام وَعَدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَلَمْ يَقْبَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ  فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ ( وَ ) ذَكَرَ أَخْبَارًا مِنْ نَحْوِهَا , لَمْ يَقْبَلْهَا قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا : عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا رَدُّوهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ , وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ لَقَبِلُوهَا . وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى : أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي سُورَتَيْ الْقُنُوتِ , وَلَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إسْقَاطِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ , { وَأَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ  حِينَ سَمِعَهُ يَقْرَأُ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ , حَتَّى خَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام لِعُمَرَ : اقْرَأْ , فَقَرَأَ , فَقَالَ : هَكَذَا أُنْزِلَتْ , ثُمَّ أَمَرَ هِشَامًا فَقَرَأَ , فَقَالَ : هَكَذَا أُنْزِلَتْ } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : فَأَوَّلُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ , حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ أَقْصَاهُ , فَلَا يَصِحُّ لَهُ إذًا الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي دَفْعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَاعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ . فَإِنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ , فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ , فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . قِيلَ لَهُ : فَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارًا وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ وَقَدْ قَبِلَتْهَا الْأُمَّةُ وَأَثْبَتَتْهَا , فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ : عَلَى أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ أَخْبَارَ الْآحَادِ ؟ وَأَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرْ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ ؟ ثُمَّ نَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ قَبُولَ أَخْبَارِ الْآحَادِ , وَإِنَّمَا كَأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَرَى قَبُولَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا , وَلَا يَرَى رَدَّهَا لِعِلَلٍ تُوجِبُ رَدَّهَا . فَأَمَّا مَنْ اعْتَبَرَ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ شَرَائِطَ مَتَى خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تُوجِبْ قَبُولَهَا , فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ , وَلَيْسَ فِي رَدِّ السَّلَفِ لِبَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يُوجِبُ خِلَافَ قَوْلِهِ , وَكُلُّ خَبَرٍ مِنْ ذَلِكَ رَدُّوهُ فَهُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْآحَادِ , كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ  الشَّاهِدَيْنِ , وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ , لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْأَخْبَارِ , كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ , وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تُوجِبُ رَدَّهَا , وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ تَعْرِيَتِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا , وَلَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُمْ فِي رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرُوهَا : أَنَّهُمْ رَدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ , دُونَ أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أُخَرَ غَيْرِهَا , عَلَى النَّحْوِ الَّذِي نَقُولُهُ . ثُمَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهَا , وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ; لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ سَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِهَا , إذْ لَيْسَ هُوَ أَسْعَدَ بِدَعْوَاهُ هَذِهِ مِنَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ , فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى خَصْمِهِ بِغَيْرِهَا , وَعَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ظَاهِرَةٌ : عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ , لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ كُلِّ خَبَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ تَعَرَّتْ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ , لَمَا دَلَّتْ : عَلَى أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْهَا لِمَا ذَكَرَهُ . فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِلْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ : ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك , حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه , فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ رحمه الله ذَكَرَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُغِيرَةِ هَذَا إلَّا احْتِيَاطًا , وَإِلَّا قَدْ ضَعُفَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ . إمَّا : لِعِلَّةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا , وَإِمَّا : أَنْ يَكُونَ الْمُغِيرَةُ أَخْبَرَ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ سَمِعُوهُ مَعَهُ , أَوْ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ : بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ بِالْمَدِينَةِ , بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَلَمْ تَكُنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ . وَلَا يُمْكِنُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَفَرَّقَ مَنْ حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك عَلَيْهِ , فَلَمْ يَبْعُدْ , أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهُ , لَوْ قَدْ زَالَتْ لَقَدْ كَانَ خَبَرُهُ عِنْدَهُ مَقْبُولًا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ بَيْنَ قَوْمٍ . فَقَالَ بِلَالٌ رحمه الله : أَشْهَدُ أَنَّهُمْ اخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ , فَرَدَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ قَضَاءَهُ , وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ بِخَبَرِ بِلَالٍ وَحْدَهُ ,  وَنَقَضَ بِهِ قَضَاءً كَانَ قَضَى بِهِ , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ عِلَّةٌ لَيْسَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ مِثْلُهَا لَأَجْرَاهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا . وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ - فَإِنَّ وَجْهَهُ : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ , لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَاسْتَنْكَرَ وُرُودَهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ , وَهَذَا عِنْدَنَا إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ الْهِلَالِ , وَخَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ , أَوْ فِي عَرَفَاتٍ , قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ , فَلَا يُخْبِرُ أَحَدٌ بِمِثْلِ خَبَرِهِ فَنَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدِّ حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ ( بْنُ ) مَسْلَمَةَ , فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - كَانَ وَجْهُهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي تَثَبُّتِ أَبِي بَكْرٍ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ , فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ . عَلَى ( أَنَّ ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ : أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي خَبَرِ حُكْمِ الْجَنِينِ مُضْطَرِبٌ , وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ , وَلَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ { عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أُذَكِّرْ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ شَيْئًا , فَقَامَ إلَيْهِ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ : كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ , فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا , فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ } . فَقَالَ عُمَرُ : " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا " . وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا - لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا . فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ قَبِلَهُ عُمَرُ وَعَمِلَ بِهِ - فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ : أَنَّهُ سَأَلَ الْمُغِيرَةَ , مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ , وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مُقَدَّمًا لِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ , وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ , فَكَيْفَ سَأَلَ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَضِيَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام فِي الْخَبَرِ , مَعَ تَقَدُّمِ سَمَاعِهِ لِحُكْمِهِ , وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِخَبَرِ اثْنَيْنِ ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْخَبَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ سُؤَالٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ  وَأَمَّا خَبَرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّمَا رَدَّهُ عُمَرُ , لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خِلَافَ الْكِتَابِ , فِي إبْطَالِهِ السُّكْنَى , وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ فِي قوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } . فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّهَا قَدْ أَوْهَمَتْ فِي خَبَرِهَا فِي إبْطَالِ السُّكْنَى , وَكَانَتْ النَّفَقَةُ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهَا , وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ . وَعَلَى أَنَّهُ : قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ " أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ عليه السلام يَقُولُ : لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ } رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ , فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , لَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي رَدِّ خَبَرِهَا : أَنَّهُ لَا يَدْرِي صَدَقَتْهُ أَمْ كَذَبَتْ . فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي الِاعْتِلَالِ لِرَدِّهِ عَلَى ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا , وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا , لِخَبَرِ مَنْ يَجُوزُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ , وَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ , لَا يَسَعُ الشَّكُّ فِيهِ . وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ , وَلَا عَلَى السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ , وَعَلَى أَنَّ جَوَازَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِ بِانْفِرَادِهِ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ - لَوَجَبَ رَدُّ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ أَيْضًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ , وَلَوَجَبَ رَدُّ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا أَيْضًا لِذَلِكَ . وَأَمَّا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ - فَإِنَّ عُثْمَانَ  ذَكَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَطْمَعَهُ فِي رَدِّهِ , وَلَمْ يَحْكِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ , وَلَوْ كَانَا هُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ عليه السلام يُطْمِعُهُ فِي رَدِّهِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّهُ - لَمَا جَازَ لَهُمَا أَنْ يَرُدَّاهُ , إذَا لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِذَلِكَ , فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ . وَأَمَّا رَدُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِخَبَرِ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ , فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ فَإِنَّ قِصَّةَ بِرْوَعَ قَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْجَعَ , مِنْهُمْ : أَبُو سِنَانٍ , وَأَبُو الْجَرَّاحِ , وَغَيْرُهُمَا , وَلَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِهَا وَاحِدًا , فَلَا تَعَلُّقَ فِيهِ , لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ , وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ ; لِأَنَّهُ وَاحِدٌ , لِأَنَّهُ قَالَ : لَا نَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ , وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً - لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ لِكَثْرَةِ وَهْمِهِمْ , وَقِلَّةِ ضَبْطِهِمْ , لِأَنَّهُمْ أَعْرَابٌ , فَكَانَ ذَلِكَ إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي رَدَّ خَبَرَهُمْ لَهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أُبَيِّ سُورَتَيْ الْقُنُوتِ , وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ الَّذِي قَرَأَ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ . فَإِنَّ مِنْ أَصْلنَا : أَنَّا لَا نُثْبِتُ الْقِرَاءَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ بِهِ فِيمَا وَصَفْنَا .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي قَبُولِ شَرَائِطِ أَخْبَارِ الْآحَادِ

	   قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الطُّرُقِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَا , وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوهِ الْحِجَاجِ لَهَا , وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا مَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي قَبُولِ خَبَرٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ , كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ الِاجْتِهَادَ , كَمَا نَقُولُ فِي الشَّهَادَاتِ : إنَّ ثُبُوتَهَا فِي الْجُمْلَةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ . وَمَتَى عَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي شَهَادَةِ شُهُودٍ بِأَعْيَانِهِمْ , كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ شَهَادَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِهَا الِاجْتِهَادَ , وَغَلَبَةُ الظَّنِّ , لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ . فَمَتَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ لِمَا تَحَمَّلُوا , وَإِتْقَانُهُمْ لِمَا أَوْجَبَ قَبُولَهَا مِنْهُمْ . وَمَتَى غَلَبَ فِي ظَنِّنَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَجَبَ رَدُّهَا , وَلَمْ يَجُزْ لَنَا قَبُولُهَا , وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْآحَادِ , يَجُوزُ رَدُّهَا لِعِلَلٍ , إذَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا مِنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ الِاجْتِهَادَ وَغَالِبُ الظَّنِّ , عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الظَّنِّ بِالرُّوَاةِ . فَمِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَرُدُّهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا : مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : ذَكَرَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ لِمُعَارَضَةِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ . أَوْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي . أَوْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ , فَيَجِيءَ خَبَرٌ خَاصٌّ لَا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ . أَوْ يَكُونَ شَاذًّا قَدْ رَوَاهُ النَّاسُ , وَعَمِلُوا بِخِلَافِهِ .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله تعالى : إنَّمَا مَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ لِنَصِّ الْكِتَابِ ( لَا ) يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُقْتَضَاهُ . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ : مِنْ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ , حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لقوله تعالى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَمَا رُوِيَ : أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم " رَأَى رَبَّهُ " يَرُدُّهُ قوله تعالى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ . يَرُدُّهُ آيَةُ الرِّبَا , وَحَدِيثُ مَانِعِ الزَّكَاةِ : أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَشَطْرُ مَالِهِ . وَحَدِيثُ : أَخْذُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَكْمَامِهَا : أَنَّهُ يَعْنِي يَغْرَمُهَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا , وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ . هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرُدُّهَا آيَةُ الرِّبَا . وَكَذَلِكَ مُعَارَضَةُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ إيَّاهُ , عِلَّةٌ تَرُدُّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ , لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ تُوجِبُ الْعِلْمَ , كَنَصِّ الْكِتَابِ .
