27 يوليو 1970 - بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي حول مشروع روجرز
بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي حول مشروع روجرز، بغداد، 27 يوليو 1970.
تتعرض القضية الفلسطينية اليوم إلى حملة محمومة وواسعة النطاق من المؤامرات والمناورات على الصعيدين المحلي والدولي، والتي يبدو أنها قد حيكت بدقة لوضعها على طريق التصفية النهائية بعد مرور ثلاثة وعشرين عاما على قيام دولة الاغتصاب الصهيوني العنصري في فلسطين، وبعد مرور ثلاث سنوات على العدوان الأخير الذي دبرته الصهيونية بتحريض ومساندة الإمبريالية العالمية وفي مقدمتها الإمبريالية الأميركية، وإن أوساطًا كثيرة عربية ودولية تحاول إخفاء الحقيقة الاستسلامية والتصفوية لهذه المشاريع. والأخطر من كل هذا أن أوساطا عربية حاكمة قد قبلت بها رسميا قبل أن تعود في ذلك إلى الجماهير العربية، وإلى قوى الثورة المناضلة في فلسطين، وإلى القوى الثورية العربية صاحبة الرأي الأول والأخير في القضية.
يا جماهير شعبنا العربي، بعد هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) برزت في المنطقة العربية ثلاثة أشكال من المنطق:
أولاً: الشكل الأول يقر بالوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة كأمر واقع ولا مفر منه باعتباره مسألة مرتبطة بالأوضاع الدولية التي لا قدرة للعرب على تغييرها أو التأثير فيها على حد قول أصحابه. ويركز الاهتمام فقط على الأوضاع الناشئة عن عدوان الخامس من حزيران (يونيو) فقط.
ثانيًا: والشكل الثاني يعالج المسألة الفلسطينية برمتها وقضية الكفاح ضد الإمبريالية والصهيونية عن طريق المزايدات اللفظية التي لا تقترن بعمل ثوري جدي مخلص ولا تستند على أرضية من الحقائق الموضوعية.
ثالثًا: أما الجماهير العربية بروحها الثورية النقية، وبقدرتها اللامتناهية على الصمود والتضحية، وبثقتها التامة بنفسها، فلقد كان لها منطق آخر يختلف تماما هو منطق الثورة الدائمة التي لا هوادة فيها ضد الإمبريالية والصهيونية مهما كلف الأمر من ثمن وحتى تحرر فلسطين وكل الأجزاء العربية الأخرى من كل أشكال النفوذ الاستعماري في ظل وحدة عربية اشتراكية ديمقراطية.
وقد رفضت الجماهير العربية منطق الاستسلام للهزيمة، ومنطق الإقرار بالوجود الصهيوني في الأرض العربية، لأنها ليست هي التي هزمت في 5 حزيران (يونيو)، ولإيمانها بأنها قادرة على تحويل الهزيمة إلى منطلق للنصر معتمدة على قواها الذاتية وطاقاتها الثورية الخلاقة، وعلى تاريخ أمتها الممتد عبر مئات من السنين، وعلى مساندة كل قوى التحرر والثورة في العالم التي يزداد فهمها للقضية الفلسطينية كما تزداد مساندتها لثورة الجماهير العربية كل يوم.
كما رفضت الجماهير أيضًا منطق المزايدات اللفظية الخالية من أي مضمون جاد لأنها بعد أكثر من عشرين عاما من النكبة الأولى، وبعد مرارة النكبة الثانية، لن تنخدع بالألفاظ على حساب الحقائق. لقد تجسد منطق الجماهير العربية على أرض الواقع من خلال المقاومة الفلسطينية البطلة، ومن خلال القوى الثورية الحقيقية في الوطن العربي وفي طليعتها حزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي وسلطته الثورية في القطر العراقي التي رفضت رفضا قاطعا كل الحلول التصفوية الاستسلامية، وأرسلت إلى الجبهة الشرقية بالجزء الأعظم من قواتها المسلحة، وساندت المقاومة العربية الفلسطينية بكل الوسائل، وحمت ظهرها في كل المؤامرات السابقة. وقد اشتركت كل هذه القوى الثورية في التصميم بالقول والعمل على الاستمرار والنضال ضد الإمبريالية والصهيونية حتى يتم تحرير أرض فلسطين كلها من الاغتصاب الصهيوني العنصري المدعوم من قبل الإمبريالية العالمية.
إن الجماهير العربية التي عبرت طيلة عشرين عاما بعد النكبة الأولى عن رفضها لمنطق الوصاية عليها واستنكارها لأساليبها وعدم ثقتها بالتسويات الدولية، والتي لمست يوم الخامس من حزيران (يونيو) النتائج المرة لتلك الأساليب لا يمكن بعد أن مضى على النكبة الثانية ثلاث سنوات، وبعد أن اكتشفت طريق الكفاح الصائب وحملت بيدها السلاح، أن ترضى من جديد بمنطق الوصاية، وأن تسير وراء اعتبارات وأن تستسلم للتسويات الدولية. وإنها اليوم مصممة تصميما كبيرا على الوقوف بحزم ضد هذه الأساليب، وعلى فضحها بكل قوة وتعرية أسبابها ونتائجها، والاستمرار بالكفاح حتى النهاية.
