نقد كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية
تاريخ الشعوب الإسلامية، من تأليف كارل بروكلمان، ترجمة د. يسري أحمد زيدان. نُشر ضمن سلسلة نقد الدراسات التاريخية الاستشراقية، 2015
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقديم
عن السلسلة
قَدِم الصليبيون نحو الشرق الإسلامي، إبّان العصور الوسطى، وهم جاهلون بأحواله وظروفه في الغالب، إلا من خيالات مشوشة عن سحر الشرق وغناه، ثم عادت فلولهم مدحورة من حيث أتت بعد مرور حوالي قرنين من الزمان على بداية هذا العدوان الصليبي على الشرق (489هـ/1096م – 690هـ/1291م).
عادت بقايا الصليبيين إلى الغرب وهم يُبَيّتُون نيّة العودة من جديد إلى الشرق، ولكن بعد تدارك النقص الذي طبع عدوانهم خلال العصور الوسطى، وهو جهلهم بأحوال هذا الشرق، فكان طبيعيًّا أن تُسبقَ حركة الاستعمار الغربي للشرق الإسلامي في العصر الحديث وتُصْحَبَ بحركة تمهيد فكري ميداني تمثلت في ظاهرة الاستشراق( )، التي عُنيت بدراسة كل ما يتصل بالشرق؛ لغرض أساسي هو الوقوف على جوانب القوة لتفاديها حتى لا تنفجر في وجوههم وَتُفْشِلُ أطماعهم، ومحاولة الالتفاف عليها وإضعافها، وعلى جوانب الضعف لاستغلالها وتعميقها وترسيخها بغية الإفادة منها لأبعد مدى ممكن، من ذلك مثلا: محاولة تعميق الخلاف بين الطوائف والمذاهب المختلفة في الشرق على طريقة المبدأ الاستعماري (فَر ِّق تَسُد)، وكما كانت الكنيسة البابوية هي الدافع لانطلاق العدوان الصليبي نحو الشرق في العصور الوسطى، كذلك نشأ الاستشراق في حِضْن الكنيسة، يقول الشيخ محمد الغزالي: ((وإذا كان الاستشراق قد قام على أكتاف الرهبان والمبشرين في أول الأمر ثم اتصل من بعد ذلك بالمستعمرين – فإنه ما زال حتى اليوم يعتمد على هؤلاء وأولئك، ولو أن أكثرهم يكرهون أن تنكشف حقيقتهم ويؤثرون أن يتخفوا وراء مختلف العناوين والأسماء))( ).
كان من المتوقع أن تفي جمهرة المستشرقين للهدف الأصيل من نشأة الظاهرة الاستشراقية و هو الهدف الكنسي الاستعماري، وعلى هذا جاءت كثرتهم الغالبة مغالطة، وقلة منهم حاولت شيئًا من الموضوعية العلمية، بينما أنصفت الإسلام والمسلمين ندرةٌ منهم، يقول أحد هؤلاء المستشرقين المنصفين: ((أما المستشرقون، فدارسون للغةِ الشرق وثقافته وأديانه، باحثون في مسائله وموضوعاته، من أجل فهم بواعثه، وتفسير تصرفاته، والتوقع لمستقبله، وكتابات المستشرقين هذه منها الموضوعي النزيه، ومنها البعيد المغرض، الذي يهدف إلى الطعن والتشويه, ويعد طليعة للاستعمار، وأداة في يده؛ للسيطرة على الشرق وإخضاعه؛ وانتهاب ثرواته و خيراته؛ ومحاولة القضاء على ثقافته ودينه))( ).
بطبيعة الحال, ليس المقصود هنا إنكار الجهود العلمية الاستشراقية في مضمار بَعْث الموروث الإسلامي ونشره وخدمته, فالفضل مذكور لأهله, لكن المقصود, بالطبع هنا, هو إيضاح الصورة بأبعادها المختلفة, وهذا ما يؤكد عليه أحد الباحثين بقوله: ((ليس من غرضنا من كل ما تقدم في هذه الورقة أن نَصِم كل المستشرقين بالتعصب ضد الإسلام والمسلمين، ولا نجحد فضل المستشرقين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم في الكشف عن كثير من كنوز حضارتنا، وتحقيقهم لكثير من مخطوطاتنا العربية والإسلامية، وبعثها في ثوب جديد وقشيب، كل ذلك نذكره ونشكرهم عليه؛ لأننا قوم لا نجحد فضل صاحب الفضل، هكذا علمنا ديننا وعلمنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي نريد أن يعلمه قومنا أن الأصوات العاقلة والمنصفة من بين المستشرقين، والتي أنصفت الإسلام ورسوله ورسالته وحضارته ... هذه الأصوات ضاعت وسط الأصوات الحاقدة المتعصبة، و لم يعد لها أثر في الذهنية الأوروبية والأمريكية، والأثر الذي بقي في الذهنية هو الأثر السلبي الذي تركته الكتابات الحاقدة والمتعصبة، الذي لا يزال يوجه شعور الأوروبيين نحو الإسلام والمسلمين، وهو شعور الاستعلاء والتكبر على كل ما هو إسلامي، فهل يُجدي أن نظل نحن متسامحين مع قوم يُكنون لنا كل الكره والعداء والاحتقار والازدراء، وكل هذا يعلمونه لأولادهم في مدارسهم وجامعاتهم، ليشبوا على كرهنا واحتقارنا))( ).
وعن طبيعة جهود هذه الأكثرية المغالطة من المستشرقين وإنجازاتهم العلمية، يقول الشيخ محمود شاكر: ((كان جوهر هذه الصورة، المبثوث تحت المباحث كلها، هو أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قوم بُدَاة جُهال لا علم لهم كان، جياع في صحراء مجدبة، جاءهم رجُل من أنفسهم فاد َّعى أنه نبي مرسل، ولَفَّقَ لهم دينا من اليهودية والنصرانية، فصدقوه بجهلهم واتبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافة وحضارة جُلها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة، كالفُرس والهند واليونان وغيرهم, حتى لُغَتُهم كُلها مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرامية والفارسية والحبشية، ثم كان من تصريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب، (الموالي)، وأن هؤلاء هم الذين جعلوا لهذه الحضارة الإسلامية كُلها معنى.
هذا هو جوهر الصورة التي بَثَّها المستشرقون في كل كُتُبهم عن دين الإسلام، وعن عُلوم أهل الإسلام وفنونهم وآثارهم وحضارتهم، وأن هذه الحضارة إنما هي إحدى حضارات (القرون الوسطى) المظلمة التي كان العالم يومئذ غارقـًا فيها - يعنون عالمهم هم - يجري عليها حُكم قُرونهم الوسطى ! بَثوا تلك الصورة في كل كُتُبهم بمهارة وحذق وخُبث مُعرق، وبأسلوب يُقنع القارئ الأوروبي المثقف الآن كل الإقناع، وتنحط في نظره حضارة الإسلام وثقافته انحطاط (القرون الوسطى)، ويزداد بذلك زَهوًا بأن أسلافه من اليونان والآريين كانوا ركائز هذه الحضارة المزيفة الملفقة دينًا ولُغةً وعلما وثقافة وأدبًا وشعرًا، ويزداد بذلك الأوروبي، أيًّا كان، غطرسة وتعاليًا وجبرية، ولا يرى في الدنيا شيئًا له قيمة، إلا وهو مستمد من أسلافه اليونان والآريين والهمج الهامج !.
ومن خلال الصراحة العارية التي طرحت كُل حجاب، أو الصراحة المتحجبة بالبراءة وخلوص النية وحب العلم، أو بالصراحة الحيية التي أمالها الخفر (شدة الحياء) إلى التبرج بحب الإنصاف، استطاع (الاستشراق) أن يجعل هذه الصورة حية متحركة في جميع كتبه ومقالاته ودراساته ومباحثه على اختلافها، حتى الدراسات التي تستعصي على قبول هذه الصورة واضحة لم تخل من غَمْزٍ خَبيءٍ ولمز خفي يستدعي حُضور هذه الصورة بطريقة ما، وكذلك نجح (الاستشراق) في تحقيق هدفه كل النجاح، واستطاع أن يُدْرج الإسلام و شرائعه وثقافته وحضارته في مُستنقع (القرون الوسطى) الذي طَمَرته (النهضة الحديثة) ووَطِئه (عصر الإحياء والتنوير) بأقدامِه وطأة المتثاقل، وبذلك عَصَم العقل الأوروبي المثقف من أن يزل زلة، فيرى في دين الإسلام أو في ثقافته وحضارته، ما يوجب انبهاره كما انبهر أسلاف له من قبل تساقطوا في الإسلام وثقافته وحضارته طواعية، ثم صاروا، مع الأسف، من بناة مجده على مدى اثنى عشر قرنا على الأقل))( ).
ويزيد باحث آخر الصورة وضوحًا بقوله: ((ومما لا ريب فيه أن معظم المستشرقين كان يَعْمد عمدًا إلى تصوير الإسلام، ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، تصويرًا بشعًا، ويرسم له صورة منفرة، وأنه دين بدائي وعدواني، ويتسم بالقسوة والوحشية، وجل بحوث المستشرقين ومؤلفاتهم، والتي تعد بالآلاف، تدور حول تركيز الصورة السابقة وتكريسها في ذهن القارئ الغربي، ولقد نجحوا في ذلك حتى أصبح كره الإسلام والمسلمين والحقد عليهم شيئًا مركوزًا في الشخصية الأوروبية، وعلى جميع المستويات ... وحتى إذا وجد بعض المنصفين من المستشرقين، الذين قالوا كلمة الحق عن الإسلام ورسوله وحضارته، فإن أصواتهم قد ضاعت تمامًا وسط الركام الهائل من الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين))( ).
وهذا أخيرًا انطباع باحث تتلمذ مباشرة على يد مستشرقين في ديارهم، يقول: ((شاءت الأقدار أن أتلقى نصيبًا من العلم في الغرب الأوروبي، وعلى يد أساتذة من اليهود، وقد هالني ما رأيت وعاصرت من أحداث وقعت إبان فترة دراستي، وكشفت عن الوجه الأقبح لهذا الغرب، في عدائه للإسلام والمسلمين، فالمكتبات الجامعية تضم على رفوفها زخمًا هائلا من المؤلفات التي تتناول شتى الأمور المتعلقة بالإسلام، وجلها قد أفسدته عفونة الحقد والكراهية، والأساتذة والمعلمون، نصارى ويهود وملحدون، أكثرهم يعلن كراهيته وعداءه علنًا، والبقية الباقية تواري أبواب العداء تقية، خوفا وطمعا. بحثتُ عن الموضوعية في الأبحاث الخاصة بالدراسات المتعلقة بالأديان أو الأجناس، بل حتى في اللغة و الأدب، فوجدتها مبعثرة بين الأشواك، تهدد كل من حاول الوصول إليها بالإفشال، أو بأكثر من ذلك))( ).
