وقعة فرود بن سياوش
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكر إنفاذ كيخسرو طوسا الى قتال أفراسياب، و وقعة فرود بن سياوخش
ذهاب طوس إلى كلات تركستان
قال: و لما كان من الغد ركب طوس فى جميع من فى جملته من الإصبهبذية و الأمراء، و خرج الى الصحراء بالدرفش الجاويانى، و معه الأكابر من ذرية الملك نوذر أصحاب الأطواق و المراتب العالية. فجاءوا كجبال مائرة و بحار، سائرة حتى دنوا من سرادق الملك كيخسرو. فاستحضر الأكابر و السادات، و أمرهم بمتابعة طوس، و طاعته و اتباع رأيه، و الجرى تحت أمره و نهيه. ثم أقبل على طوس، و أوصاه بأن يحسن الى الرعية و الزرّاعين و أرباب الحرف الذين لا يخشى شرهم. ثم أمره بأن يعدل، فى طريقه الى توران، عن الطريق المفضى الى القلعة التى تسمى كلات. و قال له: إنه كان لسياوخش ابن من بعض بنات بيران يشبه أباه. و هو شاب يشبهنى فى السن و المنظر. و هو صاحب شوكة و قوّة .
و هو يسكن مع أمه هذه القلعة و معه عسكر عظيم. و هو كالأجنبى من الايرانيين لا يعرف منهم أحدا. فلا ينبغى أن تسلك ذلك الطريق كيلا تقع فى محذور. و الرأى أن تسلك طريق البرية. فقال طوس: لا أحيد عن أمرك، و عما تشير به. ثم رجع الملك مع رستم الى إيوانه. و سار طوس متوجها نحو توران مقدّما على جميع العساكر، مالكا بأمر الملك كيخسرو لزمام الأمر، و الحل و العقد، و الإبرام و النقض. فانتهى أوائل العسكر الى موضع يتشعب منه الطريقان المذكوران. فوقفوا حتى يصل طوس فينظروا ما الذى يسلكه منهما فيتبعوه. فلما وصل طوس قال لجوذرز: الصواب ألا نسلك طريق البرية مع هذا الحرّ و قلة الماء، و مع طوله و بعده. بل نسلك طريق جرم و كلات فإنى قد رأيت هذا الطريق، و فيه بلاد عامرة، و مياه كثيرة عذبة، و مراع معشبة. و لم أر فيه ما يتعب سوى مصاعد و مهابط لا يخلو أكثر الطرق منها.
فالأولى أن نعدل عن البرّية الى هذا الطريق الآخر. فوافقه جوذرز على ذلك، و ساروا فيه.
علم فرود بمجيء طوس
قال: فوصل الخبر الى صاحب كلات، و هو فروذ بن سياوخش، بمجئ عساكر ايران فضاق صدره، و أمر بجمع المواشى و الدواب من الصحراء الى حريم القلعة، و الاستعداد للأمر. فأغلق باب القلعة و جاء الى أمه، و كانت تسمى جريرة، فأخبرها بمجئ طوس فى عساكر ايران، و تخوّفه منهم. و استشارها فقالت: إن أخاك هو ملك إيران. و أنت و هو من اب واحد. و انما نفذ هذا العسكر للطلب بثأر أبيك. فينبغى أن تشمر عن ساق الجد،: و تنحاز اليهم. و تتوغل معهم بلاد أفراسياب فتكون أول من يطلب بثأر أبيك. فاذا قدم هذا العسكر فأبصر من المقدم عليهم، ثم استدعه الى ضيافتك، و اخلع عليهم، و أحسن إليهم. فقال: إنى لا أعرفهم، و لا بد ممن يتوسط بينى و بينهم.
فقالت: اذا بدا غبار العسكر فخذ معك تخوار- و هو أحد فرسان تلك القلعة- و خلّف عسكرك وراءك.
فإن تخوار يعرف الإيرانيين. و سايل عن بهرام بن جوذرز و زنكه بن شاوران فإنهما كانا رفيقى أبيك».
