يزدجرد الثالث

من معرفة المصادر

<شاهنامه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذكر نوبة يزدجرد و هو آخر ملوك العجم و كانت مدّة ولايته عشرين سنة

قال صاحب الكتاب: و لما تسنم يزدجرد سرير الملك، و لبس تاج السلطنة، و حضرته الأمراء و الأكابر و الأعيان و الأماثل قال: أنا الولد الطاره الذى ورثت هذا الملك كابر عن كابر. و سأجذب بأعضاد الأصاغر، و أزيد فى مراتب الأكابر، و أتجنب فيكم العتوّ و الطغيان، و لا أوثر إلا العدل و الإحسان. فانه لا يبقى للملوك سوى ذكر جميل هو للانسان عمر ثان. و ما أحسن حلية العدل و الدين على نحور السلاطين! و رأيى فيكم أن أفرغ و سعى فى قلع شأفة الشر، و أقصر جهدى على إحياء معالم الحق. قال: فبقى ينهى و يأمر، و يبرم و ينقض، و يورد و صدر حتى أتت على ملكه ستة عشر عاما فآذن بناء الدولة الساسانية بالانقضاض، و تسلطت من المسلمين على قواعد ملكهم أيدى الانتقاض‏ و حينئذ امتلأ صاع ملوك العجم و استعلت الأنوار الإسلامية فزحزحت تلك الظلَم .


إغارة سعد بن أبي وقاص على إيران و إرسال يزدجرد رستم لحربه‏

فنفذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبى وقاص رضي اللّه عنه لقتالهم. فلما بلغ ذلك يزدجِرد جمع عساكر كثيرة خذلهم التوفيق، فجعلهم تحت راية رستم الذى سبق ذكره، و كان بهلوانا شجاعا و فارسا مقداما، فجهزه بهم الى القادسية حين وصلت اليها عساكر الإسلام.

فالتقوا هنالك و جرت بينهم وقعة عظيمة. و كانت الحرب بينهم أوّلا فقتل من الجانبين خلق كثير. ثم ظهرت الغلبة الاسلامية. و كان رستم منجما فرئي طالع الفرس منحوسا، و علم أن نعيمهم عاد بؤسا.

فكتب كتابا الى أخيه مشحونا بالأسف و الحزن، و يذكره فيه أن نظرت فى أسرار الكواكب، و استشفقت أستار العواقب فرأيت بيت ملك الساسانية خاليا، و رسم سلطانهم عافيا، و انفقت الشمس و القمر و الزهرة فى طالع العرب.

فلن يروا سوى الخير و العلاء. و أما من جانبنا فقد صار الميزان خاليا فلسنا نرى غير العناء و الشفاء. و لقد أمعنت النظر، و بين أيدينا أمر عظيم و خطب جسيم. و الأولى أن أوثر السكوت و أفوّض الأمر الى مالك الملك و الملكوت.

و قال فى كتابه: و إن الرسل تختلف بيننا و بينهم. و هم يلتمسون أن نقاسمهم الأرض فيكون لهم ما وراء الفرات، و يكون لنا ما دونه على أن نفتح لهم الطريق الى السوق حتى يدخلوا إليها و يتسوّقوا هذا قولهم، و يا ليته وافقه فعلهم. ثم إنه يجرى كل يوم وقعة يهلك فيها خلق من الايرانيين.

و الذين معى منهم قوم مغترون بشجاعتهم و رجوليتهم و وفورة عددهم و عدُدهم ، و مستصغرون أمر العدوّ القادر، و لا يدون سر الفلك الدائر. فاذا وقفت على كتابى هذا فاجمع أموالك و خزائنك، و خيلك و رجلك، و انهض الى آذَربيجَان ، و اعتصم بتلك البلاد. و اشرح لأمى حالى و سلها الدعاء.

فانى و أصحابى فى عناء و تعب و همّ و أسف. و أنا أعلم أنى لا أسلم بالآخرة من هذه الوقعة. ثم عليك بحفظ المَلك فانه لم يبق من هذه الشجرة أحد سواه. فاللّه يحفظه و يتولاه. ثم أطال ذيل الكتاب فى هذا المعنى. و لما ختمه نفذه الى أخيه.

