أصول الجصاص - الجزء الثالث2

بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَهُوَ يُنْكِرُهُ

                قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : كَانَ كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِنَا يَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَائِشَةَ , عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } بِمَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ , فَكَانُوا يَجْعَلُونَ إنْكَارَ الزُّهْرِيِّ لِذَلِكَ مُفْسِدًا لِرِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ . وَمِثْلُهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :  { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } فَلَمَّا سُئِلَ سُهَيْلٌ عَنْهُ قَالَ : لَا أَعْرِفُهُ . فَقِيلَ لَهُ : فَإِنَّ رَبِيعَةَ يَرْوِيهِ عَنْك , فَقَالَ : إنْ كَانَ رَبِيعَةُ يَرْوِيهِ عَنِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ . قَالَ : فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَاضٍ اُدُّعِيَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ , فَلَمْ يَذْكُرْهُ - فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً لِتَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ لَهُ بِذَلِكَ : أَنَّ لِلْقَاضِي أَلَّا يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله : يَسْمَعُ مِنْهَا , وَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ . فَإِنْ حَمَلْنَا الْخَبَرَ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي , وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَدِيثَ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ الرَّاوِي لَهُ ثِقَةً . وَيَجِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يَقْبَلَ . وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ عَمَّارٍ : أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ خَالَفَهُ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ : أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّا كُنَّا فِي الْإِبِلِ فَأَجْنَبْت , فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ , ثُمَّ سَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْك , فَتَمْسَحَ بِهَا وَجْهَك وَذِرَاعَيْك } . فَلَمْ يُقْنِعْ عُمَرَ قَوْلُ عَمَّارٍ وَهُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ أَمِينٌ , إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا لِلْأَمْرِ الَّذِي قَالَهُ . فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ , فَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ الْحَدِيثِ بِجُحُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إيَّاهُ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ : فِي أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ لَوْ قَالَا لِرَجُلٍ : قَدْ كُنْت أَشْهَدْتنَا عَلَى شَهَادَتِك : أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ , وَهُوَ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ , أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ الْقَاضِي بِمَا قَالَا . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَمْ يَسَعْهُ إقَامَتُهَا , وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ أَفْسَدَ الْحَدِيثَ بِمَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْسَاهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ , إيَّاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْهُ .  قِيلَ لَهُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَسِيَ , فَظَنَّ أَنَّهُ يَزِيدُ , فَسَمِعَهُ مِنْهُ , وَهُوَ إنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ , فَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا , فَلِمَ جَعَلْت الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَوْلَى بِالنِّسْيَانِ مِنْ الرَّاوِي ؟ وَأَمَّا مَنْ لَا يَفْسُدُ الْحَدِيثُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَهُ , فَإِنَّهُ يُذْهَبُ فِيهِ إلَى أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ , وَالنِّسْيَانُ جَائِزٌ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ , فَلَا يُفْسِدُهُ . وَقَدْ { قَبِلَ النَّبِيُّ عليه السلام قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما , حِينَ قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا , فَقَالَ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ } فَقَبِلَ خَبَرَهُمَا . وَقَبِلَ عُمَرُ قَوْلَ أَنَسٍ فِي أَمَانِ الْهُرْمُزَانِ حِينَ , قَالَ لَهُ : " أَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ حَيٍّ أَمْ بِكَلَامِ مَيِّتٍ ؟ " فَقَالَ : تَكَلَّمْ بِكَلَامِ حَيٍّ " وَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرُ مَا قَالَهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ . ثُمَّ قَبِلَ قَوْلَ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ . وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ , وَعُمَرُ فِي قِصَّةِ الْهُرْمُزَانِ , ذَكَرَا ذَلِكَ بَعْدَ إخْبَارِ مَنْ أَخْبَرَهُمَا بِهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ وَغَيْرِهِ

	   قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : التَّدْلِيسُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ آخَرَ لَقِيَهُ , وَيُوهِمَ السَّامِعَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَاعٌ , وَلَا يَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ , وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ , فَيَقُولُ : قَالَ فُلَانٌ , وَذَكَرَ فُلَانٌ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَدْ كَانَ الْأَعْمَشُ , وَالثَّوْرِيُّ , وَهِشَامٌ , فِي آخَرِينَ يُدَلِّسُونَ الْأَخْبَارَ . وَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ : لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ . وَالْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَنَا : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُدَلِّسُ مَشْهُورًا بِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَمَّنْ يَجُوزُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ , فَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا دَلَّسَ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ دَلَّسَ : مِنْ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ثِقَةٍ , فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ تَذْكُرَ سَمَاعَهُ فِيهِ , عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي إرْسَالِهِ الْحَدِيثَ , وَلَا سِيَّمَا كُلُّ مَنْ أَسْقَطَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ رَجُلًا مُدَلِّسًا , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يَسْمَعُوهَا , وَحَذَفُوا ذِكْرَ مَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عليه السلام , وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَنْ قَالُوا : قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام . وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ , وَلَا يُسَمَّوْنَ مُدَلِّسِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الِاخْتِصَارَ , وَتَقْرِيبَ الْإِسْنَادِ عَلَى السَّامِعِينَ مِنْهُمْ . الْآخَرُ : أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْإِسْنَادِ تَأْكِيدَ الْحَدِيثِ , وَالْقَطْعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بِأَنَّهُ قَالَهُ , وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّزَيُّنَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ .  وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ , مَنْ قَصَدَ مِنْهُمْ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ : أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنَّا لَا نُسَمِّيهِ مُدَلِّسًا , وَإِنَّمَا الْمُدَلِّسُ مَنْ يَقْصِدُ بِحَذْفِ الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَهُ : التَّزَيُّنَ بِعُلُوِّ السَّنَدِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَصْدُ غَيْرُ مَحْمُودٍ , غَيْرَ أَنَّهُ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ , فَهُوَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ , وَإِنْ لَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا . وَمَنْ يُدَلِّسُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ فَالْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ  أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ
     فَصْلٌ:
          وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقْرِئَ الْمُحَدِّثَ فَيَقُولَ فِيهِ : حَدَّثَنَا إذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ يَسْمَعُ وَيَضْبِطُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ , وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه , أَنَّهُ قَالَ : إنَّ قِرَاءَتَك عَلَيَّ لِمُحَدِّثٍ أَثْبَتُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْك . وَوَجْهُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَارِئًا لَمْ يَعْقِلْ شَيْئًا مِنْهُ , وَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ هُوَ السَّامِعُ , فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِلَ بَعْضَ مَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ . وَمِثْلُهُ يَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَاتُ , وَهِيَ أَكْبَرُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَخْبَارِ , لِأَنَّك لَوْ قَرَأْت صَكًّا عَلَى إنْسَانٍ بِحَقٍّ عَلَيْهِ , وَقُلْت لَهُ : أَشْهَدُ عَلَيْك بِذَلِكَ , فَقَالَ : نَعَمْ . وَسِعَك أَنْ تَقُولَ : أَقَرَّ عِنْدِي فُلَانٌ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ . وَأَمَّا مَنْ كُتِبَ إلَيْهِ بِحَدِيثٍ , فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إمَّا بِقَوْلِ ثِقَةٍ , أَوْ بِعَلَامَاتٍ  مِنْهُ وَخَطِّهِ , يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ كِتَابُهُ , فَإِنَّهُ يَسَعُ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ الْكِتَابُ أَنْ يَقُولَ : أَخْبَرَنِي فُلَانٌ , يَعْنِي الْكَاتِبَ إلَيْهِ , وَلَا يَقُولُ حَدَّثَنِي . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : إنْ أَخْبَرْت فُلَانًا بِسِرِّ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ , فَكَتَبَ إلَيْهِ , وَوَصَلَ إلَيْهِ كِتَابَاتُهُ . فَقَدْ أَخْبَرَ , وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ , وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي كِتَابِهِ . وَجَائِزٌ لَنَا أَنْ نَقُولَ : أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ , وَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ : حَدَّثَنَا . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , { وَكَتَبَ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } . وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ : وَرَدَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ مِنْ ذَلِكَ : هُوَ إخْبَارٌ مِنْ الْكَاتِبِ بِهِ . وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ رَجُلٍ وَمَذْهَبِهِ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ بِهِ قَدْ تَنَاوَلَتْهُ النُّسَخُ , فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنْ يَقُولَ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا , وَمَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا , وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ . مِثْلُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ , وَنَحْوِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ , لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ , لَا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إلَى إسْنَادٍ , وَقَدْ عَابَ بَعْضُ أَغْمَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رحمه الله حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فَقِيلَ لَهُ : أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ فَقَالَ : لَا . فَقِيلَ لَهُ : أَسَمِعْتهَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ ؟ فَقَالَ : لَا . وَإِنَّمَا أَخَذْنَاهَا مُذَاكَرَةً . فَأَنْكَرَ هَذَا الْقَائِلُ بِجَهْلِهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رحمه الله : أَنْ يَحْكِيَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَهُمْ الَّتِي فِي كُتُبِهِمْ الْمُصَنَّفَةِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ . وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى سَمَاعٍ , وَلَا إسْنَادٍ , لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هَكَذَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِمُوَطَّإِ مَالِكٍ , أَوْ كِتَابِ أَبِي يُوسُفَ : هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ , وَهَذَا كِتَابُ فُلَانٍ , إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ بِإِسْنَادٍ . وَأَمَّا إذَا قَالَ الرَّاوِي لِرَجُلٍ : قَدْ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ , فَارْوِهِ عَنِّي . فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا مَا فِيهِ , جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ . فَيَقُولُ : حَدَّثَنِي , وَأَخْبَرَنِي , كَمَا أَنَّ  رَجُلًا لَوْ كَتَبَ صَكًّا وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ , ثُمَّ قَالَ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ , جَازَ لَهُمْ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّاوِي , وَلَا السَّامِعُ بِمَا فِيهِ , فَإِنَّ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَخْبَرَنِي فُلَانٌ بِذَلِكَ , كَمَا قَالُوا فِي الصَّكِّ إذَا أَشْهَدَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ : لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا لَهُ : أَجَزْنَا لَك مَا يَصِحُّ عِنْدَك مِنْ حَدِيثِنَا , فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , كَمَا لَوْ قَالَ : مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ صَكٍّ فِيهِ إقْرَارِي فَاشْهَدْ بِهِ عَلَيَّ . لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ , وَلَمْ يَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . 

بَابٌ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا , وَنُهِينَا عَنْ كَذَا , وَالسُّنَّةُ كَذَا

           قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا , وَنُهِينَا عَنْ كَذَا . وَقَوْلُهُ : السُّنَّةُ كَذَا . لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , إذْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالسُّنَّةُ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ عليه السلام , دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . فَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْأَمِيرِ وَالْوُلَاةِ , فَلَا دَلَالَةَ فِي مِثْلِهِ عَلَى : أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ , فَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عليه السلام , قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي , وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } . وَقَالَ عليه السلام : { سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً } .  وَقَالَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا , وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِرَبِيعَةَ , حِينَ سَأَلَهُ عَنْ أَرْشِ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ إذَا كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ : " فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ , فَقَالَ : فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا . فَقَالَ : فِيهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ . قُلْت : لَمَّا كَثُرَ جُرْحُهَا وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ أَرْشُهَا ؟ فَقَالَ : أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ ؟ هَكَذَا السُّنَّةُ " وَإِنَّمَا مَخْرَجُ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , فَسَمَّاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ سُنَّةً . وَحُكِيَ لَنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ : " إذَا قَالَ مَالِكٌ : السُّنَّةُ كَذَا , فَإِنَّمَا يُرِيدُ سُنَّةَ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ , وَكَانَ عَرِيفَ السُّوقِ " . وَأَمَّا إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا , أَوْ نَهَانَا عَنْ كَذَا , وَسَنَّ رَسُولُ  اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا , أَوْ قَالَ هَذِي سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى أَنْ يُوجِبَ بِمِثْلِهِ حُكْمًا , حَتَّى يَحْكِيَ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ , لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ لَفْظًا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي , فَتَأَوَّلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ , وَنَحْنُ فَلَا يَلْزَمُنَا تَأْوِيلُهُ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَذْهَبِ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ نَقْلَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ . وَقَالَ آخَرُونَ : حُكْمُ مَا هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ثَابِتٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ , لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَمِمَّنْ يُوثَقُ بِضَبْطِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ يَعْرِفُ مَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ , مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ . فَلَوْ كَانَ مَصْدَرُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَهُ عَنْ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَبَيَّنَ حِكَايَةَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ , فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى إجْمَالِ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلِمْنَا : أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ عِنْدَهُ لَمْ يُغَيِّرْ مَا حَكَيْنَاهُ . وَلَوْ سَاغَ الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ قَائِلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إذَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " كَيْتَ وَكَيْتَ " , لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرْوِي نَقْلَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ . مِنْهُمْ : الْحَسَنُ , وَالشَّعْبِيُّ , وَغَيْرُهُمَا . وَمِنْهُمْ : مَنْ يَرَى نَقْلَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ , فَيَجُوزُ عَلَى مَوْضُوعِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا إنَّمَا حَكَى مَعْنَى مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , لَا لَفْظَهُ بِعَيْنِهِ , لِأَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ رحمه الله كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ , فَلَمَّا أَبْطَلَ ذَلِكَ . وَكَانَ قَوْلُهُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " كَذَا . مَحْمُولًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظٍ وَحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ , وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ : " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا : وَنَهَانَا عَنْ كَذَا , وَسَنَّ لَنَا كَذَا , عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ " كَأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام بِعَيْنِهِ . وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رضوان الله عليهم تَكْتَفِي فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامَهُ , وَسَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِسَمَاعِ هَذَا اللَّفْظِ , فِيمَا يَزِيدُ مَعْرِفَةً مِنْ  النُّصُوصِ وَالسُّنَنِ , أَلَا تَرَى : أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كُنَّا سَفَرًا : أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا , لَيْسَ الْجَنَابَةَ , لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَمْرِ مُجْمَلًا , دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِ أَمْرِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَقَنَعَ السَّائِلُ أَيْضًا مِنْهُ بِذَلِكَ , دُونَ مُطَالَبَتِهِ بِإِيرَادِ لَفْظِهِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : { كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا , حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا , فَتَرَكْنَاهَا } فَاكْتَفَى مِنْهُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّهْيِ , دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِ النَّبِيِّ عليه السلام . وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ , يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ , وَمِنْ نَحْوِهِ : قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ , حِينَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ : السُّنَّةُ , ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك " وَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ إضَافَتِهِ السُّنَّةَ إلَى النَّبِيِّ : إلَى حِكَايَةِ لَفْظِهِ أَوْ فِعْلِهِ . 

بَابٌ الْقَوْلُ فِي الصَّحَابِيِّ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ

	      قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَ الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَأْوِيلِ الصَّحَابِيِّ وَلَا غَيْرِهِ , وَأَمْضَى الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ , إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ صَرْفِهِ إلَى مَا يُؤَوِّلُهُ الرَّاوِي . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنْ يَرْوِيَهُ ثُمَّ يَقُولَ بِخِلَافِهِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ , وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ . فَهَذَا يَدُلُّ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِهِ : أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ نَسْخُ الْخَبَرِ , أَوْ عُقِلَ مِنْ ظَاهِرِ حَالِهِ : أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ النَّدْبَ , دُونَ الْإِيجَابِ . فَالْأَوَّلُ : نَحْوُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا } . وَالتَّفْرِيقُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ , وَيَكُونُ بِالْفِعْلِ , وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ . وَكَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالْأَبْدَانِ . وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ , فَلَا يَقْضِي تَأْوِيلَهُ عَلَى مُرَادِ الْخَبَر . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : نَحْوُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام : فِي { غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا } . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رُوِيَ { عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه : أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : مَا هُوَ إلَّا أَنْ سَمِعْت النِّدَاءَ , فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ  تَوَضَّأْت , فَقَالَ عُمَرُ : وَلِلْوُضُوءِ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْغُسْلِ } . فَأَخْبَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَمَرَ بِالْغُسْلِ , ثُمَّ قَالَ هُوَ : إنَّ الْوُضُوء يُجْزِئُ عَنْهُ , وَالْأَمْرُ بِالْغُسْلِ لَا يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْوُضُوءِ . فَعَلِمْنَا : أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ بِإِجْزَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ الْغُسْلِ , إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى خِطَابِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَمِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ , وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ : أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ . وَنَحْوُهُ مَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ , عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه , عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام : رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ } . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ : " لَمْ يَرْفَعْهُمَا " وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام : رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ } . ثُمَّ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ : " صَلَّى خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ , إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ " فَدَلَّ تَرْكُهُمَا الرَّفْعَ بَعْدَ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى : أَنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا نَسْخَ الْأَوَّلِ , لَوْلَاهُ لَمَا تَرَكَاهُ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِمَا مُخَالَفَةُ سُنَّةٍ رَوَيَاهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِلتَّأْوِيلِ . قَالَ عِيسَى : وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَبَرِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ , فَالْعَمَلُ عَلَى الْخَبَرِ , دُونَ مَا رَوَى الصَّحَابِيُّ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , أَنَّهُ قَالَ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ , جَلْدُ مِائَةٍ , وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ " نَفَى رَجُلًا , فَلَحِقَ بِالرُّومِ . فَقَالَ  عُمَرُ : لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَحَدًا " . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : " كَفَى بِالتَّفْرِقَةِ فِتْنَةً " فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا ثَابِتًا لَمَا تَرَكُوهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ , وَمِثْلُهُ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه : " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا أَنْهَى عَنْهَا , إذَا صِرْت عَلَيْهَا . مُتْعَةِ النِّسَاءِ , وَمُتْعَةِ الْحَجِّ " . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ " هُمْ شَهِدُوا , وَهُمْ نَهَوْا عَنْهَا , فَمَا فِي رَأْيِهِمْ مَا يُرْغَبُ عَنْهُ , وَلَا فِي نَصِيحَتِهِمْ  مَا يُتَّهَمُ " . وَمِنْهَا : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَسَمَ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا } وَفَتَحَ عُمَرُ السَّوَادَ فَلَمْ يَقْسِمْهُ , وَتَرَكَهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ : أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام فِي قِسْمَةِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا , لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ , لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ . وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِالْمَدِينَةِ } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " إنْ جَمَعَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ " وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا ثَابِتًا - لَمَا خَفَى مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه , وَهُوَ يَصْحَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَفِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رحمه الله نَسْخُ التَّطْبِيقِ , وَكَانَ يُطَبِّقُ بَعْدَ النَّبِيِّ عليه السلام , مَعَ قُرْبِ مَحَلِّهِ مِنْ النَّبِيِّ , وَمُلَازَمَتِهِ إيَّاهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطْبِيقِ عَمْدًا , وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ لَفْظَ النَّبِيِّ عليه السلام فِيهِ عَلَى الرُّخْصَةِ , لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ : " شَكَا إلَيْهِ مَشَقَّةَ التَّطْبِيقِ فَقَالَ : { اسْتَعِينُوا بِالرَّكْبِ } .  وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ : التَّرْخِيصُ , فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ , وَكَانَ عِنْدَهُ : أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ , فَاخْتَارَهُ , لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْمُصَلِّي . قَالَ عِيسَى : فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الصَّحَابِيِّ : فَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { أَنَّهُ : رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ } وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " تُقِيمُ حَتَّى تَطْهُرَ فَتَطُوفَ " . وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى عُمَرَ . فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قَالَ : وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ : أَمَرَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ } وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ : " لَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ " , وَمِثْلُهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ , فَلَا يُعْتَرَضُ بِخِلَافِهِ عَلَى الْخَبَرِ , وَلَا يُوهِنُهُ .  وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام " فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ , الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ " . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " فَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ خَفَاءُ مِثْلِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ , فَلَا تَقْدَحُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيهَا فِي الْخَبَرِ , وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ عَلَى : أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِيهِ , وَأَنَّهُ لَوْ قَدْ كَانَ بَلَغَهُمْ لَصَارُوا إلَيْهِ , وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي رَاوِي الْخَبَرِ كَيْفَ سَبِيلُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ

	      قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ حَكَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ : أَنَّهُمَا كَانَا يُحَدِّثَانِ بِالْمَعَانِي , وَكَانَ غَيْرُهُمْ - مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ - يُحَدِّثُ بِاللَّفْظِ . وَالْأَحْوَطُ عِنْدَنَا إذًا اللَّفْظُ وَسِيَاقُهُ عَلَى وَجْهِهِ , دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْنَى , سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ . إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مِثْلَ : الْحَسَنِ , وَالشَّعْبِيِّ , فِي إتْقَانِهِمَا لِلْمَعَانِي وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ وَفْقَهَا غَيْرُ فَاضِلَةٍ عَنْهَا , وَلَا مُقَصِّرَةٍ . وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا كَانَ يَفْعَلَانِهِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ , وَيَكُونُ لِلْمَعْنَى عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ , فَيُعَبِّرَانِ تَارَةً بِعِبَارَةٍ , وَتَارَةً بِغَيْرِهَا . فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّا لَا نَظُنُّ بِهِمَا : أَنَّهُمَا كَانَا يُغَيِّرَانِهِ إلَى لَفْظٍ غَيْرِهِ , مَعَ احْتِمَالِهِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى لَفْظِ الْأَصْلِ , وَأَكْثَرُ فَسَادِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَنَاقُضِهَا وَاسْتِحَالَتِهَا إنَّمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي , فَيُعَبِّرُ هُوَ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ , وَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا , عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَفْسُدُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ نَقْلِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا , ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا . فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ , وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } . فَأَمَرَ عليه السلام بِنَقْلِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ لِيَعْتَبِرَهُ الْفُقَهَاءُ , وَيَحْمِلُوهُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهَا .

بَابٌ الْقَوْلُ ) ( فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم )

            قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : أَفْعَالُ النَّبِيِّ عليه السلام الْوَاقِعَةُ عَلَى قَصْدٍ مِنْهُ يَقْتَسِمُهَا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ . وَاجِبٌ , وَنَدْبٌ , وَمُبَاحٌ , إلَّا مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ الْمَعْفُوَّةِ . فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِعْلٌ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ , عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا , فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهَا . فَقَالَ قَائِلُونَ : وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فِعْلُهُ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِ , وَلَنَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , إذْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ آخَرُونَ : نَقِفُ فِيهِ , وَلَا نَفْعَلُهُ , لَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , وَلَا غَيْرِهَا , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ : مِنْ الْإِبَاحَةِ , وَالنَّدْبِ وَالْإِيجَابِ . فَقَالَ قَائِلُونَ : عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ , وَإِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ , وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله يَقُولُ : ظَاهِرُ فِعْلِهِ عليه السلام لَا يَلْزَمُنَا بِهِ شَيْءٌ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ لَنَا , وَلَا أَحْفَظُ عَنْهُ الْجَوَابَ أَيْضًا , إذَا عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي مِنْ مَذْهَبِهِ , أَنَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ , عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ , فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا .  وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ عليه السلام لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ - قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاتَّبِعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَمَّا أَمَرْنَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ , وَكَانَتْ طَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِأَنْ نُوقِعَ أَفْعَالَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا .  وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ عِبَارَةً عَنْ إرَادَتِهِ ذَلِكَ مِنَّا , وَلَا كَانَ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ , لَمْ يَجُزْ لَنَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ , مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنَّا , فَلَا يَكُونُ فِعْلُنَا لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ طَاعَةً , وَلَا اتِّبَاعًا لَهُ , وَلِأَنَّا مَتَى أَقْدَمْنَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنَا بِأَنَّهُ مُرِيدٌ مِنَّا ذَلِكَ , وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا إثْبَاتُ إرَادَتِهِ لِذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ , وَظُهُورُ فِعْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا , أَوْ قَدْ يَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا وَلَا يُرِيدُ مِنَّا مِثْلَهُ , فَإِذًا لَيْسَ وُجُودُ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ , وَلَيْسَ ظُهُورُ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَظُهُورِ أَمْرِهِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى إرَادَتِهِ مِنَّا , لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ . فَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي إرَادَةَ الْمَأْمُورِ مِنَّا . فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَدْلَلْت بِهِ مِنْ الْآيِ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِهِ عَلَيْنَا , لِأَنَّهُ حِينَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ , فَقَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ , إذْ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْ لَفْظِ الِاتِّبَاعِ , أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ . قِيلَ : لَا يَخْلُو شَرْطُ الِاتِّبَاعِ : مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ مِنَّا , أَوْ أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُهُ مِنَّا , وَمَتَى فَعَلَهُ فِي صُورَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِهِ بِإِرَادَتِهِ إيَّاهُ مِنَّا , لَكُنَّا مُتَّبِعِينَ إذَا نَهَانَا عَنْهُ , وَفَعَلَهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ , فَفَعَلْنَا مِثْلَ فِعْلِهِ لِوُجُودِ مِثْلِهِ فِي صُورَتِهِ مِنَّا , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُنَّا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ , لِأَنَّ مُتَّبِعَ النَّبِيِّ عليه السلام لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لَهُ : فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا عَاصِيًا , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا عَلِمْنَا : أَنَّ شَرْطَ اتِّبَاعِهِ فِي فِعْلِهِ : أَنْ نُوقِعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ وَأَرَادَهُ مِنَّا , فَلَمَّا لَمْ يَكُ ظَاهِرُ فِعْلِهِ دَلَالَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ , وَلَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيقَاعُهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ , مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ مِنَّا بِالْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ ثُمَّ فَعَلْنَاهُ نَحْنُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ - لَمْ نَكُنْ مُتَّبِعِينَ لَهُ , لِأَنَّ شَرْطَ الِاتِّبَاعِ إيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ , وَمَتَى خَالَفْنَاهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خَرَجْنَا مِنْ حَدِّ الِاتِّبَاعِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَفَعَلَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ لَهُ وَالْمُضَاهَاةِ لِفِعْلِهِ قَاصِدًا الْمُعَارَضَةَ وَمُبَارَاتَهُ , لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لَهُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْقَعَ فِعْلًا مِثْلَ فِعْلِهِ فِي الظَّاهِرِ .  فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قوله تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَالْفِعْلُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ , لِأَنَّ الْأَمْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ شَأْنِهِ وَطَرِيقَتِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تَضَمَّنَ قوله تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . النَّهْيَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ : فِي شَأْنِهِ , وَطَرِيقَتِهِ , وَأَفْعَالِهِ , وَأَحْوَالِهِ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي هَذَا : أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ : افْعَلْ , وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ , إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ لَا يَنْتَفِي عَنْ هَذَا الْقَوْلِ , إذَا أُرِيدَ بِهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ بِحَالٍ , وَيَنْتَفِي لَفْظُ الْأَمْرِ عَنْ الْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ : الْفِعْلُ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ . أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ , وَيَعْطِفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ , فَيَقُولَ : فِعْلُ النَّبِيِّ عليه السلام , وَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : لِكُلِّ فِعْلٍ أَمْرٌ , وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صَلَاتَنَا أَمْرٌ , وَقُعُودَنَا , وَأَكْلَنَا , وَشُرْبَنَا , أَمْرٌ . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا : أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ الْأَمْرِ - وَهُوَ النَّهْيُ - إنَّمَا يَكُونُ قَوْلًا لَا فِعْلًا , فَكَذَلِكَ ضِدُّهُ , وَمَا فِي مُقَابَلَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلًا . وَأَيْضًا : فَلَوْ صَحَّ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت , لِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي فِي قوله تعالى : ( عَنْ أَمْرِهِ ) رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ حُكْمَ الْكِنَايَةِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهَا , وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ , فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ قَالَ : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَقَالَ :  { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ هَذِهِ الْكِنَايَةِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِذَا صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ إلَى الرَّسُولِ عليه السلام , لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَ الْوَاحِدِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ , فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ , فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ , فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ لقوله تعالى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : أَيْ لَا تَدْعُوهُ كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا , بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْكُمْ : يَا مُحَمَّدُ , بَلْ يَدْعُوهُ بِأَنْبَهِ أَسْمَائِهِ وَأَشْرَفِهَا , فَيَقُولُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ , وَيَا رَسُولَ اللَّهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُ ضَمِيرِ الْكِنَايَةِ إلَيْهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا } فَرَدَّ الضَّمِيرَ إلَى التِّجَارَةِ , وَقَدْ تَوَسَّطَهَا ذِكْرُ اللَّهْوِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْته , لِأَنَّ الْأَصْلَ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى مَا يَلِيهَا , وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ قوله تعالى : ( انْفَضُّوا إلَيْهَا ) قَدْ عَادَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَهُمَا جَمِيعًا , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحَصَلَ قَوْلُهُ : ( أَوْ لَهْوًا ) مُنْفَرِدًا عَنْ خَبَرِهِ , فَيَبْطُلُ فَائِدَتُهُ , فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ : أَوْ لَهْوًا , مُفْتَقِرًا إلَى خَبَرٍ , وَلَا خَبَرَ لَهُ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : انْفَضُّوا إلَيْهَا خَبَرٌ لَهُمَا جَمِيعًا , وَإِنَّمَا خَصَّ التِّجَارَةَ بِالْكِنَايَةِ , لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ : أَنَّ تَفَرُّقَ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ . وَجَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاهِرُ فِعْلِهِ مُوجِبًا عَلَيْنَا فِعْلَ مِثْلِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَذَّرَ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ , وَمَتَى لَمْ يَعْلَمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِنْ إيجَابٍ , أَوْ نَدْبٍ , أَوْ إبَاحَةٍ , ثُمَّ فَعَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ وَأَرَادَهُ مِنَّا فَإِنَّ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَتِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمُتَابَعَةِ , وَلَيْسَ تَرْكُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ , فِي صُورَتِهِ , دُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى إرَادَتِهِ مِنْهُ , لِأَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ , وَإِنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ .  وَأَيْضًا : لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ , لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُرَادًا بِالْآيَةِ عِنْدَنَا , وَإِنْ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ : أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ مُرَادٌ , وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ امْتَنَعَ دُخُولُ الْفِعْلِ فِيهِ , لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ . وَأَيْضًا : فَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ جَمِيعَ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْآيَةِ : مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا : طَرِيقَتُهُ , وَشَأْنُهُ , وَأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام , لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِهِ , لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي لُزُومِ سَائِرِ أَفْعَالِهِ لَنَا , وَمَا لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ , فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ : فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ بَعْضِ أَفْعَالِهِ , فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ الْبَعْضُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ , وَلُزُومِ فِعْلِهِ , لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا , مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ عَلَيْنَا . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تَدُلُّ : عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْنَا , لِتَعَذُّرِ اتِّبَاعِهِ فِيهِ , عِنْدَ فَقْدِنَا الْعِلْمَ بِالْوَجْهِ الَّذِي أُوقِعَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ , لِأَنَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً , وَمَتَى فَعَلْنَاهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ وَنَحْنُ لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ , فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَاعَةٍ , فَلَا نَكُونُ مُتَّبِعِينَ لَهُ . فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ , لِأَنَّهُ قَالَ : { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } وَمَعْنَاهُ يَخَافُ اللَّهَ . قِيلَ لَهُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ , لِأَنَّهُ قَالَ : لَكُمْ أَنْ تَتَأَسَّوْا بِهِ , وَهَذَا نَدْبٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ , وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ , لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : كَانَ يَفْعَلُ كَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ , وَإِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ , لَوْ قَالَ : عَلَيْك بِهِ , أَنْ تَفْعَلَ كَذَا . فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : عَلَيْكُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وقوله تعالى : { وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ } مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ .  قِيلَ الْحَقِيقَةُ : مَا وَصَفْنَا , وَهَذَا مَجَازٌ , لَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ , وَأَمَّا قوله تعالى : { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ , لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ , أَبَانَ بِهِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالتَّأَسِّي بِهِ , وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِالْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ , لِأَنَّ النَّدْبَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ , وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ . وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَعْنَى : يَخَافُ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ - غَلَطٌ , لِأَنَّ الرَّجَاءَ غَيْرُ الْخَوْفِ فِي اللُّغَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : أَرْجُو الثَّوَابَ , وَلَا تَقُولُ : أَرْجُو الْعِقَابَ . وَإِنَّمَا تَقُولُ : أَخَافُ الْعِقَابَ , وَقَالَ تَعَالَى : { يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } , فَالرَّجَاءُ يَتَعَلَّق بِضِدِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَوْفُ , فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ , وَصَرْفُهُ إلَى ضِدِّ مُوجِبِهِ . وَأَيْضًا : لَوْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا دَلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ , لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّأَسِّي بِهِ , لِيَكُونَ فِعْلًا مُسَاوِيًا لِفِعْلِهِ فِي الْحُكْمِ , فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ , ثُمَّ فَعَلْته أَنَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ , فَلَيْسَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عليه السلام طَاعَةٌ , وَإِذَا فَعَلَهُ هُوَ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَفَعَلْته أَنَا عَلَى الْوُجُوبِ فَقَدْ خَالَفْته , وَمُخَالَفَتُهُ لَيْسَتْ بِطَاعَةٍ . وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَ مَعْلُومًا تَعَذُّرُ التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لُزُومَ سَائِرِ أَحْوَالِهِ , وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ , صَارَ مَا بَدَرَ إلَيْهِ مِنْ التَّأَسِّي بِهِ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضِ أَفْعَالِهِ , لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ . فَصَارَ تَقْدِيرُهُ : لَكُمْ التَّأَسِّي بِهِ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ , فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } يَدُلُّ عَلَى : أَنَّ مَا فَعَلَهُ يَجِبُ عَلَيْنَا فِعْلُ مِثْلِهِ , لِأَنَّهُ مِمَّا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ عليه السلام , وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : ( مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ ) وَبَيْنَ لَوْ قَالَ : مَا أَتَى الرَّسُولُ بِهِ فَخُذُوهُ , كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : " مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ "  وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ : مَا نَهَى عَنْهُ فَانْتَهُوا عَنْهُ . فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( مَا آتَاكُمْ ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : مَا أَتَى بِهِ فَخُذُوهُ , بِقَصْرِ الْأَلِفِ , لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( مَا آتَاكُمْ ) بِمَعْنَى مَا أَعْطَاكُمْ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي خِطَابَنَا بِهِ , وَإِرَادَتَهُ مِنَّا , وَمَا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَدْ أَتَانَا فِي نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَا يُرِيدُهَا مِنَّا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } , فَإِنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إلَّا خِطَابًا لَنَا , وَذَلِكَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ : مَا نَهَانَا عَنْهُ , يُبَيِّنُ لَكُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : أَتَى فُلَانٌ كَذَا : أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ , وَإِنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ , وَإِذَا قِيلَ : آتَى كَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ , يَنْبَغِي إعْطَاءً , فَيَقْتَضِي مُعْطِيًا , فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ فِيمَا وَصَفْنَا خِطَابَ الْغَيْرِ بِهِ , وَأَمَّا فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا { خَلَعَ النَّبِيُّ عليه السلام نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ خَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ } , فَدَلَّ : عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ عليه السلام . قِيلَ لَهُ : هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْرُونَةٍ بِدَلَالَةٍ , مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْوُجُوبَ ؟ دُونَ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ ؟ وَهَذَا الْخَبَرُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَذَلِكَ لِأَنَّ { النَّبِيَّ عليه السلام لَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟ فَقَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا . فَقَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا قَذَرًا } فَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِيهِ - لَمَا كَانَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ خَلْعَهَا فِي الصَّلَاةِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةً , أَوْ لَيْلَتَيْنِ , ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ , فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُمْ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ } فَدَلَّ عَلَى : أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مُوجِبٌ لِلتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ , لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ مَعْنًى . قِيلَ لَهُ : هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ مِنْ وَجْهَيْنِ .  أَحَدُهُمَا : أَنَّ كَلَامَنَا فِي ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَمْ لَا ؟ وَلَمْ نَتَكَلَّمْ فِي الْمُدَاوَمَةِ , وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ , وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ : أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِفِعْلِهِ , فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لَكَانَ قَدْ وَجَبَ بِأَوَّلِ لَيْلَةٍ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ لَوْ دَاوَمْت , فَأَخْبَرَ : أَنَّهَا كَانَتْ تُكْتَبُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ , وَلَوْ كَانَتْ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ لَقَالَ : لَوْ دَاوَمْت عَلَيْهَا لَوَجَبَتْ بِالْمُدَاوَمَةِ , وَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهَا . وَقَوْلُهُ : " خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ فِي مِثْلِهِ : أَنَّهُ إذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا , وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُدَاوِمْ لَمْ تُكْتَبْ , فَكَانَ لُزُومُهُ لِلْفُرُوضِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ , كَمَا كَانَ لُزُومُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً أَوْ الْخَمْسَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْرِيَ بِهِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ : أَنَّ أَفْعَالَهُ عليه السلام يَعْتَوِرُهَا مَعْنَيَانِ : الْأَخْذُ , وَالتَّرْكُ . فَلَمَّا كَانَ التَّرْكُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْفِعْلِ , كَانَ الْأَخْذُ مِثْلَهُ . وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ , كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ التَّرْكِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ فِي نَفْسِهِ : مِنْ وُجُوبٍ , أَوْ نَدْبٍ , أَوْ إبَاحَةٍ . فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَيْنَا بِوُجُودِهِ " مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ " فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ , وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ , وَالْفَصْلِ بَيْنَ خَصْمَيْنِ بِالْقَضَاءِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ أَفْعَالِهِ بِمَثَابَتِهَا . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِعْلَهُ , فَهُوَ سُؤَالٌ سَاقِطٌ . وَأَيْضًا : فَإِنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ وُرُودَ فِعْلِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ , وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّ وُرُودَ فِعْلِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ إذَا كَانَ بَيَانًا لِلَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ , وَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا لِمَا لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَلَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ . وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ , فَلَزِمَنَا الِاقْتِدَاءُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عليه السلام : إنَّ مَا عَلِمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ مِنْهَا فَوَاجِبٌ  عَلَيْنَا فِعْلُهُ . وَالْكَلَامُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ - خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ . وَمِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ مِثْلِ أَفْعَالِهِ , لِأَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَلَا نَتَوَصَّلُ إلَيْهِ , لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُلَازَمَتِهِ , وَتَرْكُ مُفَارَقَتِهِ , فَاسْتَحَالَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَكْلِيفُنَا عُمُومَ أَفْعَالِهِ , فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ , فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ وَاجِبًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يُمَيِّزَ مَا هُوَ وَاجِبٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ , بِدَلَالَةِ غَيْرِ الْفِعْلِ , فَإِذًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِظَاهِرِ فِعْلِهِ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ مِثْلِهِ عَلَيْنَا . فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ أَفْعَالُهُ وَاجِبَةً عَلَيْنَا حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ , فَيَخْرُجُ عَلَى حَدِّ الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ . قِيلَ لَهُ : هَذَا خَطَأٌ , لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُسَوِّغُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ , ثُمَّ يَرِدُ لَفْظٌ يَقْتَضِي لُزُومَ الْجَمِيعِ . فَيُقَالُ : إنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ , إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ , فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ جَمِيعِهِ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ , إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ , وَعَلَى أَنَّك لَمْ تُعَضِّدْ هَذَا الْقَوْلَ بِدَلِيلٍ . وَلِخَصْمِك أَنْ يَقُولَ : إنَّ جَمِيعَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ , حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه السلام لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ مِثْلِهِ عَلَيْنَا . وَنُدَلِّلُ الْآنَ : عَلَى أَنَّا مَتَى وَقَفْنَا عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ : مِنْ إبَاحَةٍ , أَوْ نَدْبٍ , أَوْ إيجَابٍ , فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ , وَالتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ , فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : قوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وَالِاتِّبَاعُ : أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ , وَفِي حُكْمِهِ , فَإِذَا فَعَلَهُ وَاجِبًا , فَعَلْنَا عَلَى الْوُجُوبِ , وَإِذَا فَعَلَهُ نَدْبًا , أَوْ مُبَاحًا , فَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ , لِنَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الِاتِّبَاعَ حَقَّهُ , وَفِيمَا يَقْتَضِيهِ .  وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَإِذَا عَلِمْنَاهُ فَعَلَ فِعْلًا عَلَى الْوُجُوبِ قُلْنَا : التَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ , فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا بِوُقُوفِنَا عَلَى جِهَةِ فِعْلِهِ , أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ - لَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ عليه السلام فِيهِ , عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ , لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ - لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ , وَكَذَلِكَ مَا عَلِمْنَا مِنْ أَفْعَالِهِ : أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ . قُلْنَا : فَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , بِظَاهِرِ الْآيَةِ , فَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ صَارَ نَدْبًا لَمَا جَازَ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ , وَالتَّأَسِّي بِهِ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ , وَفِي حُكْمِهِ سَوَاءٌ , وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ فِعْلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ , لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّأَسِّي بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ , لِمَا وَصَفْنَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَقَلُوا فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ عليه السلام : أَنَّهُ وَسَائِرَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ , إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , وَأَفْرَدَهُ بِحُكْمِهِ , دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا عَقَلُوا : أَنَّ أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ النَّبِيِّ فِي حُكْمِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَكَمَا عَقَلُوا : أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ عليه السلام فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ حُكْمٍ , جَارٍ فِي سَائِرِ الْأُمَّةِ . فَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُبْتَدَأً فَالْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ , وَإِنْ كَانَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ فَبِحُدُوثِ ( السَّبَبِ ) . فَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْحُكْمِ , وَعَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ وَالْمَفْهُومِ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ عليه السلام تَوَافَقُوا عَلَى نَقْلِ أَحْكَامِ النَّبِيِّ عليه السلام الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ , إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , لِأَنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّهَا أَحْكَامٌ جَارِيَةٌ فِي جَمِيعِهِمْ , إلَّا مَنْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام , لِيَكُونَ حُكْمًا جَارِيًا فِي أُمَّتِهِ , وَنَبَّهْنَا بِهِ , عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام وَأُمَّتَهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ , إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ : مِنْ نَحْوِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ , وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قوله تعالى : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } إلَى قوله تعالى  { خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } لَمَّا أَرَادَ إفْرَادَ النَّبِيِّ بِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ مُسَاوَاتَهَا لَهُ فِيهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ : حَدِيثُ { الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ بَعَثَ بِهَا زَوْجُهَا إلَيْهَا لِتَسْأَلَهَا عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ , فَأَخْبَرَتْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ , فَقَالَ الرَّجُلُ : لَسْت كَالنَّبِيِّ عليه السلام , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ , وَمَا تَأَخَّرَ , فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ عليه السلام سَأَلَتْهُ , فَقَالَ : النَّبِيُّ عليه السلام لِأُمِّ سَلَمَةَ : هَلَّا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : قَدْ أَخْبَرْتهَا بِذَلِكَ , فَقَالَ زَوْجُهَا : لَسْت كَالنَّبِيِّ , إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ , وَمَا تَأَخَّرَ , فَغَضِبَ النَّبِيُّ عليه السلام , وَقَالَ : إنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ , وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } . فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ عليه السلام : أَنَّ وُجُودَ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ كَافِيًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ نَفْسِهِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا , فَمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عليه السلام وَاقِعًا عَلَى وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ , فِي إيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ , وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ , قُلْنَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , إذْ كَانَتْ أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ , وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ بَدْءًا , وَلَا وَاجِبًا , لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ حُكْمٍ لَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ . فَإِنْ قِيلَ : شَرْطُ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عليه السلام : أَنْ يَكُونَ هُوَ فَعَلَهُ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا مِثْلَهُ . قِيلَ لَهُ : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّبِعُوهُ } وَقَالَ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَكَانَ الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي : أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ , عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ , فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا إيقَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ , وَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَهُ النَّبِيُّ عليه السلام مِنَّا , بِإِرَادَةٍ مَقْرُونَةٍ بِفِعْلِ مِثْلِهِ , عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ , مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَأَيْضًا : لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ لَنَا الدَّلَائِلَ : عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ عليه السلام وَحُكْمَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ , إلَّا فِيمَا خَصَّهُ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا , فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا : أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ , وَنَكُونَ  بِذَلِكَ مُتَّبِعِينَ وَمُتَأَسِّينَ بِهِ , وَلَا نَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى : فِي أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ غَيْرَ مَا وَصَفْنَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنِّي إذَا لَمْ أَعْلَمْ وُقُوعَ فِعْلِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَقَفْت فِيهِ , وَلَمْ أَفْعَلْهُ , حَتَّى أَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ , فَأَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ , لِأَنِّي إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِيهِ , لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عليه السلام فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ , أَوْ الْوُجُوبِ . وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِي قَوْلِهِ : أَقِفُ فِيهِ : مِنْ أَنْ يَمْنَعَ فِعْلَ مِثْلِهِ وَيَحْظُرَهُ , أَوْ يَقُولَ : إنِّي لَا أَمْنَعُهُ , وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ , فَإِنْ حَظَرَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ - فَقَدْ حَكَمَ بِحَظْرِهِ وَأَبْطَلَ الْوَقْفَ , وَهَذَا عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ إذَا كَانَ حَاظِرًا لِمَا اسْتَبَاحَ النَّبِيُّ عليه السلام فِعْلَهُ . وَإِنْ قَالَ : لَا أَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ , وَلَا أَلُومُ فَاعِلَهُ . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْإِبَاحَةُ الَّتِي أَنْكَرْتهَا , وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بِالْوَقْفِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ وَجْهِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ عليه السلام , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام حِينَ فَعَلَهُ لَمْ يَقِفْ فِيهِ , فَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فَاسِدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : وَأَنْتَ إذَا فَعَلْته عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام قَدْ فَعَلَهُ نَدْبًا , أَوْ إيجَابًا , فَتَكُونَ قَدْ خَالَفْته . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَبَيَّنَهُ عليه السلام , لِأَنَّ مِنَّا الْحَاجَةَ إلَيْهِ , فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ : عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَجَازَ لَنَا فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ . فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَبَيَّنَهُ , فَإِذَا جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , جَازَ أَنْ لَا يُبَيِّنَ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ وَالْإِيجَابِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام جَائِزٌ لَهُ أَنْ لَا يُبَيِّنَ الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا , إذْ لَيْسَ بِنَا حَاجَةٌ إلَيْهَا فِي دِينِنَا , إذْ لَا نَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهَا ثَوَابًا , وَلَا بِتَرْكِهَا عِقَابًا .  وَأَمَّا النَّدْبُ , وَالْوَاجِبُ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ بَيَانُهُ , لِأَنَّ مِنَّا الْحَاجَةَ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ , لِنَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ , وَلِئَلَّا نُوَاقِعَ الْمَحْظُورَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي التَّرْكِ , كَقَوْلِنَا فِي الْفِعْلِ , فَمَتَى رَأَيْنَا النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ تَرَكَ فِعْلَ شَيْءٍ وَلَمْ نَدْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَرَكَهُ , قُلْنَا : تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِبَاحَةِ , فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْنَا , إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا : أَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ التَّأَثُّمِ بِفِعْلِهِ , فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ , حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ : عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ دُونَنَا

بَابٌ الْقَوْلُ ) فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِهِ عليه السلام

    	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُكْمِ فِعْلِهِ عليه السلام : أَنْ يَرِدَ فِعْلُهُ مَوْرِدَ بَيَانِ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ , أَوْ النَّدْبَ , أَوْ الْإِبَاحَةَ , فَيَكُونَ حُكْمُ فِعْلِهِ تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ , فَإِنْ اقْتَضَتْ الْجُمْلَةُ الْإِيجَابَ كَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا , وَإِنْ اقْتَضَتْ النَّدْبَ كَانَ فِعْلُهُ نَدْبًا , وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَضَتْ الْإِبَاحَةَ كَانَ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ مُبَاحًا , وَذَلِكَ : لِأَنَّهُ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا فَعَلَهُ , فَيَكُونُ تَابِعًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ , عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا . فَأَمَّا وُقُوعُ الْبَيَانِ بِفِعْلِهِ فِيمَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ , فَنَحْوُ فِعْلِهِ لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ , هُوَ بَيَانُ لقوله تعالى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَفِعْلُهُ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ بَيَانُ قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } , وَفِعْلُهُ لِبَيَانِ جُمْلَةٍ يَقْتَضِي النَّدْبَ نَحْوُ قوله تعالى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وقوله تعالى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } وَلَيْسَ الْخَيْرُ كُلُّهُ حَتْمًا , وَلَا الْإِحْسَانُ وَاجِبًا فِيمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام , مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ , أَوْ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ , وَنَحْوِهِمَا , مَفْعُولٌ بِالْآيِ , إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ , إذَا لَمْ تَكُنْ الْجُمْلَةُ الَّتِي هَذَا بَيَانٌ عَنْهَا مُقْتَضِيَةً لِلْوُجُوبِ , وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام : مِنْ اسْتِخْرَاجِ حَقٍّ مِنْ رَجُلٍ لِغَيْرِهِ , وَمِنْ عُقُوبَةِ رَجُلٍ عَلَى فِعْلٍ كَانَ مِنْهُ , فَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , وَلَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ , قَالَ عليه السلام : { دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً } فَمَا وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عليه السلام - فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا .  وَمِنْ أَفْعَالِهِ مَا يُقَارِنُهُ أَمْرٌ مِنْهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ , فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ لُزُومَ فِعْلِهِ لَنَا , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ , كَقَوْلِهِ عليه السلام : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَكَقَوْلِهِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَوْلُهُ : { أَقِيمُونِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ } فَيَقْتَضِي هَذَا الْقَوْلُ لُزُومَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ , وَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ , وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِهِ فِيهَا , لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَى وَصْفٍ , وَهُوَ : أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا رَأَيْنَاهُ صَلَّى , فَنَحْتَاجُ أَنْ نَعْلَمَ كَيْفَ صَلَّى : مِنْ نَدْبٍ , أَوْ فَرْضٍ , فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ , وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْعَادَةِ : مِنْ نَحْوِ الْأَكْلِ , وَالشُّرْبِ , وَالْقِيَامِ , وَالْقُعُودِ , وَالنَّوْمِ , وَنَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَخْصِفُ النَّعْلَ , وَيَخِيطُ الثَّوْبَ } فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ , وَالْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهَا ضَرُورَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ , وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيهَا , لِاسْتِحَالَةِ لُزُومِهِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ , وَخَصْفُ النَّعْلِ , وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ , قَدْ عُلِمَ بِظَاهِرِ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إيجَابَهُ عَلَيْنَا . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ يَرِدُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قُرْبَةً , مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ بِهِ مِنْ التَّوَاضُعِ , وَتَرْكِ الْكِبْرِ , وَمُسَاوَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ , لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الثَّوَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِيهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

                      قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَا فَعَلَهُ , أَوْ قَالَهُ , لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ , وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُنَنِ الطَّرِيقِ , وَهِيَ جَادَّتُهُ الَّتِي يَكُونُ الْمُرُورُ فِيهَا . وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهَيْنِ : قَوْلٌ وَفِعْلٌ . فَأَمَّا الْقَوْلُ : فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَائِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ : مِنْ حُكْمِ الْأَقْوَالِ , وَالْأَوَامِرِ , وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا . وَالْفِعْلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ , وَيَدُلُّنَا عَلَى حُكْمِهِ , عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا , لِنَفْعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ . وَالثَّانِي : تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلٍ يَرَاهُ يَفْعَلُ فِعْلًا عَلَى وَجْهٍ , فَيَكُونُ تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ مِنْهُ , فِي تَجْوِيزِ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ , فَإِنْ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ وَاجِبًا , وَإِنْ كَانَ رَآهُ يَفْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ نَدْبًا , وَكَذَلِكَ الْإِبَاحَةُ عَلَى هَذَا , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ أَنْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا بَعَثَهُ دَاعِيًا إلَيْهِ , وَآمِرًا بِالْمَعْرُوفِ , وَنَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ , فَلَوْ كَانَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِعْلِ مَنْ شَاهَدَهُ مُنْكَرًا لَأَنْكَرَهُ , وَوَقَفَهُ عَلَى مَا يَجُوزُ مِنْهُ , مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي تَرْكِهِ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ وَصَفْنَا شَأْنَهُ , دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ إيقَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَحْكَامُ السُّنَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : فَرْضٌ , وَوَاجِبٌ , وَنَدْبٌ , وَلَيْسَ يَكَادُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ لَفْظُ السُّنَّةِ , لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا : أَنَّ مَعْنَى السُّنَّةِ : أَنْ يَفْعَلَ , أَوْ يَقُولَ , لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ , وَيُدَاوَمَ عَلَيْهِ , وَيُسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابُ , وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ . فَأَمَّا الْفَرْضُ : فَهُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ . وَالْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ , أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ , وَلَيْسَ بِفَرْضٍ , وَصَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ , وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ , وَقَالَ عليه السلام , { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } , وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَرْضَ , وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ , وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ قَدْ يُخَالِفُ مَعْنَى الْوَاجِبِ : أَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الْفَرْضِ فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ فِيهِ إطْلَاقُ الْوَاجِبِ , لِأَنَّا نُطْلِقُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ مُجَازَاةُ الْمُحْسِنِينَ , وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي الْأَصْلِ : هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِالْجَزَاءِ الْوَاقِعِ فِي السُّنَّةِ وَنَحْوِهَا فَشِبْهُ مَا لَزِمَ وَثَبَتَ بِذَلِكَ الْأَثَرُ , وَالْوُجُوبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ السُّقُوطُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يَعْنِي سَقَطَتْ , وَيُقَالُ : وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ . وَقَالَ الشَّاعِرُ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ وَاجِبِ . يَعْنِي سَاقِطٍ , فَجَعَلَ مَا لَزِمَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي سَقَطَ , وَيَثْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ , فَكَانَ مَعْنَى الْفَرْضِ أَثْبَتَ مِنْهُ , لِأَنَّ هُنَاكَ أَثَرًا لَا يَزُولُ , وَالسَّاقِطُ فِي الْمَوْضِعِ فَقَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ يَحْصُلُ فِيهِ , فَلَمَّا كَانَ الْفَرْضُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَثْبَتَ مِنْ الْوُجُوبِ , كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ , فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ اللُّزُومِ , وَالثُّبُوتِ . وَالْفَرْضُ , أَيْضًا التَّقْدِيرُ . مِنْهُ : فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ , وَفَرَائِضُ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ مِنْ هَذَا أَيْضًا , كَأَنَّهُ قُدِّرَ لَهُ شَيْءٌ مَنَعَ تَرْكَهُ , وَمُجَاوَزَتَهُ , إلَى غَيْرِهِ . 

بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ يَسُنُّ ( مِنْ ) طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ؟

                     قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ : - فَقَالَ قَائِلُونَ : لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ , لقوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } . وَقَالَ آخَرُونَ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام قَدْ جُعِلَ لَهُ ( أَنْ يَقُولَ ) مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ سُنَّتِهِ وَحْيًا , وَبَعْضُهَا إلْهَامًا , وَشَيْءٌ يُلْقَى فِي رَوْعِهِ , كَمَا ( قَالَ ) صلى الله عليه وسلم : { إنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رَوْعِي : أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يَقُولُهُ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا , وَتُرَدُّ الْحَوَادِثُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ النُّصُوصِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا .  وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جُعِلَ لَهُ أَنْ يَقُولَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ : قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } عُمُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِمْ , وَفِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجَلِّهِمْ وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام , ثُمَّ قَالَ : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُمَا لَوْ حَكَمَا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَمَا خُصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِيهَا دُونَ دَاوُد عليهما السلام . وَيَدُلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا : أَنَّ دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ , أَلَا تَرَى : أَنَّ الْمُسْتَنْبِطَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ الْحَافِظِ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ , فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَحْرِمَ نَبِيَّهُ عليه السلام أَفْضَلَ دَرَجَاتِ الْعِلْمِ الَّتِي هِيَ دَرَجَةُ الِاسْتِنْبَاطِ . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَيْهِ : قوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } وَلَا يَخْلُو الْمَعْنَى فِيهِ : مِنْ أَنْ يَكُونَ مُشَاوَرَتُهُ إيَّاهُمْ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ , فَأَمَرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُقَرِّبَ وَجْهَ الرَّأْيِ فِيهِ , وَلِيَزْدَادَ ( بَصِيرَةً فِي رَأْيِهِ إنْ ) كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِمْ .  وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : لَا مَعْنَى لَهُ , وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي أَنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ ( رَكَعَاتٍ ) وَلَا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ , وَلَا فِي سَائِرِ مَا فِيهِ النُّصُوصُ , وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يَكُونُ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ ( فَلَغْوٌ سَاقِطٌ , لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا ) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ , عَلِمُوا أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ , وَلَا فَائِدَةَ , ثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي . وَأَيْضًا : فَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ عليه السلام أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ , مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا , أَلَا تَرَى : { أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ النُّزُولَ دُونَ بَدْرٍ قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَرَأْيٌ رَأَيْته يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ : بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته . فَقَالَ : إنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ فَفَعَلَ } { وَشَاوَرَ النَّبِيُّ عليه السلام أَبَا بَكْرٍ , وَعُمَرَ رضي الله عنهما , فِي أَسَارَى بَدْرٍ } . { وَرَأَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْخَنْدَقِ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ , فَكَتَبَ الْكِتَابَ , فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ وَحَضَرَ الْأَنْصَارُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأْيٌ رَأَيْته ؟ أَمْ وَحْيٌ ؟ فَقَالَ : بَلْ رَأْيِي . فَقَالُوا : فَإِنَّا لَا نُعْطِيهِمْ شَيْئًا . وَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ , أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إلَّا قِرًى , أَوْ مُشْرًى , فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ } ؟ { وَقَالَ عليه السلام لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكَانَ يُفْطِرُك ؟ فَكَذَلِكَ الْقُبْلَةُ } { وَقَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَتَقْضِيَنه أَكَانَ يُجْزِي ؟ قَالَتْ :  نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } وَلَمَّا { أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بِمَا رَأَى فِي أَمْرِ الْأَذَانِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الْوَحْيِ } , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ . فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام يَجْتَهِدُ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ } , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَبَيْنَهُ فِي حَوَادِثِ الْأَحْكَامِ , ( وَمِمَّا فَعَلَهُ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَاتَبَتَهُ : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ إغْفَالِهِ , وَعَاتَبَهُ عَلَيْهِ ) . وَمِمَّا لَمْ يُعَاتَبْ عَلَيْهِ وَأُمِرَ فِيهِ بِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام بَعَثَ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه , فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنْك إلَّا رَجُلٌ مِنْك , فَأَخَذَهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ , وَدَفَعَهَا إلَى عَلِيٍّ , كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ } , { وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ فَجَاءَ جَبْرَائِيلُ فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا بَعْدُ , وَأَمَرَهُ بِالْمُضِيِّ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ خَطَأَ آدَمَ عليه السلام فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ جَازَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ ) . مِنْ الصَّحَابَةِ  مُخَالَفَتُهُ , لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فَكُلُّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِهِ , وَجَازَ لَهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِهِ فِيهِ , وَفِي اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَهُ فِيمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا وَحْيًا وَتَنْزِيلًا . قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَالَ قَوْلًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَأَغْفَلَ مَوْضِعَ الصَّوَابِ نَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ مَوْضِعَ إغْفَالِهِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } فَإِذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُوَافِقُنَا : عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَنَا ذَلِكَ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ , ثُمَّ إذَا انْعَقَدَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ , كَذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام يَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيَكُونُ لِاجْتِهَادِهِ مَزِيَّةٌ لَا يَحِقُّ مِنْ أَجْلِهَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُخَالِفَهُ , فَأَمَّا قوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَإِنَّ فِيهِ جَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ , لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ الْقُرْآنُ إذَا نَزَلَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمَّا كَانَ مَصْدَرُهُ عَنْ الْوَحْيِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِهِ , فَدَلَّ عَلَيْهِ - جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادٌ فَهُوَ عَنْ وَحْيٍ , لِأَنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِاسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ .  فَإِنْ قِيلَ : لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا تَوَقَّفَ فِي كَثِيرٍ ( مِمَّا يُسْأَلُ ) عَنْهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ . قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ , جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ وَانْتِظَارُهُ لِلْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ , وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ , فَتَوَقَّفَ فِيهِ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَقْوَى طَمَعُهُ فِي مِثْلِهِ : أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْحُكْمِ فِيهِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ أُوحِيَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ , بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الِاجْتِهَادَ إذَا سُئِلَ عَنْهُ وَيَنْتَظِرَ الْوَحْيَ فِيهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ ( مَجِيءِ ) السَّمْعِ - فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ –

             	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ الْوَاقِعَةِ عَنْ قَصْدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ : مُبَاحٌ , وَوَاجِبٌ , وَمَحْظُورٌ . فَالْمُبَاحُ : مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمُكَلَّفُ بِفِعْلِهِ ثَوَابًا , وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابًا . وَالْوَاجِبُ : مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ , وَبِتَرْكِهِ الْعِقَابَ . وَالْمَحْظُورُ : مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الْعِقَابَ , وَبِتَرْكِهِ الثَّوَابَ . ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ( حُكْمِ ) الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ . فَقَالَ قَائِلُونَ : هِيَ كُلُّهَا مُبَاحَةٌ , إلَّا مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ , أَوْ عَلَى وُجُوبِهِ . فَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ : الْكُفْرُ , وَالظُّلْمُ , وَالْكَذِبُ , وَنَحْوُهَا , فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَحْظُورَةٌ فِي الْعَقْلِ . وَمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى وُجُوبِهِ : التَّوْحِيدُ , وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ , قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْلِنَا مُبَاحٌ : أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ , وَلَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ ثَوَابًا , عَلَى مَا بَيَّنَّا . وَقَالَ آخَرُونَ : مَا عَدَا مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى وُجُوبِهِ مِنْ نَحْوِ : الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ , وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ مَحْظُورٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُقَالُ فِي الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ : إنَّهَا مُبَاحَةٌ ( وَلَا يُقَالُ ) : إنَّهَا مَحْظُورَةٌ , لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا , وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا , وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ : لَا تَبِعَةَ  عَلَى فَاعِلِ شَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ : مِنْ نَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكُفْرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَنَقُولُ : إنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ : ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ . مِنْهَا : وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّغْيِيرُ ( وَالتَّبْدِيلُ ) نَحْوُ : الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ , وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ . وَمِنْهَا : مَا هُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ , مَحْظُورٌ , لَا يَتَبَدَّلُ , وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ , نَحْوُ : الْكُفْرِ , وَالظُّلْمِ , فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ . وَمِنْهَا مَا هُوَ ذُو جَوَازٍ فِي الْعَقْلِ : يَجُوزُ إبَاحَتُهُ تَارَةً , وَحَظْرُهُ أُخْرَى , وَإِيجَابُهُ أُخْرَى , عَلَى حَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَضَارِّهِمْ . فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ , مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ أَكْثَرَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّفْعِ , وَيَجُوزُ مَجِيءُ السَّمْعِ تَارَةً بِحَظْرِهِ , وَتَارَةً بِإِبَاحَتِهِ , وَأُخْرَى بِإِيجَابِهِ , عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا وَصَفْنَا لِفَاعِلِهَا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ : أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ مَعَانٍ . إمَّا : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لَا لِيَنْفَعَ أَحَدًا , وَهَذَا عَبَثٌ وَسَفَهٌ , وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ , أَوْ يَكُونُ خَلَقَهَا لِيَضُرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ , وَهَذَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ , وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ , وَذَلِكَ مُحَالٌ , لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْمَنَافِعُ , وَ ( لَا ) الْمَضَارُّ . فَثَبَتَ أَنَّهُ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي لَهُمْ ذَلِكَ مِنْهَا , مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِهِ مِنْ النَّفْعِ .  وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا الْمُكَلَّفُونَ كَانَ لَهُمْ الِاسْتِدْلَال بِهَا , وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ الِانْتِفَاعِ , كَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَأَتَّى لَهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ , يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُمْ إتْيَانُهَا . دَلِيلٌ آخَرُ , وَهُوَ : أَنَّا لَمَّا وَجَدْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْفُسَنَا دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ , لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى حَظْرِهَا لَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِبَاحَتِهَا , لِأَنَّ مُوجِبَ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْقَلِبُ , فَعَلِمْنَا : أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَظْرِهَا . وَلَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمَا أَخْلَاهَا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ حَظْرَهَا , وَقُبْحَ مُوَاقَعَتِهَا , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مُبَاحَةٌ , وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِيهَا , لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ فِعْلِهِ تَبِعَةٌ - فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ تَبِعَةً , لِيَنْتَهِيَ عَنْهُ , هَذَا حُكْمُ الْعَقْلِ , وَ ( قَدْ ) أَكَّدَ السَّمْعُ هَذَا الْمَعْنَى ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى ) : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ } الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ . دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا . أَوْ مَحْظُورَةً , أَوْ بَعْضُهَا مَحْظُورٌ , وَبَعْضُهَا مُبَاحٌ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : جَمِيعُهَا , لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا عَلَى الْإِنْسَانِ : الْحَرَكَةُ , وَالسُّكُونُ , وَالْقِيَامُ , وَالْقُعُودُ , وَالِاضْطِجَاعُ , وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِأَنْ : يَخْلُوَ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ , فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا : أَنَّ بَعْضَهَا مُبَاحٌ , ثُمَّ الْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا , فَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحِ , فَلَمَّا عَدِمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ : عَلِمْنَا أَنَّ الْبَعْضَ مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ ( فِي بَابِ فَقْدِ الدَّلِيلِ عَلَى حَظْرِهِ وَمَا سَاوَى الْمُبَاحَ ) فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مُبَاحٌ . فَثَبَتَ : أَنَّ الْجَمِيعَ مُبَاحٌ .  وَأَيْضًا : فَإِنَّ فِي حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكْلِيفًا وَمَشَقَّةً تَدْخُلُ عَلَى النَّفْسِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِنْسَانِ إدْخَالُ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ عَلَى نَفْسِهِ , مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابِ نَفْعٍ , وَلَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يُوجِبُ ذَلِكَ , فَقَبُحَ إلْزَامُهُ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْفَرْضِ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّمَسُّكِ بِمَا فِي الْمَعْقُولِ إيجَابُهُ , وَمِنْ أَجْلِهِ حَسُنَ إيجَابُهَا , وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَلِّيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِهِ , إنْ كَانَ مَحْظُورًا . فَدَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِإِيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ تَلَفَ النَّفْسِ , وَذَلِكَ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى نَفْعٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِ , فَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ : أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي تَرْكِهِ , لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْلُ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ , وَهِيَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُلْكُ اللَّهِ تَعَالَى , وَفِي عَقْلِ كُلِّ عَاقِلٍ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِإِذْنِهِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورًا لِعَيْنِهِ , لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ , نَحْوُ : أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ حَائِطِهِ , وَيَقْعُدَ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ , وَيُسْرِجَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ , فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ قَبِيحًا مِنْ أَجْلِ وُقُوعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ - عَلِمْنَا أَنَّ : الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ , فَالْمُسْتَدِلُّ عَلَى حَظْرِ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْغَيْرِ , وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُخْطِئٌ . فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ حُكْمُ ( انْتِفَاعُ الْوَاحِدِ ) مِنَّا بِظِلِّ حَائِطِ غَيْرِهِ , وَبِضَوْءِ سِرَاجِهِ , وَالِاسْتِصْبَاحِ مِنْهُ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْمَالِكُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِانْتِفَاعِ الْمُنْتَفِعِ مِنَّا بِهَا , وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُنَا بِهَا أَعْظَمَ مِمَّا نَرْجُوهُ مِنْ النَّفْعِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْنَا فِيهِ  ضَرَرٌ فِي الدِّينِ لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ , فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ , كَمَا احْتَجْنَا نَحْنُ إلَيْهِ , فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَنْفَعَ أَنْفُسَنَا بِضَرَرِ غَيْرِنَا , مِنْ غَيْرِ أَنْ نُوصِلَهُ بِهِ نَفْعًا أَعْظَمَ مِنْهُ , إلَّا أَنْ يُبِيحَهُ لِي ( مَالِكُهُ ) وَمَالِكُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا , وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْته وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا : أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إتْلَافَ مِلْكِ الْغَيْرِ , وَلَيْسَ فِي الِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ حَائِطِ الْإِنْسَانِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ . قِيلَ لَهُ : إتْلَافُهُ إيَّاهَا لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مِلْكِ مَالِكِهَا ( لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ لَهَا ) قَبْلَ الْإِتْلَافِ وَبَعْدَهُ , إذْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إعَادَتِهَا إلَى مَا كَانَتْ , فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْإِتْلَافِ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْحَائِطُ وَالسِّرَاجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , لِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِظِلِّ حَائِطِهِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ هُوَ : أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ , وَلِهَذَا فِيهِ نَفْعٌ . فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى مَالِكِهَا , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ( حُكْمُهَا حُكْمَ ) مَا وَصَفْنَا , وَأَنْ لَا يَمْنَعَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةٍ : أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا إتْلَافًا , وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ , مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .  وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَقُولُ : إنَّهَا مُبَاحَةٌ , وَلَا مَحْظُورَةٌ , لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَقْتَضِي مُبِيحًا , وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا , فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ إطْلَاقَ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ ( وَالْحَظْرِ ) وَوَافَقَ فِي الْمَعْنَى , حِينَ قَالَ : لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهَا , لِأَنَّ هَذَا هُوَ صُورَةُ الْمُبَاحِ , إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ , وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ : إنَّهُ وَاجِبٌ , قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ , مِنْ نَحْوِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ , وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ , وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ , ( وَأَنْ لَا يَقُولَ : إنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمَ وَالْكَذِبَ مَحْظُورٌ , قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ , لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي مُوجِبًا , وَالْحَظْرَ يَقْتَضِي حَاظِرًا . فَإِنْ قَالَ : الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِ الْإِيمَانِ , وَالْحَاظِرُ لِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ : هُوَ اللَّهُ تَعَالَى , الَّذِي أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ . قِيلَ لَهُ : فَهَلَّا قُلْت مِثْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ ؟ لِأَنَّ الْمُبِيحَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي خَلَقَهَا ) لِلِانْتِفَاعِ بِهَا , ثُمَّ لَمْ يُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى حَظْرِهَا . فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ مُبَاحًا , لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ مُبَاحَةً لِلْبَهَائِمِ , وَالْمَجَانِينِ , وَالسَّاهِي . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا : إنَّ حَدَّ الْمُبَاحِ مَا لَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ , وَيَكُونُ فِيمَا ذَكَرْت , لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ , وَالسَّاهِي فِعْلُهُ غَيْرُ وَاقِعٍ عَنْ قَصْدِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ , ثُمَّ جَاءَ السَّمْعُ بِتَأْكِيدِ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ إبَاحَتُهُ , وَهُوَ : قوله تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ  بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ . . . } وَقَالَ تَعَالَى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ } الْآيَةَ وَقَالَ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ . فِي آيٍ أُخَرَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ . مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا , وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا , وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ لَهَا رَحْمَةً لَكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا } وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ( مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ ) وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ فَقَالَ : عليه السلام : أَمَا إنِّي لَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَتْ , وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ , اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ , فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ , وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } } وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ السَّمْنِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ فَقَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ , وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ , وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا } 


بَابٌ الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ

	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , وَأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ , لَا يَسَعُ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ جُلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً , كَمَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُ سَائِرِ الْأُمَمِ حُجَّةً .
               قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَعْرِفَةُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ . فَأَمَّا الْعَقْلُ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ مِنْ أُمَّتِنَا عَلَى خَطَأٍ , كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمَمِ .
      وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
 أَحَدُهُمَا : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ . قَالَ الشَّاعِرُ :

هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ

يَعْنِي : هُمْ عُدُولٌ . فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّةَ بِالْعَدَالَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ : قَبُولَ قَوْلِهَا , وَصِحَّةَ مَذْهَبِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قوله تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } , فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , كَمَا جُعِلَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ , وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ , وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ , كَمَا أَنَّهُ ( لَمَّا ) وَصَفَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } أَفَادَ بِهِ : أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ , وَشَهَادَتُهُ صَحِيحَةٌ .
           وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي قوله تعالى { هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } فَثَبَتَ : أَنَّهَا إذَا قَالَتْ قَوْلًا فِي الشَّرِيعَةِ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهَا , وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهَا .
 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَوَاجِبٌ ( عَلَى ) هَذَا أَنْ يُحْكَمَ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ , حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ , بِظَاهِرِ الْآيَةِ , وَيُجْعَلَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةً .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحْكُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ( بِالْعَدَالَةِ فِي عَيْنِهِ ) وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا لِجَمَاعَةِ الْأُمَّةِ , وَأَفَادَ : أَنَّ جَمَاعَتَهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا تَقُولُ إلَّا الْحَقَّ , فَيَكُونُ ( قَوْلُهُمْ ) حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ . وَيَجُوزُ هَذَا الْإِطْلَاقُ , وَإِنْ لَمْ يَرِدْ وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ بِالْعَدَالَةِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } وَمَعْنَاهُ : أَنَّ قَوْمًا مِنْكُمْ قَالُوهُ .
          وَكَمَا قَالَ تَعَالَى { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّرَأْتُمْ فِيهَا } وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ قَتَلَهَا بَعْضُكُمْ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } مَعْنَاهُ جَعَلْنَا مِنْكُمْ . 
      وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْعَادَةِ أَيْضًا , كَقَوْلِ الْقَائِلِ : بَنُو هَاشِمٍ حُكَمَاءُ , وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ , وَالْعَرَبُ ( تُقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِي الدِّيَارَ ) وَتَمْنَعُ الْجَارَ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ : مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ , فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ جُمْلَةَ الْأُمَّةِ تَشْتَمِلُ عَلَى عُدُولٍ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ; إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كَذَلِكَ , ثَبَتَ أَنَّ إجْمَاعَهَا حُجَّةٌ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ : أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ اللَّهُ شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , ثُمَّ إذَا شَهِدُوا لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ , وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الرَّسُولَ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إخْبَارًا لِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ , وَلَزِمَهُمْ قَبُولُ قَوْلِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الرَّسُولَ عليه السلام لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ شَهَادَةً صَحِيحَةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ بِنَفْسِ الْقَوْلِ دُونَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ عَلَى يَدِهِ . وَكَذَلِكَ ( الْأُمَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ) قَوْلُهَا حُجَّةً وَصِدْقًا إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ : أَنَّهَا لَا تَقُولُ إلَّا الْحَقَّ , مِنْ غَيْرِ جِهَةِ وَصْفِهَا بِالشَّهَادَةِ .
         قِيلَ لَهُ : الَّذِي أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ : هُوَ الَّذِي حَكَمَ لِلْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ , فَلَمْ تَخْلُ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا قَدْ صَارَ حَقًّا وَصِدْقًا , بِدَلِيلٍ غَيْرِ قَوْلِهَا , وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَهَا بِذَلِكَ , وَشَهَادَتُهُ لَهَا بِهِ , وَلَوْ قَدْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا الْخُرُوجُ عَنْ صِفَةِ الْعَدَالَةِ وَصَارَتْ كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا - لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ عُدُولًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ , وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِهَا وَصِفَتِهَا . فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عُدُولٌ لَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَوْمًا نَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ .
     فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي إيجَابِ قَبُولِ شَهَادَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَقِيقَةِ صِدْقِهَا , لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ مِنَّا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِمْ , مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْطَعَ عَلَى غَيْبِهِمَا بِذَلِكَ , وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَيْسَ فِي لُزُومِ قَبُولِ شَهَادَتِهَا حُكْمٌ بِصِدْقِهَا , وَلَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهَا . 
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنُصَّ لَنَا عَلَى ( وُجُوبِ ) قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا , وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُمَا بِالْعَدَالَةِ , وَإِنَّمَا أَمَرَنَا فِي الْجُمْلَةِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ عُدُولٍ عِنْدَنَا , وَمَنْ فِي غَالِبِ ظَنِّنَا أَنَّهُمْ عُدُولٌ وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَطْعُ عَلَى غَيْبِهِمَا , وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ لِشَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ - لَقَطَعْنَا عَلَى غَيْبِهِمَا , وَحَكَمْنَا بِصِدْقِهِمَا , وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ بَعْدَهَا , عَلَى مَعْنَى : أَنَّهَا تَشْتَمِلُ ( عَلَى ) مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ , فَمَتَى وَجَدْنَاهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى شَيْءٍ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الْعُدُولَ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ قَدْ قَالَتْ ذَلِكَ , وَقَوْلُهَا صِدْقٌ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا , فَيَكُونُونَ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ , وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى : أَنَّهُمْ عُدُولٌ فِي الدُّنْيَا .
قِيلَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا , فَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الدُّنْيَا مَا جَازَ أَنْ يُوصَفُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ , لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا صِفَةَ مَدْحٍ وَثَوَابٍ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا فِي الْآخِرَةِ .
             وَأَيْضًا لَمَّا جَعَلَ لِلْأُمَّةِ فِي كَوْنِهَا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ كَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ( وَكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ) مُسْتَحِقًّا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا . وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْأُمَّةَ شُهَدَاءُ فِي الْآخِرَةِ , وَلَيْسَتْ شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي النَّبِيِّ عليه السلام , إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا .
        وَأَيْضًا : فَلَمَّا لَمْ يُخَصِّصْ وَصْفَهَا بِذَلِكَ حَالًا دُونَ حَالٍ اقْتَضَى عُمُومُ الْآيَةِ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ .      
              فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَفِيهِمْ مَنْ عَبَدَ , وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ . وَكَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ الْأُمَّةِ تَضْيِيعُ الشَّهَادَةِ , كَمَا جَازَ مِنْ بَعْضِ مَنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ تَرْكُهَا .
              قِيلَ لَهُ : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْأُمَّةِ - لَجَازَ فِي الرَّسُولِ عليه السلام مِثْلُهُ , فَلَمَّا كَانَ وَصْفُهُ الرَّسُولَ عليه السلام بِذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى قَبُولَ شَهَادَتِهِ , وَلُزُومَ قَوْلِهِ , كَانَتْ الْأُمَّةُ مِثْلَهُ , وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الرَّسُولِ - لَمْ يَجُزْ فِي الْأُمَّةِ مِثْلُهُ , وَفَارَقَ الْعِبَادَةَ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ بِالشَّهَادَةِ .
        وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ ( لَمَّا ) وَصَفَ الْأُمَّةَ بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } فَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ بَعْدَ ( وَصْفِهِ إيَّاهُمْ ) بِالْعَدَالَةِ . فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْوَصْفُ لَهُمْ قَبُولَ الشَّهَادَةِ , لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَهُمْ بِذَلِكَ , وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } يَعْنِي : أَنَّهُمْ كَذَلِكَ , وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ قوله تعالى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ إرَادَتِهِ خَلْقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ , لَا عَلَى وَجْهِ وُقُوعِ الْحُكْمِ لَهُمْ بِالْعِبَادَةِ .
          وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَسْتَشْهِدْهُمْ ( عَلَى النَّاسِ ) إلَّا وَقَوْلُهُمْ مَقْبُولٌ , وَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ مَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ , لِأَنَّهُ عَبَثٌ , وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَإِنَّهُ إخْبَارٌ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا لِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ , لِيَسْتَحِقُّوا بِهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ , وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ , وَإِنْ تَرَكُوهَا هُمْ .
         وَأَيْضًا : لَمَّا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ عَبَدَ . وَوِزَانُ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْأُمَّةِ ( أَنْ يَكُونَ ) فِيهِ عُدُولٌ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ .
         دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ , غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ بِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَحَظَرَ مُخَالَفَتَهُمْ , فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ , لقوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } ( وَفِي هَذَا ) وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِمْ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ , وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا , ثُمَّ أَكَّدَ بِإِلْحَاقِهِ بِتَارِكِ اتِّبَاعِهِمْ .
        فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أُلْحِقَ الذَّمُّ بِتَارِكِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ مَعَ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ) { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } فَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِالْأَمْرَيْنِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ , دُونَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ ؟ .
       قِيلَ لَهُ : لَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِعْلٌ مَذْمُومٌ - لَمَا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ , فَلَمَّا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَأُلْحِقَ الذَّمُّ بِفَاعِلِهِ - دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ فِعْلٌ مَذْمُومٌ عَلَى الِانْفِرَادِ لَمَا جَمَعَهُ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عليه السلام .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذَمَّهُ عَلَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا , وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الذَّمَّ لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ إذَا شَاقَّ الرَّسُولَ مَعَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ قوله تعالى  { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } قَدْ دَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَذْمُومٌ عَلَى حِيَالِهِ , يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ , وَإِنْ جَمَعَهَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ . 
            وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا : قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } سَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً , وَبَيْنَ مَنْ اتَّخَذَهَا مِنْ دُونِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَدَلَّ عَلَى ( أَنَّ مُخَالِفَ الْمُؤْمِنِينَ تَارِكٌ لِلْحَقِّ ) كَمُخَالِفِ الرَّسُولِ عليه السلام .
           دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } فَشَهِدَ لِلْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ , وَلَوْ جَازَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَمَا كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ , وَلَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا - عَلَى الْمُنْكَرِ , وَتَرَكُوا الْمَعْرُوفَ , وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ , بِوَصْفِهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَالْمَعْنَى وَصْفُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ : أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ .
        دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ قوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَفِي الْأُمَّةِ لَا مَحَالَةَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ , فَوَجَبَ اتِّبَاعُ جَمَاعَتِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مُنِيبِينَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : قوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمْ  الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } وقوله تعالى : { تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَوْجَبَ اتِّبَاعَ الْوَاحِدِ إذَا أَنَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . 

قِيلَ لَهُ : لَا يُعْلَمُ فِي الْوَاحِدِ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ , وَإِنَّمَا حَكَمَ لَهُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الظَّاهِر , فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ حَقِيقَةً , وَأَمَّا جُمْلَةُ الْأُمَّةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ . فَإِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ فِيهَا قَدْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ - فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ .

             وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ : الْأَخْبَارُ الَّتِي قَدْ ثَبَتَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ مِنْ جِهَاتٍ:
جِهَاتٍ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى صِدْقٍ بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَتِهِ لِلْأُمَّةِ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهَا , وَلُزُومِ اتِّبَاعِهَا .
مِنْهَا : { خُطْبَةُ عُمَرَ رضي الله عنه بِالْجَابِيَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم . قَالَ فِيهَا : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَقِيَامِي فِيكُمْ , فَقَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ , حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ , وَيَحْلِفَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ , فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } .
         وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ , لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ }
            وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام : أَنَّهُ  قَالَ : { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } 
  وَأَنَّهُ قَالَ : { يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ }
       وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ , عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي , ثُمَّ لَمْ يَزِدْ فِيهَا , فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ , ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ , وَالْمُنَاصَحَةُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ , وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ } 
        وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ } 
        وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ { فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا يَعْصِمُنِي مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامُهُمْ } .
         فَهَذِهِ أَخْبَارٌ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ , قَدْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا وَهْمًا أَوْ كَذِبًا , عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرِ , وَقَدْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ شَائِعَةٌ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ : يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا , وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ , وَلَا رَدُّهُ , وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا , فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ , وَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ قَدْ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ وَوَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا  وَكَثْرَةِ رِوَايَتِهَا مُتَوَافِقَةٌ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ , فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ التَّوَاتُرِ إذَا أَخْبَرَتْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ , فَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقِ نَحْوِ قَافِلَةِ الْحَجِّ إذَا انْصَرَفَتْ فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ حَجَّ , أَنَّ خَبَرَهُمْ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقٍ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ عَلَى خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا ( ذَكَرَهُ ) وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَالْآخَرُ : أَنَّهُمْ قَدْ رَوَوْهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَاتٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ تَوْقِيفٌ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام إيَّاهُمْ عَلَى لُزُومِ الْجَمَاعَةِ , وَلَمْ يُنْكِرُوهُ . فَدَلَّ ( صِحَّتُهُ عَلَى صِحَّةِ ) مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِهِ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ .
 	فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ الْخَطَأُ فِي اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ لَمْ يَكُنْ اجْتِمَاعُهُمْ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَسْوَدَ فَجَمِيعُهُمْ سُودٌ , وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْسَانًا فَجَمِيعُهُمْ نَاسٌ , فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ الضَّلَالُ , فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَبَيْنَ مَنْ ( لَا ) يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَنَجَا مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ - لَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْن قَادِرٍ وَقَادِرٍ ( فَيَصِيرَانِ ) عَاجِزَيْنِ , وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَصِيرٍ وَبَصِيرٍ ( فَيَصِيرَانِ ) أَعْمَيَيْنِ .
         قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الْقَاعِدَةُ خَطَأٌ لَا يُوَافِقُك عَلَيْهَا الْخَصْمُ ( لِأَنَّهُ يَقُولُ لَك : إنِّي ) إنَّمَا أُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي حَالٍ لَا يُطَابِقُهُ الْبَاقُونَ عَلَى الْخَطَأِ . فَأَمَّا مَعَ مُطَابَقَةِ  الْآخَرِينَ ( فَإِنِّي لَا ) أُجَوِّزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , فَيَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَكُمَا فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ . عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُنْتَقَضَةٌ , لِأَنَّهَا تُوجِبُ أَنَّ حَجَرًا لَا يَرْفَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَشَرَةِ رِجَالٍ إنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْهُمْ رَفْعُهُ , وَإِنْ كَانَ لُقْمَةً مِنْ خُبْزٍ إذَا كَانَتْ بِانْفِرَادِهَا لَا تُشْبِعُ وَجَبَ أَلَّا تُشْبِعَ , وَإِنْ أَكَلَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ . وَإِنْ كَانَ جَرْعَةً مِنْ الْمَاءِ إذَا لَمْ تَرْوِ يَجِبُ أَنْ لَا تَرْوِيَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ ( مَاءٍ ) وَهَذَا فَاسِدٌ . وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ لِلتَّوَاتُرِ حُكْمًا , لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْبِرَيْنِ إذَا كَانَ خَبَرُهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ .
	 وَأَيْضًا : فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ , وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ جَوَازُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خَطَأٍ إلَّا أَنَّ السَّمْعَ مَنَعَ مِنْهُ .
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ } 
  وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ : اللَّهُ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ( جَوَازِ ) اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الضَّلَالِ , وَرُجُوعِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ .
     قِيلَ لَهُ : أَمَّا قَوْلُهُ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ } , فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْرَارَ تَكْثُرُ فِيهِمْ فَجَازَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ الْغَالِبَ الْأَشْرَارُ , وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ .
         وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ إذَا جَاءَتْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ زَالَ التَّكْلِيفُ وَقَبَضَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ : اللَّهُ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ

 	 قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رحمه الله - : مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ حُجَّةٌ , ( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ , وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : الْفِقْهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :

( مَا فِي الْقُرْآنِ ) وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ( مُتَوَاتِرٌ ) . عَنْ رَسُولِ اللَّه ( مَشْهُورٌ ), وَمَا أَشْبَهَهَا.

وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ , وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ , وَمَا أَشْبَهَهُ.
وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا , وَمَا أَشْبَهَهُ .
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَذَكَرَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ , وَجَعَلَهُ أَصْلًا وَحُجَّةً , كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَذَكَرَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَمَا أَشْبَهَهُ , ( وَإِنَّمَا عَنَى : أَنَّ الصَّحَابَةَ ) إذَا اخْتَلَفَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلهمْ وَيَبْتَدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ .
       وَقَوْلُهُ : وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ , وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ( صِحَّةَ ) إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
        وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ : أَنَّ الْآيَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذَكَرَهَا مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ كَهِيَ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , لِأَنَّ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ قَدْ انْتَظَمَ : أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ عِنْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ , وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , وَأَنَّهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْجَمِيعِ , كَمَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم شَاهِدًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ.
            وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } 
وقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَوْلٌ عَامٌّ فِي أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ( وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ) . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ , لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ ظَاهِرُهَا جَمِيعَ الْأُمَّةِ . أَوْ يُقَالُ هِيَ : مَخْصُوصَةٌ فِي الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى سَائِرِ النَّاسِ وَإِلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْآيُ الَّتِي تَلَوْتهَا فِي إيجَابِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعْقُولِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ فِي تَنَاوُلِهَا أَهْلَ سَائِرِ الْأَعْصَارِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ - لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ دُونَ طَائِفَةٍ وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ . فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ , وَأَنَّ ( إجْمَاعَ ) أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ  بَعْدَهُمْ.
         وَجَمِيعُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ إجْمَاعِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ , لِأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ فِي أَمْرِهِ إيَّانَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةً مِنْ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا , بَلْ عَمَّ سَائِرَ الْجَمَاعَاتِ بِهِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } لِأَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ , وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ . أَوْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى الِانْفِرَادِ , أَوْ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ . وَأَنَّهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ , لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . لَمْ يَكُونُوا عَلَى ضَلَالٍ , وَلَمْ يَكُنْ لِضَمِّ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إلَيْهِمْ فِي نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى ضَلَالٍ مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ , عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ : أَنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ اجْتِمَاعٌ عَلَى ضَلَالٍ . وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً , لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا بِلَا دَلَالَةٍ , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } قَدْ نَفَى بِهِ أَنْ يَضِلَّ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ بِضَلَالٍ وَاحِدٍ . وَنَفَى بِهِ أَيْضًا أَنْ يَضِلُّوا , كُلُّهُمْ , بِأَنْ يَضِلَّ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِضَرْبٍ مِنْ الضَّلَالِ غَيْرِ ضَلَالَةِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى . هَذَا كُلُّهُ مُنْتَفٍ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } وَإِفَادَتُهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ لَا تَزَالُ مُتَمَسِّكَةً بِالْحَقِّ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ , وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ لَكُمْ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ( اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ , وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ ) وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّابِعِينَ , وَلَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ فِي لُزُومِ صِحَّتِهِ لَهُ وَلِأَهْلِ عَصْرِهِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدْ أَدْرَكَ فِيمَا يَحْكِي ( أَرْبَعَةً ) مِنْ الصَّحَابَةِ : أَنَسًا  وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ , وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى , وَآخَرَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيَّ اسْمُهُ , فَجَازَ لَهُ مُزَاحَمَةُ التَّابِعِينَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ , وَكَانَ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِيمَا قَبْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . وَكَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ , فَلَمَّا لَحِقَ أَيَّامَهُمْ وَهُوَ مِنْ " أَهْلِ " الْفُتْيَا جَازَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمْ وَالْقَوْلُ مَعَهُمْ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ

	   قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ عَنْ تَوْقِيفٍ , وَيَكُونُ عَنْ اسْتِخْرَاجِ فَهْمِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ , فَمِنْهُ مَا عُلِمَ وَجْهُ التَّوْقِيفِ فِيهِ . وَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ , لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهِ , وَيَكُونُ أَيْضًا عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ .
        فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي عَلِمْنَا كَوْنَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ , فَنَحْوُ قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ , وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ , وَإِنَّمَا صَدَرَ إجْمَاعُهُمْ عَنْ التَّوْقِيفِ الْمَذْكُورِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى حُكْمِهَا .
وَمِنْهُ مَا هُوَ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ مَا وَرَدَ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ  وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي أَخْبَارِ الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، فَمِمَّا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ : رَجْمُ الْمُحْصَنِ . اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ  عَلَيْهِ , إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ , وَلَيْسُوا عِنْدَنَا بِخِلَافٍ , وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا , وَلَا عَلَى خَالَتِهَا } وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ , مِثْلًا بِمِثْلٍ , وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ , وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَالَفَ فِيهِ , ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
   وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ .
          وَمِمَّا وَرَدَ مِنْ التَّوْقِيفِ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْرَادِ وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَعْنَاهُ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : { فِي إحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ , وَفِي إحْدَى الرِّجْلَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ , فِي إحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ , وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ , وَأَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } { وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ } وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ .
       وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا مَعَهَا تَوْقِيفٌ قَدْ كَانَتْ صَدَرَتْ لَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام , تَرَكَ النَّاسُ نَقْلَهُ , اكْتِفَاءً بِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ , وَفَقْدِ الْخِلَافِ .
          وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ عَنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ نَعْلَمُهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ وَاتِّبَاعِ الْبَاقِينَ إيَّاهُ , فِي نَحْوِ مَا رُوِيَ ( أَنَّ بِلَالًا وَنَفَرًا مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانُوا سَأَلُوا عُمَرَ قِسْمَةَ السَّوَادِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ , وَرَاجَعُوهُ فِيهِ مِرَارًا , ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَوْمًا : قَدْ وَجَدْت فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ , وَهُوَ قوله تعالى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } إلَى قوله تعالى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } إلَى أَنْ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ثُمَّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } , ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } , فَقَدْ جَعَلَ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِيهِ الْحَقَّ , وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ , وَلَوْ قَسَمْت السَّوَادَ بَيْنَكُمْ لَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْكُمْ , وَبَقِيَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ ) فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ عَرَفُوا  صِحَّةَ احْتِجَاجِهِ بِهَا , وَإِبَانَتِهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّلَالَةِ مِنْهَا , عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ , فَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ , وَتَابَعُوهُ عَلَى رَأْيِهِ .
        وَنَحْوُ إجْمَاعِهِمْ : عَلَى أَنَّ عَمَّةَ الْأَبِ وَخَالَتَهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ عَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ , وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمَنْصُوصِ فِي تَحْرِيمِهِ : الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ , ثُمَّ كَانَتْ أُمُّ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ , كَذَلِكَ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ بِمَنْزِلَةِ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ .
          وَنَحْوُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ حِينَ خَالَفُوهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ : لَأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } . فَقَالَ : إنَّمَا قَالَ : عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا , وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا فَعَرَفَ الْجَمِيعُ صِحَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ لِمَعْنَى التَّوْقِيفِ , ( وَرَجَعُوا إلَى قَوْلِهِ .
         وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَرَدَ فِيهِ , وَلَا اسْتِخْرَاجِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ ) فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ كَانَ تَوْقِيفًا , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا , نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّتَيْنِ : أُمِّ الْأُمِّ , وَأُمِّ الْأَبِ , إذَا اجْتَمَعَتَا السُّدُسَ , وَأَنَّ لِبِنْتِ الِابْنِ نِصْفَ الْمِيرَاث إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدُ الصُّلْبِ .
  وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى تَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ , وَلَيْسَ فِيهِ تَوْقِيفٌ , وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ : أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادٍ , وَكَذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ : عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى نِصْفٍ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ , مَعَ قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ , وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ : كَالْوِلَادَةِ وَنَحْوِهَا .
        وَمِمَّا عَلِمْنَا وُقُوعَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ : حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ , وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إذَا شَرِبَ سَكِرَ , وَإِذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى افْتَرَى , وَحَدُّ الْفِرْيَةِ ثَمَانُونَ " وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ , وَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام ( مَا أَحَدٌ أُقِيمُ عَلَيْهِ  حَدًّا ) فَيَمُوتُ مِنْهُ فَأَدِيَهُ ( لِأَنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ ) إلَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ وَضَعْنَاهُ بِآرَائِنَا )
         فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسَاتِ , فَإِنْ كَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى إثْبَاتِ حَدِّ الْخَمْرِ قِيَاسًا فَهَذَا إبْطَالٌ لِأَصْلِكُمْ فِي نَفْيِكُمْ إثْبَاتَ الْحُدُودِ قِيَاسًا .
        قِيلَ لَهُ : الَّذِي نَمْنَعُهُ وَنَأْبَاهُ مِنْ ذَلِكَ : هُوَ أَنْ نَبْتَدِئَ إيجَابَ حَدٍّ بِقِيَاسٍ , فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ , فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ قَدْ وَرَدَ فِيهِ التَّوْقِيفُ , فَيُتَحَرَّى فِيهِ مَعْنَى التَّوْقِيفِ , فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا , وَاسْتِعْمَالُ اجْتِهَادِ السَّلَفِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ } . وَرُوِيَ : أَنَّهُ ( ضَرَبَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا , كُلُّ رَجُلٍ بِنَعْلِهِ ضَرْبَتَيْنِ إنَّمَا تَحَرَّوْا فِي ) اجْتِهَادِهِمْ مُوَافَقَةَ أَمْرِ النَّبِيِّ عليه السلام , فَجَعَلُوهُ ثَمَانِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَنَقَلُوا ضَرْبَهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ إلَى السَّوْطِ , كَمَا يَجْتَهِدُ الْجَلَّادُ فِي الضَّرْبِ , وَكَمَا يَخْتَارُ السَّوْطَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْجَلْدِ اجْتِهَادًا , فَالِاجْتِهَادُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَائِعٌ فِيمَا وَصَفْنَا .
   فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ , لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ , وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا ( عَلَيْهِ ) هُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
   قِيلَ لَهُ : أَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ , فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ , وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ , مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ , وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ , وَلَمْ يَعْرِفُوا قَوْلَ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ , وَعِلْمَهُمْ بِالْآثَارِ , وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ , وَطَرِيقُهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَزَعِ إلَى  النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ فَقْدِ النُّصُوصِ , فَتَهَوَّرُوا فِي إقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ تَبِعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ الَّذِينَ لَا نَبَاهَةَ لَهُمْ , وَلَا رَوِيَّةَ , وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ , وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ وَمُنَازَعَةٌ ,
عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ فِي قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ إذَا تَشَاوَرُوا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا فَإِذَا وَجَدْنَاهُمْ مُتَّفِقِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَانَ مِنْهُمْ تَقَدُّمًا ( فَقَدْ عَلِمْنَا ) : أَنَّ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ .
         قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ ظَاهِرًا جَلِيًّا لَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى اسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ , فَيَنْوُوا فِي هِمَمِهِمْ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ , وَيَسْبِقُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ , وَيَحْتَجُّ بِهِ فَيَتْبَعُهُ الْبَاقُونَ , فَلَا يَحْصُلُ هُنَاكَ خِلَافٌ , وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ رَأْيًا , وَمَصْدَرُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ .
         وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْحُكْمِ غَامِضًا خَفِيًّا فِي الِابْتِدَاءِ , فَيَخْتَلِفُونَ , ثُمَّ يَتَجَلَّى لِلْجَمِيعِ بِاسْتِقْصَاءِ النَّظَرِ , وَكَثْرَةِ الْخَوْضِ , فَيُصْدِرُونَ عَنْ اتِّفَاقٍ , ثُمَّ لَا يُنْقَلُ إلَيْنَا مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ , لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَنَقْلُ الْخِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
             فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَلَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ إلَّا حَقًّا وَصَوَابًا لَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَى مَرْتَبَةً , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالدَّلِيلُ ( عَلَى ) ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَاتَبَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ , وَأَنْزَلَ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ . فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَازَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْخَطَأِ عَلَى الْأُمَّةِ فِيمَا نَقُولُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ .
             قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ أَجَبْت عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَقَعُ فِيهِ خَطَأٌ , لِأَنَّ مَعَاصِيَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام - وَلَوْ كَانَتْ صَغَائِرَ - مَغْفُورَةٌ , فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهَا فِي شَيْءٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ , وَيَلْزَمُهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ ظَهَرَتْ مَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ( لِلنَّاسِ ) لَكَانَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْ الطَّاعَةِ , وَإِيحَاشٌ عَنْ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إلَى صِحَّةِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام .
        وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ : إنَّا نَقُولُ : إنَّ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ , وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ , وَلَا نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ مُجْتَمِعَةً , كَمَا نَقُولُ : إنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْأُمَّةِ , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى : إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ , لَا أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَوَاتِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا مُجْتَمِعَةً , وَكَمَا نَقُولُ : فُلَانٌ أَقْوَى مِنْ إخْوَةِ فُلَانٍ وَهُمْ عَشْرَةٌ , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى

	 الْإِجْمَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ , لِحَاجَةِ الْجَمِيعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ , وَذَلِكَ نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ : ( عَلَى ) أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعٌ , وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ , وَصَوْمِ رَمَضَانَ , وَحِجِّ الْبَيْتِ , وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ , وَتَحْرِيمِ الزِّنَا , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ , وَالْأَخَوَاتِ , وَنَحْوِهِنَّ , فَهَذَا إجْمَاعٌ قَدْ تَسَاوَى الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِيهِ .
      وَالْإِجْمَاعُ الْآخَرُ : مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَاصَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ , وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ , لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ , إذْ لَيْسَ بَلْوَاهَا بِهِ عَامَّةً . وَذَلِكَ كَنَحْوِ : فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ , وَمَا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْحَقِّ , وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ , مِمَّا لَمْ يَكْثُرْ بَلْوَى الْعَامَّةِ بِهِ , فَعَرَفَتْهُ الْخَاصَّةُ , وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ . ثُمَّ لَا يَخْلُو مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ : مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ إجْمَاعِهِ مُعْتَبَرًا , بِأَنْ نَعْرِفَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ , أَوْ أَنْ يَظْهَرَ الْقَوْلُ مِنْ بَعْضِهِمْ , وَيَنْتَشِرَ فِي كَافَّتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ خِلَافٍ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَيْهِمْ , وَلَا نَكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ مَوْقُوفَةً عَلَى وُجُودِ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , بِوِفَاقِ الْآخَرِينَ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطَ الْإِجْمَاعِ لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا , إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَحْكِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ انْعَقَدَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى شَيْءٍ , إنْ شِئْت مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , وَإِنْ شِئْت مِمَّنْ بَعْدَهُمْ . فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ ( بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَامْتَنَعَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ ) بِإِثْبَاتِ قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسْأَلَةٍ , عَلِمْنَا : أَنَّ  هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ . أَلَا تَرَى إلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ : بِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ , إلَّا مَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ ( مِنْ تَحْرِيمِهِنَّ ) وَتَرْكِ الْبَاقِينَ الْخِلَافَ فِيهِ . فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ . انْتِشَارُ الْقَوْلِ ( عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ) مَعَ سَمَاعِ الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ .
         فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي تَرْكِ النَّكِيرِ وَعَدَمِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوِفَاقِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتْرُكُوا ( النَّكِيرَ ) مَهَابَةً , أَوْ تَقِيَّةً , أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ . فَإِذًا لَيْسَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ , كَمَا رُوِيَ : " أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا يَدْعُوهَا , فَفَزِعَتْ , فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا , فَقَالُوا : إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ , وَلَمْ تُرِدْ إلَّا الْخَيْرَ وَمَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا , وَعَلِيٌّ عليه السلام سَاكِتٌ , فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنْ كَانَ هَذَا جَهْدَ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا , وَإِنْ كَانُوا قَارَبُوك فَقَدْ غَشُّوك , أَرَى عَلَيْك الدِّيَةَ . فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : ( أَنْتَ صَدَقْتنِي ) "
           فَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ سَاكِتًا مُضْمِرًا لِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ , وَلَمْ يَكُنْ سُلُوكُهُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ , وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عُمَرُ أَيْضًا بِسُكُوتِهِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
   ذَكَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ ( ذَكَرَ ) مَسْأَلَةَ الْعَدْلِ , وَاحْتَجَّ :  بِأَنَّ مَنْ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إلَى 

فَرْضٍ فَفَرْضُهُ قَائِمٌ , وَمَنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ ( فَرْضٍ ) لَا إلَى فَرْضٍ أَدْخَلْت النُّقْصَانَ عَلَيْهِ . قَالَ : فَقُلْت : هَلَّا ذَكَرْته لِعُمَرَ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ كَانَ أَمِيرًا مَهِيبًا, فَأَخْبَرَ : أَنَّ مَهَابَتَهُ كَانَتْ مَانِعَةً لَهُ مِنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ .

     قِيلَ لَهُ : أَمَّا قِصَّةُ عُمَرَ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْت . مِنْ قِبَلِ : أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَسْكُتْ إلَى أَنْ أَبْرَمُوا الْأَمْرَ وَفَرَغُوا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ , وَإِنَّمَا سَكَتَ لِيَنْظُرَ فِي جَوَابِ الْقَوْمِ ثُمَّ لَمَّا أَجَابَ الْقَوْمُ , أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه فَسَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلِيٌّ بِشَيْءٍ , وَعَسَى ( لَوْ ) قَدْ كَانَ عُمَرُ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ قَوْلَهُمْ , أَوْ أَنْ يَقِفَ فِي الْحُكْمِ , أَنْ يُخْبِرَهُ وَلَا يَسْكُتَ , وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ حُجَّةً إذَا نُشِرَتْ الْمَقَالَةُ , وَظَهَرَتْ , وَاسْتَمَرَّ الْقَائِلُونَ بِهَا عَلَيْهَا , ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا خِلَافٌ , فَأَمَّا مَا دَامُوا فِي مَجْلِسِ التَّشَاوُرِ وَالِارْتِيَاءِ فِيهَا فَجَائِزٌ - أَنْ يَكُونَ السَّاكِتُ نَاظِرًا فِي الْمَسْأَلَةِ , مُرَوِّيًا فِيهَا , لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ , فَإِذَا اسْتَمَرَّتْ الْأَيَّامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ خِلَافًا مَعَ الْعِنَايَةِ مِنْهُمْ بِأَمْرِ الدِّينِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ , عَلِمْنَا ( أَنَّهُمْ إنَّمَا ) لَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ لِأَنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُمْ .
           وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ : فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ كَانَ يُظْهِرُ هَذَا الْخِلَافَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ , فَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ مُحَاجَّتِهِ , كَمَا يَهَابُ الْأَحْدَاثُ ذَوِي الْأَسْنَانِ , وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْنَعُهُ مَهَابَةُ عُمَرَ مِنْ الْخِلَافِ عَلَيْهِ , وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُقَدِّمُهُ وَيَسْأَلُهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ , لِمَا عُرِفَ مِنْ فَضْلِ فِطْنَتِهِ , وَنَفَاذِ بَصِيرَتِهِ , وَكَانَ يَمْدَحُهُ وَيَقُولُ : غُصْ يَا غَوَّاصُ , وَيَقُولُ : شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ . يَعْنِي شَبَّهَهُ بِالْعَبَّاسِ - رضي الله عنه - فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ وَدَهَائِهِ . وَمَتَى كَانَ النَّاسُ فِي تَقِيَّةٍ مِنْ عُمَرَ فِي إظْهَارِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْحَوَادِثِ ؟ وَهُوَ قَدْ كَانَ يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ الْكَلَامَ فِيهَا .
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ كَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتَفِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بِتَرْكِ النَّاسِ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : { أَقَصُرَتْ  الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما , فَقَالَ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : نَعَمْ . فَحِينَئِذٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ } .
         وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ ( فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ , لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ ) فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إظْهَارُ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ , فَلَيْسَ إذَنْ فِي سُكُوتِ الْقَوْمِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى الْقَائِلِينَ فِي الْحَادِثَةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْنَا نَقُولُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الِانْفِرَادِ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ , لِأَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجَامِعَهُ إظْهَارُ الْخِلَافِ , وَعَامَّةُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ هَذَا سَبِيلُهَا , وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّ تَرْكَهُمْ لِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ مَعَ انْتِشَارِ الْقَوْلِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ .
            فَأَمَّا قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ : فَإِنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ تَرَكُوا مُخَالَفَتَهُ وَلَمْ يُظْهِرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْإِجْمَاعِ , وَلَعَلَّ عِيسَى إنَّمَا , أَرَادَ : أَنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ , وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لَا تَعْتَرِضُ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ , مِنْ قِبَلِ : أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقِيبَهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْقَوْلِ خِلَافٌ عَلَيْهِ أَوْ وِفَاقٌ لَهُ : ( أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ ) , لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ , فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ , وَقَدْ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْقَوْمِ , هَلْ هُمْ تَارِكُونَ لِلنَّكِيرِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَيَسْتَدِلُّ بِتَرْكِهِمْ الْخِلَافَ عَلَيْهِ , عَلَى صِحَّةِ خَبَرِهِ , وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الِاسْتِفْهَامَ بِالْقَوْلِ , وَقَدْ قُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ : إنَّ تَرْكَ إظْهَارِ الْخِلَافِ إنَّمَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ إذَا انْتَشَرَ الْقَوْلُ , وَظَهَرَ , وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَاتٌ يُعْلَمُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَأَظْهَرَ الْخِلَافَ , وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى غَيْرِ مَقَالَتِهِ . إذْ كَانَ قَدْ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ .
          وَأَمَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِنْكَارُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ صَحِيحٌ . وَلَمْ نَجْعَلْ نَحْنُ تَرْكَ النَّكِيرِ حُجَّةً فِي الْإِجْمَاعِ دُونَ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ , بَعْدَمَا مَضَى  وَقْتُ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ مُدَّةً لَوْ كَانَ هُنَاكَ قَائِلٌ بِخِلَافِهِ لَكَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نَظَرِهِ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُ بِهِ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ , فَإِذْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا : أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ .        
            وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ تَرْكِ إظْهَارِ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ اسْتَفَاضَ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِ الْأُمَّةِ : أَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَمَا عَلَيْهِ طَبَائِعُ النَّاسِ إذَا تَشَاوَرُوا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَقَالَ فِيهِ أَعْلَامُهُمْ وَأُولُو الْأَلْبَابِ مِنْهُمْ قَوْلًا وَسَكَتَ الْبَاقُونَ , أَنَّ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ , وَمُوَافَقَةً لِلْقَائِلِينَ بِهِ ( وَأَنَّهُ ) لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ لِأَظْهَرَ الْخِلَافَ إذَا كَانَ ذَلِكَ ( أَمْرًا ) يُهِمُّهُمْ وَيَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ , فَمَا كَانَ مِنْهُمْ دِينًا تُضِيفُهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ فَهُوَ أَوْلَى , بِأَنْ يَكُونَ تَرْكُهُمْ إظْهَارًا لِخِلَافٍ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ .
            وَأَيْضًا : فَإِنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَفَاوُتِ طَبَائِعِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ , لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَانَى هِمَّتُهُمْ عَلَى تَرْكِ إظْهَارِ خِلَافٍ هُمْ لَهُ مُضْمِرُونَ , كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : يَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّ الْإِمَامَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ ( إنْسَانٌ ) بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ , لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْجَامِعَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِذَلِكَ أَنْ يَتْرُكُوا إظْهَارَ النَّكِيرِ عَلَيْهِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى السُّكُوتِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ .
          وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ : أَنَّ السَّلَفَ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ : أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُخَالِفٌ لَهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِمْ , فَيُضْمِرُ خِلَافَهُمْ وَيُسِرُّهُ , وَلَا يُظْهِرُهُ , حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ : أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إجْمَاعٌ تَلْزَمُ حُجَّتُهُ مِنْ  بَعْدِهِمْ . فَوَجَبَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْقَوْلِ وَانْتِشَارِهِ : دَلَالَةً عَلَى الْمُوَافَقَةِ . وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِجْمَاعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , لَمَا صَحَّ إجْمَاعٌ أَبَدًا , إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُضَافَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِقَوْلٍ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ : عَلَى ( أَنَّهَا قَدْ قَالَتْهُ وَلَفَظَتْ بِهِ ) وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى ظُهُورِ الْقَوْلِ فِيهِمْ , مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُمْ .
         وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ : الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْعُذْرُ : هُوَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ مِنْ مَكَّةَ , وَمَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ : هُوَ الشَّهْرُ التَّاسِعُ , مِنْ ذَلِكَ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَمَا عَدَا هَذَا فَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ بِإِيجَابِهِ .
           فَيُقَالُ لَهُ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت : أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ , هَلْ لَقِيت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ فَأَخْبَرُوك ( بِذَلِكَ ) ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . أَكْذَبَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ , وَإِنْ قَالَ : لَا . قِيلَ لَهُ : فَلِمَ قَضَيْت بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ عَلِمْته إلَّا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ؟ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . فَهَلَّا جَعَلْت هَذَا عِيَارًا فِي أَمْثَالِهِ , مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْتَشِرْ ؟ ثُمَّ لَا يُوجَدُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ خِلَافٌ فِيهِ فَنُثْبِتُهُ إجْمَاعًا ؟