ذهاب فرود و تخوار لرؤية العسكر
فاستصحب تخوار، و جاء الى شعفة من شغفات ذلك الجبل و وقفا يشرفان على العسكر. فأخذ يسأل تخوار عن علامة كل واحد من الايرانيين، و هو يخبره و يصف له. قال: فلما دخل طوس بين الجبليْن بالخيل و الحشم و الفيلة و الأعلام طمح بصره فرأى على قلة تلك الشعفة الشماء فارسين يشرفان على العسكر وافقين لا يبرحان من مكانهما و لا يفزعان. فقال لمن معه: من يصعد اليهما و يأتينى بخبرهما؟
مجيء بهرام إلى فرود على الجبل
فانتدب لذلك بهرام بن جوذرز، فتوقل الجبل. فلما قرب استخبر فروذ تخوارَ عنه. فقال: أرى أنه من الجوذرزيين. و حين دنا منهما صاح عليهما، و قال: من أنتما؟ أما تسمعان أصوات الطبول و الكوسات؟ أما تفزعان من هذا العدد الكبير؟ فقال له فروذ: أيها الفارس المقدام! مالك بدأتنا بالخصومة قبل أن تسمع ما يوجب ذلك؟ لا تفاتحنا بالكلام الموحش.
فانك لست تفضلنى بشيء من الشجاعة و البسالة و الصورة و القالب. و أنا أريد سؤالك عن شيء فان أجبتنى سررتني به. فقال بهرام: سل عما بدا لك. فقال له: من المقدّم على هذا العسكر؟ و من فيه من السادة و الأكابر؟ فقال: المقدّم طوس بن نوذر، و فيه من الأكابر جوذرز بن كِشواذ و فلان و فلان و عدّهم عليه. فقال: ما لك لا تذكر بهرام؟ فإنى لا أرتاح من الجوذرزيين إلا له.
فقال: أنا الفارس البطل. من أين تعرف بهرام؟ فقال: إنّ أمى أخبرتنى عنه، فقالت: سل عن بهرام و زنكه بن شاوران فإنهما رضيعا سياوخش أبيك. فقال بهرام: أنت فرود ثمرة ذلك الشجر الخسروانى؟
فقال: نعم! أنا فروذ بن سياوخش.
فقال: أرنى العلامة الكيانية. فكشف له عن عضده فرأى شامة كأنها نقط عنبر تلوح على الورد الأحمر. فعلم أنه من الجرثومة الكريمة. فأثنى عليه و سجد له ثم صعد اليه. فنزل فروذ عن فرسه، و جلس معه على الحجارة.
فقال: لو عاد سياوخش حيا لم أفرح بلقائه كما فرحت بلقائك. و إنى لم أصعد إلى شعفة هذا الجبل إلا لأستخبر عن مقدّم العسكر و عمن معه من الأمراء فأضيفهم و أفرغ و سعى فى خدمتهم، و أقرّ عنى بلقائهم. و اذا استراحوا عندى أسبوعا، و ساروا لوجهتهم سرت معهم، و كنت أوّلهم باذلا جهدى و طاقتى فى الأمر الذى أنا أحق به منهم، و هو الطلب بثأر سياوخش أبى، و قاتلت أفراسياب و أصحابه قتالا يضرب به المثل فى الآفاق. فقال له بهرام: أنا أقوم بهذه الخدمة، و أمضى الى طوس و أستدعيه إلى ضيافتك، و أبذل فى ذلك جهدى حتى لو احتجت أن أقبل يده مستشفعا اليه فعلت. و لكن ينبغى أن يعلم الملك أن طوسا إنسان يستبد برأيه، و لا يسمع قول أحد، و لا ينجع فيه مقالة ناصح.
و هو، على ذلك، صاحب أيد و قوّة و أموال كثيرة و لا يلتفت الى الملك كيخسرو و ذلك الالتفات، و لم يرض بخدمته حتى نابذ جوذرز و عزم على قتاله. و هو يقول: أنا ابن نوذر بن منوجهر. و أنا أحق بالملك».
و مع ذلك كله أرجو ألا يمتنع مما أشير به عليه فى هذا الأمر. و مهما أجاب الى ذلك فإنى سأصعد بنفسى اليك، و أستصحبك الى العسكر، و إن يكن غير ذلك، و سلك معك سبيل العنف، و صعد اليك غيرى فلا ينبغى أن تركن اليه و تمكنه من التقرّب منك. ثم أعطى بهرام جُرزا كان معه و عليه نصاب من الفيروزج مركب فى الذهب.
و قال: إذا صعد الينا طوس و حصل بيننا الائتلاف خدمتك بهدايا كثيرة من خيل و جواهر و خلع و أسلحة».
رجوع بهرام إلى طوس
فانصرف من عنده بهرام و انحدر من الجبل، و جاء الى طوس و أخبره بأنه فروذ بن سياوخش، و أنه أراه العلامة الكيانية. فأغلظ له طوس و جاوبه بالعنف، و قال: ألم أقل لك لا تفاوضه فى شيء و لا تخاطبه إلا بالسيف و السنان؟ و لكنك فزعت منه و جبنت عنه، و جئت تتمسك بهذه المعاذير». ثم أقبل على أصحابه، و قال: من يصعد الى ذلك الجبل فيأتينى برأس ذلك التركى؟
مقتل ريو على يد فرود
فانتدب لذلك ريو الشجاع ختن طوس على ابنته و فتوقل فى الجبل. فلما صعد و رآه فروذ استشاط و تميز حين لم يرجع اليه بهرام. فأخرج من تركشه نشابة و رماه بها، فأصابت رأسه فانقلب عن ظهر فرسه و خرّ ميتا.
مقتل زراسب على يد فرود
فلما رأى ذلك طوس احتدم غيظا و ثار فصاح بابنه زرَسب ، و كان مقدم النوذريين، و أمره بأن يصعد اليه. فتوقل و صعد. فلما رآه فروذ سدّد نحوه نشابة أخرى فوضعها فى جوفه، فى فانقلب عن ظهر فرسه و وقع ميتا.
حرب طوس و فرود
قال: فوقع الضجيج لمقتله فى العسكر، و ثار طوس كالأسد المحرَج حيث قتل ابنه و ختنه، فركب بقلب جريح، و دمع غزير، و ترقى الجبل. فلما رآه تخوار قال الفروذ: إنه طوس بن نوزر، و لست تقدر على مقاومته.
فارجع بنا حتى نصعد القلعة و نغلق بابها. فإنك بعد أن قتلت ابنه و ختنه لم يبق لك مطمع فى الصلح معه. فغضب فروذ عليه، و قال: بعد أن اضطررت الى المنابذة فلا أبالى بطوس و لا بغيره. و كان الواجب عليك أن تقوّى قلبى، و تعاوننى عليه، لا أن تخوّفنى و تخذّلنى عنه فى مثل هذا المقام.
ثم سدّد نشابة الى نحر فرسه فأثبتها فيه، فوقع الفرس، و بقى طوس راجلا. فصاح عليه أهل القلعة من أعلاها و نعروا فى قفاه حتى انحدر.
حرب جيو و فرود
ثم صعد اليه جيو بن جوذرز فقال تخوار: إنه البهلوان الذى كتف جدّك بيران حين جاء فى طلب أخيك، و خلصه من بلاد توران، و خاض به نهر جيحون. و عليه الآن سلاح سياوخش فلا يؤثر فيه شيء.
فارم فرسه بنشابة أخرى حتى يرجع وراءه مثل ما رجع طوس. فرمى فرسه بنشابة تقطر منها، و بقى جيو راجلا. فعاد منحدرا كفعل طوس.
حرب بيژن و فرود
فلما رأى بيژن ما حل ما بأبيه جِيو جنّ و استفزه الغضب، و استعار فرسان من كُستَهم ، و أخذ من أبيه درع سياوخش و لبسها، و توقل فى الجبل كالعقاب الغارث. فعين فروذ على فرسه و رماه بنشابة أقصدته.
فترجل بيژن، و صالح عليه، و قال: اصبر ساعة حتى ترى قتال الأسود. فتناول المِجنّ ، و رفعه على رأسه، و توقل اليه. فلما صعد الجبل سل سيفه، و أقبل عليه. فانهزم عنه و ولى نحو القلعة فتبعه حتى عرقب بسيفه فرسه. فترجل فروذ و التجأ الى القلعة فدخلها. و رجع بيژن و انحدرا الى المعسكر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقتل فرود بن سياوخش
فلما كان من الغد ركب طوس، و نزل فروذ فى عساكره فتناوشوا الحرب من أوّل النهار الى وقت الزوال.
فقتل أكثر أصحاب فروذ، و بقى هو وحده فى المعركة. فالتفت فلم ير وارءه أحدا. فعطف عنانه، و أحجم الى الحصن. فخرج بيژن و رُهّام عليه من الكمين. فرفع الجرز على بيژن. فضرب رُهّام كتفه ضربة أبانت إحدى يديه. و بقى كذلك على ظهر الفرس يقاتل و يدفع عن نفسه بيد واحدة. حتى صعد و عاد الى القلعة. فدخل إيوانه و رمى بنفسه على التخت صريعا فلم ينشب أن مات.
قتل جريرة نفسها حزنا على ولدها فرود فصعد الوصائف الى شرفات القلعة، و رمين بأنفسهن الى أسفلها، و أحرقت أمه جميع ما كان فى القلعة من الأموال و الأسلحة، و أخذت خنجرا، و دخلت مرابط خيله العراب فشقت به خواصرهن. ثم جاءت و وضعت خدّها على خدّ ولدها الشاب ثم شقت صدرها بخنجرها، و لحقت بابنها. و دخل الايرانيون القلعة و تملكوها، و أخذوا فى الأسر و النهب. فجاء بهرام الى إيوان فروذ فرآه طريحا على التخت، و أرى أمه قد ألقت نفسها عليه ميتة. فقعد عند رأسهما يبكى و يتوجع.
فجاء طوس و جوذرز و زنكه بن شاوران، و قعدوا عند رأسه يبكون. و جعل طوس يقرع سن الندم بعد أن زلت به القدم. فقال جوذرز: إنك قد ضيعت بالحدّة و النزق هذا الشاب و ذرّيته فى أدراج الرياح، و فجعت نفسك بابنك زرسب الذى كان نزهة الألحاظ، و راحة الأرواح ثم حنطوه و كفنوه، و عملوا له ناووسا على رأس ذلك الجبل و وضعوه فيه.
سوق طوس الجيش إلى نهر كاسة و مقتل بلاشان على يدي بيژن
ثم بعد ثلاثة أيام رحل طوس قاصدا قصد تركستان. فساق عساكره حتى وصل الى كاسروذ فعسكر هناك. فخرج من توران فارس يسمى بلاشان ليتعرّف أحوال العسكر و يقف على عددهم فينهى خبرهم الى أفراسياب. فتلقاه بيژن بن جيو و قتله.
ذكر ما قاساه الإيرانيون من البرد و تساقط الثلوج
و بلغ الخبر أفراسياب بعبور الايرانيين كاسروذ فاستدعى بيران، و فاوضه و شاوره فى أمر كيخسرو فيما فعله من إنفاذ العساكر طالبا بدم أبيه فقال: لا بدّ أن تتلقى الأمر بالحزم و تشمر عن ساق الجدّ قبل أن يجل الخطب و يفدح الأمر. و أمره بالاحتشاد و جمع العساكر.
فقام بذلك بيران، و جدّ فى الإعداد و الاستعداد. قال صاحب الكتاب: ثم إن الشتاء كشر فى وجوه الايرانيين نابه، و حرش بهم كلابه، فثارت عليهم ريح باردة تقلصت منها الشفاه، و تشققت الوجوه و الجباه و نشأت سحابة طبقت السماء فنثرت عليهم ثلجا عظيما انسدّت به المخارم و الشعاب، و تسطحت فيه الكهوف و الهضاب. فهلك منهم تحت ذلك الثلج خلق عظيم و دواب كثيرة، و قال عندهم الطعام.
فارتحلوا من منزلهم ذلك. و كان أفراسياب قد عمل فى الطريق الذى هم سالكوه سدا من الحطب كجبل عظيم حتى تنقطع به الطريق بين ايران و ذلك الجانب. و كان كيخسرو قد أمر جيوا بإحراق تلك الأحطاب المكوّمة حتى ينفتح لهم الطريق الى توران. فركب جيو فى ذلك البرد المفرط و الهواء الشديد الى ذلك السدّ ، فرمى فيه النار فتمكنت منه حتى أحرقت تلك الأحطاب العظيمة، و انهارت فى الأرض.
