نهر النيل العظيم:الفصل الثالث: قصة النهر - دراسة في التطور الجيومورفولوجي

من معرفة المصادر

نهر النيل العظيم:الفصل الثالث: قصة النهر - دراسة في التطور الجيومورفولوجي

كل نهر من الأنهار له قصة تصور الظروف والأحداث التي يتأثر بها ، ويؤثر فيها في حدود مساحات الأرض التي تتضمن حوضه وواديه ، والحيز الذي ينساب فيه الماء الجاري . ويعني ذلك أن قصة النهر تعبر عن أو تفسر تاريخ الجريان في حيز المجرى ، بقدر ماتعبر عن أو تفسر طبيعة الأحداث التي تتمخض عن صورة هذا الحيز ، وتكسبه صفاته وتسهم في تحديد نظام الجريان المائي فيه . وما من شك في أن نهر النيل العظيم الذي تبينا الصورة التي هو علهيا الآن له قصة . يحكى كل فصل من فصلوها تاريخ النهر ، وتصور جملة العوامل التي أسهمت في تطوره على المدى الجيولوجي ، في الزمان وفي المكان .

ويمكن للباحث أن يؤكد منذ البداية أن قصة النيل العظيم والجريان في هذه الصورة صعبة بقدر ما هي معقدة . والصعوبة والتعقيد لايرجعان إلى أنه نهر من أطول أنهار الدنيا ، وأن هذا الطول يدخل عوامل كثيرة تتدخل احتمالات تأثيرها وتأثر القصة بها . ولكنهما يرجعان في الحقيقة إلى أنه نهر شاذ ، لايمكن أن تنطبق علهي جملة القوانين العامة التي تخضع لها قصة الجريان في الأنهار العادية ، من وجهة النظر الجيمورفولوجية .

ويعني ذلك أنه ليس في مقدور الباحث الذي يستهدف بيان قصة النيل ، أن يميز بين قطاع من النهر تتمثل فيه صفات أو سمات المجرى الأعلى ، وقطاع آخر تتمثل فيه صفات المجرى الأوسط ، وقطاع ثالث تتمثل فيه صفات المجرى الأدنى . ومن ثم يكون عليه أن يتابع متابعة منطقية ، الدراسة على ضوء من هذا التصنيف الرتيب المنتظم . وهكذا يستخلص الباحث من صورة النهر المتكاملة ، بقدر ما يستخلص من تفاصيلها في كل جزء من أجزاء المجرى الطويل ، أن ذلك النهر العظيم الذي يؤلف ظاهرة طبيعية وهيدرولوجية هائلة ومتكاملة في الوقت الحاضر ، يتضمن قطاعات من المجرى تعبر عن القدم والشيخوخة ، وقطاعات أخرى تعبر عن الحداثة والفتوة ، موزعة في غير انتظام رتيب .

وهذا التوزيع غير المنتظم أو غير المتناسق مع قواعد الجريان العامة دليل قاطع على كل معنى من معاني التعقيد الذي يضفي على قصة النهر ومتابعة تطوره الجيومورفولوجي صعوبات جمة . وقد يبدو التقيد من ناحية أخرى ، ونتبينه في عدم التناسق بين تاريخ الصخور والتكونيات التي تتضمن حيز المجرى وينساب عليها النهر ، وتميل لأن تكون أحدث عمرا على المحور العام من الجنوب إلى المشال ، وبين تاريخ جريان ماء النهر نفسه .

ونحن على ضوء ذلك كله ، يجب أن ندرك أن صفة الحداثة والفتوة التي تتميز بها قطاعات من مجرى النهر ، والتي تكون موزعة في غير انتظام أو تناسق وانسجام ينطبق على أو مع أصول النظام النهري العادي ، نعني أن النيل في صورته الحالية فيما بين المنابع والمصب يمثل نهرا حديثا ، من حيث العمر والتاريخ الجيولوجي ، التي اكتملت فيه تلك الصورة . بل لعلنا نذكر في هذا المجال أنه يمثل نهرا من أحدث الأنهار الأفريقية الكبرى .

وفي مجال متابعة قصة التطور الجيومورفولوجي وتاريخ جريان النيل في صورته الحالية . يتطلب الأمر إلقاء الضوء على كل ما من شأنه أن يفسر ، أو أن يعلل الحداثة في تلك القطاعات الحديثة من المجرى ، أو أن يصور العوامل والأحداث التي تمخضت عنها وأدت إليها . ولعل من الطبيعي أن يستلزم أمر هذا لابحث والتفسير ممارسة التوسع الزماني على المستوى الرأسي الذي يوغل في أزمنة وعصور جيولوجية سابقة ، تمثلت فيها العوامل والأحداث البنيوية ، التي أثرت على تفاصيل شكل الأرض وانحدارات السطح من ناحية ، أو التي أثرت على صفات المناخ وطبيعة المطر وحجمه وعلاقته بالجريان السطحي من ناحية أخرى .

كما يستلزم أمر البحث والتفسير أيضا ممارسة التوسع المكاني على المستوى الأفقي ، الذي يستهدف الخروج من الحيز الكبير ، الذي يتضمن حوض النيل إلى ألأرض والأحواض المجاورة ، من أجل متابعة الترابط بين العوامل والأحداث البنيوية ، ومجى تأثيرها على الجريان النيلي ، وخلق الصورة التي هو عليها الآن .

وهكذا تبين أن قصة النيل المعقدة الصعبة تستلزم أو تقتضي مرونة كاملة في الفهم والإدراك ، بقدر ما تقتضي مرونة كاملة في الزوايا التي ينظر من خلالها الباحث غلى الموضوع وأبعاده المتباينة . ويعني ذلك أن الحصيلة التي قد تتمخض عنها الدراسة أو النظرة من زاوية من الزوايا المحدةة قد تتطلب تفسيرا وتعليلا ، لاتكاد نتبينه إلا من خلال المتابعة والبحث والنظر من زاوية أخرى .

وعلى ضوء من هذه الاعتبارات كلها ، وعلى ضوء من العلم بالتناقض بين صفات مجرى النهر وروافده وصفات النهر العادي ، سنحاول أن نتعرف على قصة النيل وتاريخ تطوره الجيموروفولجي . ويمكن القول أن هذه القصة الطويلة تتضمن فصولا كثيرة وان كل فصل منها يعالج الموضوع في قطاع من حوض النهر العظيم . ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال ، أن كل قطاع له قصته الخاصة ، التي تنفصل انفصالا حادا عن سياق القصة في قطاع آخر . ولكن نحن نلجأ إلى هذه الوسيلة لكي تسهل علينا عملية متابعة الأحداث ونتائجها . ويعني ذلك أن هذه الطريقة لايجب أن تكون سببا في أن نتصور قصة النيل ، أو أن نعرضها في سياق غير متناسق أو غير مترابط ومتكامل .

ونود قبل ان نصور ملامح القصة وسياقها المتناسق في كل فصل من تلك الفصول ، أن نعرض عرضا موجزا سريعا لبعض العوامل والأحداث التي أسهمت في بنية القارة الإفريقية . وتشكيل الصور التضاريسية الرئيسية من ناحية ، والتي كان لها من ناحية أخرى ، تأثير مباشر أو غير مباشر على تاريخ الأحداث في حوض النيل وبنيته .

والمفهوم أن القارة الإفريقية تمثل الصورة النهائية ، التي انتهى إليها نشاط وفعل مجموعة من العوامل والأحداث البنيوية ، التي تضافرت على تشكيل البقية الكبى من كتلة جندوانالاند ، وتمثل النواة الأساسية لهذه القارة . ويعني ذلك أن كتلة النواة التي نمت عليها ومن حولها الأرض الأفريقية كانت تمثل شطرا كبيرا من أرض القارة الجنوبية جندوانالاند التي استمر وجودها وكيانها المتماسك ، في أثناء كل عصر من عصور الزمن الجيولوجي الأول . وبعض عصور الزمن الجيولوجي الثاني على وجه التقريب . ويجدر بنا أن نشير غلى أن جندوانالاند التي تنتمي لها كتلة النواة ، كانت في قوامها العام تكتكون من الصخور التي تتراوح بين الصخور الأركية البلورية والمنحولة والصخور النارية القديمة . وبين الرواسب العتيقة التي ترجع إلى عصر من عصور الزمن الجيولوجي الأول والثاني . كما نشير مرة أخرى ، إلى أن العوامل والحركات البنيوية التكوينية قد أثرت على كتلة جندونالاند ، وأدت إلى تمزيقها تمزيقا شديدا ، في حوالي عصر من عصور الزمن الجيولوجي الثاني .

ويمكن للباحث أن يتبين على ضوء ذلك كله ، حقيقة العوامل الباطنية والحركات البطيئة والمفاجئة التي تمخضت عن التمزق والانكسار والتصدع ، بقدر ماتمخضت عن حصيلة كبيرة من النتائج التي كان لها وزنها وقيمتها في شكل وتشكيل الأرض والصور التضاريسية ، في كل عصر من العصور الجيولوجية في أثناء الزمن الجيولوجي الثالث والزمن الجيولوجي الرابع .

وقد تتمثل حصيلة تلك العوامل الباطنية في مجرد التمزق ، الذي تمخض عن الكتلة النواة ، وفي زحزحة تلك الكتلة وغيرها ، في اتجاه الشمال بالصورة التي ادت إلى الضغط الجانبي ، والتأثير على الرواسب البحرية التي كانتت راكم ويزداد سمكها على قاع بحر تثيس ، وظهور الالتواءات الحديثة في أثناء الزمن الجيولوجي الثالث على أطراف القارة الإفريقية الشمالية الغربية ، وفي جنوب أوروبا . كما تتمثل حصيلة هذه العوامل الباطنية أيضا في مجموعات من التصدعات والتشققات والانكسارات المحلية والتثنيات الضحلة على محاور معينة . والتي يسرت أو سهلت مهمة العوامل الظاهرية ، من حيث النحت والتعميق وتشكيل الصور التضاريسية وحقن مجموعة كبيرة من الأحواض التي تتناثر على سطح أفريقية في غير النظام رتيب أو دقيق ، وتكسبه ملامح معينة من وجهة النظر التضاريسية . أم تتمثل الحصيلة مرة ثالثة في خلق الأخدود الذي يمثل في جملته ظاهرة عامة في القطاع الشرقي من كتلة أفريقية .

ومهما يكن من أمر هذه النتائج التي أدت إليها جملة العوامل الباطنية ، فإن حوض النيل العظيم المنتشر على محور عام من قلب أفريقيا إلى لاشمال قد تأثرت معظم مساحاته بتلك العوامل ، وأن هذا التأثر كان طريقة مباشرة إو غير مباشرة ، كما كان بمقادير ونتائج متباينة من مساحة إلى مساحة أخرى . وما من شك في أن الإلمام بهذه العوامل ونتائجها على الأرض الأفريقية عامة ، وعلى أرض حوض النيل خاصة ووضعها في الاعتبار ، من شأنه أن يوحي بضرورة ملحة تقتضي أو تستلزم متابعة التاريخ الجيولوجي ، والأحداث البنيوية منذ وقت بعيد ، من أجل التعرف على الظروف التي تمخضت عن الجريان النيلي ، أو التي تضافرت على خلق النهر واتخاذ مجراه الصورة ، التي هو علهيا في الوقت الحاضر . ويعني ذلك مرة أخرى اللجوء إلى التوسع في الدراسة والبحث في الزمان وفي المكان . بالقدر الذي يضفي على كل فصل من فصول قصة النيل الحبكة المطلوبة ، والسياق المتناسق ومقوماته الأصلية والأصيلة .

قصة النيل في الهضبة الاستوائية

لعل من الضروري أن يدرك الباحث أن قصة النهر والجريان النيلي في الهضبة الاستوائية تقتضي مراعاة حقيقية هامة ووضعها في الاعتبار ، وتتمثل هذه الحقيقة في صورة لامسطحات المائية العذبة للبحيرات المنتشرة في نظام شبه رتيب ، والتي تعتبر من غير شك مناطق أساسية لتجميع الماء من المطر المباشر أو من الفائض على أحواضها . أما المجاري النهرية التي تمثل همزة الوصل والترابط بين هذ المسطحات المائية . فإنها لاتكاد تزيد عن كونها الحيز الذي يتضمن الجريان شبه المنتظم الدائم ، والخاضع خضوعا طبيعيا لصفة كل بحيرة من تلك البحيرات ، ومجموعة العوامل التي تؤثر على تدفق الماء منها .

وقد يتطلب البحث على ضوء هذا الفهم استخلاص النتائج من واقع الدراسة البيولوجية التي تدرس الأسماك والقواقع في البحيرات والمجاري النهرية . ويكون ذلك على اعتبار أنها تتمخض عن كل ما من شأنه أن يعبر عن احتمالات الاتصال أو عدم الاتصال بينها ، وأن يصور الكيفية التي تم بها ، وتحديد التاريخ أو التواريخ بالنسبة للنتائج التي ترتبت على كل احتمال منهما . كما قد تتطلب القصة دراسة الأسس والقواعد التي تنبثق من واقع البحث الجيولوجي البحث . ويكون هذا الأسلوب وسيلة مثلى يمكن الاعتماد عليها في مجال متابعة التاريخ الجيولوجي والأحداث البنيوية ، التي تمخضت عن نتائج معينة فيما يتعلق بشكل البحيرات ، وفي مجال متابعة التغيرات التي كانت تطرأ على حالة المناخ وكمية المطر ، من عصر جيولوجي إلى عصر جيولوجي آخر . وما من شك في أن الحصيلة الناشئة عن هذه المتابعة ، يمكن أن نلتمس نتائجها ، فيما يتعلق بالتغيرات التي طرأت على مساحات المسطحات المائية للبحيرات من ناحية ، وفيما يتعلق بالتاريخ أو التواريخ ، التي جرت فيها المياه في المجاري النهرية والوصلات التي تربط بينها من ناحية أخرى . وقد نلجأ إلى التنسيق والتكامل بين جملة النتائج التي نستخلصها من واقع الدراسة البيولوجية والدراسة الجيولوجية ، لكي تصل إلى تحديد واضح للأحداث التي تصور القصة تصويرا متكاملا . ونذكر في مجال الدراسة التي تجمع أطراف القصة من واقع أدلة ونتائج البحث البيولوجي أن بولنجر Boulenger قد سجل في فجر القرن العشرين التشابه الكبير ، بين بعض الأسماك في كل من حوض النيل وحوض تشاد وحوض النيجر وحوض الكنغو وحوض السنغال من ناحية الغرب وحوض رودلف من ناحية الشرق . وقد لفت هذا التشابه الانتباه ، ووجه البحث في الاتجاه الذي من شأنه أن يفسره أو يعلله أو أن يصور الظروف والاحتمالات التي أدت إليه .

بل لعلنا نذكر أن البحث قد ذهب إلى الحد الذي لجأ فيه إلى معالجة قصة النيل وتطور الجريان النيلي على ضوء من ذلك التفسير والاحتمالات المؤدية إلى التشابه أو عدم التشابه . وقد استهدف بعض الباحثين في هذا المجال ، تصوير صلة بين كافة هذه الأحواض على اعتبار أنها الوسيلة التي تبرر انتقال الأسماك انتقالا سهلا من حوض إلى حوض آخر . ويعني ذلك أن التشابه في رأيهم لا يتأتى إلا على ضوء من افتراض الاتصال أو مايشبه الاتصال بين النظم المائية في تلك الأحواض .

ونشير في هذا المجال إلى افتراض بولنجر الذي تصور فيه أن الاتصال كان بواسطة بحيرة كبيرة أو سلسلة من البحيرات متصل بعضها بالبعض الآخر . وأن تشاد هي البقية الباقية من البحيرة العظيمة التي كانت تغطي هذه المنطقة . كما نشير أيضا إلى افتراض هولمر واستيجاند Stigand الذي يصور جريانا من غربي بحيرة ألبرت في اتجاه الشمال الغربي فيما بين واداي ودارفور ، بحيث يتصل ببحيرة تشاد ، ثم يجري شمالا في الوادي الفاضي ، ثم يتجه فيما بعد تبستى في اتجاه الشمال الشرقي إلى البحر المتوسط .

ويمكن القول أن هذا النمط من أنماط التفكير ، الذي استهدف بوسيلة أو بأخرى خلق الصلة المباشرة بين تلك الأحواض ، كان غير مقبول . ويفهم ذلك على ضوء من علمنا بأنه لايكاد يستقيم مع طبيعة شكل السطح بصفة عامة ، وارتفاع الحواجز التضاريسية ، التي كانت ومازالت تفصل فصلا حادا بين معظم تلك الأحواض .

وقد حقق وردنجتون Worthington من خلال دراساته الأصيلة للثروة المائية وسبل استغلالها وتنميتها في البحيرات ، التي ينساب منها النيل وغيرها من بحيرات على هضاب شرق أفريقية ، نتائج هامة وأصيلة . وكان من شأن هذه النتائج أن نلقي الأضواء على التشابه بين الأسماك في تلك البحيرات وأن نمهد الطريق لاتجاه جديد في التفسير والتعليل ، واستنباط بعض الأدلة التي تسهم في تصوير أطراف من قصة النيل في هضبة البحيرات على الأقل .

ولقد لاحظ ورذنجتون أنه على الرغم من التشابه القائم بين بعض الأسماك في بحيرات الهضبة الاستوائية ، والتي ترجع أصوله إلى ماقبل الزمن الجيولوجي الرابع ، فإن هذا الزمن قد تمثلت فيه اختلافات محلية بين جملة الأسماك في المسطحات المائية لهذه البحيرات ، وفي المجاري النهرية التي تربط فيما بينها . وقد انتهى إلى أن هذا النوع قد أدت إليه أو تمخضت عنه مجموعة من العوامل والظروف التي نتبين تأثيرها في أمرين . الأمر الأول ويتمثل في دور وفاعلية هذه العوامل في التأثير على مساحة كل سطح من المسطحات المائية وعلى مناسيب الماء فيه من عصر إلى عصر . الأمر الثاني ويتمثل في دور وفاعلية هذه العوامل في احتمال الاتصال والترابط ، أو عدم الاتصال فميا بينها .

ويمكن القول ان هذه الظروف وتلك العوامل ، قد تضمنتها ثلاثة أدوار متباينة في أثناء عصر البلايستوسين ، وهو آخر عصور الزمن الجيولوجي الرابع .

ويذكر ورذنجتون أن الدور الأول قد حدث في حوالي ذيل البلايوسين والبلايستوسين الأدنى ، وأن سطوح المسطحات المائية قد اتسعت على مدى كبير ، كما أن الأسماك قد تنوعت وتكاثرت من حيث العدد . وقد صور الاتفاق بين هذا الدور ، ودور مطير طويل كانت تتخلله أكثر من قمة من القمم العالية . ويرى أن زيادة المطر في هذا الدور ، كانت كفيلة أن تؤدي إلى توسيع مساحة المسطحات المائية للبحيرات ، بالشكل الذي تزداد معه احتمالات الاتصال وسهولة انتقال الأسماك فيما بينها . ويمكن أن نتصور زيادة مناسيب الماء والاتساع من ناحية الغرب ، كان مؤديا إلى احتمال الاتصال وسهولة الانتقال فيما بين البحيرات على سطح الهضبة وبحيرات الأخدود الغربي . كما أن الاتساع من ناحية الشمال ، كان مؤديا إلى احتمال الاتصال وسهول انتقال الأسماك بين بحيرة فكتوريا وكيوجا . ويدعم هذا الفهم أو ذلك التصور ، علمنا بأن سطح الهضبة الرتيب ، الذي أسهمت عوامل التعرية في تسويته إلى حد كبير ، لاتكاد تظهر عليه مرتفعات فاصلة شديدة الارتفاع ، يمكن أن تبرر أو تفسر احتمال عدم الاتصال إذا مازاد منسوب سطح بحيرة فكتوريا بحوالي 100 متر عن منسوب سطحيها الحالي . ويعني ذلك من ناحية أخرى أن صورة شكل السطح وعدم ظهور خطوط تقسيم للمياه واضحة ومرتفعة ، يؤدي بالضرورة إلى تصور الاتصال وسهولة انتقال الأسماك من مسطح مائي إلى مسطح مائي آخر ، إذا ماارتفعت مناسيب الماء فيها ارتفاعا كبيرا نتيجة لزيادة المطر .

أما الدور الثاني فيتصور ورذنجتون أن ماحدث فيه ، يتمثل في نتيجتين هامتين . وقد تبين النتيجة الأولى في انقراض بعض الأسماك ، والثانية في تنوع ملحوظ في الأسماك في البحيرات المتناثرة على سطح الهضبة الواسعة . ويذكر أن تلك النتائج الإيجابية التي أثرت على صورة الحياة في البحيرات قد ترتبت على الانفصال الكامل بين المسطحات المائية وكان ذلك الانفصال في صورة أدت إلى انتظام كيانها في ثلاث مجموعات متفرقة ومتباينة من حيث أنواع الأسماك .

وتشمل المجموعة الأولى البحيرات التي يتضمنها قطاع كبير من الأرض يقع في الجزء الجنوبي من الأخدود الغربي . والمفهوم أن هذا القطاع الذي يعتبر خارجا عن حوض النيل ومتلصقا بحوض الكنغو كان يتضمن بحيرة تنجانيقا وبحيرة كيفو . وكانت المجموعة الثانية التي تتمنها ماسحة كبيرة على سطح الهضبة الاستوائية وقطاع من الأخدود الغربي تشمل بحيرات فكتوريا وكيوجا وادوارد . أما المجموعة الثالثة فكان يتضمنها الأخدود الغربي في قطاعه الشمالي الذي تقع في قاعة بحيرة ألبرت .

ويذكر ورذنجتون في مجال تحديد هذه المجموعة الأخيرة، أنه لايملك الدليل الذي يعبر عن احتمالات الصلة بين المسطحات المائية فيها وبين منخفض حوض الغزال ، ويعزو ورذنجتون انكماش أو تقلص المساحات التي كانت تتضمنه المسطحات المائية والتباين بين الأسماك بالشكل الذي عبر عنه تقسيمها إلى ثلاث مجموعات متفرقة ، إلى الجفاف وتناقص المطر تناقصا كبيرا في الفترة التالية للدور المطير الأول .

ويعني ذلك أنه يتصور حدوث الانكماش الذي أنقص مساحات البحيرات ، وفصل بينها في تلك المجموعات الثلاث في حوالي البلايستوسين الأوسط . وما من شك في أن الانكماش والتقلص الذي ترتب على انخفاض المناسيب في الأحواض ، التي تحتلها البحيرات ، قد أدى إلى انقراض بعض الأنواع في بعض البحيرات التي باتت ضحلة نسبيا كبحيرة فكتوريا وبحيرة كيوجا . أما بالنسبة لبحيرة ألبرت التي كانت تتضمنها المجموعة الثالثة ، عقد تصور أن صفاتها وموقعها في قلب الأخدود وعمق الماء فيها ، قد كفل لها فرصة الاحتفاظ بأنواع أكثر من الأسماك .

أما الدور الثالث فإن الباحث يتحرى أن يربط بينه وبين تغيرات أساسية في الأحوال المناخية ، تمخضت عن انتهاء فترة الجفاف وزيادة المطر بزيادة كبيرة . ويعني ذلك حلول الدور المطير الثاني المعروف في شر أفريقية ، باسم دور جمبليان Gamblian في حوالي البلايستوسين الأعلى . وما من شك في أن زيادة المطر كانت تتضمن زيادة في مناسيب سطح الماء في البحيرات ، وإنهاء حالة التقلص والانكماش ، وزيادة حجم الماء بصفة عامة في حيز كل بحيرة من البحيرات . ويمكن القول أن هذه الزيادة في المناسيب وفي حجم الماء ، أنهت الظروف التي كانت قد عرضت الأسماك لأن تتناقص من حيث العدد ، كما تعرض بعضها للانقراض .

ويعني ذلك أن الظروف الجديدة قد أدت إلى زيادة وتكاثر الأسماك في كل بحيرة من البحيرات من حيث العدد على الأقل . وعلى الرغم من ذلك فإن الملاحظ أن هذه الظروف لم تؤد من ناحية أخرى ، إلى انتقال بالأنواع الخاصة ، التي كانت تتمثل وتعيش في بحيرة ألبرت ، إلى البحيرات التي تتضمنها المجموعة الثانية وهي أدوارد وكيوجا وفكتوريا . وعدم الانتقال واحتفاظ ألبرت ببعض الأنواع التي ليس لها نظير في البحيرات الأخرى ، كان يعني أن الاتصال المباشر والتشابك ، بين المسطحات المالية لم يكن ممكنا ، لأن الزيادة في المطر كانت في الغالب ، لاترقى إلى الزيادة في الدور المطير الأول وقمتيه العاليتين .

وحتى إذا كان ثمة اتصال قد تم بين هذه البحيرات عن طريق المجاري النهرية ، ونقصد بها نيل فكتوريا ونهر سمليكي ، فما من شك في أن هذه الصورة من صور الاتصال لم تكن تسمح للأنواع المتباينة من أسماك ألألبرت ، فرصة الوصول والصعود في تلك المجاري في اتجاه كيوجا أو فكتوريا ، أو في اتجاه ادوارد . والمفهوم أن شلالات مرتشون ، التي يتضمنها حيز مجرى نيل فكتوريا ، قرب الفم الذي تنساب منه المياها لجارية إلى ألبرت ، كانت تمثل العقبة التي تحول دون انتقال – الأسماك – من ألبرت إلى كيوجا وفكتوريا . كما أن مدافع الماء في مجرى نهر سمليكي ، في القطاع الأوسط ، كانت تؤدي إلى نفس النتيجة بالنسبة لانتقال الأسماك من بحيرة ألبرت إلى بحيرة ادوارد .

وهذا الفهم – على كل حال – سبيل أن نتصور احتمال انتظام الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية في حوالي عصر البلايستوسين الأعلى . دون أن يغير ذلك من التباين الشديد بين أنواع الأسماك في ألبرت من ناحية ، وبين أنواعها الأقل عددا في بحيرات كيوجا وفكتوريا وادوارد من ناحية أخرى . وما من شك في أن المقصود بانتظام الجريان النيلي ، هو الاتصال بين البحيرات التي يتضمنها النظام النهري النيلي ، عن طريق المجاري النهرية المعروف ، وهما نيل فكتوريا ونهر سمليكي .

ويتناسق ذلك التحديد وذلك الفهم مع علمنا بأن النشاط البركاني والعنف في قاع الأخدود الغربي ، في القطاع الواقع جنوب بحيرة ادوارد مباشرة ، قد تمخض منذ حوالي البلايستوسين الأوسط ، عن وضع حد لأي احتمال من احتمالات الاتصال بأي صورة من الصور بين ادوارد وبين البحيرات ، التي كانت تتضمنها المجموعة الأولى التي أشرنا إليها في أثناء الدور الأول . ومهما يكن من أمر ، فإن هذا النموذج من نماذج الاتصال ، جدير بأن يصور لنا أن الزيادة في المطر أو النقصان والجفاف وحدهما ، لايمكن أن يفسر احتمالات الفصل والوصل بين البحيرات . ويعني ذلك في وضوح أن نضع في الاعتبار قيمة العوامل والحركات الباطنية ، على أساس أنها قد تتمخض من ناحية أخرى . عن خلق وتأكيد احتمالات الاتصال أو عدم الاتصال بين البحيرات .

هكذا نتبين من الدراسة البيولوجية ببعض النتائج ، التي قد نستفيد منها في مجال إلقاء بعض الأضواء على جوانب من الموضوع . ومع ذلك فإنها في الوقت نفسه تكاد تفتقر إلى مزيد من الأدلة التي تقطع الشك باليقين . بل لعلها تتخلى عن بعض الجوانب وبع ضالنقاط الهامة . ولاتفصح عن معناها أو عن قيمتها ووزنها في قصة الجراين النيلي . وهي من غير شك لاتكاد تقيم الدليل على تاريخ معين لاحتمال الاتصال بين البحيرات ، اللهم إلا إذا اعتبرنا الاتصال الظاهر الواضح في مرحلة أو دور الجفاف في حوالي البلايستوسين الأوسط ، دليلا على عدم وجود تلك المجاري حتى ذلك الوقت .

ومع ذلك فإن هذا التصور في حد ذاته فيه كل معنى من معاني الإحساس بالقلق في الفكرة ، لأن وجود هذه المجاري بعد ذلك ، ودورها في الربط بين البحيرات في تاريخ لاحق ، لم يحقق فرصة انتقال أنواع الأسماك المتباينة والمتنوعة ، من ألبرت إلى كيوجا وفكتوريا وإلى ادوارد . وهذه النتائج غير المكتملة في الدلالة والتفسير ، وبيان مراحل التطور تبرز أهمية الاعتماد على وسيلة أخرى ، أو على دراسة من زوايا أخرى في مجال التعرف على قصة الجريان النيلي ، وتحديد التاريخ المناسب لاكتمال الصورة العامة ، التي هو علهيا في الوقت الحاضر .

وإذا انتقلنا إلى معالجة الموضوع ولم الأطراف التي يكتمل بها سياق القصة ، وتطور الجريان النيلي في هضبة البحيرات من تلك الزاوية الأخرى ، وجب عليها أن نهتم بدراسة البنية والعوامل والأحداث البنيوية ، التي أسهمت في خلق وتشكيل الصور التضاريسية ، بقدر ما أسمهمت في التأثير على الحيز ، الذي يتضمن الجريان النهري . ويقتضي ذلك الأمر التعرف على الخريطة الجيولوجية لهضاب شرق أفريقية ، بما في ذلك هضبة البحيرات النيلية ، ويكون ذلك على اعتبار أن التوسع في دراسة التاريخ الجيولوجي وسيلة مثلى في أي مجال تجميع النتائج بشأن الأحداث والعوامل التي تضافرت على تحديد ملامح ذلك التاريخ وأثرت على شكل الأرض وما تتضمنه من المجاري النهرية .

وليس ثمة شك في أن النظرة السريعة للخريطة الجيولوجية قد تؤدي إلى إدراك البساطة . ومع ذلك فإن الإمر لايخلو من تفاصيل تعبر عن التعقيد ، والذي نتبين أثره وصورته في نظام الجريان المائي في المجاري النيلية . ويتمثل هذا الذي نتبينه في الجنادل والشلالات التي يتضمنها حيز مجرى نيل فكتوريا في بدايته وقرب نهايته . كما يتمثل أيضا في مدافع الماء ، التي يتضمنها القطاع الأوسط من مجرى نهر سمليكي .

وهضبة البحيرة التي نحن بصدد الحديث عنها ومتابعة تاريخها الجيولوجي تتألف من قوام من الصخور القديمة التي تمثل شطرا من كتلة النواة المنبثقة من جندوانالاند . وتتراوح هذه الصخور القديمة بين البلورية كالجرانيت والمنحولة كالنيس والشست . وترجع في جملتها من حيث العمر إلى ماقبل الزمن الجيولوجي الأول . وتنتشر هذه الصخور على مدى واسع في أنحاء الهضبة وإلى الحد الذي يتبين معه الاتصال أو مايشبه الاتصال يمثيلاتها في هضاب شرق أفريقية من ناحية ، وفي غرب الكنغو من ناحية أخرى .

ويعني ذلك أن هذه الهضاب كانت تمثل صورة تضاريسية عامة شاملة متصلة ، وأن بعض العوامل والأحداث المعينة التي تخللت بعض العصور الجيولوجية قد أضفت على لاصورة تفاصيل وإضافات . كما أدت إلى نتائج معينة بالنسبة لبعض القطاعات منها . وما من شك في أن العوامل الباطنية والأحداث المرتبطة بها كانت تقوم بالدور الرئيسي في الخلق والتشكيل وتحقيق الإضافات ، التي تكسب الصورة أو الصور تفاصيلها وملامحها الأساسية . ويتمثل فعل هذه العوامل الباطنية في التصدع والانكسار ، الذي أسهم في خلق الأخدود ، وتأكيد مظاهر التمزق ، وعدم الاتصال بين أجزاء كتلة الصخور القديمة في أنحاء شرق أفريقية كلها . كما تعبر الصخور والتكوينات الطفحية البركانية عن نفس المعاني من حيث فعل العوامل الباطنية ، وأثرها المباشر أو غير المباشر على البنية والتاريخ الجيولوجي من ناحية ، وعلى الصور التضاريسية من ناحية أخرى .

كما يستلزم الأمر الإشارة إلى أن الصخور الرسوبية التي تعرف باسم رواسب الجونكيان وترجع إلى حوالي الزمن الجيولوجي الأول تعبر عن جانبا آخر من فعل عوامل النحت والإرساب وتأثيرها على رتابة هذه الهضبة وصخورها القديمة . ويمكن القول أن هذه العوامل قد أسهمت من غير شك في تسوية سطح الهضبة بشكل واضح ملحوظ نتبين أثره في صورتين هما : صورة الجريان الهادي على انحدارات بطيئة يحققها السطح المستوي ، وصورة تقسيم المياه التي لايكاد يتبينها الباحث بوضوح على السطح ، بين بعض الأحواض النهرية وأطراف البحيرات . هذا بالإضافة إلى أن هذه العوامل قد أدت مرة أخرى إلى نحت وتعميق الأحواض التي يتضمنها سطح الهضبة ، وتحتل قيعانها بعض البحيرات كبحيرة فكتوريا وبحيرة كيوجا .

ومهما يكن من أمر فإن الصورة العامة لهضبة البحيارت وهضاب شرق أفريقية ، بما تتضمنه من تفاصيل معينة ، توحي باهمية العوامل الباطنية واثر الحركات الباطنية والمفاجئة في مجال دراسة البنية ، ومتابعة التفسير لشكل الصور التضاريسية والتفاصيل التي تحدد أو تبرز ملامحها . والمفهوم أن هذه العوامل قد تمخضت عن ظاهرة الأخدود ، الذي يتمثل في حقيقة الأمر في عدد من الأخاديد المتلاحقة على محاور عامة من الجنبو إلى الشمال . وتؤثر هذه الظاهرة التي تبدأ من نياسالاند – ملاوى – وتتفرق في شمالها المباشر إلى ثلاث شعب متباينة ، تأثيرا واضحا على صفات البنية ، وشكل الصور التضاريسية في هضبة البحيرات وهضاب شرق أفريقية بصفة عامة .

وقد يهمنا من هذه الشعب شعبتان تتمثل الأولى في الأخدود الأفريقي العظيم الذي يمتد على الجانب ، الذي يحدد هضبة البحيارت من ناحية الشرق ، والثانية في الأخدود الغربي الذي يحيط بالهضبة ، ويحدد امتدادها من ناحية الغرب . ويكون ذلك على اعتبارها أنها والأحداث التي أسهمت في خلقها قد أثرت بالضرورة ، على الهضبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، هذا بالإضافة إلى أن القطاع الشمالي من الأخدود الغربي ، شمال جبال همفبيرو يمثل قطاعا من القطاعات التي يتألف منها النظام النيلي ، لأنه يتضمن بحيرة ادوارد وبحيرة ألبرت ونهر سمليكي . كما يتضمن المجرى الخارج من ألبرت إلى النهاية الشمالية القصوى للأخدود عند دوفيلي على أطراف حوض بحر الجبل الجنوبية .

ونذكر في مجال الحديث عن هذه الأخاديد ، أنها قد نشأت بفعل وتأثير العوامل والحركات الباطنية ، التي تعرضت لها كتلة النواة المتخلفة من جندوانالاند في مجال عصر الكريتاسي ، آخر عصور الزمن الجيولوجي الثاني . ومع ذلك فإن فعل هذه العوامل في الكريتاس ، لم يكن إلا مجرد المقدمة أو البداية في خلق وتكوين الأخدود أو الأخاديد . ويفهم ذلك على اعتبار أن في الأخدود مايوحي باستمرار فعل هذه العوامل الباطنية وتأثيرها على تحديد صورته ، في أثناء عصور من الزمن الجيولوجي الثالث والزمن الجيولوجي الرابع .

ويعني ذلك أن الأخدود لم يتكون في دفعة واحدة أو في أثناء عصر جيولوجي واحد ، وأنه قد استغرق من غير شك أكثر من عصر جيولوجي واحد ، بل وأكثر من زمن جيولوجي . وهناك من الأدلة التي تعبر عن استمرار ذلك التأثير إلى الزمن الجيولوجي الرابع ، ونذكر في هذا لمجال أن حافة أيردير قرب نيروبي وحافة الهضبة الحبشية الشرقية ، كلاهما قد تأثر من غير شك بالحرات الباطنية ، التي أدت إلى ارتفاعها في عصر البلايستوسين الأوسط .

ولي ثمة شك في أن هذه العوامل الباطنية التي تمخضت عن حصيلة من الأحداث الهامة ، قد امتد تأثيرها ونشاطها إلى حد التأثير على قطاعات من الحيز ، الذي يتضمن الجريان المائي على سطح الهضبة الاستوائية . ويمكن للباحث على ضوء متابعة هذه الحركات ومدى انتشارها ، أن يتعرف على التاريخ الجيولوجي الطويل ، لجريان الأنهار والمسطحات المائية للبحيرات والاتصال فيما بينها .

ويهمنا في هذا المجال بالذات متابعة تلك الأحداث منذ حوالي أواخر عصر البلايستوسين من الزمن الجيولوجي الثالث ، لكي نتبين تأثيرها على قصة الجريان النيلي في هضبة البحيرات . ويقتضي الأمر – على كل حال – متابعة الدراسة بالنسبة لكل مجرى من المجاري النهرية ، التي يتألف منها الجريان النيلي وتمثل في جملتها الوصلات التي تربط بين البحيرات ، التي يتضمنها النظام النيلي في الهضبة . وهذه المجاري هي نهر كاجيرا رافد بحيرة فكتوريا ، ونهر سمليكي الذي يصل بين بحيرة ادوارد وألبرت ، ونيل فكتوريا فيما بين فكتوريا وألبرت ، ثم نيل ألبرت .

