نهج البلاغة/اختيار الأنبياء

من معرفة المصادر
  • [اختيار الانبياء]

وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدَهِ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ[49]، وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الاَْنْدَادَ[50] مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ[51] الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ[52] مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَال تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَاب[53] تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاث تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل، أَوْ كِتَاب مُنْزَل، أَوْ حُجَّة لاَزِمَة، أَوْ مَحَجَّة[54] قَائِمَة، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ المُكَذِّبِينَ لَهُمْ: مِنْ سَابِق سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِر عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ. عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ[55] القُرُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الاْباءُ، وَخَلَفَتِ الاَْبْنَاءُ. [مبعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)] إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) لاِِنْجَازِ عِدَتِهِ[56] وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ[57]، كَرِيماً مِيلادُهُ. وَأهْلُ الاَْرْضِ يَوْمَئِذ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه للهِِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِد[58] في اسْمِهِ، أَوْ مُشِير إِلَى غَيْرهِ، فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ بمَكانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ. ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لُِمحَمَّد صلى الله عليه لِقَاءَهُ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِالدُّنْيَا، وَرَغِبَ بِهَ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الاَْنْبيَاءُ في أُمَمِها، إذْ لَم يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْر طَريق واضِح، ولاَعَلَم[59] قَائِم.

[القرآن والاحكام الشرعية]

كِتَابَ رَبِّكُمْ [فِيكُمْ:] مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ[60]، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ[61]، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ[62]، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ[63]، مُفَسِّراً جُمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ. بَيْنَ مَأْخُوذ مِيثَاقُ عِلْمِهِ، وَمُوَسَّع عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ[64]، وَبَيْنَ مُثْبَت في الكِتابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُوم في السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَوَاجب في السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّص في الكِتابِ تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِب بِوَقْتِهِ، وَزَائِل في مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبير أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِير أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ، وَبَيْنَ مَقْبُول في أَدْنَاهُ، ومُوَسَّع في أَقْصَاهُ. و[منها:] في ذكر الحج وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلاَْنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الاَنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ[65] وُلُوهَ الحَمَامِ. جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتِهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بمَلاَئِكَتِهِ المُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ الاْرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ. جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلاِسْلامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ[66]، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمينَ).