بَابٌ الْقَوْلُ فِيمَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ

	    قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا نَعْرِفُ عَنْ أَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ , وَكَيْفَ صِفَتُهُمْ , وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ قَائِلُونَ : لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا , مَنْ كَانَ مُحِقًّا , أَوْ مُبْتَدِعًا ضَالًّا , بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّلَالِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ , لِأَنَّ الْحَقَّ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ . وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ , الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُمْ , وَلَا ضَلَالُهُمْ .
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ لِمَنْ أَلْزَمَنَا قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } فَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ عَلَى  النَّاسِ وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ , وَشَهِدُوا بِهِ , الَّذِينَ وَصَفَهُمْ أَنَّهُمْ وَسَطٌ , وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ , وَقَدْ قِيلَ : الْوَسَطُ الْخِيَارُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } يَعْنِي خَيْرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ , لِأَنَّ الْعَدْلَ الْخِيَارُ , وَالْخِيَارَ الْعَدْلُ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِإِجْمَاعِهِمْ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } . فَأَلْزَمَنَا اتِّبَاعَ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ , وَالِاقْتِدَاءَ بِالْمُؤْمِنِينَ , وَبِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ , وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ وَالْفِسْقِ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ , فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ , وَمَتَى أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا عَلَى أَمْرٍ , عَلِمْنَا : أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنِينَ , وَمَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , دُونَ ( أَهْلِ ) الضَّلَالِ وَالْفَاسِقِينَ . فَدَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِمْ , إذْ كَانُوا لَوْ وَافَقُوهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبَعِينَ وَلَا مُقْتَدًى بِهِمْ . وَلَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ : أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي قَدْ شَمِلَهَا الْوَصْفُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ , وَلُزُومِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ , وَلِأَجْلِ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْأَصْلِ . لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ , وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ , لِمَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِمْ , وَأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى   
             وَمِمَّا يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْإِجْمَاعِ : أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّمْعِ . وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لَمْ يَصِلْ إلَى عِلْمِ فُرُوعِهَا . وَالْخَوَارِجُ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ قَدْ أَكْفَرَتْ السَّلَفَ الَّذِينَ نَقَلُوا الدِّينَ , وَلَمْ يَقْبَلُوا  أَخْبَارَهُمْ وَنَقْلَهُمْ لَهَا , وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ عُدِمَ الْعِلْمَ بِهَا , فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ , وَلَا الِاخْتِلَافِ , لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأُصُولِ الشَّرْعِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى فُرُوعِهِ .
      فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كُنْت لَا تَعْتَدُّ بِمَنْ ثَبَتَ ضَلَالُهُ بِالْإِجْمَاعِ , وَلَا تَعُدُّ خِلَافَهُ خِلَافًا لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ ضَلَالِهِ وَفِسْقِهِ , فَاَلَّذِي يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِخِلَافِ ( مَنْ ثَبَتَ ) فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ , وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ , لِأَنَّ الْفَاسِقَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فِسْقُهُ لَا يَكُونُ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا مِمَّنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ , وَأَنَابَ إلَيْهِ .
      قِيلَ لَهُ : كَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ , وَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ , وَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ , وَهُوَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا فُتْيَاهُ .
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلْ تُجَوِّزُونَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ : الِانْتِقَالَ عَنْ حَالِ الْعَدَالَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ؟
         قِيلَ لَهُ : مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي لُزُومِ قَوْلِهِمْ امْتَنَعَ خُرُوجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِهَا , لِأَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى . أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام , لَمَّا كَانَ حُجَّةً عَلَى أُمَّتِهِمْ , لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ وَالِانْتِقَالُ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا ؟ 
      وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْجَمَاعَةِ , إذَا قَامَ غَيْرُهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ , لِئَلَّا تَخْلُوَ الْأُمَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِيمَانِ , قَائِمُونَ بِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى , الَّتِي هِيَ الْإِجْمَاعُ , وَجَعَلُوا انْتِقَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمْ . 
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَخْلُو فِي الْحَالَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى , وَمِنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً . 
        قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَعْرِفُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ , وَلَمْ يَرْتَضِ بِطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَوُجُوهِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ : كَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَالْكَرَابِيسِيِّ , وَأَضْرَابِهِمَا مِنْ السُّخَفَاءِ ( الْجُهَّالِ ) , لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا كَتَبُوا شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ , وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِوُجُوهِ النَّظَرِ , وَرَدِّ الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ إلَى الْأُصُولِ , فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ , لِجَهْلِهِ بِبِنَاءِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ , وَقَدْ كَانَ دَاوُد يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ , وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ( بُلْ عَلَى الْعُقُولِ ) , وَكَانَ يَقُولُ : لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِنَا دَلَائِلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى تَوْحِيدِهِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ , وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ خَبَرِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَالْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِهِ وَخَبَرِ مُسَيْلِمَةَ وَسَائِرِ الْمُتَنَبِّئِينَ وَالْعِلْمِ بِكَذِبِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ , وَالنَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ , وَالْأَعْلَامِ وَالدَّلَائِلِ , الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , فَمَنْ كَانَ هَذَا مِقْدَارَ عَقْلِهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؟ وَمِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ؟ وَهُوَ مُعْتَرِفٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى , لِأَنَّ قَوْلَهُ : إنِّي مَا أَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الدَّلَائِلِ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ , فَهُوَ أَجْهَلُ مِنْ الْعَامِّيِّ , وَأَسْقَطَ مِنْ الْبَهِيمَةِ , فَمِثْلُهُ لَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ إذَا قَالُوا قَوْلًا يُخَالِفُهُمْ , فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ .
            وَنَقُولُ أَيْضًا : فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أُصُولَ السَّمْعِ وَطُرُقَ الِاجْتِهَادِ ( وَ ) الْمَقَايِيسِ  الْفِقْهِيَّةِ : إنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ , وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ , ( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ , لِأَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ ) لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ السَّمْعِيَّةِ , فَمَنْ كَانَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا مِنْ فَقْدِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ السَّمْعِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ , وَإِنْ كَانَ ذَا حَظٍّ فِي عُلُومٍ أُخَرَ , لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأُصُولَ وَرَدَّ الْفُرُوعِ إلَيْهَا , فَلَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خِلَافًا .
           وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مِقْدَارِ مَنْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُ , فَقَالَ قَائِلُونَ : الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ , وَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى صِدْقٍ . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ هَذِهِ صِفَتُهَا عَلَى قَوْلٍ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ بِهِ , ثُمَّ خَالَفَ عَلَيْهَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ أَنْ يُظْهِرُوا خِلَافَ مَا يَعْتَقِدُونَ , وَلَا نَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّ خَبَرَهُمْ فِيمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِدْقٍ , لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ , إذَا أَظْهَرَتْ الْجَمَاعَةُ إنْكَارَ قَوْلِهِمْ , وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُمْ خِلَافًا , وَإِنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ لِلنَّفَرِ الْيَسِيرِ خِلَافَهَا وَلَمْ يُنْكِرُوهُ , لَمْ يَكُنْ مَا قَالَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ إجْمَاعًا , وَإِنْ خَالَفَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةٌ مِثْلُهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا وَصْفُ اعْتِقَادِهَا إلَّا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي عَيْنِهِ : أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْأَخْبَارِ , إنَّ مِثْلَ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْإِسْلَامِ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهَا مُسْلِمِينَ . كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالرُّومَ إذَا أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ , عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُهَا . فَاخْتَلَفَتْ الْجَمَاعَتَانِ اللَّتَانِ وَصْفُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ , وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا قَالُوا , أَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ , لَمْ يَنْعَقِدْ بِقَوْلِ إحْدَى الْجَمَاعَتَيْنِ إجْمَاعٌ , إذَا لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ ضَلَالُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَنَا , وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
         وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا خَالَفَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ حَالَهَا الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَإِنْ كَانَ  وَاحِدًا , كَانَ خِلَافُهُ عَلَيْهَا خِلَافًا صَحِيحًا , وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ خِلَافِهِ إجْمَاعٌ , وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ , وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا .  
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ , وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ الْأَمْرَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ : إذَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ شَيْئًا وَقَالَ الْوَاحِدُ خِلَافَهُ . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ - لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ الْوَاحِدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْجَمَاعَةِ مَعْنًى , فَلَوْ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِيمَا لَمْ تُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ خِلَافَهَا , لَمَا انْعَقَدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا عَلَى شَيْءٍ , لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا انْتَشَرَ وَظَهَرَ فِي أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , فَإِنَّا نُجَوِّزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ , أَوْ بَلَغَتْهُمْ فَلَمْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ , لِأَنَّ مِثْلَهُ جَائِزٌ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ , وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الْمُخْتَلِفِي الْهِمَمِ وَالْأَسْبَابِ . فَإِذَا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ , فَإِنَّ إظْهَارَهُمْ لِهَذَا الْخِلَافِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْإِجْمَاعِ , لِأَنَّ إجْمَاعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا حَالَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَسَرَّ الْخِلَافَ وَلَمْ يُظْهِرْ , أَوْ لَا يَكُونُ حُجَّةً , فَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ أَيْضًا , وَإِنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَصْلًا , لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ : بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ قَدْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ .
           وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَضِلَّ الْقَائِلُ بِهِ , أَوْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِيهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا : أَنْ يَكُونَ الْجَمَاعَةُ فِي حَيِّزِ الضَّلَالِ أَوْ الْخَطَأِ , وَالْوَاحِدُ فِي حَيِّزِ الصَّوَابِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً , لِوُقُوعِ الصَّوَابِ فِي خَبَرِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ . فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ( بِأَنَّهُ ) مِمَّنْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ مِنْهُ , عَلِمْنَا : أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ دُونَ الْجَمَاعَةِ . وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ تَرْتَدَّ الْجَمَاعَةُ وَيَبْقَى الْوَاحِدُ عَلَى الْإِيمَانِ . وَلَوْ جَازَ وُقُوعُ هَذَا بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ لِعَدَمِ  مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي نَقْلِهَا . وَلَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْبَاقِي مَحْكُومًا لَهُ بِاسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَلَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ بِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِجْمَاعِ . وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ لَا يَرْتَكِبُهُ ذُو بَصِيرَةٍ .
           وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّفَرَ الْيَسِيرَ يَجُوزُ ( أَنْ يَكُونَ ) بَاطِنُهُمْ خِلَافَ ظَاهِرِهِمْ , وَأَنْ ( لَا ) يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْإِيمَانِ فِي الْحَقِيقَةِ . وَجَائِزٌ أَيْضًا : أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا صِحَّةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ , وَمَنْ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ : بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ , وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ : أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ , وَكَمَا تَعْلَمُ يَقِينًا : أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } فَوَجَبَ اتِّبَاعُ مَنْ عُلِمَ الْحَقُّ فِي حَيِّزِهِ وَنَاحِيَتِهِ , دُونَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ مِنْهُمْ .
            قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ دَلَالَةً مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ : فِي إثْبَاتِ خِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ , وَإِنْ خَالَفَتْهُ الْجَمَاعَةُ .
     قِيلَ لَهُ : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت , لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ : عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ , لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِمْ تَقْلِيدُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِلَا نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ , فَصَارَ شَرْطُ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ مُضْمِرًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ , وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ : عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا قَالَتْ قَوْلًا وَانْفَرَدَ عَنْهَا الْوَاحِدُ وَالنَّفَرُ  الْيَسِيرُ : أَنَّهُمْ شُذُوذٌ , لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ , وَإِنَّمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ , وَأَنَّهُ سَائِغٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي اتِّبَاعِ أَحَدِهِمْ , عَلَى حَسَبِ مَا يَقُودُهُ إلَيْهِ الدَّلِيلُ , وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ جَمِيعًا .
            وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْلَهُ : ( فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ ) يَنْفِي جَوَازَ اتِّبَاعِ الْوَاحِدِ وَتَرْكَ الْجَمَاعَةِ , فَوَجَبَ : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ ) مَحْمُولًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا يَكُونُ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهَا , وَفِي الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَسُوغُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ , وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ , لَكَانَ مَنْ اقْتَدَى بِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُصِيبًا بِاقْتِدَائِهِ فِي كُلِّ حَالٍ , وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي أُمُورٍ , تَحَزَّبُوا فِيهَا , وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ , وَخَرَجُوا إلَى الْقِتَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ , وَلَمْ يُسَوِّغُوا الْخِلَافَ فِيهِ . فَدَلَّ : عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم : { بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , فَيَجْتَهِدُ النَّاظِرُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ , غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهَا , وَلَا مُبْتَدِعٍ مَقَالَةً لَمْ يَقُولُوا بِهَا . وَنَظِيرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ خِلَافِ الْوَاحِدِ فِيمَا لَمْ يُسَوِّغْ الْجَمَاعَةُ خِلَافَهُ عَلَيْهَا : فَنَحْوُ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ , كَانَ فِي الصَّرْفِ يُجِيزُ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ , وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هَذَا الْقَوْلَ , فَرَجَعَ عَنْهُ . وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ , وَإِنْكَارِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
            وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَوْ أَنَّ قَاضِيًا ( قَضَى ) بِجَوَازِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ , أَبْطَلْت قَضَاءَهُ , لِأَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ : قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى بُطْلَانِهِ . قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَاضِيًا جَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ , أَبْطَلْت قَضَاءَهُ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ سِوَى ابْنِ مَسْعُودٍ , قَدْ أَجْمَعَتْ : عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
            وَرُوِيَ أَيْضًا  فِيهِ حَدِيثٌ { فِي قِصَّةِ مَوْلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ نِصْفَ مِيرَاثِهِ لِبِنْتِهِ , وَنِصْفَ مِيرَاثِهِ لِابْنَةِ حَمْزَةَ } .
           قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذِهِ مِنْ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي أَنْكَرَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ , وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ خِلَافَهُمْ فِيهِ .
   فَأَمَّا مَا سَوَّغُوا فِيهِ خِلَافَ الْوَاحِدِ إيَّاهُمْ , وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَكِيرٌ عَلَيْهِ :
    فَنَحْوُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي مَنْعِ الْعَوْلِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ , وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ , وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : فِي أَنَّهُ لَا يُزَادُ بَنَاتُ الِابْنِ عَلَى تَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ , وَأَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ , فَأَظْهَرُوا خِلَافَ الْجَمَاعَةِ ( بِحَضْرَتِهَا ) , وَلَمْ تُنْكِرْهُ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِمْ , وَسَوَّغُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ , فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ , وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ . فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ .
            قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَسَمِعْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَحْكِي عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي - وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ مِمَّنْ جَالَسَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ - فَذَكَرَا أَنَّ أَبَا حَازِمٍ كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ اجْتِمَاعُهَا حُجَّةً , لَا يَتَّسِعُ خِلَافُهَا فِيهِ , وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي , وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ : لَمْ يُعْتَدَّ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافًا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي  الْأَرْحَامِ , وَحَكَمَ بِرَدِّ أَمْوَالٍ قَدْ كَانَتْ حَصَلَتْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُعْتَضِدِ بِاَللَّهِ : عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . فَرَدَّهَا إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ , وَقَبِلَ الْمُعْتَضِدُ فُتْيَاهُ وَأَنْفَذَ قَضَاءَهُ بِذَلِكَ , وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ . وَبَلَغَنِي : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَقَالَ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعُدُّ زَيْدًا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ , وَإِذَا لَمْ أَعُدَّهُ خِلَافًا فَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ . فَقَدْ نَفَذَ قَضَايَ بِهِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ بِالْفَسْخِ .
   فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ :
           وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَقَالَ قَائِلُونَ : إذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ , أَوْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَانْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ فِي عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ لِلْقَائِلِ بِهِ - فَهُوَ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا حَتَّى يَكُونَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ , وَيَكُونُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ , فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ نَفَرًا يَسِيرًا , وَالسَّاكِتُونَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ , فَلَيْسَ يَنْعَقِدُ بِهَذَا إجْمَاعٌ , وَإِنْ تَرَكَتْ الْجَمَاعَةُ إظْهَارَ الْخِلَافِ .
           قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرًا يَسِيرًا : هَذَا إجْمَاعٌ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ : مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ , أَوْ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ ظُهُورَ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الْقَائِلَةِ بِهِ , وَانْتِشَارَهُ فِي الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ إظْهَارٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ خِلَافًا , وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِجْمَاعِ وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِعَيْنِهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ , وَفِي وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ بُطْلَانُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّتِهِ , وَلُزُومِ حُجَّتِهِ , وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ اللَّه تَعَالَى بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَيَأْمُرَنَا بِلُزُومِهِ ( وَاعْتِبَارِهِ ) ثُمَّ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ , وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ . فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ صَحَّ الثَّانِي , وَهُوَ : أَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْقَوْلِ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ . ثُمَّ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافٌ عَلَى الْقَائِلِينَ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ وَنَفَرًا يَسِيرًا , وَانْتَشَرَ قَوْلُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ , لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِخِلَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ وَتَرْكِ إظْهَارِهِ , إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ قَوْلِهِمْ وَمَعْلُومٌ : أَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ وَتَعَارُفَهُمْ , أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ هِمَمُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ خِلَافٍ هُمْ مُعْتَقِدُونَ لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ . فَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُمْ بَعْدَ انْتِشَارِ الْمَقَالَةِ وَظُهُورِهَا فِيهِمْ مُوَافَقَةٌ مِنْهُمْ لِلْقَائِلِينَ .

بَابُ الْقَوْلِ فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ

  	 اخْتَلَفَ ( الْعُلَمَاءُ ) فِي وَقْتِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ مَا دَامُوا بَاقِينَ , حَتَّى يَنْقَرِضَ أَهْلُ الْعَصْرِ , مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يَظْهَرُ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ , وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَلَا مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ ثَانٍ مُخَالَفَتُهُمْ . انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ , أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا .
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا , وَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ مِنْ قِبَلُ : إنَّ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةَ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ قَدْ أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ , مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ , وَلَا حَالٍ مِنْ حَالٍ . فَثَبَتَ حُجَّةُ إجْمَاعِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ , بِمُقْتَضَى الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ أَبَدًا , لِأَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ إذَا أَجْمَعُوا ثُمَّ لَا يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ مَا دَامُوا أَحْيَاءَ فَجَائِزٌ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ مَنْ يُسَوَّغُ لَهُ الْقَوْلُ مَعَهُمْ , وَالْخِلَافُ عَلَيْهِمْ , فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِخِلَافِهِ , كَمَا كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ  وَالْحَسَنُ , فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ يُفْتُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ , وَيُخَالِفُونَهُمْ , وَيُسَوِّغُ الصَّحَابَةُ لَهُمْ ذَلِكَ , كَمَا سَوَّغُوا خِلَافَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ , فَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا : أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِانْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّ هُنَاكَ مِنْ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ فِي حُكْمِهِمْ , وَفِي مِثْلِ حَالِهِمْ فِي جَوَازِ إعْرَاضِهِ بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَالُوهُ . فَإِنْ كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ , فَوَاجِبٌ أَلَّا يَصِحَّ ( ذَلِكَ ) الْإِجْمَاعُ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَعَهُمْ , لِأَنَّهُمْ قَدْ يُلْحَقُ بِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مَنْ يُخَالِفُ , عَلَيْهِمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْصَارِ , فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , فَلَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَنَا حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ بِمَا قَدَّمْنَا , عَلِمْنَا : أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ , انْقَرَضَ أَهْلُ الْعَصْرِ , أَوْ لَمْ يَنْقَرِضُوا , وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ : أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ , وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ .
              وَأَيْضًا : فَلَمَّا ثَبَتَ : أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَحَيْثُمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ , وَوُجُوبِ الْحُجَّةِ , لِأَنَّ حُجَجَ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلَهُ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْأَزْمَانِ وَالْأَوْقَاتِ : كَنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِيمَا لَا يُوجِبَانِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . وَأَيْضًا : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ صَحِيحًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ : لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ خَطَأً وَضَلَالًا , وَقَدْ أَمِنَّا وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَسَائِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ }  وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ } وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ عَنْ وَقْتٍ , وَلَوْ جَازَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ - لَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا مَعَ انْقِرَاضِهِمْ , وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ .
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ خَالَفَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ( أَنَّهُ قَالَ ) : ( أَجْمَعَ رَأْيِ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ : أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ , ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي الْعَطَاءِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إجْمَاعٌ قَطُّ , لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ , وَقَالَ لَهُ : أَتَجْعَلُ مَنْ لَا سَابِقَةَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَذِي السَّابِقَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ إجْمَاعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ . وَأَمَّا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ ( وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ رَأَيْت : أَنْ أَرِقَّهُنَّ ) , وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : ( رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ دَلِيلٌ أَنَّهُ ) رَأَى جَوَازَ بَيْعِهِنَّ , لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ رَقِيقًا , وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا , مِثْلُ الرَّهْنِ , وَالْمُسْتَأْجَرَة , وَهِيَ عِنْدَنَا رَقِيقٌ , وَلَا نَرَى بَيْعَهَا . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا أَفَادَ بِقَوْلِهِ : رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ : أَنَّ لِلْمَوْلَى وَطْأَهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَأَخْذَ أَكْسَابِهَا , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَرِقَّاءِ , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت : أَنْ أَبِيعَهُنَّ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ هُوَ الْأَوَّلُ , وَأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ : رَأَيْت أَنْ أَبِيعَهُنَّ : إنَّمَا هُوَ لَفْظُ الرَّاوِي , حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ , لَمَّا ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ( أَنْ ) أَرِقَّهُنَّ : يُوجِبُ جَوَازَ بَيْعِهِنَّ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ جَائِزٌ لَهُمْ خِلَافُهُمْ , فَهَلَّا جَوَّزْت لَهُمْ الْخِلَافَ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِمْ إيَّاهُمْ ؟ ؟  قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ خِلَافُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ , الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , كَمَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ , مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ ( إجْمَاعٌ ) , فَإِذَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخِلَافِ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ , وَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ - فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ أَبَدًا .
       فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ جَعَلْت قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ ؟ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ فِيهَا - لَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ الْمُخَالِفِ حُجَّةً ( عَلَى الْآخَرِينَ .
       قِيلَ لَهُ : لَمْ نَجْعَلْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ , وَإِنَّمَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ فِي الْجَمَاعَةِ حُجَّةً ) عَلَيْهِمْ جَمِيعًا , وَ ( لَوْ ) لَمْ يَكُونُوا قَدْ وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ بَدِيًّا , لَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ .

فَصْلٌ

          وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ , فَقَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ , وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِخِلَافِهَا , وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْهَا , ثُمَّ انْقَرَضَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبَقِيَتْ الْأُخْرَى - فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي شَيْءٍ جَرَوْا فِيهِ إلَى تَأْثِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَلَمْ يُسَوِّغُوا اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِيهِ , فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْبَاقِيَةَ يَكُونُ إجْمَاعُهَا حُجَّةً , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهَا زَمَانٌ , وَهِيَ قَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا وَصَوَابًا , وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا سَوَّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ , وَأَبَاحُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ , فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِبَقَاءِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ , قَالَ : لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا قَدْ أَجْمَعُوا بَدِيًّا عَلَى تَسْوِيغِ الِاخْتِلَافِ , وَوَسَّعُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ , وَهَذَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ .
        قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ . وَسَنَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي خِلَافِ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ

    	إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ , وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْكَثْرَةِ فِي حَدٍّ يَنْعَقِدُ بِمِثْلِهَا الْإِجْمَاعُ لَوْ لَمْ يُخَالِفْهَا مِثْلُهَا . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ وَهُمْ الْحَشْوُ . قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ إجْمَاعٌ , وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ .
           وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ الْحَقَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَلِيلِ , بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِي حَدٍّ مَتَى أَخْبَرَتْ عَنْ اعْتِقَادِهَا لِلْحَقِّ , وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهَا , وَقَعَ الْعِلْمُ بِاشْتِمَالِ خَبَرِهَا عَلَى صِدْقٍ , عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ .
           وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْنَى عَلَى الْقَلِيلِ , وَمَدَحَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ } وَ قَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ,  وَآيَاتٌ نَحْوُهَا يَذُمُّ فِيهَا الْكَثِيرَ , وَيَمْدَحُ الْقَلِيلَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ . قِيلَ : وَمَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } 
 وَقَالَ : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ }
وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْزِعُهُ مِنْ النَّاسِ , وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا } 

وَقَالَ عليه السلام { سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً , كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً } فِي أَخْبَارٍ نَحْوِهَا , تُوجِبُ تَصْوِيبَ الْأَقَلِّ , وَتَقْلِيلَ الْأَكْثَرِ , فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا , وَيَجِبُ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ , وَقَدْ ارْتَدَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنَعُوا الصَّدَقَةَ , وَكَانَ الْمُحِقُّونَ - الْأَقَلَّ , وَهُمْ الصَّحَابَةُ , وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَةِ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدَ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ مُلُوكِ بَنِي مَرْوَانَ , وَالْأَقَلُّ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ , وَمَعْلُومٌ : أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ الْأَقَلِّ , دُونَ الْأَكْثَرِ .

