يزدجرد بن سابور

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولادة بهرام بن يزدجرد

قال: و لما استكمل من ملكه سبع سنين ولد له ابن على أيمن طالع و أسعد طائر فسر بولادته و سماه بهرام. و كان على بابه منجم هندى و آخر فارسى، و هما أبرع أهل زمانهما فى صناعة التنجيم.

فاستحضرهما و أمرهما فنظرا فى طالع بهرام فبشراه بأنه سيصير ملكا كبيرا و سلطانا جليلا، و يملك الأقاليم السبعة. فسر الملك بذلك و خلع عليهما و أحسن اليهما. ثم إن الموبذة و العلماء و أكابر الحضرة اجتمعوا و قالوا إن نشأ هذا الصبى فى حجر أبيه و تخلق بأخلاقه لم يبق من هذه‏ الممالك عين و لا أثر، و لا حجر و لا مدر. و الرأى أن يبعد عنه، و يشار عليه بأن يكفله غيره لنأمن شره و ضره. فدخلوا عليه و كلموه كلام رجل واحد و قالوا: أيها الملك! إن ممالك الشرق و الغرب تحت حكمك، و ملوك الأقاليم كلهم فى رق أمرك. فاختر منهم فى يصلح لحضانة ولدك و كفالته حتى يقوم بها و يعلمه الآداب الملوكية و المراسيم الشاهية فيخرج منه ملك يفتخر به الزمان، و ينتشر به الأمن و الأمان.

فقبل ذلك منهم، و فرق الرسل فى أطراف الممالك فى التماس أهل الدربة و الدراية. فأقبلوا من أقطارهم متوجهين الى بابه.

و وفد عليه المنذر بن النعمان ملك العرب، و ولده النعمان صاحب الخورنق فى جماعة من أمراء العرب و فرسانهم و أبطالهم. فقال المنذر: نحن عبيد الملك مخلصين له فى المشايعة و العبودية. و لا يخفى عليه ما خصصنا به من آداب الفروسية.

و عندنا جماعة من المتبحرين فى العلوم النجومية و الهندسية. تسليم يزدجرد ابنه بهرام إلى المنذر و النعمان ليقوما بتربيته‏ و سأل الملك أن يكفله بهرام ففعل و سلمه إليه.

فحمله و انصرف به إلى بلاد اليمن. و اختار له أربع نسوة ذواب أجسام صحيحة و أنشاب صريحة و أذهان ذكية و آداب مرضية.

اثنتان منهن من بنات أشراف العرب، و اثنتان من بنات أكابر العجم. فكنّ يرضعنه و لم يفطمنه إلا بعد أربع سنين، و لما طعن فى السنة السابعة قال للمنذر:

لا تعدنى صبيا رضيعا، و سلمنى إلى من يعلمنى الآداب و العلم، و لا تتركنى منهمكا فى البطالة و الكسل.

فقال له المنذر: إنك بعدُ صغير السن، و لم يأن لك ذلك. و إذا بلغت سنا تطيق فيه التعلم و التأدب أحضرتك من يعلمك ذلك. فقال: أيها الرجل لا تستصغرنى، و انظر إلىّ بعين الكبر. فالذنب للعين لا للنجم فى الصغر.

فإنى و إن كنت صغير السن فعقلي وافر. و أنت و إن كنت طاعنا فى السن فعقلك ناقص. و غريزتي مباينة لغريزتك. فلا تنظر إلىّ نظرك إلى نفسك، و إنك إذا انتظرت زمانا آخر لتعلمنى و تؤدبني فات الوقت و لم يثمر عند ذلك الجدّ و الجهد.

فعلمنى ما يليق بالملوك من الآداب. فإن التعلم رأس مال ذوى الألباب. و طوبى لمن عنى بخاتمه أمره فى ريعان عمره.

فتعجب المنذر من كلامه، و سمى اللّه عليه، و نفذ الى بلاد ايران من أتاه بأربعة من الموابذة: أحدهم ليعلمه الخط و الكتابة. و الثانى ليعلمه الصيد و الطرد. و الثالث من يعلمه الرماية و اللعب بالكرة و الصولجان و مطاردة الأقران فى الضراب و الطعان، و تصريف الأعنة و عطفها يمنة و يسرة فى المعترك و الميدان، و الرابع من يسرد عليه سير الملوك و تواريخهم و يخبره عن أفعالهم الحميدة و أقوالهم السيدة.