ويمكن للباحث أن يدرك على ضوء دراسات وايلاند Wayland في حوض نهر كاجيرا رافد بحيرة فكتوريا الأعظم ، أن جزء من مجرى هذا النهر على الأقل كان موجودا في حوالي عصر البلايستوسين الأسفل . ويفهم ذلك على اعتبار أنه عثر على رواسب هذا العصر ، وقد تضمنت آلات عن حضارة العصر الحجري القديم الأسفل . وهي الحضارة الكافوية ، وقد استدل من هذه الدراسة أيضا على زيادة المطر في ذلك الوقت ، وأنه سجل قمة عالية هي التي تعرف باسم دور كاجيري .

هذا والتثبت من وجود جريان الماء في جزء أو قطاع من نهر كاجيرا في عصر البلايستوسين الأسفل ، يعني من غير شك وجود بحيرة فكتوريا وحوضها المنحوت منذ أواخر البلايوسين على القل ، كما أن الدراسة التي تحاول أن تحلل معنى الانحناء الواضح في مجرى النهر . أو أن تفسر التباين الشديد الذي يتمثل في التناقض بين أجزاء قوية وأجزاء حديثة من المجرى ، نتبين منها أن هناك احتمال كبير في حدوث الأسر النهري . ويعني ذلك أنه ربما كان الأسر النهري ، هو الذي تمخض عن الترابط بين أجزاء انتهت إلى صورة نهر كاجيرا .

كما يمكن أن نتصور بعض الاضطرابات الناجمة عن فعل الحركات الباطنية مسئولة من هذا الاتصال ، أو تقدم الأسر النهري تقدما خلق الترابط وخلق الصورة التي تتضمن الجريان النهري في ذلك الرافد . ونحن على كل حال نملك الدليل على تعرض ساحل فكتوريا الغربي جنوب مصب كاجيرا ، لتأثير مباشر للحركات الباطنية ، يتمثل في خط واضح للتصدع المحلي والانكسار . وقد نتصور هذه الحركات التي تمخضت عن ذلك الخط الواضح من خطوط الانكسار ، وقد أثرت في صورة من الصور على خلق نفس الكاميرا ، وتنشيط ظاهرة الأسر النهري . كما قد نتصور أيضا تدهور المناسيب في بحيرة فكتوريا في فترة الجفاف في البلايستوسين الأوسط وبحر البلايستوسين الأعلى .

ويمكن أن نتبين في مجرى نهر سمليكي أيضا ما يعبر عن حدوث ظاهرة الأسر النهري ، التي أدت إلى الترابط والاتصال ، بين بحيرة ادوارد وبحيرة ألبرت ، واكتمال صورة النظام العام الذي يتضمن الجريان النيلي في قاع الأخدود الغربي . والمفهوم أن هذا الأسر النهري تفصح عنه دراسة المجرى الأوسط الذي يتضمن المدافع ، وتزداد فيه درجة الانحدار زيادة ملحوظة ، في الوقت الذي نتبين ملامح النهر القديم من المجرى الواسع والانحدار الهادئ المنتظم الرتيب في النظامين اللذين يتمثل فيهما مجرى نهر سمليكي الأعلى والأدنى .

ويمكن القول أن الصورة العتيقة كانت مختلفة اختلافا واضحا عن الصورة التالية لتقدم الأسر النهري ، والاتصال بين النهرين الصغيرين . وما من شك في أن هذه الصورة العتيقة كانت تضمن نهرا صغيرا يمثل رافدا لبحيرة ادوارد وينساب في اتجاه عكسي للاتجاه ، الذي يجري فيه المجرى الأعلى النهر سمليكي في الصورة الحالية . كما كانت الصورة تتضمن رافدا لحبيرة ألبرت ، ينساب في نفس الحيز الذي يتضمن المجرى الأدنى لنهر سمليكي .

ويعني ذلك أن قطاع الأرض الذي يتمثل فيه المجرى الأوسط ، كان يمثل أيضا مرتفعة نسبيا يمر بها خط تقسيم المياه بين هذين النهرين ، الذي يجريان في اتجاهين متناقضين . ويمكن القول أن الرافد أو المجرى النهري ، الذي كانت مياهه تنساب في اتجاه بحيرة ألبرت ، كان أكثر سرعة وأكثر نشاطا في النحت والتقدم به في اتجاه الجنوب صوب المنبع ، لأن بحيرة ألبرت تقع على مسنوب يقل كثيرا عن منسوب بحيرة ادوارد .

ويعني ذلك مرة أخرى أن الاحتمال الكبير في أن يكون النحت التراجعي ، هو الذي حقق الأسر النهري والترابط بين الجريان في هذين الرافدين ، وضم ادوارد وحوضها وروافدها إلى حوض بحيرة ألبرت . وقد يتضمن الاحتمال من ناحية أخرى افتراض أثر ترتيب على حدوث بعض اضطرابات الأرض في قاع الأخدود ، كان من شأنه تنشيط النحت التراجعي ، وحدوث الأسر النهري . كما نتصور تدهور المناسيب في بحيرة ألبرت ، وتأثر الجريان وسرعة تدفق الماء ، نتيجة للتغير الناشئ عند مستوى القاعدة ، عاملا من شأنه أن يفسر أيضا نشاط النحت التراجعي وتقدم الأسر النهري . وإذا كانت الدراسة البيولوجية قد أوضحت حدوث اتصال فيمكن للباحث أن يتصور انخفاض المناسيب في فترة الجفاف في حوالي البلايستوسين الأوسط كان حقيقة ، وأن افتراض سرعة الجريان ونشاط النحت التراجعي الذي أدى إلى الأسر النهري افتراض معقول .

وسواء كان الأسر النهري قد أثر فيه تغير المناسيب في بحيرة ألبرت وزيادة محاولات النحت التراجعي ، أو كان فيه تأثر بفعل ونشاط بعض الاضطرابات الباطنية التي يعتبر حدوثها متناسقا من حيث التاريخ الذي حدثت فيه مع الاضطرابات المتناظرة في بعض مساحات من الهضبة ، فإن جريان نهر سمليكي والصورة المكتملة الحديثة للنظام النيلي في هذا القطاع قد تاثرت فيما بين أواخر البلايستوسين الأوسط وأوائل البلايستوسين الأعلى .

ننتقل بعد ذلك إلى متابعة الدراسة في مجرى نيل فكتوريا الذي يمثل مجرى من أهم المجاري النهرية ، التي أسهمت في الاتصال بين مجموعة بحيرات فكتوريا وكيوجا وألبرت ، وأدت إلى اكتمال صورة الجرين النيلي في هضبة البحيرات . ولعل أهم ما يلفت النظر في مجال دراسة هذا المجرى النهري ، هو صورة الحيز الذي يتضمن الجريان المائي عند الفم الخارج ، من بحيرة فكتوريا المعروف بفتحة ريبون ، وصورة الحيز الذي يتضمنه الجريان المائي في القطاع ، الذي يمتد فيما بين جنادل كروما ومساقط مرتشون قبيل الدخول ، أو الوصول إلى مستوى القاعدة في بحيرة ألبرت . كما يلفت النظر أيضا شكل الحيز الذي يتضمنه الجريان المائي فيما بين فكتوريا وألبرت والزوايا التي يصنعها ويتغير عندها اتجاه النهر تغييرا أساسيا ، وخاصة في القطاع القائم فيما بين بحيرة كيوجا وبحيرة ألبرت .

ويعني ذلك أن نيل فكتوريا تتجلى فيه مشكلتان هامتان جديرتان بالدراسة . ويمكن القول أن هذه الدراسة من شأنها أن تتكشف عن تفسير كل مشكلة منها ، وأن يؤدي كل تفسير منها إلى إلقاء الأضواء على تطور المجرى ، والظروف التي تضافرت على خلقه ، في الصورة التي تتبينها في الوقت الحاضر من ناحية ، وعلى تحديد التاريخ الجيولوجي المناسب لاكتمال هذه الصورة وتحقيق الاتصال بين بحيرتي فكتوريا وألبرت من ناحية أخرى .

ونذكر في مجال الحديث عن المشكلة الأولى التي تتطلب تفسيرا يصور العوامل أو الظروف ، التي أدت إلى خلق وتكوين شلالات ريبون وشلالات مرتشزون ، أن وجودهما عند بداية المجرى النهري وقرب نهايته ، يعبر عن أن القطاع من المجرى الذي يتضمنه كل منهما حديث ، بل لعلنا نتصور جريان نيل فكتوريا في الصورة التي هو علهيا الآن كان تاليا لحدوث كل منهما ، وأحدث منهما من حيث التاريخ الجيولوجي . ويعني ذلك أن جريان نيل فكتوريا لابد أن يكون تاليا للعامل او العوامل التي تمخضت بالنسبة للقطاع الأعلى من فتحة ريبون ، التي تدفق منها الماء من فكتوريا صوب الشمال ، والتي تمخضت بالنسبة للقطاع الأدنى عن شق الطريق وخلق الاتصال الكامل مع بحيرة ألبرت .

وليس من الضورري أن نتصور حدوث كل منهما في وقت واحد ، أو نتيجة لفعل عامل معين مشترك ، لأن هناك فروقات كبيرة يمكن أن يتلمسها الباحث بالنسبة للظروف المحيطة بكل منهما . والمفهوم أن شلالات ريبون التي يتضمنها حيز المجرى بمجرد خروجه فكتوريا تقع على سطح الهضبة ذاتها الذي قلنا أنه يبدو رتيبا مستويا . ويعني ذلك أن فتحة وشلالات ريبون قد حدثت في السطح الذي ربما لم يكن يتضمن فاصلا تضاريسيا كبيرا أو خطيرا في مجال الفصل بين السطح المائي لبحيرة فكتوريا والمسطح المائي لبحيرة كيوجا . ولعلنا أدركنا من قبل أن ارتفاع المناسيب في هاتين البحيرتين في بعض أدوار المطر العالي ، كان يحقق الاتصال والترابط بينهما دون حاجة إلى جريان أو اتصال عن طريق مجرى نهري محدد . أما شلالات مرتشزون التي يتضمنها حيز المجرى على هامش من أرض الهضبة ، الذي يمثل حافة للأخدود الغربي ، فإنها تكونت ووجدت في طروف مختلفة تماما . وأنه لك يتم الجريان وينشأ الحيز الذي يتضمن الشلالات ، لابد أن نتصور الصدع او الانكسار مؤديا إلى ذلك .

ويمكن القول على كل حال ، أن حدوث الفتحة التي انسابت منها المياه فوق شلالات ريبون من بحيرة فكتوريا ، كان نتيجة عامل من عاملين مختلفين ، ويفهم ذلك على اعتبار أن حركة باطنية قد أدت إلى تصدع أو تشقق أو أن التعرية الخلفية أو ماتعبر عنها بالنحت التراجعي ، في مجرى نهر قديم من نيل فكتوريا ، هو الذي أحدث الثغرة وحقق الفرصة لتدفق الماء . وما من شك في أننا لا نستطيع الجزم برأي قاطع في ترجيح عامل من هذين العاملين ، ومع ذلك فنحن ندرك أن احتمال حدوث التصدع كبير ، لأن هضاب شرق أفريقيا كانت معرضة لهذا النشاط منذ حوالي الزمن الجيولوجي الثاني .

كما ينبغي أن ندرك أن احتمال التكامل بين فعل العامل الأول مع فعل العامل الآخر في مجال خلق هذه الفتحة غير مستبعد . أما من حيث تحديد التاريخ المعين لحدوث هذه الفتحة التي تدفقت منها المياه ، فليس في مقدورنا القطع فيه برأي أيضا . ومع ذلك فيغلب عن الظن أنه قد تمخضت عنها الأ؛داث في الفترة المحصورة بين نهاية عصر البلايوسين ، الذي كانت بحيرة فكتوريا في أثنائه مقلقة ، وبين أوائل البلايستوسين الأعلى الذي تم فيه الاتصال بين فكتوريا وألبرت ، عن طريق مجرى نيل فكتوريا المكتمل الصورة .

أما قطاع المجرى من نيل فكتوريا الذي يتضمن الجزء الوعر الحديث من حيث العمر الجيولوجي ، فإنه من غير شك أكثر أهمية من حيث الدلالة ، ومن حيث النتائج ، التي تفصح عن جانب خطير من جوانب القصة ، التي تحكي تطور الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية ، ويفهم ذلك على ضوء من العلم بأنها من غير شك قد ترتبت على فعل الحركات الباطنية ، التي أدت إلى مرحلة من مراحل الاضطرابات في الهضبة الاستوائية ، وفي هضاب شرق أفريقية .

ويعني ذلك أنها تعبر عن حدوث التصدع أو الانكسار الذي تجلى واضحا عند الحافة التي تشرف بها الهضبة على الأخدود . وإذا أخذنا في الاعتبار حصيلة الدراسات التي قام بها بعض الباحثين عن حركات القشرة والاضطراب التي ترتب عليها ، في هضاب شرق أفريقية ، كان من الجائز أن نتصور هذا التصدع ، جزءا من حركات الاضطراب والتصدعات الكبرى التي حدثت في حوالي البلايستوسين الأوسط وأوائل البلايستوسين الأعلى . ويتناسق هذا التحديد من ناحية ، مع رأي وايلاند الذي قرر حدوث هذا التصدع في حوالي فجر البلايستوسين الأعلى . وهذا التقدير على كل حال مهم لأنه يضع في اعتبارنا حقيقة هامة بشأن حدوث الاتصال ، وتدفق الجريان عن طريق نيل فكتوريا من بحيرة فكتوريا إلى بحيرة ألبرت .

أما بالنسبة لشكل المجرى وتغير الاتجاهات الواضح للجريان ، فيما بين بحيرة كيوجا وبحيرة ألبرت ، فإنه ربما كانت أيضها نتيجة لانتشار بعض التشققات والتصدعات المحلية ، على محاور غير متناسقة ، ويعني أنها قد ألزمت الجريان أن يتأثر ، وأن يغير اتجاهه على محاوز التشققات . ومهما يكن من أمر فإن جريان نيل فكتوريا وحدوث الاتصال عن طريقه بين فكتوريا وبين ألبرت ، قد حدث في وقت لاحق للعصر ، الذي تكونت فيه شلالات مرتشزون . ويعني ذلك أنه قد حقق الاتصال في جداول فجر البلايستوسين الأعلى ، وأدى إلى اكتمال صورة أخرى من الصور ، التي يتألف منها الجريان النيلي في هضبة البحيرات .

ولكي تكتمل قصة الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية ، يستلزم الأمر معالجة الجريان النيلي الذي يتمثل في مجريين يشتركان في انصراف الإيراد النيلي منها . وهذان المجريان هما ، نيل ألبرت الذي يمثل البداية التي يتدفق عن طريقها الإيراد المائي من بحيرة ألبرت صوب الشمال ، ونهر أسوا الرافد النهري الذي يصرف الإيراد المائي من حوض كبير يتضمن مساحات في شمال الهضبة الاستوائية ، اليت لاتدخل ضمن حوض من الأحواض التي يتألف منها النظام النيلي الاستوائي .

ولعل من الضروري أن نمارس الدراسة بالأسلوب المؤدي إلى المقارنة بين كل منهما ، على اعتبار أنهما يمثلان المصرف الطبيعي ، الذي تنصرف عن طريقهما المياه من الهضبة الاستوائية ، أو على اعتبار أنهما معا يسهما في تجميع الإيراد الدائم الذي يغذي الجريان النيلي في بحر الجبل . ويمكن القول أن هذه المقارنة تكون مفيدة في مجال تحديد التاريخ أو التواريخ المناسبة لجريان الماء في كل منهما مرة ، وفي مجال تصوير أهمية كل منهما في قصة الجريان النيلي ، وانصراف الإيراد من الهضبة الاستوائية إلى منخفض حوض الغزال مرة أخرى .

ولعل أهم مايلفت الانتباه هو مجرى نيل ألبرت ، الذي يتضمن الجريان الدائم المنصرف من بحيرة ألبرت . ويكون هذا الاهتمام منبثا من علمنا بأن هذا المجرى يحظى بمعظم الجريان المتدفق من الهضبة الاستوائية ، على حين أن حظ أسوا ضئيل وهزيل بالقياس إلى حجم الإيراد الكلي المنصرف إلى بحر الجبل . وصورة الحيز الذي يتضمن الجريان في نيل البرت تتمثل في شطرين متباينين من حيث الصورة والشكل العام والاتساع ، ومن حيث الطول وكل السمات الأساسية التي تكسب النهر صفاته . والمفهوم أن الشطر الأول وهو الأكثر طولا ، يبدو في صورة الذرباع المنتشرة على محور عام ، ياظر المحور العام الذي تنتشر عليه البحيرة ذاتها .

ويكون المجرى في هذا الذراع واسعا عريضا ، كما يكون انحدار الماء الجاري فيه هادئا متهادية علىق اع الأخدود . أما الشطر الآخر من نيل ألبرت فهو الذي يتضمن المجرى الضيق . والذي تتمثل فيه الجنادل والشلالات ، وتعبر عن حداثة الجريان في هذا القطاع . وما من شك في أن هذا الشطر أو القطاع الأخير من نيل ألبرت هو الذي يلفت النظر ويقتضي الدراسة .

ويفهم ذلك على اعتبار أن التاريخ الذي يمكن أن نصل إلى تقديره لحدوث تلك الشلالات والجنادل . وهو الذي يمكن أن يعبر من ناحية أخرى ، عن تاريخ تدفق الجريان من بحيرة ألبرت والهضبة الاستوائية . وعن ظهور الصورة العامة التي يتمثل فيها الجريان النيلي الحالي . وتتكشف الدراسة في هذا القطاع الذي تبدو فيه كل صفات المجرى الحديث من حيث النشأة ، عن حقيقة هامة ، وهي أن حيز المجرى قد تمخضت عنه الحركات الباطنية التي أدت إلى التصدع والانكسار . ويرى ويلاند أن التاريخ المناسب الذي يمكن أن نقدره لهذه الحركات الباطنية . وحدوث التصدع حديث لايرجع إلى أبعد من البلايستوسين الأوسط على أقدم تقدير ، أو فجر البلايستوسين الأعلى على أحدث تقدير .

ويعني ذلك أن هذه الحركات الباطنية يمكن أن تعتبر امتدادا للحركات الباطنية ، التي تمثلت نتيجتها في خلق المجرى النيلي لنيل فكتوريا ، فيما بين جنادل كروما وشلالات مرتشزون . بل لعلنا نستطيع أن نربط ربطا وثيقا بين النشاط وحالة الاضطراب في هضاب شرق أفريقية والهضبة الحبشية ، وتلك الاضطرابات التي أثرت على قطاعات ومساحات من الهضبة الاستوائية . وقد أسهمت من غير شك في اكتمال الصورة العامة للجريان النيلي .

وهكذا يتبين للباحث أن القطاع أو الشطر الأخير من نيل ألبرت ، لم ينشأ نشأة المجرى العادي ، وأن شأنه في ذلك شأن القطاع الأخير من نيل فكتوريا . ويعني ذلك أنه لولا التصدع الذي شق الحيز الذي يضمن الجراين المائي ، لما كان من الممكن أن تكتمل صورة الجريان النهري النيلي في مجرى من هذين المجريين الهامين .

أما نهر أسوا الذي قلنا أنه يمثل رافدا من الروافد الهامة ، التي تتصل أو تقترن بالنيل شمال نيبولي مباشرة ، وأنه يصرف حوضا كبيرا من مجموعة الأحواض التي تتجمع على سطح الهضبة الاستوائية . ويقع شمال حوض كيوجا ونيل فكتوريا ، ونرى فيه نموذجا من نماذج الجريان النهري ، التي تنفرد بصفات خاصة ليس لها نظير بين سائر المجاري النهرية النيلية ، في هذه الهضبة .

ويتميز نهر أسوا من حيث المظهر العام بصفات النهر العادي الذي نشأ نشأة طبيعية ، والذي تنطبق عليه سمات وقواعد الجريان على الأنهار العادية . ولعل أهم ما يلفت نظر الباحث أن الاتجاه العام للمجرى الأدنى لنهر أسوا ، ينار الاتجاه العام للمجرى الرئيسي ، الذي يتضمن الجريان النيلي فيما بين نيبولي وغندكرو . ويعني ذلك أنهما يتابعان الجريان على محور عام ، بحيث يظهر المجرى النهري الذي يتضمنه الخانق الناشئ ، بعد التصدع فيحوالي البلايستوسين الأوسط ، وكأنه استمرارا للجريان النهري في مجرى نهر أسوا .

وقد يتصور الباحث الجريان في مجرى نهر أسوا مسئولا عن ذلك الاتجاه العام ، لهذا القطاع فيما بين نيمولي وغندكرو . ولكن مثل هذا التصور يتطلب من الباحث أن يتصور أن الجريان في نهر أسوا كان سابقا من حث التاريخ الجيولوجي للجريان والتدفق من بحيرة ألبرت ، وأن يكون أسوا في الصور العتيقة السابقة لانتظام الجريان النيلي المجرى الوحيد ، الذي يصرف شطرا من المساحات التي تتضمنها الهضبة الاستوائية في اتجاه الشمال إلى منخفض حوض الغزال .

ونحن على كل حال لانكاد نملك الدليل على دعم ذلك الافتراض ، ومع ذلك فإنه مما لاشك فيه أن نهر أسوا أقدم من حيث تاريخ الجريان ، من نيل ألبرت ، الذي كان تدفق الجريان فيه صوب الشمال تاليا للتصدع الذي ، كون أو شق الخانق ، فميا بين نيمولي وغندكرو ، هذا بالإضافة إلى علمنا بأن الحيز الذي يتضمن جريان أسوا في مجراه الأدنى لم يتأثر ، أو لم يخضع لتأثير معين مرتبط أو مترتب على الحركات الباطنية والاضطرابات ، التي تمخضت عن التصدع الذي أطلق الجريان النيلي ، من بحيرة ألبرت إلى نيل ألبرت صوب الشمال .

ومهما يكن من أمر فإن صورة الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية واكتمال تلك الصورة كان نتيجة مباشرة لجريان بعض المجاري النهرية التي أدت إلى الاتصال والترابط بين مجموعة الأحواض المنتشرة على سطحها ، وما من شك في أن هذا الجريان قد تمخضت عنه الحركات الباطنية والاضطرابات ، التي حققت التصدع والانكسار في أكثر من موضع . وحددت الحيز والمحاور والاتجاهات . ويستلزم الأمر على ضوء ذلك الفهم ، التعرف على تلك الحركات الباطنية والتاريخ لها ، على اعتبار أنها وسيلة يمكن الاعتماد عليها في تحديد التاريخ المناسب لكل مرحلة من مراحل التطور ، التي انتهت بالصورة الحالية للجريان النيلي من هضبة الحيرات النيلية .

وإذا كنا قد أشرنا في مواضع سابقة إلى أن الحركات الباطنية التي أثرت على أجزاء ومساحات من هذه الهضبة ، تعتبر امتدادا واستمرارا للحركات الباطنية في هضاب شرق أفريقية ، فإن الدراسة التي تستهدف التاريخ لها تتطلب عدم التقيد بحدود حوض النيل في الهضبة الاستوائية ، وتوسيع قاعدة البحث توسيعا أفقيا .

ولعل من المفيد في هذا المجال أن نتوسع في اتجاه هضاب شرق أفريقية ومنطقة الأخدود الأفريقي العظيم ، لأنها تضم المساحات والمواضع ، الت يمكن أن نتبين فيها الأحداث والتغيرات التي ترتبت على فعل ونشاط الحركات الباطنية ، كما أنها تمنحنا الفرصة لأن نجدد ملامح الذبذبات المناخية ، التي كان لها من غير شك تأثير على مناسيب سطح البحيارت وحجم الجريان والتدفق المائي .

قد حظيت منطقة الأخدود الأفريقي العظيم في هضاب شرق أفريقية بدراسات أصيلة ، واهتمام متواصل ، من جانب بعض الباحثين . وما من شك في أن هذه البحيرات قد انتهت إلى نتائج عامة وأصيلة ، ومع ذلك فإن أبحاث اريك نلسن Erik Nilsson السويدي في الأربعينات من هذا القرن ، قد سجلت قمة هائلة في مجال التاريخ للحركات الباطنية ، والربط بينها وبين الذبذبات المناخية في عصر البلايستوسين .

والمفهوم أن نلسن درس قطاعات هامة من الأخدود الإفريقي العظيم . وقد تبين له من دراسة القطاع الذي يقع إلى الشرق من بحيرة فكتوريا والهضبة الاستوائية النيلية ، أن قاع الأخدود يتضمن مجموعة من البحيرات ، هي بحيرة نطرون ونفاشا والمنتينا وناكورو ، وتبين له أيضا أن آخر هذه البحيرات القديمة هي البحيرة التي عرفت باسم بحيرة كماسيا Kamasia فقام بدراسة شاملة للحوض الكبير الذي تصوره شاملا للمساحات ، التي كانت تغطيها هذه البحيرة ويبدو محصورا بين مرتفعات ايرداير ومرتفعات ماو .

وتمخضت هذه الدراسة عن العثور علىس ت مجموعات من الشواطئ القديمة ، التي يصل ارتفاعها إلى حوالي 2050 مترا فوق منسوب سطح البحر ، أو يما يزيد بحوالي 300 مترا فوق منسوب سطح البحيرات الصغيرة المتخلفة على قاع حوض بحيرة كماسيا . وكان ذلك في نظره سببا في دعم فكرة تأثر شرق أفريقية بأدوار المطر . والذبذبات المناخية في العصر المطير .

وقد أدرك نلسن أن بحيرة كماسيا القديمة قد تأثر سطح الماء فيها بذبذبات المطر . وما طرأ عليه من تغير من عصر إلى عصر . كما أدرك على ضوء الدراسات التي تناولت الرواسب التي تخلفت عنها تأثرها باضطرابات القشرة الأرضية وفعل الحركات الباطنية ونتائجها المباشرة وغير المباشرة . وذلك أنه عثر ضمن رواسبها على الرماد البركاني الذي يعبر عن معنى من معاني ذلك الاضطراب ، قبيل حلول الفترة التي تناقص فيها المطر وحل الجفاف ، وأدى إلى تقلص مساحتها ثم اندثارها في حوالي البلايستوسين الأوسط .

وتمكن نلسن على ضوء هذه الدراسات أن يصل إلى جملة نتائج هامة تصور الأحداث والظروف ليس في قاع الأخدود فحسب ، بل لعلها تلقي الأضواء على الأحداث في الهضبة الاستوائية وحوض النيل بصفة عامة .

وقد أرجع نلسن تكوينات بحيرة كماسيا القديمة وجزء كبير من تكوينات أولدواي Oldoway ، التي يبلغ سمكها حوالي عشرة أمتار إلى العصر المطير الأول ، الذي تمثل في أواخر عصر البلايوسين وعصر البلايستوسين الأسفل . كما تبين له من دراسة هذه التكوينات ، أن ثمة رماد بركاني يتخللها . ويعبر وجود هذ الرماد البكراني عن احتمالات حدوث الحركات الباطنية ، والاضطرابات العنيفة في أثناء تراكم هذه التكوينات وإرسابها ، ويمكن القول أن هذه الاضطرابات كانت مقدمة للحركات والاضطرابات الأشد عنفا والأعم أثرا في الفترة التالية للدور المطير الأول بقيمته الأولى (كاجيري) والثانية (كماسي) .

ويعني ذلك أن فترة الجفاف كانت من الفترات التي تعرضت فيها هضاب شرق أفريقية ، والأرض على جوانب الأخدود الإفريقي العظيم . للحركات الباطنية . وما من شك في أن هذه الحركات الباطنة البطيئة والمفاجئة ، قد تمخضت عن نتائج هامة ، تتمثل في رفع قطاعات من حافات الأخدود والأرض على جانبيه ، في حوالي عصر البلايستوسين الأوسط . ويبدو أن هذه الحركات الباطنية والاضطرابات التي تمخضت عن التصدعات في جملة من المواقع يسرت انسياب وتدفق الجريان من بحيرة فكتوريا إلى ألبرت ، وانسياب أو تدفق المياه من البرت إلى الشمال في اتجاه منخفض حوض الغزال .

وإذا كان نلسن قد تبين له في شرق أفريقية ما عبرنا به عن الارتباط بينه وبين الأحداث في الهضبة الاستوائية ، وبداية الجريان النيلي ، فإنه قد تبين أيضا ما يعبر عن عودة المطر الغزير في العصر المطير الثاني الذي عرف باسم دور جميليان في حوالي عصر البلايستوسين الأعلى . وربما كان ذلك مدعاة لأن نتصور زيادة المطر في هذا الدور سببا ، في زيادة التدفق والجريان في المجاري النيلية ، التي اكتملت بها صورة الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية .

ومهما يكن من أمر فإنه يمكن للباحث على ضوء فهم متكامل لكل الأمور ، سواء ما يتعلق منها بدراسة الأحياء المائية ودلالتها ، أو مايتعلق منها بدراسة المجاري النهرية والبحيرات على سطح الهضبة الاستوائية . وفي حدود حوض النيل أو خارجه عن وجهة النظر الجيولوجية ، أن يصور القصة التي تعرض تطور الجريان النيلي عرضا موجزا في أثناء عدد من المراحل .

والمفهوم أن البداية المبكرة لهذه المراحل المتوالية التي تعبر عن التطورات التي انتهت إلى الصورة التي يتمثل فيها الجريان النيلي في الهضبة الاستوائية ، قد تمثلت في حوالي النصف الأخير من الزمن الجيولوجي الثالث على أقدم تقدير . ويكون ذلك على اعتبار أننا لانكاد نملك الوسيلة على أن نتعرف على أي تفاصيل محدودة تتضمنها الصورة فميا قبل عصر البلايوسين .

ومع ذلك فمن الجائز أن تكون الأحواض والمنخفضات ، التي تتضمن بعض البحيرات على سطح الهضبة وفي قاع الأخدود ، قد اكتمل تحتها أو هبوط قيعانها في حوالي عصر اليوسين . وهذا الافتراض الذي هو من قبيل التصور ليس عليه دليل مادي مقبول ، اللهم إلا علمنا بأن هذه الأحواض قد نشأت فيها مجموعة من البحيرات ، وتجمعت فيها المياه في عصر البلايوسين ، آخر عصور الزمن الجيولوجي الثالث .

وتقتصر معرفتنا أو فكرتنا عن الصورة العنيفة ، التي تتضمن مجموعة البحيرات المنتشرة على سطح هذه الهضاب ، وفي قاع الأخدود الغربي والشرقي ، على معلومات هزيلة ، لأننا لانعرف عنها أكثر من أن ثمة تشابه كان يتمثل في أنواع الأسماك التي تعيش فيها ، وفي غيرها من مساحات مائية أخرى ، متناثرة في قلب القارة الأفريقية . وقد يعني ذلك التشابه احتمال صلة في صورة من الصور بين تلك البحيرات والأحواض التي تتضمنها . ومع ذلك فإن الإلمام بهذه الصلة أو عدم التعرف عليها أو على تفاصيل الصورة العامة لايغني فتيلا ، لأن النظام النيلي والمراحل التي اكتملت بها الصورة العامة للجريان النيلي ، قد بدأت بدايتها الفعلية في عصر جيولوجي لاحق .

وهكذا يمكن للباحث أن يصور البداية الفعلية ، التي تضمنت أول مرحلة من مراحل قصة الجريان النيلي ، في الفترة التي تستغرق من حوالي أواخر عصر البلايوسين إلى عصر البلايستوسين الأدنى . وما من شك في أنه قد تجمعت لدينا أطراف من الأدلة والبيانات التي تعبر عن الصورة في هذه المرحلة في الفترة التي تعادل الدور المطير الأول بقيمته العاليتين ، ونحن نستطيع أن نجزم بأن زيادة المطر في هذه المرحلة المبكرة قد أثرت تأثيرا واضحا على مساحات المسطحات المائية ومناسيب الماء فيها . وربما كانت الحدود التي تحدد أحواضها وتقسم المياه فيماب ينها ، لم تكن واضحة أو مرتفعة .

ويعني ذلك أننا لانستطيع أن نضمن الصورة التي تمثلت في هذه المرحلة مجرى من المجاري النهرية ، ولا أن نجزم برأي قاطع في احتمال الجريان النهري ، لأن أجزاء وقطاعات منها لم تكن قد خلقت خلقا واضحا . ومع ذلك ، فإنه يمكن أن نتصور نهر أسوا في الصورة العنيفة ، على اعتبار أنه المجرى النهري الوحيد ، الذي كان يسهم في صرف الفائض من الحوض الذي يتضمن شمال الهضبة الاستوائية ، في اتجاه عام صوب الشمال إلى منخفض حوض الغزال ، ويعني ذلك أنه إذا كانت زيادة المطر في هذا العصر ، أو الدور ، قد أدت إلى الاتصال أو احتمال الاتصال بين المسطحات المائية للبحيرات على سطح الهضبة ، فإنه ليس في مقدورنا أن نتصور المجاري النهرية ، المسئولة عن تحقيق ذلك الاتصال في أثناء الفترة أو المرحلة اولى ، من أواخر البلايوسين إلى البلايستوسين الأدنى .

ويجب علينا على كل حال أن نشير في مجال حديثنا عن الصورة في المرحلة الثانية ، أن النظام النهري والجريان السطحي العام ، لم تكن له الصورة المعينة الواضحة أو المحددة . ولعل من الجائز أن تكون بعض المجاري ، كانت تمر بمرحلة من المراحل المبكرة أو بدور من أدوار التمهيد العام للجريان . ومع ذلك فإن هذا التمهيد لم يكن له أثر معلوم محدد بالنسبة للجريان النيلي ، والترابط بين مجموعة البحيرات التي اتصلت به في أثناء هذه المرحلة الثانية وما بعدها . وما من شك في أن هذه المرحلة أو ذيلها المتأخر ، قد شهدت جملة الظروف والعوامل ، التي أسهمت في خلق أو على الأقل اكتمال خلق المجاري النهرية . ويعني ذلك أن هذه المرحلة والصورة التي نشأت فيها وتمثلت فيها تفاصيل معينة بشأن المجاري النهرية قد تضمنتها عصر البلايستوسين الأوسط أو مايعادل فترة الجفاف .

والمفهوم أن الحركات الباطنية والاضطرابات ، التي حدثت كانت جديرة بأن تصور العامل الرئيسي ، الذي أسهم في خلق وشق بعض التصدعات والتشققات والخوانق ، التي تضمنت الحيز الذي سار فيه الجريان النيلي . ولقد أشرنا إلى دور هذه الحركات الباطنية في خلق التصدعات التي أدت إلى جريان نيل فكتوريا ، وإحكام الصلة بين بحيرة فكتوريا وألبرت . كما أشرنا إلى دورها في خلق التصدعات التي أدت إلى تدفق الماء من ألبرت إلى الشمال .

وهكذا تميزت هذه الفترة بتلك الحركات التي ربما أسهمت أيضا في تنشيط النحت التراجعي في بعض المجاري ، وإتمام مراحل الأسر النهري ، الذي اكتمل به جريان نهر كاجيرا ، ونهر سمليكي ، والاتصال الكامل بين بحيرة ادوارد وألبرت . وليس من الضروري أن يكون حدوث التصدعات وشق الخوانق سببا مؤديا إلى الجريان المباشر وانسياب الماء ، لأن انخفاض مناسب الماء في البحيرات في فترة الجفاف ، ربما كان مدعاة لتأخر الجريان بعض الوقت ، أو لحدوث جريان نهري هزيل .

وهكذا يمكن القول أن الجريان الحقيقي وتدفق الماء والترابط الهيدرولوجي بين البحيرات ، قد اكتمل في المرحلة الثانية . وكانت هذه المرحلة الثالثة التي تضمنت صورة الجريان النيلي المكتمل في حوالي أواخر البلايستوسين الأوسط على أقدم تقدير ، أو بداية البلايستوسين الأعلى أحدث تقدير . وما من شك في أن زيادة المطر التي تمثلت في هذه الفترة ، واستغرقت العصر المطير الثاني ، كانت مدعاة لارتفاع مناسيب أعلى من المناسيب في الوقت الحاضر .

ويعني ذلك أن البلايستوسين الأعلى هو العصر الذي شهد الترابط الحقيقي ، والجريان المتدفق والاتصال بين البحيرات ، التي تمثل حجر الزاوية في النظام النيلي في الهضبة الاستوائية . وعندما اكتملت الصورة في هذه المرحلة كانت مياه الهضبة الاستوائية تنصرف في اتجاه الشمال ، من مجرين متباينين ، هما مجرى نهر أسوا ، ومجرى نيل ألبرت ، ولعل من الجائز أن يكون الجريان قد تأثر بزيادة المطر في العصر المطير الثاني ، المعروف باسم دور مطر جمبليان ، أو بزيادة المطر في مراحل تالية ، ولكن ذلك كله ، لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى تغيرات هامة أو أصيلة في صورة الجريان النيلي الذي شهدته هذه المرحلة .

قصة النيل في الهضبة الحبشية

ربما كان من الطبيعي أن يقتضي سياق القصة ، التي تعالج تطور الجريان النيلي الانتقال انتقالا مباشرا إلى متابعة الأحداث والدراسة في منخفض حوض الغزال وما تضمنه من مجار نهرية تحقق انتظام الجريان النهري النيلي صوب الشمال . ومع ذلك فإن المنطق المتناسق يتطلب معالجة القصة في الهضبة الحبشية أولا ، وإلقاء كل الأضواء على تطور الجريان النلي في المجاري النهرية الحبشية .

والتقديم أو التأخير ضرورة ملحة ، تفهم على اعتبار أن قصة الجريان النيلي في منخفض حوض الغزال ، وحوض النيل جنوب خط عرض الخرطوم على الأقل ، قد تأثرت في كل فصل من فصول تطورها ، بأحداث القصة في كل من الهضبة الاستوائية والهضبة الحبشية في وقت واحد . ويعني ذلك أن متابعة القصة في الهضبة الحبشية ، من شأنه أن يلقى مزيدا من الأضواء ، ويمنحنا مزيدا من القدرة على تفهم قصة الجريان ، في قطاع كبير من حوض النيل جنوب خط عرض الخرطوم .

مهما يكن من أمر ، فإن متابعة قصة الجريان على الهضبة الحبشية ، تعني معالجة الأحداث والعوامل ، التي أثرت عليه في مسرح جديد يختلف اختلافا هائلا عن المسرح الذي تضمن الجريان النيلي على الهضبة الاستوائية في قلب أفريقية . ولعل من الجائز أن نتصور هذا المسرح الجديد ، الذي يشمل قطاع كبير هائل من حوض النهر العظيم ، ويمثل هضبة مضرسة وعرة . ومع ذلك فإن الذي لاشك فيه ، هو أن هذه الهضبة في تفاصيلها وصورتها العامة تختلف اختلافا جوهريا عن صورة الهضبة ، التي تضمن القطاع من الجريان النيلي الذي عالجنا قصته وصورنا مراحل التطور التي أدت إليه على صعيد المنابع النيلية الاستوائية .

ويمكن القول أن هذا الاختلاف في جملته ليس ناشئا عن علمنا بالتباين الشديد بين سمات كل هضبة منها ، أو بين جملة العوامل التي أكسبت كل هضبة منهما صفاتها الأساسية ، ولكن الاختلاف الذي نرمي إليه ، هو الذي يتمثل في تأثير كل منهما على الجريان النيلي ، وصورة المجاري التي يتألف من جريانها النيلي .

ونذكر على سبيل المثال أن المسطحات المائية للبحيرات ليس لها وزن أو اعتبار كبير ، بالنسبة للجريان النهري العظيم ، الذي يصور مجموعة الروافد الحبشية ، التي تغذي الجريان النيلي بصفة عامة . أما في الهضبة الاستوائية فقد أدركنا أن المسطحات المائية من غير شك قطاع عام في صورة الجريان النيلي ، وأن المجاري النهرية ليست أكثر من وصلات تحقق الترابط بين البحيرات .

وهكذا يتبين للباحث الكيفية التي تختلف بها صورة كل هضبة من هاتين الهضبتين ، من حيث التأثير على صورة الجريان النيلي والأحداث التي تتضمنها القصة ومراحل التطور في كل منهما ، بل لعلنا نلاحظ أيضا أن صورة الهضبة الحبشية وطبيعتها قد أكسبت الجريان النهري النيلي ، الذي يتحقق في عدد من الروافد الهامة ، وهي البارو رافد السوباط الأعظم والنيل الأزرق والعطيرة ملامح وسمات معينة من حيث طبيعة الجريان والتدفق ، وحجم الإيراد الهائل غير المتكافئ في فصلين ، والذي يتسبب في كل فصل منهما ، في حدوث الفيضان العظيم وارتفاع المناسيب ارتفاعا عظيما .

وإذا كانت الروافد الحبشية والمجاري النهرية النيلي على الهضبة الحبشية هي حجر الزاوية في اقصة ، ومراحل التطور التي انتهت إلى صورة الجريان الحالية ، فإننا نلاحظ أن انحدار تلك الروافد وسرعة جريان الماء فيها ، قد كفل القوة والقدرة على النحت والحفر الشديد ، الذي تمخض عن عمق مجاريها في التكوينات ، التي تعلو سطح هذه الهضبة . ويمكن القول أن الحفر والنحت في تلك التكوينات يوحي بمعنى هام وأصيل ، فيما يتعلق بعمر تلك المجاري بالقياس إلى عمر تلك التكوينات . ذلك أنها تكون بالضرورة أحدث من حيث العمر الجيولوجي ، من كل طبقة من الطبقات ، التي تألف من تراكمها الارتفاع الهائل الذي ترقى إليه كتلة الهضبة الحبشية . هذا بالإضافة إلى أن انحدار بعض مجاري تلك الروافد النهرية ودوراتها دورانا كبيرا وتغير الاتجاه للجريان أكثر من مرة ، دليل حاسم على تأثرها الحقيقي بظاهرات التضاريس ، والكتل المتناثرة على سطح الهضبة . وإذا كنا على علم بأن هذا المسطح والصور التضاريسية ، التي يتضمنها قد اتخذت شكلها الحالي في عهد حديث ، لايرجع إلى أبعد من عصر البلايستوسين الأعلى والأوسط ، فإن الصورة المكتملة للجريان النهري ، بالنسبة لبعض المجاري على الأقل لا ترجع إلى أبعد عن عصر البلايستوسين الأعلى والأوسط ، فإن الصورة المكتملة للجريان النهري ، بالنسبة لبعض المجاري على الأقل لاترجع إلى تاريخ أقدم من هذا العصر .

ومهما يكن من أمر فإن دراسة قصة الجريان النيلي ، ومراحل التطور التي اكتملت في أثنائها الأنهار الروافد النيلية في الهضبة الحبشية ، تستلزم دراسة تستهدف التعرف على مدى تأثر الهضبة بالحركات الباطنية ، وكل النتائج التي تمخض عنها الاضطراب وعدم الاستقرار ، ويعني ذلك متابعة العوامل التي تضافرت نتائجها ، وأسهمت في تشكيل الهضبة وتفاصيل صورتها التضاريسية من حيث التراكم والارتفاع ، ومن حيث التصدع والاندفاع على مر العصور الجيولوجية منذ بداية الزمن الجيولوجي الثاني .

والمفهوم أن كتلة الهضبة الحبشية التي تقع على جوانب الأخدود الإفريقي العظيم ، قد تأثرت أبلغ تأثير بكل حدث من الأحداث ، التي طرأت على اللسان الممتدة على محور عام في اتجاه الشمال من جندونالاند ، أو من كتلة النواه التي تخلفت عنها بعد التمزق العظيم .

وما من شك في أن صخور هذه اللسان تمثل القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كتلة الهضبة الحبشية ، والطبقات التي تتألف منها ، ويعني ذلك أن الهضبة الحبشية ترتكز على قاعدة من الصخور القديمة البلورية ، التي تمثل شطرا أصيلا من لسان النواة المتخلفة من جندوانالاند ، وأن كافة التكوينات والطبقات ، التي تعلوها أحدث منها عمرا . وتمثل هذه التكوينات صورا من التراكم ، الذي نشأ عن نشاط معين تمخضت عن معظمه الحركات الباطنية ، التي سيطرت في بعض عصور معينة من الزمنين الجيولوجيين الثاني والثالث . وقد أشرنا إلى أن معظم المجاري النهرية التي حفرت مجاريها بقوة وعمق شديدين ، قد كشفت عن تلك الصخور القديمة ، وبأن هذه الصخور تنتشر انتشارا عاما ، بحي تبدو كقاعدة أسفل كل التكوينات الأحدث عمرا . ويظن أن هذه القاعدة المنتشرة على أوسع مدى ، قد تعرضت أو تعرض سطحها في أثناء الزمن الجيولوجي الأول لنشاط جملة من عوامل النحت والتسوية . وقد خلفت بذلك السطح مستويا غير مضرس غلى ضد كبير ، شأنه في ذلك شأن بعض السطوح المناظرة له في هضاب شرق أفريقية ، ويعلو هذا السطح الرتيب غير المضرس إلى حد كبير ثلاث طبقات رفيقة من الرواسب ، التي تم إرسابها في بعض عصور الزمن الجيولوجي الثاني ، هذا بالإضافة إلى طبقات سميكة من التراكم الناشئ عن فعل الطفوح البركانية ، في عصور تالية في الزمن الجيولوجي الثالث .

وقوام ههذ الطبقات الرقيقة الثلاث ، يتمثل في خرسان أدجرات Adigrat وكلس انتالو Antalo والخرسان النوبي ، وخراسان أدجرات الذي يمثل صورة من صور الإرساب الهوائي وقوامه من الحجر الرملي الصلب المتماسك . ويعني ذلك أنه يشبه إلى حد كبير الخرسان النوبي المشهور ، ومع ذلك فالراجح أنه يرجع من حيث العمر الجيولوجي ، إلى أوائل الزمن الجيولوجي الثاني . أما كلس انتالو فقوامه من صخور الحجر الجيري . التي أرسبت في طبقة لايزيد سمكها عن حوالي 60 مترا في المتوسط . ويوجد كلس انتالوا على وجه الخصوص في وضع يبدو فيه محصورا بين خرسان ادجرات وبين صخور البازلت . وهي تتمثل في صورة طبقات أفقية شبه متظمة في حوض النيل الأزرق . ويعبر انتشارها ووجودها عن طغيان البحر أو ذراع من المسطح المائي في عصر الجوراسي ثاني عصور الزمن الجيولوجي الثاني .

ويمكن القول أن طغيان هذه الذراع قد حدث من ناحية الشرق والجنوب في ذلك الوقت المبكر ، وأن انتشارها ليس له علاقة بالبحر الأحمر الذي لم يكن قائما ، والذي تم تكوينه في وقت متأخر في الزمن الجيولوجي الثالث . ويبدو أن طغيان هذه الذراع لم يشمل إلا أطراف من الهضبة الحبشية بدليل عدم العثور على الكلس الذي أرسب فيها في معظم مساحات شمال الهضبة وحوض نهر عطيرة بالذات . ويظهر في بعض الواقع أيضا على سطح الهضبة وفي أحواض بعض الأنهار والروافد النهرية تكوينات من الخرسان الذي يشبه الخرسان النوبي السائد في مساحات كبيرة في شمال السودان .

وتمث لطبقة الخرسان النوبي الرقيقة غير السميكة صورة من صور الإرساب الهوائي ، الذي تم في حوالي عصر الكريتاسي آخر عصور الجيولوجي الثاني . وهذه التكوينات التي تتألف من تلك الطبقات الثلاث ، والتي تعلو سطح القاعدة الأساسية من الصخور الأركية القديمة الصلبة ، تمثل في جملتها مرحلة هزيلة من مراحل الإرساب والتراكم . ويمكن القول أن هذا الإرساب قد أسهمت به وتمخضت عنه عوامل ظاهرية ، سواء تمثلت في فعل ونشاط الإرساب الهوائي ، أو في فعل ونشاط الإرساب في الماء الضحل . وهي في جملتها تبدو في صورة الفاصل الرقيق غير السميك ، بين السطح القديم غير المضرس من الصخور الأركية القديمة ، وتكوينات اللافا الغطائية التي تعلو كل السطح في الهضبة الحبشية . وقد لايظهر هذا لافاصل الرقيق بعضه أو كله ، في بعض المساحات ، بحيث تعلو تكوينات اللافا الغطائية ، سطح الصخور الاركية القديمة بشكل مباشر .

وتتمثل تكوينات اللافا الغطائية التي تفترش على كل مساحات الهضبة طفوح بركانية من صخور البازلت . ويرجع تكوينها وتراكمها إل نشاط بكراني شديد وعنيف . ويمكن القول أن هذا النشاط البركاني الذي استغرق أكثر من عصر جيولوجي . قد تمخضت عنه حالة من حالات الاضطراب وعدم الاستقرار . وما من شك في أن الحركات الباطنية قد تسببت في حدوث التصدعات والتدفقات والانكسارات في صخور الكتلة الأساسية ، بالشكل الذي أدى إلى انبثاق الطفوح البركانية .

ويبدو أن انبثاق اللافا كان غزيرا مستمرا ، لأنها غطت السطح وكأنها الطغيان . وهكذا تراكمت اللافا والطفوح البركانية ، التي باتت تتمثل في مجموعتين أساسيتين مختلفتين ، من حيث العمر الجيولوجي ، ومن حيث السمك على الأقل . وهاتان المجموعتان هما ، مجموعة طبقات أشانجي Ashangi ومجموعة طبقات مجدالا Magdala .

ويمكن للباحث - على كل حال – أن يصور النشاط البركاني العنيف الذي تمخض عن هذه الطبقات المتراكمة في انتظام رتيب على السطح ، مرتبطا أوثق الارتباط بكل حركة من الحركات والتقلبات الأرضية ، العنيفة التي عرضت جندونالاند للتمزق أو الأمر . ثم أدت مرة أخرى إلى خلق وتكوين وتأكيد ملامح الأخدود الإفريقي العظيم ، في لسان الصخور الصلبة القديمة الممتدة صوب الشمال . ويذكر بلاندفورد Blandford الذي درس هذه الطفوح البكرانية التي تراكمت على السطوح المباشرة . أن طبقات أشانجي قديمة نوعا ، لأنها ترجع في جملتها إلى الحركات الباطنية ، والنشاط البركاني المترتب عليها ، الذي حدث منذ حوالي أواخر اعلصر الكريتاسي ، آخر عصور الزمن الجيولوجي الثاني . وقد تبين له أن هذا لانشاط قد استغرق وقتا طويلا ، لكي يبلغ سمك الطبقات المتراكمة من مجموعة اشانجي رقما يتراوح بين 300 و 700 متر .

أما طبقات اللافا الغطائية التي تتضمنها تكوينات مجدالا ، فهي من غير شك تعبر عن صورة من صور النشاط البكراني الأحدث عمرا من وجهة النظر الجيولوجية ، بقدر ماتعبر عن صورة من صور الاستمرار ، في حالات الاضطراب وعدم الاستقرار . ويمكن القول أنها ترجع في جملتها غلى نشاط بكراني عنيف استغرق فترة ا:ثر طولا ، من حوالي أواخر الأيوسين إلى نهاية عصر الألوجوسين من عصور الزمن الجيولوجي الثالث . وهي على كل حال قد تمخضت عن تراكم سميك حيث يبلغ سمك هذه الطبقات حوالي 2600 متر كحد أقصى ، في بعض قطاعات من الهضبة . وليس ثمة شك في أن هذا السمك العظيم له الدلالة المادية التي تصور النشاط البكراني الضخم العنيف ، وتصور طول الفترة التي استغرقها تدفق اللافا وتراكمها على السطح .

ويمكن للباحث أن يتابع فوق كل هذه الطبقات السميكة من اللافا الغطائية التي أسهمت في رفع مناسيب سطح الهضبة ، بعض الرواسب والتكوينات الأخرى ، التي ترجع من حيث العمر الجيولوجي إلى حوالي عصر البلايستوسين . وتتمثل هذه التكوينات في رواسب وتكوينات بحيرة تتمخض عنها الأرساب في بحيرة كبيرة في إثناء حوالي عصر البلايستوسين الأدنى .

ويذكر نلسن أن هذه البحيرة التي أطلق عليها اسم بحيرة يايا كانت تتمثل على سطح الهضبة . في الموقع الذي تظهر فيه ثنية النيل الأزرق الكبيرة ، التي تدور من حو لاصورة التضاريسية الوعرة في إقليم جوجام . ويعبر وجود هذه البحيرة في أثناء عصر البلايستوسين الأدنى عن استواء السطح ، ووجود حوض بالشكل الذي أدى إلى تجمع الماء وتراكمها وخلق البحيرة . كما أن اختفاء البحيرة وماترتب على ذلك من جريان النيل الأزرق وشق المجرى ، ونحته نحتا عميقا في الرواسب ، التي تضمنها حوض هذه البحيرة يعبر من ناحية أخرى ، عن حداثة النيل الأزرق بالقياس إليها وإلى رواسبها .

وتتمثل تكوينات عصر البلايستوسين أيضا في طفوح من اللافا الحديثة ، التي يرتبط انبثاقها وكيانها وتراكمها على السطح بنشاط بركاني حديث ، يعبر عن صورة من صور عدم الاستقرار مرة أخرى ، وربما كان من الطبيعي أن نربط بين هذا لانشاط البكراني والنتائج التي تمخض عنها ، وبين حركة الرفع التي تمخضت عنها بعض الحركات الباطنية وحالات الاضطراب ، التي تمثلت في حوالي عصر البلايستوسين الأوسط على القل ، وأدت إلى ارتفاع حافة الهضبة الحبشية الشرقية ارتفاعات كبيرا ، يبلغ رقما يتراوح بين 1500 و 1800 متر . ويمكن القول أن هذا الارتفاع قد أحدث ميلا في سطحها وانحداراتها ، في اتجاه الغرب والشمال الغربي ، وأدى إلى جملة نتائج هامة وخطيرة . وأقل مايمكن أن يقال في شأن الطفوح البركانية الحديثة ، التي تمثل نتيجة غير مباشرة من هذه النتائج ، أنها أدت إلى التراكم في الوضع الذي خلق أو اعترض الحوض ، الذي تكونت فيه بحيرة تانا .

وهكذا يتضح للباحث أن الهضبة الحبشية قد أسهم في خلقها وارتفاعها واكتسابها ملامح خاصة ثلاثة عوامل متباينة ، من حيث المصدر ، ولكنها متكاملة من حيث النتائج ، ومع ذلك فإنها في جملتها وثيقة الصلة بالحركات الباطنية وحالات الاضطراب وعدم الاستقرار ، التي استغرقت فترة طويلة من حوالي عصر الكرتاسي إلى عصر البلايستوسين ، وتتمثل هذه العوامل في :

(1) ارتفاع كتلة الهضبة ذاتها تحت تأثير حركات رفع واندفاع من أسفل إلى أعلى .

(2) هبوط ماحولها تحت تأثير حركات باطنية من أعلى إلى أسفل .

(3) التراكم الناشئ عن النشاط البكراني وانبثاق اللافا والطفوح البركانية ، من مواقع التصدعات والانكسارات في كتلة الهضبة .

ويمكن القول أن الارتفاع والتراكم والشكل الوعر ، الذي تعبر عنه جملة الصور التضاريسية ، قد أثر تأثيرا بالغا على الجريان السطحي ، وعلى شكل المجاري وطبيعتها ، كما يمكن أن يتلمس الباحث من هذه الدراسة الشاملة كل ما من شأنه أن يلقي الأضواء على قصة النهر وتطور الجريان السطحي ، ومحاولة التاريخ له وربط هذا التاريخ بقصة النيل كله .

والجدير بالذكر أن نهر العطيرة ونهر السوباط لم تصل فيهما الأبحاث إلى رأي يقطع الشك باليقين ، أو إلى العمل الكفيل بتصوير قصة كل منهما ، أما مجرى النيل الأزرق فما من شك في أنه قد حظى بالدراسات والأبحاث العميقة الصيلة ، التي يمكن أن نطمئن إلى تصويرها مراحل التطور الجيولوجي للنهر والجريان المائي من المصادر الحبشية .

ونذكر في مجال الحديث عن نهر عطيرة ، الذي يقع على الأطراف الشمالية للهضبة الحبشية ، ويجري الجانب الأطول من مجراه الرئيسي فوق أرض السهل السوداني ، أنه أكثر الروافد الحبشية بعدا عن مراكز الاضطراب وعدم الاستقرار ، التي أثرت على كتلة الهضبة . وما من شك في أن جملة الأبحاث فيه لم تتمكن من أن تتبين في مجراه أدلة واضحة تعبر عن تاريخ تطوره وجريان الماء فيه ، أو أن تعبر عن مدى تأثر المجرى بتلك الاضطرابات وحالات عدم الاستقرار التي سيطرت على معظم قطاعات الهضبة الحبشية ، ومع ذلك فإنه من المسلم به بصفة عامة أن نهر العطيرة أكثر انتظاما في مجراه من بقية المجاري الحبشية الأخرى . بل لعله من حيث الصورة أقرب الروافد الحبشية شبها بالأنهر العادية ، وربما كان العطيرة من هذه الزاوية أقدم الأنهر الحبشية كلها ، من حيث الجريان ، وأقدمها اتصالا بالجراين في النيل الأعظم في النوبة ومصر .

ويرمي الاتجاه الحديث بين بعض الباحثين إلى النظر إلى نهر العطيرة على اعتبار أنه أحد المنابع الرئيسية القديمة العليا للنيل النوبي المصري ، في مرحلة من مراحل الجريان قبل أن تكتمل الصورة الحالية للنيل . ويستند هذا الرأي إلى جملة مايلاحظه الباحث في مجرى نهر عطيرة . وأدلة ونتائج ، يعبر عن احتمال جريان النهر في وقت سابق للجريان ، في بعض الروافد الحبشية الأخرى .

ولعل من بين هذه الأدلة المادية التي تمخض عنها العثور على آلات حجرية للإنسان ، ترجع إلى أوائل العصر الحجري القديم ، من بعض الوراسب والتكوينات الجانبية في وادي النهر . ولما كان تاريخ الآلات الحجرية ترجع إلى حوالي مايعادل الدور المطير الأول في أواخر البلايستوسين الأسفل ، فإن في ذلك تعبير عن وجود النهر في ذلك العصر . ويعني ذلك أننا في مقدورنا أن نتصور الجريان في هذا النهر العتيق نسبيا عن سائر الأنهار الحبشية الأخرى راجعا إلى حوالي عصر البلايستوسين على أقدم تقدير .

ويفهم ذلك التقدير على اعتبار أن روافد العطيرة العليا على أطرفا الحبشة الشمالية ، تبدو متأثرة بالكتل الجبلية المتخلفة ، عن النشاط البركاني وتراكم اللافا على السطح العام . هذا بالإضاة إلى إدراكنا لحقيقة الارتفاعات التي حددت معالم الانحدار ، والتي لايمكن أن ترجع في الغالب إلى أقدم من عصر الميوسين . وما من شك في أن هذا التجديد قد ابتنى على ضوء من العلم بالحركات الماضية التي تمخضت عن ارتفاع تلال البحر الأحمر وإبراز ملامحها الأساسية في حوالي عصر الميوسين الأعلى .

هذا ، وإذا صح هذا التقدير وتصورنا بداية القصة في مجرى نهر العطيرة قد حدثت في أثناء عصر البلايوسين ، فغن زيادة المطر في العصر البنطي ، كانت كفيلة بحدوث ذلك الجريان والعمل على نحت أو حفر الحيز الذي تضمن هذا الجريان في عطيرة .

أما نهر السوباط الذي قلنا أنه يتألف من جريان واقتران مجموعة من الروافد والمجاري النهرية ، التي ينساب أهمها وأخطرها على المنحدرات الغربية للهضبة الحبشية في اتجاه عام صوب الطرف الشمالي لمنخفض حوض الغزال ، فإن جملة الدراسات والأبحاث في مجاريه لم تسجل حصيلة من التطور الجيولوجي ، الذي أدى إلى تدفق مياهه إلى النيل . وعلى الرغم من ذلك كله فيمكن للباحث أن يلاحظ أن المجرى الأدنى للنهر الذي يتألف من تجمع واقتران الروافد من الهضبة الحبشية والروافد من الأطراف الشمالية لمنحدرات الهضبة الاستوائية حديث وغير ناضج ، من حيث التكوين بصفة عامة .

ويرى دكتور حزين أن هذه الصفات تدعو إلى الاعتقاد بأن هذا القطاع من المجرى غير الناضج لايرجع من حيث العمر الجيولوجي إلى أبعد من عصر البلايستوسين الأوسط أو البلايستوسين الأعلى . ولعل من الجائز أن نتصور هذا الاعتقاد على اعتبار أن فيه ضرب من ضورب المجازفة والتخمين . لأنه إذا ماتصورنا الجريان في المجرى الأدنى للسوباط قد تاثر بالجريان من الروافد الحبشية ، وفي مقدمتها نهر بارو . فإنه ثمة روافد أخرى ، يحتمل أن تكون قد حفرت وتدفقت فيها المياه ، في تاريخ سابق للبلايستوسين .

ويعني ذلك أنه ربما كانت هذه الروافد النهرية ، التي تنساب في جملتها على أرض القطاع الشرقي من منخفض حوض الغزال ، وتتأثر انحداراتها بصفات هذه الأرض ، وتجري جريانا هادئا بطيئا ، تمثل بقية متخلفة عن نظام نهري قديم . ومهما يكن من أمر فغن كل هذه الأمور ما زالت تفتقر إلى الأدلة المبنية على أساس من البحث والدراسة .

ويمكن القول أن حصيلة هذه الدراسات ، ومن شأنها أن تلقي الأضواء ليس على نهر السوباط وتاريخ الجريان فيه فحسب ، بل لعلها تصور مزيدا من المعرفة بنظام الجريان النهري في منخفض حوض الغزال قبل عصر البلايستوسين ، وعلاقته بنظم الجريان المائي وقصة الروافد النهرية النيلية في الأرض المحيطة ، من كافة الاتجاهات . وما من شك في أن هذا الرافد يفتقر إلى البحث الذي يضع في اعتباره تنسيق أطراف القصة . وحبكة مراحل التطور ، على ضوء من الاختلافات العظيمة بشأن الروافد والأحباس المتباينة التي يتألف منها .

وإذا ما انتقلنا إلى النيل الأزرق الذي يعتبر سيد الروافد الحبشية تتبين نموذجا هائلا من نماذج البحث والدراسة التي استهدفت الإلمام بمزيد من المعرفة والتعريف . وكان هذه الدراسات الأصيلة من غير شك استجابة طبيعية للدور العظيم ، الذي ينهض به الجريان النهري في النيل الأزرق ، من حيث دفع النيل وتزويده بالقدرة الكاملة ، على مواصلة الرحلة الطويلة في اتجاه الشمال .

وقد تمخضت هذه الدراسات عن حصيلة من النتائج الهامة ، التي نعتمد عليها في مجال إلقاء الأضواء على تاريخ الجريان في هذا الرافد ، وعلى دوره الجار في جريان النيل الأعظم . ويذكر الباحثون الذين أولوا هذا المجرى النهري مزيدا من اهتمامهم ، أن النيل الأزرق رغم عمق مجراه وعمق الوادي ، الذي يبلغ في بعض المواضع زهاء 1500 متر ، لايمكن أن يكون رافدا قديما .

ويمكن القول أن هذا التقدير المبدئي ، قد بني على اعتبار أن الحفر والنحت والتعميق في التكوينات التي تتألف منها الهضبة الحبشية من الأمور السهلة نسبيا ، لأن الصخور البركانية ليست كلها من نوع واحد ، ولأن المطر الغزير والفائض الكبير وانحدارات السطح تكون من العوامل المساعدة على التعميق وخلق الحيز الذي يتضمن الجراين بسرعة ظاهرة . ويعني ذلك أن العمق الشديد الذي يتلمسه الباحث في الوادي ، الذي يتضمن حيز المجرى لاينهض دليلا على القدم ، من وجهة النظر الجيولوجية .

بل لعلنا نلاحظ أنه عندما يجري النيل الأزرق ، ويتثنى في دوران كبير ، فيما حول المرتفعات إقليم جوجام ، ويغير اتجاهه أكثر من مرة ، يقيم دليلا واضحا على أنه نهر حديث من حيث العمر الجيولوجي ، ويفهم ذلك على ضوء العلم بأن تغير الاتجاهات تعبر عن أن ظاهرات شكل السطح والصور التصاريسية التي يتضمنها ، وقد أثرت تأثيرا واضحا في تحديد الاتجاهات التي يمر بها المجرى . وإذا ها ذكرنا أن هذا السطح قد اتخذ شكله الحالي في عصر حديث جدا ، بعد أن تكامل وانتهى تراكم التكوينات البركانية ، التي ترجع في جملتها إلى حوالي منتصف الزمن الجيولوجي الثالث ، وبعضها إلى عصر البلايستوسين ، أدركنا أنه أحدث من الصور التضاريسية التي تأثر بها .

وينبغي على ضوء هذا الفهم العام أن نتصور النيل الأزرق أو بعض أجزاء منه على الأقل أحدث من الصور التضاريسية على سطح الهضبة . ويعني ذلك أنه صورة النيل الأزرق المكتملة ، والتي نتبينها في الوقت الحاضر ، يجب أن نفترض اكتمالها في تاريخ لاحق للتاريخ ، الذي اكتملت فيه بعض الصور التضاريسية على صعيد الهضبة الحبشية ، التي أثرت على تحديده مجراه .

ومهما يكن من أمر فن النيل الأزرق في صورته المكتملة لايمكن أن يكون نهرا قديما من وجهة النظر الجيولوجية ، وقد بحث نلسن على ضوء هذا التقدير المبدئي عن الأدلة والنتائج ، التي يمكن الاعتماد عليها في تقديرنا لعمر النيل الأزرق وتاريخ جريانه ، واكتمال صورته واتصاله كرافد هام بالجريان النيلي الأ‘ظم . وقد اشتملت دراسات نلسن على أبحاث في منطقتين متباينتين على سطح الهضبة الحبشية في حوض نهر النيل الأزرق ، وفي منطقتين على هامش الهضبة في قاع الأخدود وعلى حافتها الشرقية القافزة .

وما من شك في أن توسيع دائرة البحث على ههذ الصورة ، كان وسيلة من الوسائل التي يقتضيها الربط بين بعض النتائج والأحداث وتعليلها ، وتجميع أطراف الحقيقة الكاملة التي تصور مراحل الجراين في النيل الأزرق . وقد اتجه نلسن إلى دراسة القطاع أو المنطقة من الهضبة . التي تتضمن بحيرة تانا ، التي تمثل نقطة البداية التي ينساب منها النيل الأزرق . وانتهى إلى تسجيل عدد من المحلاظات الهامة التي تفضح عن تاريخ البحيرة وتكوينها ، وعن مناسيب الماء فيها ، وعن احتمال تأثر ههذ المناسيب وجريان الماء منها بالظروف والأحداث التي تعرضت لها الهضبة الحبشية بصفة عامة ، والمناطق المحيطة بصفة خاصة .

ويتمثل الملاحظة الأ,لى في حصيلة الدراسة التي تضمنت الحوض الذي توجد فيه البحيرة . والمفهوم أن هذا لاحوض كان مفتوحا ، ثم حدثت الأحداث التي أدت إلى الاضطراف والناشط البركاني ، فأثرت على شكله العام حيث تدفقت اللافا وكونت السد الذي حول قطاع الحوض المفتوح إلى حوض مغلق . وهذا التحول الخطير وظهور الحوض مغلقا ، عاق انصراف الماء الناشئ عن المطر المباشر على هذا القطاع وتكونت البحيرة . ويمكن القول أن هذا التحول الخطير يمثل البداية الحقيقية للمرحلة المبكرة التي تتضمنها قصة بحيرة تانا ، ومراحل تطورها الجيولوجي ، واتصالها بالجريان في النيل الأزرق .

وتمثل الملاحظة الثانية في جملة النتائج التي انتهى إلهيا البحث في حوض هذه البحيرة . وما طرأ على مناسيب الماء فيها من تغيرات واضحة منذ نشأتها . والمفهوم أن البحيرة في الوقت لاحاضر ، تقع على منسوب 1830 مترا ، وأن عمق الماء فيها يتراوح بين 12 مترا كحد أدنى قرب الساحل الجنوبي ، ومتر واحد كحد أدنى قرب الساحل الشمالي ، وأنه يبلغ في قلبها الأوسط رقما يتراوح بين 30 100 متر . والمفهوم أيضا أن منسوب سطح البحيرة والأعماق فيها ، لم تكن دائما على هذه الصورة ، وأنه قد تعرض للتغير أكثر من مرة . وقد تبين نلسن احتمالات هذه التغيرات من دراسة الأرصفة أو الشواطئ القديمة التي عثر عليها منسوب 148 مترا وعلى منسوب 125 مترا من منسوب سطح البحيرة الحالي .

ويعني ذلك أن سطح البحيرة قد سجل ارتفاعين واضحين عن منسوبها في الوقت الحاضر ، حيث بلغ أولا 1978 مترا عن منسوب سطح البحر ، ثم بلغ في مرحلة تالية 1955 مترا عن منسوب سطح البحر . ولما كانت بحيرة تانا غير متصلة بأي مسطح مائي آخر ، يحتمل أن يكون له تأثير على منسوب سطح الماء فيها . وكانت الشواطئ القديمة التي عثر عليها موجودة على مستوى واحد على جوانب البحيرة ولم يتأثر وجودها وامتدادها المنتظم بالاضطرابات الأرضية ، فلا بد أن نتصور أن سطح البحيرة ومنسوب الماء فيها ، كان يتأثر بعامل واحد أساسي هو المطر المباشر على سطحها ، وعلى حوضها .

هذا بالإضافة إلى احتمال تأثر منسوب سطح الماء فيها بعامل ثانوي ، هو العامل المرتبط بخروج الماء من الفتحة الجنوبية وتدفقها إلى مجرى النيل الأزرق . ويمكن القول أن التنسيق بين هذين العاملين قد يتم على ضوء من العلم ، بأن تدفق الماء من البحيرة إلى مجرى النيل الأزرق ، ليس من شأنه أن يفسر توقف المناسيب فترة طويلة ، تكون كفيلة بشأن وتكوين ذلك الرصيف أو الشاطئ على منسوب 125 مترا .

أما الملاحظة الثالثة فكانت تتضمن حصيلة من النتائج التي أدى فيها البحث ، في قطاع من الهضبة خارج حوض بحيرة تانا ، ويقع إلى الشرق منها مباشرة . وقد عثر نلسن على بقايا عدد من الأودية النهرية القديمة التي تمتلأ بالرواسب في هذا القطاع . ولما كانت بحيرة تانا تحتل حوضا له حدود واضحة ، فإنه افترض إلى العلاقة بين حوض تانا وهذه الأدوية غير محتملة . وربما كانت هذه الأدوية قد تكونت تاريخ أو عصر جيولوجي سابق لتكوين البحيرة ذاتها .

ولعل الأهم ، ذلك كله هو ملاحظة استمرار تلك الأودية تحت قاع بحيرة تتانا . وما من شك في أن استخلاص نتيجة معينة من هذه الملاحظة ليس أمرا سهلا ، ومع ذلك فربما كانت تلك الأودية تمثل في وقت من الأوقات نظاما نهريا قديما سابقا في وجوده لتكوين بحيرة تانا والحوض الذي يتضمنها . ولعله كان في تلك الصورة البائدة ، يمثل مصرفا لحجم من إيراد الماء من الهضبة الحبشية ، في اتجاه الغرب إلى سهول البطانة في السودان .

مهما يكن من أمر ، فإن قصة تانا تتلخص في أمرين هامين ، هما نشأة السد الذي أدى إلى خلق الحوض ، والتغيرات التي طرأت على مناسيب سطح البحيرة تحت تأثير المطر المباشر ، وما طرأت عليه من تغيرات بالزيادة أو بالنقصان ، ويرى دكتور حزين أن تكون وتراكم اللافا ، التي أسهمت في خلق الحوض ، الذي نشأت فيه بحيرة تانا ، لايمكن أن يرجع إلى أبعد من حوالي عصر البلايستوسين الأوسط ، أو مايعادل فترة الجفاف . وقد بنى هذا التقدير على ضوء العلم بأن هذه الفترة من البلايستوسين ، كانت من الفترات التي تضمنت في أنحاء متفرقة من الهضبة الحبشية وهضاب شرق افريقية وقاع الأخدود الأفريقي العظيم اضطرابا ونشاطا ، وكل ما من شأنه أن يعبر عن عدم الاستقرار .

وهذا التقدير فيه صورة أخرى من صور التناسق مع الظروف ، التي تمثلت في أثناء المرحلة التالية لنشأة حوض البحيرة ، وترتبت على زيادة المطر في عصر البلايستوسين الأعلى ، أو مايعادل العصر المطير الثاني . ويعني ذلك أن الزيادة في المطر في أثناء ذلك العصر ، كانت كفيلة بتكوين البحيرة وارتفاع منسوب الماء فيها ، إلى الحد الذي تبينه نلسن من دراسة الشواطئ القديمة ، على منسوبي 148 مترا و 125 مترا عن المنسوب الحالي . ويمكن القول أن الماء في البحيرة . قد بلغ الذروة العالية نتجية للمطر الغير ، ثم فاض من فوق اللافا في اتجاه الجنوب ، وقد ترتب على هذا الفيض تحت المجرى وتعميقه تعميقا تدريجيا .

ولعل من الجائز أن يكون انصراف الماء من هذه الفتحة قد أدى إلى الانخفاض في منسوب سطح البحيرة . ومع ذلك فإن التدهور في كمية المطر في نهاية العصر المطير الثاني . هو الذي يفسر الاستمرار على انخفاض المناسيب ، والتوقف فترة تكونت عندها الشواطئ القديمة التي عثر عليها نلسن .

ودلالة هذه النتيجة التي نستخلصها من قصة بحيرة تانا ، لاتكاد تضع أيدينا على تحديد دقيق لتاريخ جراين النيل الأزرق وقصته . بل أنه ليس من الضروري أن نتصور جريان النهر تاليا لخلق وتكون البحيرة ، وانسياب الماء منها من الفتحة التي تتمثل في سد اللافا . ولعل من الجائز أن يكون جريان النيل الأزرق سابقا لانسياب الفائض من سطح بحيرة تانا ، في حوالي عصر البلايستوسين الأعلى أو العصر المطير الثاني .

ويمكن القول أن حصيلة دراسات نلسن على سطح الهضبة في القطاع الثاني ، الذي يشمل الماسحة التي حتلها الجزء الجنوبي الشرقي من حوض النيل الأزرق الأعلى . كانت جديرة بأن تلقي على الأمر مزيدا من الوضوح وأن نؤكد بعض الحقائق التي تصور تاريخ الجريان في النيل الأزرق بصفة عامة . وقل أنها دراسة تعلقت في بقايا رواسب ، عثر عليها وشدت انتباهه . بل قل أنها وضعت نقطة البداية ، في تقصي قصة النيل الأزرق .

وقد عثر نلسن في هذا القطاع من سطح الهضبة الحبشية على رواسب بحيرة قديمة . وتبين أن النيل الأزرق قد نحت مجراه فيها بشكل ملحوظ ، حتى أزال قدرا كبيرا من الطبقات التي تتألف منها . وقد تمكن نلسن من رسم خريطة تقريبية لبيان المساحات التي كانت تحتلها ، والتي تصور أنها قد بلغت حوالي 20 ألف كيلومتر مربع ، أو مايعادل حوالي سبعة أمثال مساحة بحيرة تانا .

وقد استخلص من هذه الصورة العامة نتيجة أولية هامة ، تتدفق بشكل السطح . وتتمثل هذه النتيجة في تصور سطح الهضبة في هذا القطاع مستويا إلى الحد الذي يجعله صالحا لأن يتضمن الحوض ، الذي تنشأ فيه البحيرة . ويتجمع الفائض فيه عن طريق بعض المجاري ، التي أسهمت في أرساب تلك الرواسب التي عثر علهيا . وما من شك في أنه درس قطاعا في تلك الرواسب البحيرة ، التي قدر سمكها بحوالي 82 مترا ، والتي عثر عليها عند بعض الأطراف والمواقع . وقد أبقت أو حافظت عليها أرساب طبقة من تكوينات اللافا الحديثة التي افترشت على سطحها .

وتبين من هذه الدراسة أن الطين هو قوام معظم الرواسب في معظم الطبقات التي تتألف منها الرواسب . كما تبين له وجود طبقة لازيدي سمكها من 3.5 مترا يختلط فيها الطين بالرماد البركاني . وتبين له وجود بقايا نمو شجري غني ضمن الرواسب في الطبقة السطحية ، التي تقع أسفل غطاء اللافا الحديثة مباشرة . ويمكن القول أن هاتين النتيجتين الهامتين كان من شأنهما استخلاص بعض الحقائق الهامة ، التي صاحبت المراحل النهائية لإرساب الطبقات العليا من هذه الرواسب البحيرية .

وما من شك في أن وجود الرماد البركاني ضمن الرواسب القريبة من السطح ، دليل قاطع على نشاط بركاني كانت تتعرض له بعض المساحات المتاحة ، لسطح هذه البحيرة القديمة ، كما أن العثور على بقايا النمر القدرة من حيث الكم والتوزيع ، على أن يعول صورة نباتية شجرية غنية .

ومهما يكن من أمر فإن هذه النتائج والأدلة التي بنيت عليها تعبر تعبيرا صادقا عن صورة تلك البحيرة ، التي أطلق عليها اسم بحيرة يايا في أثناء عصر البلايستوسين الأسفل أو مايعادل العصر المطير الأول . ويعني ذلك أن تصور الظروف المناخية في البلايستوسين الأدنى ، مناسبة لأن تنشأ البحيرة وتمتلأ بالماء ، كما تصور أن شكل السطح كان من شأنه أن يسمح بتلك المنشأة والوجود على صعيد مساحة كبيرة .

ونشير في هذا المجال إلى أن نلسن قد تابع الدراسة والبحث بشأن المطر وأدوار الزيادة والنقصان في أثناء عصر البلايستوسين . وقد تمكن نلسن من أن يحقق هذه الدراسة ، وأن يحصل على التفسير والنتائج من قطاع من الأخدود الأفريقي العظيم ، الذي يمتد على محور عام من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي ، والذي يحدد من ناحية الجنوب الهضبة الحبشية النيلية تحديدا واضحا . وتمخض البحث في هذا القطاع الذي يتضمن في الوقت الحاضر بعض البحيرات الصغيرة كبحيرة زواي وشالا عن نتائج أصلية ، تعبر عن كل ما من شأنه أن يعبر عن زيادة المطر في أدوار البلايستوسين .

وما من شك في أن هذه النتيجة كانت تتناسق تناسقا ملحوظا ، مع النتيجة التي انتهى إيها بحثه في قطاع آخر من الأخدود في شرق أفريقية . وتجلت عن تحديد المساحة التي كانت تتضمن بحيرة كماسيا من الدور المطير الأول . ونذكر بهذه المناسبة أنه في القطاع الحبشي من الأخدود تمكن من أن يسجل أن البحيرات التي تقع على منسوب 1600 متر في الوقت الحاضر ، كانتت ؤلف في جملتها بحيرة واحدة كبيرة ، يصل منسوبها إلى حوالي 1900 متر ، في دور من أدوار المطر العالي في البلايستوسين الأدنى . وكانت هذه النتائج على كل حال من الأدلة القاطعة على دورات المطر في الهضبة الحبشية ، واحتمال تأثر الجريان على سطحها بكل دور من هذه الأدوار المطيرة .

وإذا عدنا بعد ذلك إلى متابعة بحث نلسن في الرواسب البحيرية التي أرسبت في بحيرة يايا في أثناء عصر البلايستوسين الأدنى . نشير إلى أنه قد اهتم بتسجيل المناسيب التي تتمثل عندها تلك الرواسب . ولقد لاحظ نلسن أن هذه الرواسب البحيرية . توجد على الأطراف الشرقية للبحيرة القديمة على منسوب 2750 مترا عن مستوى سطح البحر . على حين أنها توجد في مواقع أخرى أقر ما تكون إلى وسط تلك البحيرة على منسوب 2600 مترا . وما من شك في أن هذه الأرقام قد استرعت الانتباه ، لأنها تعني أن الرواسب البحيرية تقع الآن وتنتشر على سطح منحدر ، من الشرق إلى الغرب بصفة عامة .

ولما كان من غير المعقول أن تكون تلك البحيرة القديمة قد تكونت وتجمعت فيها المياه العذبة ، والرواسب والهضبة الحبشية على صورتها الحالية التي تبدو منحدرة انحدارا ملحوظا ، كان من الطبيعي أن يفترض تكوين بحيرة يايا في عصر ، كان سطح الهضبة فيه أكثر اعتدالا منه في الوقت الحاضر . وما من شك في أن هذا الافتراض في أثناء مرحلتين ، هما مرحلة وجود بحيرة يايا ، والمرحلة التالية التي اختفت فيها بحيرة يايا ، وترتب عليها التباين في المناسيب التي توجد عندها الرواسب البحيرية المتخلفة عنا .

ويمكن القول أن التفسير والبحث الذي يمكن الاعتماد عليه ، في مجال إقامة الدليل ، على احتمال تغير درجة الانحدار في أثناء أدوار البلايستوسين ، قد حصل عليه نلسن من دراسة الحافة الشرقي للهضبة الحبشية . وقد تبين من دراسته تلك الحافة ، وجود رصيف بحير في بعض الأجزاءا ، يقع على ارتفاع يتراوح بين 1500 و 1800 متر عن مستوى سطح البحر . ولما كان هذا الرصيف قد تكون في وقت كان البحر الأحمر يصل فيها إلى حافة الهضبة ، فقد افترض أن الهضبة كانت أقر ارتفاعا منها في الوقت الحاضر . ولما كان من المرجح أن يرجع هذا الرصيف البحير إلى حوالي عصر البلايستوسين الأدنى ، وجب علينا أن نتصور حركات باطنية في حوالي عصر البلايستوسين الأوسط ، قد أدت إلى ارتفاع الحافة الشرقية للهضبة الحبشية إلى ذلك المنسوب .

وعندما نتصور هذه الحركات ونتائجها نجد فيها من غير شك التفسير الذي يلقي الضوء على احتمالات التغير ، من حيث درجة انحدار سطح الهضبة ، وميلها بشكل واضح صوب الغرب والشمال الغربي . ويمكن فوق ذلك كله ، أن نتصور هذا الميل الذي ترتب عليه زيادة درجة الانحدار . مسئولا عن انصراف وتدفق مياه بحيرة يايا ، وعن تكوين وحفر مجرى النيل الأزرق ، في المساحة التي كانت تشغلها تلك البحيرة القديمة .

ويحق لنا على ضوء من كل هذه النتائج الهامة ، أن نصور قصة الجريان النيلي في النيل الأزرق والمراحل التي تتضمنها تلك القصة ، على أساس أن الصورة المكتملة لهذا الرافد قد تمثلت في حوالي البلايستوسين الأوسط . ويستطيع الباحث أن يشير إلى أنه في عصر البلايستوسين الأدنى ، أو مايعادل حوالي العصر المطير الأول ، كانت الهضبة الحبشية تتضمن وضعا وصورة مختلفة تمام الاختلاف عن الصورة التي تمثلت منذ حوالي البلايستوسين الأعلى .

ويمكن القول أنه في البلايستوسين الأدنى لم تكن بحيرة تانا موجودة أصلا ، وربما لم يكن هناك أي أثر لسد اللافا الذي أحكم إغلاق الحوض الذي تضمنها بعد ذلك . ورمبا كانت الصورة العتيقة التي لم تكن تتضمن بحيرة تانا ، قد تضمنت بعض المجاري القديمة التي تمثل صورة عتيقة من صور الجريان في هذا القطاع من الهضبة الحبشية . كما نشير إلى أنه في نفس هذا العصر ، كان قطاع من الهضبة الحبشية يتضمن بحيرة يايا ، التي كانت تحتل مساحة كبيرة فوق سطح مناسيب من حيث تجميع الماء .

ويمكن القول أن سطح هذه البحيرة كان يستقبل المطر المباشر ، كما كانت بعض المجاري النهرية تسهم من ناحية أخرى ، بتجميع الماء فيها من المساحات المجاورة التي تضمنها حوض البحيرة . ونحن بطيعة الحال ليس لدينا أي دليل على علاقة معينة ، بين هذه الصورة من صور الجريان العتيق في البلايستوسين الأدنى ، والجريان النيلي الأزرق أو بعض روافده الهامة . ومع ذلك فإن دكتور حزين يذكر أنه ليس من المستبعد أن تكون بعض أجزاء من مجرى النيل الأزرق ، أقدم من بحيرة يايا او معاصرة لها على الأقل . وهي كبحيرة عظيمة المساحة تحتل قلب الهضبة الحبشية ، ليس ببعيد أن تكون بعض مياهها قد انصرفت في اتجاه الشرق ، قبل أن ترتفع الحافة الشرقية للهضبة الشرقية .

وهذا في الوقت نفسه لايستبعد أن تكون الصورة في البلايستوسين الأدنى ، قد تضمنت بعض المجاري العتيقة ، التي كانت تتصرف إلى بحيرة يايا من ناحية الشمال . كما تضمنت بعض المجاري القديمة ، التي كانت تصرف مياه الحافة الغربية للهضبة الحبشية ، وتنتهي إلى سهول السودان . وربما كان من بينها نهر قديم سابق للنيل الأزرق ، كان يجري في مجراه الحالي في قسمه الجنوبي عند أطراف الهضبة الحبشية الغربية ، ثم ازداد الجريان في ذلك المجرى قوة ونشاطا بعد البلايستوسين الأدنى .

ومهما يكن من أمر فإن هذه الصورة التي حاولنا أن نعبر بها عن مرحلة من المراحل السابقة للجريان النيلي المكتمل في الهضبة الحبشية تتضمن بعض البيانات والتفاصيل التي نعتمد فيها على مجرد التخمين والافتراض والتصور . ومع ذلك فإن الحقائق التي تتضمنها الصورة ، ولدينا عليها أدلة قوية تحتم علينا أن نتصور الاختلاف الهائل ، بين هذه الصورة في البلايستوسين الأدنى ، والصورة الأحدث التي تمثلت في حوالي نهاية البلايستوسين أو فجر البلايستوسين الأعلى .

ويمكن القول أن التغيرات الأساسية التي حدثت وأضفت على الصورة القديمة تعديل هائل ، في صفة المجاري النهرية والجريان السطحي ، وفي تفاصيل الصور التضاريسية التي باتت تؤثر تأثيرا واضحا على الجريان ، قد تمثلت في عصر البلايستوسين الأوسط أو مايعادل فترة الجفاف . وما من شك في أن هذه التغيرات كانت نتيجة مابشرة أو غير مباشرة للحركات الباطنية ، وسيادة حالة من حالات الاضطراب وعدم الاستقرار في الهضبة الحبشية ، من حوالي أواخر عضر البلايستوسين الأدنى . وإذا كانت هذه الحركات الباطنية قد أدت إلى نشاط بركاني وتدفق اللافا . فإنها قد أدت أيضا إلى ارتفاع الحافة الشرقية للهضبة الحبشية ارتفاعا ملحوظا .

وقد بينا أن النشاط البركاني وتدفق اللافا قد أسهم في خلق وتشكيل وإضافة ، بعض التفاصيل إلى الصور التضاريسية على سطح الهضبة . وأشرنا إلى هذه التغيرات قد أدى إلى إحكام سد الحوض ، الذي تكون فيه بحيرة تانا ، كما أدت إلى تراكم بعض اللافا الحديثة بشكل أثر على الاتجاهات العامة للجريان في الصورة التالية ، كما بينا أن ارتفاع الحافة الشرقية كان من شأنه حدوث تغيرات أساسية في درجات الانحدار على سطح الهضبة الحبشية على المحاور العامة من الشرق إلى الغرب . وقلنا أن هذه التغيرات كان من شأنها انصراف وتدفق بحيرة يايا واختفائها من ناحية ، وبداية مؤكدة للجريان السطحي في النيل الأزرق من ناحية أخرى .

مع ذلك فإن الصورة الجديدة التي تعبر عن كل هذه التغيرات ، لم تكن تتضمن بذاتها نفس التفاصيل الدقيقة ، التي تتمثل في الصورة المكتملة الحالية ، لأن بعض التفاصيل كانت لم تصل بعض إلى إلى المرحلة التي وصلت إليها في بعد . ويعني ذلك أنه فيما بين أواخر البلايستوسين الأوسط وأوائل البلايستوسين الأعلى ، كانت هناك صورة جديدة غير الصورة العتيقة في البلايستوسين الأدنى . وما من شك في أن هذه الصورة كانت تتضمن تفصيلات جديدة تعبر تعبيرا صادقا عن جريان النيل الأزرق ، دون أن يكون ثمة اتصال بينه وبين بحيرة تانا ، التي لم تكن قد امتلأت بالمياه ، ولم تكن هذه المياه قد تدفقت من الفتحة الجنوبية على سد اللافا الحديثة .

ومهما يكن من أمر فإن الصورة المكتملة قد تمثلت بعد مرور بعض الوقت في أثناء البلايستوسين الأعلى أو مايعاد المطير الثاني ، ويفهم ذلك على اعتبار أن زيادة المطر في هذا الدور قد حققت تراكم الماء في حوض تانا ، وحققت ارتفاع منسوب السطح فيها إلى المستوى ، الذي تمكن فيه من أن يتدفق وينساب في الاتجاه الذي ربط بين البحيرة والنيل الأزرق . وهكذا يمكن القول أصلا ، أن تدفق مياه الهضبة الحبشية إلى الغرب ، والاتصال بجريان النيل الأعظم ، كان في تاريخ هو بعينه التاريخ ، الذي يحتمل أت تكون مياه الهضبة الاستوائية ، قد اتصلت فيه أيضا بالجريان في النيل الأعظم .

وليس غريبا بعد ذلك كله ، أن نحس أو أن ندرك أنهما قد تأثرا بنفس الظروف والعوامل المرتبطة بالحركات الباطنية ، التي انتابت شرق أفريقية ومنطقة الأخدود الإفريقي العظيم . بل لعلنا بشيء من المرونة والقدرة على متابعة أساليب الربط ، نستطيع أن نصل إلى تنسيق واضح بين الصور المتوالي التي تمثلت في كل مرحلة من مراحل البلايستوسين ، وعبرت عن العوامل التي تضافرت على إكساب كل صورة من تلك الصور ، ملامح معينة وكل هضبة من هاتين الهضبتين وهما الهضبة الاستوائية والهضبة الحبشية .


قصة النيل جنوب خط عرض الخرطوم

إذا كنا قد تلمسنا الحقيقة أو الحقائق التي يفصح سياقها المتناسق عن قصة النيل وروافده العظمى ، في كل من هضبة البحيرات النيلية والهضبة الحبشية ، وحاولنا معالجة وتجميع وتنسيق كل ما من شأنه أن يلقي الأضواء على التاريخ الذي اكتملت فيه صورة الجريان النيلي ، وانصراف الفائض من كل هضبة من هاتين الهضبتين ، فإن المرحلة التالية تتطلب الاستمرار في مجال متابعة الدراسة ، التي تصور قصة الجريان النيلي والمجاري النهرية على السهول السودانية ، إلى الموقع الذي يقترن فيه النيلان الأبيض والأزرق .

ويمكن القول أن الاستمرار الذي نقصده يكون على اعتبار أن القصة في هذا القطاع من الجريان النيلي مفروض فيها أن تتمخض عن تصوير مراحل الربط والاتصال بين الأحباس العليا في كل من هضبة البحيرات الاستوائية والهضبة الحبشية ، ومجرى النيل الأعظم شمال خط عرض الخرطوم . هذا بالإضافة إلى الاستمرار يكون أيضا على اعتبار أن المجاري النهرية ، التي يتألف منها الجريان النيلي في هذا القطاع ، لها من حيث الصفات الطبيعية مايدعو إلى تفسير وإيضاح وتعليل ، من شأنه أن يلقي الأضواء على العلاقة بين تلك الصفات والخصائص وبين التطور الجيمورفولوجي ، وتاريخ الجريان في صورته الحالية . ويعني ذلك أن الدراسةف ي هذا لاقطاع تستهدف معالجة قصة المجاري النهرية من حيث أنها مجاري ، وأن ثمة قصة تصور التطور فيها . كما تستهدف الدراسة تصوير القصة كحلقة من الحلقات التي يتألف من سياقها تكامل قصة النيل وتطوره .

وليس ثمة شك في أن قصة الجريان النهري في مجموعة المجاري النيلية ، التي تتضمنها الصورة العامة التي هو علهيا في الوقت الحاضر ، تحيط بها هالة من الغموض وعدم الوضوح . ويبني الغموض وعدم الوضوح ، على أساس من العلم بالتعقيد الشديد الذي يتجلى في صور المجاري النهرية ، والصفات الطبيعية التي تتميز بها . وقد يعبر عن ذلك كأنه الإحساس بالتناقض الشديد ، الذي يتمثل في جملة الصفات ، التي يتميز بها الجريان في كل مجرى من هذه المجاري . ذلك أن المجرى النهري يتضمن أجزاء توحي بأن النهر قديم ، وأن له سمات الشيخوخة ، على حين أنه يتضمن أجزاء أخرى فيها التعبير الكافي عن حداثة النهر والجريان النهري ، من حيث العمر الجيولوجي .

ويعني ذلك أن ثمة أجزاء يكون الانحدار فيها وتكون صفات المجرى الطبيعية الأخرى المميزة من كل معنى من معاني الشيخوخة . ومن ثم يستحيل أن نتصور العلاقة أو التناسق بين تاريخ الجريان في تلك الأجزاء ، وتاريخ الجريان في الأحباس العليا في الهضبة الحبشية والهضبة الاستوائية وانصارف المياه منهما في حوالي منتصف البلاستوسين أو أوائل البلايستوسين الأعلى ، ولعلنا نشير بهذه المناسبة إلى أن عدم استكمال الدراسات الأصيلة والأبحاث ، التي يمكن أن تحدد التفسيرات المقبولة لبعض المشكلات الدراسية الهامة ، من شأنه أن يقلل من قدرتنا على حبك أطراف القصة ، وتصويره مراحل التطوير الجيولوجي . هذا بالإضافة إلى أن النقص في الأبحاث ، في الحالات التي يتمخض فيها البحث عن مزيدد من النتائج العلمية السليمة .

ويجدر بنا أن نشير في مجال دراسة هذا الموضوع ، إلى دراسات جون بول في كتابه المشهور الذي تضمن إضافات كثيرة إلى جغرافية مصر وحوض النيل بصفة عامة . وما من شك في أن الذي يهمنا من تلك الحصيلة ، هي فكرة بحيرة السد الكبيرة المغلقة ، التي استواحاها من الفكرة القديمة التي أشار إليها الإيطالي لومبارديني في سنة 1865 .

ويذكر بول أن هذه البحيرة كانت تغطي مساحة كبيرة من السهول السودانية الوسطى ، وأن خط كنتور 400 متر فوق مستوى سطح البحر يحدد انتشارها فيما بين موقع شامبي جنوبا ، وموقع خانق سبلوكة شمال الخرطوم مباشرة . وقد حاول بول أن يصور هذه البحيرة التي يبلغ أقصى طول لها على المحور الطولي من الجنوب إلى الشمال 1050 كيلومترا ، ,اقصى عرض لها 530 كيلومترا ، والتي بلغت مساحتها حوالي 230 ألف كيلومتر مربع ، على اعتبار أن المجاري النهرية كانت تنساب إليها من حوض عظيم ، وأنها كانت تحقق إيرادا مائيا يضاف إلى الإيراد الذي يترتب على سقوط المطر المباشر على سطحها .

ولقد لجأ بول إلى هذه الصورة وبيان تفاصيلها من أجل تفسير أو إيضاح أمرين هامين . ويتمثل الأمر الأول في فعل ونشاط المجاري النهرية والروافد ، الذي لدى إلى حمولة عالقة من الرواسب والمشتقات ، كانت تستقر على قاع البحيرة غير العميقة وتؤدي إلى تناقص عمقها بشكل مستمر ، بقدر ما هو رتيب إلى حد كبير . أما الأمر الثاني فيتمثل في تصوير التعرية المائية ، مسئولة عن نحت أو حفر خانق سبلوقة وانسياب أو تدفق مياه تلك البحيرة صوب الشمال . ويعني ذلك أنه يؤد أن يفسر الجريان الهادئ والانحدارات البطيئة ، التي يتميز بها النيل في كل من بحر الجبل والنيل الأبيض ، على ضوء من افتراض أن التكوينات التي يجري عليها النهر تمثل بحيرة مستوية بصفة عامة .

ويمكن للباحث أن فكرة بول يقلل من قيمتها عدم التناسق بين افتراض التفجير المفاجئ في خانق سبلوكة ، وتدفق واندفاع الماء صوب الشمال من ناحية ، وافتراض التعرية المائية ومسئوليتها عن نحت أو حفر هذا الخانق من ناحية أخرى ، ولعلنا نقرر على ضوء الدراسات الحديثة التي أجريت على مساحات ومواقع معينة في حدود الأرض ، التي تصور بول انتشار بحيرة السد فيها استحالة ههذ الفكرة جملة وتفصيلا .

ونذكر في هذا المجال أن أركل قد عثر على أدوات وآلات حجرية في بعض الجهات ، التي كان مفروضا فيها أن تكون مغمورة تحت سطح الماء ، في هذه البحيرة القديمة . ويعني ذلك أن هذه المساحات كانت تمثل أرضا يابسة ، وأنه ليس ثمة احتمال لأن تكون الأرض مغمورة بمياه البحيرة ، أو أن تكون هذه التكوينات رواسب بحيرية أرسبت على قاع البحيرة . ويمكن القول أنه بالإضافة إلى تلك الأدلة فإن الوراسب النهرية أو الرواسب الهوائية أو شبه الهوائية ، والتي تتمثل في معظم المساحات في حدود خط كنتور 400 متر ، تنفي فكرة بحيرة السد نفيا قاطعيا .

ومهما يكن من أمر ، فإن متابعة الجريان النيلي . وتحديد تاريخ مناسب في الأرض السودانية جنوب خط عرض الخرطوم ، يقتضي التخلي عن فكرة بحيرة لاسد تماما وعدم الأخذ بها ، أو تصويره مرتبطا بها . ويمكن القول أن دراسة القصة ، وعرضها بالشكل الذي يصور تطور الجراين النيلي على مر العصور الجيولوجية ، يقتضي التركي على منتطقتين معينتين ، والاستعانة في سبيل ذلك بكل الحصيلة التي تمخضت عنها الدراسات . وهاتان المنطقتان هما منخفض حوض الغزال من ناحية ، وأرض الجزيرة وتكويناتها السطحية من ناحية أخرى . والمفهوم أن كل منطقة منهما تشمل مساحة كبيرة ، تضمن قطاع هائل من المجاري النهرية ، النيلية ، التي تسهم فيا نتظام واستمرار رتيبين في تحقيق الجريان صوب الشمال إلى الموقع ، الذي يقترن فيه الجريان من الهضبة الحبشية ممثلا فيا لنيل الأزرق بصفة خاصة ، بالجريان من هضبة البحيرات النيلية ممثلا في النيل الأبيض .

ونذكر في مجال الحديث من منخفض حوض الغزال ، أن أهميته تنبثق من حيث كونه المجال الذي يمر به الجريان النيلي ، الذي يحقق الاتصال المباشر بين الأحباس الاستوائية العليا ، والنيل الأبيض ثم النيل الأعظم شمال خط عرض الخرطوم . ويمكن القول أن الجريان النهري في هذا الحوض ، قد تأثر تأثرا واضحا بشكل الحوض العام وامتداده والأرض المرتفعة من حوله بصفة عامة . كما تأثر الجريان النهري أيضا بطبيعة الانحدار في الحوض ، وبطبيعة الصخور والتكوينات ، التي يتألف منها قاعه المستوي ، الذي يشغل مساحة كبيرة . وهذا الحوض الكبير الذي تحدق به الأرض المرتفعة من كل الجهات ، باستثناء الثغرة التي تمر من خلالها الذراع التي تتضمن النيل الأبيض ، يعتبر واحدا من الأحواض التي يتألف منها أو من اتصالها ، على المحور الطولي من الجنوب إلى الشمال ، حوض النيل العظيم . وهو في الوقت نفسه ، يشبه معظم الأحواض التي تنتشر على سطح القارة الأفريقية في القطاع التضاريسي الرئيسي الكبير الذي يعرف باسم أفريقية السفلى .

ويتصور بعض الباحثن الحركات الباطنية مسئولة عن التصدع والانكسار ، الذي أسهم في تحديد وخلق كل حوض من تلك الأحواض ، وأدى إلى صورة فريدة من صور البنية التي أطلق عليها اسم البنية الشبكية . ونحن على كل حال لا نجد من الدراسات والأبحاث ، حصيلة يمكن أن تستخدم أو أن تعتمد عليها في مجال إلقاء الأضواء على دور وفاعلية عوامل البنية أو على دور وفاعلية عوامل التعرية ، في خلق وتطوير وتأكيد شكل حوض الغزال وتثبيت ملامحه الأساسية . ومع ذلك فيس ثمة شك في أنه من الضروري أن نتصور التضافر الكامل بين هذه العوامل كلها منذ أواخر الزمن الجيولوجي الأول ، وأن نتصور الاستمرار في الخلق والتشكيل في كل العصور الجيولوجية التالية .

ولعل مايقال في شأن الحركات الباطنية التي أشرنا إليها أنها كانت تحقق التشققات والتصدعات والانكسارات ، التي يسرت على عوامل التعرية ممارسة نشاطها في النحت والتشكيل . ومهما يكن من أمر فإنه كحوض كبير يرتكز على قاعدة من الصخور القديمة البلورية الصلبة ، التي تعتبر شطرا لايتجزأ من كتلة النواة المتخلفة عن جندوانالاند . هذا بالإضافة إلى اندفاع الحوض ، يتضمن ما يمكن أن ندرك على ضوئه أنه كان في أثناء فترة طويلة معرضا لنشاط عوامل التعرية ، التي تتمثل في النحت والإرساب . ويمكن القول أن الرواسب والتكوينات التي تظهر على قاع الحوض ، تنتمي إلى عصور جيولوجية عتيقة ، ترجع إلى الزمن الجيولوجي الثاني والعصور التالية في الزمن الجيولوجي الثالث .

ويتبين للباحث من دراسة التكوينات والصخور في حوض الغزال ، أن الهامش والأطراف الغربية والجنوبية – على الأقل – قوامها من الصخور الأساسية البلورية القديمة ، التي تنتمي للأصل القديم لكتلة جندوانالاند ، أما في قلب الحوض الكبير ، فإنه ثمة تكوينات وصخور ورواسب ، أحدث عمرا تعلو هذه الصخور القديمة ، ونذكر من هذه التكوينات الأحدث عمرا الصخور الرسوبية القديمة التي تعرف باسم خرسان يرول Yirol ويمكن القول أن خرسان يرول يمثل نوعا من أنواع الخرسان الذي ينتشر في مساحات كبيرة . ويرجع خرسان يورل إلى أواخر العصر الجوارسي أو إلى عصر الكريتاسي من عصور الزمن الجيولوجي الثاني . وتعبر هذه الصخور التي تنتشر في مساحات ضئيلة ومتفرقة عن تعرض ماسحات هذا الحوض العظيم للعوامل التي تضافرت على النحت والإرساب وتمخضت عن هذه الصور من صور الإرساب القاري .

كما تتمثل في الأطراف اشرقية والجنوبية الشرقية من الحوض ، بعض طفوح اللافا التي تعتبر استمرارا لطبقات اللافا الغطائية المتراكمة ، على سطح الهضبة الحبشية . وهذه التكوينات في جملتها ترجع إلى النشاط البركاني الذي تمثل في عصر الميوسين من الزمن الجيولوجي الثالث . ولا يكاد يهمنا انتشار هذه الطفوح البكرانية ، لأنها في موقعها وانتشارها في أطراف من القطاع الشرقي أو الجنوبي من الحوض ، لايمكن أن توحي بمعنى من المعاني التي ينعكس أثرها على الجريان المائي بصفة عامة ، أما التكوينات التي يمكن أن تلفت النظر فهي تكوينات أم روابة ، التي تنتشر على نطاق واسع في قلب الحوض الأوسط الذي يتضمن الجريان الرئيسي للنيل في مجرى بحر الجبل .

هذا وتمتد في تكونيات أم روابة شعبتان ، بحيث تتمثل الشعبة الأولى كذراع طولية في اتجاه الشمال ، ويتضمن انتشارها معظم حوض النيل الأبيض ، وتتمثل الشعبة الثانية في اتجاه الشمال الغربي ، الصاعد صعودا هادئا إلى وسط دارفور . وتكوينات أم روابة قارية ، ويرجع تكوينها في الغالب إلى الفترة التي تتراوح بين حوالي أواخر عصر البلايوسين وأوائل عصر البلايستوسين . ويمكن للباحث أن يشير إلى أن انتشار ههذ التكوينات ليس فيه مايوحي باعتبار الجريان النهري أحدث عمرا منها . بل لعلنا ندرك أن هذه اتكوينات القارية ، قد ردمت هذه المساحات من قلب الحوض الكبير ، في نفس الوقت الذي احتل السطح فيه ، صورة من صور الجريان النهري .

وهي على كل حال في الشكل الذي يعبر عن أنها لم تتأثر بجريان النيل . كما يعبر من ناحية أخرى عن أنها لم تؤثر في هذا الجريان ، ومع ذلك فلعل من الجائز أن نشير إلى أنه ليس من الضروري ، أن يكون الجريان النهري في ذلك الوقت . الذي تراكمت فيه تكوينات أم روابة ، هو بعينه النظام الحالي الذي يتألف منه الجريان النيلي . ويعني ذلك أنه ليس بالمستبعد أن تكون الفترة التي تضمنت إرساب وتكوين تكوينات أم روابة قد تميزت بصورة من صورة الجريان النهري ، التي تختلف في كثير من تفاصيلا عن صورة الجريان النيلي في مرحلة تالية .

وإذا كانت الدراسة الجيولوجية لاتكاد تفصح أو تعبر عن قرار حاسم في مجال تصوير العلاقة بين الجريان النهري النيلي من ناحية ، وتكوين وإرساب تكوينات أم روابة القارية التي تكونت فميا بين ذلك الزمن الجيولوجي الثالث وفجر البلايستوسين من ناحية أخرى ، فإن دراسة المجاري النهرية في حد ذاتها والإلمام بصفاتها الأساسية ، يمكن أن تكون الوسيلة إلى مزيد من الإيضاح والتفسير ، ومزيد من القدرة على متابعة أحداث قصة الجريان ومراحل التطور التي استغرقها .

ولعل أهم ما يلفت نظر الباحث في الخريطة التي تتضمن مجموعات المجاري النهرية التي يتألف منها الجريان النيلي العام في هذا الحوض الكبير ، هو ظهور مجرى بحر الجبل الذي يتضمن الجريان النيلي الرئيسي في صورة قريبة إلى حد كبير . والغريب في تلك الصورة أنه يبدو وليس له صفات المجرى العادي من وجود متعددة . ويلاحظ الباحث أن بحر الجبل في جريانه الرتيب على المحور العام من الجنوب إلى الشمال ، مخترقا قلب الحوض ، لايكاد يقوى على تجميع الماء الفائض من أنحاء الحوض ، ولا تنساب إليه روافد على الجانبين . هذا في الوقت الذي يتأتى فيه لبحر الغزال ، لأن يجمع الفائض لكي يتألف من اقتران مجموعة كبيرة من الروافد النهرية ، في القطاع الغربي من الحوض ، ويتأتى فيه لنهر البيبور وروافده الكثيرة أن يفعل نفس الشيء ، في القطاع الشرقي من حوض بحر الغزال ، ومن هذه الصورة التي يبدو فيها حوض بحر الجبل ومجراه محصورا بين هذين القطاعين الشرقي والغربي ، يستنتج دكتور حزين أنه لم ينشأ في الأصل ، لكي يصرف مياه الفائض في هذا الحوض الكبير .

ويعني ذلك أنه يرى أن بحر الجبل في الصورة العامة لنظام التصريف المائي في هذا الحوض نهر مستجد ودخيل وغريب عنه . ويعني ذلك مرة أخرى أن بحر الجبل يمثل إضافة حديثة ، طرأت على صورة الجريان النهري ، أو على نظام التصريف المائي في حوض الغزال في عصر لاحق . ويبدو أنه عندما نشأ بحر الجبل وبات حجر الزاوية في الجريان النيلي ، منذ ذلك العصر اللاحق ، لم يؤثر تأثيرا كبيرا على نظام الجريان النهري أو نظم التصريف المائي في القطاعين الشرقي والغربي من حوض الغزال ، ويمكن للباحث أن يتخذ من هذه الظاهرة أو النتيجة ، التي يعبر عنها جريان بحر الجبل قرينة على أنه قد نشأ كنتيجة تالية للتصدع الكبير ، الذي أسهم في صرف مياه الهضبة الاستوائية ، وأدى إلى تدفقها بعد أن اكتملت فيه كل الملامح ، التي تمثلت في صورة الجريان النيلي على سطح تلك الهضبة وبحيراتها .

ولعلنا نشير في هذا الموضع إلى نهر أسوا الرافد النهري الكبير الذي يقترن ببحر الجبل شمال نيمولي ، ويصرف – كما قلنا – حوضا يتضمن المساحات التي تشمل معظم الأطراف الشمالية من هضبة البحيرات ، وتستهدف هذه الإشارة دعم الفكرة التي نتصور فيها نظما نهرية عميقة في حوض الغزال ، ونتصور بحر الجبل دخيلا عليها ، وأخذت عمرا وأقل فاعلية في تجميع الفائض بطريقة مباشرة من مساحات هذا الحوض الكبير .

ونذكر في هذا المجال أن نهر أسوا أقدم عمرا من تاريخ جريان بحر الجبل نفسه ، ومن تاريخ انصراف المياه من بحيرة ألبرت بعد التصدع الذي حدث في حوالي عصر البلايستوسين الأوسط . ويبدو أن المياه في هذا المجرى النهري كانت تنساب في اتجاه عام صوب حوض الغزال ، وأنها كانت تتبدد أو تنتشر على الأطراف الجنوبية لهذا الحوض . ويشير دكتور حزين إلى أن هناك رواسب كثيرة وتمخضت على هذه الأطراف ، وأنها ترجع من حيث العمر الجيولوجي إلى عصر البلايستوسين .

ولما كان تدفق مياه هضبة البحيرات قد حدث في حوالي عصر البلايستوسين الأوسط ، أو في بداية عصر البلايستوسين الأعلى ، ولما كانت هذه المياه لا تتضمن حمولة عالقة ، لأنها تنساب من بحيرة ، فإن ذلك يعني أن هذه الرواسب من فعل الإرساب الذي تمخض عنه الجريان النهري في نهر أسوا ، وربما غيره من المجاري النهرية . ويعني ذلك أيضا أن هذا الجريان القديم الذي تمثل في عصر سابق للبلايستوسين واستمراره الرتيب في البلايستوسين ، هو الذي أسهم في إرساب وتكوين تلك الرواسب .

ولعلنا في هذه المناسبة نشير إلى ما بيناه من قبيل من حيث أن نهر أسوا الذي يتدفق عن طريقه الفائض من حوض ، يتضمن شمال هضبة البحيرات ، قد مهد السبيل كبداي مبكرة لانصارف مياه الهضبة الاستوائية كلها ، في اتجاه الشمال ونشأة مجرى بحر الجبل . ولعل من الجائز أن نذكر ما أشرنا إليه في موضع سابق ، من حيث احتمال تأثر شكل المجرى فيما وراء نيمولي شمالا بالاتجاه العام لهذه الروافد .

وهذا – على كل حال – سبيل لأن نتصور نظاما نهريا عميقا أو أكثر من نظام نهري واحد كان يشغل حوض الغزال . ويتمثل هذا النظام البائد ، في العصر السابق للتدفق والجريان من الهضبة الاستوائية النيلية ، وظهور بحر الجبل كمجرى رئيسي في اتجاه الشمال . وربما كانت هذه النظم النهرية القديمة – في جملتها – غير مرتبطة ارتباطا كاملا ، بالصورة التي تتضمن النظم النهرية الحالية في القطاع الغربي والقطاع الشرقي من حوض الغزال ، ومع ذلك فيس ثمة مايمنع أن نتصور النظم النهرية الحالية أو بعض المجاري التي تتضمنها على الأقل عاشت في الصورتين : الصورة السابقة لجريان بحر الجبل والجريان النيل بصفة عامة ، والصورة التالية لحدوث التصدع وجريان بحر الجبل كحيز رئيسي للجريان النيلي .