رسالة رستم إلى سعد بن أبي وقاص‏

و كتب كتابا الى سعد بن أبى وقاص رضي اللّه عنه، على الحرير الأبيض. و شحنه بالوعد و الوعيد و جعل عنوانه و من رُستَم بن هُرمُزد الى سعد بن أبى و قاص. و افتتح كتابه بحمد اللّه و الثناء عليه ثم الدعاء ليزدجرد صاحب التاج و التخت.

ثم قال: أعلمنى بما أنت عليه من دينك، و رسمك و آيينك. و أخبرنى مَن سلطانك و بمن اعتضادك و اعتصامك. فقد جئت فى عساكر حفاة عراة بلا ثقل و لا رحل و لا فيل و لا تخت. ثم بلغ بكم الأمر من شربكم ألبان الإبل و أكلكم أضباب القيعان إلى تمنى أسرّة الملوك العجم أرباب التخوت و التيجان.

فأقبل الى خدمة الملك حتى ترى من اذا تبسم و هب أثمان جميع رءوس العرب، و لا ينقص ذلك كنزه شيئا. و هو الذى على بابه من السباع الضوارى المعلمة و الجوارح اثنا عشر ألفا بأطواق الذهب و أفراطه، و تزيد نفقاتهم لسنتهم الواحدة على جميع حاصل بلاد العرب.

و أخذ فى كتابه يرفع أمر العجم بالملابس و المفارش، و يضع قدر العرب بالمطاعم و المكاسب، و لا يعرف أن المجد، وراء ذلك. ثم إنه التمس فى كتابه أن يرسل اليه رسولا يطلعه على مقصوده من قتال العجم حتى ينفذه الى حضرة يزدجرد، و يعرض عليه ما تحمله. فختم الكتاب و بعثه الى سعد بن ابي وقاص رضي اللّه عنه على يدى فيروز بن سابور أحد أمرائه، فى جماعة من أماثل الفرس، فى الملابس الخسروانية، و المناطق البرصعة، و الأسلحة المحلاة بالذهب.

إجابة سعد بن أبي وقاص على رسالة رستم‏

فاستقبلهم سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه و أكرمهم ثم أنزلهم فى منزله، و طرح رداءه تحت فيروز، و اعتذر اليه من رثاثة الملبوس و المبسوط، و قال: إن قوم لا نعوّل إلا على الصفاح و الرماح، و لا نقول بالديباج و الحرير و المسك و العبير، و لا نفتخر بالمطعم و المشرب. ثم سمع رسالته و قرأ كتابه.

فكتب الجواب، و افتتح الكتاب ببسم اللّه الرحمن الرحيم‏ و الصلاة على محمد خاتم الرسل و الهادى الى أقوم السبل، الذى هو خيرة الخلق، و و الصادع بالصدق و الحق، و النبى الهاشمىّ المبعوث الى الجنى و الآدمى. و شحنه بالوعد و الوعيد، و مواعظ القرآن المجيد، و سائر ما يرجع بالتعظيم للّه و التمجيد، و التقديس و التوحيد. و وصفَ الجنة و نعيمها و ذكر بعض ما فيها من الحوار العين، و الماء المعين، و شجرة طوبى، و جنات الفردوس الأعلى. ثم وصف السعير و العذاب و الزمهرير.

ثم قال: و إن تبع ملككم هذا النبى الطاهر، و زين بقبول رسالته الباطن و الظاهر، فملك الدارين له مسلم، و هو على التاج و التخت مقرر محكّم . و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم له شافعا مشفعا.

ثم قال: ما باله يستعظم هكذا أمر تاجه و تخته، و يُعجب بسواره و طرقه، و يزهى بمجالسه و ملابسه؟ ألا يعلم أن شعرة واحدة من حورية خير من جميع ذلك؟ و لم يربط قلبه بدنيا لا تساوى عند العاقل شربة ماء؟ فان أنتم تبعتم الأمر و أسلمتم فالجنة مأواكم، و إن أبيتم و حاربتم فالجحيم مثواكم. فأعلمونى بما يسفر عنه آراءكم. و السلام.

فختم الكتاب و نفذه مع شُعبة - هكذا قال. فأقبل متقلدا سيفه حتى قرب من مخيم رستم فأعلم بوصول رسول سعد. فاحتفل و جلس فى سرادق من الديباج، و حضر عنده ستون نفسا من أكابر إيران فى الأطواق و الأقراط، و المداسات الذهبية.