قال: فلما حصلوا عند المنذر سلم بهرام اليهم فأخذوا فى تعليمه حتى برع فى جميع ما قصدوا لتعليمه إياه.

و لما بلغ سنة ثمانى عشرة سنة عن استغنى عن المعلمين فأشار على المنذر بأن يردّهم . فخلع عليهم المنذر و أعطاهم أموالا وافرة. و ردّهم الى بلادهم مسرورين مغبوطين.

قال: فسأل بهرام المنذر أن يأمر فرسان العرب بأن يجروا بين يديه خيولهم العراب ليشترى منها ما يريد. فقال: أيها الشهريار! إذا كنت تشترى الخيل فلمن أعددت الجرد العتاق و الحُصن العراب! هل هى إلا لك و صاحبها بين يديك؟ فقال: إنى ما أريد من الخيل إلا ما أعدّيه فى المهابط ثم أضمره حتى يصير و الريح طليقى عنان، و شريكى رهان. و إذا لم يكن المركوب مجربا فلا ينبغى أن يعتمد عليه الراكب. قال: فنفذ المنذر ولده النعمان الى قبائل العرب ليختار له الخيل. فاختار مائة فرس و جاء بها الى بهرام. فخرج الى ميدان المنذر، و أجراهن فاختار منها فرسين: كميتا و أشقر قد جلبا من أرض الكوفة. فاشتراهما له المنذر و وهبهما له. ثم إنه قال ذات يوم للمنذر: إن وجوه الرجال لتصفر من ضيق الصدور، و إنما تحسن مناظرهم بالنشاط و السرور. و ليس شي‏ء أجلب للفرح و الانشراح من النظر الى الوجوه الصباح.

و المرأة سكن الرجل مالكا كان أو مملوكا. و هى التى تلجم الشباب بشكيمة العقل، و تصونهم عن الغباوة و الجهل. فأمر بعرض الجوارى علىّ لأختار منهن واحدة أو اثنتين ليكون الرب عنى راضيا، و أكون بين الناس محمودا. فأمر الملك فجاءوا بأربعين من الوصائف الروميات. و عرضهن عليه فاختار منهن جاريتين أحسن ما يكون من البشر، و إحداهما جنكية. فشغف بهما بهرام‏


قصة بهرام مع الجارية المغنية في الصيد

فلم يكن له شغل سوى مطاردة الأقران و اللعب بالكرة و الصولجان و مداعبة النسوان. فخرج يوما الى الصيد و معه الجارية المغنية. و كان له هجين مسرج بسرج مغطى بالديباج، له أربعة رُكب : ركابان من الذهب و ركابان من الفضة. فيركبه و يرتدف الجارية و فى حجرها الجنك، و معه العدّة ، و تحت ركابه قوس البندق. فبينا هو يعدى الهجين فى الصحراء إذ عنّ له غزالان ذكر و أنثى فقال للجارية: أى الغزالين أرمى؟ فقالت: إن رمى الغزال أمر هين.

و لكن اجعل بنشابك الأنثى منهما ذكرا و الذكر أنثى. ثم ارم الذكر و هو يعدو ببندقة فى إحدى أذنيه فانه يرفع رجله فيحك بها أذنه. فارمه عند ذلك بنشابة أخرى تخيط بها رجله الى أذنه الى رأسه. قال: فوتر قوسه و استخرج نشابة ذات مشقص برأسين. فسدّدها نحو الذكر فاختطف قرينه من رأسه فصار بذلك أنثى أى أجمّ .

ثم أخرج نشابة أخرى فأصاب بها ورك الأنثى فنفذت النشابة فيها حتى خرج نصلها من أم رأسها، و أعقبها بأخرى مثلها. فصارا فى رأسها كالقرنين لها. فعادت بذلك الأنثى ذكرا، و أى ذات قرنين كالذكر. ثم روى الغزال الأوّل فى أذنه ببندقة فخدِرت فرفع ظلفه يحكها به. فرماه حينئذ أخرى خاط بها رجله و أذنه و رأسه جميعا. فرقت الجارية عند ذلك للغزالين فمدّ يده اليها فألقاها من خلفه الى الأرض، و أوطأها الهجين فداسها بأخفافه حتى ماتت. و أنكر اقتراحها عليه مثل ذلك مع صعوبته و قال: لو لم أصب كما قلت لضاقت علىّ الأرض برحبها، و كدت أهلك أسفا. ثم لم يستصحب بعد ذلك جارية الى الصيد.