وقد عزا بعض الباحثين تحامل غالبية المستشرقين على الإسلام والمسلمين – في بعض أسبابه بحق – إلى واقع المسلمين المتردي وأحوالهم المجافية، في أحيان كثيرة، لتعاليم الإسلام الصحيحة، يقول أحدهم: ((لكننا نقول قولة مُجملة : بأن الإسلام يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا يرضى منا بالغفلة عن المنافع والمصالح، ويطالبنا بدفع المفسدة، ويحثنا على مكارم الأخلاق، ويبين لنا أن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن العلم يُطْلَب ولو في الصين، وأن "لا شيء من العلم ضار، ولا شيء من الجهل مفيد"، و أن مَنْ أحدث في الدين ما ليس منه فهو رد عليه.
هذه هي تعاليم الإسلام, إلا أن الأعصر الحاضرة، قد خرجت بالدين إلى ما ليس منه، فعطلت شعائره الحقيقية، وأدخلت فيه البدع، وتغلبت المعتقدات الفاسدة على القواعد الصحيحة، وتمسك الناس بالبدع، وتركوا الفروض والواجبات ... نعم، كان هذا كله, وأكثر منه، مما نمسك عنه, وإنما سُقنا ما ذكرناه، معذرةً لمن يفهم من الأجانب أن سوء حالنا آتٍ من جهة ديننا؛ وأن رضوخنا للجهالة إحدى دعائمه، كما يتبين من عرض أفكارهم في هذا الكتاب، والدين براء منه.
وكيف نطلب منهم حسن الاعتقاد في الإسلام، وهم يرون المسلمين يأتون من الأعمال ما لا ينطبق على عقل، ولم يقل به شرع، اللهم إلا إذا كان كما فهموه منا، إنهم في الحقيقة معذورون إذا نسبوا أعمالنا هذه إلى الدين؛ فإنهم لا يفرقون بين ما هو منه، وما هو بعيد عنه, وليس لهم إلا أن يعتقدوا بأن عملنا مأمور به، لا منهي عنه))( ).
فإن كانت هذه هي الصورة العامة والوجهة الواضحة لغالبية المستشرقين فإن ما خَصّ تاريخ المسلمين منها ربما كان الأشد تحاملا والأوضح مغالطة، يُفَصّل هذا أحد الباحثين المتخصصين بقوله: ((وفي العصر الحديث زاد الخرق اتساعًا، حيث تلقف المستشرقون ومن شايعهم وتأثر بآرائهم من المنتسبين إلى الإسلام هذه الأباطيل، بل كانت مغنمًا تسابقوا إلى اقتسامه ما دامت تخدم أغراضهم للطعن في الإسلام والنيل من أعراض الصحابة الكرام، فعمدوا إلى التشبث بالروايات المشبوهة والضعيفة والساقطة يلتقطونها من كتب الأدب والتاريخ وقصص السمر والحكايات العامية والكتب المنحولة والضعيفة مثل: (كتاب الأغاني)، و(البيان والتبيين)، و(الإمامة والسياسة)، و(الكامل في الأدب)، و(نهج البلاغة وشرحه)، وغيرها من الكتب التي يعتمدون عليها في الغالب مع ما يجدون من الروايات الموضوعة في تاريخ الطبري والمسعودي واليعقوبي وابن مزاحم وغيرهم، ويكفيهم إشارة هامشية منها لكي يبادروا إلى تضخيمها والتوسع في إعطاء الشروح والتفسيرات لها والبناء عليها صرحًا كاذبًا من المعطيات والتخمينات، كما تعجلوا طريق البحث، ولم يتذوقوا خاصية العلم الإسلامي في الرواية والإسناد – إلا القليل منهم – فاستوى عندهم الحق والباطل، وأضافوا إلى ذلك دخيلة حقدهم على الإسلام ودولته وتاريخه، وادعوا منهجًا تحليليًّا يكذبون به على الحقائق، ويستنبطون الروايات بما لا تنطق به، ويزعمون أن هذا ما وراء السطور، فأحالوا تاريخ الأمة التي عُرفت بالبساطة والصراحة والشهامة، وعلمها الإسلام الوضوح في القول والعمل، والسر والعلن، أحالوا ذلك التاريخ إلى تاريخ مؤامرات ودسائس قياسًا على ما عرفته أوروبا من مكايد البلاط في عصورها المظلمة.
إن المستشرقين في كثير من الأحيان يحكمون على الإسلام والتاريخ الإسلامي معتمدين على قيمهم ومقاييسهم الثقافية الخاصة، بدلا من الاعتماد على المصادر التاريخية وأعراف ومبادئ المجتمع الإسلامي, ولا شك أن مصدر الخطأ في منهجهم هو التدخل بالتفسير الخاطئ للأحداث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة، وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها.
بصرف النظر عن الحقد والتعصب لديهم، يمكن القول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الطريق هو القياس الفاسد، فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في نظر هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة من ذلك الذي تشهده الحكومات الأوروبية في العصور المتأخرة. فمثلا عندما يعرض المستشرق الفرنسي (لامنس) لحادثة سقيفة بني ساعدة وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية، فإن صور المؤامرات في البلاط الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوِّه رؤيته لأحداث السقيفة، حين يزعم أن الصراع حول الخلافة بين المهاجرين والأنصار قد بلغ غايته مباشرة بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر وعمر تآمرا على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها لغير صالح عليّ))( ).
من هذا المنطلق, وُجِدَتْ ضرورة ملحة لدراسة الظاهرة الاستشراقية وآثارها, ويعلل هذا أحد الباحثين بقوله: ))إن ضخامة حجم الهجمة الثقافية الغربية والمستشرقين وعلماء الدراسات الإسلامية من الغربيين ضد الإسلام والقرآن الكريم, وما اتصفت به من اتساع وانتشار مخيف, أدت إلى تعريض كل المعتقدات الإيمانية وسُدى ولُحمة العقائد الإسلامية والقيم الإنسانية ومبادئ استقلال الإنسان الشرقي للخطر، وقد تسلح أعداؤنا في هذا الهجوم الثقافي بكل الأدوات والإمكانيات الحديثة المتقدمة والمدهشة لوسائل الإعلام الموجودة في حوزة الغرب, بالإضافة إلى الكتب ودوائر المعارف والصحف والمجلات ومواقع الإنترنت والأقمار الصناعية والمعاهد التعليمية العالية,... فقد أغاروا علينا غارة ثقافية))( ).
وقد أسهمت أجيال عديدة في دراسة إنتاج المستشرقين العلمي مما أوجد لدينا نتاجا غزيرا وزادا وفيرا, لكن لا شك أن هناك مزيدا لمستزيد, يتمثل - بالذات - في الحاجة لدراسات علمية نقدية تشريحية متخصصة لمؤلفات بعينها في تخصصات محددة, خاصة أن كثيرا مما كُتب حول الاستشراق جاء - في الغالب - عموميا, يؤرخ للظاهرة ويعرض لمراحلها ومدارسها... إلخ, وقَلّ منه ما يركز على فحص شامل ونقد مفصل لمؤلفات بعينها.
بدافع من هذا كله, شرع بعض أهل الخير - جزاهم الله خيرا - في المعاونة على إنجاز سلسلة من الدراسات العلمية النقدية حول مؤلفات بعض المستشرقين التاريخية، تتوخي الموضوعية في إبراز السلبيات والإيجابيات في هذه الأعمال الاستشراقية، ليكون الناس على بينة من أمرهم تجاهها، فكانت هذه السلسلة (سلسلة نقد الدراسات التاريخية الاستشراقية) والتي بدأت بدراسة مرجع تاريخي كبير هو (تاريخ الشعوب الإسلامية) لرائد من رواد حركة الاستشراق هو المستشرق الألماني (كارل بروكلمان).
ومن الله التوفيق وبه الاستعانة
المؤلف والكتاب
كارل بروكلمان Carl Brockelmann(1868 - 1956م):
من أعلام المستشرقين الألمان, وأكابر الباحثين الذين عرفتهم الجامعات الأوروبية, في النصف الأول من القرن العشرين, في مجالات الدراسات السامية وتاريخ التراث العربي والإسلامي، طارت له شهرة في فقه العربية وقراءتها قراءة فصيحة وكتابتها كتابة سليمة, وفي التاريخ الإسلامي, وتاريخ الأدب العربي, حتى عُدَّ إمامًا في ذلك كله. انتُخب عضوا في مجامع برلين, وليبزيج, وبودابست, وبون, ودمشق, وجمعيات علمية آسيوية كثيرة، واشتُهر بروكلمان بنشاطه الجم وغزارة إنتاجه الذي اتصف بالموضوعية والعمق والشمول والجدة؛ مما جعله مرجعًا للمصنفين في التاريخ الإسلامي والأدب العربي؛ إذ قل منهم من لم يستند إليه أو يتوكأ عليه في مصنفاته( ).
ويُعد كتاب "تاريخ الأدب العربي" أهم عمل لبروكلمان, وهو يقع في خمسة أجزاء, ولا يقتصر بطبيعة الحال على البحوث الأدبية فحسب, بل يتناول الثقافة الإسلامية في خمسة عصور تاريخية بالتفصيل, ويعد أحد المصادر الأصلية للاستشراق والدراسات الإسلامية إلى الآن, وقد أخرجه في البداية في مجلدين, ثم استكمله بعد أربعين سنة بزيادة ثلاثة مجلدات أخرى( ). وله كتاب آخر لا يقل عن كتابه في تاريخ الأدب العربي شأنا وقيمة, إن لم يَفُقْه, وهو (تاريخ الشعوب الإسلامية) الذي نشره سنة 1939م( )، وهو العمل الذي تتناوله هذه الدراسة. يهدف كتاب (تاريخ الشعوب الإسلامية) إلى إِطْلاعَ المعنيين بالسياسة الدولية على نظرة شاملة موجزة لتاريخ المسلمين, إذ يقول المؤلف عن الغرض من تأليفه: ((لا تزال كتابة تاريخ الشعوب والدول الإسلامية منذ نشأتها حتى الوقت الحاضر ضربا من المحاولة الخطرة؛ لأن مصادر مثل هذا التاريخ لم تصبح بعد في متناول البحث، ولم تخضع بعد للتحليل النقدي، وليس يجرؤ فرد واحد على النهوض بهذا العبء، ومع ذلك فمن الخير - فيما يبدو - أن نقدم للمعنيين بمسائل السياسة الدولية نظرة طائر عن مصاير المسلمين التي تتشابك اليوم بأحداث العالم على العموم بأكثر مما تشابكت في أي وقت مضى، والتي لا يمكن أن تُعرض إلا عرضا أبتر ناقصا في كتب المراجع وتواريخ العالم العامة))( ).