        فَإِنْ قِيلَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ , وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } .
وَقَالَ : { يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ } 
وَقَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } , فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ .
       قِيلَ لَهُ : فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا جَمَاعَةٌ , فَلِمَ اعْتَبَرْت الْأَكْثَرَ ؟ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ } يَعْنِي إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ , فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمَا , وَلُزُومِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ , أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ : إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا إلَّا الْوَاحِدُ , وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } مَعْنَاهُ : مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي أُصُولِ اعْتِقَادَاتِهَا , فَلَا تُنْقِضُوهُ وَتَصِيرُوا إلَى خِلَافِهِ , وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلٍ بَاطِلٍ فَقَدْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ , إمَّا فِي جُمْلَةِ اعْتِقَادِهَا , أَوْ فِي تَفْصِيلِهِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

 	( زَعَمَ قَوْمٌ ) مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُسَوِّغُ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ , وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ : أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرُ النَّاسِ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ , وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ .   
            وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ جَمِيعَ الْآيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ , لِأَنَّ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } خِطَابٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الِاسْمِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } قَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سَائِرَ الْأُمَمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ ( بِهَا ) عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ .  وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ , لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي قوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وقوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ , فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ , كَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ , لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً , لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ , لَجَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَ الْكُوفَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ , فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهَا .
             وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً , لَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , فَلَمَّا لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ , دَعَا سَائِرَ الْأَمْصَارِ إلَى اعْتِبَارِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ . دَلَّ ذَلِكَ : عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ , لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ , بَلْ إجْمَاعُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ ظَاهِرٌ فِي تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِأَهْلِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ مَعَهُمْ , وَأَجَازُوا لَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُمْ . فَقَدْ حَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
           وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةً , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ , كَمَا أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ لَمَّا كَانَ حُجَّةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ , لَوَجَبَ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ , وَمَعْلُومٌ : أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَجْهَلُ النَّاسِ , وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا , وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْآنَ إجْمَاعُ مَنْ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ : أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .  قِيلَ لَهُ : أَفَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ . فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَاعْتَبِرْ إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ التَّابِعِينَ , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْعِلْمَ عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
    وَأَيْضًا : فَلَيْسَ يَخْلُو إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مِنْ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَوْضِعِ , أَوْ بِالرِّجَالِ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ , فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَوْضِعِ , فَالْمَوْضِعُ مَوْجُودٌ , فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ . وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ . ( وَإِنْ اُعْتُبِرَ ) بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَوْضِعِ , فَإِنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْكُوفَةَ هُمْ عُمْدَةُ أَهْلِ ( عِلْمِ ) الدِّينِ وَأَعْلَامُهُ . مِنْهُمْ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , وَابْنُ مَسْعُودٍ , وَحُذَيْفَةُ , وَعَمَّارٌ , وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ , وَآخَرُونَ , مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ . وَقِيلَ : إنَّهُ نَزَلَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ , فِيهِمْ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا , فَلِمَ خَصَصْت بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ ؟ دُونَ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ ؟ وَلِخَصْمِك أَنْ يُعَارِضَك فَيَقُولَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ , دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ , وَهُمْ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ .
          فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا خَصَصْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ , لِأَنَّهَا دَارُ السُّنَّةِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ , وَلِأَنَّ سَائِرَ النَّاسِ عَنْهُمْ أَخَذُوا , كَمَا كَانَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ , لِأَنَّهُمْ عَنْهُمْ أَخَذُوا .
        قِيلَ لَهُ : فَتَعْتَبِرُ إجْمَاعَ ( أَهْلِ ) الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ثَبَتُوا بِالْمَدِينَةِ , وَلَمْ يَخْرُجُوا  عَنْهَا دُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا , وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ؟ أَوْ تَعْتَبِرُ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ كَانُوا بَعْدَ الصَّحَابَةِ ؟
 فَإِنْ قَالَ : أَعْتَبِرُ إجْمَاعَهُمْ خَاصَّةً فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ , وَبَعْدَهُمْ , وَلَا أَعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهَا , قَالَ قَوْلًا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ , وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ , لِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ , فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُجْعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , ( وَعَبْدُ اللَّهِ ) بْنُ مَسْعُودٍ , وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ , وَنُظَرَاؤُهُمْ , خِلَافًا , وَكَفَى بِهَذَا خِزْيًا لِمَنْ بَلَغَهُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْأَصْلِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّمَا اعْتَبَرْت إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ فَهَلَّا اعْتَبَرْت إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ , لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؟ . 
         وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ سَائِرَ النَّاسِ لَمَّا أَخَذُوا عَنْهُمْ ( وَجَبَ ) لُزُومُ اتِّبَاعِهِمْ , كَمَا لَزِمَ التَّابِعِينَ اتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا عَنْهُمْ .
     قِيلَ لَهُ : فَإِنَّ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَخَذُوا عَمَّنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَاعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
         فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , لِأَنَّ { النَّبِيَّ عليه السلام دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَدَحَهُمْ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَفِي مُدِّهِمْ } , وَقَالَ : { مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ } , وَقَالَ : { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } , وَقَالَ : { إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } , فَإِذَا كَانَ  النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَهُمْ , وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ , وَمَدَحَهُمْ - وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ , لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو لَهُمْ وَلَا يَمْدَحُهُمْ إلَّا وَهُمْ مُؤْمِنُونَ .
        قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً , وَكَيْفَ وَجْهُ تَعَلُّقِ صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ بِهِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الثَّلْجُ } , لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِلَافِ ( عَلَيْهِمْ ) إرَادَتُهُمْ بِسُوءٍ , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ اخْتَلَفَتْ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي اجْتَهَدُوا فِيهَا آرَاءَهُمْ قَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِسُوءٍ .
         وَأَيْضًا : فَإِنَّمَا دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُهَاجِرِينَ وَأَنْصَارًا , وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَدِينَةِ , ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كُنْت إنَّمَا جَعَلْت إجْمَاعَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً , فَهَذَا مَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ , وَإِنْ أَرَدْت إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت بَعْدَ ذَهَابِ الصَّحَابَةِ ؟ . ( وَمَعْنَى ) قَوْلِهِ : { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } : إنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ , هَاجَرَ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُونِ الشِّرْكِ , فَلَمَّا زَالَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ زَالَ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْدَ زَوَالِ الْهِجْرَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ فِي قَبِيلَتِهِ وَحَيِّهِ وَبَلَدِهِ , وَلَا يُهَاجِرَ إلَيْهَا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ , لَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ الْآنَ . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَهْلَ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الدِّينِ , وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ , وَعَدَمِ الْخَيْرِ مَا اسْتَوْلَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
         فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ , وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكًا شَاهِرًا سَيْفَهُ } وَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى حِرَاسَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُمْ , وَأَنَّهُ قَدْ أَبَانَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ , فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ .
        قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي هَذَا مَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْت , وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحْرُوسَةً سَوَاءٌ صَارَ أَهْلُهَا إلَى الضَّلَالِ , أَوْ ثَبَتُوا عَلَى الْحَقِّ ؟ كَمَا حَرَسَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ , وَكَانُوا مُشْرِكِينَ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا بِأَنَّ عَلَى أَنْقَابِهَا الْمَلَائِكَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَصَرَهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ حِرَاسَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِالْمَلَائِكَةِ , وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا , فَيَكُونُ حُكْمُ الْخَبَرِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ

 	 إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى أَقَاوِيلَ مَعْلُومَةٍ , لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ : أَنْ يَخْرُجَ عَنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ , وَيُبْدِعَ قَوْلًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ , وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي ذِكْرِ أَقْسَامِ أُصُولِ الْفِقْهِ . فَقَالَ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ .
          وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ 
مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وقوله تعالى : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } , وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ أَقَاوِيلِ الْجَمْعِ , اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَمُخَالَفَةُ مَنْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ , لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِدَلَالَةِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ : أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ , فَلَوْ جَازَ إبْدَاعُ قَوْلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ , لَمَا أَمِنَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ , وَأَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ , فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ , وَذَلِكَ مَأْمُونٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ .
           فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت ( لَا ) يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ : أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ , لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ مُصِيبِينَ , وَمَنْ يَقُولُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ أَيْضًا مُصِيبًا , إذَا كَانُوا حِينَ اخْتَلَفُوا فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ . 
          قِيلَ لَهُ : مَا ذَكَرْت مِنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : لَا يَعْصِمُ الْقَائِلَ مِمَّا  أَلْزَمْنَاهُ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ , فَقَدْ أَجْمَعُوا : عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا خَطَأٌ , سَوَاءٌ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ , أَوْ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا , وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا , كَمَا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ , كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ , بِأَنَّ مَا عَدَاهُ خَطَأٌ , وَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , فَالْإِلْزَامُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِمَنْ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , وَلِمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ : قَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ , وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ قَدْ عُرِفَتْ , فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ , وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ أَوْلَى , فَلَوْ قَالَ بَعْدَهُمْ قَائِلٌ : إنِّي أَجْعَلُ الْمَالَ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ , كَانَ مُخْطِئًا فِي قَوْلِهِ , مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ , وَلَوْ سَاغَ مَا قَالَ هَذَا السَّائِلُ , لَسَاغَ مُخَالَفَةُ إجْمَاعِهِمْ الْوَاقِعِ عَنْ اجْتِهَادٍ , لِأَنَّهُمْ حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ , فَقَدْ سَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهَا , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُبِيحًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ , كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ , وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ , فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ إذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ : عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ - إلَّا مَا قَالُوهُ - مَانِعًا مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي التَّابِعِيِّ هَلْ يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى الصَّحَابَةِ

	 قَالَ أَصْحَابُنَا : التَّابِعِيُّ الَّذِي قَدْ صَارَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا , يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ , كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ خِلَافُ الصَّحَابِيِّ إلَّا لِصَحَابِيٍّ مِثْلِهِ .
             وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ سَوَّغَتْ لِلتَّابِعِينَ مُخَالَفَتَهُمْ , وَالْفُتْيَا بِحَضْرَتِهِمْ , وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِمْ , مَعَ إظْهَارِهِمْ لَهُمْ الْمُخَالَفَةَ فِي مَذَاهِبِهِمْ , أَلَا تَرَى : أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ رضي الله عنهما قَدْ وَلَّيَا شُرَيْحًا الْقَضَاءَ , وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ , مَعَ إظْهَارِهِ الْخِلَافَ عَلَيْهِمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ .
       فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَلَّوْهُمْ الْحُكْمَ لِيَحْكُمُوا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ .
   قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّ فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ , ( فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك ) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ , وَلَا الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ , وَخَاصَمَ عَلِيٌّ عليه السلام إلَى شُرَيْحٍ وَرَضِيَ بِحُكْمِهِ , حِينَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ , وَشَاوَرَ عُمَرُ رضي الله عنه كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ , وَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فِي الْكَوْنِ عِنْدَهَا , فَجَعَلَ لَهَا كَعْبٌ قِسْمًا وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعٍ . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : ( تَذَاكَرْت أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ , وَأَبُو هُرَيْرَةَ , عِدَّةَ الْحَامِلِ , الْمُتَوَفَّى عَنْهَا  زَوْجُهَا . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " آخِرُ الْأَجَلَيْنِ " وَقُلْت أَنَا : عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا , فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي ) وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : ( كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ , قَالَ : فَصَنَعَ لَنَا مَرَّةً طَعَامًا , فَجَعَلَ يَسْأَلُ وَيُفْتِي فَكَانَ يُخَالِفُنَا , فَمَا كَانَ يَمْنَعُنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّا ( كُنَّا ) عَلَى طَعَامِهِ ) , وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ , فَقَالَ : ( سَلُوا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ , فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي ) وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ , فَقَالَ : ( سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ ) . وَأَيْضًا : كَانَ التَّابِعِيُّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِدْرَاكِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَكَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ , لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْخِلَافُ عَلَى مِثْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِي التَّابِعِيِّ : وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ , وَهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ .
          فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَخْصُوصُونَ بِالْفَضْلِ دُونَهُمْ , وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ } وَقَالَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } , وَقَالَ : { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُمْ لَمْ يَجُزْ : أَنْ يُسَاوِيَهُمْ أَحَدٌ فِي مَنْزِلَةٍ .
         قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْفَضْلُ فَمُسَلَّمٌ لَهُمْ , إلَّا أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي ذَكَرْت لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً  فِي مَنْعِ خِلَافِ الْمَفْضُولِ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مُتَفَاضِلُونَ , وَأَفْضَلُهُمْ : الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ , بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَقَدْ سَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لِمَنْ دُونَهُمْ مَعَهُمْ , وَمُخَالَفَتَهُمْ , مِثْلِ : ابْنِ عُمَرَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَأَنَسٍ رضي الله عنهم , وَلَوْ كَانَ الْفَضْلُ مُوجِبًا لَهُمْ التَّفَرُّدَ بِالْفُتْيَا - لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَقَوْلُهُ عليه السلام : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَقُولَ : مَعَهُمَا مِنْ دُونِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ التَّابِعِيُّ .
         فَإِنْ قِيلَ : لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ , لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلِمَ بِمُشَاهَدَتِهِ مَصَادِرَ قَوْلِهِ وَمَخَارِجَهُ , وَمِنْ بَعْدِهِمْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ , فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُزَاحِمُوهُمْ .
        قِيلَ لَهُ : مَا ( عَرَفَهُ الصَّحَابِيُّ ) بِالْمُشَاهَدَةِ , قَدْ عَرَفَهُ التَّابِعِيُّ بِسَمَاعِهِ مِمَّنْ نَقَلَهُ إلَيْهِ , فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّحَابِيِّ فِي هَذَا الْوَجْهِ , لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي , إطْلَاقِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ لِيَشْتَرِكَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فِي مَعْرِفَتِهِ , وَلُزُومِ حُكْمِهِ , إلَّا وَذَلِكَ اللَّفْظُ مَتَى نُقِلَ يُفِيدُ الْغَائِبَ مَا أَفَادَهُ الشَّاهِدُ , وَلَا يَجُوزُ : أَنْ يُخَصَّ الشَّاهِدُ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ , بِمَا لَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ , إذَا نُقِلَ عَنْهُ , إلَّا وَحُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الشَّاهِدِ , وَمَخْصُوصٌ بِهِ , دُونَ الْغَائِبِ . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ ( عُمُومَ الْحُكْمِ ) فِي الْفَرِيقَيْنِ , فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَمَخَارِجِ اللَّفْظِ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ عليه السلام وَبَيْنَ غَيْرِهِ , أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا , ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا . فَرُبَّ  حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ , وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَجَعَلَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْغَائِبَ أَفْقَهَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى خِطَابِهِ مِنْ السَّامِعِ .
       وَأَيْضًا : فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَالْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ , لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ الْفُتْيَا مَعَ مُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم , فَلَيْسَ مُشَاهَدَتُهُ إذًا عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الِاخْتِصَاصِ بِالْفُتْيَا , وَمَنَعَ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ الْقَوْلَ مَعَهُ , وَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ التَّابِعِيُّ : أَنْ يَقُولَ فِي الْفُتْيَا , وَيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ , وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الصَّحَابَةَ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ

	  إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ وَانْقَرَضُوا , ثُمَّ أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ - فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ , وَيَسَعُ كُلَّ أَحَدٍ خِلَافُهُ بِبَعْضِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالَ بِهَا أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : فَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْأَوَّلَ . وَإِنْ كَانَ خِلَافًا يُؤَثِّمُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ فَإِنَّ إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُسْقِطُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ .
            قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةٌ لَا يَسَعُ مَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافُهُ , قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - فِي قَاضٍ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا : إنِّي أُبْطِلُ قَضَاءَهُ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ , ثُمَّ أَجْمَعَ بَعْدَ ذَلِكَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ ( عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ لَا تُبَاعُ , وَلَا تُورَثُ , لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَائِهِمْ ) فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا , وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضَلَالَةٍ , وَقَالَ مُحَمَّدٌ : فَكُلُّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ , وَتَرْكِ قَوْلِ الْآخَرِ , فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ , إلَى يَوْمِنَا هَذَا , فَعَمِلَ بِهِ عَامِلٌ الْيَوْمَ وَقَضَى بِهِ , فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِقَاضٍ وَلِيَ هَذَا أَنْ يُجِيزَهُ , وَلَكِنْ يَرُدُّهُ وَيَسْتَقْبِلُ فِيهِ الْقَضَاءَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . 
             قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَقَدْ بَانَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ , بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ اخْتِلَافٌ فِي بَابِ وُجُوبِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي ( بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ) وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ , لَا يَدُلُّ عَلَى : أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَصَلَ فِي مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ إجْمَاعًا صَحِيحًا , يَلْزَمُ صِحَّتُهُ , وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ اتِّبَاعُهُ , إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ : أَنَّهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ , وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ , فَكَانَ يَذْكُرُ لِذَلِكَ وَجْهًا ذَهَبَ عَنِّي حِفْظُهُ , وَاَلَّذِي يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ : إنَّ مَنَازِلَ الْإِجْمَاعَاتِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَنَازِلِ النُّصُوصِ , يَكُونُ بَعْضُهَا آكَدَ مِنْ بَعْضٍ , وَيُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا , وَلَا يَجُوزُ فِي تَرْكِ بَعْضٍ .
        أَلَا تَرَى : أَنَّ النَّصَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ حُجَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي مَعْنَاهُ , وَإِنْ كَانَ حُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَنَا ثَابِتَةً , كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِجْمَاعَاتِ , فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ , وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فِي بَابِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي , بِخِلَافِ أَحَدِهِمَا وَمَنْعِهِ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ , وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ , وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ , أَوْ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ , وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَدْ سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ , وَقَدْ سَوَّغَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَأَبَاحُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ , فَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُمْ , وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي خِلَافِهِ لَا يُفْسَخُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي , وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ عَصْرٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ , فَيُفْسَخُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ , لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُخَالِفُ فِيهِ , وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ - هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا - لَا نَعُدُّهُمْ خِلَافًا , فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا : ( أَنَّهُ ) لَيْسَ فِي مَنْعِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فَسْخُ قَضَاءِ  الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ - دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ إجْمَاعًا صَحِيحًا .
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ : أَنَّ سَائِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ الْحَادِثِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ , وَذَلِكَ أَنَّ قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وقوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَلُزُومِ حُجَّتِهِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ( صِحَّتِهِ وَلُزُومِ ) حُجَّتِهِ , وَإِنْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ , إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ جَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ الشَّكُّ فِي تَصْوِيبِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى اتِّبَاعِهِ , لَبَطَلَ وُقُوعُ الْعِلْمِ : بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) تَعَالَى , مُتَمَسِّكِينَ بِالْحَقِّ غَيْرِ مُبْطِلِينَ وَلَا ضَالِّينَ , وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ .   
             فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا اخْتَلَفُوا وَسَوَّغُوا الِاجْتِهَادَ فِيهِ , صَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِلَافِ , وَتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ , فَقَدْ صَارَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ - حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَقْتٍ , فَهُوَ ثَابِتٌ أَبَدًا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ , وَالنَّسْخُ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
              قِيلَ لَهُ : تَسْوِيغُهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مَعْقُودٌ بِبَقَاءِ الْخِلَافِ وَعَدَمِ الْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ , فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ : أَنَّ تَسْوِيغَهُمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ مُضَمَّنٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ .  أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ لَوْ اخْتَلَفُوا , ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ كَانَ إجْمَاعُهُمْ قَاطِعًا لِاخْتِلَافِهِمْ بَدْءًا , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ اخْتِلَافٌ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ إنَّمَا حَصَلَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , أَلَا تَرَى : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عليه السلام فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : ( مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ) , ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه , فَانْحَسَمَ ذَلِكَ الْخِلَافُ , وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ .
          وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ , ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قِتَالِهِمْ , فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ قَاطِعًا لِلْخِلَافِ السَّابِقِ لَهُ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قِسْمَةِ السَّوَادِ , ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ قِسْمَتِهِ , فَكَانَ إجْمَاعًا صَحِيحًا , لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَتُهُ .   
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا : إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَقْطَعُ الِاخْتِلَافَ , لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ , فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَبِرُ انْقِرَاضَ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ , فَإِنَّهُ يَأْبَى أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ إجْمَاعَهُمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إجْمَاعًا صَحِيحًا يَلْزَمُ حُجَّتُهُ , لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ , فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْإِجْمَاعُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ . وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ انْعِقَادَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الِاخْتِلَافِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ , وَهُوَ كَمَا تَقُولُ فِي الْمُجْتَهِدِ : إنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ( بَعْدَ ذَلِكَ ) , وَكَانَ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ مُضَمَّنًا بِبَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ , فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى قَوْلٍ آخَرَ , حَرُمَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ , فَكَانَتْ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ حُكْمِهِ مَوْقُوفًا عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِهِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ : إنَّ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ , فَمَتَى  حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَوْلٍ مِنْهَا زَالَ الْخِلَافُ , وَثَبَتَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ .
          ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الْقَائِلُ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يُحِيلَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ , وَيَمْنَعَ كَوْنَهُ , أَوْ يُجِيزَ وُقُوعَهُ , إلَّا أَنَّهُ ( لَا ) تَثْبُتُ حُجَّتُهُ , وَلَا يُرْفَعُ ( الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِهِ ) , فَإِنْ أَحَالَ وُجُودَ إجْمَاعٍ بَعْدَ اخْتِلَافٍ كَانَ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ , فَإِنَّا نُوجِدُهُ , ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ , وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ وُجُودَهُ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُجَّتُهُ , فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ نَفْيَ صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ , وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الْقَوْلِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ , وَمَا كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَعْصَارِ , وَلَوْ جَازَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْخَطَأِ فِي عَصْرٍ , لَجَازَ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْخَطَأِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ . وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ عَلِمْت بُطْلَانَهُ . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَّةِ , لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا فِي ثُبُوتِ حُجَّتِهِمَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ حُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِهِ , إلَّا فِيمَا يَجُوزُ ( نَسْخُهُ ) وَتَبْدِيلُهُ . وَالْإِجْمَاعُ مِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِيهِ , لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَبِرُهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
           فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ صَوَابًا , وَيُسَوَّغُ الْخِلَافُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ  سَبَقُوهُمْ بِهِ , كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الِاجْتِهَادِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ جَائِزٌ لَهُ الْقَوْلُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ .
         قِيلَ لَهُ : وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ الْإِجْمَاعِ رَأْسًا , لِأَنَّ كُلَّ إجْمَاعٍ يَحْصُلُ عَلَى قَوْلٍ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي خِلَافُهُ , وَيَكُونُ كُلُّهُ جَائِزًا , وَلَا يُقَدَّمُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ , لِأَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا قُلْت فِي الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا , وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَمَّا مَا وَعَدْنَا إيجَادَهُ مِنْ حُصُولِ إجْمَاعَاتٍ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ شَائِعٍ فِي عَصْرٍ مُتَقَدِّمٍ . فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى , وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا نُبَيِّنُ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ أَبَى وُجُودَهُ , فَمِنْ ذَلِكَ : 
        قَوْلُ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ فِي عِدَّتِهَا : ( إنَّ مَهْرَهَا ( يُجْعَلُ ) فِي بَيْتِ الْمَالِ ) , وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ . وَقَالَ عَلِيٌّ : الْمَهْرُ لَهَا , بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا , فَهَذَا قَدْ كَانَ خِلَافًا مَشْهُورًا فِي السَّلَفِ , وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ إذَا وَجَبَ فَهُوَ لَهَا , لَا يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ . 
        وَمِنْهُ : قَوْلُ ( ابْنِ ) عُمَرَ , وَالْحَسَنِ , وَشُرَيْحٍ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَطَاوُسٌ , فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ . وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ بَعْدَ هَذَا الِاخْتِلَافِ , أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
            وَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا . فَقَالَ عُمَرُ , وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخَرِينَ : ( أَجَلُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ) . وَقَالَ عَلِيٌّ , وَابْنُ عَبَّاسٍ : ( عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ ) , وَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حَاجَّ فِيهِ  بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَفِيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْته ) : أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } : نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ : أَنَّ عِدَّتَهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا .
 وَقَالَ عُمَرُ , وَابْنُ مَسْعُودٍ , وَابْنُ عَبَّاسٍ , وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ , وَمَسْرُوقٌ , وَطَاوُسٌ : أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ مُبْهَمَةٌ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ . وَقَالَ عَلِيٌّ , وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , ( وَمُجَاهِدٌ ) : هُنَّ كَالرَّبَائِبِ , لَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالْوَطْءِ , وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا , وَإِنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ الْأُمَّ , وَهَذَا أَيْضًا كَانَ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي السَّلَفِ , وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ .
         وَقَالَ عَلِيٌّ , وَعُمَرُ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ , وَسَعْدٌ , وَشُرَيْحٌ : بَيْعُ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا , وَقَالَ ( ابْنُ ) مَسْعُودٍ , وَابْنُ عَبَّاسٍ , وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ , وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ , وَابْنُ عُمَرَ , وَأَنَسٌ , وَجَابِرٌ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَالْحَسَنُ : بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا . وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يُفْسِدُ نِكَاحَهَا .
             وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ , تَفُوقُ الْإِحْصَاءَ , وَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا , وَإِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا أَهْلَ الْأَعْصَارِ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي قَالُوا بِهَا , فَلَوْ جَازَ مُخَالَفَتُهُمْ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ ( لَخَرَجَ إجْمَاعُهُمْ ) مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسَعُ خِلَافُهُ , وَلَا نَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأٌ , وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا , مِمَّا كَانَ السَّلَفُ اخْتَلَفُوا فِيهَا .
           فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا : لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَسَوَّغُوا فِيهِ  الِاجْتِهَادَ , وَأَنَّهُمْ سَوَّغُوا 

مَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ , لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ : إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً مَا لَمْ يَحْصُلْ خِلَافٌ , فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَهُمْ خِلَافٌ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَيْثُمَا وُجِدَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى : كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : إنَّهُ حُجَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ خِلَافٌ . وَأَمَّا تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا , فَيُقَالُ : إنَّ الِاجْتِهَادَ سَائِغٌ , مَا لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ , أَوْ إجْمَاعٌ فَإِذَا وُجِدَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ سَقَطَ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي أَمْرِ الْجَنِينِ , حَتَّى لَمَّا أَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ بِنَصِّ السُّنَّةِ . قَالَ : ( كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِرَأْيِنَا , وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) .

           وَكَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ , فَإِنَّمَا جَوَازُ اجْتِهَادِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , فَإِنْ اجْتَهَدَ ثُمَّ وَجَدَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا بِخِلَافِهِ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ , وَصَارَ إلَى مُوجِبِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , فَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَتَسْوِيغُهُمْ الْخِلَافَ فِيهِ , مَعْقُودٌ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ : وَهُوَ أَنْ ( لَا ) يَحْصُلَ بَعْدَهُ إجْمَاعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ فِي وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ ( عَلَى التَّسْوِيَةِ ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ

 	   قَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا ( أَجْمَعَ ) أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمِ شَيْئَيْنِ , فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى فَقَالَ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ فِي وُجُوبِ تَوْرِيثِهِمَا , أَوْ حِرْمَانِهِمَا , وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَالْخَالَةُ , فَمَنْ وَرَّثَ الْخَالَ وَرَّثَ الْخَالَةَ , وَكَذَلِكَ مَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ وَرَّثَ الْخَالَةَ , وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدَهُمَا وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ لِبَيْتِ الْمَالِ , لَمْ يُوَرِّثْ الْآخَرَ .
                وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ , فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْجَمِيعِ , وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ جَمِيعًا .
             فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِهِمْ : عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا قَالُوا , فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إحْدَاثُ مَذْهَبٍ غَيْرِ مَذَاهِبِهِمْ .
        قِيلَ لَهُ : فَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ الْقَوْلُ بِلُزُومِ إجْمَاعِهِمْ , وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ وَلَا يَعْدُوهُمْ , فَوَاجِبٌ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا , لِحُصُولِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّسْوِيَةِ , فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُمْ . 
       فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا سَوَّوْا بَيْنَهُمْ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ , فَتَحْتَاجُ أَنْ نَطْلُبَ الدَّلِيلَ ( فِي إيجَابِ التَّسْوِيَةِ أَوْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ .   قِيلَ لَهُ : فَقُلْ مِثْلَهُ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ وَقَعَ مِنْهُمْ , إنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لِدَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ فَتَحْتَاجُ أَنْ تَنْظُرَ فِي الدَّلِيلِ ) فَإِنْ صَحَّ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ , وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ , وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ

	   إذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمِ شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَاخْتَلَفُوا عِنْدَ حُدُوثِهِ , فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ : نَحْوُ احْتِجَاجِ مَنْ يَحْتَجُّ فِي الْمَاءِ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ : أَنَّهُ طَاهِرٌ , لِإِجْمَاعِنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَبْلَ حُدُوثِ النَّجَاسَةِ فِيهِ , ( فَنَحْنُ ) عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يُزِيلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ , وَكَمَنْ يُجِيزُ لِلْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْمُضِيَّ فِيهَا . وَيَحْتَجُّ : أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ , فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ صَلَاتِهِ , حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِهِ , وَكَمَنْ احْتَجَّ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ , فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ , حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ بَيْعِهَا . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ .
               قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا ( عِنْدَنَا ) مَذْهَبٌ سَاقِطٌ , مَتْرُوكٌ , لَا يَرْجِعُ الْقَائِلُ بِهِ إلَى تَحْصِيلِ دَلَالَتِهِ مَتَى حُقِّقَتْ عَلَيْهِ مَقَالَتُهُ , ذَلِكَ : ( أَنَّهُ ) لَا يَخْلُو : مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَقَعَ الْخِلَافُ , إنَّمَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلُزُومُهُ لِأَجْلِ وُقُوعِ  الِاتِّفَاقِ , أَوْ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ , فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إنَّمَا ثَبَتَ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْخِلَافُ مِنْ أَجْلِهِ لِلْإِجْمَاعِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ وَلَا إجْمَاعَ فِيهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَعْنَى , فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَهُ ؟ وَقَوْلُهُ : وَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ خَطَأٌ , لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ . فَيُقَالُ فِيهِ : نَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ , لِأَنَّ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ قَدْ زَالَ , فَإِنْ بَنَيْت مَوْضِعَ الْخِلَافِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْصُوصِ , فَأَرِنَا وَجْهَ بِنَائِهِ , مَقْرُونًا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا حَكَمْت بَدْءًا فِي حَالِ مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ , بِدَلَالَةٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ , وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ . قِيلَ لَهُ : فَأَظْهِرْ تِلْكَ الدَّلَالَةَ حَتَّى تُنَوِّرَهَا , فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ كَإِيجَابِهَا لَهُ ( قَبْلَهُ ) حَكَمْنَا لَهُ ( بِحُكْمِهِ ) , وَإِلَّا فَقَدْ أَخْلَيْت قَوْلَك مِنْ دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ , وَحَصَلْت فِيهِ عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ . وَعَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ يُمْكِنُ عَكْسُهَا عَلَى الْقَائِلِ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ , فَيَلْزَمُهُ بِهَا ضِدُّ مُوجِبِ حُكْمِهَا الَّذِي رَامَ إثْبَاتَهُ . فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهَا . نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ ( فِيهِ ) : إنَّهُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ , لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ حُلُولِهَا فِيهِ , فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ , حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ , فَنَقْلِبَ عَلَيْهِ , هَذَا فِي الْمُحْدِثِ إذَا تَوَضَّأَ بِهَذَا الْمَاءِ , أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعْنَا قَبْلَ طَهَارَتِهِ بِهَذَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِطَهَارَةٍ صَحِيحَةٍ , وَاخْتَلَفْنَا بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ , هَلْ صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي بَقَاءِ الْحَدَثِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ , حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى زَوَالِ حَدَثِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ , فَقَدْ اتَّفَقْنَا : ( عَلَى ) أَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ , وَاخْتَلَفْنَا إذَا بَنَى عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ , فَنَحْنُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي  بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ .
              فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ : إنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا , فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ , حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ , وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ النَّافِيَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ , فَنَقُولُ لَهُ : فَأَقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِك لِلنَّفْيِ , لِأَنَّ اعْتِقَادَك لِنَفْيِ الْحُكْمِ : هُوَ إثْبَاتُ حُكْمٍ . فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الِاعْتِقَادُ ؟ فَإِنَّك لَا تَأْبَى مِنْ إيجَابِ ( الدَّلِيلِ ) عَلَى الْمُثْبِتِ . وَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْقَائِلِ : بِأَنَّا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ : إنَّك قَدْ أَثْبَتّ حُكْمًا لِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ , فَهَلُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ , إلَى أَنْ نَرْجِعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي فَيَلْزَمُك مَا أَلْزَمْنَاهُ , وَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ : مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ .
            فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا كَانَتْ الْحَالُ الْأُولَى يَقِينًا , لَمْ يَجُزْ لَنَا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ : أَنْ نَزُولَ عَنْهَا بِالشَّكِّ , لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ ( فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى .
          قِيلَ لَهُ : الْيَقِينُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّكِّ ) فَقَوْلُك لَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ خَطَأٌ , وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِزَوَالِ حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا بِغَيْرِ يَقِينٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَقَدْ كَانَ كُفْرُهُنَّ يَقِينًا , فَأَزَالَهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْيَقِينِ بِزَوَالِهِ , لِأَنَّ إظْهَارَهُنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِيَقِينٍ أَنَّهُنَّ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ , فَحَكَمَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ , وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ مِنَّا بِحَقِيقَتِهَا , إلَّا مَا أَظْهَرُوا مِنْ التَّوْبَةِ , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : فِي قَوْمٍ آخَرِينَ : { سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا  عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ } فَأُمِرْنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِتَوْبَتِهِمْ , وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمٍ آخَرِينَ : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } فَوَقَفَ أَمْرُهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ التَّوْبَةَ , فَحَكَمَ فِي هَؤُلَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ : قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ . وَمَنْعِ قَبُولِ تَوْبَةِ آخَرِينَ . وَوَقْفِ أَمْرٍ فَرِيقٍ آخَرَ , فَلَمْ يَأْمُرْ بِأَنْ يُحْمَلُوا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ يَقِينًا , وَأَمَرَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ : عَلَى الْحُقُوقِ , وَالْقَتْلِ , وَالزِّنَا , وَغَيْرِهِمَا . مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدَّمِ , وَالْمَالِ , وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ , وَلَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ , وَأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ , وَالْمَالُ كَانَ يَقِينًا , فَأَزَالَ ذَلِكَ الْيَقِينَ بِمَا لَيْسَ بِيَقِينٍ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ , أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِبَاحَتِهَا , وَتَرْكِ مَسْأَلَةِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا بُلِيَ بِهِ مِنْ النَّازِلَةِ .
               فَإِنْ احْتَجَّ الْقَائِلُ بِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّاكِّ فِي الْحَدَثِ : أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ طَهَارَتَهُ الَّتِي كَانَتْ , وَلَا يَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ , وَبِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ الشَّاكَّ فِي صَلَاتِهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ } , بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ : عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ , فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ عَلَى مَا كَانَتْ , وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا : مِنْ وُجُوبِ الْبِنَاءِ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْخِلَافِ , وَبَقَاءِ حُكْمِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِهِ . 
        قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ , لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمَةٌ , فَوَجَبَ عِنْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ , فَإِنْ وَجَدْنَا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ دَلِيلًا مِنْ  الْإِجْمَاعِ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ وَوُجُوبُ مُسَاوَاتِهِ لَهُ بَنَيْنَاهُ عَلَيْهِ , وَإِلَّا اعْتَبَرْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ , فَحَكَمْنَا بِمَا يُوجِبُهُ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , وَأَمَّا الشَّاكُّ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَدَثِ , وَالشَّاكُّ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ , فَلَيْسَ عَلَى مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ , وَيُرَدُّ عَلَيْهِ , فَحُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( فِيهِ ) مِنْ ذَلِكَ بِإِلْغَاءِ الشَّكِّ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ , وَاتَّبَعْنَاهُ , وَلَمْ يَجُزْ لَنَا رَدُّ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إلَيْهِ .
            وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ : مَا نَقُولُهُ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ , وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ , فَمَتَى عَدِمْنَا التَّوْقِيفَ وَقَفْنَا عِنْدَ الْإِجْمَاعِ , وَأَلْغَيْنَا الْمُخْتَلَفَ فِيهِ , إذْ لَا سَبِيلَ إلَى اعْتِبَارِ مِقْدَارِهِ بِمَقَادِيرَ غَيْرِهَا فِي الْأُصُولِ , مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , وَذَلِكَ نَحْوُ مَا نَقُولُهُ فِي مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ , وَفِي مِقْدَارِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ : إنَّهُ يَجُوزُ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ , وَإِلْغَاءُ الْخِلَافِ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَى الْأَصْلِ , إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا : طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ , أَوْ الْإِيقَافُ , وَقَدْ عَدِمْنَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ

	  قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : كَثِيرًا مِمَّا أَرَى لِأَبِي يُوسُفَ فِي إضْعَافِ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ : الْقِيَاسُ كَذَا , إلَّا أَنِّي تَرَكْته لِلْأَثَرِ , وَذَلِكَ الْآثَرُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ .
         قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ ( كَانَ ) يَرَى " أَنَّ " تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : أَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْمَذْهَبُ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ , إنَّمَا الَّذِي يُحْفَظُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَالَ : إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ , وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ .
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : ( إنَّ الْقِيَاسَ ) فِيمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَقْتَ صَلَاةٍ : أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ ( عَنْ عَمَّارٍ : أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَى ) , فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ لِفِعْلِ عَمَّارٍ , وَكَانَ أَبُو عُمَرَ الطَّبَرِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ : أَنَّ قَوْلَ  الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ , يُتْرَكُ لَهُ الْقِيَاسُ , إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ , قَالَ : وَكَانَ يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّحَابِيِّ أَرْجَحُ مِنْ قِيَاسِنَا وَأَقْوَى , لِعِلْمِهِمْ بِأَحْوَالِ الْمَنْصُوصَاتِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي كَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مُخْبَرِهِ . كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِنَا - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى رَأَيْنَا . قَالَ : وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ نَصًّا وَتَوْثِيقًا , وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَهُ اجْتِهَادًا , فَصَارَ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِ , وَتَرْكِ قَوْلِنَا لِقَوْلِهِ .
            قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ , وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ ( وَرَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ ) , عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , , وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ , وَكَانَ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : بِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ , فَيَكُونُ تَقْلِيدُهُ إيَّاهُ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ , يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ أَقْوَى وَأَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ . 
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يُقَوِّي مَا حَكَيْنَاهُ : مِنْ حِجَاجِ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ , وَيَكُونُ لِتَقْدِيمِ قِيَاسِ الصَّحَابِيِّ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِنَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ بِمُشَاهَدَتِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم , وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ النُّصُوصِ , وَمَا نَزَلَتْ فِيهِ , وَعِلْمِهِ بِتَصَارِيف الْكَلَامِ , وَوُجُوهِ الْخِطَابِ  الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عِلْمُنَا وَمَعْرِفَتُنَا , فَيَكُونُ قِيَاسُهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا .
         وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًالِهَذَا الْقَوْلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرَ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا , إذَا اتَّفَقَا عَلَى قَوْلٍ , إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ : عَلَى أَنَّهُمَا إذَا خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْلِيدُهُمَا فَخَصَصْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ , , وَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا إذَا أَجْمَعَا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمَا , وَإِذَا لَزِمَ تَقْلِيدُهُمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا - لَزِمَ . تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا , وَأَحَدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ , لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
                 وَيَدُلُّ أَيْضًا : قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ , وَأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ هُدًى , وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْهُدَى لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
               وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , وَلِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِي إثْبَاتِهِ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً , لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُخَالَفَتُهُ , كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمَا .
            فَقِيلَ لَهُ : بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ , وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْنَا . فَمَا أَنْكَرَتْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً , وَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً عَلَيْنَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ , 
           فَأَجَابَ بِأَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِلْجَمَاعَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ .
          قَالَ : وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا : أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ , فَيُخَالِفُهُمْ بَعْدَ  مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُمْ , فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ , وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَلَا يُنْقِضُهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ , فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ , فَلِذَلِكَ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ .
        قَالَ : وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ . ( أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَصَبْت الْحَقَّ , أَوْ كَلَامًا نَحْوَهُ , فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ , وَلَكِنْ لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ ) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , فِي قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا ( فِي الْجَدِّ ) : لَيْسَ رَأْيِي حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ , فِي نَفْيِ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمْ . فَإِذَا لَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى النَّاسِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ؟
            قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يَحْتَمِلُ : أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا مَنَعَتْ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ , أَوْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فَأَخْبَرُوا : أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِيهَا , وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ دُونَ التَّقْلِيدِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرَى قَبُولَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ , ( لَازِمًا ) فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ , وَالِاجْتِهَادِ . وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا , وَيَذْكُرُ مَسَائِلَ قَالُوا فِيهَا بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَلُزُومِ قَبُولِ قَوْلِهِ , نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام : لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ ( إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ) وَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ : أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ , وَأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ ( وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِ ( فِي أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ) , وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ  رضي الله عنها : أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِمِقْدَارِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ ) .
             قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ وَكَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ , ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابِيَّ قَدْ قَطَعَ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ , دَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ : عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ تَخْمِينًا وَتَظَنُّنًا , فَصَارَ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ إنَّمَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ فِيهِ , وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ تَوْقِيفًا .
           قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالرَّأْيِ وَأَنَّ طَرِيقَهُ التَّوْقِيفُ : أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , لَيْسَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ ( بَيْنَ ) قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ , وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ , فَيَكُونُ مَوْكُولًا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ , وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأٌ , كَمَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ , الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ , وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ , وَمَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ , وَمِقْدَارِ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ , لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ , كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . 
         فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تُثْبِتُونَ أَنْتُمْ مَقَادِيرَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى . فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ : ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ , وَقَالَ فِي الْغُلَامُ  إذَا لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا , وَلَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ ( شَيْءٍ مِنْ ) هَذِهِ الْمَقَادِيرِ , وَلَا اتِّفَاقَ , فَأَثْبَتُوهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ . وَإِذَا كَانَ الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ يَدْخُلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ , لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَالَتْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ . فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَوْقِيفٌ . 
     قِيلَ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ , لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى , لَا عَلَى , جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ , وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ عُرِفَ , أَوْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ , فَوَكَّلَ حُكْمَ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إلَى آرَائِنَا وَمَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا يُوجِبَانِ حَدَّ الزِّنَا ( مِائَةَ جَلْدَةٍ ) , وَلَا حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ , وَلَا يَدُلَّانِ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا , وَلَا عَلَى مَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا , لِأَنَّهَا كُلُّهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةٌ . كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَذَمِّ التَّقْلِيدِ

  	اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَإِثْبَاتِ حُجَجِ الْعُقُولِ . فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ : النَّظَرُ وَاجِبٌ , وَحُجَجُ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ , تُعْرَفُ بِهَا صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ فَاسِدِهَا . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ : لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي تَصْحِيحِ شَيْءٍ وَلَا إفْسَادِهِ , وَإِنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ , وَمَشْهُورٌ عَنْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : بُلْ عَلَى الْعُقُولِ . وَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِ : أَنَّ حُجَّةَ الْعُقُولِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ .
         قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْقَائِلُونَ بِنَفْيِ حُجَجِ الْعُقُولِ إنَّمَا يَنْفُونَهَا بِالْقَوْلِ , فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِي نَفْيِهَا وَالْحِجَاجُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْهُ , لِأَنَّ ذَلِكَ صُورَتُهُ فِي عُقُولِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ , إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ , وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ خَفِيٌّ . فَالْجَلِيُّ مِنْهُ : لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الشَّكُّ فِيهِ , وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي نَفْيِهِ .  وَالْخَفِيُّ مِنْهَا : قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ شُبْهَةٌ يَتْبَعُهَا النَّاظِرُ , فَيَذْهَبُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ , وَأَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ هَذَا لِمَنْ نَظَرَ فِي الْفُرُوعِ قَبْلَ إحْكَامِ الْأُصُولِ , أَوْ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ . أَلَا تَرَى : أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ وَلَا تَعْرِضُ لَهُ شُبْهَةٌ : فِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ , أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا , لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِقَادُ لِصِحَّتِهِمَا جَمِيعًا , كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ : زَيْدٌ فِي الدَّارِ ( فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ) . وَقَالَ آخَرُ : لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الدَّارِ ( فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ) إنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صَادِقَيْنِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَادِقًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا , وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ طَرِيقُهُ الْعَقْلُ . وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ لَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخَبَرِ وَاقِعٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ , وَمَنْ نَفَى هَذَا فَهُوَ كَنَافِي عُلُومِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَاتِ . وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ مَا يَدُقُّ وَيَلْطُفُ , فَيَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأَمُّلِ . كَالشَّخْصِ إذَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ , وَكَالْهِلَالِ إذَا طَلَبْنَاهُ , فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ , وَرُبَّمَا كَانَ إدْرَاكُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ الشَّدِيدِ , وَكَذَلِكَ عُلُومُ الْعَقْلِ : فِيهَا جَلِيٌّ , وَفِيهَا خَفِيٌّ .
             وَيُبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا : أَنَّ الْعِلْمَ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ , كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَاتِ , وَكَالْعِلْمِ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادَاتِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَبِيلُ إدْرَاكِهَا الْعَقْلُ ( لَكَانَ الْإِنْسَانُ وَالْبَهِيمَةُ ) بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ , فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا تَعْلَمُهُ الْبَهِيمَةُ إذَا كَانَتْ عُلُومُهُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ حَوَاسُّهُ .
           وَتَبَيَّنَ : أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُجَجِ الْعُقُولِ ضَرُورَةٌ إذْ كُلُّ مَنْ نَفَاهَا فَإِنَّمَا يَنْفِيهَا بِحُجَجِ  الْعُقُولِ , وَبِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَيَحْتَجُّ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ بِالْعُقُولِ , وَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ لِلتَّقْلِيدِ بِالتَّقْلِيدِ نَفْسِهِ , إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةً لِنَفْسِهَا , فَإِنَّمَا يَفْزَعُ إلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّقْلِيدِ , فَيَقُولُ : إنَّ ( النَّظَرَ بِدْعَةٌ , وَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الْحِيرَةِ , وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ , وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا , فَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ الْمُقَلِّدَ وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ إنَّمَا يُثْبِتُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْفِيهِ , كَمَا أَنَّ النَّافِيَ لِعُلُومِ الْحِسِّ إنَّمَا يَرُومُ نَفْيَهَا بِحِجَاجٍ وَنَظَرٍ هُوَ دُونَ عُلُومِ الْحِسِّ فِي مَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ وَالْوُضُوحِ , فَيَقُولُ : إنَّمَا أَبْطَلَتْ عِلْمَ الْحِسِّ , لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي النَّوْمِ مَا ( لَا ) يَشُكُّ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ , كَرُؤْيَتِهِ لِمَا يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ , ثُمَّ لَا يَجِدُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ لَهُ حَقِيقَةً , وَكَمَا يَرَى الْإِنْسَانُ السَّرَابَ , فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مَاءٌ , ثُمَّ إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا , وَكَالْمَرِيضِ يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا , فَلَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ , فَيَرُومُ إبْطَالَ ( عُلُومِ ) الْحِسِّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
           كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ : إنَّمَا يَفْزَعُ فِي إثْبَاتِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِ النَّظَرِ , إلَى النَّظَرِ وَالْحِجَاجِ , فَيُنَاقِضُ فِي مَذْهَبِهِ , وَيَهْدِمُ مَقَالَتَهُ بِحِجَاجِهِ . وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالنَّافِي لِحُجَجِ الْعُقُولِ : أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بِحُجَّةٍ , فَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , فَقَدْ حَكَمَ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْفَسَادِ , لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه : " حَدُّ الْبُلُوغِ " فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا , وَقَدْ عَلِمْنَا : أَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا , فَهَذَانِ الطَّرَفَانِ قَدْ عَلِمْنَا حُكْمَهُمَا يَقِينًا , وَوَكَّلَ حُكْمَ مَا بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ إلَى اجْتِهَادِنَا , إذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ , وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إجْمَاعٌ , فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ اجْتِهَادُهُ : أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْبُلُوغِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً . وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ قَوْلِهِ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا .
          وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْغُلَامِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ إنَّهُ ( قَدْ ) ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا  وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } فَذَكَرَ هَاهُنَا حَالًا لَا يُنْتَظَرُ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فَمَنَعَ إمْسَاكَ مَالِ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ , فَكَانَ هَذَانِ الطَّرَفَانِ اللَّذَانِ هُمَا : حَالُ الصَّغِيرِ , وَحَالُ بُلُوغِ الرُّشْدِ ( مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا , وَوَكَّلَ حَدَّ بُلُوغِ الرُّشْدِ ) إلَى اجْتِهَادِنَا . فَكَانَ عِنْدَهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً , فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ , لِأَنَّ مِثْلَهُ ( يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ) جَدًّا . وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ , وَلِوَلَدِهِ وَلَدٌ , فَكَذَلِكَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ( وَ ) فَارَقَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ .
          وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٌ : فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي مُدَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ : أَرْبَعِينَ يَوْمًا ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سُكُوتَهُ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَفْيِهِ , وَأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ , وَاعْتَبَرَ مُدَّةَ النِّفَاسِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْوِلَادَةِ , وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ , وَهَذَا نَظِيرُ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ , وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ , فَيَثْبُتُ مَقَادِيرُ الْقِيَمِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ لِمَا يَبْتَاعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ الْأَثْمَانِ , أَوْ مَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ النَّقْصِ بِالْجِرَاحَةِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فِي شَيْءٍ .
         وَإِنْ قَالَ : أَثْبَتَهُ بِحُجَّةٍ . قِيلَ لَهُ : فَمَا تِلْكَ الْحُجَّةُ ؟ فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا , أَوْ اتِّفَاقًا , فَلَمْ يَجِدْهُ , وَإِنْ فَزِعَ إلَى التَّقْلِيدِ , وَقَالَ : حُجَّتِي فِي إثْبَاتِهِ هُوَ التَّقْلِيدُ نَفْسُهُ , فَقَدْ أَبْطَلَ , لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً  لِنَفْسِهَا , وَهُوَ إنَّمَا ( يَسْأَلُ عَنْ ) التَّقْلِيدِ لِمَ قُلْت : إنَّهُ حُجَّةٌ . فَإِنْ قَالَ : هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْك فِي قَوْلِك بِحُجَجِ الْقَوْلِ , لِأَنَّا نَقُولُ لَك : أَثْبِتْ حُجَّةَ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ قُلْت : أُثْبِتُهَا بِغَيْرِ الْعَقْلِ , قُلْنَا لَك : فَأَظْهِرْهُ .
  وَإِنْ قُلْت : أُثْبِتُهَا بِالْعَقْلِ , فَفِي هَذَا نُوزِعْت , وَإِنَّمَا جَعَلْت الْمَسْأَلَةَ دَلِيلًا لِنَفْسِهَا .
 قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي هَذَا : أَنَّ اعْتِرَاضَك بِهِ احْتِجَاجٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ , وَمُنَاظَرَةٌ مِنْك فِي إفْسَادِ الْمَذْهَبِ , وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتٌ مِنْك لِحُجَّةِ الْعَقْلِ , فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت نَفْيَهَا أَثْبَتّهَا , وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك , عَلَى أَنَّا نُجِيبُك إلَى سُؤَالِك , وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لَك بِحَقِّ النَّظَرِ . فَنَقُولُ : إنَّا أَثْبَتْنَا دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِالْعَقْلِ , لِأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ : ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ , وَلَا يَشُكُّ فِيهِ . وَمِنْهُ غَامِضٌ خَفِيٌّ , فَوَصَلْنَا إلَى عِلْمِ الْخَفِيِّ مِنْهُ بِالْجَلِيِّ , وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْخَفِيِّ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُولِ إلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ , وَعَرَضَهُ عَلَى الْجَلِيِّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ . فَمَا صَحَّحَهُ صَحَّ , وَمَا نَفَاهُ انْتَفَى , كَمَا نَقُولُ فِي الْمَحْسُوبَاتِ : إنَّا أَثْبَتْنَا عُلُومَهَا بِالْحِسِّ , وَإِنْ احْتَجْنَا فِي الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْحِسِّ . أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ طَعَامٌ , لَا يَدْرِي حُلْوٌ هُوَ أَمْ حَامِضٌ : أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِ آلَةِ الْحِسِّ فِيهِ دُونَ ذَوْقِهِ , حَتَّى يَعْرِفَ طَعْمَهُ . كَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ : مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيٌّ , يُعْتَبَرُ بِهِ الْخَفِيُّ مِنْهُ , وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ . وَيُقَالُ لَهُ فِي النَّظَرِ وَمُوجِبِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ : خَبَرُنَا عَنْ قَوْلِك بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ , هُوَ مَذْهَبٌ قَدْ عَلِمْت صِحَّتَهُ , أَوْ لَمْ تَعْلَمْهَا . فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ , فَقَدْ قَضَى عَلَى اعْتِقَادِهِ بِالْفَسَادِ , لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ  اعْتِقَادُ صِحَّةِ ( شَيْءٍ ) وَلَا يَدْرِي هَلْ صَحِيحٌ أَمْ فَاسِدٌ . وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت صِحَّتَهُ . قِيلَ لَهُ : فَعَلِمْته بِدَلِيلٍ أَمْ بِلَا دَلِيلٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : عَلِمْته بِلَا دَلِيلٍ . قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ عَلِمْت صِحَّتَهُ ؟ وَإِنْ قَالَ : عَلِمْته بِدَلِيلٍ . قِيلَ لَهُ : فَقَدْ تَرَكْت التَّقْلِيدَ وَلَجَأْت إلَى النَّظَرِ , فَهَلَّا نَظَرْت فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدْت فِيهِ غَيْرَك فَاسْتَدْلَلْت عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ ؟ وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ التَّقْلِيدِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ , كَمَا أَثْبَتَّ التَّقْلِيدَ ضَرُورَةً , فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إثْبَاتُهُ , وَلِخَصْمِهِ مَعَ ذَلِكَ : أَنْ يُعَارِضَهُ فَيَدَّعِيَ عِلْمَ الضَّرُورَةِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ , وَوُجُوبِ النَّظَرِ , وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورَةً , فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ إذَا تَسَاوَوْا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ . 
         وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ : قَدْ وَجَدْنَا الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ مُخْتَلِفِي الْمَذَاهِبِ , مُتَضَادِّي الِاعْتِقَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَقْلِيدِهِمْ لِمَنْ اتَّبَعُوهُ . فَأَيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَضَادَّةِ الصَّحِيحُ ؟ وَأَيُّهَا الْفَاسِدُ ؟ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا كُلُّهَا فِي الصِّحَّةِ .
فَإِنْ قَالَ : مَذْهَبِي هُوَ الصَّحِيحُ , لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ , فَلِذَلِكَ كَانَ مَذْهَبِي صَحِيحًا , وَمَذْهَبُ غَيْرِي فَاسِدًا . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ صَارَ مَنْ قَلَّدْته مَذْهَبُك أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَلَّدَهُ خَصْمُك ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ , وَأَظْهَرُ صَلَاحًا .
قِيلَ لَهُ : فَتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَاعْتِقَادَ الْبَاطِلِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ قَدْ أَمِنْت جَوَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , فَقَدْ حَكَمَ لَهُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ , وَأَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ , وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِأَحَدٍ , إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .
وَإِنْ قَالَ : يَجُوزُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الضَّلَالِ , وَاخْتِيَارُ الْخَطَأِ , وَالْعُدُولُ عَنْ الصَّوَابِ .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلًا فِي تَقْلِيدِك إيَّاهُ , وَاعْتِقَادِك مَذْهَبَهُ , فَلَسْتَ إذًا عَلَى عِلْمٍ مِنْ صِحَّةِ قَوْلِك وَبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى  عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
          وَأَيْضًا : فَإِنَّك إذَا قَلَّدْت مَنْ لَا تَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ , فَقَدْ جَعَلْت مَنْزِلَتَهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوْلَى بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بَعْدَ إظْهَارِ الْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ , وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ , فَكَانَ عَلَيْك فِي هَذَا أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّك جَعَلْت مَنْزِلَةَ مَنْ قَلَّدْته بِغَيْرِ دَلَالَةٍ , أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ - فَمَنْ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ . 
           وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك صِحَّةَ حُجَجِ الْعُقُولِ : أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ فَهُوَ يَجِدُ نَفْسَهُ يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ , مَعْرِفَتِهِ الْحِسَّ وَالْخَبَرَ , كَمَا يَجِدُهَا تَفْزَعُ إلَى الْحَوَاسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ , وَإِلَى الِاسْتِخْبَارِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ . فَلَوْلَا أَنَّ النَّظَرَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ - لَمَا كَانَتْ تَفْزَعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ , كَمَا لَا تَفْزَعُ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الذَّوْقَ إلَى الشَّمِّ , وَلَا فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمَاعُ إلَى الذَّوْقِ , وَإِنَّمَا تَفْزَعُ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الطُّعُومِ إلَى الذَّوْقِ , وَفِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْأَلْوَانِ إلَى الْبَصَرِ , وَفِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ إلَى الِاسْتِمَاعِ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ : أَنَّ النَّظَرَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ , كَالْحِسِّ , قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِيَارًا وَسَبَبًا إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ أُمُورٍ بِهِ تُدْرَكُ . أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ , لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ , حَتَّى الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَبُ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ , يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ , كَمَا يَفْزَعُ إلَى الْحِسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ , وَإِلَى الْخَبَرِ فِيمَا ( طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ ) الْخَبَرُ .
         وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ , كَالنَّافِي لِعُلُومِ وَصِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ . لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى  ( قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ , كَمَا جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ الْحَوَاسَّ وَسَمَاعَ الْأَخْبَارِ ) .
 فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْحُمْقِ : إنَّمَا قُلْت بِالتَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ , لِأَنَّهُمْ أَمَرُونَا بِالِاتِّبَاعِ , وَنَهَوْنَا عَنْ الِابْتِدَاعِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ .
قِيلَ لَهُ : أَوَّلُ مَا فِي هَذَا , أَنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى السَّلَفِ , لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعْمَلُوا النَّظَرَ وَالرَّأْيَ فِي حَوَادِثِ أُمُورِهِمْ , وَلَا يَجْهَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ , وَأَحْسَبُ : أَنَّا قَدْ سَلِمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته عَلَى السَّلَفِ . فَخَبِّرْنَا مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك لُزُومُ تَقْلِيدِ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْت ؟ 

فَإِنْ قَالَ : لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت : أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ . قِيلَ : وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك صِحَّةُ الْكِتَابِ ( وَالسُّنَّةِ ) ؟ فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى إثْبَاتِ النَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ , لِأَنَّ بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّاتُ بِالدَّلِيلِ , وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ , لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِتَقْلِيدِ السَّلَفِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ , لِأَنَّ الدَّلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ , فَهُوَ مِمَّا اتَّبَعَ الدَّلَائِلَ , وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ النَّظَرِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلَالَةٌ . وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ نَفْيِ التَّقْلِيدِ وَإِثْبَاتِ ( النَّظَرِ ) , بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ : { وَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } , وَالِاعْتِبَارُ هُوَ : النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ . وَقَالَ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } إلَى قوله تعالى : { فَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم بِمُحَاجَّةِ الْكَافِرِ حَتَّى بُهِتَ الْكَافِرُ وَانْقَطَعَ , وَأَخْبَرَ عَنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ , فَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا } إلَى قوله تعالى : { إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ وَالْمَجُوس بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } . وَاحْتَجَّ عَلَى أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ بِقَوْلِهِ : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } إلَى قوله تعالى { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } فَأَدْحَضَ مَقَالَتَهُمْ , وَأَبَانَ عَنْ فَسَادِهَا بِأَنَّ هَذَا ( لَوْ كَانَ ) مِنْ طَبْعِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ - لَجَاءَتْ الطُّعُومُ مُتَسَاوِيَةً مُتَّفِقَةً , وَلَمْ يَتْرُكْ لِمُلْحِدٍ تَأَمَّلَهُ شُبْهَةً , وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } فَدَلَّهُمْ بِخَلْقِهَا ابْتِدَاءً , عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ إفْنَائِهَا , وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } فَحَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ , وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ . وَقَالَ تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ , مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَلَوْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ لَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَمَوَاضِعُ الْفِكْرِ .

