ڤينسنت ڤان گوخ
ڤينسنت ڤان گوخ (1853 - 1890)، رسام هولندي.
في الأسطورة .. سقط إيكاروس في لابحر لأنه اقترب من الشمس بأجنحة مصنوعةمن الريش والشمع ..
وفي الواقع .. سقط فان جوخ محترقا لأنه اقترب بقلبه وألوان لوحاتهمن حرارة الشمس .. فذاب جنونا على حافة الأشعة الساخنة ..
.. وحين اقترب ممن أحبها ولفظته .. وحين اختلف مع صديقه الوحيد . سقط فان جوخ باتر أذنه .
.. وحين أصابته نوبات الصرع .. سقط سقوط إيكاروس رميا بالرصاص ..
ولكن كان سقوطه الأكبر في اللامبالاة التي قوبل بها فنه ولم يشعر بمعاناته أحد ..
وبالرغم من أن فان جوخ الهولندي مصور عبقري وأحد أعظم مصوري مابعد الإنطباعية .. ذلك الذي ظهر واختفى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. إلا أنه وبمجرد ذكر اسمه بتداعي إلى الذن مباشرة قصة أو مأساة قطع أذنه سابقة في إثارتها على قيمته كفنان وما أنتجه من لوحات أسس بها مدرسة حديثة في فن القرن العشرين ..
فأولا تشغلنا أذنه .. ثم فنه ثانيا .. وهذا سقوط منا وليس منه .
وأيا كان سبب قطع أذنه إلا أن فكرة القطع نفسها التصقت به كلعنة وليس كمصور عبقري .. ورافقته تلك اللعنة طوال حياته وبعد مماته ..
هذا المصور العبقري الذي تباع لوحاته في عصرنا هذا بما يقرب من الستعين مليون دولار .. لم يلق تقديرا لفنه يتناسب وقدره .. ولم يكتب عنه إلا مقالة واحدة في حياته كتبها الناقد الفرنسي البير أوريه عنوان ((المنسيون)) بينما كان هو في المصحة .. قال فيها الناقد ((إن ما يميز لوحات فان جوخ تلك الشحنة البالغة والعنف في التعبير .. إنه يصور تصويرا تسجيليا حاسما الخصائص الأساسية للأشياء .. ويبسط الأشكال في جرأة عن طريق ألوانه وخطوطه المتأججة بالعاطفة .. وإصراره العنيد على الوقوف في وجه الشمس والتحديق إلى قرصها الباهر فتتجلى قوته كفنان .. وفي بعض الأحيان يبدو إنسانا رقيقا إلى أقصى حدود الرقة .. ولعل ما يميز لوحاته ورسومه هو فهمه العميق للموضوع الذي يرسمه وتقصيه عن جوهر الأشياء وحبه الصادق للطبيعة .. ولكن هل سيقدر لهذا الفنان الأصيل ذو الروح العامرةب الضياء أن ترد إليه الجماهير بعضا مما يستحقه من تقدير وإكبار فتدخل إلى قلبه السكينة ؟ .. لا أعتقد ذلك بالشيء القريب فهو إنسان بسيط ومتواضع ومرهف الحس وهي صفات لا يعتبرها مجتمعنا المادي ذات أهمية)) ..
.. وبعد وفاته لم يتوقف أمام لوحاته إلا واحدا من المهتمين وهو كاتب المقال النقدي في صالون المستقلين في فرنسا وصالون بروسيل اللذان أرادا تكريمه بعد وفاته بعام فأقاما معرضا لأعماله ..
.. وقبلها قضى فان جوخ المرهف الحس حياة قاسية عانى فيها من حساسيته المفرطة ومن الآخرين .. فقد كان يشعر بأن الناس يهددونه كثيرا لأنه قريب منهم بقوة لا واعية .
واليوم .. الناس ينجذبون لأعماله .. يسعون إليه .. يقفون مشدوهين أمام كل لوحة من لوحاته .. تلك التي حقق فيها أروع ما يصبو إليه فن التصوير من تناسق وانسجام مدهش . غير أن آخرين يحاولون التنقيب بفضول وحب استطلاع بين ثنايا لمسات الفرشاه عما يريد أن يقوله المجنون قاطع أذنه وهو يرسم الطبيعة وحقول القمح وأشجا السرو .. ولا يجدون إلا عمل فني مبدع بكل المقاييس .. بلغ أقصى درجات التعبير عن الحساسية الفنية والإنسانية .. هذا بالرغم من أن خطوطه وألوانه تكشف من توتر حالته النفسية غير أنها في النهاية مفردات عمل فني متكامل .
والفن كما عرفه ((بيكون)) هو الطبيعة مضافا إليها الإنسان . وهذه العبارة الموجزة تفسر أعمال فان جوخ فنيا ونفسيا وهو يتعامل مع الطبيعة . ولندرك ما وصل إليه ((بيكون في تعريفه نحاول معا رؤية كيف رأى فان جوخ الواقع ..؟
ولكن قبل محاولتنا قراءة أعماله وإدراك مدى رؤيته للواقع . نعود أولا للوراء .. إلى بداية فان جوخ في هولندا .. ثم نعود إلى تعريف ((بيكون)) .
.. وبدايته كانت في قرية جروت زونديرت إحدى قرى هولندا .. ولد فيها عام 1853 .. لم يكن المفضل بين الأبناء الستة للأب قسيس القرية .. وحين بلغ السادسة عشر بدأ حياته العملية بائعا في محل ((جوبل)) لبيع اللوحات الفنية في ((لاهاي)) .. وهناك انجذبت روحه الهائمة لأعمال رمبرانت وكورو وميليه ومن ((لاهاي) إلى ((لندن)) إلى ((باريس)) عمل في أفرع تابعة لمحل ((جوبل)) ..
في لندن صدم عاطفيا .. وفي باريس صدم فنيا بوجوده وسط كم هائل من أعمال الكبار .. فظل يطوف باريس زائرا متحاف الفن منبهرا بالمدارس الفنية والأفكار الإنسانية .. حدث هذا عام 1876 .. وفصل من عمله واتجه لدراسة اللاهوت وقد ورث عن أبيه ميله إلى الدين فاتجه إلى بلجيكا ليعمل واعظا دينيا في منطقة البوريفاج عام 1878 حيث مناجم الفحم المظلمة والعمال اليائسين فقد كان مستعدا أن يهب نفسه للناس ز. فشارك العمال حياتهم القاسية وطعامهم وشرابهم ومأواهم .. وتبعهم داخل سراديب الفحم ليهبهم الأمل ويذكرهم برحمة السماء . ولم تعجب تصرفاته محترفي الكهانة والكلام المحفوظ فاعتبره خارج على تعاليم الكنيسة والمسيحية ، ذلك لأنه أعطى أكثر مما يجب .
.. ونقفز للأمام سنوات ثم نعود نكمل جولتنا معه ..
ففي لوحاته فيما بعد استطاع أن ينقل شعوره الديني طبقا لرؤيته تجاه الإنسانية بشكل بسيط .. ذلك الشكل الذي سبق ورفض من الآخرين حين مارسه كرجل دين .. فنقل شعوره الديني في لوحاهت غير أنه لم يتناول موضوعات الديني التقليدية .. وكتب لأخيه ثيو حين كان في باريس قائلا .. (بالرغم من أن الأفكار الدينية تقدم لي عزاء كبير إلا أن الصور لم تكن تتداعى إلي من رمزية الكهنوت والمعبودات ، ولكن تأتيني من الشعور بالطبيعة والناس البسطاء الذين هم جزء من الطبيعة) .