مقتل كبودة على يدي بهرام
فلم يمكن العسكر العبور من حر تلك النار و لفحها حتى انقضت عليهم ثلاثة أسابيع. فعبر طوس بالعساكر آخذا فى طريق جيو كِرد . و لما انتهى اليها نزل عليهما، و خيم فى صحرائها، و فرق الصلائع حواليها. و كان صاحب جيو كرد أميرا من الأتراك يسمى ثراو. فلما بلغه الخبر بإقبال عساكر إيران نفذ فارسا من أصحابه يسمى كبوذه ليطلع على أحوالهم. فصادفه بهرام من جوذرز، و كان على الطليعة، و قبض عليه، و قطع رأسه، و علقه من سموط سرجه، و عاد الى المعسكر. فلما أبطأ رجوع كبوذه الى ثراو علم بمقتله
حرب الإيرانيين و ثراو
فركب فى عساكره و تقدّم للقاء الايرانيين. فتلقاه جيو بن جوذرز فى جماعة من الأمراء فناده و سأله عن اسمه. ثم قال له: يا فارس الهيجاء و يا مسعر الحرب! كيف تجاسرت على أن أقبلت بهذا العدد القليل الى حربنا؟ فقال: أنا صاحب القلب الجريء و البأس الشديد، و إن أصلى كان من إيران غير أنى اليوم مرزبان هذا الإقليم. و أنا مفزع الأكابر و ختن الملك أفراسياب. فقال له جيو: لا تبح بهذا فإنه يضع من قدرك، و يسفه لأجله رأيك. لأنك اذا كنت صاحب ما ذكرت من المراتب العالية فأين الجيش اللهام؟ و أن الرايات و الأعلام؟
فقال: لا تنظر الى قلة هذا العسكر، و انظر الى فتكات جرزى اذا استويت على ظهر فرسى. و إنى سأقيم اليوم بسيفى عليكم القيامة، و أوردكم موارد الخزى و الندامة.
فاغتاظ بيژَن بن جيو، و أنكر على أبيه مفاتحة الكلام. و أشار بمناجزنه القتال. فثار بعضهم الى بعض، و قامت الحرب منهم على ساق. فجرى بينهم قتال عظيم قتل فيه أكثر أصحاب ثراو، فولى مدبرا. فانقض فى أثره بيژن كالشهاب الثاقب المرسل على الشيطان الخاطف، فطعنه طعنة كادت أن تأتى عليه، فتبعه و خطف من رأسه تاجا كان أفراسياب قد توّجه به. فانتهى الى باب قلعته و العسكر فى أثره. فنزلت اليه زوجته، و كانت تسمى اسبنوى، و كانت أحسن نساء زمانها. فارتدفها و استفزه الخوف فخرج هاربا يركض راكبا طريق توارن لينجو بروحه. فما كان إلا قليل حتى وقف به فرسه. فأنزل الجارية و خلاها.
و كان بيژن يطرد خلفه كأنه ثعبان صائل. فلما انتهى الى الجارية ارتدفها، و عاد بها الى المعسكر. و أخذوا تلك الناحية و خربوها.
علم أفراسياب بمجيء طوس و جيشه
قال: فمضى ثراو على حالته تلك لا يستقرّ ليلا و لا نهارا حتى وصل الى حضرة أفراسياب، و أخبره بما جرى على أصحابه من القتل و الأسر، و على قلاعه و ضياعه من الخراب و النهب. فاهتم لذلك أفراسياب و اغتم. و أقبل على بيران بن ويسه يعنفه و ينسبه الى التكاسل فى جمع العساكر و الاستعداد للحادث الكارث. ذكر تبييت بيران للايرانيين و كبسه إياهم
تبييت بيران للايرانيين
قال: فوثب بيران و خرج و طير رسله، و بثهم فى الأطراف. فاجتمع اليه عسكر عظيم، فوفر عليهم أرزاقهم و عطاياهم، و رتبهم و عباّهم ، و ركض بهم ركضة واحدة فى طرق غامضة و مجاهل خافية متوجها نحو جيو كِرد . فالتقته الجواسيس و أصحاب الأخبار. و أعلموه بأن الايرانيين قد استولى عليهم الشرب حتى إنهم يواصلون بين الصبوح و الغبوق، لا يفيقون ساعة من النهار، و أنهم، بما هم فيه، فى شغل شاغل عن التحرز من عدوّهم ، و التيقظ لأمر القتال لا تخرج لهم طليعة لا فى الليل الدامس و لا فى النهار الشامس. فاستدعى بيران أمراءه، و قال: إنه قل ما توجد مثل هذه الفرصة. فانتهزوها و شمروا عن ساق الجدّ ، و اهتبلوا غرة القوم. فاختار منهم ثلاثين ألف فارس، و سار بهم فى كتيبة خرساء بلا صوت و لا جلب و لا كُوس و لا جرس.