فأذن لشعبة بالدخول فدخل حاملا، سيفه، و عليه ثوب ممزق الأذيال. فما وطئ تلك البسط، و لا داسها برجله، بل سار على التراب، رهوا رهوا لا يلتفت الى أحد حتى قرب من رستم.

فقال: إن قبلت الدين فعليك السلام. فعظم تحيته على رستم فأعرض بوجهه، و تلوى على نفسه. ثم تناول منه الكتاب. و لما قرأه قال: ما أقول لسعد و شكايتى من طالع لى نحسن؟ و لكن الموت تحت ظلال السيوف أحب إلىّ من حياة فى ذل.

قتال رستم مع سعد بن أبي وقاص و مقتل رستم‏

فردّ شعبةَ ، و عزم على القتال، و أمر بدق الكوسات، و النفخ فى البوقات و النايات. و عند ذلك ثار المسلمون الى أعراف الخيول، و اعتقال الرماح، و اختراط السيوف.

و تدانى الفريقان، و التقى الجمعان، و نشبت الحرب بينهم ثلاثة أيام. و ثقلت على الإيرانيين أسلحتهم حتى كادت تحترق أجسادهم‏ تحت الدروع، و تذوب أفئدتهم بين أحناء الضلوع. و غلبهم العطش حتى عصبت أشداقهم، و غارت أحداقهم.

و بلغ بهم و بدوابهم الأمر الى أن أكلوا الطين و التراب المبلول. فلما رأى رستم ذلك بارز سعد فغلبه سعد، و ضرب على رأسه ضربة تشظت منه بيضته، و انقلقت هامته فضربه ضربة ثانية نزلت من عاتقه الى صدره.

و اللّه يختص من يشاء بنصره. فهلك رستم و انهزم الفرس فتبعهم المسلمون فقتلوا بعضهم، و مات من العطش بعضهم. و فباخ جمرهم و صاروا رمادا تذروه الرياح. فركب المسلمون صهوات النصر راكضين ليلا و نهارا فى عساكر كالسيل و الليل حتى نزلوا على بغداد- هكذا قال- و فيها يزدجرد.

مشورة يزدجرد مع الإيرانيين و ذهابه إلى خراسان‏

فعبر فرخ زاذ أخو رستم المقتول دجلة و تبعته عساكر المدينة. فلقيهم المسلمون فى الكرخ، و جرت بينهم وقعة عظيمة قتل بها خلق كثير من الفرس، و جرح منهم خلق آخرون.

فانصرف فرخ زاذ و دخل على يزدجرد و قال: لا تقيم بهذه المدينة فقد أصبحت هاهنا وحيدا، و حواليك من العدوّ مائة ألف. فاخرج الى خراسان حتى تجتمع عليك العساكر هناك.

فخلا يزدجرد بأصحابه، و فاوضهم فيما أشار عليه فرخ زاذ فاستصوبوا رأيه. فتردّ فى ذلك ثم صمم العزم على المسير، و قال: الأصواب أن نسير الى خراسان فان لنا فيها جماعة من المماليك. و اذا حصلتُ هناك، لا محالة، يأتينا رسل الخاقان، و أكابر الصين فتجرى بيننا و بينه مصاهرة و نعتضد به ثم نشتغل بكفاية العدوّ .

و أيضا فان صاحب مرو المسمى ماهويه يمدّنا و يؤثر معاضدتنا و مظاهرتنا. فإنه كان راعيا من رعاة، و خيلنا، و نحن جذبنا بضبعه، و نوّهنا بذكره.

و إنه و إن كان لئيم الأصل فهو لا ينكر أنه من إنشاء نعمتنا و صنائع دولتنا. و قد قيل: احترز ممن أسأت اليه و آذيته، و ارجُ من أحسنت اليه و ربيته. و نحن نؤد ماهويه فلعله لا ينسى أيادينا. فصفق فرخ زاذ بيديه، و قال: أيها الملك! لا تأمن خبيث الأصل فانه يكون مجبولا على الشر. و لا يخفى على العاقل أن الطباع تأبى على الناقل.

فقال: أيها البهلوان! نحن نجربه، و لا يضرنا منه شي‏ء. و لما أصبح من الغد ركب و خرج من بغداد، و أخذ فى طريق خراسان فتبعه أهل المدينة يبكون و يضجون. فوقف ساعة و ودعهم، و كان ذلك آخر عهده بهم. و سار يصل السير يا بالسرى الى أن وصل الى الرىّ فأقام بها أياما حتى استراح و أراح. فارتحل منها و سار الى بُست .

رسالة يزدجرد إلى ماهويه السوري‏

و كتب كتابا الى‏ ماهويه يذكر فيه ما جرى عليه و على عساكره فى قتال المسلمين، و يقول له: إنى اذا وصلت الى نيسابور لا أقيم فيها أكثر من أسبوع. و سأقدم مرو. فأعدّ و استعدّ . و طير بهذا الكتاب راكبا الى مرو.

رسالة يزدجرد الثانية

و كتب أيضا الى والى طوس، و الى سائر ولاة البلاد المتاخمة لها يعلمهم بحاله، و يأمرهم بالاجتماع و الاحتشاد.

ذهاب يزدجرد إلى طوس و استقبال ماهويه السوري له‏

ثم إنه ارتحل من بُست و سار الى نيسابور، و يسار من نيسابور نحو طوس.

فلما سمع ماهويه بذلك تلقاه. و لما وقعت عينه على طلعة الملك ترجل، و عفر وجهة فى التراب بين يديه، و رآه أخذ يمشى فى موكبه و هو يبكى و يتوجع لما حزب الملك حتى اضطرّ الى مفارقة الوطن. و لما رآه فرُّخ زاذ على تلك الهيئة و نظر الى عساكره الكثيفة سر بذلك فوعظه و نصحه و بالغ و قال له: أيها البهلوان! إنى قد سلمت اليك هذا الملك. فينبغى لك أن تجدّ و تجتهد و تكشف دونه عن ساق جدّك حتى لا يمسه سوء و لا يصيبه مكروه. فانى لا بدّ لى من الانصراف الى الرى، و لست أدرى هل أرى هذا التاج مرة أخرى أم لا فقد قتل كثير من أمثالى فى هذه الوقائع.

و إنما أذهب لأجمع عساكرى الرى و أصبهان و أقدم بهم على الملك. فقال ماهويه: إن الملك أعز علىّ من هذه العين الباصرة، و نصحك مقبول، و قولك مسموع. فثنى فرخ زاذ عنانه، و توجه نحو الرى باذن الملك.

قال: و انتهى الخبر الى مرو بأن عساكر سعد بن أبى و قاص رضي اللّه عنه أخذوا المدائن و سائر ما تاخمها من بلاد المملكة فعظم ذلك على يزدجرد. و لما علم ماهويه بأن أمره قد أشفى على الزوال دار فى رأسه هوى السلطنة فقلب ليزدجرد ظهر المجن فتمارض أياما، و صار لا يواظب على إقامة شرائط خدمته، كما كان يواظب عليها من قبل.

تحريض ماهويه السوري بيزن على حرب يزدجرد و التجاء الملك إلى الطاحون‏

و كان لسمرقند ملك من ملوك الترك يسمى بيَزن . و كان شجاعا بطلا مشهورا بالرجولية و البسالة. فكتب الخائن اليه كتابا يعلمه فيه‏ بحصول ملك إيران فى مرو، و يشير عليه بأن ينهض اليه و ينتهز الفرصة و يقبض عليه. فلما أتاه الكتاب شاوروا وزيره فى ذلك.

فقال: الرأى أن تندب لهذا الأمر ولدك برسام، و لا تفارق أرضك. فإنك إن فعلت ذلك نسبوك الى النزق و الطيش. فانتخَب عشرة آلاف فارس و جهزهم تحت راية ولده الى مرو. فوصل العسكر من بخارا الى مرو فى أسبوع فدقوا الكوسات فى جنح الليل، و الملك فى شغل شاغل عن ذلك.

و لما أصبح ماهويه أتاه فارس و قال له فى السر: إن العسكر قد وصل فافعل ما ترى. فردّه و ركب فى عساكره مظهرا لمنابذتهم. و لبس الملك سلاحه. و تلقوا العدوّ . فلما اصطف الفريقان و تقابل الجمعان وقف الملك فى القلب فتتابعت عليه حملات الأتراك فخاض بنفسه غمرة الحرب، و ردّ فى وجوههم بعض تلك الحملات.

فتهازم ماهويه عند ذلك فى جنوده، على مواطأة كانت بينه و بين الترك، فالتفت يزدجرد، و لما رأى صنيع ماهويه أحس بالحال فولى ظهره للفرار، و تبعه الأتراك كالماء و النار.

فرأى طاحونة على ماء الزرق فنزل عن الفرس و تركه، و مشى حتى دخل الى الطاحونة و اختفى فيها. و كانت فرسان الأتراك فى أثره فرأوا فرسا عائرا مغمورا فى الذهب فأحدقوا به و أخذوا فى قسمة عدّته ، و اشتغلوا بذلك حتى أمسوا فانصرفوا.

و بقى يزدجرد فى الطاحونة حليف الحَرب و الويل باكيا طول الليل.

و لما أصبح جاء الطحان فدخلها فرأى رجلا كالسرو الباسق، على رأسه تاج مرصع، و عليه قباء من الديباج الصينى مذهب، و فى رجله مداس ذهبى، و هو قاعد هناك على الحشيش و التراب، يظهر عليه أثر الخزن و الاكتئاب.

فقال: أيها الشهريار! من أنت؟ و ما الذى ألجاك الى الدخول الى هذا و الموضع الخراب، و الجلوس على فرش الصحى و التراب؟

فقال: أنا رجل من الفرس هربت من الترك الى هذا المكان، و اختفيت منهم فيه.

فقال: أى شي‏ء أصنع لضيف مثلك و إنما عندى أقراص شعير لا غير؟

فقال يزدجرد: أحضر ما عنك. فجاء بطبق خلاف عليه قرص شعير، و باقة بقل. فطلب يزدجرد منه البرسَم . فخرج الرجل يطلبه له فجاء إلى بيت زعيم الزرق لطلب البرسم.

فقال له: لمن ترديد ذلك؟ فذكر أنه وجد فى الطاحونة رجلا من صفته كيت و كيت.

و قد قدمت اليه شيئا يأكله فطلب البرسم. فعلم الزعم أنه الملك. فأمره بأن يقصد باب ماهويه، و يقول له ذلك. و و كل به رجلا، و أنفذه اليه. فدخل عليه و سأله عن الحال فجعل العلج يصف له شكل الملك و شمائله و حلتيه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حوار ماهويه و رادويه الموبذ

فعلم الخائن الغادر أنه هو فقال: ارجع الساعة و اقطع رأسه. و إن لم تفعل قطعت رأسك. فأنكر عليه ذلك جماعة من الموابذة كانوا عنده حاضرين، و قالوا: لا تغمس يدك فى دم مولاك، و لا تأمن دوائر الأفلاك.

و اعلم أن الملك و النبوّة فصان فى خاتم. و مهما كسرت أحدهما فقد كسرت الخاتم، و أقمت بذلك على الدين و الدنيا المآتم. و اذكر مبدأ أمرك إذ كنت راعيا من رعاة البَهم فجعلك هذا الملك حاميا من حماة الدّهم . و لم يزل يمدّ بضبعك حتى صيرك صاحب جيش خراسان، و قائد قوّاد آل ساسان. فلا تقابل حق نعمته بالكفران، و لا تلق قيادك الى يد الشيطان».

و اتفقوا على لومه و تعنيفه و منعه و توبيخه- و أطال صاحب الكتاب بنَفسه فى حكاية خطابهم له فى ذلك- فكان كلامهم عنده كالماء يجرى على الصخرة الصماء. و كان هوى السلطنة قد تمكن من دماغه و قلبه، و غطى على بصر بصيرته فصار لا يفرق بين رشده و غيه. فقال لهم: انصرفوا الآن حتى نفكر الليلة فى أمره. فقاموا فاستحضر جماعة من جهلة أصحابه، و خلا بهم و قال: قد ظهر الآن هذا السر، و علم به الناس و شاع بينهم.

و إن تركنا يزدجرد و لم ننزع منه رداء الحياة لم نأمن شره و معرّته . فإن العساكر يجتمعون عليه، لا محالة. و عند ذلك يقوى عضده و يشتدّ ساعده فلا يبقى منا عينا و لا أثرا، و لا يترك فى بلادنا نجما و لا شجرا. فقال له بعض الحاضرين: إن هذا كان خطأ من الابتداء. و لا شك أنك‏ إن قتلت ملك إيران لم تر خيرا، و إن تركته لاقيت شرا و ضيرا.

و لا يخفى ما فى قتله من المكاره، فان اللّه هو الطالب بثاره. فقال له بعض بينه: اعلم أيها البهلوان! أن يزدجرد لو سلم اجتمعت عليه عساكر الصين فضيقوا علينا الأرض.