ويمكن على ضوء من هذا الفهم أن نتبين قصة الجريان والنظم النهرية في حوض الغزال ، بحيث تتمثل في مرحلتين متباينتين تماما ومن وجود متعددة . ويكون هذا التباين الكبير هو الذي تعبر عنه الصورة في كل مرحلة ، ومن حيث شكل المجاري النهرية وانحداراتها ، وعلاقتها بالجريان النيلي المستجد في الصورة الحديثة .

وترجع المرحلة الأولى القديمة التي تضمنت الصورة الأولى إلى الفترة السابقة لعصر البلايستوسين الأوسط . ويمكن القول أن الجريان النهري في المرحلة القديم ، كانت صورته العامة تختلف اختلافا واضحا عن الصورة الأحدث ، التي يتمثل فيها الجريان النهري النيلي في الوقت الحاضر ، ومنذ البلايستوسين الأعلى على الأقل . وربما كان نهر أسوا نموذجا من نماذج الجريان النهري العتيق ، في تلك الصورة البائدة القديمة . والمفهوم أن هذه المجاري النهرية كانت تنساب في الاتجاهات التي تؤدي بها صوبقاع الحوض الكبير ، الذي يتميز بالانحدارات الهادئة . ونحن – على كل حال – لايمكننا نتيجة للنقص الواضح في حصيلة الدراسات والأبحاث أن نحقق التفاصيل الكاملة التي تضمنها الصورة . ولا أن نصور المجاري النهرية في القطاع الغربي من الحوض الذي يحتله حوض بحر الغزال وروافده في الصورة الحالية ، أو أن نصور الصورة الواضحة للمجاري النهرية في القطاع الشرقي ، الذي يحتله حوض البيبور وروافده . ومع ذلك فيس ثمة شك في أن نظاما معينا أو أكثر من نظام كان يصرف المياه على جوانب الأرض المرتفعة ، التي تحدق بالحوض وتحيط به من كافة الجوانب .

ولعل من الجائز أن تكون بعض المجاري أو أجزاء من هذه المجاري التي تظهر في هذه الصورة فيما قبل البلايستوسين الأوسط . قد تحول إليهما الجريان النهري في الصورة التالية ، التي تمثلت في المرحلة الثانية من حوالي أخر البلايستوسين الأوسط . ولا يمكن للباحث أن يلغي الأضواء على قدر من هذه الاحتمالات ، أو أن يصور الحقيقة الكاملة ، إلا بعد دراسات وأبحاث في بعض قطاعات من هذه المجاري النهرية ، التي تتضمنها الصورة الحالية ، والتي من شأنها أن تكشف عن وجه الصلة بينها وبين النظام النهري البائد القديم .

أما المرحلة الثانية التي تضمنت الصورة الأحدث ، فهي التي تمثل فيما بعد البلايستوسين الأوسط ، كنتيجة مباشرة للتصدع والانكسار الذي أطلق مياه الهضبة الاستوائية النيلية صوب الشمال ، وأفسح المجال لبداية الجريان النهيلي . وقد أشرنا إلى أن هذه التصدعات والانكسارات ، التي أدت على الترابط بين حوض هضبة البحيرات وحوض الغزال ، تعبر عن صورة من صور التأثير المباشر للحركات الباطنية والاضطرابات ، التي شملت مساحات كثيرة من شرق أفريقية ومنطقة الأخدود الإفريقي العظيم ، بما في ذلك الحافة الشرقية للهضبة الحبشية النيلية ، ويمكن القول أن صفات المجرى النهري لبحر الجبل في القطاع ، الذي يتضمن جنادل فولا وسلسلة من الجنادل المتوالية إلى رجاف ، تعبر عن تلك النتيجة والمعاني التي تمخض عنها التصدع ، وتدفق مياه الهضبة الاستوائية .

ويكون ذلك الفهم مدعاة لأن نتصور تدفق هذه المياه من النظام النهري النيلي ، الذي كانت صورته قد اكتملت في هضبة البحيرات في حوالي ذلك العصر ، مسئولا عن جريان بحر الجبل في صورته الحالية . وليس ثمة شك في أن صفات بحر الجبل ، والحيز الذي يتضمن ، الجريان النيل شمال منجلا ، والتي تتمثل في عدم ظهور الجسور الواضحة المرتفعة ، التي تحدد جوانب المجرى تحديدا واضحا ، ليس قرينة حاسمة ، على القدم والشيخوخة . ولعلنا نستطيع أن نفسر هذه الظاهرة ، على اعتبار أن المياه المتدفقة من بحيرات ألبرت تكون خالية إلى حد كبير من الرواسب والمفتتات العالقة . ويعني ذلك أنه ليس ثمة مايمكن أن يؤدي إلى بناء تلك الجسور ، التي تفتقدها على جانبي هذا المجرى .

وإذا كنا قد انتهينا إلى القول بأن بحر الجبل يمثل مجرى طارئا وحديثا بالنسبة للنظام أو النظم النهرية القديمة في حوض الغزال ، فإن ذلك لايتناقض مع النتائج التي وصلنا إليها بالنسبة للجريان النيلي ، واكتمال الصورة في هضبة البحيرات النيلية . ويعني ذلك أن بحر الجبل كحلقة من حلقات الجريان النيلي قد نشأت في حوالي منتصف عصر البلايستوسين . ويعني أيضا أن امتداده على المحور العام فيما بين فم المخرج والجريان من بحيرة ألبرت . وبين نهاية المجرى عند موقع الاقتران بالسوباط ، لايكاد يعبر عن أو يمثل نظام من النظم النهرية القديمة الكائنة في حوض الغزال فيما قبل البلايستوسين الأوسط .

هذا بدوره لايتناقض مع قولنا وإشارتنا إلى العلاقة بين جريان نهر أسوا والقطاع الذي يتضمن الجريان في بحر الجبل فيما بين نيمولي ورجاف . وقد تقتضي الحقيقة التي تستهدف بيان عدم التناقض ، والتي تفسر الذي نعنيه من حيث تصوير بحر الجبل في الصورة ، التي لاتعبر عن نظام نهري من حيث تصوير بحر الجبل في الصورة ، التي لاتعبر عن نظام نهري من النظم القديمة ، التميز بين صورة مجرى بحر الجبل الكاملة ، واحتمال اعتبار بعض أجزاء من هذا المجرى ، ضمن نظام من النظم النهرية القديمة التي تمثلت فيما قبل بحر الجبل . ومهما يكن من أمر فإنه يمكن للباحث أن يميز في مجرى بحر الجبل ، بين ثلاث قطاعات متباينة تماما . لا من حيث الصفات الطبيعية والخصائص فحسب ، بل من حيث تاريخ الجريان والاتصال فيما بينها ، ومن حيث احتمال العلاقة بينها وبين بعض المجاري في النظم النهرية القديمة .

ويشمل القطاع الأول الجزء الأعلى من بحر الجبل ، الذي يعرف باسم نيل ألبرت ، ويمتد فيما بين المخرج من البحيرة إلى موقع نيمولي ، وقد أشرنا إلى أن هذا القطاع يكون المجرى فيه واسعا عريضا ، كما يكون الانحدار فيه هادئا إلى الحد الذي يبدو فيه كذراع طويلة من سطح الماء في البحيرة ، والمفهوم أن هذا المجرى يقع في جملته في قاع الطرف الشمالي من الأخدود الغربي ، وتتمثل فيه كل الصفات التي تعبر عن الشيخوخة والقدم . وما من شك في أنه يبدو أقدم عمرا من أي قطاع آخر من القطاعات التي يتألف منها بحر الجبل . وربما كان في المرحلة السابقة لجريان بحر الجبل مجرد ذراع للبحيرة ، وامتداد في اتجاه يناظر الاتجاه العام لحيز البحيرة ذاتها ، وربما كان في رأي بعض الباحثن مجالا لجريان نهري في ماقبل حدوث التصدع وجريان بحر الجبل ، على نحو يتمثل في الاتجاه المضاد لاتجاه نيل ألبرت الحالي .

وترجيح رأي من هذين الرأين لا يتأتى إلا على ضوء بحث على جوانب مجرى نيل ألبرت ، ودراسة نتبين فيها النتائج التي تعبر عن احتمال تأثرها بزيادة منسوب سطح البحيرة في عصور المطر في البلايستوسين في حالة اعتبارها ذراعا ، أو التي تعبر عن تغير معدلات النحت والإرساب ، نتيجة للتغيرات الي كانت تطرأ على منسوب سطح البحيرة في عصور المطر ، وعلى اعتبار أن هذه التغيرات كانت تؤدي إلى تغير مؤكد بالنسبة لمستوى القاعدة للمجرى الذي كان يصب في البحيرة .

أما القطاع الثاني من بحر الجبل فهو الذي يشمل حيز المجرى فيما بين ينموري ورجاف ، وتظهر فيه الجنادل والشلالات ومدافع المياه . والمفهوم أن هذا الحيز من مجرى الجبل فيه كل الملامح والصفات ، التي تعبر عن صورة الحديثة ، حيث تأثر بالتصدع والانكسار ، وفعل كل الحركات الباطنية في البلايستوسين الأوسط . وهو أيضا القطاع الذي قلنا أنه اتجاهه العام .

قد تأثر بجريان نهر أسوا فيما قبل هذا العصر . ولعل من الضروري أن نذكر أن هذا القطاع . من أهم المواقع التي تتطلب مزيدا من الدراسة والبحث على الطبيعة ، من أجل الوصول غلى مزيد من النتائج التي تفصح عن حقيقة العلاقة بين نظام من نظم الجريان القديم قبل البلايستوسين الأوسط ، ونظام الجريان الأحدث بعد البلايستوسين الأوسط . وهو على كل حال أحدث عمرا من حيث الصورة بصفة عامة ، بالنسبة للقطاع الذي يتضمن الجريان فيما بين ألبرت ونيمولي . ولعلنا نعتمد على تحديد عمر المجرى في هذا القطاع في تقدير عمر الجريان وانتظامه ، في الصورة الحديثة التي اكتمل بها بحر الجبل كحلقة أساسية في الجريان النيلي العام . ويكون ذلك مبنيا على اساس أن الجريان في هذا القطاع ، يكون من غير شك ضروريا للجريان في القطاع الثالث ، الذي يمتد صوب الشمال فيما وراء موقع رجاف .

وإذا انتقلنا إلى القطاع الثالث والأخير الذي يتضمن الحيز فيما بين رجاف وبحيرة نو وفم السوباط ، نجد أنفسنا في مجال للتناقض الشديد . ويعبر عن هذا التناقض متابعة صورة المجرى التي تتضمن كل معنى من معاني الشيخوخة والقدم من ناحية ، ومتابعة النتيجة التي قلنا أنها تتضمن تصوير الجريان فيه حديثا لا يرجع إلى أبعد من أواخر البلايستوسين مثل هذه الحالة ألا نعتبر الانحدار الهادئ ، وتعرض النهر للتثني دليلا على الشيخوخة ، لأن طبيعة شكل الحوض وطبيعة الماء الذي يخلو من المواد العالقة بعد التدفق من بحيرة ألبرت ، لاتعطي للنهر فرصة للنحت ، الذي من شأنه أن يعمق المجرى ، أو للإرساب الذي يقيم الجسور . ويحدد الحيز الواضح الذي يتضمن الجريان . ونحن لانملك على ضوء النتائج التي استخلصناها من الدراسة في القطاع السابق ألا أن نتصور الجريان في القطاع الأخير ، حديثا من حيث انتظام الجريان ، ومن حيث تدفق المياه عن الهضبة الاستوائية ، ومن حيث اكتمال الصورة العامة التي دخل بها بحر الجبل ، ضمن الصورة العامة المستجدة للنظام النهري النيلي .

وإذا كان من الطبيعي أن ننتقل إلىدراسة النيل الأبيض ، ومتابعة تاريخ الجريان في هذا القطاع من النيل العظيم ، على اعتبار أنه الحلقة التالية مباشرة للجريان النيلي في بحر الجبل والاستمرار الطبيعي له ، فإن ثمة ضرورة ملحة تقتضي بتأجيل هذه الدراسة إلى حين متابعة الدراسة في قطاع آخر . وتستهدف المتابعة في هذا القطاع الآخر دراسة تكوينات أرض الجزيرة المحصورة بين مجرى النيل الأبيض من ناحية ، ومجرى النيل الأزرق من ناحية أخرى .

وما من شك في أن دراسة هذه التكوينات من شأنها أن تتمخض عن نتائج مهمة من وجهة النظر الموضوعية ، في مجال متابعة قصة الجريان النيلي واكتمال الصورة العامة لهذا الجريان . وهي في نفس الوقت الذي تلقي فيه الأضواء على تاريخ الجريان في النيل الأزرق وفي نطاق الأرض السودانية ، تضع أيدينا على نتائج أصلية تنفي فكرة بحيرة السد نفيا قاطعا . هذا بالإضافة إلى أنها يمكن أن تكون الوسيلة المثلى ، في مجال استخلاص الحصيلة التي يمكن أن تصل عن طريقها إلى التقدير المقارن ، بين تاريخ الجريان النهري في كل من النيلين الأزرق والأبيض من ناحية ، وتاريخ الاقتران بينهما ومواصلة الجريان والتدفق في اتجاه الشمال ، وتحقيق الصورة الكاملة للجريان النيلي الرئيسي من ناحية أخرى .

وفي مجال دراسة تكوينات أرض الجزيرة وتحديد العوامل أو العامل ، الذي أسهم في تكوينها وإرسابها ، نشير إلى أن الآراء قد حددت كل معنى من معاني التناقض والاختلاف الشديد ، بين جمهرة كبيرة من الباحثين ، وقد ذهب بعض الباحثين ، إلى القول بأن هذه التكوينات قد تمخض عنها فعل ونشاط الإرساب الهوائي القاري ، على حين أن البعض الآخر قد تصور أنها من فعل الإرساب المنتظم الرتيب في بحيرة احتلت قطاعا كبيرا ، من الأرض السودانية جنوب خط عرض الخرطوم .

وما من شك في أن جربهام كان على رأس الذين تصوروا تكوينات أرض الجزيرة ، في صورة من الصور التي تمخض عنها الإرساب الهوائي . وقد تصور جربهام أن الرياخ المنتظمة كانت تتمخض عن حمولة عالقة ، صار تراكمها وأرسابها على السطح ، الذي كانت تغطيه صورة غنية بالأخشاب والحشائش ، وتكوين هذه التكوينات ، على نحو يقترب إلى حد كبير من تكوينات اللويس المشهورة .

أما جون بول الذي روج لفكرة بحيرة السد ، في المساحات التي يحددها خط كنتور 400 متر ، فقد دعى إلى تصور الإرساب المنتظم الرتيب في هذه البحيرة ، سببا في افتراض تكوينات الجزيرة بحيرة الأصل .

ومهما يكن من أمر فإن رأيا من هذين الرأين لم يكن له في مجال البحث الأصيل سندا كبيرا ، بقدر ما كان للرأي الذي اتجه إليه قطاع ثالث من الباحثين . وقد تصور هذا القطاع الثالث ومن بينهم فاجلر Vagelar ، أن تكوينات أرض الجزيرة رواسب ، تمخض عنها فعل الإرساب النهري بصفة خاصة .

وقد تكشفت للدراسات والأبحاث في قطاعات متفرقة من تكوينات أرض الجزيرة عن مجموعة من الأدلة الأثرية ، التي يمكن أن يستند إليها البحث في مجال تحديد تاريخ تقريبي لنشأتها ، وتحديد العاهل أو جملة العوامل ، التي أسهمت في أرسابها وتكوينها ، ونذكر من هذه الأدلة الأثرية الهامة البقايا البشرية التي تم العثور علهيا في سنجا على جانب النيل الأزرق ، في موقع أسفل تكوينات أرض الجزيرة مباشرة ، وتتألف هذه البقايا البشرية من بعض الآلات الحجرية الخشنة غير جيدة الصنع ، التي ترجع في الغالب إلى العصر الحجري القديم الأسفل أو الأوسط ، أو مايعادل حوالي أواخر العصر المطير الأول ، كما تم العثور أيضا على بقايا جمجمة بشرية ثبت من فحصها أنها الإنسان عاقل . يوصف بأنه ينتمي إلى المجموعة أو السلالة العنيفة ، التي عرفت باسم السابقة للبشمن Proto Bushman .

ونحن نستخلص من تلك البقايا ، ومن وجودها أسفل تكوينا أرض الجزيرة أن هذه التكوينات أحدث منها ، وأنها ترجع من حيث بداية التراكم والإرساب إلى العصر الحجري القديم ، أو حوالي عصر البلايستوسين الأسفل . كما يمكن أن نستخلص من البقايا والأدلة الأثرية ، التي تم العثور عليها من العصر الحجري الحديث . وهو الوقت الذي كان النيل الأزرق فيه جاريا على منسوب يعلو عن منسوب الجريال الحالي ، بحوالي أربعة أمترا ، ما يمكن أن يعبر عن اكتمال مراحل الإرساب والتكوين فيما بعد البلايستوسين الأعلى .

ويعني ذلك أن الاعتماد على الأدلة الأثرية ، يصور مراحل الإرساب والتكوين ، فميا بين البلايستوسين الأدنى والبلايستوسين الأعلى . وقد يعني من ناحية أخرى أن هناك احتمال كبير . لأن نصور الأرساب وتكوين أرض الجزيرة مرتبطا بالأحداث البنيوية ، التي تمخضت عن الجراين في النيل الأزرق ، وانسياب أو تدفق المياه من الهضبة الحبشية بعد ارتفاع حافة الهضبة الشرقية في حوالي البلايستوسين الأوسط . كما يمكن أن نتصور الارتباط الوثيق بين الإرساب والتكوين بين زيادة المطر التي سجلت في كل من العصر المطير الأول والعصر المطير الثاني . ومهما يكن من أمر هذه النتائج ، فإنها لاتكاد تفي بكل الأضواء الت تصور التفاصيل التي نستهدفها . ومن ثم نحن نفضل متابعة الدراسة على ضوئ من النتائج التي انتهى إليها توتهيل Tothill في الأربعينيات من هذا القرن .

وقد عالج توتهيل تكوينات أرض الجزيرة في دراسة أصيلة ، وبحث عميق من وجهة النظر الحيوية ، بقصد التعرف على العامل والأسلوب ، الذي تمخض عن تكوينها ، وأرسابها في هذا القطاع الكبير المنتشر فيما بين النيلين الأبيض والأزرق . وقد اقتصر بحث توتهيل في أمر القواقع ، ودراستها في حدود الأقدام الستة العليا من هذه التكوينات .

ويمكن القول أنه لجأ إلى تجميع هذه القواقع ، من قطاعات كبيرة من أنحائها المتفرقة . في المساحلة التي تنتشر في جملتها شمال خط سكة حديد سنار – كوستي ، ويعني ذلك أنه قد حدد مجال بحثه على المستوى الأفقي ، بحيث يتضمن المساحات ، التي حظيت بكل مظاهر الاهتمام نتيجة لزراعة القطن ومتابعة التوسع في الإنتاج الزراعي في مشروع الجزيرة . وما من شك في أن تحديد المستوى الرأسي والمستوى الأفقي ، للدراسة والبحث وتجميع القواقع ، كان يستهدف من ناحية أخرى حصيلة يستفاد منها في مجال دراسات التربة في المساحات المنزرعة .

وقد عثر توتهيل على مجموعة كبيرة من القواقع ، التي يمكن تصنيفها والتميز بينها على اعتبار أو على سبيل الأخذ بالظروف الطبيعية والمناخية ، التي تلائم وجود ، وحياة وصفات كل مجموعة من هذه المجموعات ، وتمصل المجموعة الأولى بعض القواقع البرمائية ، على أن المجموعة الثانية قد تضمنت القواقع البرية . أما القواقع في الممجموعتين الثالثة والرابعة فهي في جملتها من قواقع المياه العذبة الجارية في الأنهار . وكان الفرق بينها أن قواقع المجموعة الثالثة يلائمها الجريان الهادئ والمياه شبه الراكدة ، على حين أن قواقع المجموعة الرابعة يلائمها الجريان والتدفق السريع ، وحركة المياه على المناسيب العالية في مراحل الفياضانات العالية .

ويمكن للباحث – على كل حال – على ضوء من دراسة نموذج من كل مجموعةمن هذه المجموعات المتباينة ، أن يتعرف على نتائج هامة بشأن وجودها وانتشارها والصفات المناسبة لحياتها ، وعلاقتها بالجريان في النيل الأزرق والنيل الأبيض من ناحية ، وعلاقتها باحتمالات التغير الذي طرأ على المطر المحلي ، من زيادة ونقصان في عصور المطر والجفاف من ناحية أخرى .

وتمثل قوقعة أمبولارية Abomlaria ، نموذجا للمجموعة الأولى من القواقع البرمائية ، في تكوينات أرض الجزيرة . وقد عثر عليها على المستوى الأفقي في مواقع كثيرة قريبة من مجرى النيل الأزرق ، وفي قلب أرض الجزيرة ذاتها . كما تحقق من انتشارها ووجودها على المستوى الرأسي ، بصورة شبه منتظمة في الأقدام الستة العليا ، التي أخذت منها القطاعات . وقد تبين له أن دورة حياة بعض هذه القواقع البرمائية ، لم تكن مكتملة تماما .

ويمكن للباحث أن يستخلص من ذلك كله أن قوقعة امبولاريا كانت تتطلب مطرا غزيرا ، أوفر من المطر في الوقت الحاضر . وربما أدى العلم بوجود هذه القواقع وانتشارها في الوقت الحاضر ، جنوب خط العرض 10º شمالا ، في أطراف إقليم الجزيرة الجنوبية إلى تصور المطر السنوي في أرض الجزيرة في الوقت الذي وجدت ، أو عاشفت فيه تلك القواقع ، مساويا لكمية المطر السنوي في المساحات القريبة من مجرى نهر السوباط .

ويذكر دكتور حزين أن عدم اكتمال دورة الحياة بالنسبة لبعض هذه القواقع ، يدل من ناحية أخرى على أن المطر لم يكن يسقط على مدار السنة ، أو في كل شهر من شهورها . وقد يعني ذلك افتراض فترة من السنة يتناقص فيها المطر تناقصا واضحا ، وبصورة مفاجأة وسريعة .

ويستخلص هذا الافتراض الذي يعبر عن صورة من صور المطر الفعلي الغزير ، من علمنا بأن هذه القواقع كانت عندما يتناقص المطر بصورة مفاجئة ، لاتجد الفرصة التي تمكنها من الهجرة إلى المجاري النهرية ، أو الفرصة التي تمكنها من أن تدفن نفسها في الطين ، واستكمال دورة حياتها . ويعني ذلك – على كل حال – أن الجريان النهري السطحي والمستنقعات ، التي كانت تنتشر على السطح ، لم تكن تشغل مساحات كبيرة من سطح أرض الجزيرة بصفة عامة .

أما قوقعة ليموكولاريا Limicolaria Flammata فتمثل نموذجا من قواقع المجموعة الثانية البرية ، والتي ارتبطت حياتها ومدى انتشاهرا باليابس بصفة عامة . وقد عثر توتهيل على هذه القواقع ، في مساحات من الأرض المرتفعة نسبيا . عن المجرى النهري للنيل الأزرق . كما تبين وجودها أيضا على مقربة من مجرى النيل الأبيض . ومع ذلك فإنها على المستوى الأفقي كانت تنتشر وتعيش بكثرة ملحوظة في الأراضي المرتفعة القريبة من مجرى النيل الأزرق ، بالقياس إلى انتشارها ووجودها على الجانب الآخر ، في المساحات التي كانت تقع على مقربة من مجرى النيل الأبيض . أما من حيث توزيعها وانتشارها على المستوى الرأسي في القطاعات التي تناولها البحث ، فيذكر أنها تكون كثيرة في است بوصات العليا ، ثم يتناقص وجودها من حيث العدد كلما توغلنا من أعلى إلى أسفل ، وينعدم كل أثر لوجودها تماما على مسافة حوالي خمسة أقدام من السطح .

كما تبين توتهيل أن هذه القوقعة ليس لها وجود بصورة مطلقة ، على السطح الحالي من أرض الجزيرة في الوقت الحاضر ، وقال أنها تظهر في الوقت نفسه في مساحات من جنوب شرق السودان ، في ارض البطانة العليا جنوب خط عرض القضارف ، التي يتراوح المطر فيها بين 400 و 800 ملليمترا ، ويسقط في أثناء حوالي خمسة شهور من الصيف في كل عام .

ويستخلص الباحث من ذلك أن سمات الظروف المناخية ، التي عاشت فيها قواقع ليموكولاريا ، وانتشرت على سطح تكوينات أرض الجزيرة تختلف من غير شك عن سمات الظروف المناخية السائدة في الوقت الحاضر ، من حيث كمية المطر السنوي ، وربما من حيث طول الفترة التي تسقط فيها تلك الكمية ، والملاحظة الثانية التي يسجلها توتهيل بشأن وجود وحياة هذه القواقع ، أنها كانت تعيش على لاسطح أما انتشارها على المستوى الرأسي ووجودها أسفل البوصات الستة العليا فقد ترتب في الغالب ، على التسرب في الشقوق التي تظهر في تلك التكوينات ، عندما تتعرض للجفاف في الموسم الذي يتوفق فيه سقوط المطر .

ومهما يكن من أمر فإن وجود قواقع ليموكولاريا ، وانتشارها على النحو الذي تبينه توتهيل ، يعبر عن معاني ونتائج هامة ، فهي من غير شك قد نشأت في فترة من الفترات ، التي تضمنت زيادة في كمية المطر السنوي على الأقل ، بالقياس إلى المطر السنوي في الوقت الحاضر . ومع ذلك فإن الذي لاشك فيه أيضا أن هذه الزيادة في المطر السنوي ، كانت أدنى من أن تلائم حياة قواقع امولاريا البرمائية . كما أن وجودها وحياتها على السطح في حدود بوصات محدودة ، من شأنه أن يعبر من ناحية أخرى ، عن أنها كانت في انتشارها تالية في الغالبة لإرساب وتكوين أرض الجزيرة بصفة عامة . ويغلب على الظن بعد العثور على نماذج من قواقع ليموكولاريا ضمن البقايا الأثرية ، في الرواسب النهرية للفيضانات العالية على ارتفاع ، حوالي أربعة أمتار عن منسوب الجريان ، في النهر الحالي قرب الخرطوم ، أنها كانت تعيش في العصر الحجري الحديث . ويعني ذلك أن زيادة المطر التي تمثلت في فترة تحسن المناخ في العصر الحجري الحديث ، هي التي أدت إلى توفير الظروف المناخية الملائمة لحياة ليموكولاريا ، وانتشاهرا في هذه المرحلة المتأخرة من مراحل تكوين ارض الجزيرة .

وبقدر ماتعبر قوقعة امولاريا ، عن حالة المناخ وصفة المطر السنوي ، وعن صورة الجريان النهري الهزيل ، في البداية المبكرة للمراحل الأولى لإرساب وتكوين الأقدام الستة العليا من أرض الجزيرة ، فإن قوقعة ليموكولاريا تعبر عن نفس المعاني ، في بدايات المراحل الأخيرة في تكوين هذه الأقدام العليا ، من تكوينات الجزيرة .

وتمثل قوقعة كوربيكولا Corbicula Artint نموذجا من المجموعة الثالثة ، التي تعبر عن انتظام الجريان النهري ، لأنها من الأنواع التي تعيش في مياه الأنهار العذبة الجارية ، وقد عثر توتهيل على هذه القواع النهرية ، في المستوى الأفقي على الأطراف الشرقية والغربية ، من تكوينات أرض الجزيرة ، وعلى مقربة من المجاري النهرية ، لكن من النيل الأبيض والنيل الأزرق على السواء . أما على المستوى الرأسي من أعلى إلى أسفل فقد عثر توتهيل ، على قواقع كوربيكولا منتشرة في شبه انتظام رتيب ، في كل قدم من الأقدام الست العليا ، موضع الدراسة والبحث . هذا بالإضافة إلى أنه قد تحقق من عدم وجودها أو انتشارها ، ضمن التكوينات فوق منسوب 382 مترا عن مستوى سطح البحر ، بأي حال من الأحوال .

ويمكن للباحث الذي يضع هذه البيانات في اعتباره ، أن يستخلص جملة من النتائج التي تكون وثيقة الصلة بالجريانالنهري ، الذي أدى إلى الظروف الطبيعية المناسبة لحياة قواقع كوربيكولا ، ويمكن أن نتصور على كل حال ، وجود المجاري النهرية ، وأن نتصور جريانها كان منتظما بقدر ما كان محدودا ومحددا ، بدليل عدم وجود أي أثر لقوقعة كوريكولا على منسوب أعلى من منسوب 382 مترا .

وما من شك في أن تصوير انتظام الجريان طول العام والذي يعبر عنه فهو دائم الجريان أو أكثر من نهر واحد يتضمن معنى من شأنه أن يصور قيمة الجريان النهري والإرساب الذي يتمخض عنه هذا الجريان في تكوين وإرساب بعض تكوينات أرض الجزيرة على الأقل . بل لعلنا نجد في وجود هذه القواقع بشكل رتيب في كل الأقدام الستة العليا ، دليلا ماديا هاما في مجال تصور استمرار الجريان ، في كل مرحلة من مراحل إرساب هذه البوصات ، من البداية المبكرة إلى النهاية المتأخرة .

وقد يعبر ذلك أيضا عن انتظام الجريان بصورة خاصة في مجرى النيل الأبيض . ومع ذلك فليس من الضروري أن يكون في ذلك التصور وما يعبر عنه ، دليلا على الجريان النهري في النيل الأبيض ، على نفس النمط أو الصورة التي تتمثل في الوقت الحاضر . ولكنه يعني على كل حال أن حيز هذا المجرى النهري ، كان يتضمن جريانا مائيا في صورة من الصور ، حتى ولو اختلفت في بعض ملامحها ، عن صورة الجريان الحالي .

أما قوقعة كليوبطرا Cleopatra Bulimoides فإنها تمثل النموذج من المجموعة الرابعة ، التي تتضمن القواقع التي تعيش في مياه الأنهار الجارية الغزيرة المياه . وربما كان ذلك قرينة على أنها تتطلب الماء الجاري جريانا سريعا ، بقدر ماتتطلب ارتفاع مناسيب الجريان والفيضانات العالية . وهي على كل حال تعبر عن جملة من المعاني والاستنتاجات ، في مجال البحث عن أصل وتكوين تكوينات السطح في أرض الجزيرة ، وتصور العلاقة بينها وبين الجريان النهري .

وقد عثر توتهيل على قواقع كليوبطرا بكثرة ، في معظم القدمين الخامس والسادس من الأقدام الست العليا ، التي أجرى عليها دراسته ، ويعني ذلك انها من حيث الانتشار ، تزيد من حيث العدد على الامتداد العام ، للمحور الرأسي من أعلى إلى أسفل . أما من حيث الوجود والانتشار على المستوى الأفقي ، فقد تبين أنها لاتوجد بأي حال من الأحوال ، إلا في حدود مسافة حوالي 25 ميلا من مجرى النيل الأزرق ، كما أنها لاتوجد أيضا وبصفة قاطعة على منسوب يزيد عن 382 مترا عن مستوى سطح البحر . كما تمخض البحث أيضا عن وجودها على مدى أقل وبكثافة أدنى ، على صعيد أرض الجزيرة ، على مقربة من الحيز الذي يتضمن الجريان في النيل الأبيض .

ويمكن أن نستخلص من هذا الوجود والتوزيع على تلك الصورة ، أن وجود وانتشار قواقع كليوبطرا ، كان من غير شك مرتبطا ارتباطا وثيقا بالجريان النهري في النيل الأزرق ، وفيض الماء الغزير على المناسيب العالية ، التي وصل مداها إلى حوالي مسافة 40 كيلومترا ، من حيز المجرى الحالي . كما أن الوجود على مقربة من مجرى النيل الأبيض ، قد يعبر عن معنى يتضمن زيادة حجم الماء وزيادة سرعة الجريان إلى حد ما ، في الوقت الذي عاشت فيه تلك القواقع .

ويمكن القول أن على كل حال ، أن حجم الجريان وحدوث الفيضانات العالية لا يمكن أن نربط بينها وبين زيادة في كمية المطر السنوي المحلي على أرض الجزيرة ، لأنه كانت هذه الزيادة محلية النشأة ، لأدى ذلك إلى زيادة في حجم الماء على كل سطح أرض الجزيرة ، في كل المساحات وعلى كافة المناسيب ، وقد أدى بالتالي إلى احتمال وجود القواقع على أعلى من منسوب 382 مترا . كما كان التناقص في عدد القواقع على المحور الرأسي من أسفل إلى أعلى ، دليلا على تناقص في حجم الجريان ، وتغير على مناسيب الجريان وحجم كتل الماء الجارية في النهر . وهذا التناقص لا يمكن أن يكون مرتبطا إلا بتناقص في حجم الفائض من الموارد ، التي كانت تجمع الإيراد العظيم وتتسبب في تلك الفيضانات العالية من ناحية ، وفتح خانق سلوكه وانسياب الجريان صوب الشمال من ناحية أخرى .

ويغلب على الظن أن الفيضانات العالية وثيقة الصلة بتدفق الماء من بحيرة يايا في أواخر البلايستوسين ، كما نتصور زيادة المطر في العصر المطير الثاني ، سببا في استمرارها مع تناقص واضح ، في مناسيب الجريان في البلايستوسين الأعلى ، ويتناسق هذا التصور ، مع تناقص وجود القواقع – كما قلنا – كلما ارتفعنا على المتسوى الرأسي في الأقدام الستة العليا . كما يتناسق أيضا مع بداية انصراف مياه النيل الأزرق ، عن طريق سبلوكة إلى مجرى النيل الأعظم .

ومهما يكن من أمر ، فإن حصيلة هذه الدراسات الأصيلة التي عالجت الطبقة العليا ، من تكوينات أرض الجزيرةمن وجهة النظر الحيوية ، قد أدت إلى نتائج هامة يمكن أن تعتمد عليها في مجال متابعة قصة الجريان النيلي بصفة عامة .

النتيجة الأولى وتتمثل في دليل قاطع ، يعبر عن استحالة تكوين أو إرساب تكوينات أرض الجزرة ، في بحيرة على النحو الذي تصوره جون بول ، ويعبر عن استحالة تكوينها بفعل أو نشاط الإرساب الهوائي ، وهذا معناه أن إرساب وتكوين الطبقة السطحية من تكوينات أرض الجزيرة ، كان نتيجة مباشرة للإرساب النهري بصفة خاصة ، مع احتمال الشتراك الأرساب الهوائي إلى حد ما في الصورة .

النتيجة الثانية وتتمثل في فهم بعض إرساب وتكوين الأقدام الست العليا من تكوينات الجزيرة ، والتي نتبين منها أنه قد تم في ظروف طبيعية مختلفة تماما ، عن جملة الظروف الطبيعية السائدة في الوقت الحاضر . ويمكن أن نتصور وجود قواقع امولاريا معبرة عن بداية الإرساب والتكوين ، في فترة زيادة المطر التي تمثلت في العصر المطير الأول . ولعلنا أدركنا أن زيادة المطر قد منحت هذه القواقع البرمائية فرصة الحياة ، كما أدركنا أن زيادة المطر في الوقت نفسه ، لم تكن تتمخض في الغالب ، إلا عن جريان نهري هزيل ، بالنسبة لصورة الجرين في مرحلة تالية ، أعطى الفرصة لوجود قوقعة ليموكولاريا .

وهذا على كل حال تقدير سليم ، لأن النيل الأزرق لم يكن قد انساب بعد من أحباسه العليا بفيضاناته العالية ، ولأن بحيرة يايا كانت في العصر المطير الأول ، أو مايعادل عصر البلايستوسين الأدنى موجودة ، أما المرحلة التالية فهي التي شهدت أخطر مراحل التطور والإرساب لأنها تضمنت الجريان النهري ، الذي حقق الفيضانات العالية من الروافد الحبشية ، التي أسهمت فيه إرساب وتكوين تكوينات أرض الجزيرة .

ونحن على كل حاي يمكن أن نصور احتمالات التوافق الكامل ، بين إرساب وتكوين هذه التكوينات في أرض الجزيرة . وبين انسياب المياه بغزارة على سطح الهضبة ، نتيجة تدفق بحيرة يايا في حوالي عصر البلايستوسين الأعلى . ويعني ذلك أن أرساب هذه التكوينات في الأقدام الست العليا ، كان بالضرورة تاليا لارتفاع الحافة الشرقية للهضبة الحبشية ، التي تدفقت فيه المياه من بحيرة يايا ، وحققت الجريان الهائل للنيل الأزرق ، كما نتصور المطر في العصر المطير الثاني ، سببا في استمرار الفيضانات التي تدلل عليها الظروف ، التي أثرت على انتشار قوقعة كليوبطرا ، في الأقدام الست العليا من تكوينات أرض الجزيرة .

هكذا أسهم جريان النيل الأزرق بقدر كبير من الرواسب ، في تكوين تكوينات أرض الجزيرة . كما أسهمت بعض العوامل الأخرى ، وخاصة بالنسبة لتكوين الأجزاء والمساحات ، التي تعلو عن منسوب 382 مترا فوق منسوب سطح البحر . ويمكن القول أن النيل الأزرق ، قد أنفق وقتا طويلا في إرساب وتكوين تلك التكوينات ، وتمهيد مجراه المحدد في أرض الجزيرة ، حتى استطاعت مياهه أن تصل في انتظام ووفرة إلى مجرى النيل الأعظم . وقد لانستطيع أن نصور قيمة الجريان ، ولا حجم الرواسب ، ولا القدر الذي تمخض عنه المجرى النهري ، الذي تصورنا احتمال وجوده فيما قبل البلايستوسين الأوسط ، واكتمال الصورة العامة للنيل الأزرق وزيادة حجم الجريان فيه زيادة كبيرة . ومع ذلك فلابد أنه كان يقوم بدور ما من حيث الإرساب . وأن هذا الدور كان بمثابة البدايات المبكرة للإرساب والتكوين في المراحل التالية .