وبعد فصله من عمله كواعظ بالمناجم .. ساوره إحساس بأنه قد خرج من ظلام المنجم الكهفي متعطشا إلى النور .. محاولا أن يجد لنفسه سبيلا ينجح فيه ويفتح ثغرة داخل نفسه يندفع منها مكبوته الداخلي .. وكتب لأخيه نيو الذي كان يعمل في محل لتجارة اللوحات الفنية قائلا : ((منذ سنوات ولا أعرف بالضبط كم فات من الوقت .. أمضى بلا عمل أو أكاد متخبطا هنا وهناك .. على أن الشيء الوحيد الذي يؤرقني هو : كيف أكون نافعا في هذا العالم ؟ .. ألا يمكنني أن أقدم هدفا وأصبح مجديا على نحو ما .. هناك شيء داخلي .. ترى ماهو؟ ) .
وبعد أشهر من البؤس بسبب الأحداث القاسية والفشل المتكرر حاول فان جوخ دراسة وليم شكسبير وتشارلز ديكنز وفيكتور هوجو ..
وخلص إلى إدراك أن عزاءه الشخصي في الرسم .
في البدء لم يكن واثقا من رغبته أن يصبح رساما . ولكن رؤيته لرسومات الصور التوضيحية للفنانين الإنجليز في مجلة ((جرافيك)) خاصة في أعمالهم المهتمة بالعمال جعلته يعجب بهدفهم النبيل الذي يحققونه ، فأنجز صورة ليثوجراف وأسماها ((الحزن)) تمثل امرأة تجلس حزينة منكفئة على نفسها عارية .. وأضاف إلى الصورة عبارة تقول : ((حاولت نقل الإحساس ذاته في المشهد كما أحسسته في الشكل الإنساني .. ذلك الارتباط النفسي العاطفي بالأرض لكنه شبه الممزق بعصف الريح)) . وبهاتين اللوحتين تتضح رؤية فان جوخ لما هو واقعي ولما هو رمزي مابين المرأة الوحيدة والجذع المشقوق كما قال لأخيه ((إن الواقع كله حقيقي ورمزي أيضا في آن واحد)) .
وامتدت الرمزية متمثلة في وجدانه برؤيته اللوحة ((باذر الحبوب)) لميليه وظلت تطارد ذهنه كلما بدأ في لوحة لما لها من رمزية كامنة وجلية في آن واحد .. فالأشكال عنده لم تعد لذاتها بل لما ترمز إليه .. أو بشكل آخر كان للأشكال لديه أبعاد درامية وإنسانية عنيفة حتى إنها كانت تؤلمه على المستوى الشخصي والإنساني ..
.. وبدأ برسم الفلاحين وعمال المناجم بإحساس حزين فيه كثير من التعبير والرمزية معا ..
ومنذ 1880 بدأ مرحلته الفنية الأولى بمحاولات التصوير الواقعي للبؤس والشقاء الإنساني في الطبقات الدنيا ..
وتلقى دروسا في الفن مستعينا بالمعونة المالية التي كانت تصله من أخيه ثيو . وكانت أول اسكتشاته لاستكشاف مقدرته عام 1881 لوحة طبيعة صامتة مكونة من كرنب وبطاطس رسمها أثناء تردده على أحد المراسم الخاصة أثناء الدرس الأول ، وتتابعت دراساته الاسكتشية والملونة مثل ((المنزل القديم)) 1882 .. ((الفلاحين الخمسة)) 1883 ((الكنيسة)) 1884 .. ((النساج على المغزل)) 1884 .. ((حمار يقود عربة)) 1884 .. وجه فلاح .. وتبعه استكشات عديدة لنساء ورجال قرويين وكانت هذه الفترة من أنشط فتراته في استكشاف الوجه الإنساني وتعبيراته وأنجز خلالها مئات الرسوم التي برز من بينها وجوه كانت تتنبأ بوجوه فلاحية في لوحته ((آكلوا البطاطس)) التي رسمها فيما بعد عام 1885 .. ومن لوحاته في نفس العام ((منظر ريفي)) 1885 .. ((طبيعة صامتة زجاجة وإبريق)) 1885 .. ((فلاحة تقلب الأرض جهة الشمال)) 1885 ..
وبعد هذه التجارب تأتي مرحلته الحقيقية الأولى مع نهاية عام 1885 التي كان من أهم لوحاتها ((آكلوا البطاطس)) ثم لوحته ((طبيعة صامتة زوج الأحذية)) 1887 الموجودة بمتحف الفن الحديث بالتيمورا ..
ولوحة ((آكلوا البطاطس) الموجودة حاليا بمؤسسة فان جوخ بأمستردام تعتبر الثمة العظمى لهذه المرحلة ، وقد نفذها بطريقة خشنة في الملامس .. وإظلام داخلي شغل كامل اللوحة إلا من ضوء مصباح غاز معتم يؤكد حالة البؤس التي يعيشها شخوص اللوحة وتنضج به وجوههم .. وقد وصف آكلوا البطاطس لأخيه ثيو قائلا : ((إنني أعمل من جديد في لوحة أولئك الفلاحين الذين تجمعوا ليلا حول وجبة من البطاطس في إحدى الأمسيات .. وطول الأيام التي كنت أعمل خلالها في لوحتي هذه كان الأمر بالنسبة لي بمثابة معركة متصلة)) .
ولوحة فان جوخ آكلوا البطاطس رسمها على نسق الفنان ميليه لتأثره به وبدأ فيه مستواه الفني وكأنه معزول عن التطور الذي حدث للفنون الحديثة حتى ذلك الوقت .
اللوحة يخيم عليها جو ساكن كجو الطقوس القديمة داخل غرفة مغلقة كأنها فرغت من الهواء أ:د ذلك تلك الكتل البشرية الفظة في شخوصه ومحاولته التأكيد بأنهم مجرد قرويين هولنديين ، وهذه الخاصية في التعبير يتعذر على أحد سوى فان جوخ أو ميليه الشديدا الإنسانية أن يقدما مثيلا لها في أعمالهم .. وتتميز اللوحة بالإضاءة الباهتة المبهمة المتوائمة نفسيا مع حالة الريفيون التعساء في اجتماعهم المرهق على العشاء بعد يوم شاق حتى ظهرت أيديهم وهم يأكلون بشكل فظ وكأن الجوع والبؤس شغلهم عن غسل أيديهم العالق بها طمى الأرض .. وكأيديهم بدت الوجوه رمادية يائسة .. وهنا نجد فان جوخ نجح في التعبير عن حياة البؤس والشقاء التي يعيشها الفلاحون البسطاء باستخدامه الألوان البنية والخضراء المعتمة والأصفر المائل للحمرة القاتمة . وقد حاول أن يعطي اللوحة إضاءة خاصة منفصلة عن إضاءة المصباح الغازي الساقط من السقف باستخدام اللون بدرجات متقاربة ومتناقضة في ضوئها .. فاعتمد على ضربات الفرشاة الصفراء على الوجوه لتضيئها فتبرز على سطح اللوحة مبتعدا عن طرق التظليل بالأسود .. وقد ساعده اللون كما في الإضاءة على تحقيق البعد النفسي الإنساني والتأكيد على القيمة الفنية من تجسيم وظل .. واللوحة رغم سكونها القاتم نجد بها حركة داخلية ساكنة هادئة تحققت باتجاهات الأذرع والعيون خاصة تلك النظرات الحنونة في مقابلنا من الزوجة لزوجها المجهد .. كذلك تأتي حركة من يد الزوج الثاني مادا يده إلى زوجته إلى أقصى اليمين بقطعة من البطاطس المسلوقة غير أنها مشغولة بإعداد الشاي .. كما أكدت حركة الفرشاه واتجاهاتها العنيفة الممتلئة باللون على لاحركة الداخلية المنسحبة على الجميع .