          وَنَظَائِرُ ذَلِكَ : مِنْ الْآيِ , الَّتِي فِيهَا الْحِجَاجُ , وَالنَّظَرُ , وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ , وَالْفِكْرِ . كَثِيرَةٌ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا , وَإِلَى هَذَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى أَنْ قُبِضَ . وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ , قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ , خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ , نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مُتَّصِلًا , كَمَا نَقَلُوا دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ . وَإِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَقَلُوا مَعَهُ دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ . فَمَنْ أَنْكَرَ حُجَجَ الْعُقُولِ وَدَلَائِلَهَا , فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى اللَّهِ  تَعَالَى , أَوْ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ( لَنَا ) بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنُّبُوَّةِ , لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ , كَانَ أَمْرُهُ بِهِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ ( بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ) عَلَى التَّوْحِيدِ , وَعَلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُومٌ : أَنَّ أَمْرَهُ إيَّانَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ , لَمْ يَحْدُثْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلُ لَمْ تَكُنْ , وَأَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهَا قَبْلَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا , فَعَلِمْنَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهَا فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعُقَلَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا .
         وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ , وَجَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَدْعُو إلَى تَرْكِ التَّقْلِيدِ , وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ , إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } فَحَكَمَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ إلَى حُجَّةٍ تُصَحِّحُهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ الْمُقَلِّدِ . وَذَمَّ مَنْ احْتَجَّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ تَعَالَى: إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَجَعَلَ اللَّهُ تَارِكِي النَّظَرِ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ , وَبِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ . فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وَقَالَ تَعَالَى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ , وَصَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ , بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ , مِثْلُ الْبَهِيمَةِ , وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ  مَا خُوطِبَ بِهِ .
             وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ , إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْ إلَيْهَا , لِأَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا عَنْهَا بِالسَّمْعِ , وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ , لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِهَا , وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكْذِيبِ مُسَيْلِمَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ , وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ , وَلَا يَتَأَتَّى فِعْلُهُ لِمَخْلُوقٍ , وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ مَخَارِيقَ وَحِيَلَ لَا تَعُوزُ أَحَدًا صَرْفُ هِمَّتِهِ إلَيْهِ إلَّا فَعَلَ مِثْلَهُ وَأَضْعَافَهُ . وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يُضَاهِي قَوْلَ دَاوُد فِي قَوْلِهِ : إنِّي عَرَفْت اللَّهَ بِالْخَبَرِ . وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُقِرٌّ : أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى , لِزَعْمِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ , وَلَا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ , وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى عِلْمِ ذَلِكَ , إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ , وَلَا وُصُولَ إلَى عِلْمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ إلَّا بِالْعَقْلِ , وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذِبِ الْمُتَنَبِّي .
             وَعَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ , وَيَعْلَمَ النَّبِيَّ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنِّي عَرَفْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ , لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ خِذْلَانٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ , وَمِنْ جَهَالَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا نِهَايَةٌ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَعْرِفُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِانْضِمَامِ الْخَبَرِ إلَيْهَا , وَمَتَى لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْخَبَرُ لَمْ تَكُنْ الْعُقُولُ مُفْضِيَةً إلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ , وَإِلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ . 

قِيلَ لَهُ : هَذَا مُتَنَاقِضٌ , لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ادَّعَيْت أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِدَلَائِل الْعَقْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صَحِيحًا , أَوْ فَاسِدًا , أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ , لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَلَا فَسَادُهُ , فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَاسِدًا أَوْ كَاذِبًا , فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ ( بِمُخْبِرِهِ لِأَنَّ مُخْبِرَهُ كَذَبَ , وَالْخَبَرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ) , لِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ لَمْ يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ ( لَا ) يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ خَبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُ خَبَرِهِ , إذَا لَمْ تُرَاعَ صِحَّتُهُ فِي انْضِمَامِهِ إلَى دَلَائِلِ الْعُقُولِ . وَإِنْ كَانَ شَرْطُ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَصِدْقًا , فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ , فَيَحْتَاجُ أَوَّلًا أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ , فَقَدْ أُوجِبَ اسْتِعْمَالُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ , وَقَدْ اسْتَغْنَى الْعَقْلُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ عَنْ خَبَرٍ يُضَادُّهُ , فَتَنَاقَضَ قَوْلُك , وَظَهَرَ تَجَاهُلُك .

           وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ فِي الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , عَلَى مَا كَلَّفَنَا الْعِلْمُ بِهِ , مِنْ غَيْرِ شَرْطِ انْضِمَامِ خَبَرٍ إلَيْهِ .
          وَإِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ فِي قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي } إلَى قوله تعالى : { إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا } ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مُكَلَّفٍ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } إلَى قوله تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عليه السلام .
       فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَسْت أَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ وَالْعَقْلَ مَعًا يُحْدِثَانِ لِي الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ عِنْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَلَكِنِّي أَقُولُ : إنَّ الْخَبَرَ يُنَبِّهُ عَلَى النَّظَرِ , وَعَلَى اعْتِبَارِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ , وَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لِي سَبِيلٌ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا .
       قِيلَ لَهُ : فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّنَبُّهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , شَرْطُهُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ مَعْلُومًا , أَوْ جَائِزًا , لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ . وَأَيُّ خَبَرٍ كَانَ وَقَعَ بِهِ التَّنَبُّهُ ,  وَإِنْ كَانَ شَرِيطَةُ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ ( مَعْلُومًا صِحَّتُهُ ) عِنْدَك , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ , وَعَادَ عَلَيْك الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَعْلَمُ التَّوْحِيدَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ , وَإِنْ جَازَ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّنْبِيهُ , خَبَرَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا , فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ , لِوُجُودِ التَّنْبِيهِ فِي الْحَالَيْنِ , فَلَيْسَ يُفِيدُك الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ , إلَّا مَا يُفِيدُك الْخَوَاطِرُ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ , فَقَدْ اسْتَغْنَى بِالْخَوَاطِرِ عَنْ الْخَبَرِ , إذْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْلُو مِنْهُ , لِمَا يُرَى مِنْ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا , وَمَنْ لَمْ تُزْعِجْهُ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَلَمْ تَبْعَثْهُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ , فَخَبَرُ الْمُخْبِرِ لَهُ بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ . فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ وُجُودُ الْمُخْبِرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً . 
              وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّ الْعُلُومَ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ لَا يُوَصِّلَانِ إلَى عِلْمٍ يَرِدُ , لِنَصِّ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ , وَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَقُولُ : قَدْ أُلْهِمْت الْعِلْمَ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ .
       وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مِنْ أَيْنَ حَكَمَ بِأَنَّ مَا سَبَقْت إلَى اعْتِقَادِهِ هُوَ عِلْمٌ حَتَّى قَضَيْت بِأَنَّهُ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ , وَهَلَّا يُمْكِنُك الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ ضِدَّ مَقَالَتِك , وَيَدَّعِي أَنَّهُ إلْهَامٌ ؟ فَإِنْ ادَّعَى دَلَالَةً أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ - فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْإِلْهَامِ , وَرَجَعَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ . وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ - فَهُوَ وَخَصْمُهُ فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ . وَإِلَى ذَلِكَ يَئُولُ عَاقِبَةُ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابٌ الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ

 	 اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ : لَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِهِ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ , وَلَا فِي السَّمْعِيَّاتِ , وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ . وَقَالَ آخَرُونَ : عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ , وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَفَاهُ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ . وَقَالَ آخَرُونَ : عَلَى كُلِّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ , وَعَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ , وَذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ سَوَاءٌ .
              قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ , وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا , فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ اعْتِقَادِ ( صِحَّةِ ذَلِكَ ) . فَاقْتَضَى أَصْلُهُ وُجُوبَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ فِي إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يَرُومُ إسْقَاطَ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي , فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ لِذَلِكَ .
            وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ , قَدْ قَضَى لِخَصْمِهِ بِإِسْقَاطِ الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي نَفْيِ قَوْلِهِ , لِأَنَّ خَصْمَهُ نَافٍ لِصِحَّةِ مَقَالَتِهِ , وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إذًا فِي نَفْيِهِ مَقَالَتَهُ عَلَى أَصْلِهِ , وَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِ : بِأَنَّ النَّفْيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ , فَيُوجِبُ هَذَا تَنَاقُضَ الْقَوْلَيْنِ ,  لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ( فِي نَفْيِهِ ) لِمَا نَفَاهُ , وَلَا دَلِيلَ عَلَى خَصْمِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ صِحَّةِ قَوْلِهِ , وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ .
        وَيُقَالُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ : إذَا نَفَيْت حُكْمًا خُولِفْت فِي نَفْيِهِ , وَزَعَمْت أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فَهَلْ عَلِمْت صِحَّةَ مَا نَفَيْته ؟
فَإِنْ قَالَ : قَدْ عَلِمْت ( أَنَّ ) مَا نَفَيْته فَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
    قِيلَ لَهُ : بِمَ عَلِمْته وَخَصْمُك بِإِزَائِك يُخَالِفُك فِيهِ , وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بُرْهَانٍ .
  فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُهُ حَقًّا .
  قِيلَ لَهُ : فَلِمَ اعْتَقَدْته مَنْفِيًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ , وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ , وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) فَإِنْ جَازَ لَك أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَا تَعْلَمُهُ حَقًّا وَصَوَابًا إذَا كُنْت نَافِيًا , وَلَا تُلْزِمُ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ , فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتَ مَا لَا تَعْلَمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ حَقًّا , كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَى مَنْ نَفَى حَدَثَ الْعَالَمِ , وَنَفَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ , وَلَجَازَ لَهُ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ , وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَوْ نَفْيِهِ , وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ . 
          وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ نَفَى مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ دَلَالَةٍ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ . فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ فِيهِ : بِأَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى إثْبَاتِ الْمُثْبِتِ , وَنَفْيِ الْمُنْتَفِي بِمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ الْعَقْلُ . فَلِمَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَطَرِيقُهَا السَّمْعُ , وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي إثْبَاتِهِ , فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهَا  شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ , جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ , وَمَنْ ادَّعَى إثْبَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ , وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ . فَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِهَذَا الْقَوْلِ : إنَّك وَإِنْ كُنْت نَافِيًا لِلْحُكْمِ الَّذِي نَازَعَك فِيهِ خَصْمُك , فَإِنَّك مُثْبِتٌ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْك , وَإِنَّ نَفْيَ هَذَا الْحُكْمِ وَاجِبٌ . وَهَذَا شَيْءٌ طَرِيقُهُ السَّمْعُ , فَلِمَ ثَبَتَ اعْتِقَادُك كَذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك : إنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْمُثْبِتِ .
      ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إنَّ طَرِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَإِنْ كَانَ أُصُولُهَا السَّمْعَ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ فِي أُصُولِهَا دَلَائِلَ عَلَى فُرُوعِهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ , فَقَدْ جَرَتْ مَجْرَى الْعَقْلِيَّاتِ فِي وُجُوبِ دَلَائِلِهَا عَلَى الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ مِنْهَا , فَهَلَّا أَوْجَبْت إقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَيْت كَمَا أَوْجَبْتهَا عَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتّ ؟ .
           وَأَيْضًا : فَإِنَّك قَدْ اسْتَدْلَلْت عَلَى النَّفْيِ بِمَا ذَكَرْته : مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ النَّفْيُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السَّمْعُ , وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ , وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , فَقَدْ نَاقَضْت فِي قَوْلِك : إنَّ النَّافِيَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَيُقَالُ : هَلْ عَلِمْت : أَنَّ مَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْته ؟ فَإِنْ قَالَ عَلِمْته بِدَلَالَةٍ . قِيلَ لَهُ : فَأَنْتَ إنَّمَا نَفَيْته بِدَلَالَةٍ , فَأَظْهِرْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ . وَقَدْ تَرَكْتَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلَك لِإِقْرَارِك بِأَنَّ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلًا . فَإِنْ قَالَ : لَسْت أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ . قِيلَ لَهُ : فَنَفَيْتَهُ بِجَهْلٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْك بِنَفْيِ الدَّلَالَةِ , فَهَلَّا أَثْبَتَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِدَلَالَتِهِ ؟ وَكَيْفَ صَارَ النَّفْيُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِثْبَاتِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ . فَقَالَ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } فَعَنَّفَهُمْ  عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مَنْفِيًّا .وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ .
           وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ : أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي كِتَابِهِ , وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ , فَلَمْ يُخَصِّصْ بِالْبَيَانِ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ( لَمْ ) يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الْبَيَانِ فِي الْجَمِيعِ نَصًّا . وَإِنَّمَا أَرَادَ نَصًّا وَدَلِيلًا , وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا . فَهَلَّا طَلَبْت دَلَالَةَ النَّفْيِ فِي الْكِتَابِ : كَدَلَالَةِ الْإِثْبَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِدْرَاكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ , فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
       فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي , وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } , وَالنَّافِي مُنْكِرٌ , فَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَالْمُثْبِتُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ . قِيلَ : لَوْ اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ ( فِي ) دَحْضِ مَقَالَتِك , وَفَسَادِ أَصْلِك , كَانَ كَافِيًا , لِأَنَّك مُدَّعٍ لِنَفْيِ الْحُكْمِ بِإِنْكَارِك لَهُ , وَمُدَّعٍ لِبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك الْمُثْبِتِ لِمَا نَفَيْت , وَمُدَّعٍ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ , وَمُدَّعٍ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فِيمَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ . فَمِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ عَلَيْك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعَاوِيك هَذِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى } .
فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ , وَقَالَ : لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدَيْ  رَجُلٍ فَجَحَدَهُ : إنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ , وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ بَيِّنَةٌ , إذْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ مِثْلُهُ فِي مُنْكِرِ الْحُكْمِ وَالْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَيْضًا , فَأَنْتَ مُثْبِتٌ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا , فَأَلْزِمْ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا لِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا , وَلِمَ صِرْت بِإِسْقَاطِ الدَّلَالَةِ عَنْك أَوْلَى مِنْ حَيْثُ كَانَ مُثْبِتًا ؟ وَأَسْقَطْت عَنْ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُنْكِرًا ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ , وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ , إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ , وَمُدَّعِيًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيِّنَةَ عَلَى الَّذِي لَيْسَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ظَاهِرَةُ يَدِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ , فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ ظَاهِرَةِ الْيَدِ , وَالْخَارِجُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ , فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى بَيِّنَةٍ , وَأَمَّا الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ , فَلَيْسَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ , فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ .
      وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ مُدَّعِي الْمِلْكِ : أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا , وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ , فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ , وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِدَعْوَى صَاحِبِهِ , إذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ ( لَهُ ) .
        وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَلِّ الْمُنْكِرَ مِنْ يَمِينٍ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ , لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْخُصُومَةِ , فَهَلْ تُوجِبُ أَنْتَ عَلَى مُنْكِرِ الْحُكْمِ سَبَبًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ غَيْرَ نَفْيِهِ إيَّاهُ .
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يَجِيءُ مَسَائِلُ تُشَاكِلُ هَذَا الْبَابَ فِي إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي جَمِيعًا , بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي انْتَحَلَهُ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي النَّفْيَ إنْ كَانَ بَاقِيًا , وَالْإِثْبَاتُ إنْ كَانَ مُثْبَتًا , فَيَبْنِي الْقَائِلُ بِهِ مَقَالَتَهُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى  الْجُمْلَةِ الَّتِي تَفَرَّدَتْ . فَيَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ تَحْرِيمُهُ , أَوْ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ مَا أَرَدْت نَفْيَهُ , إذَا نَفَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِنَفْيِ أَحْكَامٍ هَذَا مِنْهَا , أَوْ يُعَلِّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ , إذَا رَامَ إثْبَاتَهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ : بِأَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ , لِأَنَّ الْمُثْبِتَ وَالنَّافِيَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْبَابِ , مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا نَفَاهُ أَوْ أَثْبَتَهُ , إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ : هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَسْنَدَ إلَيْهَا مَقَالَتَهُ , عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا .
      نَظِيرُ ذَلِكَ : أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ لَنَا : لِمَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْأَرْنَبِ ؟ لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ ; إذْ كَانَ الْأَصْلُ 

الْإِبَاحَةَ فِي مِثْلِهِ , فَمَنْ رَامَ الْعُدُولَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ , وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ خَطَرِهِ , فَإِذَا عَلَّقَهُ بِهَذَا الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَظْرِ , وَيَحْتَاجُ مُثْبِتُ الْحَظْرِ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعَى , فَلَا يَحْتَاجُ الْقَائِلُ بِالْإِبَاحَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى الْأَصْلِ , وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ الْمَسْئُولُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي إبَاحَتَهُ - لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ , لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ , لِأَنَّهُ يُقَالُ : أَفَتَثْبُتُ إبَاحَتُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ .

         وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؟ فَقُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ , وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ الْبُيُوعَ بِلَفْظٍ عَامٍّ , فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَمَنْ ادَّعَى الْحَظْرَ وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ , كَانَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ , وَإِلَّا فَالْحُكْمُ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ , كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا , وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمَسْئُولُ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ , وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى أَصْلٍ مِنْ عُمُومٍ أَوْ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ , لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقَوْلُ ( بِهِ ) , إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهِ , وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ . لَوْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ أَجَزْتُمْ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ ؟ جَازَ أَنْ تَقُولَ :  لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ , إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النِّكَاحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَمَنْ ادَّعَى حَظْرَ شَيْءٍ مِنْهُ , وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْعُمُومِ , احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ , وَإِلَّا فَأَنَا مُعْتَصِمٌ بِالظَّاهِرِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ خَصْمَهُ يَقُولُ ( لَهُ ) : فَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ . فَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِيهِ , وَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ حِينَئِذٍ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ . فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصِحُّ لِلْقَائِلِ فِيهِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُهُ , أَوْ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ ; إذْ عَلَّقَهُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ , عَلَى مَا بَيَّنَّا , وَيَكُونُ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ , هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ , وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ . ( وَ ) مَنْ رَامَ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ , احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ , وَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْأَصْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ .
             قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِمَّا يُضَاهِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِعَيْنِهِ : إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ , فَجَائِزٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ لِمَنْ أَثْبَتَ مِقْدَارًا قَدْ دَخَلَ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ , أَنْ يَقُولَ : أَثْبَتْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالِاتِّفَاقِ , وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَائِلُ عَلَى إثْبَاتِ مَا سِوَاهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ , إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ تَوْقِيفًا , وَلَا اتِّفَاقًا , وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ .
          نَظِيرُ ذَلِكَ : إنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ . ( فَقِيلَ لَنَا لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ , وَلَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ ؟ ) جَازَ لَنَا أَنْ نَعْتَصِمَ فِيهِ بِمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ , عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمِقْدَارَيْنِ يَكُونَانِ حَيْضًا .  وَنَقُولُ : إنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ اتِّفَاقٌ وَلَا تَوْقِيفٌ , فَلَمْ نُثْبِتْهُ , وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فَتَسُومُنَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . 
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَيَقُولُ لَك خَصْمُك : قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ تَرَى فِيهِ الدَّمَ , فَلَا أَزُولُ عَنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ مِثْلِهِ . فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمًا وَأَحَدًا , حَسْبَمَا ذَكَرْته مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ .
      قِيلَ لَهُ : لَمْ تُؤْمَرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى جِهَةِ الْقَطْعِ مِنَّا بِكَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا , وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا أَمْرًا مُرَاعًا , وَالثَّلَاثَةُ وَالْعَشَرَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ , لَا عَلَى جِهَةِ الْمُرَاعَاةِ وَالتَّرَقُّبِ بِحَالٍ ثَانِيَةٍ . 
      أَلَا تَرَى : إنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ أَوَّلِ صَلَاةِ حَضَرَ وَقْتُهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَةُ الدَّمِ ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوَقْتِ حَيْضًا , وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُنَا إيَّاهَا بِذَلِكَ مُرَاعًا وَمُتَرَقَّبًا بِهِ حَالًا ثَانِيَةً عِنْدَ مُخَالِفِينَا , كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي رُؤْيَةِ الدَّمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً , مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ , وَأَمَّا إذَا صَارَتْ ثَلَاثَةً , فَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ عِنْدَ الْجَمِيعِ , فَلِذَلِكَ جَازَ لَنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ , وَنَنْفِيَ مَا سِوَاهُ , مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقٌ .
           وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيْضِ : مُدَّةُ أَقَلِّ السَّفَرِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , وَأَنَّ أَقَلَّ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا , مِنْ بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْإِفْطَارِ , وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ , وَهَاتَانِ الْمُدَّتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا , فَجَازَ لَنَا الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا , لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا وَنَفْيِ  مَا عَدَاهُمَا , مِمَّا يُوجِبُ خِلَافًا , لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِيهِ , وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ , وَكَذَلِكَ مُدَّةُ الْحَمْلِ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا تَكُونُ سَنَتَيْنِ , وَمَا زَادَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوَقُّفٌ , وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ , وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ , فَلَمْ نُثْبِتْهُ .
       وَمِثْلُهُ : مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ , أَنَّ الْعَشَرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِيهَا , وَمَا دُونَهَا , فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ , فَلَمْ نُثْبِتْهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ ( إلَّا بِتَوْقِيفٍ ) فَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ .
        وَمِثْلُهُ : أَنَّ نَصْبَ الْأَمْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الزَّكَوَاتِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , أَوْ الِاتِّفَاقِ , وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ , فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مِلْكٍ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْيَدِ , هَلْ يَكُونُ نِصَابًا صَحِيحًا , أَوْ لَا يَكُونُ النِّصَابُ الصَّحِيحُ إلَّا بِانْضِمَامِ الْيَدِ إلَى الْمِلْكِ , جَازَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ , فِي كَوْنِهِمَا جَمِيعًا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ النِّصَابِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ بِانْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ , نَحْوُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهُ مَنْ وَرِثَ دَيْنًا , أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ , إذَا قَبَضَهُ فِيمَا مَضَى , حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ حَوْلٌ بَعْدَ الْقَبْضِ , إذْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ ( عِنْدَ الْجَمِيعِ ) نِصَابًا صَحِيحًا . وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ انْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ , وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ , إذْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ .
     وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي السِّخَالِ : إنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِيهَا , لِأَنَّ النِّصَابَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ , وُجُودُ السِّنِّ وَالْمِقْدَارِ , وَانْفِرَادُ الْمِقْدَارِ عَنْ السِّنِّ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ نِصَابًا , فَلَمْ يَثْبُتْ  مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ . وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ , مِنْ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ .
        فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّخَالِ وَالْمَسَانِّ إذَا اجْتَمَعَا , هَلْ يَكْمُلُ بِهِمَا نِصَابٌ ؟ وَقَدْ أَثْبَتَ نِصَابًا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ .
   قِيلَ لَهُ : لَا نَأْبَى ( إثْبَاتَهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ , وَإِنَّمَا أَبَيْنَا ) إثْبَاتَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدِ هَذَيْنِ  الْوَجْهَيْنِ  تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ , وَمَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ .
         وَالتَّوْقِيفُ الْمُوجِبُ لِمَا وَصَفْنَا : مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : فِي صَدَقَةِ الْمَوَاشِي وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا } وَلِأَنَّ أَسْمَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ , وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَتْ السِّخَالُ عَنْ الْمَسَانِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا هَذَا الِاسْمُ , فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ فَلَمْ يَثْبُتْ . 
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنْ تَجْعَلَ الْجَمْعَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَرْبَعِينَ , لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ انْعِقَادِهَا بِأَرْبَعِينَ , وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا دُونَهَا , وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ . وَهَذَا أَيْضًا مَا لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ أَوْ التَّوْقِيفِ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الثَّلَاثَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا . فَأَثْبَتْنَاهَا , وَمَا زَادَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ , فَلَمْ نُثْبِتْهُ .
          وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا التَّوْقِيفُ فِي جَوَازِهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ , لِمَا رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ  النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , فَقَدِمَتْ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهَا , وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا اثْنَا عَشَرَ } وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ الْجُمَعَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ . وَلَوْ كَانُوا قَدْ عَادُوا إلَى الصَّلَاةِ لَذَكَرَ . فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا , وَإِذَا جَازَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ جَازَتْ بِثَلَاثَةٍ , لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
           وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّهُ قَدْ رُوِيَ : أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهَا , صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا , فَثَبَتَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَوَازُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ .