هل نحن أمة تحتاج إلى وصاية، علاء الأعرجي

من معرفة المصادر

نشرت هذه المقالة في عدد من الصحف العربية، بعد أن نشرت في صحيفة القدس العربي،لندن هل نحن أمة "قاصرة" تحتاج دائما إلى "وصاية الآخر" ؟ وهل سقط بعض العراقيين في مؤامرة تقسيم العراق؟ ، علاء الدين الأعرجي، يونيو 2013.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذكريات سياسية بعيدة ودروس جديدة

في الخمسينيات من القرن الماضي حينما كنا شبابا يافعين ومتحمسين، ولكننا واعون كل الوعي بما نحن فيه من تخلف، وفقر وجهل، كنا ننحي بالائمة على الإنكليز فيما يتعلق بجميع مشكلاتنا المتفرعة عن تلك الآفات. لاسيما لأننا كنا نعتبر بلدنا العراق، الذي يملك جميع مقوّمات النهوض والتقدم، جزءا من ممتلكات بريطانية العظمى، على الرغم من وجود ملك ودستور ومجلس أمة، ونتندر على هذه المؤسسات فنردد قول شاعرنا العراقي الشيخ باقر الشبيبي:

مَـلـِكٌ ودستورٌ ومجـــلسُ أمةٍ كلٌ من المعنى الصحيح ِ مُجرد ُ "المستشارُ" هو الذي شَرِبَ الطِلى؟ فعلامَ يا هذا الوزيرُ تـُعَـربـِدُ

(الطِلى، الخمرة. "المستشار"، هو المستشار الإنكليزي الذي كان يـُعيـّن من جانب السفير البريطاني في كل وزارة، بغرض أن يستشيره الوزير، إذا شاء نظريا. وعمليا فإن جميع القرارات الوزارية لا تصدر إلا بموافقته. وفي الواقع كان هو الوزير الفعلي، والوزير العراقي دمية يحركها المستشار. لذلك يتهكم عليه الشاعر بهذا الأسلوب البليغ والهزلي. وربما أن هذا المستشار أصبح أمريكيا اليوم)

وعندما كنا نلتهم يوميا مقالات صحيفة "الأهالي"، التي كان يصدرها "الحزب الوطني الديمقراطي" برئاسة كامل الجادرجي، وهو من الزعماء الديمقراطيين المحترمين؛ ونقرأ بعض ما يحدث في مجلس الأمة من تحديات صديق الإنكليز نوري السعيد، رئيس الوزراء، لقلة من أعضاء المجلس الأحرار المعارضين من أمثال صادق البصام وحسين جميل والسيد عبد المهدي المنتفجي والشيخ محمد رضا الشبيبي وغيرهم(وهؤلاء خليط من السنة والشيعة، ولم تكن هذه المسألة ذات أهمية لنا إطلاقا، بل لم تكن مطروحة أصلا، فنحن، وجميع طوائف الشعب العراقي، نـُقـيـِّم السياسي بمواقفه الوطنية حصرا). أقول حينما نقرأ ذلك التحدي، وهو يقول لأعضاء المجلس" أتحدى أيا منكم أن يدخل باب هذا المجلس دون موافقـتنا"، وذلك حين يعارضونه باتخاذ بعض القرارات، كنا نردد قول شاعر آخر، ربما معروف الرصافي:


كلابٌ للأجانب ِ هُـمْ ولكنْ على أبناء ِ جلدتهمْ أسود ُ

الثورة المصرية والنكسة

وعند قيام ثورة 1952 الوطنية في مصر، وكنت وقتها أدرس في "السوربون"، غصّت غرفتي المتواضعة التي كانت تقع في "الحي اللاتيني" في باريس، بعدد من زملائي الطلبة العرب وبعض الفرنسيين، الذين دعوتهم للاحتفال بهذه المناسبة الوطنية، حيث هللنا لهذا الانتصار العظيم. ومما قلته في كلمتي : "هذا قــَطـْرٌ لأول الغيث الذي سينهمر في العراق وغيرها من البلدان العربية، بجهود شعوبها المستعبدة والمظلومة. وإن الاستعمار الذي استنزف خيرات بلداننا ونهب مواردها، منذ عشرات السنين، سيندحر أخيرا. وستتمكن البلدان العربية، التي تمتلك الموارد الطبيعية، بما فيها الطاقة النفطية والطاقة المائية والأراضي الشاسعة، والموارد البشرية، من تحقيق التقدم الحضاري، بما فيه الديمقراطي والاقتصادي والعلمي والتقني، لمواجهة إسرائيل. كما ستتمكن من تحقيق وحدتها العربية المنشودة القائمة على وحدة اللغة والأرض والثقافة والتاريخ الحضاري والتطلعات المشتركة".


ثورة العراق ونتائجها المروّعة

وفعلا تفجرت ثورة العراق بعد ست سنوات فقط، بعدما عدت إلى الوطن. وإذ طِرْتُ فرحا بها، في البداية، حزنتُ وتشاءمتُ، بل غضبتُ بشدة، لهمجية الجماهير، التي تجلت في القتل والتمثيل والسحل في الشوارع، لجثث رموز الحكم البائد، وخاصة الوصي على عرش العراق عبد الإله وصديق الإنكليز نوري السعيد وولده صباح. وكنت أتمنى أن تحرص قيادة الثورة على حياتهم، وتقدمهم لمحاكمة عادلة، لا كما فعلت ببعض الوزراء السابقين، فقدمتهم إلى ما يسمى بـ"محكمة الثورة"، أو محكمة "المهداوي" (المهزلة)، السيئة الصيت، فأضرت بسمعتها وبسمعة القضاء والقانون وحقوق الإنسان.

المهم ، أننا بعد أن تحررنا من الاستعمار فشلنا تماما في إرساء المؤسسات الوطنية الحديثة لتحقيق الديمقراطية، ليس في العراق فقط بل في جميع البلدان العربية التي اندلعت فيها الثورات. بل لم تتمكن هذه البلدان من تحقيق تقدمها المنشود. فضلا عن أنها فشلت مرة أخرى في مواجهة إسرائيل في حرب الـ67. لماذ نترك شبابيكنا مشرعة ليدخل منها كل عابر سبيل؟

لماذا؟ هل السبب هو الآخر الذي كلما يُطرد من الباب يعود ليدخل من الشباك، كما يقول البعض؟ ربما كان هذا صحيحا، ولكن السؤال الأهم: لماذا نترك شبابيكنا مشرعة ليدخل منها كل عابر سبيل؟ ولماذا بعد أن تخلصنا من قهر الاستعمار الخارجي وقعنا في ظلم الاستبداد الداخلي ؟ يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" "ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر ؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا."

هل المستبد العادل، عادل؟

المستبد مهما كان عادلا سيظلم، ومهما كان عاقلا سيخطأ !! وهذا ما حدث فعلا خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال. أما اليوم فإن العراق يتعرض لكارثة من نوع جديد، هي نتيجة حتمية لتراكم أخطاء الحاكم بأمره المتعاقبة على مر السنين، مما أدى إلى تدخل الآخر وحروبه المتوالية، من جهة، ومن جهة أخرى هي نتيجة حتمية لنكوص"العقل المجتمعي" العربي ، الذي بحثته في كتاب "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، والذي صدرت طبعته الثانية مؤخرا، وستصدر طبعته الثالثة .

إن ما يحدث الآن في هذا البلد المبتلى، مأساة أعدها له الآخر، لتقسيمه وتدميره. ولئن فاتت هذه المؤامرة على كثير من العراقيين، فأنهم تردوا في هاويتها من حيث لا يدرون، على الأرجح. فراحوا يتقاتلون بضراوة فيما بينهم. في وقت هم أحوج ما يكونون فيه، إلى التضامن والتعاون لطرد المحتل وبناء البلد. فهذا الشرخ المذهبي الخطير، الذي يعود تاريخه إلى أربعة عشر قرنا، لعبت على ورقته جهات أجنبية معروفة تريد تقسيم العراق كمخطط محتمل لإيجاد حل نسبي للأزمة وخروج أمريكا من مستنقع العراق بشيء من ماء الوجه، من جهة، وتطويع دويلات العراق للتطبيع مع إسرائيل، من جهة أخرى. كما وقعت في هذا المخطط فئات متعددة، ظلت خاضعة "لـلعقل المجتمعي" المتخلف.

يقول وجاي باخور الباحث في "مركز هرتسليا" وهو أشهر مراكز البحث الإسرائيلية، إنه في حال لم يسفر الاحتلال الأميركي للعراق، عن تقسيم هذا البلد، فإنه يمكن اعتبار الحرب الأميركية عليه فاشلة من أساسها ولم تحقق أهدافها.

ومشروع تقسيم البلدان العربية ولاسيما العراق، ليس جديدا فقد طرح في عدة مناسبات سابقة، تحقيقا لزيادة السيطرة على دول صغيرة وضعيفة ومتناحرة، لقطع أي طريق محتمل لفكرة تحقيق الوحدة العربية التي تؤرق إسرائيل والدول الإمبريالية. فبعد أن تخلت دول المحور عن وعودها للعرب في تأسيس وحدتهم المنشودة، بعد أن ساعدوها في القتال ضد العثمانيين، وفي أعقاب تقسيم البلاد العربية، بين بريطانيا وفرنسا، في معاهدة "سايكس بيكو" السرية؛ تكررت الأفكار والمحاولات لمضاعفة التفكيك. فمنذ عام 1983، مثلا، اقترح المستشرق برنارد لويس، المعروف بمواقفه المعادية للعرب، تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: دولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الوسط ودولة كردية في الشمال العراقي والشمال الشرقي من إيران وغرب سوريا وجنوب تركيا... كما اقترح تقسيمات أخرى في مصر وسورية والسعودية. وبعد الحرب الأخيرة على العراق، أشار إلى أن العراق دولة مصطنعة، وان احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية. وذكر المؤرح الاسرائيلي بيني موريس في لقاء مع إحدى المحطات الأميركية قبيل الحرب على العراق قائلا : إن العراق دولة مصطنعة رسمها الانكليز و خلطوا فيها عشوائيا بين شعوب و طوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها.

وأشار جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي والباحث في منظمة American Enterprise Institute اليمنية المتطرفة، إلى اقتراح نشره في صحيفة «لوس أنجيليس تايمز"، يقضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق/دويلات.

ونقلت محطة"الجزيرة"، عن مصادر ألمانية أن الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عاموس مالكا قد قال إن غياب العراق عن خارطة المنطقة بمساحته الحالية ووحدة أقاليمه سيكون أحد العوامل المهمة في تقليص المخاطر الإستراتيجية على إسرائيل، مشيرا إلى حقيقة مشاركة العراق في جميع الحروب التي خاضتها الدول العربية ضد إسرائيل. مضيفا أن العالم العربي بدون العراق الموحد هو أفضل لإسرائيل من العالم العربي بوجود العراق الموحد.

وقال الجنرال داني روتشيلد، الذي تولى في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إنه يجب على إسرائيل أن تحاول تطوير علاقات مع "الكانتونات" التي تنشأ في العراق الجديد، مشيرا إلى علاقات تاريخية جمعت بين إسرائيل وقادة الأكراد في شمال العراق.

وحين قامت قوات التحالف باجتياح العراق، يبدو أن المحتل عرف نقطة الضعف المختفية والموروثة منذ 14 قرنا، فلعب عليها تحقيقا لأهدافه البعيدة، في "فرق تسد"، من جهة، وخدمة لمصالح إسرائيل في المنطقة، من جهة أخرى . ونحن نعلم أن من جملة الأسباب الرئيسية للحرب على العراق كانت تتعلق بالمصالح الإسرائيلية، لأن العراق كان يشكل أهم دولة عربية يمكن أن تهددها. وقد ظهرت معالم تلك الدلائل منذ اختيار أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، الذي تكون بناء على التشكيلة العرقية والطائفية المتنوعة للعراق. وذلك على الوجه التالي: 13شيعة ، 5سنة ، 5 أكراد، واحد كلدو آشوري ،واحد تركماني. وقد أدى هذا التقسيم ، الذي تكرس فيما بعد، إلى إحياء النعرات الطائفية التي كانت نائمة في "العقل المجتمعي" ، مما أسفر أخيرا عن قيام الحرب الطائفية المستعرة حاليا. ويقال، أن جهات أجنبية، عكفت على تأجيج هذه النعرات، بالقيام بأعمال إرهابية على المراكز الدينية الشيعية، خاصة في مسجد سامراء الكبير.

ومع توفر جميع هذه الأدلة نراقب، بكل أسف، أن بعض العراقيين ، يساعدون إسرائيل في تحقيق أهدافها البعيدة في المنطقة، من خلال إذكاء هذا القتال العنيف الجاري هناك.(لا نريد أن نتطرق الآن إلى تداعيات هذا الصراع الذي قد يشعل المنطقة برمتها، من خلال تدخل دول الجوار، ليس فقط على الأمة العربية، بل على مصالح أمريكا نفسها، والدول الغربية عامة).

وهنا لا بد أن نطرح هذا السؤال الخطير:

تـُرى لماذا في كل مرة يتاح لنا فيها الاستقلال والحرية، نقع في أخطاء تؤدي إلى كوارث، تجعلنا نترحم على العهود السابقة، وتسقطنا في هاوية لا يبدو أن لها قرارا؟ هل يعني ذلك أننا ما زلنا قاصرين ونحتاج إلى وصاية "الآخر"؟

والوصاية على شؤون البلدان العربية ليست غريبة عنها، بل متواصلة تاريخيا منذ تأسيس نظم "الحماية" ثم "الانتداب"،(العراق والأردن وسورية ولبنان، بموجب ميثاق عصبة الأمم) ، ثم "نظام الوصاية"، بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

وليس من الضروري أن تكون الوصاية صريحة بل أصبحت ضمنية. لننظر إلى لبنان اليوم الذي طلب لجنة تحقيق دولية، وهو الآن بصدد طلب محكمة دولية. لنقارن بينه وبين إسرائيل التي ترفض بإصرار أي تدخل خارجي دولي في شؤونها أو بالأحرى في انتهاكاتها، بل تعتبر أية مشاركة دولية في سياساتها العدوانية أو إجراءاتها تعتبر مسَّا بسيادتها.

والوصاية ليست بالضرورة مباشرة كما أسلفنا، بل يمكن أن تتخذ أشكالا أخرى. فنحن نعتبر هذه الوصاية قائمة الآن على بعض البلدان العربية المستقلة، التي تحصل على مساعدات من أمريكا، وما يترتب عليها من شروط وقيود. أما بقية البلدان العربية المستقرة فمعظمها مدينة لأمريكا بحمايتها. فلا يمكن أن تتخذ قرارات مخالفة لآراء "الوصي المحترم والحامي المخلص". لنقارنها بإسرائيل التي تعيش على المساعدات الأمريكية( يصيب الفرد الإسرائيلي من تلك المساعدات قرابة 14إلف دولار سنويا)، ولكنها مع ذلك تتخذ قراراتها بمعزل عن وليـّة نعمتها أمريكا. فقد تحدت إسرائيل أمريكا في العديد من المواقف ومنها، مثلا، المضي في إنشاء المستوطنات ونسف أسس خارطة الطريق، والتجسس على منشئاتها العسكرية وغير ذلك . نعم، قد ينجح العراق في تحطيم أسطورة أكبر وأقوى دولة في العالم، ولكنه قد يغرق بعدها في حمامات دم قد تلجئه لطلب مساعدة دولية من الأمم المتحدة (وصاية)، ربما يفشل في الحصول عليها، فيتورط في حرب أهلية قد تتواصل عشرات السنين. فمتى يستيقظ العراقيون ويثوبون إلى رشدهم، ويحلون معضلاتهم دون وصاية "الآخر"؟