[1] فَطَرَ الخلائقَ: ابتدعها على غير مثال سبق. [2] وَتّدَ ـ بالتشديد والتخفيف ـ: ثبّت. [3] ميَدان أرضه: تحرّكها بتمايل. [4] لاعن حَدَث: لا عن إيجاد موجد. [5] المزايلة: المفارقة والمباينة. [6] الرّوِيّة: الفكر، وأجالها: أدارها وَرَدَدَها. [7] هَمَامَة النفس ـ بفتح الهاء ـ: اهتمامها بالامر وقصدها إليه. [8] لاََمَ: قَرَنَ. [9] غَرّزَ غَرائزها: أودع فيها طباعها. [10] القرائن ـ هنا ـ: جمع قَرُونة وهي النفس، والاحْنَاء: جمع حِنْو ـ بالكسرـ: وهو الجانب. [11] السكائك: جمع سُكاكة ـ بالضم ـ: وهي الهواء الملاقي عنان السماء. [12] التيّار ـ هناـ: الموج. [13] الزّخّار: الشديد الزخر، أي الامتداد والارتفاع. [14] الزّعزع: الريح الّتي تزعزع كلّ ثابت. [15] الفتيق: المفتوق. [16] الدفيق: المدفوق. [17] اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا: جعل هبوبها عقيماً، والريح العقيم التي لا تلقح سحاباً ولا شجراً. [18] مُرَبّها ـ بضم الميم ـ مصدر ميمي من أرَبّ بالمكان: لازمه، فالمُرَبّ: المُلازَمة. [19] تَصْفيق الماء: تحريكه وتقليبه. [20] مَخَضَتْهُ: حرّكته بشدّة كما يُمْخَضُ السّقاء. [21] الساجي: الساكن. [22] المائر: الذي يذهب ويجيء. [23] رُكامُهُ: ما تراكم منه بعضه على بعض. [24] المُنفَهِقُ: المفتوح الواسع. [25] المكفوف: الممنوع من السّيَلان. [26] الدِّسَار: واحدُ الدّسُر، وهي المسَامير. [27] الثّوَاقب: المنيرة المشرقة. [28] مُسْتَطِيراً: منتشر الضياء، وهو الشمس. [29] الرّقِيمُ: اسم من اسماء الفلك: سُمّي به لانه مرقوم بالكواكب. [30] صَافّونَ: قائمون صفوفاً. [31] لا يَتَزَايَلُونَ: لايتفارقون. [32] السَّدَنَة: جمع سَادِن وهو الخادم. [33] مُتَلَفّعون: من تلفّع بالثوب إذا التحف به. [34] حَزْنُ الارض: وَعْرُها. [35] سَبَخُ الارض: ما ملح منها. [36] سَنّ الماء: صَبّه. [37] لاَطَها: خَلَطَها وَعَجَنَها. [38] البَلة ـ بالفتح ـ: من البَلَل. [39] لَزَبَ: من باب نصر، بمعنى التصق وثبت واشتد. [40] الاحْنَاء: جمع حِنْو ـ بالكسر ـ وهو الجانب من البدن. [41] أصْلَدَها: جعلها صُلْبَةً ملساء متينة. [42] صَلْصَلَتْ: يَبِسَتْ حتى كانت تُسمع لها صَلْصَلَةٌ إذا هَبّت عليها الرياح. [43] مَثُلَ ـ ككرُم وَفَتَحَ ـ: قام مُنْتَصِباً. [44] يَخْتَدِمُها: يجعلها في خدمة مآربه. [45] اسْتَأدَى الله سبحانه الملائكةَ وديعَتَهُ: طالبهم بأدائها. [46] اغْتَرّ آدمَ عدوّهُ الشيطانُ: أي انتهز منه غِرّة فأغواه. [47] الجَذَل ـ بالتحريك ـ: الفرح. [48] الوَجَل: الخوف. [49] ميثاقهم: عهدهم. [50] الانْدَادُ: الامْثَال، وأراد المعبودين من دونه سبحانه وتعالى. [51] اجْتَالَتْهُمْ ـ بالجيم ـ: صرفتهم عن قصدهم. [52] وَاتَرَ إليهم أنبياءهُ: أرسلهم وبين كل نبيّ ومَن بعده فترة، وقوله «لِيَسْتَأدُوهُمْ»: ليطلبوا الاداء. [53] الاوْصَاب: المتاعب. [54] المَحَجّة: الطريق القويمة الواضحة. [55] نَسَلَتْ ـ بالبناء للفاعل ـ: مضت متتابعةً. [56] الضمير في «عِدَتِهِ» لله تعالى، والمراد وعد الله بإرسال محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان أنبيائه السابقين. [57] سِمَاتُهُ: علاماته التي ذُكِرَتْ في كتب الانبياء السابقين الذين بشروا به. [58] المُلْحِدُ في اسم الله: الذي يميل به عن حقيقة مسماه. [59] العَلَمُ ـ بفتحتين ـ: ما يوضع ليُهتدى به. [60] ناسِخُهُ ومنسوخه: أحكامه الشرعية التي رفع بعضها بعضاً. [61] رُخَصَهُ: ما تُرُخّصَ فيه، عكسها عَزائمُهُ. [62] المُرْسَلُ: المُطْلَقُ، المحدود: المقيّد. [63] المُحْكَمُ: كآيات الاحكام والاخبار الصريحة في معانيها، والمتشابه كقوله: (يَدُاللهِ فوقَ أيديهم) [64] المُوَسِعُ على العباد في جهله: كالحروف المفتتحة بها السور نحو الم والر. [65] يَألَهُونَ إليه: يَلُوذُون به ويَعكفون عليه. [66] الوِفَادَة: الزيارة.