في وقت نشره, سبق كتاب (تاريخ الشعوب الإسلامية) إلى كونه عملا تأريخيا جامعا, يشمل تاريخ المسلمين من بدايته حتى أوان تأليف الكتاب, عن هذا يقول المترجمان( ): ((ولعلنا لا نعدو جانب الحقيقة إذا قلنا إن أحدا من المؤرخين، من شرقيين ومستشرقين, لم يسبق العلامة بروكلمان إلى مثل هذا الكتاب الجامع الذي يستغرق بين دفتيه تاريخ العرب والمسلمين منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، فقد عهدنا المؤرخين يستهلون مؤلفاتهم بالجاهلية ليختموها بسقوط بغداد في يد المغول سنة 1258م أو بالفتح العثماني عام 1516م، ومن هنا كان تاريخ العرب والإسلام إبان العصر العثماني بخاصة هو الحلقة المفقودة في هاتيك الكتب جميعا، وكأننا ببروكلمان قد أدرك هذه الواقعة التي لا مبرر لها عند معظم من عُنوا بالتأريخ للعرب والمسلمين إلا غموض تلك الحقبة ووعورة البحث في مجاهلها، فأفرد نحوا من مائة وخمسين صفحة من كتابه هذا لدراسة التاريخ العثماني والحضارة العثمانية، ليتم السلسلة بعد بدراسة الإسلام في العصر الحديث))( ).
على أن صفة الشمولية هذه لم تأت هنا بالمعنى الحرفي؛ إذ اقتصر المؤلف في كتابه هذا على التأريخ لقلب العالم الإسلامي, دون أطرافه في شبه القارة الهندية وامتداداتها في جنوبي وجنوب شرقي آسيا وتُركستان (آسيا الوسطى) والقوقاز وأفريقيا الإسلامية جنوب الصحراء الكبرى, إلا نادرا.
من دلائل ذلك قوله عن فتح محمد بن القاسم الثقفي إقليم السند: (( وفي سنة 711 بدأ أمير البصرة من قِبَل الحجاج ... في غزو السند ... مما فتح أمام الإسلام في الهند ميدانا جديدا من ميادين النفوذ الواسعة))( )، ثم يحيل القارئ في هامش الصفحة نفسها، إلى غير كتابه هذا بقوله: ((راجع في ما يتصل بالإسلام في الهند كتاب "تاريخ الهند" للسير جورج دينار، ولا تتناول الصفحات التالية هذا البحث))، وهكذا أحال المؤلف - فيما يخص تاريخ المسلمين الطويل في شبه القارة الهندية مثلا - إلى غيره دون أي تفصيل من جهته.
أما جهد المترجمين والمُراجِع( ) في خدمة النص الُمتَرجَم فهو جهد يسير ضئيل للغاية, وعن ذلك يقول المترجمان في المقدمة: ((وكان من الطبيعي أن نُدخل على الكتاب بعض الإضافات التفسيرية وهي تظهر في المتن محصورة بين معقّفين [...]، وفي الهامش مرفقة بالنص على أنها من وضع المعربين، أما الهوامش التي وضعها المؤلف أصلا فقد قيدناها برقم متسلسل، وإذا كان في الكتاب بضعة آراء خاصة بالمؤلف تتنافى مع وجهة النظر الإسلامية، فقد عهدنا بالتعليق عليها إلى زميلنا الدكتور عمر فَرُّوخ... ولسنا في حاجة إلى القول: إن هذا لا يفيد، بالضرورة، موافقتنا المؤلف على آرائه الباقية جميعا؛ لأننا لم نستهدف بالتعليق إلا تلك الآراء التي تتصل بحياة الرسول وتعاليم الإسلام))( ).
ولا شك في أن عدم استقصاء الآراء المنافية لوجهة النظر الإسلامية في الكتاب, سواء من قبل المترجمين أم المراجع, والتعليق عليها, فضلا عن ضمور التعليقات الواردة من قِبَلِهم وقصورها, قد ترك فراغا هائلا وجب ملؤه ومحاولة سده, استدراكا للنقص الواضح والقصور البَيِّن الذي يلحظه القارئ في هذه التعليقات كمّا وكيفا، وهذا ما تحاوله هذه الدراسة. على هذا القصور خذ مثلا قول المؤلف حول حادثة الإفك: (( وقام النبي خلال سنة 627م أيضا بحملات عدة على بعض القبائل البدوية، ولقد أبعد في إحداها حتى لقارب مكة، وكانت هذه الغزوات آمنة إلى حد ساعده على أن يصطحب فيها اثنتين من أزواجه، فاتفق مرة أن أضاعت زوجه المفضلة عائشة بنت أبي بكر – وكانت آنذاك في الرابعة عشرة من عمرها - قلادتها فخرجت تبحث عنها مساء، ففاتتها قوافل الغزاة، ولم تعد إلا في اليوم التالي، وبرفقتها شاب كانت قد عرفته من قبل، وتطرق الشك - في إخلاص عائشة - إلى نفس النبي، فردها إلى بيت أبويها، ولكن الله لم يلبث أن برأها، بعد شهر واحد في إحدى الآيات الموحاة إلى النبي، مضيفا في الوقت نفسه أن أي اتهام لامرأة بالخيانة الزوجية لا يؤيده أربعة شهود عيان يعتبر فرية أو قذفا يستحق عليه صاحبه مائة جلدة))( )، فقد علق عليه المترجمان في الهامش بكلام مختصر أبتر, فقالا: ((إن كل تاريخ – وتاريخ الإسلام على الأخص - كان عرضة لمؤامرات وافتراءات كثار هذه واحدة منها))، وسيرد خلال هذه الدراسة كثير من النماذج الدالة على هذا القصور.
وغير خافٍ أن الخطورة تكمن هنا في أن يطلع على هذا الكتاب غير المتخصصين أو عامة القراء، فترسخ في أذهانهم مثل هذه الشبهات والافتراءات ما لم يجدوا تفنيدا لها وتعقيبا عليها، فلابد إذن من البيان والإيضاح حتى لا تلتبس الأمور على المُطالِع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثقافة المؤلف الشرعية
رغم اتساع معارف المؤلف وتبحره في ميادين الثقافة العربية والإسلامية, فإننا لا نعدِم أن نقع في كلامه على ما يشي بسوء فهم أو تقصير في الفهم أو جهل بحقيقة الأمر, على سبيل المثال, وعلى طريقة (لا تقربوا الصلاة) يقول: ((والبدوي كائن فردي النزعة مفرط الأنانية – قبل كل شيء - ولا تزال بعض الأحاديث تسمح للعربي الداخل في الإسلام أن يقول في دعائه: "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا"))( )، بينما نص هذا الحديث الشريف في صحيح البخاري هو: ((حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صلاة وقمنا معه, فقال أعرابيٌّ وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً, ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: لقد حجَّرْت واسعاً، يريد رحمة الله))( ).
وفي توضيح معنى هذا الحديث يقول ابن حجر: ((قوله: "لقد حجرْت واسعاً, يريد رحمة الله" ... أي: ضيقت وزناً ومعنى, ورحمة الله واسعةٌ كما قال الله تعالى... قال ابن بطال: أنكر (صلى الله عليه وسلم) على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه, وقد أثنى الله تعالى على من فعل خلاف ذلك حيث قال: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)[الحشر: 10]))( ).
فانظر كيف بتر المؤلف هنا نص الحديث, متغاضياً عن تعليق النبي (صلى الله عليه وسلم) على دعاء الأعرابي, بما يخدم وجهة نظره على حساب الدقة العلمية، وهذا أيضاً نموذجٌ واضحٌ لتقصير المترجمين والمراجع في تبيان هذه الحقيقة, وذلك على طريقتهم الموجزة, إيجازاً مخلاً, في التعليق على كلام المؤلف, كما سبق القول عند الحديث عن مدى إسهامهم في خدمة النص المترجم.
من قبيل هذا أيضاً يأتي قول المؤلف: ((والواقع أن تحريم الخمر (سورة 2: 216 وسورة 5: 92) كان يهدف إلى تقييد الشعراء الذين كانوا كثيرا ما يتغنون بمجالسهم الخمرية المعربدة، هذه المجالس التي كانت خليقة بأن تفسد روح النظام العسكري الصارم الذي أراده محمد لأتباعه، ولكن بعض المسلمين لم يلبث أن خرج على القانون فعاقر الخمر))( ) ومن له أدنى معرفة بالتشريع الإسلامي يعرف أن تحريم الخمر جاء لأغراض أوسع ومعانٍ أسمى من مجرد تقييد الشعراء( ).
ومنه أيضاً قول المؤلف: ((وثالث الواجبات الدينية الرئيسة: الصوم، أي: الامتناع عن الطعام والشراب وجميع المتع الأخرى، كالروائح الزكية مثلا، من الفجر حتى غروب الشمس، طوال شهر رمضان))( ), فهل يفسد التطيب بالروائح الزكية الصوم حقاً ؟!( ).
ثقافته التاريخية
تَبَحَّرَ المؤلفُ في اطلاعه على تاريخ الشعوب الإسلامية, وقد ظهر هذا جلياً في كتابه, إلا أن ذلك لم يمنع من ورود بعض الأخطاء التاريخية – بقصد أو بغير قصد - كما في قوله: ((فلما كانت خلافة عمر عهد إلى زيد بن ثابت، المدني الشاب الذي كان يكتب الوحي للرسول، بأن يجمع صحف القرآن كلها))( ).