و قد قدرت فافعل فعل الرجال و افرغ منه. فإن الايرانيين لو رفعوا شقة من ذيل قميصه على رأس رمح لقلعوك، و استأصوا شأفتك.

مقتل يزدجرد على يدي الطحان‏

فأقبل الغادر الفاجر عند ذلك على الطلحان و قال: قم و استصحب جماعة من الفرسان، و انهض بكفاية هذا الأمر و إخماد ذلك الجمر.

فخرج يبكى و يتوجه، و سار الى الطاحونة. و نفذ الغادر خلفه جماعة أمرهم أن يحفظوا تاج يزدِجرد و قرطه و ثيابه حتى لا تضرع منه. فدخل الطحان على الملك و مشى نحوه و قرب منه فِعَل من يريد مسارّته فضرب جوفه بخنجر معه. فتأوّه و خرجت روحه، و خر صريعا.

فلما علم غلمان الغادر قتله دخلوا عليه و نزعوا ثيابه و حملوا تاجه و طوقه و خاتمه و مداسه، و تركوه مطروحا على التراب. و توجهوا نحو صاحبهم يلعنونه و يدعون عليه. فلما أتوه و أعلموه بما عملوا أمر بطرح جثته الماء. فجاءوا و جرّوه و رموه فى ماء الزرق فحمله الماء.

و لما طلع النهار رأى بعض الرهبان، من دير كان على شط الماء، جثة يزدِجرد فنزل اليه معه جماعة من أصحابه فخاضوا الماء و أخرجوه منه، و أخذوا يبكون و ينوحون عليه. ثم كفنوه و علموا له ناوورسا و وضعوه فيه.

جلوس ماهويه السوري على العرش‏

فبلغ الخبر ذلك الى ذلك الغادر فأنكر ما فعله الرهبان فنفذ اليهم جماعة من أصحابه، و قتلهم و خرب ديرهم.

ثم إنه خلا بأصحابه و فاوضهم فيما جرى على يده من قتل يزدجرد فعض عليه يديه بعد أن نزلت به القدم، و ندم و لات حين مندم.

و قال لوزير: كيف يمكنى الجلوس على تخت يزدجرد و جميع أهل إيران عبيده؟ و متى أتهنأ بذلك؟

فقال الوزير: إن الايرانيين ما حضروا هذه الوقعة. و من الذى شاهد قتلك ليزدجرد؟ و الرأى أن تحضر وجوه الايرانيين، و تدّعى أن يزدجرد لما ضاق به الأمر من أيدى الترك.

أوصى اليك، و سلم تاجه و خاتمه اليك، و نص فى ولاية عهده و القيام بالأمر من بعده عليك، و أنه زوّجك بتنا له صغيرة، و أمرك بالدفاع عنها و القيام بالأمر دونها.

فإن هذا كذب يشبه الصدق، و باطل يحاكى الحق. ثم اقعد عند ذلك على سرير السلطنة، و مشّ أمرك. فضحك‏ و استصوب ما أشار به الوزير، و اعتمد عليه، و عمل بمقتضاه. و أطاعه ولاة تلك البلاد و تيسر له ملك جميع خراسان.

فجمع العساكر و عبر جيحون، و قصد بيزن الذى كان استعان به على إهلاك يزدجرد. فلما انتهى اليه الخبر ركب فى عساكر الترك و تلقاه.

قتال بيزن و ماهويه و مقتل ماهويه‏

فلما تدانى ما بين الفريقين عبىّ جنوده. فقابله ما هويه بمثل ذلك فألقى اللّه الرعب فى قلبه فولى الأتراك ظهره من غير قتال.

فنفذ بيزن ولده برسام خلفه، و هو الذى باشر وقعة يزدِجرد فلحقه فملكنه اللّه حتى قبض عليه و كتفه و قيده و انصراف به عائدا الى أبيه. فلما قرب منه شب و به فرسه فوقع، و اندقت رقبته.

و حُمل ماهويه اليه فلما وقعت عينه عليه قال: أيها الكلب الغادر و العبد الكافر! أبسطت يدك الى قتل مالك رقك، و تجاسرت على إهلاك صاحب أمرك؟ فقال الخائن الحائن: إن جزاء ذلك أن تضرب هذه الرقبة.

