وتمر المدينة برقاً، ممدوح عدوان
وتمر المدينة برقاً، للشاعر السوري ممدوح عدوان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القصيدة
يستوي الأمرُ:
للجوع طعمٌ وحيدٌ
وللذلِّ طعمٌ وحيدٌ
وللخوف ألفُ قناعٍ
وللموت هجعته الواحده
يستوي الأمرُ:
فالرأس مسقطها واحدٌ .. تحت مقصلةٍ
والعدو أمامي .. وألف أخ غادر من ورائي
وحب يقيِّد عمري إلى التربة الجاحده
وأنا الشجرُ العربيُّ الذي نسيَ الماءَ ،
صار السرابُ مدينته
والرياح تُرنِّحه لا يبدل وقفته الصامده
وأنا لم أهاجرْ:
ركضت وراء المدينة، وَهْي تهرول مثل الضبابِ
فأوصلني الركضُ للغربة العربيةِ
فيها غرقنا معاً
فاغتربت بها ، هاجرت بي لموتي الحنونْ
حملتْ ضوء مستقبلي ومضت
رحتُ أصرخُ أن أوقفوها
إلى الحرب تمضي وتخبطُ عشواءَ
عمريَ بين يديها
وما الحرب إلا الذي تعرفونْ
أودعتني فجائعها ..
سحبت من حياتي طمأنينة العابثينْ
جئتُها مطمئناً إلى أملٍ خادع في رسائلها
فوجدتُ الضواري وقد أولمتَها
وكانت تئنُّ فتجرح قلبي
المواعيد بيني وبين شوارعها أوقفتني
فألقت إليَّ أمانتها .. ثم غابت مع الزحمة الحاقدة
وأنا بدويٌ .. أضاء بقلبي الزمان ، وسلمني أول الخيط :
قال: المدينة تجري إلى الفاتحين، فعجّلْ إليها
وقال: انتبه للسراب ولا تنخدعْ بمظاهرها
الناقمه
كلُّ ما تدَّعيهِ المدينةُ ليس سوى خَفَر تدّعيه العروسُ
التي تتلهف أن تصل الغرفة المظلمهْ
قالَ : إنّ المدينةَ تجري إلى الفاتحين ،
وقالَ: السماسمرةُ استلموا ثمن الصفقة المجرمه
قالَ : حاشيةُ القصرِ تعرف أنّ الفقيرَ ، بهذي الحروبِ ،
يسير من الموت جوعاً إلى الموت غدراً
تعانقُ فيها البلادُ هزائمها
والخليفةُ يحملُ منها المزيدَ من الأوْسِمه
وركضتُ وراء المدينة:
كانت تطاردني ، في الطريق إليها ، الكلاب
وكان الزحامُ شديداً على الدربِ ،
جيشُ الهزائم يعرض أوسمةَ الهاربينَ
وكانت حشود المساجين تَرْفلُ بالقيدِ
وهي تُصفِّق تلبية للأوامرِ
ناديتُ ، غطّى ضجيج الجياعِ ندائي
وكانوا يحيّونَ لافتة كتبت عن مجاعتهم
وصرختُ ، فكمّم جند الطغاة فمي
ثم أُعلن هدر دمي
أيها اللؤلؤُ العربيُّ
سيسرق كلٌّ مدينته ويخبئ فيها هواه
يحوّلها سجنه ، ويموت بظلمتها
فاصرخوا ، قبل أن يتكلّس سجن اللآليء قبراً على غدنا :
أيُّها الطاغيه
أنت ، لا الحاشيه
سبب المحنة الداميه
جاءَ طيفُ المدينة ، عانقته بالدموعْ
كانت الغربةُ العربيةُ تبدأ من ضفّة الجوع
والدمع يحتل ما ظل في فضلات الموائد من وطني
بعدما شبع الفاتحونْ
عانقتني المدينةُ ،
كانَ نداءٌ جريح يفيض من المقلتينْ
وفيها اغتراب فجيع تشبّث بي
قالَ لي : أنت قريتُنا
قالَ لي : ...