فالمعروف أن من أمر زيدًا بجمع القرآن هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق – رضي الله عنهم أجمعين – بإشارة من عمر بن الخطاب، عندما استشهد من حفظته عدد كبير من القراء في معركة اليمامة ضد المرتدين من بني حنيفة بزعامة مسيلمة الكذاب، يقول الشيخ الزرقاني: ((ألقت الخلافة قيادَها إلى أبي بكر – رضي الله عنه – بعد غروب شمس النبوة، وواجهت أبا بكر في خلافته هذه أحداثٌ شدادٌ ومشكلات صعاب، منها موقعة اليمامة سنة اثنتى عشرة للهجرة، وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب، وكانت معركة حامية الوطيس، استشهد فيها كثير من قرَّاء الصحابة وحَفَظَتهم للقرآن، ينتهي عددهم إلى السبعين، وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة، من أجلِّهم سالم مولى أبي حذيفة، ولقد هال ذلك المسلمين، وعزَّ الأمر على عمر، فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر واقترح عليه أن يجمع القرآن، خشية الضياع بموت الحفظة وقتل القرَّاء، فتردد أبو بكر أول الأمر؛ لأنه كان وقَّافًا عند حدود ما كان عليه الرسول ، يخاف أن يجرَّه التجديد إلى التبديل، أو يسوقه الإنشاء والاختراع، إلى الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع.
ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلَّى له وجهُ المصلحة، فاقتنع بصواب الفكرة، وشرح الله صدره وعلم أن ذلك الجمع الذي يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف، والمحافظة عليه من الضياع والتحريف، وأنه ليس من مستحدثات الأمور الخارجة، ولا من البدع والإضافات الفاسقة؛ بل هو مستمدٌّ من القواعد التي وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن، واتخاذ كتَّاب للوحي، وجمع ما كتبوه عنده، حتى مات ، قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن ما نصُّه: "كتابة القرآن ليست بمستحدثة، فإنه كان يأمر بكتابته؛ ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع، والأكتاف، والعُسُب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجِدَتْ في بيت رسول الله فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء))( ).
يؤكد هذا ما أورده الزركشي في هذا الصدد؛ حين قال: ((وروى البخاري في صحيحه، عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ؟ فقال عمر: والله إن هذا خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، وقد رأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: وقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا أتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن واجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبَّعْت القرآن أجمعه من العُسُب، والرقائع، واللِّخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر التوبة: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة : 128]، مع خزيمة الأنصاري - الذي جعل النبي شهادته بشهادة رجلين – لم أجدها مع أحد غيره، فألحقتها في سورتها فكانت في الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى قبض، ثم عند حفصة بنت عمر))( ).
ويقول أيضا د. عبد الصبور شاهين، مؤكدا على ما سبق: ((لكن حدث أمر لم يكن في حسبان أحد، ففي معركة اليمامة، سقط من المسلمين عدد كبير جدًّا، نحو من ألف شهيد، بينهم نحو من أربعمائة وخمسين صحابيًّا، وبلغ الأمر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فاهتم له، روى البخاري... - ويورد رواية البخاري السابقة- ))( ).
وحول دوافع بناء مسجد قبة الصخرة بالقدس يقول بروكلمان: ((وفي عهد عبد الملك تعذر على أتباعه الحج إلى الكعبة بسبب من استيلاء منافسه في الخلافة، عبد الله بن الزبير على مكة، فحاول أن ينشئ في القدس بدلا من البيت الحرام، وهناك على الصخرة المقدسة التي استن عمر نفسه الصلاة عندها، يوم دخل بيت المقدس، شيد عبد الملك ما يدعى اليوم قبة الصخرة (وتسمى – خطأ - مسجد عمر) ثم إن الجامع الأقصى الذي يدين باسمه لقصة إسراء النبي ، أنشئ بعدُ على فناء الهيكل، ولقد أدخل عبد الملك تلك الأجزاء التي كانت لا تزال قائمة من كنيسة يوستنياس، في البناء، مشيدا رواقا ذا ثلاثة صفوف من الأعمدة أضيف إليه ما بعد الجناحان والقبة وأربع بلاطات))( ).
فهو هنا يعتمد الرواية المغالطة في تبيان دوافع بناء مسجد قبة الصخرة، والتي فَنَّدَهَا د. الصلابي في كلام مطول؛ حيث يقول: ((وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها: ما سبب بناء هذا المسجد، وبهذا الإتقان والإبداع؟ ولماذا تزامن مع حركة ابن الزبير في الحجاز؟ إن أول المؤرخين الذين حاولوا إيجاد التسويغ لبناء مسجد قبة الصخرة المشرفة هو اليعقوبي (ت 284هـ)... فقد قال في كتابه: ((ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج؛ وذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض علينا، فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس"، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه لما صعد إلى السماء))( ).
واليعقوبي راوي الأثر السابق مؤرخ شيعي إمامي، كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لُقب بالكاتب العباسي، وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة، ويسمي علي بالوصي، وعندما أرخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف إليهم لقب الخلافة وإنما تولى الأمر فلان( )، ثم لم يترك واحدا منهم دون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصحابة، وقد ذكر عن عائشة - رضي الله عنها – أخبارا سيئة، وكذلك عن خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعرض خبر السقيفة خبرا – ربما: عرضًا - مشينا، ادعى فيه أنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصي في نظره، وطريقته في سياق الاتهامات – الباطلة – هي طريقة قومه من أهل التشيع وهي إما اختلاق الخبر بالكلية، أو التزيد في الخبر والإضافة عليه، أو عرضه في غير سياقه ومحله حتى ينحرف معناه، ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأمويين وصفهم بالملوك، وعندما ذكر خلفاء بني العباس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة، مما يعكس نفاقه وتستره وراء شعار التقية، وهذا الكتاب يمثل الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التاريخ الإسلامي، وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنوا في التاريخ الإسلامي وسيرة رجاله، مع أنه لا قيمة له من الناحية العلمية، إذ يغلب على القسم الأول القصص والأساطير والخرافات، والقسم الثاني كتب من زاوية نظر حزبية، كما أنه يفتقد من الناحية المنهجية لأبسط قواعد التوثيق العلمي.
هذا هو اليعقوبي الذي اعتمده المؤرخون المتأخرون في روايته قصة بناء مسجد قبة الصخرة أو مسجد بيت المقدس على حد تعبيره، وعلينا أن نتحفظ على رواية اليعقوبي الآنفة الذكر، ونعتبرها خارجة عن الإطار المقبول؛ لأنه لا يُعْقَل أن رجلا بمستوى عبد الملك في دهائه ومكره وعقله وفقهه يضع نفسه موضع شبهة الكفر، فيصد الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام، هذا من ناحية العقل والمنطق، وأما من ناحية السند فقد بيَّنا أننا لم نسمع أن أحدا من خصوم الأمويين أوردوا ذلك في مطاعنهم على عبد الملك – سوى الشيعة، كما أن الإمام الزهري لم يلتق بعبد الملك إلا بعد مقتل ابن الزبير، فقد نقل الذهبي عن الليث بن سعد أنه قال: قدم ابن شهاب على عبد الملك سنة اثنتين وثمانين، وقد نص على أن ابن الزبير قتل سنة 72هـ، وبعد مقتله استوثقت الممالك لعبد الملك، فليس هو في حاجة لمن يضع له أحاديث لصرف الناس عن الحج، والزهري لم يكن عند مقتل ابن الزبير ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتقبل منه حديثا موضوعا يلغي به فريضة الحج الثابتة بالقرآن والأحاديث الصحيحة؛ وذلك لصغر سنه، فإنه قد ولد بعد الخمسين من الهجرة، وصداقته بعبد الملك وتردده عليه لا يقدح في أمانته ودينه، وأما حديث شد الرحال فهو صحيح رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من العلماء، قال عنه ابن تيمية: وهو حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق، ولم ينفرد الزهري – رحمه الله – برواية هذا الحديث حتى يتهم بوضعه، والحديث ليس فيه فضل قبة الصخرة وليس فيه الدعوة إلى الحج إليها والطواف حولها بدلا من الكعبة، كما يدعي بعض المُزَوِّرِين، وغاية ما فيه فضل الصلاة في بيت المقدس وزيارته، وأما الصخرة فقد ذكر ابن القيم أن كل حديث فيها فهو كذب مفترى، وقد قام الدكتور حارث بن سليمان الضاري بنسف هذه الشبهة في كتابه القيم: "الإمام الزهري وأثره في السنة" في ثلاث عشرة صفحة، وأتى بحجج دامغة قوية لمن يبحث عن الحقيقة العلمية))( ).
أما المستشرقة كارين أرمسترونج فتذكر لذلك البناء دوافع أخرى مغايرة، وتنفي الزعم القائل بأنه كان بديلا للكعبة وتحمل بشدة على رواية اليعقوبي في هذا الصدد، تقول: ((أما الأمر المؤكد احتمالا فهو أن القبة كانت تأكيدًا للهوية الإسلامية ولم يقصد بها – كما يقول البعض – صرف المسلمين عن الحج إلى مكة التي كانت وما زالت في أيدي ابن الزبير، وكان مؤرخ القرن التاسع الميلادي العراقي "اليعقوبي" هو أول من افترض تلك النظرية وأخبرنا أن الأروقة الدائرية صممت من أجل الطواف، وكما يقول فقد بدأ الناس يطوفون حول "الصخرة" كما يطوفون حول الكعبة.
واحتمال صحة هذا القول ضئيلة، فممرات القبة شديدة الضيق بحيث لا تسمح بأداء شعيرة الطواف المعقدة، بالإضافة إلى أنه لو كان هدف الخليفة استبدال مكة لصار الأمر أكثر يسرا لو أنه شيد بناء يماثل الكعبة بدلا من تجشم مشقة تصميم تلك القبة المعقدة، ولا ينسب أحد آخر من مؤرخي تلك الفترة ذلك المقصد غير الورع للخليفة الذي كان لا بد وأن يصدم العالم الإسلامي كله، كما أن عبد الملك لم يظهر سوى شعور الورع العميق تجاه مكة والكعبة، أما اليعقوبي فكان من أشد معارضي الأمويين، ولا نملك سوى نبذ تلك النظرية كفكرة دعائية خالصة))( ).