وليس ثمة شك في أن أخطر مرحلة من المراحل ، من حيث الإرساب والتكوين ، كانت في حوالي البلايستوسين الأوسط ، وأوائل البلايستوسين الأعلى ، وهي الفترة فيما بين ارتفاع الحافة الشرقية للهضبة الحبشية ، وتغير درجة الانحدارات وزيادتها زيادة كبيرة وتدفق مياه بحيرة يايا من ناحية ، وتكون خانق سبلوكة الذي حقق انصراف وسحب حجم الجريان في اتجاه الشمال من ناحية أخرى . حيث أدى الانحدار الشديد ومياه يايا المتدفقة الغزيرة إلى نحت شديد ، حمل النهر بأحجام كبيرة من الرواسب والحمولة العالقة ، التي كان يرسبها ويتخلى عنها على مسطح أرض الجزيرة .

ويمكن أن نقرر أن قدرات النيل الأزرق ونشاطه في الإرساب والتكوين ، قد تأثرت من غير شك بالنتيجة الهائلة التي أدى إليها النحت التراجعي في مجرى النيل النوبي ، وترتب عليه شق خانق سبلوكة ، وانسياب الجريان صوب الشمال . كما نتصور أن تناقص المطر بصفة عامة ، فيما بعد البلايستوسين الأعلى ، كان من شأنه أيضا أن يقلل من قدرات النيل الأزرق ، وحجم الجريان وحجم الحمولة العالقة به ، وبالتالي فاعليته واستمراره في الإرساب على سطح أرض الجزيرة .

ومهما يكن من أمر ، فإن اتصال مجرى النيل الأزرق بالنيل الأعظم حقق دفعا قويا ، من وجهة نظر الجريان النهري النيلي ، لأنه يعني إضافة المزيد من الماء إلى الإيراد المائي العام ، ولأنه يعني تغيارت خطيرة من حيث التأثير على النهر ، وعلى صورته العامة الجديدة ، من وجهة النظر الهيدرولوجية . وكان ذلك على كل حال سببا مباشرا من الأسباب التي أدت إلى تحول الجريان في مجرى النيل الأزرق إلى التعميق والحفر والنحت الرأسي ، بحيث لم تعد لمياهه القدرة ، على أن تفيض على سطح أرض الجزيرة ، التي تقع الآن على منسوب أعلى ، من منسوب فيضان مياه النيل الأزرق في الوقت الحاضر .

وما من شك أيضا في أن شق خانق سبلوكة ، كان مدعاة لانسياب مياه النيل الأبيض ، في نفس الاتجاه إلى الشمال . وقد يفصح ذلك عن معنى معاني اكتمال صورة الجريان النيلي كله ، والاقتران بين النيلين الأزرق والأبيض . ولكننا في الوقت نفسه ، لا نجد في هذه النتيجة ما يصور لنا أحداث القصة بالنسبة للنيل الأبيض نفسه ، وكل الذي تبيناه حتى الآن ، هو تصوير الخطوط العريضة ، التي تعبر عن قصة النيل الأزرق وارتباطها الوثيق بالأحداث البنيوية في الهضبة الحبشية في البلايستوسين الأوسط ، الذي يعاد فترة الجفاف ، ثم استمرارها في البلايستوسين الأعلى الذي تضمن العصر المطير الثاني .

ويعني ذلك أننا حتى بالنسبة للنيل الأزرق ، مازلنا نفتقر إلى مزيد من الدراسة التي تصور لنا احتمالات انصراف المياه من الهضبة الحبشية ، قبل ارتفاع الحافة الشرقية من ناحية ، وتصور لنا حصيلة المطر الغزير ، وزيادته الكبيرة في عصر البلايستوسين الأدنى من ناحية أخرى .

وإذا انتقلنا إلى متابعة الدراسة بشأن قصة الجريان في مجرى النيل الأبيض ، الذي قلنا أنه يمثل استمرارا للجريان في مجرى بحر الجبل ، ويعبر عن قطاع هام أو حلقة من الحلقات ، التي تألقت منها الصورة العامة للجريان النيلي ، فيجب أن نضع في اعتبارنا أن الدراسات والأبحاث الأصيلة ، لم تتم فيه على أي صورة من الصور المؤدية إلى النتائج الإيجابية السليمة .

وعلى الرغم من ذلك النقص الشديد ، فإن هناك أكثر من نتيجة ، قد انتهت إليها الدراسة في حوض ومجرى بحر الجبل ، وانتهت إليها الدراسة في شأن تكوين وإرساب تكوينات أرض الجزيرة . ويمكن الاعتماد علهيا لأنها تؤدي إلى أضواء خافتة على بعض الافتراضات في مجال متابعة قصة الجريان في النيل الأبيض وتصويرها تصويرا عاما .

النتيجة الأولى وتتمثل في العلم بأن بحر الجبل حديث وطارئ على حوض الغزال ، وأنه لم يتكون أو يظهر في صورته المكتملة الحالية ، إلا فيما بعد عصر البلايستوسين الأوسط ، لأنه جاء تاليا للتصدع ، الذي أدى إلى تدفق المياه والجريان من هضبة البحيرات النيلية . وهذا معناه أيضا أنه يجب أن نتصور جريان النيل الأبيض ، والذي يعتبر استمرارا للجريان ، في مجرى بحر الجبل في الصورة العامة في الوقت الحاضر ، كان تاليا لتاريخ الجريان في هذا المجرى الأخير أي فيما بعد البلايستوسين الأوسط .

أما النتيجة الثانية وهي التي نستخلصها من دراسات توتهيل في تكوينا أرض الجزيرة ، فإنها تعبر تعبيرا واضحا عن وجود النيل الأبيض ، وجريان الماء في الحيز الذي يتضمن هذا المجرى في البلايستوسين الأوسط ، وربما قبل ذلك العصر . ولعلنا نجد في مجرى النيل الأبيض نفسه بعض الصفات التي تعبر عن كل معنى من معاني القدم والشيخوخة . وتتمثل تلك الصفات التي تعتبر قرينة على القدم ، في المواضع التي تتضمن المخاضات ، التي يكون عندها مجرى النهر ضحلا ، وتكون تكوينات القاع صلبة قوية . ولعلها تبدو في صورة جنادل ، أجهز عليها النحت الشديد وفعل الماء ، حتى أزال معالمها ، وحولها إلى تلك المرحلة المتقدمة .

ومهما يكن من أمر ، فإن هاتين النتيجتين فيهما كل مايعبر عن معاني التناقض الشديد ، ويفهم ذلك التناقض على اعتبار ، أنه نتيجة مهما تعبر عن احتمال وجود النيل الأبيض وجريان الماء فيه قبل البلايستوسين الأوسط ، على حين أن النتيجة الأخرى تعبر عن هذا الاحتمال والوجود فيماب عد البلايستوسين الأوسط ، وبعد جريان بحر الجبل وتدفق المياه من الهضبة الاستوائية .

وتفسير هذا التناقض بين هاتين النتيجتين ، والتباين المترتب على التاريخ للجريان في النيل الأبيض ، لايكاد يتأتى إلا إذا تصورنا أن الجريان المائي ، في حيز المجرى الذي يتضمن النيل الأبيض ، في الصورة المتكاملة للنيل في الوقت الحاضر ، ومنذ عصر البلايستوسين الأوسط أو الأعلى ، كان يتمثل في صورة أخرى غير الصورة ، غير الصورة التي هو عليها الآن . وقبل أن نشير إلى ملامح تلك الصورة المحتملة ، نذكر أن النيل الأبيض على امتداد المجرى الطويل من الجنوب إلى الشمال ، يعبر عن صفات النهر الذي يتميز بكل مميزات المجرى الأوسط في النهر العادي .

ويلاحظ الباحث أن مجراه يتأثر في الاتجاه العام من الجنوب إلى الشمال بعوامل كثيرة . فهو يتأثر أول الأمر من غير شك بانتشار المرتفعات التي تحف بحوضه من على الجانبين ، وخاصة تلك التي تحدد الفتحة أو الثغرة العريضة ، التي تربط بين حوض الغزال وحوض النيل الأبيض ، الذي يبدو في صورة الذراع المنتشرة صوب الشمال بضعة مئات من الكيلومترات ، وهذ المرتفعات التي نفصدها ونتصور تحديدها الثغرة ، وهي مرتفعات جبال النوبا في جنوب كردفان من ناحية الغرب ، ومرتفعات جنوب إقليم الجزيرة من ناحية الشرق . ويفهم تأثير هذه المرتفعات على اعتبار أنها قد ألزمت الجريان النهري ، بالمرور في تلك الثغرة المحدودة في اتجاه الشمال المباشر دون أي اتجاه آخر .

ويلاحظ الباحث أن مجرى النيل الأبيض ، يتأثر مرة أخرى بفعل جريان بعض الروافد النهرية ، التي تقترن به من على الجانبين تأثيرا واضحا ، نتبينه في الاتجاهات وتفاصيلها الرئيسية . ونذكر من هذه الروافد النهرية خور عدار ، الذي يقترن بالمجرى قرب موقع قرية ملوط ، ويفرض على النيل الأبيض الاتجاه بضعة كيلومترات في نفس الاتجاه الذي يجري فيه صوب الغرب والشمال الغربي ، ثم يعتدل المجرى بعدها مرة أخرى إلى الاتجاه العام صوب الشمال .

ثم هو يتأثر مرة أخرى في القطاع ، فيما بين بلدة كوستى وبلدة الدويم ، بالكثبان الرملية التي تمتد على منسوب يتراوح بين 20 و 50 مترا عن منسوب السطح العام ، على صورة سلاسل متلاحقة من الجنوب والجنوب الغربي إلى الشمال والشمال الشرقي . وهذه الكثبان الرملية المثبتة ربما أوحت بنتائج هامة من حيث تاريخ ذلك التثبثيت المرتبط بزيادة المطر في عصر من عصوره . وهي على كل حال قد أدت إلى تقوس شكل المجرى ، وهو يحف بالكثبان من ناحية الشرق .

ويعني ذلك من وجهة النظر الموضوعة أن مجرى النيل الأبيض ، جاء تاليا لنشأة هذه الكتيان الرملية ، وانتشارها على المحاور المذكوره وتثبيتها . وهنا أيضا تنبثق مشكلة دراسية هامة تضاف إلى التناقض الذي تبيناه في صورة الجريان النهري ، وتاريخ جريان النيل الأبيض . وتتطلب هذه المشكلة دراسات وأبحاث ، بالقدرة الذي يقدع الشك باليقين ، والذي يحقق نتيجة أصيلة في شأن تحديد التاريخ المعين لنشأة الكثبان ، وتحديد دور المطر الذي أدى إلى تثبيتها . ومع ذلك فإن الاحتمال الذي يتناسق مع كل النتائج ، هو أن نتصور أن تثبيت هذه الكثبان ، كان في حوالي بداية العصر المطير الأول في فجر البلايستوسين الأدنى .

ومهما يكن من أمر هذه المشكلات الدراسية فإن النتقاض ، هو الذي يقتضي كما قلنا تفسيرا معينا نتصوره في جريان مائي في مجرى النيل الأبيض ، فيما قبل البلايستوسين الأوسط ، على نحو معين أو في صورة مختلفة أخرى . ويمكن القول أن قوام الجريان في تلك الصورة المفترضة ، كان في عكس الاتجاه العام للجريان المائي في الوقت الحاضر . ويكون ذلك بمعنى أن مجرى هذا النهر ، الذي تتضمنه تلك الصورة كان يجري على محور عام من الشمال إلى الجنوب ، صوب حوض الغزال .

وربما استغرق هذا الجريان العكسي فترة نحتت خلالها بعض الصخور الصلبة في مناطق الجنادل ، التي تخلفت عنها الأجزاء الضحلة ، التي يتضمنها المجرى الحالي في القطاعات الضحلة المعروفة باسم المخاضات . ويجيب علينا في هذه الحالة أن نتصور زيادة المطر في العصر المطير الأول ، سببا في تجميع الفائض والإيراد الذي كان يجري في ذلك المجرى . ويعني ذلك أنه كان يمثل حيزا يتضمن الجريان في حوالي البداية المبكرة للبلايستوسين الأدنى ، أو في حوالي ذيل عصر البلايوسين . ومجرى النيل الأبيض ليس فيه على كل حال مايمكن أن يعبر عن أنه أحدث من تكوينات أم روباة التي يجري من فوقها ، اللهم إلا إذا كان مجرد الجريان دليلا على ذلك .

وإذا كانت تكوينات أم روابة ، لاترجع إلى أبعد من حوالي عصر البلايستوسين الأعلى أو فجر البلايستوسين ، فإن ذلك لا يتناقض مع تصويرنا للجريان في تلك الصورة العتيقة ، التي ربما استغرقت الفترة ، فيما بين البلايستوسين الأدنى والبلايستوسين الأوسط أو الأعلى . ويمكن القول أن هذه الصورة كانت تمهد تمهيدا واضحا للجريان في الصورة التالية ، التي تمثلت وحدثت بعد جريان الماء في كل من بحر الجبل ونهر السوباط .

وربما كان جريان الماء في نهر السوباط ، على الصورة التي اقترن بها الجريان النيلي ، قد بدأ في وقت مبكر عن الوقت الذي جرى فيه بحر الجبل . وأسهم من أجل ذلك ، في التمهيد للتغيرات الكاملة التي طرأت على الصور العتيقة . أما التغير الكامل الذي أدى إلى وضع النيل الأبيض ، في الصورة التي يتضمنها الجريان النيلي الحالي ، فهو الذي حدث بعد تدفق مياه الهضبة الاستوائية من فتحة فولا ، وبعد جريان بحر الجبل في حوالي مابين أواخر البلايستوسين الأوسط أو بداية البلايستوسين الأعلى .

وقل أن قصة الجريان النيلي في كل المجاري ، جنوب خط عرض الخرطوم في الأرض السودانية ، تتطلب مزيدا من الدراسات والأبحاث الأصيلة التي من شأنها أن تضع حدا للغموض ، وتحقق تفسيرا لكثير من الأمور التي تفتقر إلى الأدلة . ولعل أخص ما تفتقر إليه القصة ، عناصر تلقي الأضواء على طبيعة العلاقات بين تلك النظم العتيقة ، ووجودها فيما قبل عصر البلايستوسين الأوسط ، والجريان النيلي الحالي في صورته ، التي اكتملت منذ عصر البلايستوسين الأعلى .

قصة النيل في النوبة ومصر

إذا كانت قصة النهر قد استوجبت المرونة والتوسع المكاني والزماني في مجال الحديث ، والتعرف على كل الأحداث التي تمخضت عن الوصول إلى الشكل الحالي لصورة الجريان النيلي ، في كل من هضبة البحيرات والهضبة الحبشية والسهول السودانية جنوب موقع الاقتران بين النيلين الأبيض والأزرق ، فإنا تستوجب مزيدا من المرونة ، ومزيدا من القدرة ، على إدراك كل العوامل الجديدة التي من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من التعقيد .

ويفهم من ذلك كله ، على ضوء العلم بأن صورة الجريان النيلي وقصة النهر في النوبة ومصر ، تتأثر بالإضافة إلى كل العوامل التي أثرت على التطور بالنسبة لسائر الأجزاء الأخرى ، بعاملين هامين هما : احتمالات التغيرات التي تطرأ على مستوى القاعدة من ناحية ، والتغيرات التي تترتب أو تنشأ نتيجة للاتصال بالأحباس النهرية النيلية العليا ، وما يؤدي إليه من حيث إضافة إيراد مائي جديد ، إلى حجم الجريان من ناحية أخرى .

ويعني ذلك أن احتمالات التغييرات التي تطرأ على مستوى القاعدة ، حيث ينتهي أو يصب في البحر المتوسط ، من شأنه أن يؤثر بالضرورة على درجات الانحدار ، وماتترتب عليها من نحت أو إرساب ، والتحول من دورة معينة إلى دورة معينة أخرى ، وهذا التحول الذي ينشأ ويغير فعل النهر من نحت وإرساب ، أو من إرساب إلى نحت وتعميق ، مصدر تعقيد ، لأن الدراسة ومتابعة مراحل قصة الجريان النيلي تقتضي المتابعة الدقيقة لدروات النحت ، أو الإرساب .

أما احتمالات التعقيد الناشئة من التغيرات ، التي يتمخض عنها الاتصال أو انضمام روافد نهرية جديدة ، فتفهم على أساس أن هذا الانضمام من شأنه أن يؤدي إلى زيادة حجم الجريان وارتفاع المناسيب . وما من شك في أن زيادة كتلة الماء وحجم الجريان يؤدي بالضرورة إلى التأثير علىقدرة النهر علىالنحت أو على الأسباب . ويعني ذلك أن قصة النيل في النوبة ومصر ، تقتضي الاهتمام بمدى تأثر الجريان النيلي بالانضمام أو الاتصال بين المجاري النهرية النيلية جنوب خط عرض الخرطوم والمجرى شمالها ، وبكل الأحداث البنيوية التي أثرت على النظاما لمائي ، في كل من الهضبة الحشبية والهضبة الاستوائية .

ونحن على كل حال ندرك الآن أن احتمال الاتصال ، بين الجريان النيلي في النوبة ومصر من ناحية ، والجريان النهري جنوب خط عرض الخرطوم من ناحية أخرى ، كان غير قائم في كل العصور الجيولوجية السابقة لمنتصف عصر البلايستوسين على أحدث تقدير ، ذلك أن حصيلة الدراسات والأبحاث في كافة القطاعات النيلية التي أشرنا إليها ، وتعرفنا من خلالها على التاريخ المناسب ، لوصول الجريان النيلي إلى صورته المكتملة الحالية ، تؤكد أن النصف الثاني من عصر البلايستوسين على الأقل ، هو الذي شهد أهم فصول القصة ، التي تمخضت فيها الأحداث عن ترابط واتصال الحلقات التي تألف منها الجريان النيلي .

ومهما يكن من أمر فإن ذلك الفهم ، يؤدي إلى القول بأن صورة الجريان النيلي في النوبة ومصر ، قد تأثرت في العصور الجيولوجية السابقة لعصر البلايستوسين الأوسط بعوامل معينة ، ثم تأثرت بعد البلايستوسين الأوسط بعوامل إضافية . وقوام هذه العوامل الإضافية يتعلق – كما قلنا – بالاتصال والتدفق الذي تمخض عن زيادة حجم الإيراد المائي ، وتكامل صورة الجريان في كل النيل ، ويتعلق أيضا بالذبذبات التي طرأت على مستوى القاعدة ، الذي ينتهي إليه الجريان في أثناء البلايستوسين . أما فيما قبل عصر البلايستوسين الأوسط ، فإن أهم العوامل التي أثرت على صورة الجريان النيلي في النوبة ومصر فهي : أولا – عامل تغير منسوب مستوى القاعدة عند المصب ، وتأثيره على درجات الانحدار العام للسطح صوب الشمال . ثانيا – عامل الارتفاع الذي تحقق على جانب الأخدود الإفريقي العظيم ، وتمخض عن ظهور جبال البحر الأحمر وانحدارها الواضح ، وفصلها بين حوض البحر الأحمر من جانب ، وحوض النهر في النوبة ومصر من جانب آخر . ثالثا – عامل المناخ وحالة المطر ، ومقدار مايترتب على زيادته أو نقصانه من فائض مائي ، ينساب على منحدرات تلال البحر الأحمر ، ومثل مصدرا أساسيا للجريان السطحي الكائن في تلك الصورة القديمة .

ويمكن للباحث أن يلجأ إلى دراسة تضع في اعتبارها هذه العوامل ونتائجها المتداخلة حينا والمترابطة حينا آخر ، من أجل تحديد بداية قصة الجريان النهري في النوبة ومصر ، وهكذا يكون تصوير علاقة هذه البداية بالنظام النهري للنيل العام ، وتحديد مراحل التطور ، التي أدت إلى الصورة الكاملة للجراين النيلي الكامل . ويمكن للباحث أن يستعين بدراسات بلانكنهورن ، عن جيولوجية مصر في فجر هذا القرن ، من أجل التعرف على النقطة ، التي تبدأ من عندها قصة جريان النيل على وجه التحديد .

والواقع أن بلانكنهورن قد انتهى إلى نتيجة هامة ، صور فيها النظام النهري البائد الذي أطلق عليه اسم النظام النهري النيلي القديم أو الليبي ، Das Libische Ur-Nil . وهو في حقيقة الأمر لم يعثر على حجز المجرى النهري نفسه . الذي يصور هذا النظام العتيق من نظم التصريف المائي والجريان السطحي . ولكنه عثر على رواسب دلتاوية ، تمخض عنها هذا الجريان في شمال غرب الفيوم . وتمتد هذه الرواسب إلى مغارة في جنوب شرق منخفض القطارة . وقد تكشفت دراسة ههذ الرواسب الدلتاوية ، عن بقايا حيوانات كبيرة الحجم من الزمن الجيولوجي الثالث ، كالسلحفاة وعلى هياكل ثدية لحيوانات من نوع الحصان ذو الثلاثة حوافر ، وعن بقايا لحيوانات بحيرة من الأنواع التي تعيش في الخلجان التي تختلفط فيها المياه الملحة بالمياه العذبة .

هذا بالإضافة إلى ما تتضمنه الرواسب الدلتاوية من بقايا نباتية قوامها أشجار ضخمة متحجرة . ويمكن للباحث أن يستخلص من تلك الدراسات في الرواسب الدلتاوية ، التي بلغ سمكها أكثر من 150 مترا ، نتائج هامة عن تكوينها ، وعن الظروف التي أحاطت بهذا التكوين ، من حيث صفات المناخ وصورة شكل السطح العام .

ونذكر من هذه الهامة ، أنه في أعقاب تراجع خط الساحل في اتجاه الشمال ، وانحسار مياه البحر في حوالي النصف الثاني من عصر الأيوسين ، تمثلت صورة من صور الجريان النهري ، الذي أدى إلى إرساب تلك الرواسب الدلتاوية ، التي أشار إليها بلانكنهورن . ما يمكن القول أن البقايا والحفريات التي تضمنتها تلك الرواسب تعبر عن نظام مناخي معين ، كان يتميز بالارتفاع في درجات الحرارة ، بقدر ما تميز بزيادة ملحوظة في كمية المطر السنوي وخاصة في عصر الألوجسين . وهذه الزيادة في المطر ، التي تمخضت عن غنى في صورة النمو النباتي ، هي التي أجرت الماء في النظام النهري المشار إليه .

ويلاحظ الباحث على كل حال أن هذا النظام النهري البائد الذي تمخض عن تلك الرواسب السميكة ، لم يسفر رغم ذلك عن صور من الصور أو دليل يعبر عن شكل المجاري أو الوديان ، الت يكانت تنساب فيها المياه ، وتتضمن الجراين السطحي . وهذا معناه بالضرورة أن الانحدار العام الذي تمثل عليه هذا الجريان كان هادئا بحيث لم تكن المجاري او الحيز الذي تضمن الجريان السطحي سوى أودية قليلة العمق أو ضحلة .

وقد يكون معناه أيضا أن عوامل التعرية الهوائية ، على وجه الخصوص في عصر أو في جملة عصور جيولوجية تالية ، كانت كفيلة بأن تنزيل أو أن تضيع ، كل أثر لتلك المجاري الضحلة غير العميقة من على السطح . ولعل من الضرورة أن نذكر أن هذه المعاني تتمخض عن حقيقة هامة بشأن شكل الانحدار العام لسطح أرض مصر في عصر الألوجسين ، والتي بدأت تتعرض لبعض العوامل الباطنية الرافعة . كما أنها تعبر من ناحية أخرى عن أن جبال البحر الأحمر في عصر الألوجسين ، لم تكن قد تحددت ملامحها الرئيسية ، أو لم تكن قد ارتفعت ، بالقدر الذي يمكن أن يؤدي إلى الانحدار الواضح وبالتالي الحفر أو النحت الشديد ، في بطون المجاري النهرية على السطح .

وقد نذكر حقيقة الانحدارات الهادئة إلى حد كبير على ضوء دراسة تكوينات هودي Hudi التي تمثل رواسب بحرية ، في بعض مساحات من شمال السودان على جوان بالنيل النوبي . ويمكن أن نعتبر هذه التكوينات التي ترجع إلى عصر الألوجسين ، من حيث العمر الجيولوجي . والتي نتبين أحسن نموذج لها في قطاع يقع إلى الشرق من موقع بربر دليلا على أمرين هامين ، فهي من ناحية تعبر عن صورة السطح الرتيب المنحدر انحدارا هادئا ، والذي تتخلله مساحات مستوية ، كما أنها من ناحية أخرى تعبر عن معنى زيادة المطر في عصر الألوجسين ، وما ترتب عليه من تجمع مائي ، على السطوح المستوية على صورة بحيرات ، أو غدران غير عميقة .

ويعني ذلك أن سطح الأرض شمال خط عرض الخرطوم على الأقل ، كان سطحا رتيبا وكانت انحداراته هادئة إلى حد كبير في عصر الألوجسين ، وأن كمية المطر السنوي كانت غزيرة . ومهما يكن من أمر فإن هذا السطح قد شهد الجريان السطحي الهزيل البائد ، وأن فعل التعرية الهوائية ، قد أدى في عصر تال إلى إخفاء وتضييع كل معالم تعبر عن صورة المجاري غير العميقة ، التي أرسبت تلك الرواسب الدلتاوية .

وليس ثمة شك في أن الذي يهمنا بعد ذلك كله ، هو نفي العلاقة أو مجرد احتمال ، أي ارتباط بين هذا النظام النهري القديم البائد ، الذي كشف بلانكنهورن عن وجوده دون أن تكون هناك الفرصة لتجميع أجزاء الصورة العامة الشاملة من ناحية ، والنظام النهري النيلي ، الذي تمثل على سطح أرض مصر والنوبة ، في عصر لاحق من عصور الزمن الجيولوجي الثالث من ناحية أخرى . ونحن نذكر في ثقة واطمئنان تأمين أنه ليس ثمة أي احتمال ، يعبر عن علاقة في أي صورة من الصور بين العوامل والظروف ، التي تمخضت عن صورة النظام النهري القديم البائد ، والعوامل والظروف التي تمخضت عن المقدمات المبكرة للنظام النهري النيلي ، في أواخر الميوسين الأعلى على أقدم تقدير .

ويمكن أن نستوحي تلك الثقة المطلقة من الدراسة الأصيلة ، التي تتسهدف متابعة صورة السطح في الفترة التي تضمنت هذه الصورة القديمة البائدة ، والتي تشمل أواخر عصر الأيوسين وعصر الألوجسين كله وفجر الميوسين . وما من شك في أن هذه الدراسة من شأنها أن تضفي مزيدا من الوضوح على النتائج ، التي نتبين منها أن درجة انحدار السطح العام في عصر وشمال السودان ، وارتفاع كتلة الأرض على امتداد القطاع الذي تظهر فيه جبال البحر الأحمر في الوقت الحاضر ، ومنذ أواخر الميوسين ، كان في الفترة من أواخر الأيوسين إلى فجر الميوسين لايمكن أن يتمخض إلا عن صورة من صور الجريان الهادئ الهزيل .

ويمكن القول أن حركت الرفع التي أثرت على بعض المساحات ، التي تضمنها ذلك السطح القديم قد بدأت مقدماتها البطيئة ، منذ أواخر الأيوسين نتيجة رد الفعل المباشر لحركات الهبوط في قاع الأخدود ، الذي احتله البحر الأحمر فيما بعد . ويبدو أن حركات الرفع كانت مستمرة ، ولكن في بطء شديد في عصر الألوجسين . وكان من شأنها أن تمهد لسطح جديد ، ودرجات انحدارات تختلف كل الاختلاف عن الصورة السابقة للسطح ، في الفترة المشار إليها .

ومن الجائز أن نلاحظ هبوطا طفيفا في أوائل عصر الميوسين ، أدى إلى طغيان البحر ، على أطراف مع سطح أرض مصر الشمالية ، إلى خط عرض سيوه تقريبا . ولكن هذه الحركة كانت محدودة جدا ، وقد انتهت في حوالي الميوسين الأعلى ، لكي تعود حركات الرفع إلى سيرتها الأولى ، بصورة تمخضت عن ارتفاع جبال البحر الأحمر .

وهكذا ظهرت صورة السطح الجديد في حوالي عصر الميوسين الأعلى ، عندما بلغت حركات الرفع مداها العظيم . وأدت إلى ظهور وارتفاع جبال البحر الأحمر ، كحافة قافزة واضحة الملامح على امتداد المحور العام ، خطوط الانكسارات الأساسية للأخدود . وكان ارتفاع جبال البحر الأحمر كفيلا ، بتغيير خطير في مناسيب الأرض ، التي يتضمنها السطح الجديد ، ومدعاة لزيادة في درجات الانحدارات ، وبالتالي مدعاة إلى زيادة معدلات النحت والحفر والتعميق . وقد تمثلت نتائج الحركات الباطنية أيضا في حدوث بعض التثنيات أو الالتواءات الخفيفة التي أضفت على السطح الجديد تفاصيل هامة .

هذا ويذكر هيوم في مال دراسة هذه التثنيات والالتواءات الخفيفة ، أنه يمكن التمييز بين التثنيات الضحلة التي ترجع إلى عصر سابق مباشرة للميوسين الأعلى ، والتثنيات الخفيفة الأخرى التي ترجع إلى عصر الميوسين الأعلى . وقد حدثت تثنيات المرحلة الأولى التي ترجع إلى ذيل الميوسين الأوسط ، والتي تنتشر على محور عام من الجنوب إلى الشمال ، في تكوينات عصر الأيوسين من الحجر الجيري . وكان التغير الضحل المنتشر على محور من الجنوب إلى الشمال . محصورا بين محدبين واضحين على نفس المحور ، وقد حفر وادي قنا مجراه في المحدب الشرقي ، كما حفر منخفض الحارجة في المحدب الغربي .

أما التثنيات والالتواءات الخفيفة في المرحلة التالية ، التي ترجع إلى عصر الميوسين الأعلى ، فإنها حدثت على امتداد محور عام يمر من الجنوبي الغربي إلى الشمال الشرقي . وتظهر هذه التثنيات في مواقع محدودة ، تذكر منها التثنية على جوانب المحدب ، الذي حفر فيه وادي القلالة ، والالتواء الخفيف الذي يظهر في منطقة ثنية قنا ، معترضا التقعير الضحل الذي حدث في ذيل الميوسين الأوسط .

ويمكن للباحث أن يتصور أن صفات هذا السطح الجديدة التي تمخض عنه ارتفاع جبال البحر الأحمر ، وحدوث بعض التثنيات الخفيفة في أثناء النصف الثاني من عصر الميوسين ، قد مهد لنشأة النيل وبداية قصة الجريان النيلي في مراحلها المبكرة . ويبدو أن دور المطر الغزير الذي حدث من أواخر الميوسين غلى أوائل البلايوسين ، ويعرف باسم دور المطر البنطي Pontic Pullvial Period ، قد حقق الفائض الغزير ، الذي كان بمثابة المورد الرئيسي للجريان السطحي .

ويمكن القول أن مجموعة من المجاري النهرية والروافد ، كانت تنساب على منحدرات جبال البحر الأحمر ، كصورة لجهذا الجريان السطحي . ويبدو أن هذا الجريان السطحي قد حقق من غير شك البداية الحقيقية للنيل في أواخر الميوسين الأعلى من الزمن الجيولوجي الثالث ، وتصور قصة الجريان النيلي في النوبة ومصر ، التي كانت بدايتها من أواخر الميوسين الأعلى ، بداية للاستمرار غير المنقطع ، والذي يتمثل في عدد من الفصول التي يتضمن كل فصل منها طورا خاصا متميزا من أطوار الجريان . والمفهوم أن صفات كل طور من هذه الأطوار كان ينبثق من واقع جملة التغيرات التي تنشأ نتيجة للحركات الباطنية . وما يترتب علهيا من ارتفاع أو هبوط ، يؤثر على درجات انحدار السطح نفسه ، أو على مستوى القاعدة التي ينتهي إليها الجريان ، أو تنبثق من احتمال جملة التغيرات التي تطرأ على حجم الجريان ، نتيجة لزيادة أو نقصان كمية المطر أو لانضمام روافد جديدة ، تحمل إيرادا مائيا إضافيا إلى الجريان العام في النهر .

وقد استغرق الطور العتيق الأول من أطوار الجريان النيلي ، فترة طويلة شملت معظم عصر الميوسين الأعلى ، وعصر البلايستوسين الأدنى على أحسن تقدير . ويمكن القول أن سمة الجريان والصورة العامة التي تعبر عنه في هذا الطور العتيق ، تتمثل في نتيجتين هامتين ومترابطتين إلى حد ملحوظ .

وتظهر النتيجة الأولى في صورة الحفر والنحت الواضح والتعميق ، الذي حقق الخطوط الأساسية لك الاتجاهات التي مر بها المجرى في القطاع ، الذي يقع شمال موقع أسوان في أرض مصر .

أما النتيجة الثانية فتظهر في أرض النوبة وشمال السودان ، التي يبدو أن الجريان السطحي فيها أو في قطاع منها على الأقل ، كان يمثل الأحباس النهرية العليا للنظام النهري العتيق ، في أثناء هذا الطور المبكر .

ونود أن نشير إلى أن القطاع الذي تضمن النحت الشديد والحفر والتعميق لجوانب الوادي ، كان يشمل المساحات في الأرض التي تعرضت للحركات الباطنية ، التي تمخضت – كما قلنا – عن التثنيات الخفيفة على المحور العام من الجنوب إلى الشمال ، وعلى المحور العام من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي ، وليس ثمة شك في أن تحديد الجريان النهري على سطح هذه الأرض له تاثر بهذين الأمرين . وكان الوادي محصورا في قاع التقعير الضحل ، بين المحدب الشرقي الذي حفر فيه وادي قنا ، والمحدب الغربي الذي حفر فيه منخفض الحارجة . كما تمخض التواء طيبة الذي يمر على المحور العام من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي ، عن خلق وتكوين ثنية قنا التي تعبر عن الوسيلة التي تحاشى بها الجريان اختراق هذا الالتواء .

ويعني ذلك أن هذه التثنيات التي كانت فيه حدثت على مرحلتين ، فيما بين الميوسين الأوسط والأعلى ، قد أسهمت بقدر كبير في مجال تحديد الاتجاهات التي تمثل حفر وتعميق المجرى . ويمكن القول أن الفائض الذي انساب في روافد كثيرة من الأرض المرتفعة من ناحية الجنوب الشرقي والشرق – جبال البحر الأحمر – ، ومن ناحية الجنوب – النوبة – وتمثل في صورة جريان سطحي ، قد أسهم في تحقيق هذا الحفر والتعميق الشديدين . وليس ثمة شك في أن حدوث النحت والحفر والتعميق في التكوينات الجبرية الهشة ، قد ساعد على سرعة النحت وعلى زيادة معدلاته ، إلى الحد الذي حقق الشكل الصندوقي للوادي المنحوت ، وهو الذي احتوى الرواسب وكان وكأنه يجهز الحيز الذي يشهد الجريان النيلي .

ونود أن ننتهز هذه الفرصة لكي نتحدث عن أمرين هامين ، على اعتبار أيضا يساعدان الباحث ، في مجال تجميع كل التفاصيل التي تتضمنها صورة الجريان النيلي في هذا الطور ، وفي مجال إلقاء الأضواء على كل النتائج التي تمخض عنها هذا الجريان .

ويتعلق الأمر الأول بالحديث عن جملة المجاري النهرية والأودية ، التي كانت تنساب على جوانب جبال البحر الأحمر ومنحدراتها الغربية ، ويكون ذلك على اعتبار أنها كانت تحمل الفائض وتجمعه من على سطوح ومنحدرات ، تلك المرتفعات ، وأنها كانت تجري في الاتجاهات التي تجعل منها روافد الجريان النيلي المبكر في مصر منذ أواخر عصر الميوسين الأعلى .

أما الأمر الثاني فيتعلق بالحديث عن صورة الجريان النهري في النوبة وشمال السودان ، في القطاع المحصور بين خطي عرض الخرطوم وأسوان ، من حيث الصورة العامة التي تتضمن هذا الجريان ، ومن حيث كونه مصدرا من مصادر الجريان السطحي في اتجاه الشمال إلى مصر ، وعلاقته بصورة الجريان النيلي فيها ، في ذلك الطور المبكر من أواخر الميوسين الأعلى إلى البلايوسين الأدنى .

ويقتضي الحديث عن المجاري النهرية التي تمخضت عن المجموعة الكبيرة من الأودية الجافة ، التي تنشر على جوانب ومنحدرات جبال البحر الأحمر في الوقت الحاضر ، الإشارة إلى أنها كانت تمثل مصدرا رئيسيا وهاما من مصادر الجريان السطحي في مصر . وقد نشأت هذه المجاري النهرية استجابة منذ عصر الميوسين الأعلى ، وللمطر الغزير الذي تمثل في هذه الفترة . ويبدو أنها كانت تزخر بالمياه الغزيرة والإيراد الكبير الذي يعتبر فائضا هائلا من المطر المحلى الذي سجله الدور المطير البنطي ، في الفترة من أواخر الميوسين الأعلى والبلايوسين الأدنى .

ويمكن القول أن هذه المجاري ، قد عمقت الوديان التي تضمنتها ومزقت سطح ومنحدرات جبال البحر الأحمر ، بقدر ما أسهم إيرادها من الماء الغزير في متابعة النحت والتعميق الشديد ، الذي حقق المجرى الذي تضمن لجريان النيل في ذلك الطور المبكر . ونحن على كل حال لا نملك الوسيلة التي على سطحها الفائض ، الذي أجرى الوديان وغذى المجاري النهرية ، التي كانت تمثل أحباس النهر العليا من ناحية الجنوب الشرقي . ويعني ذلك أننا لا نملك القدرة على تحديد المساحات ، التي تضمنها الحوض في منطقة جبال البحر الأحمر ، والمرتفعات الناهضة في أطراف من شمال الهضبة الحبشية .