استعراض بهرام فنونه و مهارته في الصيد

قال: و بعد أسبوع آخر خرج الى الصيد بالبزاة و الفهود فرأى فى سفح بعض الجبال أسدا قد افترس حمار وحش فرماه بنشابة أنفذها فيهما حتى مرقت. فتعجب المنذر من قوّته و اشتداد يده، و أمر بإحضار المصوّر فأمره فأخذ ثوب حرير و صوّر عليه صورة بهرام راكبا على الهجين، و صورة الغزالين المذكورين على هيئتهما، و صورة الأسد و حمار الوحش و النشابة النافذة فيهما، الى غير ذلك من أفعاله العجيبة فى صيد النعام و السباع و الوحوش. ثم نفذها الى أبيه يزدجرد. و كان كلما رأى منه شيئا عجبا أمر المصوّر بتصويره و نفذ الصورة الى الملك.

اشتياق بهرام لرؤية أبيه يزدجرد و ذهابه مع المنذر إليه‏ ثم إن بهرام قال للمنذر ذات يوم. قد اشتقت الى لقاء الملك فردّنى اليه. فهيأ أسبابه و جهزه الى أبيه، و نفذ فى خدمته ولده النعمان. فلما أتى الخبر يزدجرد بوصول بهرام و النعمان أمر أكابر الدولة و أعيان الحضرة باستقبالهما فتلقوه. و لما دخل على الملك تعجب من شكله و قدّه و قالبه، و بهت لجماله و بهائه و رونقه. فساءله و سايل النعمان، و أكثر مسايلته و أكرمهما.

فأنزل بهرام فى قصره و أنزل النعمان فى منزل يليق به. فصار بهرام يلازم أباه و يقف فى خدمته ليلا و نهارا حتى لا يقدر أن يحك رأسه. ثم استحضر الملك و النعمان بعد شهر و أقعده على التخت عنده و قال له: إن المنذر قد تحمل فى تربية بهرام عناء كبيرا، و علىّ مجازاته.

فأعطاه خمسين ألف دينار، و خلعة من ملابسه الخاصة، و عشرة أفراس و بآلات الذهب، و عدّة من الجوارى و الغلمان. و صرفه الى أبيه و كتب اليه كتابا يشكره فيه. ثم لما انصرف النعمان شيعه بهرام، و شكا اليه سوء أخلاق أبيه، و سأله أن يبلغ ذلك الى المنذر. فسار النعمان و بقى بهرام يخدم أباه ليلا و نهارا.

يزدجرد يلقي ابنه بهرام في السجن و رجوع بهرام ثانية إلى المنذر فاتفق أنه ذات ليلة كان واقفا على رأسه فغلبه النوم. فالتفت اليه فرآه قد غمض عينيه‏ فصاح عليه، و أمر بعض الحرس بأن يلزمه فى بيته، و لا يدعه أن يخرج بعد ذلك. فاحتبس بهرام فى إيوانه لا يخرج الى صيد و لا الى ميدان. فاتفق أن ورد على يزدجرد رسول من الروم فأرسل بهرام اليه و سأله أن يخاطب أباه فيه و يستأذن له فى الرجوع الى المنذر و معاودة بلاد العرب. ففعل الرسول ذلك فأذن له. فركب و لحق بمن رباه لا عناه أباه. فأعاده المنذر الى ما كان عليه من الكرامة و الإعزاز.


ذهاب يزدجرد إلى طوس للاستشفاء و مقتله بضربات فرس الماء برجليه له‏

ثم إن يزدجرد سأل بعض المنجمين عن عاقبة ملكه و خاتمة أمره، و عن أمارات تدل على اقتراب أجله. فقال: اذا حصل الملك عند عين الماء المعروفة بعين السوء- و هى عند بيت نارلهم فى خراسان عند مدينة طوس- فقد قرب أجله. فحلف ألا يأتى تلك العين أبدا. فلما كان بعد مدّة أخرى مرض و ابتلى بالرعاف الكثير المتواتر فعالجه الطبيب فلم ينجع فيه. فأشار عليه بأن يصير الى عين السوء و يغتسل فيها ليسكن رعافه. فاضطرّ عند ذلك الى المصير اليها. فسار فى العماريات الى تلك العين. فنضح من ذلك الماء على رأسه فسكن الرعاف و عوفى، و أقام عند تلك العين مسرورا. فلما كان ذات يوم خرج من ذلك الماء فرس أشهب نهد كالأسد، يصهل، فى أحسن صورة و أجمل هيئة. فأمر أصحابه بأن يحدقوا به و يأخذوه فلم يقدروا عليه. فوثب بنفسه و اتبعه. فوقف له فألجمه و وضع عليه ظهره السرج، و شدّ حزامه و لببه، و هو واقف بين يديه مستكينا له كالحمار الدبِر . فاستدار من خلفه و رفع من ذنبه ليثفره فرفسه فى صدره برجليه فخرّ فى الحال ميتا. و عاد الفرس الى الماء، و انغمس فيه حتى غاب. فوقع الضجيج فى العسكر و هم ما بين شامت يظهر الجزع، و متباك يضمر الفرح.