ولم يكن فان جوخ في نواح معينة سعيدا أبدا بآكلوا البطاطس وقد آلم به الحزن عندما انتقدها أحد أصدقائه بقوله : ((إن تركيزه على الرؤوس والأيدي قاده إلى إهمال أجسام القرويين)) .
وبعد إنجازه لآكلوا البطاطس أرسل لأخيه يعبر له كم كان يتوق ويتمنى الإبتعاد عن ذلك الجو الهولندي الرتيب والتعرف على مزيد من شواهد الرسم الحديث .
.. وبالفعل سافر إلى باريس عام 1886 وقضى بها حوالي عامين بمساعدة أخيه ثيو المادية وأيضا مساعدته في التعرف على الفنانين الفرنسيين .. وما لبث هذا الفنان الهولندي الحزين والمتأزم دائما أن وجد نفسه بصحبة فنانين مهمين ومؤثرين في الحركة الفنية الحديثة في فرنسا مثل جوجان .. سينياك .. لوتريك .. بيرنار .. بيسارو .. ولكن للأسف لم يشعر أي منهم بالإنجذاب تجاهه أو تجاه لوحاته التي لم تتضح شخصيتها بعد .
وبدأ يسعى بشغف وبشكل دؤوب وراء ركاب الفن الحديث وشده التراث اللوني في لوحات التأثيريين وتركيبتهم اللونية .. واكتشف الرسومات اليابانية وفيها وجد ما يحتاج إليه وهو الصفاء والتوازن .. وجذبته بشدة لوحات ديلاكرواه ومونتسيللي .. ثم اِلإنطباعيين خاصة ديجاومونيه .. ثم ينتهي به بالمطاف أو المرسى الفني والنفسي لدى الطليعيين رواد اِلإنطباعية الجديدة والتركيبية المتمثلين في صديقيه سينياك وبيرنار .
.. وبعد رؤية التأثيريين اختفت من لوحات فان جوخ ألوانه الرمادية والبنية وحل محلها الألوان الصافية .. كما اختفت الموضوعات القاسية أو البائسة في أعماله .. فلم يرسم فان جوخ في باريس الفلاحين والعمال والمشاهد المألوفة لدى الفنانين لكنه عكف على رسم الموضوعات الغير شخصية والمجهولة للإنطباعية .
وفي تعاقب سريع توالت لوحاته الأخاذة وكان فيضا فاض عليه بعد عطش وطول انقطاع .. وبدأ مرحلته الفنية الثانية .
وفي ذلك العام 1886 رسم ستة صور شخصية له إحداها أمام حامل الرسم ورسم (الخفاش الليلي)) وكوبري ((كاروزيل)) ومجموعة ضخمة لأنواع عديدة من الزهور مع نهاية العام .
ومع بداية 1887 توالت منهمرة مئات اللوحات من عبقريته السجينة سنوات طويلة .. ومن لوحات 1887 وهي البداية الحقيقية له أنجز البورتريه الشخصي .. ودراسات للعارى .. وطبيعة صامتة من زجاجات أو أحذية أو خضراوات .. ومشاهد من حي مونمارتر .. وقام بتقليد بعض الرسومات اليابانية .. وفي نهاية 1887 رسم أربعة وعشرين صورة ذاتية له منها اثنتان أمام حامل الرسم ثم عاد للطبيعة مرة أخرى ورسم مشهدين لمطعم من الداخل وأنجز في ذلك العام لوحته الرائعة ((حقل قمع وطائر)) .
وفي الوقت الذي رسم لوحته ((حقل القمح)) كان قد بلغ تفسيره الشخصي الخاص للإنطباعية التي وضعته على بداية أسلوبه المتميز الناضج .. فأصبح التكوين لديه هو البساطة والتناسق والضوء عليه أن يغمر الصورة .. واللون عالي النغمة .. وتمتزج النغمات معا لتكون لحنا واحدا تؤكده ضربات فرشاه متوترة .. واضحة .. فورية .
وفي بلدة آرل الجنوبية المشمسة التي غادر إليها من باريس عام 1888 عاش منزويا من جديد مركزا اهتمامه علىر سم مناظرها الطبيعية وسكانها مستخدما اللون كما لم يستخدمه فنان بهذه الغزارة والتدفق .. وأيضا لم يسبق لفنان أن ترك آثار فرشاته واضحة متحفزة على أسطح لوحاته مثل فان جوخ .. وكتب لأخيه يقول : ((بدلا من أن أنقل ماه هو أمام عيني أجدني استخدم اللون استخداما جائرا حتى أعبر عن نفسي بقوة أشد)) .
ثم أصبحت ألوانه تأخذ مسار لمسات قصيرة .. وأشرطة طويلة تتردد في إيقاع جميل .. وبدأ يهتم بتدفق الضوء واحتوائه لكامل المشهد .
وداوم على الخروج إلى الحقول يرسمها في حماس شديد .. وعشقا منه لتجربة الخروج إلى الطبيعة المشمسة التي افتقدها في حياته السابقة وولعه بالشمس وسطوتها عليه نسى نفسه وأخذ بسخونتها ودفئها .. وتحت الشمس وسطوتها عليه نسى نفسه وأخذ في نهم يرسم توهجها حتى دون أن يقي نفسه ورأسه من شدتها .. وأكثر في لوحاته من اللون الأصفر الشمسي المتوهج في الحقول ليزيد من الإحساس بحرارتها .. وأسلوب مرحلته هذه أبرز ملمس الفرشاه والسطح بتكنيك فني عالي كما في لوحاته المتعددة عن حقول القمح .
واندفع في شغف وبقدر من العاطفة المتأججة ساعيا لتحقيق ما أسماه تزاوج الشكل واللون في مهمة البحث عن الداخل لا الخارج ، فحين يصور الشمس يحاول الوصول إلى الإحساس بالدفء والوهج .. وحين يصور شخص فهو يريد الوصول إلى أعماقه ليصورها ، وفي غمرة نشوته بالتحرر من الذات صور كل شيء تقع عليه عينيه .. صور الطبيعة في الخلاء .. وفي قيظ الشمس .. وغطت لوحاته بغلالة صفراء فوارة لم يستطع أن يتحرر منها وكتب لأخيه يصف له إلى أي مدى وصلت علاقته بالطبيعة قائلا : ((قد تحدثت إلي الطبيعة فوضعت ما حدثتني به بإيجاز على مسطح اللوحة .. ورغم ما لم أستطع التفوه به فإنه من المؤكد أن تعثر في عملي على شيء ما مما باحت لي به الغابة أو الشاطء أو الشكل رغم اللغة الغير مألوفة)) .
ومع الطبيعة استعمل ألوانا ناعمة نقية في سطوح غمرها بكثير من ألوان الأخضر والأصفر والأحمر والأزرق وجعلها تبدو كما لو كانت طبعة من الزبد فوق القماش أو عجينة سميكة تسحبها خلفها الفرشاه الدؤوبة على هيئة شرائط أو ضفائر أو خصلات سريعة متلاحقة الأداء . كما فعل فيما بعد أيضا في تصويره ((شجر السرو)) فترك جرات الفرشاه هي التي تحتضن الشجرة .