وقد تتمخض دراسة مجرى نهر العطيرة ومجرى حور القاش على تلك الأطراف ، عن بصيص من ضوء يفصح عن حقيقة الدور الذي أسهمت به تلك الأحباس في الجريان النيلي المبكر ، ونحت المجرى النيلي الذي اكتملت صورة الصندوقية في الطور الأول ، إلى حوالي أوائل عصر البلايوسين . وقد تفصح الدراسة فيها عن الدور الذي أسهم به الجريان من شمال الحبشة في أثناء الطور الثاني من أطوار الجريان النيلي ، في حوالي عصر البلايوسين الأوسط .

ومع ذلك فإن دور العطيرة والقاش ، لايمكن أن يكتشف عنها الباحث إلا على ضوء دراسة الجريانا لنيلي في النوبة على وجه الخصوص ، وعلى اعتبار أن نهر العطيرة رافد يصل اتصالا مباشرا بالنيل النوبي ، وأن لسان المرتفعات الذي يمتد على محور عام من الشرق إلى الغرب في قلب العطمور كذراع لجبال البحر الأحمر ، لا يدع فرصة للجريان في اتجاه مباشر ، من الشمال وشمال غرب الهضبة الحبشية إلى مصر . وهذه على كل حال نقطة من النقاط ، التي تستوجب دراسة عميقة على نطاق واسع ، يشمل المساحات فيما بين أطراف الهضبة الحبشية الشمالية ، والمرتفعات في صحراء العطمور ، التي تقسم المياه بين حوض قبقبة وعلاقى في جانب وحوض النيل النوبي في جانب آخر .

ومهما يكن من أمر ، فإن الانتقال إلى متابعة الحديث عن صفة الحيز ، الذي يتضمن الجريان في النوبة وعلاقته بالنظام النهري النيلي ، الذي تكامل في أطوار أو مراحل متوالية ، تعتبر ضرورة ملحة تقتضيها الرغبة في اتجاهين .

وتستهدف في الاتجاه الأول إلقاء الأضواء على شكل المجرى العام وتفسير التناقض في اتجاهاته والمحاور التي يمر عليها ، وتتجلى في شكل واضح فيما بين الخرطوم وأسوان .

أما في الاتجاه الآخر فإنها تستهدف الوصول إلى تحديد تاريخ الجريان بصفة عامة ، وعلاقة هذا التحديد بالجريان النيلي في الطور المبكر من أواخر عصر الميوسين إلى البلايوسين الأدنى .

ولعل من الضروري أن نشير إلى أن ثيودورالدت Theodor Arldr قد افترض شكل المجرى في النوبة ، والذي يمر على جملة محاور غير متناسقة ، وتتغير اتجاهاتها العامة من قطاع إلى قطاع آخر ، نتيجة مباشرة للانكسارات والتصدعات ، وحدوث الحركات الباطنية التي تمخضت عن الارتفاعات ، التي شملت أرض العطمور وجنوب شرق مصر . ويعتقد أرلدت أن ثمة مجار نهرية وأنهار جارية ، كانت تمر على تلك المحاور أو ربما في اتجاهات مضادة تماما أو عكسية للاتجاه العام للجريان في الوقت الحاضر . كما يتصور الأسر النهري على اعتبار أنه قد أدى إلى الترابط والاتصال بين تلك الأجزاء ، بحيث اتخذت صورة جديدة ، تتمثل في الشكل الحالي ، الذي يتضمن ثنية النيل النوبي العليا ، وثنية النيل النوبي السفلى فيما بين الخرطوم وأسوان .

ونحن على كل حال ندرك أن الدراسات التي أجريت في بعض أجزاء من مجرى النيل النوبي ، قد بينت أن ثمة تصدعات وخطوط انكسار ، ولكنها ليست دليلا حاسما على تأثر شكل المجرى وتغير الاتجاهات ، بل لعلنا نذكر أن الدراسات في بعض قطاعات من مجرى النيل النوبي ، ومنها القطاع الذي يشمل خانق سبلوكة والقطاع الذي يشمل الشلال الثاني ، لم تتمخض عن حصيلة أصيلة تعبر عن انكسارات او تصدعات ، يمكن أن تؤيد أو أن تؤكد هذا الزعم .

والمفهوم ان الحيز الذي يتضمن مجرى النهر في خانق سبلوكة بالذات ، لايقع في مجرى أخدودي انكساري ناشئ بفعل التصدع ولكنه من غير شك خانق تمخضت عنه التعرية المائية الخلفية ، أو ما تعرف باسم النحت التراجعي . وإذا كانت نتائج الحركات الباطنية لم تسفر عن انكسار أو تصدع ، يفسر الشكل العام للمجرى في النوبة ، فإنها لم تؤد إلى التواء أن تثني يمكن الاعتماد عليه في مثل هذا التفسير .

وما من شك أن قبول هذا الافتراض أو الزعم ، يعني ضرورة الاقتناع بحدوث مجموعة من الانكسارات او الالتواءات ، التي تمر على محاور كثيرة متباينة ومتناقضة . وهذا في حد ذاته احتمال أو افتراض لا يمكن أن تتمخض عنه نتائج الدراسات العامة للبنية ، وعلاقتها بالحركات الباطنية والاضطراب الأرضي ، الذي يؤدي إلى الانكسار والتصدع أو إلى الالتواء والتثني .

ويمكن للباحث أن يجد في دراسة السطح من حيث البنية ومن حيث الشكل العام ، الوسيلة أو الوسائل التي تعبر عن العوامل ، التي يمكن أن تكون مسئولة عن تغير اتجاهات المجرى النهري النيلي في النوبة ، بالشكل الذي أظهر كل ثنية من هاتين الثنيتين الكبيرتين . ونشير في هذا المجال إلى أن كتلة بيوضة من الصخور الصلبة البلورية القديمة وكتلة العطمور المناظرة لها ، والتي تمثل لسانا منتشرا على المحور العام من الشرق إلى الغرب من جبال البحر الأحمر ، هما اللتان اعترضتا الجريان النهري واستمراره على المحور العام المباشر من الجنوب إلى الشمال وقد أثرت الكتلة الأولى – بيوضة – على الاتجاه العام للجريان ، بالشكل الذي ادى إلى خلق الثنية العليا ، على حين أن الكتلة الثانية في العطمور ، هي التي أثرت على الاتجاه العام للجريان بالشكل الذي تمخض عن خلق الثنية السفلى من أبو حمد إلى كرسكو .

ويلاحظ الباحث أنه بالنسبة لكتلة بيوضة ، التزم المجرى النهري بالجريان والمرور في اتجاه عام صوب الشمال الشرقي ، لكي يتجنب وجودها . وقد حددت أو رسمت مناسيب الأرض وخطوط الارتفاعات المتساوية العامل الإضافي ، الذي فرض ذلك الاتجاه دون غيره من الاتجاهات الأخرى ، التي كان من الممكن أن يتفادى الجريان عن طريقها وجود كتلة بيوضة . ويعني ذلك أن مجرى النهر لم يكن بمقدوره أن يتفادى كتلة بيوضة بالاتجاه صوب الشمال الغربي . أما بالنسبة لكتلة العطمور ، فيمكن القول أن المجرى النهري ، لم يكن أمامه سوى أن يتفاداها بالدوران صوب اليسار ، وتغيير اتجاه لكي يصبح من الشمال الشرقي غلى الجنوب الغربي ، فيما بين أبو حمد والدبة .

ويمكن القول أن هذا القطاع من مجرى النهر ، فيما بين أبو حمد والدبة ، هو الذي يجري فيه النيل علىص ورة أو اتجاه عام لايتناسق بأي حال من الأحوال ، مع الاتجاهات العامة صوب الشمال . ولعل من الجائز أن يكون وادي الملك ، قد أسهم في دفع النهر مرة أخرى دفعا إلى الاتجاه العام من جديد . ومع ذلك فإن المجرى فيما بين الدبة وكرسكو ، يتقوس بشكل ملحوظ فيما حول كتلة العطمور ، وإن كان يمر على أطرافها حيث تتمثل عندها الجنادل المتوالية على امتداد المجرى . ويعني ذلك أن الانحدار العام للسطح في النوبة ، كان يحتم على الجريان النهري الاتجاه على المحور العام ، صوب الشمال بصفة عامة . ومع ذلك فإن توزيع الكتل الصلبة وشكل الارتفاعات ، كان من شأنه أن يؤدي إلى حدوث تلك التغيرات الواضحة في محاور الجريان ، كل بضعة مئات من الكيلومترات . وليس ثمة مايتمتع أن نتصور أن بعض التشققات والتصدعات المحلية في سطح التكوينات والصخور الصلبة في قطاع الأرض فيما بين أبو حمد وكريمة ، قد أسهمت في تسهيل أمر تغير الاتجاه وتحول الجريان . كما يمكن أن نتصور صورة من صور الجريان السطحي المحلي ، في عصر جيولوجي سابق ، قد مهدت الطريق للجريان في مجرى النيل النوبي ، في حوالي عصر لاحق لعصر الميوسين .

ويمكن للباحث أن يسجل أن ثمة قطاعات من مجرى النيل النوبي ، تعبر عن سهولها الفيضية عن احتمال هذا الجريان القديم في عصر سابق للميوسين الأعلى . ولعل أهم هذه الأجزاء تلك التي تتمثل في السهل الفيضي المستمر فيما بين مروى ودنقلة . ولايمكن للباحث أن يتصور أن جريان النهر في صورته الحالية ، من حوالي البلايوسين الأعلى إلى فجر البلايسوسين الأدنى حسب تقدير ساندفورد واركل ، من شأنه أن يفسر أو أن يعلل وجود واستمرار وخلق تلك السهول الفيضية الناضجة . ويكون ذلك على اعتبار أن نضجها يدل دلالة واضحة على أن الجريان النهري ، كان منذ وقت سابق لهذا التقدير . وقد يتعارض هذا التقدير أيضا ، مع التاريخ الذي أتم فيه النحت التراجعي ، حفر أو شق وتعميق خانق سبلوكة .

وعلى ضوء هذه الملاحظات ، يمكن أن نتصور أنه فيما قبل انتظام الجريان النهري النيلي في النوبة ، في الصورة التي ترجع من حيث العمر إلى الفترة من حوالي البلايوسين الأعلى إلى فجر البلايستوسين الأدنى ، كانت هناك صورة أخرى من صور الجريان النهري . وربما كان قوام الجريان النهري في تلك الصورة القديمة السابقة للجريان النهري النيلي ، مجموعة من المجاري النهرية التي لاتترابط فيما بينها . ويمكن أن نتصورها فيما بين الميوسين الأعلى والبلايوسين الأعلى ، وقد انتشرت على قطاعات من سطح النوبة على اعتبار أنها كانت تتضمن ثلاث نظم نهرية متباينة على هذا السطح .

النظام الأول : وكان يتضمن المجرى النهري الذي كان ينبع من أطراف الأرض التي تقع في شمال موقع الخرطوم . ويمكن القول أن كتلة بيوضة قد ألزمت المجرى النهري بالاتجاه صوب الشمال الشرقي ، كما كان اتصال العطيرة به سببا في اعتدال جريان النهر شمالا ، إلى أن ينتهي في مساحات الأرض التي تقع جنوب موقع أبو حمد مباشرة . ويبدو أن إيراد نهر العطيرة ، كان هزيلا لأن الهضبة الحبشية لم تكن قد ارتفعت ارتفاعا كبيرا .

النظام الثاني : وكان يشمل المجرى النهري الذي ينساب من منحدرات لسان المرتفعات المنتشرة ، على محور عام من الشرق إلى الغرب في العطمور . ويبدو أنه كان يجري في الاتجاه العام صوب الجنوب الغربي على نفس المحور العام ، الذي يجري فيه النيل النوبي فيما بين أبو حمد ومروى . والمفهوم أن كل مجرى من هذين المجريين ، في النظام الأول والثاني ، كان ينتهيان على السطح الرتيب . كما تنتهي نهايات بعض الأخوار والأودية الجافة في أنحاء من شمال السودان .

النظام الثالث : وكان يشمل المجرى النهري الذي كانت أحباسه العليا ، تبدأ من مساحات الأرض ، التي تتضمن حوض وادي الملك في شمال شرق كردفان ودارفور . ويبدو أن الجريان كان يمر في مجرى قريب من المجرى الحالي ، فيما بين الدبة ووادي حلفا ، وأنه كان يتحاشى المرور بالمواقع التي يظهر فيها الجنادل الثاني بحيث يمر إلى الغرب منه . وليس من الضروري أن نتصور جريان المجاري النهرية الثلاث ، التي تضمنتها هذه النظم قد حدث في وقت واحد . بل لعل بعضها يبدو أقدم عمرا من حيث تاريخ الجريان من البعض الآخر .

ويمكن القول أن نظام الجريان النهري ، الذي كان ينساب من حوض وادي الملك على أطراف الأرض المرتفعة في شمال دارفور وكردفان ، ويتصل بالمجرى الذي يتضمن الثنية السفلى من ثنيتي النيل النوبي في النظام النهري الحالي ، أقدم من حيث تاريخ الجريان إلى الشمال ، والاتصال بالنظام للجريان السطحي النيلي العتيق في مصر في أثناء الطور الأول ، الذي بدأ من حوالي أواخر الميوسين الأعلى واستمر إلى البلايوسين الأدنى .

ويعني ذلك أن هذا النظام النهري في قطاع من النوبة كان يمثل حبسا من الأحباس النهرية العليا ، التي كانت تضيف إيرادها المائي إلى النهر الجاري على سطح أرض مصر . ويعني ذلك أيضا أن إيراد هذا المجرى في صورته العتيقة ، قد أسهم مع إيراد الروافد النهرية الأخرى من جبال البحر الأحمر وجنوب شرق مصر وشمال شرق السودان في النحر والحفر الشديد والتعميق الذي تمخض عن الوادي الصندوقي شمال خط عرض أسوان في مصر .

أما النظامان النهريان لآخران ، في كل من النوبة الوسطى العليا ، فيبدو أنه لم تكن بين الجريان فيهما وبين الجريان النهري النيلي في النوبة السفلى ، في هذا الطور العتيق أي علاقة معينة . ويعني ذلك أنهما كصور من الجريان السطحي ، كانت لهما صفة الصور المحلية البحتة . ومع ذلك فيبدو أنهما قد مهدا للجريان النيلي ، في تاريخ لاحق في مرحلة أو طور متأخر .

ويصور هذا التصوير من ناحية أخرى مقومات النحت التراجعي ، الذي تمخض عن خلق أو شق ونحت وتعميق خانق سبلوكة ، الذي بدأ من غير شك في وقت مبكر ، كانت تكوينات الخرسان النوبي فيه تعلو سطح كتلة الريوليت الصلبة ، التي يشقها المجرى النهري النيلي ، والتي أوحت من حيث الشكل العام لبعض الباحثين ، باحتمال تفسيرها على ضوء حدوث الانكسارات والتصدعات . والمفهوم أن تصور الجريان النهري في النيل النوبي فيما بين أواخر البلايوسين وفجر البلايستوسين الأدنى كما افترض ساندفوردوار كل ، لا يمكن أن يعبر عن صورة أو معنى من معاني التناسق بين التاريخ للنحت التراجعي ، الذي شق خانق سبلوكة ، والتاريخ للتعرية الهوائية التي أزالت الخرسان النوبي ، وكشفت على كتلة الريوليت الصلبة على السطح .

ويعني ذلك أنه لا بد من أن نفترض جريانا نهريا ، يؤدي إلى هذا النحت التراجعي منذ وقت سابق لعصر البلايوسين ، لكي يفسر ذلك العمق والقدرة على شق تلك الفتحة ، التي تبدو في شكل خانق واضح ، محصور بين جوانب مرتفعة حادة . ونحن نتصور على كل حال أن النحت التراجعي قد بدأ في المجرى النهري ، الذي افترضناه ضمن نظام من النظم العتيقة الثلاث في النوبة ، التي تمثلت منذ أواخر الميوسين الأعلى ، وهو نفس الوقت الذي تحققت فيه زيادة المطر ، في دور المطر البنطي .

وبعد تلك صورة الجريان النهري النيلي في أقدم صورة من الصور ، التي سوف نتبينها في المراحل والأطوار التالية . ويمكن القول أن هذه الصورة قد تضمنها حوض ما زلنا لانستطيع أن نحدد امتداده من ناحية الجنوب ، وعلاقته بكل النوبة إلى خط عرض الخرطوم . وأدى هذا الجريان في هذه المرحلة من مراحل الطور الأول ، في الفترة فيما بين أواخر الميوسين الأعلى والبلايوسين الأدنى إلى النحت والحفر الشديد والتعميق في حيز الوادي الصندوقي الذي أشرنا إليه ، ويمكن للباحث أن يشير إلى أنه إذا كانت الحركات الباطنية ، قد أدت إلى الارتفاع وخلص تلك الصورة من صور الجريان ، وتسببت في ذلك التمهيد المبكر للجريان النيلي ، فإنها قد عادت مرة أخرى إلى تغيرات أساسية ، في حوالي ذيل البلايوسين الأدنى .

وما من شك في أن هذه التغيرات التي أكسبت السطح صفات جديدة ، كانت مؤدية إلىطور جديد من أطوار الجريان النيلي . ومع ذلك فإن الانتقال إلى الصورة أو الصور ، التي تضمنت الجريان النيلي في هذا الطور ، لايعني انقطاع الصلة بينها وبين الصورة التي تضمنها الطور الأول العتيق ، ولكنه على كل حاق ضرب من ضورب التعبير عن التطورات والتغيرات ، التي أضفت على الجريان النهري النيلي في مرحلة طويلة ، ملامح معينة كانت بدورها تمهد لاكتمال الصورة في طور أو مرحلة تالية .

ويتضح للباحث من دراسة التوزيع العام لتكوينات ورواسب عصر البلايوسين ، أن سطح الأرض في مصر ، قد تعرض منذ أوائل هذا العصر لحركة هبوط كبيرة ، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع عام في منسوب سطح البحر بالنسبة لليابس ، ارتفاعا تدريجيا ، إلى أن وصل مستوى سطح البحر المتوسط في البلايوسين الأوسط ، إلى 180 مترا بالنسبة لمنسوب سطحه في الوقت الحاضر ، وكان ذلك الارتفاع مدعاة لطغيان البحر على أطراف من أرض مصر ، وتوغل ذراع من مياه البحر البلايوسيني في الوادي الصندوقي المنحوت ، الذي كان قد تضمن الجريان النيلي في الطور السابق .

وقد تصور بعض الباحثين ، توغل وامتداد هذه الذراع في الوادي المنحوت إلى موقع أسنا ، على حين أن دكتور حزين يرى أنها توعلت إلى حوالي خط عرض أسوان . وليس ثمة شك في أن هذا التوعل ، كان يعني تحولا ملحوظا وخطيرا في بعض الظروف المحيطة ، بالجريان النيلي في الطور السابق . وما من شك في أن هذا التحول ، كان يتمثل في اختفاء أي أثر أو صورة للجريان النهري في مصر ، لأن طغيان البحر في البلايوسين الأوسط ، احتل كل الحيز الذي كان قد تضمن الجريان النهري العتيق . كما يتمثل التحول أيضا في التغير الملحوظ ، الذي طرأ على مستوى القاعدة بالنسبة للروافد والمجاري النهرية ، التي كانت تغذي الجريان النهري في مصر في الطور السابق .

وكان التغير المحلوظ في مستوى القاعدة ، لايعني توقف التدفق أو الجريان في تلك الروافد ، التي تجمع الفائض من على منحدرات جبال البحر الأحمر ، أو من شمال شرق السودان ، أو توقف التدفق والجريان السطحي في الروافد الت يتجمع الفائض عن النوبة وشمال السودان . ولكنه كان يعني بالضرورة التغير الفعلي ، في قدرة كل رافد أو مجرى من هذه المجاري النهرية ، على النحت والإرساب .

وتتمخض دراسة التكوينات التي ردمت تلك الذراع من مياه البحر البلايوسيني عن نتيجة هامة ، تفصح عن طبيعة التغير الذي طرأ على صورة الجريان السطحي بصفة عامة من ناحية ، وتلقي الضوء على العلاقة بين الجريان السطحي في الصورة الجديدة ، والوادي المنحوت المغمور من ناحية أخرى . والمفهوم أن هذه التكوينات كانت تعبر عن اختلاط واضح بين الرواسب الخليجية والرواسب النهرية . وهذا في حد ذاته دليل مادي أصيل ، على أن الروافد والمجاري النهرية ، التي كانت تغذي الجريان السطحي في مصر في الطور السابق ، فيما بين أواخر الميوسين الأعلى والبلايوسين الأدنى ، ظلت تجمع الفائض لكي تنساب وتصب في الذراع المائية للبحر البلايوسيني .

وما من شك في أن هذه الذراع قد امتلأت برواسب هائلة من الحصى والرمال ، التي جلبتها الروافد النهرية الجانبية من جبال البحر الأحمر والنوبة . ويمكن أن نستخلص من هذا الفهم ، أن قدرة الجفاف التي تمثلت فيما بين دور المطر البنطي الذي استغرق أواخر الميوسين والبلايوسين الأدنى من ناحية ، والعصر المطير الأول الذي تضمنته الفترة من أواخر البلايوسين ومعظم البلايستوسين الأدنى من ناحية أخرى ، لم تكن صورة الجفاف وتناقض المطر فيها ، تعادل صورة الجفاف الذي يتمثل في الوقت الحاضر . بل لعلنا نتصور أن حجم المطر في هذه الفترة التي تميزت بالجفاف النسبي ، كان كفيلا بأن يتمخض عن فائض يملأ المجاري النهرية ، ويحقق الجريان السطحي في كل الروافد النهرية من جبال البحر الأحمر والنوبة ، كما كان الفائض المائي بالقدر الذي أدى إلى النحت ، ونقل المفتتات والرواسب وإلقائها في ذراع البحر البلايوسيني .

وإذا كانت هذه الصورة العامة للجريان النيلي ، قد تضمنتها مرحلة من الطور الثاني استمرت إلى أواخر البلايوسين ، فإن حركة الرفع التي حدثت في أواخر هذا العصر ، وأثرت على مساحات الأِرض في شمال شرق أفريقية ، أدخلت على تلك الصور صفة جديدة . وقوام تلك الصفة يرتبط ارتباطا وثيقا بتراجع البحر صوب الشمال ، واختفاء ذراع البحر البلايوسيني تماما ، بعد أن تجمع فيها فيض كبير من الرواسب الخشنة .

ويمكن القول أن اقتران هذه الصفة بزيادة المطر ، الذي سجل في العصر المطير الأول فيما بين أواخر البلايوسين والبلايستوسين الأدنى ، قد أدى إلى نتائج هامة من حيث الجريان النهري في الوادي ، الذي كان قد تضمن ذراع البحر البلايوسيني . وما من شك في أن زيادة المطر وحجمه الغزير ، كان يعني بالضرورة زيادة حجم الفائض والجريان السطحي في الروافد ، التي تضافرت على انسياب الجريان النهري النيلي مرة أخرى .

ونشير إلى أن النيل في هذه الصورة الجديدة عاد إلى حفر مجراه في الرواسب والتكوينات ، التي كانت قد تراكمت في ذراع البحر البلايوسيني ، كنتيجة مباشرة لزيادة حجم الفائض ، الذي كانت تحمله الروافد النهرية وتلقي به في المجرى الرئيسي . ولعل من الضروري أن نضع الخطوط الرئيسية والإطار الكبير ، الذي يتضمن المساحات التي كانت تنتشر فيها الروافد والمجاري النهرية ، وتجمع الفائض الغزير من على سطوحها المنحدرة صوب الشمال أو صوب الغرب ، إلى المجرى النيلي الرئيسي في مصر ، شمال خط عرض أسوان .

ونشير في هذا المجال إلى أن خانق سبلوكة لم تكن التعرية النهرية قد استكملت شق الثغرة فيه ، ويعني ذلك أنه لم يكن ثمة طريق يمكن أن تتدفق منه المياه ، من الهضبة الحبشية بطريق النيل الأزرق ، أو من الهضبة الاستوائية وحوض الغزال بطريق النيل الأبيض ، ولعل من الضروري أن نستبعد من الصورة العامة للحوض ، والصورة العامة للجريان في هذا الطور ، أي احتمال للاتصال أو الترابط ، بأي صورة من صور الجريان السطحي جنوب خط عرض سبلوكة .

وهكذا يمكن القول أن الحوض في هذا الطور ، كان يتضمن مناطق تجميع محدودة تنتشر فيما بين منحدرات جبال البحر الأحمر الغربية في كل من مصر والسودان ، والأطراف والمنحدرات الشمالية الغربية من الهضبة الحبشية ، وأرض النوبة معظمها أو كلها . ولعل من الجائز أن نتصور الروافد والمجاري النهرية التي كانت تنساب على منحدرات جبال البحر الأحمر الغربية في الصور العتيقة في الطور الأول ، والصورة التالية في البلايوسين الأوسط والأعلى ، ظلت مستمرة في تحقيق وجمع فائض كبير تغذى به الجريان النيلي في مصر . ويستوجب الأمر أن نتوقع الزيادة في حجم هذا الفائض بصفة عامة ، كنتيجة مباشرة لزيادة المطر في العصر المطير الأول . هذا بالإضافة إلى ما ترتب على زيادة حجم الجريان في كل رافد من هذه الروافد ، من حيث النحت والتمزيق وتعميق المجاري ذاتها من ناحية ، ومن حيث حجم الرواسب والحمولة العالقة التي كانت تنقلها ضمن إيرادها المندفق إلى مجرى النيل في مصر من ناحية أخرى .

أما صورة الجريان في النوبة ، فيمكن القول أنها اكتسبت ملامح جديدة وإضافات ، كان من شأنها توسيع مساحة الحوض ، وإضافة مساحات جديدة إلى المساحات التي كان قد تضمنها الحوض في الطور الأول . ويبدو أن زيادة المطر في العصر المطير الأول ، قد قامت بدور كبير في مجال الاتصال والترابط ، بين النظم النهرية الثلاثة التي اشرنا إليها وإلى وجودها ، كتمهيد للجريان المتكامل ، في ثنيتي النيل النوبي الكبيرتين .

وهكذا يمكن القول أن هذه الصورة المتكاملة للجريان في النيل النوبي ، قد تمثلت في الغالب في العصر المطير الأول ، أو مايعادل الفترة من أواخر البلايوسين والبلايستوسين الأدنى . وقد تضمنت هذه الصورة الثنيتين الكبيرتين للنيل النوبي إلى خط عرض الموقع ، الذي شق فيه خانق سبلوكة ، وبات للحوض امتداد في اتجاه الجنوب الغربي ، يتضمن حوض وادي الملك الذي يجمع الإيراد المائي من شمال دارفور وكردفان ، ويعبر عن استمرار للجريان في الصورة السابقة ، وامتداد آخر في اتجاه الجنوب الشرقي ، يتضمن حوض نهر العطيرة ، الذي يجمع الإيراد المائي من منحدرات شمال غرب الهضبة الحبشية .

وما من شك في أن هذ التصوير المتكامل للجريان في النوبة ، الذي عبر عن توسيع مساحة الحوض ومنطقة تجميع المياه ، وعبر عن استمرار الجريان في المجرى النهري ، الذي واصل النحت التراجعي فيه فعله في شق وتعميق خانق سبلوكة ، يتناسق مع رأي ساندفورد واركل ، اللذين قررا أن عمر النيل النوبي لايرجع إلى أبعد من حوالي أواخر عصر البلايوسين وأوائل البلايستوسين .

ويمكن القول أن وجه الاختلاف بيننا وبين ساندرفورد واركل ، يتمثل في تصويرنا نظم الجريان الثلاث غير المترابطة في النوبة ، في الفترة فيما بين أواخر عصر الميوسين الأعلى والبلايوسين مرحلة أو طورا تمهيديا عتيقا . وكان هذا الطور يمهد للصورة المكتملة للنيل النوبي بعد ذلك ، في الفترة فيما بين أواخر البلايوسين والبلايستوسين الأدنى ، والتي افترضنا كل منهما مرحلة التمهيد المبكر للجريان النيلي الكامل التي نشأ وتكامل بعد شق خانق سبلوكة ، في حوالي البلايستوسين الأعلى ، وتدفق مياه النيل الأزرق والأبيض ، اللذين اقترن الجريان فيهما على مسافة كيلومترات قليلة ، أمام الموقع الذي يتضمن الخانق .

ويعني ذلك أنه في الوقت الذي نعتبر الجراين في النوبة ، قد مر بمرحلتين من مراحل التمهيد ، الأولى في الطور العتيق ، والثانية في آخر الطور الثاني ، يذهب ساندفورد واركل إلى تصوير التمهيد في مرحلة واحدة فقط . وقد قلنا من قبل أن افتراض ساندفورد واركل قد لانجد فيه فرصة لتعليل بعض سمات الشيخوخة والقدم ، التي تميز قطاعات من مجرى النيل النوبي ، والسهول الفيضية على جانب من جانبيه .

ومهما يكن من أمر ، فإن الصورتين اللتين تضمنتا الجريانالنهري النيلي في هذا الطور الثاني الطويل ، الذي استغرق معظم البلايوسين الوسط والأعلى والبلايستوسين الأدنى والأوسط على أقل تقدير ، كان النهر فيهما يعتمد على إيراد الروافد والمجاري النهرية ، من حوض كان امتداده لا يتجاوز أبدا ، خط عرض سبلوكة . وكانت هذه الروافد تجمع الماء من على منحدرات جبال الأحمر الغربية في مصر والسودان ، ومن على منحدرات الهضبة الحبشية في أقصى الشمال الغربي ، ومن على منحدرات الأرض في شمال دارفور وكردفان .

ويمكن القول أن المجرى النهري شمال خط عرض أسوان ، كان يمر بمرحلة إرساب في الصورة الأولى التي تضمنت طغيان ذراع البحر في البلايوسين الأوسط ، وبدورات من النحت والإرساب في الصورة الثانية التي ظهرت بعد تراجع البحر . أما القطاع جنوب خط عرض أسوان وخلفا فكان يمر في الصورة الأولى والثانية ، بدورة نحت وحفر وتعميق . ومع ذلك فإن معدلات النحت والتعميق ، زادت في الصورة الثانية التي ارتبطت فيها النظم النهرية عنها في الصورة الأولى ، نتيجة لتراجع ذراع البحر البلايوسيني ، وانخفاض مستوى القاعدة التي ينساب إليها الجريان .

ولايمكن للباحث أن ينتهي من معالجة الصورة الكاملة للجريانا لنيلي في الشطر الأخير من الطور الثاني ، في الفترة من أواخر عصر البلايوسين إلى البلايستوسين الأدنى والأوسط ، دون أن يشير إلى دورات النحت والإرساب التي تمثلت في القطاع من المجرى شمال أسوان ووادي حلفا ، وليس ثمة شك في أن توالي دورات النحت والإرساب ، هو الذي أدى إلى خلق وتكوين المدرجات النهرية العليا ، التي توجد ضمن الوادي في الوقت الحاضر .

ويمكن متابعة بعضها (المدرجات النهرية) بوضوح تام واستمرار شبه كامل ، فيما بين وادي حلفا والقاهرة ، والمفهوم أن هذه المدرجات ، تتضمنها ثلاث مجموعات متباينة ، من حيث العمر على الأقل ، والمناسيب التي توجد عليها ، وقد تم العثور عليها في لامجموعة الأولى على مناسيب 150 و 115 و 90 و 60 و 45 مترا فوق منسوب سطح السهل الفيضي الحالي . وقد اتفق معظم الباحثين على أن المدرجات العالية على منسوب 150 و 115 مترا ترجع إلى أواخر عصر البلايوسين ، على حين أن المدرجات الثلاث الأخرى على منسوب 90 و 60 و 45 مترا ، ترجع إلى فجر البلايستوسين الأدنى . كما تمخض البحث عن مجموعة أخرى من المدرجات ، منها مدرج على منسوب 30 مترا وآخر على منسوب 15 مترا عن منسوب السطح الحالي . وقد تضمنا بقايا وآلات حجرية شيلية وإشيلية من العصر الحجري القديم الأسفل ، أو مايعادل الجزء الأخير من عصر البلايستوسين الأدنى . أما المجموعة الأخير فتمثلها المدرجات على منسوب 9 ، 3 أمتار ، عن منسوب سطح السهل الفيضي الحالي . وقد تضمنت هذه المدرجات بقايا وآلات حجرية موستيرية من العصر الحجري القديم ، والأوسط . ويعني ذلك أنها قد نشأت في حوالي الفترة ، التي تمثل فيها الجفاف بين العصر المطير الأول والعصر المطير الثاني ، أو مايعادل حوالي البلايستوسين الأوسط .

ومهما يكن من أمر فنحن لا نجد حاجة ملحة لأن توغل في الحديث وعرض تفاصيل كثيرة بشأن ههذ المدرجات النهرية في هذا المجال . ويفهم ذلك على اعتبار أن الاهتمام بها من الزاوية ، التي تهم دراسة قصة النهر وتطوره الجيولوجي لاتستلزم بحثا عميقا عن بعض النتائج ، التي تفصح عنها دراسة المدرجات النهرية وما تتضمنه من بقايا وآلات حجرية . ولعل أهم الجوانب التي تهمنا في هذا المجال هو الإشارة إلى أن تكوين هذه المدرجات ونشأتها ، كان مرتبطا بعاملين أساسين لهما علاقة أصيلة بالجريان النهري النيلي ، من حيث حجم الجريان ، وما يطرأ عليه من زيادة أو من نقصان ، ومن حيث سرعة الجريان ودرجة الانحدار ، وأثره في تعاقب معدلات النحت والإرساب .

وهذان العاملان هما العامل المناخي الذي يتمثل في زيادة أو نقصان المطر وذبذباته في قمم متوالية ، في اثناء العصر المطير الأول ، وإلى أن حل الجفاف كدور هام في عصر البلايستوسين الأوسط .

والعامل الثاني هو الذي يتصل اتصالا مباشرا ووثيقا بتغير مستوى القاعدة ، التي ينتهي إليها الجريان النهري في البحر المتوسط . ولعل من الجائز أن نشير إلى أن فترة الجفاف في البلايستوسين الأوسط ، التي وصلت بالنهر وصورته التي ألقينا الأضواء عليها إلى نهاية الطور الثاني ، قد أدت إلى نقص كبير في حجم الجريان المائي بصفة عامة . ويمكن القول أن قدرة النهر على البحث قد ضعفت بشكل ملحوظ ، كنتيجة مباشرة لذلك النقص ، في حجم الجريان المائي من ناحية ، ولهذه والانحدارات الناشئ عن الارتفاع الطفيف ، الذي طرأ على مستوى سطح البحر المتوسط في البلايستوسين الأوسط ، من ناحية أخرى .

وما من شك في أن دور الجفاف في عصر البلايستوسين الأوسط ، قد أثر تأثيرا مباشرا على النهر والجريان النيلي بصفة عامة ، ولعله كان في هذا الدور مهددا بالتحول إلى الجفاف التدريجي ، لكي يبدو في الصورة التي تعبر عنها صور الوديان الجافة في قلب الصحراء في الوقت الحاضر ، ويمكن القول أن حلول الزيادة في المطر في العصر المطير الثاني ، وتدفق مياه الهضبة الحبشية والهضبة الاستوائية النيلية بعد شق خانق سبلوكة ، قد وضع حدا للتدهور الذي هدد كيان الجريان النيلي ، وأنهى الطور الثاني لكي يبدأ الطور الثالث ، من الأطوار التي اكتمل بها الجريان النيلي في صورته الحالية .

هكذا كانت نقطة البداية في الطور الثالث والأخير ، الذي تضمن صورة جديدة للجريان النيلي ، في حوالي العصر المطير الثاني أو مايعادل عصر البلايستوسين الأعلى ، ويمكن أن نقرر أن زيادة المطر في العصر المطير الثاني ، كان من شأنها أن تحقق الزيادة في حجم الجريان وارتفاع المناسيب وأن تضفي على المجرى النهري النيلي ، صفات تعيد إلى الأذهان صورة النهر ومناسيب جريان في العصر المطير الأول ، ويعني ذلك أن زيادة المطر وحدها لم تكن كفيلة بتغيير جوهري ، في تفاصيل الصورة التي تمثلت في البلايستوسين الأدنى ، من حيث مساحة الحوض ومناطق التجميع ، ومن حيث طول المجرى .

ولعل من الضروري أن نذكر أن وصول النحت التراجعي ، إلى نحت وحفر وتعميق خانق سبلوكة ، هو الذي أدى إلى جملة التغيرات الجوهرية ، وأكسب الجريان النيلي ملامح وصفات وخصائص جديدة ، من حيث الصورة العامة ، ومن حيث طبيعة الجريان . ويمكن القول أن هذا الحدث في تاريخ النيل وقصته الطويلة ، التي بدأت من أواخر الميوسين الأولى تمثل أخطر وأهم حدث لأنه يضع الحد الفاصل ، بين صورتين أو فصلين مختلفين من الصور التي تضمنت الجريان النيلي ، وهاتان الصورتان هما صورة الجريان النيلي قبل نحت وشق خانق سبلوكة ، وصورة النيل بعد حدوث هذا النيل العظيم .

ونذكر في هذا المجال أن أخطر التغيرات التي ترتبت على نحت أو شق هذا الخانق ، قد تمثلت في اقتران النيلين الأبيض والأزرق ، وانطلاق المياه منهما في اتجاه الشمال ، كإضافة هائلة للنيل والجريان النيلي ، ونود أن نقرر أن هذا القول لا يعني بالتحديد تحميل العوامل التي شقت خانق سبلوكة ، مسئولية الاقتران بين النيلين الأبيض والأزرق ، لكنه يعني أن اكتمال الحفر والنحت فيه أوجد الفرصة ، لأن تنطلق المياه من النهرين في اتجاه الشمال ، ويمكن أن نتصور معنى هذا الحدث الخطير ، على اعتبار أنه خلق الترابط والاتصال بين الحوض الذي تضمن الجريانالنيلي في النوبة ومصر من ناحية، وجملة الأحواض الأخرى التي اكتملت فيها صور الجريان النهري في حوالي البلايستوسين الأوسط ، وتقع جنوب خط عرض الخرطوم من ناحية أخرى .

ويمكن للباحث أن يذكر أن هذه النتيجة الخطيرة ، قد تضمنت معاني كثيرة وتغيرات جوهرية إلى أبعد الحدود ، فهي من ناحية كانت مؤدية إلى تغير جوهري من حيث شكل الحوض مساحته ، لأن الترابط بين تلك الأحواض المتجاورة هو الذي ا:سب حوض النيل صورته العامة المنتشرة على محور طولي ، عظيم الامتداد من الجنوب إلى الشمال . كما كانت هذه النتيجة مؤدية من ناحية أخرى إلى تغير جوهري آخر من حيث شكل النهري نفسه ، وطوله وامتداد المحور العام للجريان فيه . هذا بالإضافة إلى التغير الجوهري الثالث ، الذي تمثل في إضافة حجم هائل من الإيراد المائي إلى الجريان النيلي العام . وهذا الحجم الهائل الذي نعنيه ، هو حصيلة الفائض الكبير الذي كانت تجمعه الروافد والمجاري النهرية ، في كل حوض من تلك الأحواض ، التي اتصلت وانسابت مياهها ، عن طريق شق خانق سبلوكة صوب الشمال .

وهكذا يتبين الباحث أن شق خانق سبلوكة ، كان من غير شك حجر الزاوية في كل تغير جوهري عام من التغيرات التي أكسبته الصفات والخصائص التي ميزت الجريان النيلي في هذه المرحلة أو في هذا الطور الثالث . ولعل من الطريف أن يكون حدوث خانق سبلوكة واكتمال نحته وتعميقه وصلاحيته لتمرير الجريان ، قد تم في الوقت المناسب الذي يتناسق مع أمرين هامين هما :

  1. اكتمال صورة الجريان النهري في هضبة البحيرات ، وحدوث التصدع الذي أجرى المياه في بحر الجبل والنيل الأبيض في البلايستوسين الأوسط .
  2. اكتمال صورة الجريان النهري في الهضبة الحبشية بعد ارتفاع الحافة الشرقية وتدفق مياه بحيرة يايا ومضي الوقت الكافي لإرساب تكوينات أرض الجزيرة .

ومهما يكن من أمر ، فإن هذا التناسق في تاريخ الترابط واكتمال الصورة ، التي تضمنت الجريان النهري في كل الأحواض التي تألف منها حوض النيل ، أضفى على نهر النيل وعلى روافده بشيء من التدريج ، كل الصفات التي تميزه في الوقت الحاضر ، ويعني ذلك أن تطور صورة النيل واكتمال تلك الصورة ، قد استغرق الفترة من حوالي البلايستوسين الأعلى إلى الآن . كما يعني أيضا إضافة عامل جديد إلى جملة العوامل التي كانت تتضافر على تعقيد دورات النحت والإرساب في كل مرحلة من المراحل ، التي تمثلت فيا لنهر منذ البلايستوسين الأعلى . والمفهوم أنه في أوائل الدور المطير الثاني ، حيث كان منسوب سطح البحر المتوسط أكثر انخفاضا منه في الوقت الحاضر ، كان الجريان النيلي الذي تجمع فيه الإيراد المتدفق ، من الهضبة الحبشية ومن الهضبة الاستوائية عظيما هائلا .

ويمكن القول أن مجرى النهر في الجزء الأدنى شمال مصر الوسطى على الأقل ، كان يمر بمرحلة نحت وتعميق ، نتيجة لزيادة درجة الانحدار إلى البحر المنخفض . أما في مصر العليا والنوبة البعيدة عن البحر ، نسبيا ، فيبدو أن مجرى النهر ودرجة الانحدار فيه ، لم تتأثر بانخفاض مستواه . بل لعل هذا الجزء من المجرى كان يمر بدورة من دورات الإرساب التي تمخضت عن رواسب العصر السبيلي . وقد بلغت هذه الرواسب عند وادي حلفا ارتفاع 30 مترا فوق منسوب السهل الفيضي في الحاضر . وكلما اتجهنا شمالا انخفض منسوب إرساب هذه الرواسب ، التي كانت ترد من الروافد الحبشية حتى تصل عند نجع حمادي ، إلى نفس منسوب السهل الفيضي الحالي .

ويعني ذلك أنه في الجزء الأول من الدور المطير الثاني أو مايعادل البلايستوسين الأعلى ، امتاز النهر في النوبة ومصر العليا بالإرساب ، على حين أنه امتاز في مصر الوسطى والدلتا بالنحت وتعميق المجرى . ويمكن القول أن هذه الصورة قد استمرت فترة طويلة ، إلى أن ارتفع مستوى سطح البحر المتوسط ارتفاعا تدريجيا ، قرب نهاية الدور الثاني . ويذكر دكتور حزين أنه كلما ارتفع سطح البحر ساعد ذلك على زيادة الإرساب ، والتحور من دور النحت والتعميق ، إلى دورة الردم والإرساب في الدلتا ومصر الوسطى .

وقد استمرت دورة الإرساب في الاتجاه صوب الجنوب ، وكأنها تلاحق دورة النحت التي تصعد إلى النيل النوبي . ويعني ذلك أن دورة الإرساب التي تمثلت في النوبة ، قد حلت محلها دورة النحت الصاعدة في اتجاه الجنوب . والمفهوم أن دورات النحت والإرساب التي تبدأ عند مصبات الأنهار كنتيجة لانخفاض مستوى القاعدة أو ارتفاعه تسير سيرا تراجعيا ، بحيث تصعد في النهر في اتجاه المنبع .

وهذا الطمى السبيلي فيه – على كل حال – تعبير واضح ، عن الاتصال بين الجريان النيلي في مصر والنوبة ، وبين المجاري النيلية جنوب خط عرض خانق سبلوكة . وهو كما قلنا طمى يتضمنه الإيراد المائي الهائل ، الذي كانت تجمعه الروافد من الهضبة الحبشية ، في أثناء الدور الطويل من العصر المطير الثاني ، الذي تمثل في هذه الهضبة وفي شرق أفريقية في عصر البلايستوسين الأعلى . ولعله يقدم دليلا قاطعا على تقدير التاريخ السليم ، الذي تحقق فيه مرور الجريان في خانق سبلوكة ، وظهور الصورة العامة الجديدة ، التي تضمنها الطور الثالث من أطوار الجريان النيلي .

ويمكن القول أن صورة النهر ، باتت تقترب في كثير من تفاصيلها ، إلى شكل الصورة الحالية ، ويجب أن يفهم ذلك التعبير على اعتبار أن النيل لم يتخذ طابعه الحالي ، إلا بعد مرور وقت طويل استغرق فترة الجفاف التالية للعصر المطير الثاني ، كما استغرق فترة تحسن المناخ وزيادة المطر ، في الدور المعروف بدور ممطر العصر الحجري الحديث ، وليس ثمة شك في أن أهم ماتمثل في هذا الشطر الأخير من الطور الثالث ، هو التأثير المباشر على تكوين الدلتا وشكلها العام من ناحية ، وعلى منخفض الفيوم وعلاقته بحوض النيل والجريان النيلي من ناحية أخرى . ويمكن أن ندرك أنهما قد خضعا من حيث النشأة ، أو من حيث التطور على الأقل ، لكل عامل من العوامل التي خضعت لها قصة الجريان النيلي ، وأثرت على مراحل النمور والتطور والاكتمال .

ونذكر في مجال الحديث عن تكوين دلتا النيل والعوامل التي تضافرت على نموها أنها تتأثر بعاملين هما : احتمال التغير الذي يطرأ على مستوى سطح البحر المتوسط من ناحية ، وصورة الجريان من حيث الحجم ومن حيث السرعة ومن حيث حجم الحمولة من الرواسب التي يتضمنها ، ومصدرها التي اشتقت منه تلك الرواسب من ناحية أخرى .

وإذا كنا قد أشرنا إلى قصة الجريان النيلي قد بدأت في الفترة من حوالي أواخر الميوسين الأعلى وتحققنا من دور النحت ، الذي أسهم في خلق الوادي الصندوقي المنحوت ، فإن ارتفاع البحر وطغيانه وامتداد ذراع منه في هذا الوادي المنحوت ، يحتم علينا أن نتصور بداية الإرساب والتراكم ، الذي تمخض عن بداية قصة تكوين الدلتا ، في حوالي أواخر عصر البلايوسين الأعلى . ويعني ذلك أن تكوين الدلتا وتجمع الرواسب بدأ مع هبوط مستوى سطح البحر وتراجع الذراع البلايوسينية ، وعودة الجريان النهري النيلي إلى الانتظام ، والمرور على المحور العام في اتجاه الشمال ، وما من شك في أن هذا التراجع العام ، قد انتهى إلى حد معين ، بحيث تخلى عن خليج غير عميق نسبيا يصب فيه النهر ويلقى فيه بحجم من الرواسب والمفتتات .

ويمكن القول أن الجريان النهري النيلي في الفترة من أواخر البلايوسين إلى البلايستوسين الأدنى أو مايعادل العصر المطير الأول ، كانت له القدرة من حيث حجم الفائض على نقل حجم كبير من الرواسب والمفتتات ، التي كانت تتجمع من الروافد الجانبية المنحدرة على جبال البحر الأحمر . وهكذا كانت الرواسب والمفتتات تجد طريقها ضمن الجراين إلى الخليج ، وكانت تستقر على قاعه غير العميق ، ومع ذلك فإنها ظلت تتراكم إىل حوالي البلايستوسين الأدنى ، تحت مستوى سطح البحر ، الذي كان يرتفع عن مستوى السطح الحالي ، بحوالي مائة متر في فجر البلايستوسين .

ويمكن القول أن اتجاه مستوى سطح البحر للانخفاض ، والتناقص بصفة مستمرة في أثناء عصر البلايستوسين الأدنى ، كان لايقل أهمية عن دورة الجريان النهري ، في تجميع ونقل الرواسب وإلقائها ، ونحو الدلتا بشكل منتظم رتيب . وقد بلغ نمو الدلتا في نهاية العصر المطير الأول الذي استغرق كل البلايستوسين الأدنى مبلغ عظيما . وأصبح خط الساحل نتيجة لهذا النمو من ناحية ، ونتيجة لاستمرار التناقص المنتظم الرتيب ، في منسوب سطح البحر المتوسط من ناحية أخرى ، على مسافة حوالي 90 كيلومترا من موقع مدينة القاهرة . والجدير بالذكر أن منسوب سطح البحر ، قد هبط في ذلك الوقت الذي يعادل حوالي العصر الحجري القديم الأوسط ، إلى حوالي 12 مترا بالنسبة إلى منسوبه في الوقت الحاضر .

وإذا كان البلايستوسين الأدنى وفجر البلايستوسين الأوسط ، قد شاهد هذه المرحلة من مراحل النمو في الدلتا ، فإن عدم الاستقرار عاد مرة أخرى ، لكي يؤثر على منسوب سطح البحر ، وعلى تكوين الدلتا بصفة عامة . ويمكن القول أن سطح البحر قد ارتفع في قلب البلايستوسين الأوسط ، أو أن الأرض ذاتها هي التي هبطت هبوطا طفيفا ، وكانت النتيجة التي ترتبت على ذلك ، هي تقدم البحر على حساب اليابس ، لكي يصبح خط الساحل الشمالي على مسافة 82 كيلومترا من موقع القاهرة .

والجدير بالذكر أن سطح البحر ارتفع من منسوبه – 12 مترا في بداية البلايستوسين الأوسط ، إلى حوالي 16 مترا فوق منسوبه الحالي ، في أواخر البلايستوسين الأوسط ، ويمكن أن نتصور في هذه الفترة بالذات استمرارا للإرساب ، ولكن بمعدلات هزيلة ، لأن الظروف المتعلقة بالجريان وفترة الجفاف ، كانت لاتدع للنهر فرصة نقل رواسب كثيرة ، وهي من غير شك كانت تقل من حيث الحجم الكلي من حجم الرواسب في المرحلة السابقة في العصر المطير الأول أو مايعادل البلايستوسين الأدنى .

ومع ذلك فيبدو أن عودة سطح البحر إلى الانخفاض في بطء شديد في أواخر فترة الجفاف ، وفجر العصر المطير الثاني ، من حوالي 16 مترا إلى حوالي 13 مترا في فجر البلايستوسين الأعلى ، كان من شأنه أن يسهم في استمرار التكوين وفي تراجع خط الساحل الشمالي ، لكيس يصبح على مسافة حوالي 85 كيلومترا من موقع القاهرة . ويعني ذلك أن خط الساحل كان يقترب من الوضع الذي كان بلغه من قبل ، في أواخر البلايستوسين الأدنى وفجر البلايستوسين الأوسط . وما من شك في أن الظروف التي أحاطت بالجريان النيلي من حيث الاتصال بين النظام النهري النيلي في مصر والنوبة ، ومجموعة النظم التي تقع جنوب خط عرض سبلوكة ، ومن حيث زيادة المطر في البلايستوسين الأعلى . قد أضفت على الدلتا وتكوينها كل ما يعبر عن االاستمرار في النمو والتكوين . ويمكن القول أن حجما كبيرا من الرواسب كان يضاف إلى سطحها من الطمى المعروف باسم الطمى السبيلي .

وكانت هذه الظروف التي أحاطت بحجم الرواسب ، والتي اقترنت باستمرار في انخفاض منسوب سطحه الحالي ، مؤدية إلى الاكتمال والنمو ، والاقتراب بشكلها العام ، عن صورتها الحديثة . ولعلنا ندرك هذا المعنى على ضوء العلم ، بأن هذا الانخفاض الكبير في منسوب سطح البحر المتوسط ، كان من شأنه أن أصبح خط الساحل ، على مسافة 181 كيلومترا من القاهرة ، أي مايزيد عن بعد خط الساحل الحالي عنها بحوالي 11 كيلومترا ، كما ندركه أيضا على ضوء العلم بالحجم الهائل من الرواسب ، التي كانت تتضمنها المياه الجارية في النيل ، في البلايستوسين الأعلى من المصادر الحبشية .

ويمكن للباحث أن يسجل بهذه المناسبة ، أن النمو كان يتم ببطء ملحوظ ، لأن مجرد الانخفاض في منسوب سطح البحر إلى الحد الذي سجلناه ، كان له تأثير كبير على معدلات الإرساب . ويعني ذلك أن دورة النحت التي كانت قد بدأت وتمثلت في مصر السفلى والوسطى ، كانت تقل لمن شأن الإرساب إلى حد ما . ومع ذلك فإنه مع مرور الوقت كان منسوب سطح البحر يرتفع ببطء شديد ، وكان كل ارتفاع عن أدنى منسوب وصل إليه وهو – 43 مترا ، يعطي فرصة لمزيد من الإرساب والنمو .

ويمكن القول أنه في نهاية العصر المطير الثاني أو مايعادل فجر العصر الحجري الحديث ، كان منسوب سطح البحر يرتفع ارتفاعا ملحوظا ، لكي يصبح على منسوب يقل بحوالي 10 أمتار عن منسوب السطح في الوقت الحاضر . وقد أدى ذلك إلى نتيجتين هامتين هما : امتداد خط الساحل على مسافة حوالي 3 كيلومترات ، شمال خط الساحل الحالي ، واعتدال الانحدار الأمر الذي كان مدعاة لزيادة طفيفة في معدلات الإرساب والتراكم .

ويعني ذلك أن الفترة الأخيرة فيما بين العصر الحجري الحديث والوقت الحاضر ، شهدت مرحلة من مراحل النمو والاكتمال والنضج . وكانت الرواسب الطمبية التي يحملها لنهر تستقر على سطح الدلتا ، وتكمل مراحل نضجها وتكوينها ، لكي تبدو في الصورة النهائية التي انتهت إليها في الوقت الحاضر .

ونحن لايهمنا بطبيعة الحال أن نتعرف على معدلات الإرساب ، ولكن الذي يهمنا أن نبين تأثر هذه المعدلات بكل ما من شأنه أن يؤثر على حجم الجريان ، أو بكل ما من شأنه أن يؤثر على منسوب سطح البحر المتوسط . ويمكن القول أن العصور التاريخية قد شهدت نقصانا في الجراين ، بعد انتهاء الزيادة في دور ممطر حجري حديث ، كما شهدت عدم الاستقرار في منسوب سطح البحر المتوسط إلى حد ما . من أجل ذلك لم تشهد دلتا النيل الاستقرار والنضج الكامل ، بل نراها تتعرض لما يترتب على هذين العاملين من نتائج .

ويعتقد الباحثين أن عدم الاستقرار في المرحلة الأخيرة ، قد نشأ نتيجة للذبذبة في منسوب سطح البحر من فترة إلى فترة ، وأن الجريان وحجم الرواسب ليس له تأثير كبير في هذا المجال . ويشيرون إلى أن الارتفاع الطفيفي في منسوب سطح البحر ، كان سبب في طغيان على أ"راف الدلتا ، بقدر ماكان سببا في زيادة معدلات الإرساب ، والتغيير في صورة الفروع التي كانت تنساب فيها مياه النيل على تكوينات الدلتا ، والمفهوم أن معظم المصبات والفروع النهرية التي اشار إليها استرابون وبطليموس ، قد اختفت تماما بعد بداية العصر العربي ، ولم يتبق في الصورة إلى فرعا دمياط ورشيد .

ومهما يكن من أمر ، فإن نمو الدلتا وتكوينها . قد بدأ من أواخر عصر البلايوسين ، وأنه استغرق الفترة التالية كلها إلى الوقت الحاضر . ويعني ذلك أن نموها شهد مرحلتين منفصلتين من مراحل الجريان النيلي هما :

  1. المرحلة المبكرة السابقة للاتصال بين الجريان النهري النيلي في مصر والنوبة ، والجريان النهري والنظم المائية جنوب خط عرض سبلوكة ،.
  2. المرحلة الثانية : لهذا الاتصال وانسياب الإيراد الطبيعي لروافد النهر جنوب خط عرض سبلوكة .

ويمكن للباحث ان يتبين نتائج هاتين المرحلتين في دراسة الرواسب والتكوينات التي تألفت منها الدلتا .

ويمكن القول ان الرواسب تتألف من ثلاث طبقات متوالية مرصوصة من أسفل إلى أعلى ، على النحو الذي يعبر عن معاني كثيرة تتعلق المصادر التي اشتقت منها كل طبقة ، وتتعلق بالتاريخ لكل طبقة من هذه الطبقات .

وهذه الطبقات هي طبقة الرواسب الخشنة التي تتكون من مفتتات خشنة تتراوح بين الرمل الناعم والرمل الخشن والحصى ، وطبقة الرواسب الناعمة التي تتكون من مفتتان ناعمة تتراوح بين الرمل الناعم والمختلط بالطين ، ثم طبقة الرواسب الطمبية الناعمة الحديثة .

ويبدو أن الطبقة التحتية التي يتراوح قوامها بين الحصى الرمال الخشنة ، قد ارسبت في وقت مبكر ، يرجع في الغالب إلى حوالي كل الفترة ، من حوالي أواخر البلايوسين إلى البلايستوسين الأدنى . وهي في جملتها تمثل طبقة عظيمة السمك ، مفروشة على قاع الخليج غير العميق ، الذي تخلف عن انحسار البحر البلايوسيني ، وتراج الذراع البلايوسينية في الوادي المنحوت ، في المرحلة السابقة التي تضمنت الجريان النيلي العتيق .

وهذه الرواسب الخشنة السميكة كانت حصيلة ترتبت على زيادة المطر الغزير في العصر المطير الأول ، وزيادة قدرات الروافد النهرية على النحت والتعرية المائية الشديدة ، في كل المساحات التي كانت تغذي الجريان النيلي بالفائض من المطر الغزير عليها . ولما كان الجريان النيلي في هذه المرحلة المبكرة قاصرا على القطاع الواقع شمال خط عرض سبلوكة ، فإن ذلك يعني أن هذه المفتتات الخشنة والرواسب المختلطة من الرمل والحصى ، قد اشتقت من منحدرات جبال البحر الأحمر ، في كل من مصر وشمال السودان ومن النوبة .

وتختفي معظم هذه الرواسب القديمة الخشنة ، أسفل الطبقات الأحدث عصرا ، اللهم إلا في بعض المساحات التي تتمثل فيها الأجزاء المعروفة ، باسم ظهور السلاحف المنتشرة بين خطي العرض 30º و 31º شمالا وخطي الطول 31º و 32º شرقا . وتبدو هذه الظهور المرتفعة نسبيا ، كجزء من التكوينات الخشنة ، وسط محيط هائل من الطمى الدقيق ، والطين المتماسك .

أما الطبقة التالية من الطين المختلط بالرمل الناعم ، والتي يبلغ سمكها إلى حوالي 26.6 مترا في المتوسط ، فهي ناشئة عن الإرساب النهري في المرحلة التالية لشق خانق سبلوكة واتصال الروافد النهرية العليا في كل من الحبشة والهضبة الاستوائية بالجريان النيلي العام . ويمكن القول أنها من حيث العمر الجيولوجي ، ترجع إلى عصر البلايستوسين الأعلى أو مايعادل العصر المطير الثاني . ولذلك فهي مشتقة من مصادر غير المصادر التي اشتقت منها الرواسب في الطبقة التحتية ، الأقدم عمرا . وما من شك في أن الرحلة الطويلة التي تمر بها تلك الرواسب من الهضبة الحبشية ، هي التي أدت إلى تفتيتها إلى مفتتات دقيقة ، تصل إلى حد الطين .

أما الطبقة العليا التي تعرف باسم طبقة الطمى الحديث ، والتي تتألف من طبقة الطين النقي والمفتتات الدقيقة ، فقد بدأ غرسابها في حوالي العصر الحجري الحديث . وهي على كل حال رواسب تمخض عنها فيضان النهر ، منذ مواسم الفيضانات العالية ، المرتبطة بدور ممطر حجري حديث ، إلى الفيضانات على المناسيب التي تتمثل في الوقت الحاضر ، ويمكن القول أنها انتشرت على سطح الدلتا انتشارا رتيبا ، بحيث يكون متوسط سمكها حوالي 11.5 مترا شمال خط العرض 31º شمالا ، ويكون متوسط سمكها حوالي 8.5 مترا جنوب خط العرض المذكور . وقد استمرت عملية الإرساب مستمرة مع فيضان النيل الرتيب في الصيف من كل عام . ولو أنه من الجائز أن يكون تنظيم الري ونظام المناوبات وتوزيع الماء وفقا لحساب دقيق ، ثم كان تشغيل سد أسوان العالي لكي تنتهي دورة الإرساب ويحل محلها دورة نحت جديدة قد أثر تأثيرا حقيقيا في مجال توزيع الرواسب على سطح الدلتا .

وإذا كنا نتصور العامل البشري كعامل إضافي يؤثر على صورة الإرساب في الدلتا ، من حيث معدلات التوزيع على سطح الدلتا والمساحات المزرعة ، فإن الإرساب الذي يتمثل في أحجام هائلة من الرواسب والمفتتات من الحمولة العالقة ، مع الجريان المتدفق من فمى النهر على فرع دمياط وفرع رشيد إلى البحر ، بدأ يتأثر بهذا العامل البشري الآن تأثيرا طفيفا .

ويمكن القول أن معظم الأحجام الهائلة من تلك الرواسب ، كانت تستقر على القاع الضحل غير العميق أمام خط الساحل ، ويتأثر توزيعها بمرور التيار الساحلي البحري المتجه من الغرب إلى الشرق ، وتؤدي في النهاية إلى زيادة مساحة الأرض زيادة طفيفة على حساب السطح المائي .

ويعتقد بعض الباحثين أن إرساب هذه الأحجام الكبيرة من الحمولة العالقة سنويا وفعل التيار الساحلي اللذين يعملان جنبا إلى جنب ، يؤديان إلى خلق حالة من حالات التوازن ، التي تؤثر تأثيرا فعالا على شكل خط الساحل الشمالي للدلتا وعلى تطوره . والمقصود بهذا المعنى ضرب من ضروب التواوزن بين الإضافة التي تتأتى نتيجة الإرساب ، وبين التعرية والتآكل والنحت والهدم الذي يترتب على فعل ونشاط التيار البحري الساحلي ، في قطاعات معينة من خط الساحل الشمالي .

وربما كان المقصود به أيضا المحافظة على مساحة أرض الدلتا ، رغم احتمالات التغير التي تطرأ على شكل الساحل الشمالي ، من حيث فعل النحت والإرساب وفعل الهدم والبناء . ويمكن القول على كل حال أن العامل البشري على وشك أن يفرض إرادته على هذا النمط من أنماط الإرساب ، لأن بناء وتشغيل السد العالي من شأنه أن حجز في حوض التخزين العظيم الأحجام الهائلة من الرواسب والمفتتات والحمولة العالة بالماء . ويمكن أن نتصور النتيجة على اعتبار أنها من قبيل الإخلال بذلك التوازن بين الإرساب النهري على أطراف الساحل الشمالي للدلتا من ناحية ، والتعرية البقحرية على هذا الساحل من ناحية أخرى ، وليس ثمة شك في أن عملا معينا يجب أن يوضع موضع التنفيذ ، لكي لا يتعرض الساحل الشمالي وأطراف من أرض الدلتا للاحتمالات الناشئة عن فقدان التوازن بين البناء والهدم .

ثم ننتقل أخيرا إلى متابعة الدراسة في منخفض الفيوم ، الذي يمثل قطاعا فريدا من الأرض ، التي يتضمنها حوض النيل العظيم . والمفهوم أن هذا المنفخض الذي تبلغ مساحته حوالي 1700 كيلومتر مربع ، يتصل اتصالا مباشرا بحوض النيل ، عن طريق فتحة طبيعية توجد في حافته الشرقي تعرف بفتحة اللاهون .ولعل أهم ما يلفت النظر هو شكل المنخفض العام ، الذي يشبه من وجوه كثيرة مجموعة من المنخفضات في قطاع كبير من الصحراء الغربية ، فيما وراء الحد الغربي لحوض النيل . ونذكر من هذه المنخفضات الكثيرة ، التي تحتل أحواضا مناظرة ، المنخفض الذي يتضمن واحدة سيوة ، ومنخفض القطارة . كما يلفت النظر أيضا هبوط مناسيب قيعانها ، إلى حد يضعها دون مستوى سطح البحر .

ومن الجائز أن يكون ذلك مدعاة لأن نتصور هذا التشابه دليلا ، على نشاط عوامل معينة مشتركة ، كانت هلا القدرة على حفر هذه المنخفضات وتعميقها . ومع ذلك فإن اتصال منخفض الفيوم بحوض النيل وجريان فرع النيل إليه ، يكسبه بعض الخصائص الفريدة ، التي تميز بينه وبين سائر المنخفضات في الصحراء الغربية من وجوه معينة . ويمكن القول أن الأقوال والنتائج في مجال الحديث عن العامل أو العوامل التي أسهمت في خلق وتكوين هذا المنخفض العميق ، والتي تحتل بحيرة قارون حوالي 210 كيلومترات مربعة من قاعه المنخفض على منسوب 44 مترا تحت مستوى سطح البحر قد تضاربت . وكان التضارب والاختلاف هائلا في مجالين هامين من مجالات الدراسة ، وهما : تحديد العامل او العوامل التي تضافرت على نحت المنخفض وتعميقه شديدا ، يعبر عنه الفرق الكبير بين منسوب 30 مترا كحد للحوض الذي يتضمنه . ومنسوب 44 تحت مستوى سطح البحر ، وتحديد التاريخ المناسب للبداية ، والمراحل التي مر بها النحت والحفر والتعميق على وجه التحديد .

ومهما يكن من أمر ، فإن منخفض الفيوم قد حظي بدراسات وأبحاث في أثناء الثمانين سنة الماضية ، استهدفت إلقاء الأضواء على أصله وعلى تكوينه . ويهمنا في هذا المجال أن نشير إلى أن بيدنيل Beadnell أجرى دراسة عميقة في الهضبة ، التي حفر فهيا المنخفض والتي تتألف من الصخور الجيرية الأيوسينية . وقد تبين له من الدراسة أن حفر المنخفض ، قد بدأ منذ حوالي البلايوسين الأوسط ، وأنه عندما تعرضت الأرض للهبوط في البلايوسين أيضا ، امتلأ القطاع المحفور بالماء . ولعله يتصور هذه المرحلة فاصلا بين الحفر والتعميق الذي بدأ في البلايوسين ، والحفر الذي تمثل في مرحلة تالية ، وحدث بعد أن عادت الأرض للارتفاع ، وتراجع البحر في أواخر البلايوسين الأعلى . وهذا معناه أنه يفترض عودة إلى الظروف الملائمة الهوائية على استكمال التعميق الكامل ، قبل أن تبدأ الظروف التي أدت إلى خلق البحيرة وتجمع الماء فيها .

أما النتائج التي انتهى إليها ساندفورد واركل من واقع الدراسات التي تابعا فيها دراسة المدرجات النهرية ، والصلة بينها وبين المدرجات النهرية في وادي النيل ، فقد أدت إلى افتراض حفر المنخفض في فجر البلايستوسين ، والفترة السابقة له مباشرة ، في ذيل البلايوسين الأعلى . ويعني ذلك أنهم يختلفون من بيدنل اختلافا جوهريا ، لأنهما يقرران أن مقدمات الحفر والتعميق في منخفض الفيوم ، ليس ثمة مايدل على حدوثها في أي مرحل من المراحل في عصر البلايوسين . هذا بالإضافة إلى أنهما يتصوران أن الحفر ، قد استغرق فترة طويلة استمرت إلى فجر العصر الحجري الحديث . وقد تأكد لديهم فصل التعرية المائية ودورها الفعال في الحفر والتعميق في هذه الفترة الطويلة ، التي تمثل فيها عصرين من عصور المطر الغزير ، هما العصر المطير الأول والعصر المطير الثاني .

وانتهى بول إلى نتيجة أخرى اعتمد فيها على بعض نتائج دراسات ساندفورد وأوكل ، وعلى العلم بأن ليس ثمة أثر للرواسب البلايوسينية من ناحية ، وأن المنخفض قد احتلته بحيرة منذ العصر الحجري القديم الأسفل من ناحية أخرى . وقد حدد في هذه النتيجة حفر وتعميق منخفض الفيوم في فجر البلايوسين . كما حدد دور التعرية الهوائية في هذا النحت والتعميق . ويعني ذلك أنه يتصور التعرية الهوائية ، مسئولة عن حفر المنخفض وتعميقه ، في الفترة التي تتضمن فجر البلايستوسين .

هكذا نتبين التناقض والاختلاف بين جملة آراء متباينة تناولت دراسة المنخفض . ففي الوقت الذي رأى فيه بلانكنهورن فعل الحركات الباطنية ، وما ترتب عليها من انكسارات على محاور مثلث يرسم الشكل العامل للمنخفض ، كان لها أثر هام في خلق وتكوين المنخفض ، يتجه رأي آخر إلى فعل التعرية المائية ، ورأي ثالث غلى فعل التعرية الهوائية .ويمكن القول أنه ليس ثمة دليل قاطع يمكن أن نقبل على أساه فعل الحركات الباطنية اللهم إلا إذا كانت قد أحدثت الخدوش وبعض التمزق السطحي ، الذي سهل مهمة العوامل التي سهمت في النحت والحفر والتعميق ، وربما كانت التثني الذي تعرضت له التكوينات الرسوبية من الحجر الجيري الأيوسيني ، سببا آخرا من الأسباب التي أضعفت تماسك تكوينات السطح ، التي تعرضت للنشاط وفعل عوامل التعرية .

ويرى بول على كل حال أن منخفض الفيوم ليس هو الوحيد ، الذي تمخضت عنه عوامل التعرية ، بل هناك مجموعة أخرى كبيرة من المنخفضات وهي منخفض الخارجة والداخلة والبحرية . وهذه المنخفضات جديرة بأن تصور الحد الذي وصل إليه نشاط هذه العوامل في النحت والحفر والتعميق . ويرى أن هذا المنخفض ظل معزولا عن النظام النيلي إلى العصر الحجري القديم الأسفل ، الذي حدث فيه أول اتصال مباشر ، أدخل المنخفض في ظروف جديدة وهامة ، من وجهة النظر الطبيعية .

ويمكن القول أن هذا الاتصال الذي تمثل في دخول مياه النيل إلى المنخفض ، في حوالي عصر البلايستوسين الأسفل ، كانتنتيجة مباشرة لاندفاع المايه في فرع عتيق ، خلال فتحة تكونت في الحد التضاريسي ، الذي كان قائما فاصلا بين وادي النيل من ناحية ، والحوض الذي يتضمن المنخفض من ناحية أخرى . ويشير بول إلى أن النحت التراجعي في مجرى نهري صغير كان ينحدر على حافة المنخفض الشرقية ، في اتجاه الغرب صوب القاع ، هو الذي أدى إلى شق وحفر وتعميق فتحة اللاهون .

ويمكن القول أن زيادة المطجر الغزير في العصر المطير الأول ، أسهم في تنشيط النحت التراجعي الصاعد ، في اتجاه الحاجز التضاريسي ، حتى لم يعد يفصل بين منابع هذا المجرى النهري ، والمجرى الذي تضمن الجريان النيلي ، إلا حاجز رقيق . وكان من شأن هذا الحاجز الرقيق أن انهار وتحطم تحت ضغط ودفع المياه ، في النظام النيلي والمجرى المتفرع منه .

ومهما يكن من أمر هذا الرأي الذي يعرضه بول ، ويصور فيه الاحتمال بين النيل وبين منخفض الفيوم في البلايستوسين الأسفل ، فإنه لايتعارض مع رأي دكتور حوض الذي يفترض تكوين بحر يوسف في عصر لاحق في العصور التاريخية . ذلك أن وصول المياه من النيل إلى المنخفض في ذلك الوقت كان يتم بطريقة مباشرة عن طريق الفتحة (فتحة اللاهون) ، ودون أن يكون ثمة فرع معين .

ويمكن للباحث أن يتصور هذا الاتصال مهما ، لأنه خلق بحيرة عظيمة المساحة ، بلغت مساحتها حوالي 2800 كيلومتر مربع ، على منسوب حوالي 40 مترا فوق مستوى سطح البحر . ويمكن للباحث أن يتاب شكل هذه البحيرة ، على اعتبار أن مساحتها سجلت تقلصا وانكماشا ، كما سجل منسوب قاع المنخفض الذي كانت تشغله هبوطا ، حتى أصبحت على منسوب 44 مترا تحت مستوى سطح البحر .

ويمكن للباحث أن يتصور ثلاث عوامل متباينة ، قد أسهمت في التقلص والانكماش وهبوط وانخفاض منسوب القاع ، في الفترة من العصر الحجري القديم الأسفل إلى الوقت الحاضر .

العامل الأول : ويتمثل في دراسة أحوال المناخ والتغيرات ، التي كانت تظهر بوضوح في أثناء المراحل التي تضمنها عصر البلايستوسين والهولوسين ، وما ترتب على ذلك من زيادة في المطر أو زيادة في الجفاف . والمقصود بهذا العامل احتمالات التغير في منسوب سطح البحيرة الناشئ عن المطر المباشر زيادة أو نقصانا في كل من العصر المطير الأول ، والعصر المطير الثاني ، ودور ممطر حجري حديث ، وفي فترات الجفاف التي تمثلت في المراحل الفاصلة بينها .

العامل الثاني : ويتمثل في صورة العلاقة بين المنخفض وبين الجريان المائي النيلي ، واحتمالات التأثر بالذبذبات التي كانت تطرأ على مناسيب الجريان ، من عصر غلى عصر حسبما أوضحنا في بيان تفاصيل قصة الجريان في النيل ، في عصر البلايستوسين وما بعده إلى الوقت الحاضر .

العامل الثالث : فيتمثل في انقطاع الصلة في مرحلة الجريان في أثناء العصر الحجري الحديث . ويمكن القول أن هذا الانقطاع ، قد أدى إلى تراكم الطمى الغزير الذي تمخض عنه زيادة الجريان في دور ممطر مجرى حديث ، في فتحة اللاهون . وما من شك في أن انسداد هذه الفتحة قد أخضع البحيرة للعوامل المحلية المتعلقة بالمطر المباشر والفاقد بالبخر ، وتأثر منسوبها بكل عامل من هذين العاملين . كما أنه أخضع المنخفض مرة أخرى لنشاط التعرية الهوائية وفعل التجوية ، اللذين حققا مزيدا من الحفر والتعميق ، قبل أن يعود الاتصال بينه وبين الجريان النيلي مرة أخرى .

وبعد تلك قصة النيل العظيم الذي نتبين منها أنه نهر حديث ، من حيث الصورة العامة التي نراها في الوقت الحاضر . وقد تبين منها أيضا أنه صورة تالية لمجموعة من الصور المتوالية من الجريان النهري النيلي . وما من شك في أن الوصول إلى هذه الصورة الأخيرة ، قد تمخضت عنه عوامل كثيرة . وكانت كلها تتمخض عن أحداث هامة ، دعت إلى الترابط والاتصال المتكامل في حوالي عصر البلايستوسين الأعلى على أفضل تقدير .