جواب الموبذ الى الشاه‏

قال: ثم جاء الموبذ و شق عن در يزدجرد و خاصرته و رأسه. و وضعوه فى تابوت من الذهب. و حملوه فى مهد من الساج. و نقلوه الى بلاد فارس. و عملوا له ناووسا و وضعوه فيه. ترشيح كبار الفرس خسرو للرئاسة بعد يزدجرد و لما فرغوا من ذلك كله اجتمعت أكابر الفرس و علماؤهم و موابذتهم، و تشاورا فيمن يقوم مقامه. فصاروا يدا واحدة على ألا يولوا أحدا من شجرة يزدجرد لما نالهم من ظلمه و جوره. و كان فيهم رجل كبير من الشجرة الكيانية يسمى خُسرو . فاتفقوا عليه و أقعدوه على تخت السلطنة، و حيوه بتحية الملوك. علم بهرام بموت أبيه يزدجرد فبلغ الخبر بهرام فأخذه المقيم المقعد فجلس فى عزاء أبيه، و حضره المنذر و النعمان فى جميع أمراء العراب. فقال بهرام: إنه إن استمر حال الإيرانيين على ما هم عليه قصدوا ممالك العرب، و نالوهم بكل سوء و مكروه. فعاونونى عليهم حتى أخلص منهم حقى و أخلص الى سرير أبى.

فجمع المنذر ثلاثين ألف فارس، و سار مع بهرام متوجها الى طيسفون، و أخذ يعيث فى أطراف ممالك الفرس.


رسالة بعثها الإيرانيون إلى المنذر و جوابه عليها

فأرسلوا اليه رسولا. فلما وصل اليه الرسول أمره بأن يصير الى مخيم بهرام. فلما رأى الرسول بهرام و شكله و بهاءه و أبهته تعجب منه، و قال: من يصلح للملك غيره؟ ثم أدّى عنده الرسالة فأحال بالجواب على و المنذر فأجابه المنذر و ردّه .

حديث بهرام مع الإيرانيين عن جدارته بالملك‏

و لم تزل الرسل متردّدة حتى استقر الأمر بين أكابر فارس و بهرام و المنذر على أن ينصبوا تختا و يضعوا عليه التاج و زينة الملك، و يشدّوا الى قائمتى التخت سبعين ضاريين مجوّعين . ثم ينتدب لهما بهرام و خسرو. فمن قهر السبعين منهما، و تناول التاج من التخت فهو الملك.

رفع بهرام التاج من بين الأسود

ففعلوا ذلك. و حضر بهرام فى عدّته ، و حضر خسرو، و اجتمع جميع أكابر المملكة.


حرب بهرام و خسرو مع الاسود

فقال بهرام لخسرو: تقدّم . فقال: أنا بيدى الأمر، و معى التاج و معى و الطوق، و أنت الطالب. فتقدّم أنت. فتناول الجرز فقال له موبذ الموبذان: إنا برآء من دمك أيها الشهريار. فقال نعم! و أقدم على السبعين. فقال له الموبذ: تب الى اللّه تعالى، و انو الخير ينصرك اللّه على السبعين. فتقدم كأنه ركن من جبل. فوثب اليه أحد السبعين فتلقاه بجرزه و ضربه على أم رأسه فرضّه و خر كأنه خباء مقوّض . ثم أقبل الى السبع الآخر و ضرب جبهته بذلك الجرز فأثخنه فخر أيضا كجلمود ضخر حطله السبيل من عل. فتناول عند ذلك التاج و عقده على رأسه و تسنم التخت فكان خسرو أول من حياه بتحية الملك، و دعا له و أثنى عليه، و قال: أنت الملك و نحن عبيدك، و أنت السلطان و نحن جنودك، و نثرت عليه الجواهر و ضربت البشائر و قيل ما معناه قول الشاعر:

قد رجع الحق الى نصابه و أنت من دون الورى أولى به‏