وفي آرل اكتسب فان جوخ ثقته بنفسه وكما رسم حقول القمح رسم الأشجار الكبيرة وشجيرات الزهر الصغيرة الشبيهة بالشجر الياباني ، ورسم العديد من لوحات ((الكوبري المتحرك)) من أكثر من منظور .. ورسم الحقول بغزارة والجند الزاواوي ومرابك تخوض بحر عاصف تتقاذفها الأمواج العالية ثم بعد ذلك يرسم قوارب على الساحل بعيدة عن العواصف ترسو هادئة في أمان .. وفي لوحته ((قوارب على الساحل 1888)) استخدام ألوان جريئة لمراكب رأسية إلى ساحل سانت ماريا وألوان اللوحة البراقة تشبه ألوان المطبوعات اليابانية التي جذبته بشدة وكتب إلى صديقه أميل بيرنار يقول : ((على الساحل الرملي كان هناك عددا من القوارب الصغيرة .. خضراء وحمراء وزرقاء اللون بهجة المناظرين في أشكالها وألوانها .. ذكرتني بالأزهار)) .
وفي إبريل 1888 رسم عدة اسكتشات عن ((فلاح ينثر الحبوب)) في أكثر من وضع .. وأ÷م أعماله في هذا الموضوع تلك اللوحة التي أتمها يونيو من نفس العام باسم ((فلاح ينثر الحب مع غروب الشمس)) وقد رسمها بتكوين بسيط .. يبرز في الفضاء الأمامي فلاح يملأ يديه بالحب ينثره في سعادة داخل حقله الواسع ومن خلفه تأتي الغربان السوداء .. وفي الخلفية سنابل القمح عالية تعلو خط الأفق .. في منتصف اللوحة إلى العمق يبرز قرص الشمس الذهبي وقد أحال السماء إلى بحيرة ذهبية .. وفي منتصف الحقل من أسفل مساحة فارغة من اللون الأزرق البرتقالي مما أعطى إيحاء بممر للانطلاق تجاه الطبيعة إلى الداخل وحتى قرص الشمس في انطلاقه أصبح على أثرها اللون متداخل مع الشكل والخط والإيقاع .
وبدأ اللون الأزرق ينسحب على رسوم المناظر البحرية .. والمشاهد الليلية .. والأصفر ينعكس على لوحات نثر الحبوب والأزهار ، وقد أعطلى لكل لون مغزى ومدلول عاطفي خاص ، وأسرع إلى أخيه يقول : ((لقد أصبحت ملونا مستبدا)) .
وأضاف موضحا أنه في لوحته صورة صديق الفنان : ((بدلا من أن أرسم حائط الغرفة خلف الرأس رسمت شيئا لاحدود له أرضية ملونة بسيطة أشد مايمكن استخلاصه من الألوان زرقة)) . وفي تلك اللوحة قصد فان جوخ أن تكون الأرضية زرقاء حتى يبرز اللون البرتقالي لشعر الشخصية بشكل مبالغ فيه فكتب لأخيه : ((أردت أن أرسم الرجال والنساء بشيء يبقى عالقا في الأذهان عنهم ، صغيرا عنهم بالبريق الحقيقي .. بومضات اللون)) .. وقد كان يشعر في اللون بذبذبات عاطفية خاصة به ويترقب في شغف ويتطلع إلى التقريب بين الألوان . فكتب يقول : ((أحاول آملا أن أحقق اكتشافا أن أعبر عن عشق اثنين من المحبين بالتزاوج بن لونين مكملين في امتزاجهما)) .
لكن نفس هذه الألوان المكملة التي أراد بها أن يحقق حالة من العاطفة يتقارب بين الألوان نراه وقد استغلها بشكل مغاير وذلك العاطفة يتقارب بين الألوان نراه وقد استغلها بشكل مغاير وذلك عندما رسم ((المقهى الليلي)) 1888 في سبتبمر وذلك بعد لوحت الشهيرة ((الفلاح ينثر الحبوب مع الغروب)) بشهرين .. ولكن كان هناك فوق شاسع بين انطلاقة الفنان الفرح بالطبيعة وما وهبه لها من انطلاق لوني بديع وبين لوحته هذه التي هي رمزا إلى لاحالة الإنسانية في وحدتها ووحشتها واغترابها ، وقد استخدم الأخضر الباهت والمصفر والمزرق مما أعطى إيحاء قوي بالعتامة الوجدانية كما أنه أكسب المكان بعدا دراميا معبرا عن انحصاره تعبيرا عن انطباق الجدران عليه أو الكون بأسره ، وبذلك يعبر عن الهدوء الحاد في أقصى درجات حددته ووحشته ، وقد انقلب المقهى إلى مكان تجول فيه الكآبة وكأنه مكان مؤقت للإنتقال إلى ماهو أكثر منه وحشة وكآبة .. وكأننا في منطقة للصراع النفسي ما بين الموجود والمتوقع في كل لحظة من الترقب المشدود .. ونجح فان جوخ في التعبير بكل هذا الكم ، الصدق وباللون عن انفعالات الإنسان المريعة لإحساسه بالوحدة واليأس وفي هذا كتب لأخيه : ((حاولت التعبير عن انفعالات الإنسان والرهبة التي تنتابه بتصوير المقهى الذي يؤدي بالمرء إلى تدمير نفسه فيندفع لارتكاب جريمة)) .. وكذلك في لوحته ((شارع المقهى)) 1888 نجد أيضا السماء المزدانة بالنجوم وقد كادت أن تنطبق على المساكن الليلية التي ظهرت سوداء أمام السماء الزرقاء الداكنة وأسفلها بعض المارة يمرون أمام المقهى في صمت مطبق .
وما رايناه من انطباق الجدران في لوحة ((المقهى الليلي)) نجده أيضا واضحا في لوحته التي رسمها فيما بعد في مصحة سان ريمي والتي رسمها من الذاكرة لغرفة نومه في آرل واللوحة اسمها ((غرفة النوم في البيت ا|لأصفر)) 1889 الموجودة في مؤسسة فان جوخ بأمستردام وهي من الأعمال التي أوضحت في بلاغة من التكوين واللون عن مغزاها الأليم الموحش وعنها كتب يقول لأخيه : ((إن حجرتي تزدان بالسكون العميق .. وما يسعدني هو رسم هذا لامكان في وجود أحد)) .
فقد قصد فان جوخ أن يجعل السكون يطبق على الغرفة مثلما يشعر بددرانها وأرضيتها تطبق عليه .. وأكد إحساسه بالسكون والوحشة باستخدامه الخطوط السميكة المباشرة والألوان في قوتها كالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق استجداءا منه لحريته رغم ضيق المكان وفي عدم وجود آخرين وليؤكد راحه الإجبارية الموحشة للسكون المحيط وهو ما يؤكد حالة العزلة والوحدة االتي حاصرت الفنان .. ورسم كرسيي الغرفة خاليان مثلما رسم دائما كرسيه القش خاليا تأكيدا منه لوحدته ولحالة السكون المطبق .. وفي لوحته هذه لغرفة نومه نقل حالة التوتر في الخط واللون مثلما هي في لوحة المقهى باعتماده الرؤية من ذلك المنظور الأرضي المنخفض الذي نشاهد من خلاله كلا من المقهى والغرفة وكأننا انطبحنا أرضا في مقدمة اللوحة لنراها أكثر وحشة وإرهاقا نفسيا من هذا المنظور .. وطبقا للرؤية من هذا الوضع المهرق نجد اللوحتين اتفقتا على إبراز حالة الجدران المطوقة والمطبقة على المشهدين .