وبقي أن نشير إلى أن نص بروكلمان السابق تضمن غمزًا خاطفا في إشارته إلى أن المسجد الأقصى قد أُنشئ على فناء الهيكل، والمقصود هيكل سليمان الذي تزعم اليهود أن الأقصى بُنِيَ على أنقاضه، ويتخذون هذا تكأةً للحفر حواليه وتحته مما يهدد بانهياره، ورغم محاولاتهم الدءوبة فإنهم لم يعثروا على شيء، وقد فَنَّدَ أسطورة الهيكل هذه أحد كبار المتخصصين في الدراسات الإسرائيلية، وهو د. محمد جلاء إدريس فقال في مناقشة مسهبة نوردها هنا بتمامها لأهميتها: ((يزعم اليهود أن حائط البراق (الحائط الغربي من الحرم الشريف) هو الجدار الباقي من هيكل سليمان، وأن الحرم الشريف أقيم مكان الهيكل، وحول هذه المزاعم نسوق ما يلي:
1. مساحة الحرم الشريف كما أشار إليها الأثري الفرنسي "دي سولسي" في كتاب له بعنوان "تاريخ الفن اليهودي" هي: الضلع الشرقي لسور الحرم بطول 348 مترا، والضلع الجنوبي بطول 225 مترا، أما الضلع الغربي فيمتد في خط مستقيم، وبزاوية منفرجة وبهذا يصبح الضلع الشمالي من السور أطول بكثير من الجنوبي، أما مساحة الهيكل كما وردت في سفر الملوك الأول 6/ 2-3 فهي كما يلي: "والبيت الذي بناه الملك سليمان للرب طوله ستون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، سمكه ثلاثون ذراعا، والرواق قدام هيكل البيت طوله عشرون ذراعا حسب عرض البيت وعرضه عشر أذرع قدام البيت" فهل تنطبق مساحة الهيكل على مساحة الحرم الشريف؟!
2. الحرم الشريف مستطيل، يأخذ اتجاهه من الشمال إلى الجنوب في اتجاه قبلة مكة المكرمة، بينما يتجه الهيكل من الغرب إلى الشرق.
3. تعد منطقة الحرم منطقة قبور، إذ اكتشفت بها قبور عديدة، وتوجد بها كنيسة القيامة التي يعتقد المسيحيون أن المسيح قد قام منها إلى السماء بعد دفنه، وهذا دليل على عدم وقوع منطقة الحرم وكنيسة القيامة في نطاق أرض الهيكل أو مدينة داود وسليمان؛ لأن الشريعة الإسرائيلية تحرم دفن الموتى في المدينة المقدسة، وحتى ملوك إسرائيل القدامى: داود وأبشالوم وسليمان. ..إلخ، كلهم مدفونون خارج الأسوار، وليس من المعقول أن يدفن الملوك خارج الأسوار، ويسمح بدفن أشخاص كانوا يعتبرونهم مُعَاقَبين أو مجرمين داخل الأسوار؛ وبالتالي يكون الجزء العربي من القدس، ابتداءً من بني نسيبه (سدنة كنيسة القيامة) إلى آخر باب الأسود المشرف على وادي سباط في أقصى الشرق من المدينة، فلسطينيًّا عربيًّا منذ أقدم العصور.
4. الهيكل السليماني الذي يتحدث عنه اليهود لا وجود له على الإطلاق؛ وذلك لما يلي: أ. تم تدمير هيكل سليمان والاستيلاء على ما فيه، وإحراقه هو وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء وجميع أسوار أورشليم على يدي "نبوزردان" رئيس شرط "نبوخذ نصر" البابلي عام 586 ق.م (سفر الملوك الأول 25/ 1 – 30) وكذلك (سفر أخبار الأيام الثاني36/ 13 – 20). ب. أعاد الملك الفارسي كورش اليهود المنفيين إلى بابل بعد تغلبه على البابليين وسمح لهم بإعادة بناء "بيت الرب" وذلك بعد تمام سبعين عاما من تدميره، بل بدعم مالي ومعنوي من الملك الفارسي (أخبار الأيام الثاني36/ 22 – 23؛ عزرا 1/3 – 4 ؛ 4/ 3- 13)، إذن هناك هيكل جديد بناه عزرا ونحميا، لا نعرف مكانه بالضبط، ومن الطبيعي أن تختلف هيئته ومساحته عن الهيكل الأول.
ت. توالت حملات الغزاة على أورشليم القدس والهيكل: بطليموس الأول 310 ق.م، أنطيوخوس السلوقي اليوناني 203 ق.م، والبطلمي المصري سكوباس 199 ق.م، ثم يزحف القيصر الروماني "بومبي" على فلسطين ويحتلها عام 66ق.م، ويرسل الإمبراطور الروماني "فسبازيان" ابنه "تيتوس" قائدا لجيش كبير، قام بتخريب القدس في 8/12/70م، وتدمير الهيكل "الثاني" وإجلاء اليهود من المدينة، أما بعد فشل ثورة اليهود المعروفة بثورة "باركوكبا" ضد الرومان عام 136م، فقد قام الإمبراطور الروماني "هدريان" بهدم كل ما بقي من مبانٍ في أورشليم القدس، وأقام مكان الهيكل معبدا للإله الوثني "جوبتر" كبير آلهة الرمان، ونصب تمثالا كبيرا لهذا الإله، وغير اسم المدينة إلى "إيليا كابيتولينا" ومنع اليهود من دخولها. ث. زعم بعض اليهود أن الحائط الغربي "حائط المبكي" هو بقية من سور داود، وقال آخرون: إنه من حائط سليمان، ونسبه آخرون إلى اليهود المكابيين، أو إلى هيرودس، الحفائر الإسرائيلية التي بدأت منذ احتلال القدس عام 1967م وحتى الآن، لم تسفر عن شيء يؤكد أي زعم من المزاعم السابقة.
ج. يبلغ ارتفاع هذا الحائط حوالي 18 مترا عن سطح الأرض، بعضها يرجع إلى القرن الثاني عشر الميلادي، والجزء السفلي من أساس الحائط لا يمكن رده إلى ما قبل القرن الأول الميلادي. ح. المنطق يقول: إن بيتًا وضع قبل ألف عام تقريبًا قبل الميلاد، يتعرض للعديد من عمليات التدمير والحرق والإبادة على مدى ألفي عام، أي: منذ تأسيسه وحتى الغزو الصليبي، لا يمكن أن يبقى منه جدار، ناهيك عن عوامل التعرية والهزات الأرضية وغيرها. وعليه، فإن أسطورة "حائط سليمان" هي أكذوبة يهودية لا تَقِلُّ "خرافة" عن أسطورة "الصخرة"، وبقي أن نشير إلى أنه لا توجد معابد يهودية قديمة العهد في القدس، وأقدمها يرجع إلى عام 1701م، ويسمى كنيس "قدس الأقداس" وأصل مكانه أرض إسلامية وجامع، استولى عليه اليهود وبنوا عليه المعبد))( ).
ومن أخطاء المؤلف الواضحة كذلك اعتباره دولة الأدارسة بالمغرب دولة شيعية، يقول: ((فبالإضافة إلى الخوارج الذين لم ينقطعوا يومًا عن تأليب البربر على العرب، برزت إلى الميدان السياسي ابتداءً من سنة 780م قوة جديدة، هي الشيعة، وطفقت تعمل في سبيل الاستيلاء على السلطة، وتفصيل ذلك أن إدريس بن عبد الله بن الحسن كان قد فر إلى مصر ومنها إلى شمالي مَرّاكُش بعد ثورة مخفقة قام بها في المدينة، وهناك في مستقره الجديد بين قبائل البربر اعتُرف به إماما وتمكن من نشر سلطانه، في نزاعه ضد الأغالبة حتى تِلِمْسان. ومات إدريس مسمومًا، وليس له من عقب غير ولدٍ كانت أمه لا تزال حاملًا به، فلما وضعته سمي إدريس على اسم أبيه، ولقد قدّر لإدريس الثاني هذا أن يؤسس عاصمة جديدة للدولة في فاس سنة 808م))( ).
والمعروف أن هذا خطأ شائع وقع فيه بروكلمان، فالأدارسة دولة سنية، وإن كان مؤسسوها وحكامها من آل البيت – رضي الله عنهم، وفي هذا يقول د.حسين مؤنس: ((من الأخطاء الشائعة القول بأن دولة الأدارسة دولة شيعية؛ لأن مؤسسيها وأئمتها كانوا من أهل البيت، وقد غاب عن القائلين بذلك أن آل البيت لا يمكن أن يكونوا شيعة؛ لأن الشيعة هم الذين يتشيَّعون لهم، أمَّا هم فعلى سنة جدهم ، وقد كان الأدارسة وكل رجال دولتهم أهل سنة وجماعة، بل يُروى عن الإمام إدريس الأكبر أو الأول أنه قال مشيرا إلى مالك نحن أحق باتباع مذهبه وقراءة كتابه – يعني: الموطأ – وأمر بذلك ... ولم يعرف الأدارسة في بلادهم غير المذهب المالكي، وسنرى بعد قليل أن نصرة مذهب السنة والجماعة كانت من أسباب قيام إمامة الأدارسة ودوافع وجودها، والوصف الصحيح لهذه الدولة أنها كانت دولة علوية هاشمية سنية، وهي أول تجربة نجح فيها آل البيت في إقامة دولة كبيرة لأنفسهم، وهي من هذه الناحية تهمنا كتجربة سياسية ذات رسالة كبرى في سلسلة تجارب الحكم في تاريخ الإسلام العام))( ). وعن دولة الموحدين وهي إحدى الدول التي حكمت بالمغرب والأندلس، يقول بروكلمان: ((بَيْد أن إمبراطورية الموحدين التي انتظمت الأندلس وأفريقية كلها إلى تخوم مصر، وهي رقعة واسعة لم تجتمع لأيّ من الدول الإسلامية من قبل، ما لبث أن أصابها الانحلال في ظل المستضعفين من خلفاء المؤسسين الأولين، فلم يكد محمد الناصر يخلف أباه يعقوب حتى واجهته الثورات من كل سبيل))( )، والمعروف أن تاريخ المسلمين شهد دولا امتدت حدودها إلى أوسع من هذا بكثير، كالدولة الأموية التي حكمت من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا. ولعل المؤلف يقصد أن دولة الموحدين أكبر الدول التي حكمت ببلاد المغرب والأندلس فقط وليس بالعالم الإسلامي كله.
ومن مغالطاته الواضحة قوله بمناسبة الحديث عن فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس بعد الانتصار في حطين على الصليبيين: ((وهدم صلاح الدين جميع أماكن العبادة النصرانية في هذه البقعة المقدسة))( )، ولا شك في أن القاصي والداني قد سمع بمدى تسامح صلاح الدين مع خصومه بشرًا وحجرًا – أي: أسرى ودور عبادة – بعد أن نصره الله عليهم، وقد شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، ونعتوه بالعدو النبيل، وهذا ما حكته المصادر القديمة والمراجع الحديثة، وفي هذه الحادثة يقول المؤرخ المعاصر للأحداث عز الدين ابن الأثير: ((فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وألا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أيّ شيء تنجلي، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقرّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاح الدين حينئذٍ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدّى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤدِّ ما عليه صار مملوكا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك.
وسلِّمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوما مشهودا، ورُفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها... وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم قد ترهّبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها، فأمَّنها وسيَّرها.
وكذلك أيضا أطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها، ونيابة عنها كان يقوم بالملك، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المصير إلى زوجها، وكان حينئذٍ محبوسا بقلعة نابلس، فأذن لها، فأتته وأقامت عنده. وأتته أيضا امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك، وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين، فشفعت في ولد لها مأسور، فقال لها صلاح الدين: إن سلّمت الكرك أطلقتُهُ؛ فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذين فيه، ولم يسلموه، فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق مالها ومن تبعها.
وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع منها: الصخرة والأقصى، وقمامة وغيرها، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوِّي به المسلمين، فقال: لا أغدر به؛ ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسيَّر الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مُذَهَّب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة، تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج: أما المسلمون فكبَّروا فرحا، وأما الفرنج فصاحوا تفجعا وتوجعا، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها. فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الدَّاوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هرْي ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم، فأعيد إلى الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ففُعل ذلك أجمع... وأما الفرنج من أهله فإنهم أقاموا، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم، وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية، فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج وترك الفرنج أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها... ثمّ ساروا))( ).
يؤكد هذه المعاملة السمحة المستشرق رجاء جارودي، يقول: ((فبمجرد أن نجح صلاح الدين - الأمير ذو الأصل الكردي، والذي كان يحكم مصر – في تجميع القوى التي كانت حتى ذلك الحين متفرقة، حرر القدس (أورشليم)، في الأول من أكتوبر 1187م، تاركا الكنائس النصرانية مفتوحة للعبادة، من جميع الاتجاهات، وأعاد فتح المعابد اليهودية))( ).
بينما يقول المستشرق غوستاف لوبون: ((ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم، فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم))( ).
وعن سماحة صلاح الدين وعفوه وكرمه مع الصليبيين ما ذكره رنسيمان متصلا بفتح صلاح الدين للقدس ومعاملته للصليبيين: ((الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ ثمان وثمانين سنة يخوضون دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن – بعد فتح صلاح الدين – دار من الدور للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه؛ إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع والأبواب يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين (الصليبيين) ..... ودهش المسلمون حينما رأوا البطريك هرقل يؤدي عشرة دنانير مقدار الفدية المطلوبة منه، ويغادر المدينة وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته العربات التي تحمل ما بحوزته من الطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفيسة))( )؛ أي: إن البطريك خرج بالذهب والأموال ولم يدفع عن أحد من أتباعه الفدية.
ويذكر أيضا إطلاق صلاح الدين والعادل أخيه للصليبيين، فيقول: ((ومن المناظر التي تدعو للأسى والحزن ما حدث من التفات العادل إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير (صليبي) على سبيل المكافأة عن خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين، فأطلق العادل على الفور سراحهم))( ).
ويذكر في موضع آخر إطلاق صلاح الدين لكل من في الأسر من أزواج نساء الصليبيين، ثم يختم ذلك بقوله: ((والواقع أن رحمته وعطفه كانا على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين – الصليبيين – في الحملة الصليبية الأولى))( ).
ومن قبيل هذه المغالطات أيضا يأتي قول المؤلف، بمناسبة الحديث عن إعادة احتلال عكا من قبل الحملة الثالثة بقيادة ريتشارد(قلب الأسد): ((وفي 12 تموز 1192 استسلمت حامية عكا المطوقة، حتى إذا رفض صلاح الدين أن يدفع إلى الصليبيين الفدية الباهظة التي فرضوها لإطلاق سراح السكان المسلمين فتك النصارى بأسراهم، فأجابهم المسلمون بالمثل فكانت مجزرة مروِّعة من الجانبين))( )، بينما صحيح التاريخ يقول: ((ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد مَن في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يدا واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحرّكون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظنًّا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا، وصلاح الدين يحرضهم، وهو في أولهم، وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد، فقرب المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم.
فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع، ولا يدفع عنهم ضرًّا، خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخرج من فيه بأموالهم وأنفسهم، وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت، وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين، فلمَّا حلفوا له سلم البلد إليهم، ودخلوه سلما، فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحبسوهم وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يطلقوا من عندهم، فشرع في جمع المال، وكان هو لا مال له، إنما يخرج ما يصل إليه أولا بأول.
فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم، فأشاروا بألا يرسل شيئا حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الداوية( ) ذلك؛ لأنهم أهل تدين يرون الوفاء، فراسلهم صلاح الدين في ذلك، فقال الداوية: لا نحلف ولا نضمن؛ لأننا نخاف غدر مَن عندنا، وقال ملوكهم: إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا، فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر، فلم يرسل إليهم شيئا، وأعاد الرسالة إليهم، وقال: نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب، ونعطيكم رهنا على الباقي وتطلقون أصحابنا، وتضمن الداوية الرهن، ويحلفون على الوفاء لهم، فقالوا: لا نحلف، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت، والأسرى والصليب، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال، فعلم الناس حينئذ غدرهم، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال، يطلبون منهم الفداء، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك.
فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم، وحملوا عليهم، فانكشفوا عن موقفهم، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء والمقدّمين ومن كان له مال، وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرَّف في المال الذي كان جمعه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق))( )، وهكذا لم يذكر التاريخ أن صلاح الدين قد عاملهم – في غدرهم بالأسرى – بالمثل، بل أرجع أسراهم إلى سجون دمشق.
وقد ذكر رنسيمان أن ريتشارد قلب الأسد أراد الزحف على بيت المقدس، فأمر بالإجهاز على 2700 أسير مسلم، واشتد حماس عساكره للقيام بهذه المجزرة ((ولقيت زوجات الأسرى وأطفالهم مصرعهم إلى جوارهم، ولم يبقوا على حياة أحد، سوى بعض الأعيان وبعض رجال أشداء للإفادة منهم في أعمال السخرة))( ).
وفي موضع آخر يوضح حقيقة قتل صلاح الدين لبعض الجند من الصليبيين وليس للأسرى، فيذكر رنسيمان أن جنوده ((قطعوا الطريق على العساكر الذين تاهوا عن جيشهم - الصليبي – فحملوهم إلى صلاح الدين الذين استجوبهم ثم أمر بقتلهم انتقاما لمذبحة عكا))( )، أي: قتل صلاح الدين جندا غزاة تاهوا عن الجيش الأساسي الصليبي المتجه صوب بيت المقدس ولم يقتل الأسرى.
ولعله من الملائم أن نختم مناقشة هذه المسألة بشهادة مجملة منصفة في حق صلاح الدين شهدها المستشرق توماس أرنولد حين قال: ((وقد لا يكون من الممتع أن نعرف من هم هؤلاء المسلمون الذين توفروا على كسب هؤلاء الذين تحولوا إلى الإسلام، ولكنهم يظهر أنهم لم يخلفوا سجلا بأعمالهم، على أننا نعلم أن صلاح الدين العظيم نفسه كان على رأسهم، وهو الذي وصفه كتاب سيرته بأنه قدم محاسن الإسلام بين يدي ضيفه المسيحي، وحثه على اعتناقه. ويظهر أن أخلاق صلاح الدين وحياته التي انطوت على البطولة قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا حتى أن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانيةَ مثلا فارسٌ إنجليزي من فرسان المعبد يدعى روبرت أوف سانت ألبانس في سنة 1185م واعتنق الإسلام ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين، وبعد عامين غزا صلاح الدين فلسطين وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة حطين، وكان جوي ملك بيت المقدس بين الأسرى، وحدث أثناء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه قد حلت فيهم روح شريرة!! وفروا إلى معسكر صلاح الدين حيث أسلموا بمحض إرادتهم، ويظهر أن صلاح الدين كان قد تفاهم في الوقت نفسه مع ريموند الثالث كونت طرابلس الشام على أن يوعز إلى أتباعه بترك العقيدة المسيحية والتحول إلى جانب المسلمين، ولكن موت هذا الكونت المفاجئ قد وقف بصورة فعالة في سبيل هذه الخطة.
وقد حفز سقوط بيت المقدس والانتصارات التي أحرزها صلاح الدين في الأراضي المقدسة، أهل أوروبا للقيام بالحرب الصليبية الثالثة، التي كان أهم أحداثها حصار عكا (1189 – 1191م)، وإن ما تعرض له الجيش المسيحي من آلام مروعة، من جوع ومرض، قد دفع الكثيرين منهم إلى الفرار والتماس ما يخلصهم من ألم الجوع في معسكر المسلمين، ومن هؤلاء الفارين كثيرون قد رجعوا مرة أخرى، بعد فترة من الزمن إلى جيش الصليبيين، ومنهم كثيرون آثروا أن يسهموا بنصيب مع المسلمين، فالتحق فريق منهم بخدمة أعدائهم السابقين، ولكنهم ظلوا على ولائهم للدين المسيحي، وقد علمنا أنهم كانوا راضين كل الرضا عن سادتهم الجدد، على حين اعتنق آخرون الإسلام وأصبحوا قوما صالحين.
وكذلك سجل المؤرخ الذي رافق ريتشارد الأول في هذه الحرب الصليبية، تحول هؤلاء الفارين إلى الإسلام فقال: وفريق من رجالنا - الذين لا نستطيع أن نتحدث عن مصيرهم أو نسمع عنهم دون أن يحز في نفوسنا ألم مرير - قد استسلموا لقسوة المجاعة المرة، فتجشموا في سبيل إنقاذ أبدانهم، هلاكا أبديا لأرواحهم؛ إذ إنه بعد انقضاء الجزء الأكبر من هذه المحنة نراهم يهجرون بني جلدتهم ويفرون إلى الأتراك، فلم يترددوا في أن يصبحوا في زمرة المرتدين، ولكي يطيلوا أعمارهم الموقوتة زمنا قصيرا اشتروا موتا أبديا بهذا الكفر المفزع، أيتها المساومة الملعونة! أيتها الفعلة المخزية التي لا يكفر عنها أي عقاب! أيها الرجل الأحمق الذي يشبه البهائم البله! إنك إن فررت من الموت المحتوم الذي لا مفر من أن يأتي عاجلا فلن تفر من الموت الأبدي))( ).