فوقعوا على خيل الايرانيين فى بعض المروج فاستاقوها، و قتلوا كل من كان عليها من الجوبانية و المستحفظين. و كان بين مكانهم ذاك و بين القوم سبعة فراسخ. فساروا فلما جنّ الليل هجموا عليهم فى الخيم و هم سكارى نيام، سوى جيو، فإنه كان مستيقظا فوثب.
و كان على باب خيمته فرس مجفف، فخرج و هو يقع و يقوم من أثر السكر، فعلا ذلك الفرس، و جاء الى أبيه جوذرز، و كان صاحيا، فأنذره، و جاء الى سرادق طوس فأعلمه بالحال، و رجع الى خيمة ولده بيژن فأيقظه من نومه. فأطلت عليهم سحابة نحس تجيش بأسود تصرف الأعنة، و ترسل صواعق السيوف و الأسنة. فما برح فيهم السيف يعمل سحابة الليل الى مطلع الفجر. فلما أضاء النهار اجتمع طوس و جوذرز و سائر من أفلت، فاصطفوا مع قلتهم صفا سخيفا، و وقفوا ساعة ثم ولوا الأدبار منهزمين، و فرّوا منخذلين، و رجعوا على أعقابهم نحو كاسَروذ ، و التجأوا الى جبل هناك.
و كانت سيوف الأتراك فى أقفيتهم الى سفح الجبل. فأعيت دواب الترك لمكان طردهم من تلك المسافة البعيدة فى تلك المدّة القريبة، فعادوا من سفح ذلك الجبل. فصعد طوس بمن أفلت معه.
و أمنوا و تفقد بعضهم بعضا فعدم أكثر الايرانيين. فأخذوا فى الضجيج و العويل يبكى الابن على الأب و الأب على الابن. و بقى جوذرز يبكى على أولاده و أحفاده لم يبق لهم كوس و لا علم و لا خيل و لا حشم و لا سرادقات و لا خيم. ثم تحصنوا فى ذلك الجبل، و قالوا: لا بد من إنهاء الحال الى الملك كيخسرو. فاختاروا منهم رجلا مذكورا و نفذوه اليه.
إرجاع كيخسرو طوسا إليه
فلما وصل الرسول الى الملك كيخسرو و أخبره بما جرى على الجيش جاش صدره هما و امتلأ قلبه غما. و قد كان موجع القلب بما جرى على
أخيه فروذ فزاده هذا الخبر ألما على ألم، و نكأ منه قرحا على قرح. فأطلق لسانه فى طوس و جعل يلعنه. فكتب الى عمه قريبُرز كتابا يقول فيه: إنى نفذت طوسا و أمرته ألا يسلك طريق كلات و جرم فخالف أمرى، و فجعنى بأخى. ثم لما غمز يده فى الحرب اختار اللهو و الراحة و السكر و الخلاعة حتى تم على العسكر ما تم. فاذا وقفت على كتابى هذا فانتزع منه الكوس و المداس الذهبى و الدرفش الجاوِيانى ، و تلسم أنت ذلك، و تولّ سالارية العسكر، و سير الىّ طوسا، و تحرز عن الشرب و اللهو، و إياك و الطيش و النزق فى الحرب و أشباهها. و اجعل على مقدّمتك جيو بن جوذرز، و استعن برأيه فى كل امر. فلما جاء الكتاب الى عمه فردى برز دعا بطوس، و جمع جمعا عظيما، و قرأ الكتاب عليهم.