وفي 1888 أنجز العددي من لوحاته الشخصية الشهيرة بسماتها الخاصة التي انفردت بها حاملة كل مميزات شخصيته المتوترة الزائغة أو المستسلمة العينين واملطبقة الشفتين وتكشف عن معاناة بتدأت تظهر على الوجه المتألم في صمت .. فأنجز في هذا العام ثمانية بورتريهات شخصية له .. ورسم عدة لوحات لجذوع أشجار مائلة أو على وشك السقوط وأسفلها يمر فلاح ينثر الحبوب .. أو جذوع أشجار على وشك السقوط وأسفلها يمر فلاح ينثر الحبوب .. أو جذوع أشجار شبه ميتة تشابكت فروعها الخشبية الرفيعة الغير مخضرة أو مزهرة .
وفي ديسمبر 1888 رسم فان جوخ كرسيين الشهيران .. أحدهما كرسي القش الشهير وفوقه البايب الخاص به والموجود في جاليري بروكلين تيت بلندن . والكرسي الآخر فوقه شمعة مشتعلة وإلى جدار الغرفة معلق مصباح مضاء .. ورغم هذه الإضاءة إلا أن المشهد لايوحي بالبهجة واللوحة موجودة حاليا في مؤسسة فان جوخ بأمستردام .
.. من المؤكد أن أدرك فان جوخ في تلك الفترة المصاعب التي تواجهه لجعل رسمه أكثر تعبيرا .. عما يموج بداخله من انفعالات جعلته يحاول اللجوء النفسي والفني إلى جوجان الذي نال في ذلك الحين شهرة كرسام وفي نفس الوقت هو صديق له .
وفي أواخر 1888 دعى فان جوخ جوجان ليشاركه مرسمه في الجنوب الفرنسي المشمس ، وكانت تلك الزيارة بداية المتاعب لفان جوخ والمقصود بها المتاعب الفنية والنفسية .. وجاء جوجان .. وتوترت العلاقة بينهما .
ويرجع سبب التوتر بين الفنانين الكبيرين فان جوخ وجوجان إلى محاولات جوجان المستمرة بإقناع فان جوخ أن يلجأ في لوحاته إلى تسوير المنظر المقرب الذي يقطع الشكل (الشخوص) من الوسط ويعطى انحناءة من الجانب عبر سطح اللوحة تؤدي بالمشاهد لدخول عمق اللوحة مباشرة كما في لوحة جوجان ((الرؤيا بعد الموعظة)) .
ورسم الفنانان نفس الموضوعات لكن كلا منهما لم يكن راضيا .. فلم يعجب فان جوخ إقحام جوجان لنساء (بريتون) (المكان الذي أتى منه جوجان قبل وصوله آرل) .
وأصبح جوجان يضيق ايضا بفان جوخ وكتب جوجان إلى صديقهما المشارك بيرنار يقول : ((إنه متحمس لصوري ولكن بمجرد الإنتهاء منها حتى يبحث عن الأخطاء دائما .. إنه رومانسي حالم وأنا مشدود إلى البدائية والفطرة تأسرني .. كما أنه يحب استخدام اللون تلقائيا وأنا على العكس لاتستهويني الفوضى في التنفيذ)) .
وفي نوفمبر 1888رسم فان جوخ لوحته ((نزهة في آرل)) الموجودة حاليا بالأرميتاج بليننجراد . وفيها وضح بشدة تأثير جوجان الفني عليه .. واعتمد فان جوخ في لوحته هذه تنفيذ فكرة جوجان بطريقة القطع عند الوسط في المنظر المقرب وبالفعل قطع اِلإمرأتين في لوحته عند الوسط ومن الخلف ظهرت امرأة منكفئة تجمع زهور من الحقل .
ومن خطا فان جوخ أن حاول الرسم بطريقة ليست من أسلوبه أو رؤياه في شيء فقد أصر جوجان أن يرسم جوخ من الذاكرة لا من الطبيعة مما جعل مهمة الرسم عليه شاقة ومتعذرة .. كان إصرار جوجان الدائم على طريقة القطع النصفي للأشكال تزعج فان جوخ .. وصل الأمر أن أخذ جوجان بحث جوخ على لاتخلي عن ضربات الفرشاه المتميز بها ويلجأ إلى الخطوط السميكة المحيطة بالمساحات اللونية المسطحة .. هذا كان في نظر فان جوخ طريقة مصطنعة في الفن ..
وعلى إثر هذه التجربة كتب فان جوخ لبيرنار قائلا : ((حين كان جوجان معي هنا في آرل دفعت نفسي مرتين وراء فكرة التجريدية ، وظننت أن الطريق إليها ليس بعسير ، لكنس اكتشفت أنها أرض مسحورة غير مأمونة ، ففي أي لحظة يجد افنسان نفسه في مواجهة جدار عليه أن يتسلقه ولكن لا قدرة له على ذلك)) .
وفي نهاية ديسمبر من نفس العام ومع الإحتفالات بأعياد رأس السنة انتابت فان جوخ نوبة عصبية ونوع من الصرع الهيستيري نتيجة مشادة وقعت بينه وبين صديقه جوجان قطع على أثرها أذنه .
وبعد هذه الحادثة مباشرة دخل مستشفى للأمراض العقلية في آرل .. وبعد أيام رسم لنفسه لوحتين (شهيرتين الآن) وقد أحاط بالرباط الأبيض أذنيه وراسه ليغطي الأذن المقطوعة .. وإحدى اللوحتين يبدو فيها وهو ممسك بفمه البايب .. والأخرى بدون بايب وموجودة في لندن ، ومن الداخل المستشفى رسم ثلاث لوحات لعباد الشمس بإحساس وتكوين مختلف وتنبض لوحاته الثلاث بالحيوية وكثافة اللون في حرية .. وأحدهم توجد بمتحف الفن في فيلادلفيا .. والأخرى مقتنيات خاصة .. والثالثة في مؤسسة فان جوخ بأمستردام .
وفي إيريل 1889 تخللت حياة فان جوخ سلسلة مريرة من الإنعكاسات بعضها أشد وطأة وأثرا أقسى من الآخر وكان يعاني من حالة صرع تتكرر زادها حدة وقسوة إهمال فان جوخ والظروف السيئة التي أحاطته .. ومن شباك غرفته المعزولة بالمستشفى رسم أشجار شائكة بلا هوية ولا معالم . ونباتات أرضية نبتت فجأة متوحشة وكأنها نباتات شيطانية .. وعلى الجانب الآخر من هذا الإحساس يرسم لوحة ((الهدهدة) 1889 متحف ريكة أوترلو مصورا فيها مدام رولان تهز مهدا وقد مثلت هذه اللوحة شكلا بدائيا للأمومة يهفو إليه فان جوخ .
ومع مايو 1889 اضطر فان جوخ إلى الانتقال إلى مصحة سانت ريمي حيث مكث فيها عام كامل .. ولتنتهي بذلك مرحلة آرل الفنية ، أكثر مراحله ازدهارا وأكثر ذاتية وأصالة وتعبيرية لما كان يتصارع داخله مابين حالات التعبير الفني وحالات التنفيس النفسي .
ورغم حالته السيئة في المصحة لم يترك يوما ألوانه ولا فرشاته وفي نفس شهر دخوله إلى مصحة سانت ريمي رسم لوحتين لمدخل المصحة من الداخل وما يميزه من أقبية كثيبة دون ملامح لأي تواجد إنساني في اللوحة .. ورسم الأرضية وكأنها في تصارع مع الجدران تجاه عمق المدخل .
وفي يونية رسم شباك غرفته بالمصحة من الداخل وقد رصت على حافته الداخلية زجاجتي دواء وكوبين .