ويجافي المؤلف أحيانا الروح العلمية بالتعميم والإجمال غير الدقيق في كلامه، من ذلك قوله: ((بينا كانت جمهرة كبيرة من القبائل التركية - لا تزال تختصم - حوالي منتصف القرن الثالث عشر، على بقايا الخلافة - هذه الخلافة التي أقامها العرب، وسعى إلى تقويضها الفرس، وأجهز عليها المغول - نشأت في الجزء الشمالي الغربي منها، في آسية الصغرى، تلك الدولة التي قدر لها أن تعمر أطول من سائر الدول التركية، وأن تنتهي إلى أن تتولى قيادة العالم الإسلامي نحوا من خمسمائة عام))( ).
فالفرس عنصر من عناصر الأمة الإسلامية، انطوى تاريخه كغيره من العناصر - على تفاوت بينها – على سلبيات وإيجابيات، ولا يمكن اختزال دوره التاريخي السياسي والحضاري في السعي إلى تقويض الخلافة الإسلامية.
وأخيرا يتحدث بروكلمان في تعميم مشوش عن دور المتصوفة، فيقول: ((وخضعت حياة الجماهير الدينية لتأثير [مشايخ] الطرق الصوفية (الدراويش) المنتشرة انتشارا واسعا في أسيا الصغرى، منذ القدم، وفي الروم ايلي بعد ذلك بزمن، كالنقشبندية والمولوية والبكتاشية بأكثر مما خضعت لتأثير رجال الدين الرسميين؛ والواقع أن نظام الدرجات المتصاعدة في المذاهب السرية كان مصطنعا أبدا، بنجاح كبير، في الطرق [الصوفية] الإسلامية، وبينا كان أتباع هذه الطرق لا يحجمون عن الذهاب إلى أقصى حد من الصوفية القائلة بوحدة الوجود - هذه الصوفية التي لم تلغِ العقيدة الإسلامية فحسب، بل حللت أصحابها من وصاياها الأخلاقية أيضا - كانت العاطفة الدينية تنمي عند الناس من طريق الوجد))( )، ولا شك أن في هذا الكلام إجمالا مخلا بالواقع التاريخي الذي يسجل لراشدي المتصوفة – كما يسجل مثالب منحرفيهم ونقائصهم – جهادهم في نشر الإسلام سلما وحربا، والشواهد على هذا كثيرة لا مجال لسردها هنا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القسم الأول - شبهات وردود
أولًا. الطعن في الذات الإلهية
في هذا الشأن طالع معي أيها القارئ الكريم هذا النص الذي كتبه بروكلمان تحت عنوان (الجانب اللاهوتي)، يقول: ((وإله محمد هو الرب الإله أولا وأخيرا، فمنذ العهد البابلي والسامي يتمثل إلهه سيدا عنيدا غريب الأطوار قاسيا لا يُسْبَرُ غور إرادته؛ لأنها متقلبة غير مستقرة كإرادة طاغية شرقي، إن الله لا يفرض أحكامه لأنها مقدسة وعادلة، بل يفرضها لأنه يسعده أن يفعل ذلك، ففي مقدوره أن يعدلها أو ينسخها كما يرى موافقا، وفي أي ساعة يشاء، ولكن إله محمد هو إلى ذلك لطيف رحيم، لقد استشعر النبي نفسه هذا اللطف، فعرف أنه تعالى لا يرغب في إرهاق المؤمنين بالفروض الدينية بل يريد أن يخفف عنهم، لما يعلم من أن الإنسان خلق ضعيفا [سورة 4: 32]))( ).
في هذا النص المكثف مغالطات سافرة وزلات قبيحة في حق الذات الإلهية متمثلة في أوصاف لا تليق أبدا بالمولى يزعمها المؤلف ويتخيل أنها خلاصة اعتقاد المسلمين في خالقهم ، مما يذكرنا بتلك الأوصاف البشرية التي خلعها بنو إسرائيل على إلههم في العهد القديم وطبيعة تصورهم للإلوهية التي حدثنا عنها ابن حزم في صفحات مطولة( )، وهو ما رشح على تصور المؤلف هنا.
وقد أوجز د. علي عبد الواحد وافي تطور عقيدة اليهود من خلال أسفارهم المقدسة، نورد هنا مقتطفات من كلامه إذ يقول: ((كانت الديانة اليهودية في أصلها – كما ينبئنا بذلك القرآن الكريم – ديانة توحيد تتصف فيها الذات العلية بصفات الوحدة والكمال، والتجرد من جميع مظاهر النقص، والمخالفة للحوادث في كل شيء، كما هو الشأن في الدين الإسلامي.
ولكن يظهر من استقراء تاريخ اليهود، وما ورد بشأنهم في القرآن الكريم، وما ورد في أسفارهم نفسها، أن فهمهم للذات العلية لم يكن في أي عصر من عصورهم مطابقا كل المطابقة لهذا الوضع... ويظهر من التأمل في أقدم سفرين من أسفار توراتهم المزعومة، وهما سفر التكوين وسفر الخروج، أن فكرة الإلوهية ظلت مضطربة في عقولهم إلى نهاية المرحلة التي تم فيها تدوين هذين السفرين، أي: إلى نهاية القرن التاسع قبل الميلاد (بعد موسى بنحو خمسة قرون)، فتصوروا الله تعالى في صورة مجسمة، ووصفوه بكثير من صفات النقص والضعف والكذب والغفلة والجهل وأشركوا معه آلهة آخرين، وارتدوا أحيانا إلى عبادة الأصنام والحيوان، وظهر تصورهم هذا في كثير مما ورد في هذين السفرين... ومن ذلك أيضا ما يذكره سفر التكوين عن يعقوب وأنه لقي الله ذات ليلة وأخذ يصارعه حتى بزغ الفجر، بدون أن يستطيع الله سبيلا إلى التغلب على يعقوب، وحينئذ ضرب حق فخذ يعقوب فانخلع، ولما بلغ الوهن من الله مبلغه طلب إلى يعقوب أن يخلي سبيله؛ لأنه قد طال أمد المصارعة وطلع الفجر!!!. ولكن يعقوب لم يقبل أن يطلقه إلا إذا باركه، فقبل الله شرطه وباركه، وسأله عن اسمه، فقال: يعقوب، فقال الله: لن تسمى بعد الآن يعقوب، بل تسمى «إسرائيل»؛ لأنك كنت قويا على الله، (هذا هو أحد معاني كلمة إسرائيل في العبرية)... فأسفار التلمود تظهر إله إسرائيل متصفا بكثير من صفات الحوادث وصفات النقص ويبدو ذلك على الأخص فيما يذكره التلمود عن جسم الإله وضخامة أعضائه، وما يرويه عن نشاطه وأعماله في الليل والنهار، وعن حالته بعد هدم الهيكل وتشريد بني إسرائيل، وما يقرره بصدد تخصيص أيام من كل عام لعبادة إله آخر صغير، وبصدد حرص الإله على أن تقدم له أضحية من الآدميين... وورد في بعض أسفار التلمود أن الله يقضي الساعات الثلاث الأولى من النهار في مذاكرة الشريعة، والساعات الثلاث الثانية في شئون الحكم بين الناس، والساعات الثلاث الثالثة في تدبير العيش للخلق، وأما الساعات الثلاث الأخيرة فيقضيها في اللعب مع الحوت ملك الأسماك، وهو حيوان كبير جدا يتسع حلقه لسمكة طولها ثلثمائة فرسخ بدون أن تضايقه، وقد رأى الله أن يحرمه من أنثاه حتى لا يتناسلا فيملآ الدنيا وحوشا تهلك من فيها وتأتي على الحرث والنسل؛ ولهذا حبس الذكر بقوته الإلهية وقتل الأنثى وملحها وحفظها لطعام المؤمنين في الفردوس.
وأما ساعات الليل فيقضيها الإله في مذاكرة التلمود مع الملائكة ومع ملك الشياطين الذي يصعد إلى السماء كل ليلة ثم يهبط منها إلى الأرض بعد انتهاء هذه الندوة العلمية. وقد تغير هذا النظام بعد أن قدر الله هدم الهيكل وتشريد بني إسرائيل، فقد اعترف الإله بخطئه في هذا الصدد وندم على ما فعله، وخصص ثلاثة أرباع الليل للبكاء والندم، وكان إذا بكى سقطت من عينيه دمعتان في البحر فيسمع دويهما من الآفاق، وتضطرب المياه وترتجف الأرض، فتنجم عن ذلك الزلازل، ويزعم التلمود أن الله يردد في أثناء بكائه ونحيبه عبارات تدل على ندمه مما فعل، فيقول: تبا لي أمرت بخراب بيتي وإحراق الهيكل وتشريد أولادي، ويقول حينما يسمع الناس يمجدونه: طوبى لمن يمجده الناس وهو مستحق لذلك، وويل للأب الذي يمجده أبناؤه مع عدم استحقاقه لذلك؛ لأنه قد قضى عليهم بالتشريد والشقاء... ويقرر التلمود كذلك أن الله قد تستولي عليه نزوة غضب، فيقسم ليأتين أعمالا شريرة أو غير عادلة، ثم يثوب إلى رشده فيتحلل من يمينه، كما حدث يوم أن غضب على بني إسرائيل في الصحراء وأقسم أن يبيدهم ثم رجع عن عزمه وتحلل من يمينه بعد أن انقشعت نزوة غضبه. ويستدل من أسفار تلمودهم كذلك أنهم كانوا يخصصون عشرة أيام من أول أكتوبر يعبدون ربا آخر غير إلههم، ويطلقون عليه اسم الرب الصغير، وهذا الرب الصغير هو صندلفون الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم))( ).
ولا شك في أن عقيدة الإلوهية في الإسلام وعند المسلمين مخالفة لهذا التصور اليهودي الدميم الذميم، فهي عقيدة الوحدانية الصافية المنزهة عن الشبيه والمثيل، يقول الأستاذ العقاد: ((فالفكرة الإلهية في الإسلام فكرة تامة، لا يتغلب فيها جانب على جانب، ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلا في الحس ولا في الضمير، بل له ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
فالله وحده ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام : 163]، ولم يكن له شركاء في الملك ﴿فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف : 190]، و﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة : 31]، والمسلمون هم الذين يقولون: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ﴾ [يوسف: 38]، ﴿وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً﴾ [الجن: 2].