فتلقى طوس الأمر بالسمع و الطاعة، و سلم تلك المراتب الى قريبُرز ، و ركب فى أصحابه النوذريين راجعا الى حضرة الملك كيخسرو. فلما وصل دخل عليه فقبل الأرض بين يديه، و وقف ماثلا فى الخدمة فلم يلتفت اليه الملك، و أخذ يسفه عقله، و يفيل رأيه، و يعدّ عليه مساويه. ثم قال: لولا هذه اللحية البيضاء، و انتسابك الى مِنوجِهر لأمرت بضرب رقبتك. ثم طرده من عنده، و أمر بتقييده و حبسه.
ذكر ما جرى على الايرانيين من الكسرة الثانية
فريبرز يسأل بيران المهادنة و موعدا للقتال قال: فلبس قريبُرز تاج السالارية، و قعد مقعد طوس، و قام مقامه فى الأمر و النهى و الحل و العقد. فلم الشعث، و ضم النشر، و أعدّ و استعد. و أرسل الى بيران يأخذ منه موعدا للقتال.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هزيمة الإيرانيين أمام التورانيين
فلما كان يوم الميعاد رتب عساكره، و عبى ميامنه و مياسره فجعل جيو على الميمنة فأشكس على الميسرة، و وقف بالدرفش الجاوِيانى مع من فى جملته من الإصبهبَذية فى القلب. و أقبل بيران فى صفوفه و أشياعه و جنوده كأنهم السباع الضارية. فلما تراءى الجمعان، و التقت الفئتان أمر فريبُرز بأن يرشقوهم رشقة واحدة بسهام تفوّقها يد الحمام، و يريشها بالموت الزؤام. فتقدّم جيو مع الجوذرزيين و حمل عليهم حملة قتل فيها تسعمائة نفس من أقارب هومان ففلوا حدّهم .
ثم تابعت الأتراك الحملات على جيو و أصحابه فلم يغنوا شيئا. ثم انقلبوا الى القلب، و حملوا بأجمعهم على قريبُرز حملة أزعجته عن مقامه. فولى مدبرا و التجأ الى سفح الجبل. و بقى جوذرز و جِيو و أصحابهما.
فالتفت جوذرز فلم ير الدرفش الجاوِيانى ، فثنى عنانه، و هم بالإحجام. فمنعه ولده جيو.
فوقفوا فانضم اليهم زنكه بن شاوران و كُستَهم و جماعة من مقدّمى الايرانيين. فتحالفوا بالايمان المغلظة على ألا يبرحوا. فثبتوا و عضوا على الصبر. فلما حمى الوطيس و احمر البأس صاح جوذرز فى ملتحم القتال بحافده بيژن، و أمره بالمضى الى قريبُرز و استرجاعه الى المعركة، و أنه إن أبى الرجوع أخذ منه الدرفش و ردّه الى القلب فعسى أن تجتمع عليه العسكر، و تتقوى برؤيته قلوبهم. فلما أتاه بيژن امتنع من الرجوع و من إنفاد العلم أيضا فغضب بيژن و استشاط و سل سيفه و ضرب الدرفش فقطعه بنصفين، و أخذ أحد النصفين و أقبل به الى المعترك.
فلما رآه بيران مع بيژن أمر أصحابه به بقصده و استلابه من يده. فأدركه الايرانيون و حالوا بينهم و بينه، و احتفوا بالدرفش و أحاطوا به، و استأنفوا قتالا آخر و زحفوا الى العدوّ . فقتل ريو بن كيكاوس، و هو أصغر بنيه، فهوى الى الأرض صريعا و تعفر تاجه.
فصاح جيو و قال: احفظوا تاجه لا يأخذوه. فبادره بهرام بن جوذرز و اختطف بسنانه ذلك التاج و حماه من الأتراك. ثم كثرت حملات الترك على الايرانيين، و قتل منهم خلق عظيم حتى لم يبق من ثمانية و سبعين إصبهبذا من أولاد جوذرز غير ثمانية أنفس، و قتل الباقون. فأحجم الايرانيون و ولوا هاربين و انحازوا الى ذلك الجبل( و لقى كستهم بيژن راجلا قد قتل فرسه فارتدفه الى سفح الجبل). و انصرف بيران مع أصحابه الى مضاربهم بالظفر و السرور، و انصرف قريبُرز و أصحابه بالدبرة و الثبور.