ومن شباك غرفته بالمصحة رسم أيضا لوحته البديعة ((أزهار الايريس)) وقد رسم زهورها باللون الأزرق المكتوم كزهور حزينة شيطانية ورسم الأرضية حمراء وقد خرجت منها سيقان النبات الحامل للزهور متشنجة ملتوية في عنف درامي وكأنها تتصارع لتخرج نفسها من ظلمة التربة إلى النور .
كان تغيير المنظر الخارجي عبر نافذة غرفته بمستشفى الأمراض العقلية مختلف عن المنظر الذي يشاهده الآن من نافذة حجرته بالمصحة مما كان حافزا ومنشطا له وامتلأ شغفا لتصوير ما يراه ووجد لعواطفه المضطربة نظيرا في أشجار السرو التي تشبه وتحاكي ألسنة اللهب في تصاعدها العشوائي .
وبدأت تظهر أشجار السرو في لوحاته ..
وكان ظهور أول شجرة سرو كاملة في يونية 1889 داخل لوحته المسماه (حقل القمح الأخضر وشجرة السرو)) وقد بد سيقان أعواد القمح إلى يسار اللوحة مندفعة إلى اليمين بشكل عشوائي عنيف وكأن ريحا تدفعها دفعا .. وفي عمق اللوحة قرب أفقها ظهرت شجرة سرو تتوسط المنظر .. وبدى كأن شرر من لهيب بدأ يشتعل .. وتوالى ظهور أشجار السرو في لوحاته متوالية وقد تزايد تصاعد لهيبها كألسنة حارة ملتهبة ترنو لشق عنان السماء .. ثم ظهرت أشجار السرو تملأ كل مقدم اللوحة . تحتلها بالكامل وكأن لا مكان في اللوحة وفي نفس الفنان إلا للحريق والإحتراق والإشتعال المستمر من ألسنة اللهب التي تشبه في اندفاعاتها والتوائها أشجار السرو .
وتكررت أسماء اللوحات بذات الاسم ((حقل قمح مع شجرة السرو)) حتى وهو يرسم لوحته ((ليل ونجوم)) في يونيو أدخل في المشهد ايضا وفي مقدمته وبشكل متضخم وأساسي شجرة السرو التي بدت في ظلام ليل اللوحة بإيحاء شيطاني انبثق في الليل فجأة وسط البيوت الآمنة وقد شاركتها النجوم في السماء باتجاه حركتها الدوارة العنيفة التي تبدو في لانهائية مرهقة وكأنها تشارك شجرة السرو عنفها وفظاظتها لكن هذه الوحشية والفظاظة تكشف عن حالة من الألم واليأس الداخلي اعتصر الشكل الخارجي اعتصارا مثل ذلك الإعتصار الذي يعيشه الفنان حبيس معاناته .. حتى أن سنابل القمح في تمايلها لا إراديا أمام عينيه شرقا وغربا بدت وكأن أمواج بحر هائج تدفعها في عنف مما أوحى لفان جوخ برؤية مثيرة لقدرية الأشياء وما تلقاه من قسوة غير مبررة .
وسرعان ما ساءت حالته وانعكست حالة متزايدة من اليأس والاكتئاب على لوحاته .. فرسم نفسه ثلاث لوحات شخصية إحداها وهو ممسك باليته ألوانه والفرشاه وينظر إلينا بعين زائغة وكأنه يظهر لنا أن طوق نجاته في أدواته هذه .
وفي المصحة رسم لوحة ((الحاصد)) 1889 التي لو تأملناها نجده وقد رأى شخصية الفلاح الحاصد بمنجله لعيدان القمح وكأنه حاصد الموت في لوحة ساعد اتساعها في الأفق على الإحساس بالوحشة .
ولم يعد فان جوخ يملك الإيمان بسمتقبله الفني وأثر هذا عليه مسببا انتكاسة شديدة فكتب لأخيه يقول : ((منذ أيام وأنا أعاني من تفاقم المرض غير أنني أصارع مع المرض قماشة لوحتي في صورة ((الحاصد)) التي غمرتها كلها بطلاء أصفر كثيف ورغم بساطة المشهد إلا أننني أرى ذلك الحاصد تحت وهج حرارة الشمس كأنه شبحا غامضا يقاتل كالشيطان لإنجاز مهمته .. فبدى لي صورة للموت .. وبدت لي سيقان القمح التي يجمعها بمنجله كأنها بشرا .. ولا أعرف كيف خرج هذا الحاصد الشيطاني إلى الوجود لكنه أتى على النقيض ممن أردت رسمه من قبل .. ويثيرني أن صورة الموت هذه تمضي في خطواتها الواثقة دون أي مظهر من مظاهر الحزن .. ماضية في جرأة في وضح النهار تحت ضوء الشمس الذهبي الذي يغمر الأشياء جميعا)) .
ومما أساء ودهور من حالته النفسية إحساسه الأليم بعدم قدرته على الخروج من المصحة لرسم موضوعات ومشاهد جديدة تنفس عما يعتمل في نفسه من شعور بالوحدة والإكتئاب .. كما أنه لم يرض أن يتخذ من رفقائه مرضى المصحة نماذج لرسمه إشفاقا على مشاعرهم فلجأ إلى الذاكرة لرسم لوحته الهامة التي ذكرناها قبلا في مقابلة مع لوحته ((الملهى الليلي)) وهي لوحة ((غرفة نوم في البيت الأصفر في آرل)) وقد رسمها حنينا إلى غرفة نومه الخاصة والتماسا للعون من أيامه السابقة في آرل ، كما رسم لوحات بالأبيض والأسود يوحي لما رسمه فنانين آخرين معجب بهم .. فرسم لوحات نظيرة من وحي بعض أعمال ميليه وديلاكرواه ولونها بما يصلح لها .. فرسم في أكتوبر لوحة ((السهرة)) وظهر فيها أسرة قروية جالسة مكونة من رجل وزوجته وطفلهما الصغير داخل سريره في المساء وقد اعتمدوا علىم صباح غاز ليضيء جلستهم .. وقد استوحاها فان جوخ من لوحته ((الساهرة)) لميليه ونقلها بمفهومه إلى عصره ورؤيته الخاصة .
وفي نوفمبر 1889 ظهر لأول مرة في لوحات فان جوخ ملاك باسط جناحيه غير اللوحة ولم يظهر مرة ثانية في أية لوحة .
وفي هذه الأثناء في يناير 1890 رسم لوحته ((راحة الظهيرة)) وقد استوحاها أيضا من أعمال ميليه .. اللوحة يظهر فيها فلاح وزوجته مستلقيان تجاوران للراحة فوق كومة قمح تم حصده في حقلهما وقت الظهيرة .. وتظهر اللوحة بوضوح تأثر فان جوخ الشديد بلوحات ميليه وأسلوبها البسيط .
ورسم لوحات أخرى من الذاكرة لفلاحين أشبه بفلاحي ميليه وهم يعملون في الحقول إما لحصد القمح أو نثر البذور ، ورسم لوحة ((راعي الغنم)) و ((فلاحة أمام المغزل)) وظهر الفلاحين في لوحات فان جوخ هذه وقد تخلوا عن حالة البؤس والكآبة التي ظهروا بها في لوحاته القديمة وقد وصاروا مستسلمين لمصيرهم في لامبالاة .