و قصد بذلك أن يعجل ضرب رقبته خوفا من أن يمثل به. ففطن لذلك فأمر أن يقطعوا يديه، ثم أمر فقطعوا رجليه، ثم أمر فسلُّوا سيرا من مفرق رأسه الى فقار ظهره، و سيرا آخر من جبهته الى سرته، و اجتروه و طرحوه فى الرمضاء حين حمى وطيس الهاجرة ثم ضربوا رقبته.

و كان قد قبض له على بنين ثلاثة فأحرقهم مع جثة أبيهم. و أمر مناديا فنادى: ألا إن هذا جزاء من قتل مولاه، و كفر نعماه. و السلام.

و كان على بيزن هذا كِفل من دم يزدجرد على ما سبق. فقيل إنه جنّ فى آخر عمره، و قتل نفسه بيده، و لحق بمن مضى من صحبه.

خاتمة الكتاب

و كان فى انتهاء أمر يزدجرد انتهاء أمر ملوك العجم، و إصحار أسود العرب من الأجم.

فملك ديارهم أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، و استأثر بعقيلة مُلكهم مع كثرة الخطّاب .

و انتهت النوبة اليه، و اتفقت الألسن عليه. و استحالت السلطنة خلافة، و آض التخت منبرا، و عاد الحق عيانا، و الباطل خبرا. و للّه الحمد و الفضل و الثناء الحسن.

حينما مضى علىّ خمس و ستون سنة ردت همى و نصبى، و شقيت بتاريخ الملوك و نُحس كوكبى.

و الكبراء و الأحرار أولو العلم كتبوه جميعه مجانا و هم ينظرون إلىّ من بعيد كأننى كنت أجيرهم.

و لم يكن حطى منهم إلا« أحسنت». لقد تحطمت قوّتى تحت قولهم أحسنت. زمّوا رءوس البدر العتيقة، فانقبض صدرى المنوّر .

و لكن لعلى الديلمى، بين أكابر المدينة، نصيب موفور. ذلك الرجل ذو البصيرة يسر عملى و سنّى نجاحى.

و أبو نصر الوراق كذلك نال بهذا الكتاب من الكبراء شيئا كثيرا.

و حسين بن قتيب ذلك الحرّ الذى لم يبغ منى الكلِم بغير جزاء،كان منه الطعام و اللباس و الفضة و الذهب، و به تحركت يدى و قدمى، مستريحا من الخراج أصله و فرعه متقلبا فى رغد و رفاهية.

و لما بلغت السنين إحدى و سبعين علا على الفك شِعرى . خمسا و ثلاثين عاما فى هذه الدار الحائلة قضيتها أحمل النصب من أجل الذهب.

فلما ذَروا نصبى على الريح ذهبت الخمس و الثلاثون سدى. و الآن يناهز عمرى الثمانين و قد ذهبت كل آمالى أدراج الرياح.

انتهت الآن قصة يزدجرد فى يوم أرد من شهر سفَندارمذ ، و ختمت هذا الكتاب الملكى حين مضى من الهجرة أربعمائة عام.

عمر اللّه سرير محمود، و أدام شبابه و سرور قلبه. له الرأى و العلم و النسب، و هو سراج العجم و شمس العرب. مدحته و الكلام يبقى على مر الزمان ظاهرا و خفيا. و سيحمدنى الكبراء فيزيد مدحه بكرة و عشيا.

يدعون أن يخلد الرجل الحكيم و أن يجرى على تأمليه كل عمل عظيم. و قد تركت له هذا الكتاب ذكرا تبلغ أبياته ست عشرات من الألوف عدّا . و قد سار فى السهل و الحزن كلامى حين ختمت فى هذا الكتاب نظامى.

لا أموت من بعدُ فإنى مخلد بما نثرت بذر الكلام المجوّد. و كل ذى رأى و عقل و دين سيحمدنى بعد الموت فى الآخرين. آلاف التحية و آلاف الثناء على المصطفى خاتم الأنبياء صلي الله عليه و سلم و أرتل الثناء على أهل بيته تقربا و احتسابا.

تمت شاهنامه الفردوسى الطوسى و نقله من خط مترجمه، المعتمد على ربه يوسف بن سعيد الهروى فى سنة خمس و سبعين و ستمائة و صلى اللّه على سيدنا محمد النبى الأمى و آله و صحبه و سلم.