         وَأَمَّا حُكْمُهُ فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ : فَإِنَّمَا كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ مِنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام الْكَافَّةَ عَلَى حُكْمِهِ , فِيمَا كَانَ فِيهِ إيجَابٌ أَوْ حَظْرٌ نَعْلَمُهُ , بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا بِتَوْقِيفِهِ , وَإِذَا أَشَاعَهُ فِي الْكَافَّةِ وَرَدَ نَقْلُهُ بِحَسَبِ اسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ . فَإِذَا لَمْ نَجِدْهُ كَذَلِكَ  عَلِمْنَا : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا , أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ , وَلَا يَجُوزُ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ : أَنْ يَخْتَصَّ بِنَقْلِهِ الْأَفْرَادُ دُونَ الْجَمَاعَةِ , كَمَا قُلْنَا فِي أَهْلِ مِصْرٍ إذَا طَلَبُوا الْهِلَالَ , وَلَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ : إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي رُؤْيَتِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ( صَحِيحًا ) لَمَا جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِرُؤْيَتِهِ دُونَ الْكَافَّةِ . وَلَوْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ , وَجَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ قُبِلَ خَبَرُهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ تَفَانَى فِيهَا الْخَلْقُ , لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ دُونَ نَقْلِ الْكَافَّةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ : إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً , وَلَمْ يُخْبِرْهُ غَيْرُهُ بِذَلِكَ , مَعَ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ , لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى خَبَرِهِ , وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ صَلَّى بِآخَرَ فَلَمَّا سَلَّمَا , قَالَ لَهُ : سَهَوْت : وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً , كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ خَبَرِهِ , إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ : أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ . وَمِمَّا وَرَدَ خَاصًّا مِمَّا سَبِيلُهُ أَنْ تَعْرِفَهُ الْكَافَّةُ : مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ قَالَ : { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } . فَهَذَا الْخَبَرُ إنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ اقْتَضَى بُطْلَانَ الطَّهَارَةِ إلَّا مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهَا - تَعْرِفُهُ الْكَافَّةُ , كَمَا عُرِفَتْ سَائِرُ فُرُوضِهَا , لِعُمُومِ الْحَاجَةِ فِي الْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ . وَكَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ , وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } . وَنَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ , وَمِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ , وَالْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ , وَمَا رُوِيَ فِي الْجَهْرِ : بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ ثَابِتَةً لَنَقَلَهَا الْكَافَّةُ . وَمِثْلُهُ : حَدِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ , لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما , فَقَالَ لَهُمَا : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ } , لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ , كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ : سَهَوْت , وَإِنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً وَاحِدَةً , فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ , إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ مَعَ جَمَاعَةٍ غَيْرَهُ .
   فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْحَيْضُ مِمَّا تَعُمُّ بَلْوَى النِّسَاءِ بِهِ , وَلَمْ يَرِدْ النَّقْلُ مُسْتَفِيضًا بِمِقْدَارِهِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ : بِأَنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا , وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ  ثَلَاثَةٌ , وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ , وَعَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْهُ سِتٌّ , أَوْ سَبْعٌ , كَمَا { قَالَ عليه السلام لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ : تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا , كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ } وَهَذَا الْمُعْتَادُ مِنْهُ قَدْ وَرَدَ ثُبُوتُهُ وَكَوْنُهُ حَيْضًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ , وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ : عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ حَيْضًا , وَكَذَلِكَ الثَّلَاثَةُ , وَالْعَشَرَةُ , مُتَّفَقٌ عَلَى  أَنَّهَا حَيْضٌ , فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ , فَجَائِزٌ أَنْ لَا يَرِدَ النَّقْلُ بِنَفْيِهِ أَوْ إيجَابِهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ .
   فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ كَثْرَةِ الْجَمْعِ هُنَاكَ . قِيلَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ , وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ : أَنَّهُ لَمْ يُلَبِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ , وَرَوَى جَمَاعَةٌ : { أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } , وَفِعْلُ التَّلْبِيَةِ هِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَإِنَّمَا هُوَ فَضِيلَةٌ وَقُرْبَةٌ , وَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام تَوْقِيفُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ تَرْكُهَا رَأْسًا , فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فَعَلَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ , مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْكَافَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ , وَإِنَّمَا كَانَ يُلَبِّي فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ , فَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهَا إلَّا مَنْ قَرُبَ مِنْهُ : مِثْلُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ , فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ , وَمِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ , فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرُبُ مِنْهُ . وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِقَوْلِنَا فِي وُجُوبِ الْوِتْرِ , وَوُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْجَنَابَةِ , وَوُجُوبِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ , وَنَحْوِهَا , مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا , وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ , لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ : فِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ فَعَلَهُ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ , وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مَذْهَبَ بَعْضٍ عَنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ فِيمَا قَدْ صَحَّ نَقْلُهُ مَصْرُوفَةٌ إلَى النَّدْبِ بِتَأْوِيلٍ , وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُنَا فِي نَقْلِ مَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ . 
    فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِمَا ذَكَرْت مِنْ وُجُوبِ اسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِيمَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ , لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلنَّبِيِّ عليه السلام : أَنْ يَخُصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِتْقَانِ بِإِعْلَامِ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى , حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَى الْكَافَّةِ قِيلَ لَهُ فِي هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : إنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ذَكَرْت كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّهُ إذَا أَوْدَعَ ذَلِكَ عَامَّةَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَإِنَّمَا يُودِعُهُمْ إيَّاهُ لِيَنْقُلُوهُ إلَى الْكَافَّةِ , وَإِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , وَتَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ أَيْضًا عَمَلًا , فَيَتَّصِلُ لِلنَّقَلَةِ وَيَسْتَفِيضُ , فَقَضِيَّتُنَا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ وُرُودِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحَةٌ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمَّا كَانَ مَبْعُوثًا إلَى الْكَافَّةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ حَاجَةَ  الْعَامِّيِّ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ كَحَاجَةِ غَيْرِهِ , فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَوْقِيفُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْحُكْمِ , عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِتَعْلِيمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ - الْخَاصَّةِ دُونَ الْكَافَّةِ . فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا عَمَّتْ فِيهِ الْبَلْوَى , وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ , سَبِيلُهُ : أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ , وَعَمِلَ النَّاسُ بِخِلَافِهِ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { كَأَنْ يَقْنُتَ فِي الْمَغْرِبِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ } . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ , فَهُوَ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ { عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِيمَنْ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ : أَنَّهَا إنْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ , وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا , وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا } . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَانِعِ الصَّدَقَةِ , وَآخِذِ الثَّمَرَةِ مِنْ أَكْمَامِهَا , قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهَا , قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : وَرَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِعِلَلٍ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَذَكَرَ أَخْبَارًا رَدَّهَا السَّلَفُ لِلْعِلَلِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا , فَمِنْهَا : " رَدُّ عُمَرَ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا " لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } فَاسْتَنْكَرَ عُمَرُ انْفِرَادَ أَبِي مُوسَى بِمَعْرِفَةِ تَحْدِيدِ الثَّلَاثِ دُونَ الْكَافَّةِ , مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ , فَأَوْعَدَهُ حَتَّى حَضَرَ مَجْلِسَ الْأَنْصَارِ , فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَعَرَفُوهُ , وَقَالُوا : " لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا " . فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ , أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ , وَلَا حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ , وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَانَ يَرَى الْخَبَرَ الْخَاصَّ بَلْ كَانَ يَقْبَلُهُ مِنْهُمْ , وَيَعْمَلُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِلَّةٌ يُرَدُّ مِنْ أَجْلِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ حِينَ شَهِدَ لِأَبِي مُوسَى , وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ فِي عُمُومِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ , وَشَرْطُك فِي مِثْلِهِ أَلَّا يُقْبَلَ إلَّا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ . قِيلَ لَهُ : إنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ , لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ , وَعَنْ  الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ , فَصَدَّقَ أَبَا سَعِيدٍ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي مَعْرِفَتِهِمْ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى , فَصَارَ كَأَنَّ الْأَنْصَارَ شَهِدُوا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ , فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ , فَلِذَلِكَ عَمِلَ بِهِ وَقَبِلَهُ وَرَدَّ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ " وَكَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا رَدَّهُ عُمَرُ : أَنَّ عَمَّارًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعَهُ شَاهِدًا لِتِلْكَ الْقِصَّةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عُمَرُ , فَاتَّهَمَ وَهْمَ عَمَّارٍ فِيهِ , مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ عِنْدَهُ , وَلَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ , لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ فِي الرِّوَايَةِ , لَكِنْ خَافَ مِنْهُ الْغَلَطَ , وَالْوَهْمَ فِيهَا . وَمِثْلُهُ رَدُّ عُمَرَ ( لِقَوْلِ أَنَسٍ ) فِي أَمَانِهِ الْهُرْمُزَانِ , حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ , لِأَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ : أَنَّهُ أَمَّنَهُ , وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ , وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ ذَاكِرًا لَهُ , فَاسْتَنْكَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ هُوَ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ . فَلَمَّا شَهِدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْضَى أَمَانَهُ . وَرَدَّ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ " حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا " لِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ . ( وَقَدْ رَدَّ ) ابْنُ عَبَّاسٍ , وَعَائِشَةُ , ظَاهِرَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى { أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ  بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } وَعَارَضُوهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَرَدَّتْ عَائِشَةُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي أَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ , وَأَنَّهُ قَالَ : إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ } وَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وَقَالَتْ : إنَّمَا قَالَ : { إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ } . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها " مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَفَرَ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } , وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي { الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَقَالَ : ( إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ ) , وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَنَقَلَتْهُ الْكَافَّةُ , لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَمَشَتْ عَائِشَةُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ : " لَأُحَدِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى } . قَالَ عِيسَى رحمه الله : وَهَذَا مَذْهَبُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدِّهَا بِالْعِلَلِ . قَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } يَقُولُونَ : كَيْفَ  يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ بِالْمَدِينَةِ . وَقَالَ قَيْسٌ الْأَشْجَعِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ " فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِمِهْرَاسِكُمْ هَذَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكَ " وَرَوَى إنْسَانٌ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرَيْنِ : الذَّهَبِ , وَالْمُعَصْفَرِ } فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : " كَذَبُوا وَاَللَّهِ , لَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها : تَلْبَسُ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ , وَتَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ " . وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أَكْثَرَ ابْنُ خَدِيجٍ عَلَى نَفْسِهِ , وَاَللَّهِ لَيَكْرِنَّهَا كِرَاءَ الْإِبِلِ , يَعْنِي فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام { نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ } وَقَالَ مُغِيرَةُ : ذُكِرَ لِإِبْرَاهِيمَ  مَا رَوَوْا فِي أُمِّ سُلَيْمٍ وَفِي قِصَّةِ ابْنِ أَخِي ابْنِ أُبَيِّ الْقُعَيْسِ فِي رَضَاعِ الرَّجُلِ فَلَمْ يَرَهُمَا شَيْئًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : ذَكَرَ عِيسَى هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَأَخْبَارًا أُخَرَ غَيْرَهَا مَعَهَا , وَاسْتَدَلَّ بِهَا : عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ : رَدُّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِالْعِلَلِ . وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذُكِرَ , لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ , كَمَا أُثْبِتَ بِإِجْمَاعِهِمْ لِمَا قَبِلُوهُ مِنْ الْأَخْبَارِ , فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهَا وَالْمَصِيرِ إلَيْهَا . فَمِنْ حَيْثُ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِمِثْلِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا رَدُّهُمْ لَهَا لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا , حُجَّةً فِي لُزُومِ قَبُولِهَا إذَا عَرِيَتْ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ فِيمَا رَدُّوا مِنْهَا - حُجَّةً فِي رَدِّهَا , لِلْعِلَلِ الَّتِي وَصَفْنَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ مِنْ الْعِلَلِ أَنْ يُنَافِيَ مُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ , لِأَنَّ الْعُقُولَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . وَغَيْرُ جَائِزٍ انْقِلَابُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَتْهُ . وَكُلُّ  خَبَرٍ يُضَادُّهُ حُجَّةٌ لِلْعَقْلِ فَهُوَ فَاسِدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَحُجَّةُ الْعَقْلِ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِوَجْهٍ لَا يُخَالِفُ بِهِ أَحْكَامَ الْعُقُولِ , فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ حَكَيْت جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى فِي هَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا , وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ , وَإِنَّمَا قَصَدَ عِيسَى رحمه الله فِيمَا ذَكَرَهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَظْرِ , أَوْ الْإِيجَابِ , أَوْ فِي الْإِبَاحَةِ , مَا قَدْ ثَبَتَ حَظْرُهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرَهَا , أَوْ حَظْرُ مَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ , مِمَّا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ , فَحُكْمُهُ جَارٍ عَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَبُولِ , أَوْ الرَّدِّ . 
    وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَبْقِيَةِ الشَّيْءِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ , أَوْ نَفْيِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ , أَوْ فِي اسْتِحْبَابِ فِعْلٍ , أَوْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ , فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا خَارِجٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَا , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ , وَلَا تَوْقِيفُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِنَصٍّ يَذْكُرُهُ , بَلْ جَائِزٌ لَهُ تَرْكُ النَّاسِ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ مِنْ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ . وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبْيِينُ مَنَازِلِ الْقُرَبِ وَمَرَاتِبِهَا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ لَنَا عَلَى كَوْنِهَا قُرَبًا , كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا مَقَادِيرَ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ , فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ , وَتَوْقِيفُهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَيْهِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ , حَسْبَ مَا يَتَّفِقُ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِ عَنْهُ , أَوْ وُجُودُ سَبَبٍ يُوجِبُ ذِكْرَهُ , فَيَعْرِفُهُ خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ , وَيَنْقُلُوهُ دُونَ كَافَّتِهِمْ . وَمِنْ نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي وُرُودِ خَبَرٍ خَاصٍّ فِيمَا تَرَكُوا فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ : حَدِيثُ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُوجِبُ حُدُوثُهُ الْوُضُوءَ , مِنْ نَحْوِ خُرُوجِ اللَّبَنِ , وَالدَّمْعِ , وَالْعَرَقِ , مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ . وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا , لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام تَوْقِيفُ الْكَافَّةِ عَلَيْهِ , لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْهُ . فَإِذَا أَحْدَثَ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ وَجَبَ إعْلَامُهُمْ إيَّاهُ , لِئَلَّا يُقْدِمُوا عَلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ , كَمَا وَقَفَ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ . وَكَذَلِكَ خَبَرُ { تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } . وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْعَامَّةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا . وَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمُهُ أَنْ يَرِدَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ لِمَا بَيَّنَّا . وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ , وَتَفْضِيلُ الْأَعْمَالِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مِمَّا لَا  تَعَلُّقَ فِيهِ , بِحَظْرٍ وَلَا إيجَابٍ : مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي " الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَمَامَهَا " وَفِي ( الْمُغَلِّسِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْإِسْفَارِ بِهَا ) وَفِي " عَدَدِ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ , وَمِقْدَارِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ " وَفِي " فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ , تَارَةً فِي أَوَائِلِ أَوْقَاتِهَا , وَتَارَةً فِي أَوَاخِرِهَا " وَفِي " إدَامَةِ التَّلْبِيَةِ إلَى أَنْ يَرَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ " وَفِي " مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي حَالٍ , وَكُلَّهُ فِي أُخْرَى " . فَهَذِهِ كُلُّهَا قُرَبٌ وَنَوَافِلُ . وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي أَيُّهَا أَفْضَلُ , فَلَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام تَوْقِيفُ الْجَمِيعِ عَلَى الْأَفْضَلِ , وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُسْتَفِيضًا فِي الْكَافَّةِ , وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام قَدْ فَعَلَ هَذَا تَارَةً , وَهَذَا تَارَةً , عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ , وَلِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْجَمِيعِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ , فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا : يَجِبُ اعْتِبَارُ أَخْبَارِ الْآحَادِ , فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَخْبَارِ الْآحَادِ

	 قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله : وَيُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَتِمَّ وَهْمُهُ فِيهِ , لِأَنَّهُ كَانَ عَدْلًا . وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَيُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْقِيَاسُ , وَلَمْ يُخَالِفْ نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ , وَلَمْ يَرُدُّوهُ . وَقَالَ : وَلَمْ يُنَزَّلْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْزِلَةَ حَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ , لِكَثْرَةِ مَا نَكِرَ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِهِ , وَشَكِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ رِوَايَتِهِ . قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : " كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَدَعُونَ " . وَقَالَ : " كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ " . وَلَمْ يَقْبَلْ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَعَارَضَهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ قَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ , وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ , وَإِنَّا نَدْهُنُ بِالدُّهْنِ وَقَدْ  أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يَا ابْنَ أَخِي , إذَا جَاءَكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ " . وَقَالَ عِيسَى رضي الله عنه : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام خِلَافُ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ عليه السلام , وَلَسَأَلَهُ عَنْ التَّارِيخِ لِيَعْلَمَ النَّاسِخَ , وَلَمَّا لَجَأَ فِي رَدِّهِ إلَى الْقِيَاسِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } إلَّا أَنَّ احْتِجَاجَ عِيسَى رحمه الله بِرَدِّ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , لِأَنَّ خَبَرَهُ عِنْدَهُ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ - لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ مُبَيَّنًا مِنْ جُمْلَةِ مَا مَسَّتْ النَّارُ : فِي أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ , وَيَكُونُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَهُ فِيمَا عَدَا اللَّحْمَ , فَلِمَا رَدَّ جُمْلَةَ الْحَدِيثِ لِمُخَالَفَتِهِ لِقِيَاسِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ اللَّحْمِ وَمِنْ الْحَمِيمِ , ثَبَتَ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : رَدُّ خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ . " وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَمْشِي فِي الْخُفِّ الْوَاحِدِ وَتَقُولُ : لَأُحَدِّثَن أَبَا هُرَيْرَةَ " . وَقَالَتْ لِابْنِ أَخِيهَا : " لَا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا وَكَثْرَةِ حَدِيثِهِ . إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ " .  وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه , وَجَمَاعَةٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ , وَلَمْ يَأْخُذُوا بِكَثِيرٍ مِنْهَا , حَتَّى يَسْأَلُوا غَيْرَهُ , فَإِذَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ غَيْرُهُ عَمِلُوا بِهِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ فِي أَنَّهُ قَالَ : { وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ } : " لَمْ يَنْتَظِرْ بِأُمِّهِ أَنْ تَضَعَ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : جَعَلَ عِيسَى رحمه الله مَا ظَهَرَ مِنْ مُقَابَلَةِ السَّلَفِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ , وَتَثْبِيتِهِمْ فِيهِ , عِلَّةً لِجَوَازِ مُقَابَلَةِ رِوَايَاتِهِ بِالْقِيَاسِ . فَمَا وَافَقَ الْقِيَاسَ مِنْهَا قَبِلَهُ , وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا قَدْ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ فَيُتَّبَعُونَ فِيهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ كَحَدِيثِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ التَّثَبُّتِ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ مُقَابَلَتُهُ بِالْقِيَاسِ , مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِهِ , فَجَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ , وَعَرْضِهِ عَلَى النَّظَائِرِ مِنْ الْأُصُولِ , فَإِنْ لَمْ تَرُدَّهُ النَّظَائِرُ مِنْ الْأُصُولِ قَبِلَهُ , وَإِنْ كَانَتْ نَظَائِرُهُ مِنْ الْأُصُولِ بِخِلَافِهِ - عُمِلَ عَلَى النَّظَائِرِ , وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْخَبَرِ , كَمَا اعْتَبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرِ , وَكَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ فِي مَشْيِهَا فِي خُفٍّ وَاحِدٍ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ , وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي , كَالشَّهَادَاتِ , فَمَتَى كَثُرَ غَلَطُ الرَّاوِي , وَظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ , كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلِاجْتِهَادِ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالْقِيَاسِ , وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ .  وَحَكَى بَعْضُ مَنْ لَا يَرْجِعُ إلَى دِينٍ , وَلَا مُرُوءَةٍ , وَلَا يَخْشَى مِنْ الْبَهْتِ وَالْكَذِبِ : أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ رحمه الله طَعَنَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه , وَأَنَّهُ رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ : " سَمِعْت النَّبِيَّ عليه السلام يَقُولُ : إنَّهُ { يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي ثَلَاثُونَ دَجَّالًا , وَأَنَا أَشْهَدُ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ } وَهَذَا كَذِبٌ مِنْهُ عَلَى عِيسَى رحمه الله , مَا قَالَهُ عِيسَى , وَلَا رَوَاهُ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا ذَكَرْنَا : أَنْ نُبَيِّنَ عَنْ كَذِبِ هَذَا الْقَائِلِ , وَبَهْتِهِ , وَقِلَّةِ دِينِهِ . بَلْ الَّذِي ذَكَرَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ : هُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ , مَعَ تَقْدِيمِهِ الْقَوْلَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ بِأَنَّهُ عَدْلٌ , مَقْبُولُ الْقَوْلِ وَالرِّوَايَةِ , غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالتَّقَوُّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّ الْوَهْمَ وَالْغَلَطَ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ مِنْهُ نَصِيبٌ , فَمَنْ أَظْهَرَ مِنْ السَّلَفِ تَثَبُّتًا فِي رِوَايَةٍ تَثَبَّتْنَا فِيهَا , وَاعْتَبَرْنَاهَا بِمَا وَصَفْنَا . فَإِنْ قِيلَ , قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : " يَزْعُمُونَ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنِّي كُنْت امْرَأً مِسْكِينًا , أَصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي , وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ , وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ , وَإِنِّي شَهِدْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ , فَقَالَ : { مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي , ثُمَّ يَقْبِضُهُ إلَيْهِ , وَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي , فَبَسَطْت بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ , حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ , فَقَبَضْتهَا , فَمَا نَسِيت شَيْئًا بَعْدَهُ } سَمِعْته مِنْهُ . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ حَفِظَ مَا سَمِعَهُ , وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ , فَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنَّهُ يَدُلُّ : عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ  وَأَمَّا حِفْظُهُ لِمَا كَانَ سَمِعَهُ حَتَّى لَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا , فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ فَضِيلَةً لَهُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا , وَفَازَ بِحَظِّهَا مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ   لَعَرَفُوا ذَلِكَ لَهُ , وَاشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ أَمْرُهُ , حَتَّى كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَتُهُ , وَلَرَجَعَتْ الصَّحَابَةُ إلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ , وَلَقَدَّمُوهَا عَلَى رِوَايَاتِ غَيْرِهِ , لِامْتِنَاعِ جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ , وَجَوَازِهِ عَلَى غَيْرِهِ , وَلَكَانَ هَذَا التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ مُتَوَارَثًا فِي أَعْقَابِهِ , كَمَا " خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " وَخُصَّ " حَنْظَلَةَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلَتْهُ " . فَلَمَّا وَجَدْنَا أَمْرَهُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ بِضِدِّ ذَلِكَ , لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ : عَلِمْنَا : أَنَّ مَا رَوَى : فِي أَنَّهُ لَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ - غَلَطٌ . وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْبَرَ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } ثُمَّ رَوَى { لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ } . فَقِيلَ لَهُ : قَدْ رَوَيْت لَنَا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قَبْلَ ذَلِكَ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } . فَقَالَ : مَا رَوَيْته . وَلَا يَشُكُّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ : أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ نَسِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ , لِأَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا صَحِيحَتَانِ عَنْهُ , وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ : أَنَّهُ بَسَطَ رِدَاءَهُ , ثُمَّ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا , كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَمِعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ خَاصَّةً , دُونَ غَيْرِهِ , وَاَلَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِي رُتْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : فِي الْفِقْهِ , وَالدِّرَايَةِ , وَالْإِتْقَانِ , وَقُرْبِ الْمَحَلِّ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام  وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ : " جَالَسْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَمَا سَمِعْتُهُ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا , إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً , فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اعْتَرَاهُ السَّهْوُ وَالْعَرَقُ ثُمَّ قَالَ : أَوْ نَحْوَ هَذَا , أَوْ قَرِيبًا مِنْ هَذَا , أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ الْعِلْمِ : يَتَهَيَّبُ الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَمَنْ لَا يُدَانِيهِ وَلَا يُقَارِبُهُ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ : أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فِي التَّثَبُّتِ , وَالْإِتْقَانِ , وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْيَاءَ لَا تُعْرَفُ : " لَئِنْ لَمْ تَكُفَّ عَنْ هَذَا لَأُلْحِقُك بِجِبَالِ دَوْسٍ " . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْجَيْشِ يُوَجِّهُ بِهِ ( أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ ) . وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ كَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَأَمْثَالِهِمْ ,  يَتَوَقَّوْنَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَوْفًا مِنْ الزَّلَلِ وَالْغَلَطِ . وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ قَالَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ : " أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " . وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إذَا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ , وَقَالَ : " كَبِرْنَا وَنَسِينَا , وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَدِيدٌ " . وَسَمِعَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ حَلَفَ الزُّبَيْرُ بِاَللَّهِ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ الزُّبَيْرُ : " هَذَا وَأَشْبَاهُهُ يَمْنَعُنَا مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " . وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ : أَنَّهُ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَلَمْ يَفْهَمْ الرَّجُلُ عَنْهُ , وَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " كُنَّا نَحْفَظُ الْحَدِيثَ - وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - فَأَمَّا إذَا رَكِبْتُمْ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ فَهَيْهَاتَ " . وَقَالَ بُكَيْر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ , عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ : " اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنْ  رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَنُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ , ثُمَّ يَقُولُ " أَخْبَرَ كَعْبٌ , ثُمَّ نَفْتَرِقُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَنَسْمَعُهُمْ يَذْكُرُونَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَعْبٍ , وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَشْفَقُوا عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ عليه السلام , مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ خَلَلٌ أَوْ وَهْمٌ , أَوْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . فَلِذَلِكَ أَمَرُوا بِالْإِقْلَالِ مِنْ الرِّوَايَةِ , إلَّا لِذَوِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ مِنْهُمْ , وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ جَائِزًا عَلَى الرُّوَاةِ , ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ إنْكَارُ كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ , كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَرْوِيهِ , وَعَرْضِهِ عَلَى الْأُصُولِ وَالنَّظَائِرِ . قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله : فَإِنْ كَانَ الَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ مَجْهُولًا , أَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ , وَاتَّهَمُوا وَهْمَهُ , نُظِرَ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ , وَرُدَّ مِنْهُ مَا كَانَ يُخَالِفُ نَظَائِرَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالتَّأْوِيلِ , وَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ . قَالَ : وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ الثِّقَاتُ الْحَدِيثَ : مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَغَيْرِهِ , مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَرَوَاهُ , وَلَمْ يُعْرَفْ نَشْرُهُ , وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ فِيهِ , وَالْحِفْظِ لَهُ , مِثْلُ : مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَوَابِصَةِ بْنِ مَعْبَدٍ , وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ : حَدِيثُهُمْ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ , لِحَمْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُمْ . وَلِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَخْبَارِهِمْ , فَيَرُدُّوا مِنْهَا مَا أَنْكَرُوا بِالتَّأْوِيلِ , وَالْقِيَاسِ , وَالِاجْتِهَادِ , وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ , فَرَدَّ بَعْضَهُ , وَقَبِلَ بَعْضًا , فَقَبِلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ نَظَائِرُهُ مِنْ الْأُصُولِ , وَرَدَّ مِنْهُ مَا كَذَّبَتْهُ نَظَائِرُهُ , بِكَوْنِ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ عِنْدَنَا كَأَخْبَارِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ , كَالشُّهُودِ , وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا , وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ الَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْوَاضِحِ , الَّذِي يَرَى الْحَاكِمُ : أَنَّهُ يَضْبِطُ مِثْلَهُ , وَيَرُدُّهُ فِي الْأَمْرِ الْمُشْكِلِ الَّذِي يَرَى : أَنَّهُ لَا يَضْبِطُ حِفْظَهُ , وَالْقِيَامَ بِهِ , أَجَازَ رَدَّ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ , وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .  وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَجْهُولَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ , أَوْ قُبَيْلَ عَصْرِهِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَجْهُولَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ : أَنَّ الْمَجْهُولَ الَّذِي ذُكِرَ أَمْرُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ قُبَيْلَ ذَلِكَ , فَهَذَا وَجْهُهُ عِنْدَنَا : أَنَّ الْقَرْنَ الرَّابِعَ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ عليه السلام بِظُهُورِ الْكَذِبِ مِنْهُمْ , بِقَوْلِهِ عليه السلام { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْقِيَاسِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَجْهُولُ مِنْ السَّلَفِ , مِنْ صَحَابِيٍّ , أَوْ تَابِعِيٍّ , فَإِنَّ عِيسَى قَدْ ذَكَرَ : " أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام إنَّمَا رَدَّ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ " لِأَنَّهُ كَانَ خِلَافَ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ , وَكَانَ سِنَانٌ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْحِفْظِ وَالرِّوَايَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَاتُ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِتَحَمُّلِ الْعِلْمِ , وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ , وَقَبِلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَفَرِحَ بِهِ , لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ , فَجَعَلَ عِيسَى رحمه الله مَذْهَبَهُمَا فِي ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَوَازِ رَدِّ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِينَ مِنْ الرُّوَاةِ , لِمُخَالَفَتِهَا الْقِيَاسَ , وَنَزَّلَ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ مَنْ شَكَّ النَّاسُ فِي خَبَرِهِ , " وَاتُّهِمَ حِفْظُهُ " عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ , وَمُعَارَضَتِهَا بِالْقِيَاسِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله , وَتَحْصِيلُ مَا رَوَيْنَا عَنْهُ وَجُمْلَتُهُ : أَنَّهُ نَزَّلَ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى مَنَازِلَ ثَلَاثٍ : أَحَدُهَا : مَا يَرْوِيهِ عَدْلٌ مَعْرُوفٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ , وَالضَّبْطِ , وَالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ يُنْكَرُ  مِنْ السَّلَفِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ , فَيَكُونُ مَقْبُولًا , إلَّا أَنْ يَجِيءَ مُعَارِضًا لِلْأُصُولِ الَّتِي هِيَ : الْكِتَابُ , وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ , وَالِاتِّفَاقُ . وَلَا يُرَدُّ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ . وَالثَّانِي : مَا يَرْوِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ ضَبْطُهُ وَإِتْقَانُهُ , وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ , إلَّا أَنَّ الثِّقَاتِ قَدْ حَمَلُوا عَنْهُ , فَيَكُونُ حَمْلُهُمْ عَنْهُ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ , فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ , مَا لَمْ يَرُدَّهُ قِيَاسُ الْأُصُولِ , وَيُسَوَّغُ بِهِ رَدُّهُ , وَقَبُولُهُ بِالِاجْتِهَادِ . نَحْوُ مَا ذَكَرَ عِيسَى مِنْ حَدِيثِ : وَابِصَةَ , وَابْنِ سِنَانٍ , وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ , وَنُظَرَائِهِمْ , وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَهُمْ الْعِلْمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ إيَّاهُ , إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ : أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ , فَلَيْسَ فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ مَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْهُمْ بِضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ . وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي صِحَّةِ النَّقْلِ : أَعْنِي الْعَدَالَةَ , وَالضَّبْطَ لِمَا نُقِلَ , فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ضَبْطُ الرَّاوِي لِمَا رَوَاهُ , وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُ - جَازَ لَنَا النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي ( قَبُولِ رِوَايَتِهِ ) وَرَدِّهَا . وَالثَّالِثُ مَا : يَرْوِيهِ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ شَكَّ السَّلَفُ فِي رِوَايَتِهِ , وَاتَّهَمُوا غَلَطَهُ , فَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ , مَا لَمْ تُعَارِضْهُ الْأُصُولُ الَّتِي قَدَّمْنَا , وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْقِيَاسُ أَيْضًا , فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهِ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ , فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يَدُورُ هَذَا الْبَابُ .  وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ( أَنَّ ) خَبَرَ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ - كَانَ كَالشَّهَادَةِ , فَمَتَى عَرَضَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وَصَفْنَا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّهَا وَقَبُولِهَا . وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الرِّجَالِ : مَا حَدَّثَنَا عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ , حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ , قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : { تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ رضي الله عنها , وَهُوَ مُحْرِمٌ } قَالَ عَمْرٌو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ : إنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ , { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ وَهُوَ حَلَالٌ } , فَقَالَ لِي جَابِرٌ : إنَّ زَيْدًا خَالُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا , فَقُلْت وَهِيَ خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ , فَقَالَ لِي : وَأَيْنَ تَجْعَلُ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ ؟ أَعْرَابِيًّا يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ , إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ " فَاعْتُبِرَ حَالُ هَذَا الرَّجُلِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ . وَقَالَ عِيسَى أَيْضًا , رَوَى رَجُلٌ مِنْ الثِّقَاتِ الْمَعْرُوفِينَ خَبَرًا , وَرَوَى ضِدَّهُ مَنْ قَدْ حَمَلَ  عَنْهُ الثِّقَاتُ , وَلَيْسَ بِمَعْرُوفِ الضَّبْطِ وَالْحِفْظِ . جَازَ قَبُولُ رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْحِفْظِ اجْتِهَادًا , كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا جَهَالَةَ الرَّجُلِ , وَإِنَّمَا ذَكَرَ : أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالْحِفْظِ , وَالْآخَرُ مَعْرُوفٌ بِالْحِفْظِ , فَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَالَةِ النَّاقِلِ , وَضَبْطِ مَا يَتَحَمَّلُهُ وَإِتْقَانِهِ , لِمَا يُؤَدِّيهِ . كَمَا يُعْتَبَرُ أَوْصَافُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى , وَذَلِكَ فِيمَنْ شَاهَدْنَاهُ , وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَمْ نُشَاهِدْهُ , فَإِنَّ نَقْلَ الْعُلَمَاءِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ مِنْهُمْ فِيهِمْ تَعْدِيلٌ لَهُمْ , وَلَيْسَ نَقْلُهُمْ عَنْ الْمَجْهُولِ - وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا لَهُ - حُكْمًا مِنْهُمْ بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ , فَكَانَ أَمْرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الِاجْتِهَادِ , فِي قَبُولِ رِوَايَةٍ أَوْ رَدِّهَا . وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ , وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى , فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي قَبُولِهَا أَخْبَارَ الْآحَادِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , بَلْ كَانُوا يَسْأَلُونَ نِسَاءَ النَّبِيِّ عليه السلام عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخُصُّهُنَّ , هَلْ عِنْدَهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام مِنْهَا شَيْءٌ ؟ فَقَبِلُوا مَا يُورِدَنهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ , وَكَانُوا يَقْبَلُونَ مِنْ رِوَايَاتِ مَنْ كُفَّ بَصَرُهُ . مِنْهُمْ : ابْنُ عَبَّاسٍ , وَجَابِرٌ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ , وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ فِي نَظَائِرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى أَخْبَارًا مُتَضَادَّةً اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى : وُقُوعِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ . مِنْهَا : أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْعُمْرَةِ حِينَ حَجَّتْ مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام , وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ مُهِلَّةً بِالْحَجِّ .  قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : " أَلَا تَعْجَبُ مِنْ اخْتِلَافِ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ عُرْوَةُ : أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ . وَرَوَى { أَنَسٌ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عليه السلام يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ } . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : " وَهُمْ أَنَسٌ , إنَّمَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ " . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ , عَنْ { أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ } رَوَى أَبُو قَيْسٍ قَالَ : { سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ : لَا . فَقُلْتُ : إنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ , فَقَالَتْ لَعَلَّهُ إنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا حُبًّا , أَمَّا إيَّايَ فَلَا } . وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ , مُسْتَدِلًّا بِهَا عَلَى وُقُوعِ الْغَلَطِ مِنْ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فِي الْأَخْبَارِ , وَأَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْإِقْدَامُ عَلَى إثْبَاتِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ , دُونَ عَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ جَمِيعِهَا , وَإِضَافَتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ .
    فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِمَّا قَسَمْنَا عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ 

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ الْعَدْلُ الثِّقَةُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْ السَّلَفِ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَاتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ : عَلَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ نَصٌّ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ فَأَظْهَرَهُ , فَقَالَ : هَذَا نَصُّ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , لَزِمَ قَبُولُ قَوْلِهِ , إذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا , لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ : عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ بِالْقِيَاسِ , مَعَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا بِقَبُولِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ , مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيَاسٍ مَعَهُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقَوْلَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , ثُمَّ يَتْرُكُونَهُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَقَبُولِ عُمَرَ رضي الله عنه خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ , وَتَرْكِ رَأْيِهِ لَهُ , لِأَنَّهُ قَالَ : " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِهِ بِرَأْيِنَا , وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فَإِنَّ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : لَوْلَا مَنْ رَوَاهُ لَكَانَ رَأْيُنَا فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : { كُنَّا لَا نَرَى فِي الْمُخَابَرَةِ بَأْسًا , حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا } , فَتَرَكْنَاهَا " وَأَخْبَارٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَاسَ لَهَا , وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ , سَأَلُوا الصَّحَابَةَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْزَعُوا إلَى الْقِيَاسِ , ( وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِهِ ) , إلَّا بَعْدَ فَقْدِ السُّنَّةِ . فَدَلَّ : عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ عَدْلًا , ( صَادِقًا ) , ضَابِطًا , تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَى خَبَرِهِ - فَهُوَ يَقُولُ لَنَا : هَذَا نَصُّ الْحُكْمِ . وَالْقَائِسُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ : أَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ قِيَاسُهُ حَقِيقَةً حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَكَانَ لِلْخَبَرِ مَزِيَّةٌ عَلَى النَّظَرِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ الْخَبَرِ مِمَّنْ ظَهَرَ مِنْ السَّلَفِ التَّثَبُّتُ فِي رِوَايَتِهِ , وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ , فَإِنَّمَا جَازَ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ وَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَقْدِمَةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ , مِنْ قِبَلِ : أَنَّ السَّلَفَ قَدْ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ وَعَارَضُوا كَثِيرًا مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِالنَّظَرِ , كَنَحْوِ مُعَارَضَةِ ( ابْنِ عَبَّاسٍ ) لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي { الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } فَقَالَ : " إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ عَلَى النَّارِ " وَكَخَبَرِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - فِي إبْطَالِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ - قَالَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا " لِقَوْلِ امْرَأَةٍ " . ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله إلَى أَنَّ قَوْلَهُ : وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا , إنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَاسَ السُّنَّةِ لَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ سُنَّةٌ ) بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ . ( قَالَ ) : وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْهُ فِي غَيْرِ الْحَادِثَةِ لَسَأَلَهَا عَنْ تَارِيخِ حَدِيثِهَا , لِيَنْظُرَ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ , فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ , فَلَمَّا ( لَمْ ) يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصُّ سُنَّةٍ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّ مُرَادَهُ كَانَ : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ السُّنَّةِ , وَهِيَ مِمَّنْ يَثْبُتُ لَهَا السُّكْنَى - وَالسُّكْنَى مِنْ النَّفَقَةِ - فَإِذَا وَجَبَ بَعْضُهَا , وَجَبَ جَمِيعُهَا , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَلِأَنَّهَا حِينَ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا وَبَقِيَ حَقٌّ فِي الْمَالِ , كَانَ الْقِيَاسُ : أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ . وَكَمَا رَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ , فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ , لِأَنَّهُ كَانَ خِلَافُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ , وَلَمْ يَكُنْ الرَّاوِي لَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُ بِالضَّبْطِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ

		قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَقْبُولَةٌ . وَكَذَلِكَ عِنْدِي : قَبُولُهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ , بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَنْ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ . فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ مِنْ الْأُمَّةِ : فَإِنِّي كُنْت أَرَى بَعْضَ شُيُوخِنَا يَقُولُ : إنَّ مَرَاسِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّ الْكَذِبَ يَفْشُو فِيهِ , وَحَكَمَ النَّبِيُّ عليه السلام لِلْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ , لِقَوْلِهِ عليه السلام : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } .  قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ : الْفَسَادُ وَالْكَذِبُ , لَمْ نَقْبَلْ فِيهِ إلَّا خَبَرَ مَنْ عَرَفْنَاهُ بِالْعَدَالَةِ , وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ . وَلَمْ أَرَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرَاسِيلِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ . وَأَمَّا عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَإِنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرْسَلَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ - وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - فَإِنَّ مُرْسَلَهُ مَقْبُولٌ , كَمَا يُقْبَلُ مُسْنَدُهُ , وَمَنْ حَمَلَ عَنْهُ النَّاسُ الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ , وَلَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ الْمُرْسَلَ , فَإِنَّ مُرْسَلَهُ عِنْدَنَا مَوْقُوفٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : فَفَرَّقَ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ : بَيْنَ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرْسَلَ , دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمِلُوا عَنْهُ إلَّا الْمُسْنَدَ , وَاَلَّذِي يَعْنِي بِقَوْلِهِ : حَمَلَ عَنْهُ النَّاسُ , قَبُولَهُمْ لِحَدِيثِهِ , لَا سَمَاعَهُ , فَإِنَّ سَمَاعَ الْمُرْسَلِ وَغَيْرِ الْمُرْسَلِ جَائِزٌ . وَقَالَ عِيسَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ : الْمُرْسَلُ أَقْوَى عِنْدِي مِنْ الْمُسْنَدِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي , وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ , مَا لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي مِمَّنْ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ , فَإِنَّ مَنْ اسْتَجَازَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ , لَا لِمُسْنَدٍ وَلَا لِمُرْسَلٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا : أَنَّ ظَاهِرَ أَحْوَالِ النَّاسِ كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ الصَّلَاحُ وَالصِّدْقُ , لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ أَجْلِهِ كَانَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا , مُجَرَّبًا  عَلَيْهِ شَهَادَةٌ , أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ , أَوْ قَرَابَةٍ " . وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ : " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مَقْبُولٌ , مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ , وَكَذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , فَإِنَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ : أَنَّ مَرَاسِيلَ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ - غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا : مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ . مِنْهَا : قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ , وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ دَلَالَتِهَا فِي وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْمُسْنَدِ دُونَ الْمُرْسَلِ , لِأَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : كَيْتَ وَكَيْتَ , فَقَدْ بَيَّنَ , وَتَرَكَ الْكِتْمَانَ , فَيَلْزَمُ قَبُولُهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . فَدَلَّ : عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ مِنْ التَّابِعِينَ إذَا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا فَقَالَتْ : أُنْذِرُكُمْ مَا قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام , وَأُحَذِّرُكُمْ مُخَالَفَتَهُ , قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُ خَبَرِهَا , كَمَا دَلَّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ : قَالَ صلى الله عليه وسلم . وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ الْمُسْنَدُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَقْبُولًا , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسَلُ مِنْهَا بِمَثَابَتِهِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِعَدَالَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ , مِنْ حَيْثُ شَهِدَ النَّبِيُّ عليه السلام  لِأَهْلِ عَصْرِهِ وَالتَّابِعِينَ بِالصَّلَاحِ , كَمَا شَهِدَ لِلصَّحَابَةِ , فَوَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَى مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ أَمْرَ الصَّحَابِيِّ , إذْ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ يَقْضِي تَعْدِيلَهُمْ , بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ عليه السلام لَهُمْ بِذَلِكَ . أَلَا تَرَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَمَّا قَالَ : نَعَمْ . } قَبِلَ خَبَرَهُ . وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ بِنَفْسِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ , قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ , لَمَا سَأَلَهُ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ لَا ؟ كَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الْحُكْمُ لِأَهْلِ عَصْرِ التَّابِعِينَ , بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِهِ . فَيُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ , مَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِذَلِكَ لَنَا مَعْرُوفًا بِإِرْسَالِ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ , فَإِنَّ مَنْ عَرَفْنَاهُ بِذَلِكَ لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى خَبَرِهِ , كَمَا أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِزَوَالِ عَدَالَتِهِ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ , حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ . وَثُبُوتُهُ كَنَحْوِ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فِسْقِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : لِأَنَّ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ مَنْ قَدْ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ : أَنَّهُمْ لَا يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُمْ . قَالَ الْأَعْمَشُ : قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ : إنْ حَدَّثْتنِي فَأَسْنِدْ . فَقَالَ : إذَا قُلْت لَك  حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ : فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي , وَإِذَا قُلْت لَك : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ , فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : ( كُنْت إذَا اجْتَمَعَ لِي أَرْبَعُ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكْتهمْ , وَأَسْنَدْته إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ , لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , حَدِيثَ النَّبِيِّ عليه السلام { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } وَأَرْسَلَهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ , أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْعَدْلُ الرَّضِيُّ , وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ . فَاكْتَفَى مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ , وَقَبِلَهُ , وَعَمِلَ بِهِ . وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَالْحَسَنُ , وَغَيْرُهُمَا , يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سُئِلُوا عَنْ إسْنَادِهِ أَسْنَدُوهُ إلَى الثِّقَاتِ , وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ جَرَى أَمْرُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي إرْسَالِهِمْ الْأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا , وَالْبَاقِي سَمَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ , وَلَيْسَ يَكَادُ يَذْكُرُ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , إنَّمَا يُرْسِلُهُ عَنْهُ .  وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنه ( مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَلَكِنَّا سَمِعْنَاهُ , وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا , وَلَكِنَّا لَا نَكْذِبُ ) . وَكَذَلِكَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَا يَحْكِيهِ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , إلَّا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ { إنَّ فِي الْبَدَنِ مُضْغَةً , إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْبَدَنُ , وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْبَدَنُ , أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا : أَنَّهُ لَا فُرْقَةَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ قَبُولِهِمَا , وَالْعَمَلِ بِهِمَا . وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَحَذَفَ تَسْمِيَةَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ , لَمْ يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ : أَنَّ الْمُسْنَدَ وَالْمُرْسَلَ وَاحِدٌ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْحُكْمِ , وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ . بَلْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهُ فَقَدْ أَكَّدَهُ بِإِرْسَالِهِ , وَقَطَعَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , كَمَا قَالَ الْحَسَنُ , وَإِبْرَاهِيمُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوهُ , لِأَنَّ الَّذِي حَذَفُوا اسْمَهُ لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا , وَلَا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ , أَوْ كَانَ بَيِّنًا مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ قَبُولُ الْمُرْسَلِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَظُنَّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ , ثُمَّ أَرْسَلُوهُ , وَحَذَفُوا اسْمَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عليه السلام , لِوُجُوهٍ : - أَحَدُهَا : أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إثْبَاتًا مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْحُكْمِ , وَقَطْعٌ بِهِ عَلَى  رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَرْوِيهِ غَيْرُ الثِّقَةِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ حَمَلَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِقَبُولِ خَبَرِهِ , وَإِنْ أَسْنَدَهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ : إنْ عَظُمَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ , ثُمَّ يَكْتُمُونَهُ , وَيَحْذِفُونَ اسْمَهُ , فَيَعْتَبِرُ بِهِمْ السَّامِعُ , وَيَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ , وَصِحَّتَهُ , فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا : أَنْ يَكُونُوا حَمَلُوهُ عَنْ ثِقَةٍ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ , وَعِنْدَهُمْ : أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ , لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانُوا قَدْ كَتَمُوا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ . وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِحَمْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ , وَلَا مَوْثُوقًا بِرِوَايَتِهِ , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ , صَحَّ الْوَجْهُ الثَّالِثُ , وَهُوَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَيْضًا : فَإِنَّا وَجَدْنَا عَامَّةَ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَالتَّابِعِينَ رحمهم الله , يَسْمَعُونَ الْأَخْبَارَ الْمُرْسَلَةَ فَيَصِيرُونَ إلَيْهَا , وَيَتْرُكُونَ آرَاءَهُمْ لَهَا , وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ , وَلَوْ ذَكَرْنَاهُمْ لَطَالَ بِهِمْ الْكِتَابُ , كَمَا وَجَدْنَاهُمْ يَقْبَلُونَ الْمُتَّصِلَ , فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا حُجَّةً فِي قَبُولِ الْمُتَّصِلِ فَهُمْ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ الْمُرْسَلِ . فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ بِالسَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ , وَكَذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ وَظَاهِرُ أَمْرِهِ : أَنَّهُ سَمِعَهُ . وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : حَدَّثَنِي . فَلَا يَكُونُ فِي مِثْلِ الْآخَرِ . وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ . وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَقْبُولُو الرِّوَايَةِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانُوا يُجِيزُونَ : أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ رَجُلًا , فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَسْنَدُوهُ لَهُمْ .  وَأَيْضًا : فَكَمَا أَنَّ ظَاهِرَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ : السَّمَاعُ مِنْهُ , فَكَذَا ظَاهِرُ مَنْ حَمَلَهُ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ : أَنَّهُ عَدْلٌ , مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ , حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الصَّحَابِيَّ إنَّمَا يَرْوِي عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ , وَكُلُّهُمْ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عليه السلام مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِفِسْقِهِ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وَهُوَ : الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ , وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ آخَرُونَ هُنَاكَ قَدْ رَأَوْا النَّبِيَّ عليه السلام وَعَمِلُوا بَعْدَهُ أَعْمَالًا أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُمْ , وَهَذَا مَا لَا خَفَاءَ بِهِ . أَيْضًا : فَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَأَسْنَدَ بِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِمَا - لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِهِ , لِأَجْلِ تَرْكِهِ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ , وَكَانَ أَمْرُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ . كَذَلِكَ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ , يَجِبُ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَدَالَةِ , حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ , وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ الرَّاوِي عَنْهُ , وَلَا يَكُونُ عِنْدِي عَدْلًا , فَيَحْتَاجُ أَنْ يُتَبَيَّنَ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ , كَمَا أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ , وَلَمْ يُسَمِّيَاهُمَا , فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا , حَتَّى يُسَمِّيَاهُمَا فَيَنْظُرُ الْقَاضِي فِي حَالِهِمَا , كَذَلِكَ الْمُرْسَلُ . قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَنْ شَاهَدْنَاهُ وَخَبَرْنَا أَمْرَهُ - فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ فِي جَرْحِهِ وَتَزْكِيَتِهِ إلَى مَعْرِفَتِنَا بِهِ , أَوْ مَسْأَلَةِ مَنْ خَالَطَهُ , وَخَبَرَ أَمْرُهُ - عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ إلَّا بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ . فَتَكُونُ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُ , فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَقَّبَهُمْ فِي تَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ : فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ , مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ : يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَاتِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ , وَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ , فَعَلِمْت : أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ , مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت .  وَأَيْضًا : فَإِنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ يَجُوزُ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ رَاوِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الرَّاوِي : ارْوِهِ عَنِّي , وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : أَشْهَدُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا , لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ , فَيَحْمِلُهَا إيَّاهُ فَعَلِمْت بُطْلَانَ اعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ , وَقَدْ يُمْكِنُ الْحَاكِمَ : أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَشْهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ . فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمْ , وَثُبُوتِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الرُّوَاةِ فَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَالِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ عَنْهُمْ , فَكَانَ نَقْلُهُمْ وَإِرْسَالُهُمْ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ إيَّاهُمْ . أَيْضًا : فَإِنَّ الشُّهُودَ إذَا رَجَعُوا إلَى شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ , يَلْحَقُهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ . فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ رَجَعُوا . وَمِنْهُمْ : مَنْ يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ . فَاحْتَاجَ الْحَاكِمُ إلَى : أَنْ يَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , لِكَيْ إذَا رَجَعُوا لَزِمَهُمْ حُكْمُ مَا يُوجِبُهُ إشْهَادُهُمْ غَيْرَهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْأَخْبَارِ , فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِأَعْيَانِهِمْ , إنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُمْ تَعْدِيلًا مِنْهُمْ لَهُمْ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ .
      دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ اتِّفَاقٌ . قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى : قَبُولِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ , وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَمَاعًا , إذَا كَانَ مِمَّنْ قَدْ لَقِيَهُ , وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ غَيْرَ مَقْبُولٍ - لَمَا جَازَ : قَبُولُ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ , إذْ لَيْسَ فِيهِ سَمَاعٌ لَهُ . فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ : أَنَّهُ سَمَاعٌ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ ؟ بَلْ الظَّاهِرُ : أَنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ سَمَاعًا تَارَةً , وَيَرْوِيهِ تَارَةً سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ الْحَدِيثَ إلَّا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَثْبُتَ غَيْرُهُ . فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَاجُ أَنْ يَثْبُتَ : أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدِي . قِيلَ لَهُ : وَيَحْتَاجُ : أَنْ يَثْبُتَ عِنْدِي : أَنَّهُ سَمَاعٌ , إذَا قَالَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ  عِنْدَك : أَنَّهُ سَمَاعٌ , كَذَلِكَ يَجُوزُ : أَنْ يُقْبَلَ الْمُرْسَلُ , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ : أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدِي , فَاكْتَفَى تَعْدِيلُهُ إيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ عَنْهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ : لِلْمُسْتَفْتِي حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بِكَذَا . أَوْ قَالَ فِيهِ : كَذَا , لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ , مَعَ حَذْفِ سَنَدِهِ , وَهَذَا أَحَدُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُسْنَدِ , فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْمُرْسَلِ أَيْضًا . وَزَعَمَ بَعْضُ مُخَالِفِينَا : أَنَّهُ إنَّمَا رَوَى التَّابِعُونَ الْمُرْسَلَ لِيُطْلَبَ فِي الْمُسْنَدِ . فَيُقَالُ لَهُ : مَعْنَى قَوْلِك لِيَطْلُبَ فِي الْمُسْنَدِ , كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ إسْنَادٌ , فَإِنْ كُنْت تَعْنِي ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا وَهُمْ يَسْمَعُونَ , وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَحْصُرُوا الْمَرَاسِيلَ لِيُنْظَرَ هَلْ تُوجَدُ فِي الْمُسْنَدِ , وَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ - لَمَا كَانُوا أَهْلًا لِقَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ أَصْلًا : الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ جَمِيعًا . وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهُ - فَمَا الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ سَنَدِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ ؟ فَعَلِمْت أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ كَلَامِهِ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْمُرْسَلِ - لَجَازَ لِمُبْطِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ إنَّمَا رَوَوْا الْآحَادَ لِيُطْلَبَ فِي التَّوَاتُرِ , وَالِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ : بِأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ وَجْهٌ . فَيُقَالُ : يَقُولُ لَك مُبْطِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ : لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا لَمَا كَانَ لِسَمَاعِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَثَلَاثَةٍ , وَأَرْبَعَةٍ , مَعْنًى . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُطْلَبَ الْأَثَرُ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَيُرْوَى مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ , وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدِ , كَذَلِكَ يُرْوَى الْحَدِيثُ , فَيُذْكَرُ إسْنَادُهُ تَارَةً , وَلَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرْسَلَ التَّابِعُونَ الْأَخْبَارَ إعْلَامًا مِنْهُمْ لِسَامِعِيهَا : أَنَّ الْمَحْذُوفَ اسْمُهُ فِي السَّنَدِ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ . قِيلَ لَهُ : قَدْ أَخْبَرُوا هُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَإِنْ صَدَّقْتهمْ كُنْت كَاذِبًا فِيمَا حَكَيْت عَنْهُمْ , وَإِنْ أَكْذَبْتهمْ فَلَا تَقْبَلْ رِوَايَاتِهِمْ , لَا مُرْسِلًا وَلَا مُسْنِدًا . وَأَيْضًا : فَمَا الَّذِي حَمَلَهُمْ : عَلَى أَنْ يَرْوُوا مَا لَا يَجُوزُ قَبُولُهُ , ثُمَّ يَكْتُمُوا إسْنَادَهُ . فَيَعْرِفُوا  النَّاسَ بِهِ , وَكَانَ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْهُ . فَلَا يَرْوُوهُ . وَعَلَى أَنَّ مَنْ رَوَى عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ثُمَّ كَتَمَهُ , وَلَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهُ , صَارَ مِنْ الْمَجْرُوحِ , وَالْمَطْعُونِ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ . وَهَذَا يُوجِبُ الطَّعْنَ عَلَى عَامَّةِ التَّابِعِينَ , لِأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا الْأَخْبَارَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ : أَنَّهُ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يُوثَقُ بِرِوَايَتِهِ , وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْعِلْمِ عَنْهُ , فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَنَا , وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مِنَّا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ عِنْدَهُ . فَإِنْ قَالَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ التَّابِعِينَ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ أَخْبَرَ بِهِ , وَكَانَ كَاذِبًا . قِيلَ لَهُ : مَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ فَعَلَ ذَلِكَ . وَعَلَى أَنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّ مَنْ رَوَى عَنْ كَذَّابٍ وَكَتَمَ أَمْرَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ , لَا سِيَّمَا إذَا حَذَفَ اسْمَهُ مِنْ الْإِسْنَادِ . وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ فِي إبْطَالِ الْمَرَاسِيلِ : بِأَنَّ التَّابِعِينَ قَدْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي الْإِرْسَالِ عَمَّنْ لَوْ كَشَفَ عَنْهُ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ , كَانَتْ حَالُهُ بِخِلَافِهَا إذَا أَرْسَلَ عَنْهُ , وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ قَالَ لَهُ : إنَّ حَدِيثَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ يَدُورُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ . فَقُلْت لَهُ : قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام . فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ : أَنَا  حَدَّثْت بِهِ الْحَسَنَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ , فَقُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَقَدْ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ مُرْسَلًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنِي شَرِيكٌ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ . قَالَ : أَنَا حَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ , فَقُلْت لَهُ : قَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ مُرْسَلًا . فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : قَرَأْت هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ , عَنْ الْحَسَنِ . قَالَ الْقَائِلُ : فَإِذَا سَمِعَ السَّامِعُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مُرْسَلَةً يَقُولُ : قَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ , وَإِبْرَاهِيمُ , وَأَبُو الْعَالِيَةِ . ثُمَّ إذَا كَشَفَ عَنْهُ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَالْعَجَبُ مِنْ غَبَاوَةِ هَذَا الْقَائِلِ , حِينَ جَعَلَ قَوْلَ فُلَانٍ : أَنَا حَدَّثْت بِهِ فُلَانًا نَفْيًا , لِأَنَّهُ يَكُونُ حَدَّثَهُ بِهِ غَيْرُهُ , أَوْ سَمِعَهُ مِنْ سِوَاهُ . وَلَا يَمْتَنِعُ : أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ رَجُلٌ مُرْسَلًا , وَقَدْ سَمِعَهُ هُوَ مُتَّصِلًا مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ دَارَ الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ مَا الَّذِي كَانَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ ؟ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الْكَرِيمِ , عَنْ الْحَسَنِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : وَقَدْ  رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ , عَنْ الْحَسَنِ , عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام . وَقَدْ ثَبَتَ : أَنَّ الْحَسَنَ وَالزُّهْرِيَّ قَدْ رَوَيَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ , وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ رحمه الله

بَابٌ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : - تَعَارُضُ الْخَبَرَيْنِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : مِنْهَا : مَا يَكُونُ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ , وَنَتَيَقَّنُ مَعَهُ وَهْمَ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ . وَمِنْهَا : مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ . وَلَا يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ بَقَاءُ حُكْمِهِمَا بِلَا مَحَالَةٍ , إنْ ثَبَتَا , وَصَحَّا , فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ . وَمِنْهَا : مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ , وَيَكُونَا جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي حَالَيْنِ , أَوْ فِي شَيْئَيْنِ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رحمه الله : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } . وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ } . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَغَيْرُ جَائِزٍ : أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ . وَنَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ .  وَقَالَ بِلَالٌ : بِأَنَّهُ صَلَّى فِيهَا } مَعَ عِلْمِنَا : بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَكَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام { أَفْرَدَ بِالْحَجِّ } . وَرَوَى جَابِرٌ وَأَنَسٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ قَارِنًا } . وَنَحْوُ مَا رَوَى زَوْجُ بَرِيرَةَ : " إنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ كَانَ عَبْدًا . مَتَى أَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عِتْقِهَا كَانَ الْخَبَرَانِ مُتَضَادَّيْنِ , نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ ( أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ ) مُخْطِئٌ . وَكَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ }  وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ } , فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا تَقَعُ الْإِشَارَةُ فِيهَا إلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ , بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ , فَمَعْلُومٌ فِيهَا غَلَطُ رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ , مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . وَالثَّانِي مِنْهُمَا : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ } , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهُ { نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ } وَرُوِيَ " أَنَّهُ أَبَاحَهُ " . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ } وَرُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ } هَذِهِ الْأَخْبَارُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ , وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مَنْسُوخًا بِبَعْضٍ , وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَهْمًا وَغَلَطًا , لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ . إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ثُبُوتُ حُكْمِ جَمِيعِهَا لِتَنَافِيهَا , وَتَضَادِّهَا , وَلِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ : عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ دُونَ جَمِيعِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْهَا : أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ فِي الظَّاهِرِ , فَيُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا فِي حَالَيْنِ , أَوْ عَلَى وَجْهَيْنِ , نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } , وَقَالَ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } .  وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } . وَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ , وَقَوْلُهُ عليه السلام { دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ } مَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ . وَقَوْلُهُ عليه السلام { وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ , يَدًا بِيَدٍ , وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ , مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ } , مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرِدُ فِيهِ الْخَبَرُ . وَقَوْلُهُ عليه السلام : { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ , فِيمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ " وَكَالتَّمْرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ " كَمَا قَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ , يَدًا بِيَدٍ } . وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ حُكْمَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ , فَجَعَلَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لِأَحَدِهِمَا : وُجُودَ عَمَلِ النَّاسِ , دُونَ الْآخَرِ , فَيَكُونُ الْمَعْمُولُ ثَابِتَ الْحُكْمِ , نَاسِخًا , وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا , إنْ صَحَّتْ فِي الْأَصْلِ رِوَايَتُهُ . قَالَ : وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي تَثْبِيتِ أَحَدِهِمَا . قَالَ : وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا , - فَإِنْ احْتَمَلَا الْمُوَافَقَةَ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا - اُسْتُعْمِلَ الِاجْتِهَادُ . وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ , فَالْآخَرُ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ , إنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ عَمِلَ بِهِ النَّاسُ , وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ , وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ . وَيَكُونُ الْآخَرُ مِنْهُمَا خَامِلًا , لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْ النَّاسِ , فَحِينَئِذٍ نَنْظُرُ إلَى الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ . فَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يُجَوِّزُونَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ , وَلَا يَعْتِبُونَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ , جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ , وَإِنْ وَجَدْنَاهُمْ يَعِيبُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُمْ , كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا عَمِلَ النَّاسُ , وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ , وَلَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ الشَّاذِّ الَّذِي قَدْ عَابُوهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ , لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا ظَهَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَعَمِلُوا بِهِ ثُمَّ نُسِخَ , ظَهَرَ نَسْخُهُ مِنْهُمْ , كَمَا ظَهَرَ لِلْغَيْرِ نَصُّهُ , حَتَّى لَا يَشِذَّ إلَّا عَلَى الْقَلِيلِ . كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ , وَالشُّرْبِ فِي الظُّرُوفِ , وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ , وَنَسْخِهَا ,  وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ . لَمَّا نُسِخَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ظَهَرَ نَسْخُهَا , كَظُهُورِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءً . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : جَعَلَ عِيسَى اسْتِعْمَالَ النَّاسِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ حُكْمِهِ دُونَ الْآخَرِ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا تَسَعُ مُخَالَفَتُهُ , وَلَا يَجُوزُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ مَعَهُ , فَالْخَبَرُ الَّذِي سَاعَدَهُ الْإِجْمَاعُ مِنْهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ , وَالْآخَرُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا , أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ . وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ الْآخَرَ , سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا , فَيَكُونُ مَا عَاضَدَهُ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ , مِنْ قِبَلِ : أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى بِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ فِي ظَاهِرِ وُرُودِهِمَا , كَانَ مَا شَهِدَ لَهُ الْأُصُولُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ , لِأَنَّ شَوَاهِدَ الْأُصُولِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْ الْخَبَرِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْيِهَا , فَإِذَا سَاعَدَتْ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ . وَأَيْضًا : فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَرْضُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى الْأُصُولِ , وَمُقَابَلَتُهَا بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ حَسَبَ مَا حَكَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ , فَصَارَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ تَأْثِيرٌ فِي رَدِّ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ , وَحَسَبَ كَوْنِ مُسَاعَدَتِهَا لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ - مُوجِبَةً لِاسْتِعْمَالِهِ , دُونَ الْآخَرِ الَّذِي يُخَالِفُهَا . وَأَيْضًا : لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ , وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ , فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِالنَّظَائِرِ , كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِمَا , فَإِنْ احْتَمَلَا الْمُوَافَقَةَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ , لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَجْعَلُوا الْآخَرَ قَاضِيًا عَلَى الْأَوَّلِ , فَقَدْ سَوَّغُوا  الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا , فَمَتَى أَدَّى الِاجْتِهَادُ إلَى حَمْلِهِمَا عَلَى الْوِفَاقِ حَمَلْنَاهُمَا عَلَيْهِ , وَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ , مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِعْمَالِ , وَدَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ - فَإِنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا الْأَوَّلَ , لِأَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ ثَابِتٌ إذْ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِهِ دُونَهُ , وَفِي ثُبُوتِ الْآخَرِ نَفْيُ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ , وَسَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ , وَلَمْ يَعِيبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّمَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيهِ , لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ , فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ . وَأَمَّا إذَا عَابُوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْخَبَرِ الْآخَرِ , فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ , وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ , دُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّاذُّ مِنْهُمْ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ الْأَوَّلَ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَثَبَاتَهُ , فَلَوْ كَانَ الْآخَرُ ثَابِتًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ الْأَوَّلَ , وَلَمَا أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ , لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ نُسِخَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ نَسْخَهُ فِيمَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فِي حُكْمِهِ بَدْرً , فَدَلَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الْآخَرِ , أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ , وَأَنَّ الثَّانِيَ شَاذٌّ , لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَمَّا عَلِمُوا بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ رُوِيَ - فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحُكْمَ بِالثَّانِي , إلَّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لَهُ عِنْدَهُمْ , فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا الثَّانِيَ وَثَبَتُوا عَلَى الْأَوَّلِ , عَلِمْنَا : أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا شُذُوذَ الثَّانِي , وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُوجِبٌ لِتَقْوِيَةِ بَقَاءِ حُكْمِ خَبَرِ الْأَوَّلِ , وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ اجْتِهَادًا , عَلَى حَسَبِ مَا تَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا , وَمِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا , أَوْ مُخَالَفَتِهَا إيَّاهَا , فَكَانَ مَا وَصَفْنَا فِي هَذَا  الْفَصْلِ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ , تَقْوَى مَعَهُ فِي النَّفْسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَبْوَابِ النَّسْخِ : مَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ , إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا : إنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ أَوْلَى , وَاحْتِجَاجَهُ لَهُ , بَلْ الْإِبَاحَةُ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلُ , وَالْحَظْرُ طَارِئٌ عَلَيْهِ , كَانَ حُدُوثُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مُتَيَقَّنًا , وَلَسْنَا نَتَيَقَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ حُدُوثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ . وَذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الصَّيْدِ , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ , وَنَحْوُ مَا رُوِيَ { أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ } وَمَا رُوِيَ فِي " إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَيْهَا " وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَحَكَيْنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ : بِأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ , وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ : أَنَّهُ يَسْقُطُ خَبَرُهُمَا جَمِيعًا , وَيَكُونُ الْمَاءُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ . وَبَيَّنَّا : أَنَّ نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْكَامِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بَدَأَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ , وَأَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ فِيهِ غَلَطٌ لَا مَحَالَةَ , كَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى : أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ , وَمَنْ رَوَى : أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا , وَأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمَاءِ , لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ , اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا : أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ فِي الْأَصْلِ , وَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ , وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ مُخَالِفَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَعْنَى , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ : أَسْقِطْ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا . وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ , وَقَدْ ثَبَتَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ , نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَتِهِ : " أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا " , ( لِتَعَارُضِهَا مَعَ رِوَايَةِ ) يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ : " أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا , كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ , لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , حِينَ عَارَضَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْخَبَرِ , يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهَا إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ , أَوْجَبَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ الْآخَرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الْخَبَرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ أَصْلًا لِلْإِخْبَارِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ ,  وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ حُكْمُهَا : أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا أُصُولٌ مِنْ النُّصُوصِ , وَأَشْبَاهٌ وَنَظَائِرُ , وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِحُكْمِهَا خَبَرٌ . فَمَتَى خَلَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ , حُمِلَ عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْأُصُولِ , فَإِذَا عَارَضَتْ الْأُصُولُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ , دُونَ مَا خَالَفَتْهُ . وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ إذَا تَعَرَّتْ مِنْ الْخَبَرِ , فَلِذَلِكَ وَجَبَ عِنْدَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ . اطِّرَاحُهُمَا , وَبَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ . وَقَدْ سَوَّى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بَيْنَ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا تَعَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ , مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ , فَإِنَّ سَبِيلَهُمَا : أَنْ يَسْقُطَ , كَأَنَّهُمَا لَمْ يُرْوَيَا , وَجَعْلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ , وَالْآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ , وَتَسَاوَيَا , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ . فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا . وَذُكِرَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ : فِي الرَّجُلَيْنِ حِينَ اخْتَلَفَا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ : أَنَّهُمَا أَسْقَطَا خَبَرَهُمَا وَشَرِبَا . وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يَحْتَجُّ لِتَرْجِيحِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى خَبَرِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ , فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ عليه السلام مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ : بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ حَادِثٍ عَلِمَهُ , وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ , وَأَبُو رَافِعٍ , وَمَنْ رَوَى : أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا . إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلِمَهُ بَدْءًا , مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ إحْرَامِهِ , فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ : أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ , فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ قَدْ كَانَ عَبْدًا مَرَّةً , وَمَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا . فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَدْءًا مِنْ رِقِّهِ . وَلَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ عِتْقِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ } . فَقَدْ عَلِمَ حُدُوثَ نِكَاحٍ لَمْ يَعْلَمْهُ مَنْ أَخْبَرَ : أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ . فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ يَجْرِي حُكْمُ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ إذَا كَانَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ حِجَاجُهُ لِتَثْبِيتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْنَا : أَنْ نَقُولَ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ , فَنَجْعَلُ الْخَبَرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْلَى , لِأَنَّهُ عَلِمَ حُدُوثَ نَجَاسَةٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُخْبِرُ بِطَهَارَتِهِ , وَإِنَّ الْمُخْبِرَ  بِطَهَارَتِهِ إنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِ بَدْءًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَيَجُوزُ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ عليه السلام مَيْمُونَةَ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِهِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَخْيِيرِ بَرِيرَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُعْتِقَتْ . وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِهِ . فَقَالَ قَائِلُونَ : كَانَ بَعْدَ عِتْقِ زَوْجِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : قَبْلَ عِتْقِ زَوْجِهَا . فَكَانَ خَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ بِتَارِيخِ الْإِحْرَامِ , وَتَارِيخِ عِتْقِ زَوْجِ بَرِيرَةَ , مُقَدِّمًا لِعِتْقِهَا . أَوْ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ : أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ شَهْرٍ , وَأَخْبَرَ اثْنَانِ : أَنَّهُ مُنْذُ سَنَةٍ . أَنَّ الْوَقْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى . فَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا فِي تَارِيخِ الْحُكْمِ , وَكَانَ لِمَا أَثْبَتْنَاهُ ضَرْبًا مِنْ التَّرْجِيحِ , وَكَانَ أَوْلَى . وَأَمَّا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ , فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ , فَجَازَ إسْقَاطُ خَبَرَيْهِمَا إذَا تَسَاوَيَا , وَلَمْ يَكُنْ نَظِيرًا لِمَا وَصَفْنَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ : أَحَدُهُمَا بَانَ عَلَى أَصْلٍ قَدْ ثَبَتَ , وَالْآخَرُ , نَاقِلٌ عَنْهُ , وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ , وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ , فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ النَّاقِلُ عَنْ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الْبَانِي عَلَيْهِ , عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ , سَوَاءً كَانَ النَّاقِلُ مُبِيحًا لِشَيْءٍ قَدْ ثَبَتَ حَظْرُهُ , أَوْ حَاظِرًا لِشَيْءٍ قَدْ ثَبَتَ إبَاحَتُهُ . وَيَنْبَغِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَعَنْ عِيسَى أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا , وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ , وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ , أَنَّ الشَّيْءَ إنْ كَانَ مَنْفِيًّا فِي الْأَصْلِ , فَخَبَرُ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى , وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ , فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى , لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ مُتَيَقَّنٌ , وَالثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِثْبَاتِ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ ثُمَّ وَرَدَ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي إثْبَاتِهِ , وَالْآخَرُ فِي نَفْيِهِ , فَخَبَرُ النَّفْيِ أَوْلَى , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَاهُ طَارِئًا عَلَى الْإِثْبَاتِ بَدْءًا , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِثْبَاتِ وَارِدًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ , وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام : كَانَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ } . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى نَقْلِهِ , وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ . ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ : تَرَكَ الْقُنُوتَ بَعْدَ فِعْلِهِ . فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلْقُنُوتِ ثَابِتًا عَلَى أَصْلِ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ . وَالنَّافِي لَهُ أَخْبَرَ : أَنَّ التَّرْكَ كَانَ طَارِئًا عَلَى الْفِعْلِ , فَكَانَ أَوْلَى , لِأَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ التَّرْكِ , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَ بَعْدَ الْفِعْلِ , فَكَانَ أَوْلَى , لِمَا وَصَفْنَا .  وَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى : يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَا جَمِيعًا , وَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ . وَإِنْ وَرَدَ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا يُوجِبُ شَيْئًا , وَالْآخَرُ يَنْهَى عَنْهُ , وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْأَصْلِ الْإِبَاحَةَ , فَإِنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِبَاحَةِ : إمَّا إلَى إيجَابٍ , أَوْ إلَى حَظْرٍ . فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ زَالَتْ , وَلَمْ يَثْبُتْ حَظْرٌ , وَلَا إيجَابٌ , فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَوْقُوفًا , لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ . وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ : يُطْرَحُ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا , فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ . وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ : فِي أَحَدِهِمَا فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِشَيْءٍ , وَفِي الْآخَرِ النَّهْيُ عَنْهُ وَتَسَاوَيَا , فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ أَوْلَى , وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ } , فَهَذَا فِعْلٌ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ } وَأَنَّهُ قَالَ : { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ } وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَالَ الرُّكُوعِ , فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ . وَتَرْكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ , بِظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام إيَّاهُ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ أَفْعَالًا لِنَفْسِهِ لَا يُرِيدُهَا مِنَّا , وَلَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ , أَوْ يَنْهَى عَنْهُ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ . وَوَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ عليه السلام فِي الْأَصْلِيِّ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ , فَلَا يُعَارِضُ , الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالْفِعْلِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ قَدْ { أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام { أَنَّهُ : أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } فَعَارَضَتْ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ وَجَعَلَتْ الْفِعْلَ أَوْلَى مِنْهُ .  قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , لِأَنَّا إنَّمَا شَرَطْنَا فِيمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَتَسَاوِيهَا فِي الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَبُولِ , فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ , لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا فِيمَا عَمَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ . فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا قَبُولُهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُهُ ؟ وَخَبَرُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النَّقْلِ مِنْ الْكَافَّةِ , لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ , فَلَمْ يُسَاوِ خَبَرَ نَفْيِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ . وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا .
   فَصْل:
       قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ : عَلَى أَنَّ فِي ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا نَفْيًا لِلْآخَرِ . مِثْلُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سُئِلَ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ . فَقَالَ : لَا شَيْءَ لَهُمَا } . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ } , فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرُهُمَا لَمْ يَتَعَارَضَا , وَاسْتُعْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَرَدَ , لِأَنَّ نَفْيَ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ غَيْرُ نَافٍ لِمِيرَاثِ الْخَالِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ . إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْخَالَ إنْ ثَبَتَ مِيرَاثُهُ - كَانَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ثَابِتًا . وَأَنَّهُ . إنْ سَقَطَ مِيرَاثُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ سَقَطَ مِيرَاثُ الْخَالِ . صَارَ انْضِمَامُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَى الْخَبَرِ مُوجِبًا لِتَعَارُضِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ , ثُمَّ يَكُونُ إثْبَاتُ الْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَاقِلٌ مِنْ الْأَصْلِ , وَنَفْيُ الْمِيرَاثِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي خَبَرِنَا إثْبَاتَ الْمِيرَاثِ , وَفِي خَبَرِهِمْ نَفْيَهُ , وَمَتَى اجْتَمَعَ خَبَرٌ نَافٍ وَخَبَرٌ مُثْبِتٌ كَانَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَأَمَّا عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُضَادَّيْنِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ عِنْدَنَا , إذَا لَمْ يَبْلُغْ مِقْدَارًا يُوجِبُ الْعِلْمَ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْوِيَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَاحِدٌ , وَيَرْوِي الْآخَرَ اثْنَانِ . وَزِيَادَةُ الْعَدَدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ أَكْثَرِهِمَا عَدَدًا , وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمَا عَدَدًا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ أَقَلِّهِمَا عَدَدًا , كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَرْبَعَةِ بِمِلْكِ هَذَا الْعَبْدِ لِعَمْرٍو أَقْوَى فِي  النَّفْسِ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ بِهِ لِزَيْدٍ , وَلَوْ اجْتَمَعُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ , فَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الشُّهُودِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا , لِأَنَّهُمْ قَدْ قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي عَارَضَهَا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ , وَالثَّلَاثَةِ , أَخْبَارًا كَثِيرَةً , أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى , وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ . وَمَا سَمِعْنَا أَيْضًا أَبَا الْحَسَنِ رحمه الله قَطُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فِي طُولِ مَا جَارَيْنَاهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ , بَلْ كَانَ الْمَفْهُومُ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا شَكَّ فِيهِ اعْتِقَادُهُ , وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حِجَاجُهُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ , وَخَبَرِ الْوَاحِدِ , وَلَا حُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ : يَلْزَمُ مَنْ قَالَ : لَا أَلْتَفِتُ إلَى عَمَلِ النَّاسِ , لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ , أَنْ يَقُولَ : إذَا تَضَادَّتْ الْأَخْبَارُ أَخَذْت بِأَقْوَاهَا إسْنَادًا , وَأَصَحِّهَا فِي الْخَبَرِ , فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِمَّا جَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ , وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى فِي الْخَبَرِ مِنْ الْوَاحِدِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى : أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ كَانَ مُتَقَرِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ , فِي أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَإِنْ كَانَا أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ ثِقَتَانِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ , وَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ ثِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ : أَنَّهُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ , وَإِنْ كَانَا عَبْدَيْنِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا . قَالَ : وَإِنْ أَخْبَرَهُ حُرَّانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ , وَعَبْدَانِ ثِقَتَانِ بِالْأَمْرِ الْآخَرِ . أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ , لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تُقْطَعُ بِهَا الْأَحْكَامُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ نَاقِلِي أَخْبَارِ الْآحَادِ أَنَّ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَى خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ , وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ , يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْحُرَّيْنِ , وَخَبَرُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ , لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , وَإِنْ كَانَ الْحُرَّانِ يُقْطَعُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يُقْطَعُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ .  وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بَيْنَ خَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ , وَشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ . وَهُمَا مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ , غَيْرِ تَائِبَيْنِ مِنْهُ , وَبَيْنَ خَبَرِ اثْنَيْنِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ , لَيْسَ بِأَصْلِ الْأَخْبَارِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ . أَوَلَا تَرَى : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِطَ فِي أَقَلِّ عَدَدِهَا اثْنَانِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ , وَحُكْمُ الْأَرْبَعَةِ . كَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ , لَمَّا كَانَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِيهِ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي زِيَادَاتِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ

              كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله : يَذْهَبُ إلَى أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ وَاحِدًا , ثُمَّ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي زِيَادَةِ أَلْفَاظِهِ وَنُقْصَانِهَا : إنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا رَوَاهُ الَّذِي سَاقَهُ بِزِيَادَةٍ , وَأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا هُوَ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ , وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا , فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ , أَوْ يَتَرَادَّانِ } وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَرْوِي هَذَا الْخَبَرَ فَلَا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِعَيْنِهَا . فَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ , وَحَذْفُ قِيَامِ السِّلْعَةِ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ : مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَاوِي الْخَبَرِ وَاحِدًا , لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ . ذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ , وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْأُخْرَى فَلَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ ذَلِكَ , لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ خَبَرِ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ . وَأَمَّا إذَا رُوِيَ الْخَبَرُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةٍ , أَوْ أَكْثَرَ , فَكَانَ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ زِيَادَةٌ . فَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ , وَالْخَبَرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِهِ , وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رَوَى عُمَرُ رضي الله عنه , قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ , أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ , عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَزَادَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ ذِكْرَ الْمُسْلِمِينَ .  وَرَوَى جَمَاعَةٌ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ , صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ , فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ , فَهُمَا مُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا , وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَمْلُ الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا وَصَفْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ قَالَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ } . وَرُوِيَ فِي أَخْبَارٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ } فَاسْتَعْمَلَ الْخَبَرَيْنِ , وَلَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَذَفَ مِنْهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الزِّيَادَةِ . أَلَا تَرَى : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ مُبْتَدَأُ الْقَوْلِ مُطْلَقًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ , فَقَالَ : انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ , وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ , وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ , وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ قَدْ قَالَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام : مَسَحَ بِبَعْضِ رَأْسِهِ } , وَفِي خَبَرٍ آخَرَ { أَنَّهُ مَسَحَ بِجَمِيعِ رَأْسِهِ } , فَهَلَّا أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ " . قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا , إلَّا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَا يَتْرُكُ الْمَفْرُوضَ بِحَالٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَنْدُوبَ فِي حَالٍ , وَيَتْرُكَهُ فِي آخَرَ , فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ , وَإِذَا رَوَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام , ثُمَّ رُوِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا , بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ رِوَايَتَهُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام ,  يُوجِبُ تَأْكِيدَ رِوَايَتِهِ , وَيَكُونُ دَلِيلًا : عَلَى أَنَّهُ رَآهُ ثَابِتَ الْحُكْمِ , غَيْرَ مَنْسُوخٍ . وَقَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُصَنِّفُونَ الرُّوَاةَ , فَيَجْعَلُونَهُمْ طَبَقَاتٍ , فَإِذَا رَوَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا قَبِلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِ , وَلَمْ يَقْبَلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا أَسْنَدَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ عليه السلام , وَرَفَعَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ هُوَ دُونَ طَبَقَتِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْنَدًا , وَإِنْ رَفَعَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى الصَّحَابِيِّ , وَرَفَعَهُ مَنْ هُوَ فِي طَبَقَةٍ دُونَهَا , كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَوْقُوفًا , وَلَمْ يَكُنْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا يُرْسِلُهُ وَاحِدٌ , وَيُسْنِدُهُ آخَرُ , عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ , وَلَا يَعْتَبِرُونَ مُعَارَضَتَهَا لِلْأُصُولِ وَدَلَائِلِهَا , وَإِنَّمَا يُصَحِّحُونَ الرِّوَايَاتِ بِالرِّجَالِ فَحَسْبُ . وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ اعْتِبَارَهُمْ .