وقد برر فان جوخ لجوئه لرسم لوحات كهذه مستوحاة من الذاكرة لفنانين آخرين في خطاب لأخيه قائلا : ((يطلب منا نحن الفنانين أن نضع أنفسنا في التكوين وتكون جزء منه . نتقلص ولا نكون سوى مكونين ولا شيء سواه .. على حين لا يكون هذا الأمر في الموسيقى .. فالذي يعزف مقطوعة لبيتهوفن يضفي من نفسه على العمل .. وقد فعلت نفس الشيء فجعلت لوحات ميليه وديلاكرواه تتمثل أمامي ثم منحتها لونا لم يكن كله مني ، بل حاولت أن يتماثل اللون وصورهم .. لكن الذاكرة وإيحاءها لي بالإحساس الحق أجدها هي تفسيري الخاص وقد بدأت أقلد لوحاتهم من الذاكرة دون ترتيب مسبق مني ولكن اكشتفت أن هذه الطريقة علمتني أشياء .. ثم أنها وهذا الأهم أمدتني بالعزاء)) .
وقد قادت لوحات ميليه فان جوخ إلى اكتشاف تركيبات لونية جديدة وغريبة وأكثر إثارة من الألوان التي استخدمها في آرل .. فصارت الألوان في لوحاته مكتومة غير ناصعة .. قائمة أو منكسرة مما زاد من دراميتها .. وغالبا ما كونت إحساسا متواترا مع الأبيض فبدت مابين الشفافية والإعتام .. وظهر علىس طح لوحاته الأصفر الباهت المخضر والأزرق الليلي القاتم والوردي الشاحب .
وفي مصحة سانت ريمي رسم لوحاته بغزارة مدهشة وأنتج خوالي مائة وسبع وسبعين عمل تصويري ورسم .. وقد برزت من لوحاته هذه تصويره لنباتات وأشجار تتصارع في تصاعدها لأعلى .. وطرق صاعدة ملتوية وسط أشجار متشجنة متشابكة الأغصان ولكن في قيم فنية إبداعية عالية لم يضاهيه فيها فنان آخر .. فقد بلغ قمة تعبيره الفني في هذه اللوحات المليئة بالصراع الدرامي وأيضا بالحيوية والجاذبية الفنية الطاغية وكان يعمل بغزارة وحيوية مدهشة رغم آلامه المتزايدة .
وفي هذه المرحلة أرسل لأخيه ثيو قائلا : ((عملي هو طوق نجاتي الوحيد الذي ينتشلني من الحضيض الذي يودي بي إلى قدري المحتوم .. إنه ملاذي وخلاصي ..)) .
وفي فبراير 1890 رسم لوحتين عن ((السجناء)) ورسم في أحدهما مشهدا داخل فناء سجن عالي الأسوار وفيه يدور في دائرة الجسناء مغلولين وكأنهم منذ الأبد يدورون هكذا دون تذمر استسلاما لقدرهم غ ير أن أحد هؤلاء هو الفنان نفسه وقد بدت عليه ملامح ثورة مكتومة .
وعن لوحتي السجناء كتب لأخيه : ((إنها صرخة ألم آتية من أعماقي)) وفي لحظات يأس وصراع مع نوبات صرع اجتاحته يكتب لثيو ((أشعر شعور قاطع بأن حيايت فاشلة لذلك أعاني بصورة لاتصدق وبشكل دفين .. مما جعلني أبحث في مواجهة عذابي عن وسائل دفاع شتى .. كالدين .. والعمل الخير .. والفن .. والآن أهب نفسي طواعية للرسم بشكل يتزايد كلما تزايد إحساسي بأنني مهدد وأنني سأواجه بنوبة مقبلة لن تبقى مني شيء)) .
وقد رسم بذات الإحساس القاسي المحموم وهو في قمة آلامه الشموس تدور ذات إيقاعات دوارة بلا نهاية بإحساس غامض عدمي .. والأشجار ملتوية مرعبة .. وحقول قمح ثائرة .. وصور نفسه صورة ذاتية داخل مصحة سانت ريمي للمرة الأخيرة وبدأ فيها كم معاناته مع صراعاته ووحدته وحطامه الكاشف عما يدور بداخله من معركة قاسية .
وفي عزلته في مصحة سان ريمي التي ازادت عليه الوحدة والخوف نصحه أخيه ثيو بالذهاب إلى الطبيب النفسي دكتور جاشيت في أوفير سيرواز خاصة والدكتور جاشيت معروف بصداقاته مع الفنانين .
وأقام فان جوخ في فندق صغير ومن نافذته رسم ((كنيسة أوفير)) وفي ا|لأسبوع الأول من يونيو وقد حقق فيها إيقاعات خطية ولونية باهرة في عنقها وحيويتها معا .. وبدت الكنيسة صاعدة أمام سماء زرقاء داكنة ملتوية وقد لون كلا من جانبي الكنيسة بدون مختلف .. فأحدهما أحمر والآخر برتقالي .
وفي يونية رسم لوحتين للدكتور جاشيت مرتديا قبعته البيضاء وجاكته الأزرق .. وكتب لأخيه يقول : ((إن البورتريه يلعب خيالي وإحساسي أكثر من أي شيء آخر .. ذلك هو البورتريه الحديث وآمل أن أكتشف سره وخفاياه الباطنية من خحلال اللون ولاشك أن ماأريده هو هذا)) .
وفي تلك الفترة رسم في 9 يوليو لوحة ذات أفق واسع ممتد عريض تعكس إحساسه البائس من جديد وأسماها ((حقل قمح والغربان)) 1890 .. وبدى فيها حقل للقمح متسع تحت سماء ضبابية وأعواد القمح ثائرة ومتماوجة بفعل الرياح والغضب .. وكتب لأخيه معبرا عن يأسه ((لم أعد أحتاج أن أخرج من طريقي .. ولا أحاول أن أعبر عن الخوف والعزلة الطويلة)) .
وفي منتصف يوليو رسم ((مبنى البلدية)) في أوفير قبل انتحاره بأسبوعين وهو في قمة التوتر العصبي بلمسات مرتجة وخطوط ملتوية ومتقلصة بنسب غريبة وكأنه مبنى خيالي يتوسط أعلاه ما يشبه البرج الصغير ملتوي إلى أعلى .
وفي مساء 27 يوليو 1890 بعد عودته من أحد حقول القمح وقد أنهى لوحته تحت ضوء شمس يوليو ، أطلق على صدره الرصاص الذي لم يصبه في مقتل ليستريح فقضى يومين يعاني آلاما شديدة من إصابته وتنتهي حياته القاسية في 29 يوليو 1890 .
ومضى فان جوخ بعد حياة قاسية من المعاناة النفسية ومن تجاهل الآخرين لفنه .. فطوال حياته وإنتاجه الغزير لم يبع له أخيه ثيو إلا لوحة واحدة بفرنكات قليلة .
ولينتبه العالم بعد وفاته إلى هذا العبقري المندفق الإبداع .. وقولنا عبقري ليس تجاوزا ولكن عملا بالمقولة التي فيها كثير من الحقيقة أنه ((بين العبقرية والجنون خيط رفيع)) .. ولنتمسك نحن بهذا الخيط فنبحث فيما حدث بعد وفاته .
.. ظهرت رسائل علمية وأبحاث طبية تعد بالمئات عن طبيعة المرض العقلي الذي أطاح بعقل فان جوخ .. ونظر بعين علم النفس إلى لاخطابات المتبادلة مع أخيه والتي بلغت حوالي 652 خطابا بالإضافة إلى حوالي 40 خطابا لأمه ومعارفه .. وتعتبر هذه الخطابات ثروة أدبية وفنية ضخمة يصف فيها معاناته وتجاربه ومواقفه الفنية بإبصار فذ تجاه عمله ومصدر رائع لأخذ الحقائق عن حياه من مصدرها دون أي احتمال للادعاء والتخمين .