وإن الجماهير العربية وقواها الثورية لا تنطلق في تصميمها هذا من موقف عاطفي بعيد عن الحقائق الموضوعية العربية والدولية وإنما تنطلق من خلال إدراكها لكل هذه الحقائق مقترنة بروح ثورية مصممة على القتال وليس بروح انهزامية تستسلم للأمر الواقع إلى الأبد.
إن الجماهير العربية وقواها الثورية تدرك أنها قد لا تكون اليوم قادرة كل القدرة على تطبيق أهدافها بالتحرير الشامل، ولكن الإقرار بهذه الحقيقة لا ينتقص بأي حال من الأحوال من قيمة التصميم على الكفاح الثوري، فليس هنالك في العالم شعب حصل على حريته في معركة واحدة أو أدنى وقت محدد. إن طريق الحرية هو دائمًا طريق النضال الثوري الطويل. وما دامت المعركة قد بدأت، وما دامت الجماهير العربية قد دخلتها بصورة حاسمة، فإن الاستمرار بها والاعتماد على الطاقات المادية والمعنوية لمائة مليون عربي، وبالاعتماد على التعبئة الرسمية والشعبية العربية مع مساندة قوى التحرير والثورة في العالم هو موقف ثوري واقعي وليس موقفا عاطفيا سطحيا كما تحاول وصفه الأوساط المتخاذلة.
يا جماهير الأمة العربية، إن الأنظمة العربية التي دعت إلى تحرير فلسطين طيلة عشرين عاما واعتبرت هذا الشعار في مقدمة مبررات وجودها لا يمكن أن تقنع الجماهير اليوم بالتخلي عن التحرير من خلال منطق الأنظمة المستسلمة باستخدام للحقائق الراهنة والضغوط الدولية. فالجماهير العربية لا يهمها كثيرا منطق الأنظمة الذي تستند إليه الفئات الحاكمة إلا بقدر ما يعبر عن انسجام وتوافق مع منطق الثورة، وفي حالة تناقض الموقفين فإن الجماهير بدون شك ستختار منطق الثورة لأنها الجماهير العربية التي ناضلت طيلة ربع قرن ضد الأنظمة الرجعية السابقة التي استسلمت لمنطق الحقائق المؤقتة والضغوط الدولية وضيعت القضية في المناورات واللعب التكتيكية. وإن الجماهير التي أسقطت بنضالها تلك الأنظمة لن تقبل اليوم بان تعاد المهزلة من جديد بأشكال وصور أخرى ستكون نتيجتها تكريس الوجود الصهيوني الفاشيستي في فلسطين العربية تكريسا نهائيا.
أيها الشعب العربي المناضل، إن قرار مجلس الأمن. رقم 242 الصادر بتاريخ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 لا ينص فقط على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب الخامس من حزيران (يونيو) وإنما يجعل هذا الانسحاب غير المحدد مشروطا باعتراف الدول العربية المجاورة للكيان الصهيوني بحدود آمنة له، وباعترافها بسيادته وحقه في العيش مع جيرانه، وبتخليها عن كل شكل من أشكال النزاع معه.
وإن المشروع الأخير الذي أعدته الإمبريالية الأميركية وأعلنته على لسان وزير خارجيتها روجرز ما هو إلا محاولة إمبريالية أميركية لتطبيق قرار مجلس الأمن المذكور بأكثر السبل ضمانة للوجود الإسرائيلي، وبأكبر قدر من المنافع للصهيونية المغتصبة.
وإن المشروعين المذكورين يعنيان بالضبط الاعتراف الواقعي بالوجود الصهيوني في فلسطين والتعايش معه سلميا، أي التخلي نهائيا عن حق الشعب العربي في تحرير فلسطين، كما يعني بالضرورة - وربما بالنص أيضًا - تصفية المقاومة الفلسطينية تصفية كاملة وحاسمة.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي المعبر الأمين عن أماني الجماهير العربية ومطامحها في تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية لا يقصد من خلال رفضه اليوم للحلول الاستسلامية التصفوية ولأساليب الوصاية والمناورة تأكيد مواقفه المبدئية الحازمة فقط والتي تتلخص بأسلوب الكفاح الثوري المسلح وعلى كل الأصعدة الرسمية والشعبية ضد الإمبريالية والصهيونية، وهذه المواقف التي جسدها بنضاله وبمواقف وسياسة سلطته الثورية في القطر العراقي، وإنما يدعو في الوقت نفسه إلى تشكيل جبهة صمود عربية شاملة منه ومن كل القوى الرافضة للحلول الاستسلامية الانهزامية لتكون هذه الجبهة سدا منيعا أمام المناورات والمؤامرات التي يراد تمريرها اليوم ولتكون سندا حقيقيا لقوى التحرير.
عاشت الأمة العربية المناضلة، وعاشت حركتها الثورية المصممة على الكفاح حتى النهاية في سبيل التحرير الشامل، والموت للإمبريالية والصهيونية.