قلتُ : دعني
تحلّقَ شباب من الفقر صاروا لصوصاً
وصاروا من الهم جمعَ سكارى
فقلت: سلاماً لكنزي الثمينْ
رأيت الطفولة تحمل أضرحة
وتفتِّش عن ساهمٍ يشتري ورقَ اليانصيبِ
وعن دَرَجٍ لتنامَ عليه
فقلتُ: سلاماً لأبنائيَ المقبلينْ
رأيتُ الذي خَرَج الصبحَ يبحثُ عن خبز أطفاله
فقضى في الطريق اغتيالاً
أو اقتيد للسجن ،
قلت : سلاماً لوجهي الحزينْ
رأيت بلاداً تجوعُ وتنذر للحرب لقمتَها
ثم يأكلها الأغنياءْ
وتنذر للحرب أبناءَها
ثم يقتلها حاكموها
فقلتُ : سلاماً بلادي التي تتقيؤنا لاجئينْ
رأيتُ الحصارَ الذي ضاقَ حتى تجاوز حدَّ الكرامةِ والخبزِ
كان الطغاةُ يضنون عني بحقيّ في الحزنِ
حين أتت ضربة الغدر منهم ، وحطمتِ الرأسَ
ذقتُ قبيلَ التهاوي دمائي
فهنّأتُ رأسي التي لم تكن تعرف الإنحناء
أليسَ من العجائب أنّ مثلي يرى ما قلَّ ممتنعاً عليهِ
وتُؤْخذُ باسمه الدنيا جميعاً وما مِنْ ذاكَ شيءٌ في يديهِ
إليه تجمّع الأموالُ طراً ويمنعُ بعض ما يجبى عليهِ
جاءَ طيفُ المدينةِ يفضحُ سرَ انتمائي إليها
فصرتُ الوباءْ
وتجنّبني الأصدقاءْ
أحدٌ
أحد
أحد
سَقَطَ الأصدقاء
قطرةً
قطرةً
قطرةً
وتُركتَ وحيداً بقعر الإناء
ورقة
ورقة
ورقة
وتردَّد بعضهم ليلةً
ثم مالوا مع الريح حيث تميلْ
تُركتْ وحيداً وحيداً أجابه هذا الشتاءْ
وقَعَتْ بينهم عنزةٌ
فاشرأبّت خناجرُهم
ثم طالت أظافرُهم
أخذوا يطعنون
فصاغوا قناعا لغدر الأخوّة
مما نزفت ، ومما تبقّى بجسمي دماءْ
] حينَ تكالبَ حولي الحقدُ ، تتالى اللطمُ على وجهي المزرقِّ ،
امتلأتْ عيناي دماً وأنا أرفضُ أن أركعَ ، ثم ترنّحتُ ، مددتُ
يدي أبحث عن لمسة حب تسندني .. مَن منكم مدَّ يَدَه ؟
مَن منكم لم يتجنّبْ وجهي في ساعات الشدَّه ؟
مَن مِنْكم لم يَتَقَدَّمْ ليصافح كف مسيلمة
في أوّل أيام الردَّة ؟ [
حمّلتني المدينةُ شمساً ،
وحمّلني جُرْحها الكبرياءْ
أَرْهقتني المدينةُ بالحزنِ
طوبى لمن يَئسوا
ولمن يَجرؤون على النوم والحبِّ
طوبى لمن غافلته السعادة عن حَتْفه
لم يكنْ يَترقّبه بعد خطوته التاليه
مرَّ بي الدهر يوماً فيوماً
ولوّح لي بهزائمه العاريه
ثم مَرّت مدينتنا
بغتةً وأنا في الطريق إلى البيت، يُتعبُني الدربُ
تأتي إليّ وتسندني
بغتةً وأنا في ظلام اغترابي
تطلُّ وتلقي عليَّ السلامَ وزائرتي كأنّ بها حياءً فرشت لها الهزائم والمنافي
قيلَ لي: أنتَ تبقى هنا في المدينة
قلتُ: وأين المدينة
إني حملتُ المدينةَ وحدي وأنتم معي
تجهلون ملامِحَها
ودموع المدينة وَهْيَ تصيرُ دمي
إنني قد سرقتُ المدينةَ منكم
ورحتُ أطارد فيها
ويُنفى من المدن الناسُ
مَنْ سوف ينفي المدينةَ مِنّي
تُعذِّبني وَجَعاً
وتطاردني مثلَ ظلي
تفاجئني في المرايا وفي الواجهات خيالا
وتمنعني من قبول المخازي
تقود لساني إلى الكلمة القاتلة:
أيها الطاغيه
أنت ، والحاشيه
سبب الهجرة الآتيه
جعلوا حبنا مثل شيء يُهرَّب ،
يأتي إليَّ الطغاة
يصادر كلُّ دليلاً على حبنا
صادروهُ ، وكان التراب يُهرَّب عبرَ الحدود
وكانت حدود البلاد تلينْ
فتمتدُّ أو تتقلص مذعنةً
حسب ضغط العدو وضغط الطغاة
وتمرّ المدينةُ برقاً
أنا الشجَرَ العربيُّ الذي نسيَ الماءَ
أهتز جذراً وغصناً
دموع المدينة تجري كنهرٍ
رأيت المدينة والنهرَ
عانقتُ قريتَنا فيهما
وبكيت اغترابي
تدفق نهرٌ جديد من الفُقَراء
أيها الشَجَر العربيُّ الذي نسي الماءَ
جفَّ في الرمل غَرْس منىً
والعواصف تنقله وتهجّره
إنني أذرف الصبرَ حين أرى الريح تقبلُ
حاملة معها الهجرة الآتيه
فلنكن لؤلؤاً عربياً
ليسرق كلٌّ مدينته
ويعانق فيها هزائمه
ويحوِّلها سجنه
ويموت معي
وسط أمواجها العاتيه.