ويعتبر فان جوخ من الفنانين الموثقة حياتهم وتطورهم الفني المبكر بطريقة لانظير لها .. حتى بالنسبة للفنانين العظام لم توثق حياهم بهذا الانضباط ويرجع الفضل إلى أخيه ثيو تاجر اللوحات أو قد يرجع هذا إلى عدم اهتمام الناس بأعماله فلم يفقد منها شيء بالبيع فتم الإحتفاظ بكل عمل نفذه مدى حياته تقريبا بما في ذلك تخطيطاته المبكرة جدا ..
وظلت حياته ومعاناته ومماته مصدر موحي لإبداع الآخرين وإلا فلماذا لجأ كاتب مثل آرفينج ستون في الفصل السادس من روايته ((شغف الحياة)) التي كتبها عام 1934 بتصوير فان جوخ وقد التقى بآلهة الفن ((مايا)) التي تقول له في حوار متخيل أنها أحبته منذ أمسك الفم وخط رسومه الأولى لعمال المناجم في البوريفانج وأنها كانت ترافقه على الدوام ..
وكما أثرت حياته على الخيال الأدبي .. كذلك أثرت أعماله كأعظم مصوري مابعد التعبيرية بشكل بالغ وصريح على جماعة القنطرة الألمانية التي كونها لودفيج ىكيرشنر وايريك هيكل وكارل شميدث ورغم إقامة فان جوخ في باريس إلا أنه أثر على الفن في ألماني أكثر منه في فرنسا .. وهذا ليس بغريب كما كتب الناقد والمؤرخ العالمي هربرت ريد بأن : ((فان جوخ بكل خصائصه فنان شمالي اصلا تيوتوني وليس لاتينيا .. قوطي وليس كلاسيكيا .. لذلك لم يكن من العسير على الفنان الألماني أن يستوعبه دون أن يتنكر لتراثه القومي .. فكان فان جوخ وفن إدوار مانش وفن الشعوب البدائية هي الأساس التي كونت أولى المدارس الألمانية المتيمة في الفن الحديث)) .
ونعود إلى مابدأناه في بداية هذا الكتاب وبأن لنا عودة لندرك من خلال أعمال فان جوخ مقولة بيكون بأن : ((الفن هو الطبيعة مضافا إليها الإنسان)) ونحاول الآن معا واستشهادا يقول ناقد ومؤرخ عالمي معرفة كيف رأى فان جوخ الواقع؟)) ..
وبالإجابة على هذا التساؤل .. نبدأ في البداية التي وجدها الفنان في الواقع .. فإن صورة فوتوغرافية تؤخذ من نافذة فان جوخ في المصحة العقلية ترينا بكل موضوعية محايدة الحديقة الصغيرة التيكانت أمام وتحت نظره في سانت ريمي بعد الأزمة التي هزته واعتصرته في آرل .. المنظر يبدو وكأنه منظر معناه من النوع الذي نراه في ضواحي المدن الكبرى .. فكيف عبر عنه فان جوخ في لوحاته وكيف رآه وترجمه بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ؟ .
وعن دراسة نفسية نجد الرد لدى المؤرخ الفني العالمي رينيه ويج في كتابه ((الفن واللوحات)) مستشهدا في كتابه بالمنظر الذي رآه فان جوخ من نافذته ورسمه بعد ذلك عن حقل القمح المحاط بسور حجري قديم وقد جاء في تحليل الناقد العالمي الذي يتفق مع مقولة ((بيكون)) بأن الفن هو الطبيعة مضافا إليها الإنسان قائلا رينيه ويج :((لقد تحول في لوحاته السور الحقير - وليس هذا يبحث تجسيمي بل هو دراما فالأرض أخت في التموج وأصابها تشنج وتبدو صريعة فزع داهم .. إنها تهرب .. تعدو وتقفز فوق الجدار الصغير في الداخل .. وهناك تأخذ الأشكال في الإشتعال كالحريق .. في الأعشاب والأشجار التي صارت شبيهة باللهب .. والجبال بدورها انضمت للعاصفة ، وبدت كأنها تتماوج والشدة الكامنة تنفجر في الشمس .. في أمواج الشمس التي تحرق العالم في نفس الوقت الذي تمده فيه بالحرارة والحياة .
.. وفان جوخ لايقلد الطبيعة بل يضع نفسه فيها .. إنه يستعين بها كما يستعين النحات بالطين الصلصال ليشكل فيه حماة بإبهامه .. ماذا يحدث الآن في اللوحة؟ .. ازداد بروز الحركة في الحقل الذي ليس حقل قمح كما يعنون غالبا .. بل هو حقل شعير ، هكذا ينبغي أن ندقق) وقد تم الحصاد وجمعت الحزم في شكل أكوام صغيرة .. وهذه الأكوام تهتز مثل أمواج العاصفة التي أثارتها نفس فان جوخ .. لقد ألقى بنا في حضرة بحر هائج .. يزيد في دوامه .. وأصبح فان جوخ .. لقد ألقى بنا في حضرة بحر هائج .. يزيد في دوامه .. وأصبح العالم رهيبا وهبة المحيط في غضبه ..
وهذه اللوحة تاريخها يونيو 1889 وبعد ذلك بعام في يوليو 1890 نضج الموضوع وهذا مافعله فان جوخ في حقل شعير سانت ريمي يوليو 1890 .. أن فزع العالم أصبح الآن متفجرا .. والأرض الصغيرة هذا المربع من الحقل الذي كان ثم أمامه ، قد اصبح عالما ينزلق إلى الهاوية .. والأرض تنهض .. والأعشاب تمثلها قسمات متوانية مثل سقوط مطر النواء .. والجدار يزحف .. ويسعى للنجاة .. وللتعلق وللقفز .. ولم تعد ثم سماء .. ولاضوء .. كل شيء يختنقف وكل شيء يساقط ولم يبقى غير الشمس الرهيبة التي ظلت في زاويتها مستمرة في الدوران والتهام العالم .
وهكذا نرى أن مخاوف فان جوخ وفزعه الباطن الذي انتابه الداء فاقتاده إلى الانتحار وكيف أن نفس فان جوخ وعذابات فان جوخ تنتقل إلى مشاعرنا من خلال ماطبع به العالم من تحويل !!)).
هذا التوضيح من رينيه ويج يبين كيف امتزج فان جوخ بالطبيعة ولم يعد يمكن التفريق بينهما فرسمها مضافا إليها معاناته أو من خلال معاناته .. فهذه الطبيعة في لوحاته هي طبيعة فان جوخ النفسية والعصبية وقد امتزجت بطبيعة ماتراه عينيه .
وعن رأي فان جوخ الأخير في الفن وفي معاناته كفنان كتب لأخيه ثيو : ((أنت تتحدث عن الفراغ الذي تشعر به أينما ذهبت وهذا هو بالضبط ما أشعر به .. لنأخذ إن شئت الزمن الذي نحيا فيه كعصر نهضة عظيمة صادقة للفن .. فلاتزال دولة التقليد الرسي حية تنخرولكنها حقيقة واهنة مسلوبة الحركة .. والمصورون الجدد وحدهم فقراء .. يعاملون كالمجانين .. وبسبب هذه المعاملة أصبحوا كذلك .. على ا[لأقل بقدر مايخص حياتهم الإجتماعية)) .
.. وسقط جسد فان جوخ .. وبقى إحساسه فوارا متناثرا على جدران متحاف العالم .. علامات باقية شاهدة لمعاناة ملتهبة .. لم تجف بعد من أثر الحريق .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- ٍسلسلة الفن العالمي، أخبار اليوم.