رجوع بهرام إلى المعركة بحثا عن سوطه
نعم و ضاع لبهرام بن جوذرز سوط فى تلك المعركة فحملته الحمية الجاهلية على أن لبس سلاحه، و ركب يريد الرجوع الى المعركة فى طلب السوط. فمنعه أبوه و تعلق به، و خاطبه أخوه جيو فى ذلك أيضا فلم يسمع منهما، و قال: كيف يجوز فى طريقة أهل الحفاظ أن أترك سوطى الذى عليه اسمى حتى يقع فى يد بيران أو غيره من أصحابه و لست أغضى على هذه السبة و لا أتقلد هذا العار؟ فعاد الى المعترك و أخذ يدور فى تلك الصحراء يطلب السوط حتى عثر عليه فنزل لأخذه. فسمع حصانه صهيل حجرة فعار طالبا لها فعدا خلقه على رجله حتى لحقه، بعد أن صارا غريقين فى العرق مجهودين من التعب فاستوى عليه فلم يتحرّك تحته. و وقف لا يبرح مكانه. فأخذه الضجر و ضربه بسيف كان معه فعرقبه و رجع راجلا الى المعترك فى طلب أخ له كان صادفه حيا بين القتلى.
مقتل بهرام على يدي ثراو
فأحس به بعض أصحاب اليزك فأعلم به بيران فنفذ ابنه روئين، و أمره بأن يأسره. فوقف بهرام يذب عن نفسه و يقاتلهم حتى قتل منهم جماعة. فرجع ابن بيران و جاء ثراو أحد أمرائهم المذكورين فأحدق و من معه به. فقاتلهم و تتابعت الضربات من كل جانب عليه فضرب ثراو كتفه بسيف كان معه فأبان يده و خر صريعا: و من يغر بالأعداء لا بدا أنه سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا
قتل جيو لثراو ثأرا لأخيه بهرام
قال: فلما تأخر رجوع بهرام الى أصحابه ركب أخوه جيو مع ابنه بيژن و رجعا الى المعترك فى طلبه فصادفاه صريعا مجدّلا يتغرغر بحشاشته. فلما أحس بأخيه جيو أفاق إفاقة، و قال: لا يطالب بدمى غير ثراو. فهو الذى أبان يدى، و جدّل بهذا العراء جسدى. فكاد جيو أن يتمزق جزعا و يتفطر أسفا على ذلك الأسد المقدام و الفارس الهمام. فحلف ألا يفارق السيف يمينه، و البيضة رأسه و جبينه حتى يشفى بقتل قاتله غليله. فركب و كمن الى أن دخل الليل. فجاء ثراو على اليزك. فرصده حتى اذا تمكن منه ألقى عليه الوهق، و اجتره اليه، و أسره و كتفه و جاء به الى مصرع بهرام فاحتز رأسه عنده. و فاضت نفس بهرام بعده.
رجوع الإيرانيين إلى كيخسرو
قال: و لما أصبح من اجتمع من المفلولين قعدوا. يتشاورون فقالوا: إنه بعد أن غضبت علينا السعادة، و قتل منا هؤلاء السادة، و طالت علينا يد الأتراك بالإهلاك فالمقام هاهنا علينا حرام. و الرأى أن نرجع القهقرى وراءنا و نعاود حضرة الملك كيخسرو، و ننظر ماذا يقتضيه رأيه، و نعمل بما يخرج به أمره. فرجعوا الى كاسَروذ قاصدين قصد الحضرة. و علم بيران بانصرافهم و عودهم الى بلادهم فجاء الى معسكرهم فرأى خيما مضروبة و أموالا موفورة و خزائن متروكة ففرّقها على عسكره. و نفذ فارسا الى أفراسياب يبشره بما تيسر له من الفتح. و ركب فى أثره الى حضرته. فلما ورد عليه أكرمه و شكر سعيه، و أنعم عليه بخلعة تشتمل على التاج و التخت، و بغيرها من الخيل و الغلمان و الوصائف. و أوصاه بالتيقظ فى الأمر و التحرز من الخصم، و أن يكون على حذر من رستم و لا يأمن شره.