ويرفض الإسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب، ولله المثل الأعلى من صفات الكمال جمعاء، وله الأسماء الحسنى، فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة، ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة، فهو قادر على كل شيء وهو عزيز ذو انتقام، وهو كذلك رحمن رحيم... قد وسعت رحمته كل شيء، و﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [البقرة : 105]، وهو الخلاق دون غيره و﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: 3]. فليس الإله في الإسلام مصدر النظام وكفى، ولا مصدر الحركة الأولى وكفى، ولكن ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد : 16]، و﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ﴾ [الفرقان: 2]، وأنه﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [يونس : 4]، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس : 79]))( ).
ويزيد الشيخ الغزالي التصور الإسلامي لعقيدة الإلوهية إيضاحًا بقوله: ((هذا الاسم الكريم عَلَمٌ على الذات المقدسة التي نؤمن بها ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا، والله – تبارك وتعالى – أهلُ الحمد والمجد، وأهل التقوى والمغفرة، لا نحصي عليه ثناء، ولا نبلغ حقه توقيرا وإجلالا.
لو أن البشر – منذ كتب لهم تاريخ، وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة – نسوا الله وكفروا به، ما خدش ذلك شيئا من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كفَّ شعاعًا من ضيائه، ولا غضَّ بريقًا من كبريائه، فهو – سبحانه – أغنى بحوله، وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن ينال منه وَهْمُ واهمٍ، أو جهل جاهل.
ولئن كنا في عصر عكف على هواه، وَذَهَلَ عن أخراه، وتنكر لربه، إن ضير ذلك يقع على أم رأسه، ولن يضر الله شيئا، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ(3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4)﴾ [الحج : 3-4]))( ). وهكذا يتضح لنا إلى أي حدٍّ جَانَبَ المؤلفُ الصوابَ في حديثه عن الإله (الله ) في التصور الإسلامي، ولعل أنسب ما نختم به هذه المسألة اعتبار مستشرق آخر أن بساطة العقيدة الإسلامية تأتي في مقدمة عوامل انتشار الإسلام؛ إذ يقول: ((في مقدمة هذه الأسباب بساطة العقيدة الإسلامية، لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وكل ما يطلب من الذي يدخل في الإسلام، قبول هاتين الشهادتين، وإن تاريخ العقائد الإسلامية كله ليخفق في عرض أية محاولة من جانب المقامات الدينية، لحمل جمهرة المؤمنين على الأخذ بأية إشارة منطوية في عبارات أكثر تدقيقا وتعقدا.
إن هذه العقيدة البسيطة لا تتطلب تجربة كبيرة للإيمان، ولا تثير في العادة مصاعب عقلية خاصة، وإنها لتدخل في نطاق أحط دركات الفهم والفطنة، ولما كانت خالية من المخارج والحيل النظرية اللاهوتية، كان من الممكن أن يشرحها أي فرد، حتى أقل الناس خبرة بالعبارات الدينية النظرية... الإسلام في جوهره دين عقلي))( ).
ثانيًا: الطعن في النبي
أ) الطعن في عقيدة التوحيد عنده
ادعى بروكلمان أن النبي اعترف بآلهة المشركين في مكة على أنهم شفعاء عند الله، إذ قال: ((إن الوحدانية التجريدية التي كانت إلى حد كبير أساس قوة الإسلام على غزو القلوب واكتساب الأتباع لم تنشأ إلا تدريجيا، ولقد سبقت منا الإشارة إلى نزوع النبي الأولي إلى الاعتراف بالآلهة المكية الرئيسة شفعاء عند الله))( )، ((ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته لآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله، لقد أشار إليهن في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضى"))( )، وذلك في إشارة من بروكلمان إلى أسطورة الغرانيق التي يوجزها، مستنكرا، الشيخُ الغزالي بقوله: ((ويزعم بعض المغفلين أنه وقعت هدنة حقا بين الإسلام والوثنية أساسها أن محمدًا تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم والاعتراف بمنزلتها (!) وأن هذه الهدنة الواقعة هي التي أعادت المسلمين من الحبشة.
وماذا قال محمد في مدح الأصنام؟ يجيب هؤلاء المغفلون بأنه قال: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى(؟!) وأين وضع هذه الكلمات؟ وضعها في سورة (النجم) مقحمة وسط الآيات التي جاء فيها ذكر هذه الأصنام. فأصبحت هكذا: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.
ويكون معنى الكلام على هذا: خبروني عن أصنامكم: أهي كذا وكذا؟ إن شفاعتها مرجوة، إنها أسماء لا حقائق لها، خرافات ابتدعت واتبعت، ما لكم جعلتموها إناثا ونسبتموها لله وأنتم تكرهون نسبة الإناث لكم؟! تلك قسمة جائرة!.
فهل هذا كلام يصدر عن عاقل، فضلا عن أن ينزل به وحي حكيم؟ ولكن هذا السخف وجد من يكتبه وينقله!.
إن محمدًا لو كذب على الله باختلاق كلام عليه لقطع عنقه بنص الكتاب الذي جاء به، قال الله جل شأنه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾ [الحاقة :44 - 47]. بيد أن كتب التاريخ والتفسير التي تُرِكَتْ للورَّاقين والزنادقة يشحنونها المفتريات اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح، ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم، إلا أنه ما كان يجوز أن يدون مثله... والذي ورد في الصحيح أن الرسول قرأ سورة «النجم» في محفل يضم مسلمين ومشركين، وخواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، فلما أخذ صوت الرسول يهدر بها ويرعد بنذرها، حتى وصل إلى قول الله: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾ [النجم :53 - 61]، كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين، مع غيرهم من المسلمين))( ).
وقد فَنَّدَ هذه الأسطورة الشيخ محمد عبده، فقال: ((أما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف، الذي سبق ذكره، جاء في تتميمها أن النبي لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك فأنزل الله عليه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ الآيات- تسلية له كما أنزل لذلك قوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً(74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾[الإسراء :73 - 75].
وفي بعض الروايات: إن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة، فساء ذلك المسلمين والنبي ، فنزلت ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ الآية، قال العسقلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير واحد من الأئمة حتى قال ابن إسحاق، وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة، وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة، مع حال ابن إسحاق المعروفة عند المحدثين.
وقال القاضي عياض: إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه أحد بسند متصل سليم، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ثم نقل عن أبي بكر بن العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها وما يقضي عليها بالوهن والسقوط عن درجة الاعتبار، وقال الإمام أبو بكر بن العربي - وكفى به حجة في الرواية والتفسير - : أن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له. قال القاضي عياض: والذي ورد في الصحيح أن النبي قرأ: ﴿وَالنَّجْمِ﴾ وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس... وقد يكون ذلك لبلاغة السورة، وشدة قرعها، وعظم وقعها. ثم قال القاضي: قد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته ونزاهته عن هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي أن من القرآن ما ليس منه، حتى يفهمه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه ، أو يقول ذلك النبي من قبل نفسه عمدا – وذلك كفر – أو سهوا وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله – لا عمدا ولا سهوا – ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)﴾ [الحاقة :44 - 46]. وقال: ﴿ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)﴾[الإسراء : 75] .
(ووجه ثان) وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي ومن بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن لا يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! (ووجه ثالث) أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان كذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء.
قال: ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلها، واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على ضعفاء المسلمين.
(ووجه رابع): ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...﴾[الإسراء: 73] الآيتان تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم شيئا قليلا. فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال: افتريت على الله وقلت ما لم يقل، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ...﴾[النساء : 113]، قال القشيري: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن....
هذا ما قاله الأئمة - جزاهم الله خيرا - في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل لها، ولا عبرة برأي من خالفهم فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا، وشهرة المبطل في بطله لا تنفخ القوة في قوله، ولا تحمل على الأخذ برأيه))( ). أما الشيخ محمد الصادق عرجون فقد حمل حملة شعواء على مثبتي هذه الفرية ومروجيها، فقال في حديث طويل وكلام شديد – يقتضيه المقام -: ((أقحم بعض كتاب السيرة النبوية، وجماعة من المفسرين، وطوائف من المحدِّثين، في كتبهم ودواوينهم ومؤلفاتهم أقصوصة (الغرانيق)، وألصقوها بهجرة الحبشة، وجعلوها سببا لعودة المهاجرين الأولين إلى مكة، وهي أقصوصة مختلقة باطلة في أصلها وفصلها، وأكذوبة خبيثة في جذورها وأغصانها، وفرية متزندقة اخترقها (غرنوق) أبله جهول، أو شيخ حاقد على الإسلام زنديق، أو منافق فاجر عربيد، ألقى إليه بها شيطان عابث مريد، يتلعَّب بعقول البُلْه المغفلين،... فباضت هذه الأكذوبة البلهاء بين أحضان هؤلاء، وفرَّخت في أعشاشهم، وزقزقت أفراخها في أوكارهم، وطارت بأجنحة الافتراء الأبله إلى آفاق التاريخ الإسلامي المظلوم، فتلقفها كل (راوندي) ملحد، وحملها كل زنديق مفسد، ليطعن بها في سويداء قلب القرآن الكريم الحكيم المحكم، ويفتك بخنجرها بالسنة المطهرة المبينة، وهما أصل أصول الإسلام اللذان قام على دعائمهما شامخُ صرح هذا الدين القيم، ليزعزع الثقة بأصليه، فينفلت من أيدي المسلمين زمام دينهم الذي أنزله الله تعالى هدى ورحمة للعالمين، ليهدم به كل بناء للوثنية والإلحاد، ويقضي بهدايته على معالم الشرك والإفساد، ويضعضع بآياته كل تفلسف متزندق، وكل زندقة متفلسفة، ويقيم بشرائعه وأحكامه منائر التوحيد الخالص لله تعالى وحده وينشر بآدابه في آفاق الحياة نور الحق والخير.
هذه الأكذوبة (الغرنوقية الخبيثة) تريد من المسلمين أن يجعلوا من سيد المرسلين، خاتم الأنبياء محمد ألعوبة في يد الشيطان، وأن يجعلوا منه معبثة للشرك والمشركين، وأبطولة يرقص من حولها الملاحدة والحاقدون، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يجعل من دينه، دين الإسلام الذي رضيه لأمة محمد حصنا حصينا لا تقحمه الأباطيل والترهات، ولا تنطلي على حذاق حملته من الجهابذة زندقة المتزندقين، وقد أخبر سبحانه إخبارا لا يتخالجه الريب، ولا يحوم حول حماه الشك، بأنه هو الذي تولَّى بنفسه حفظه بحفظ دستوره (القرآن الحكيم المحكم)، فلا يدخل إلى ساحته افتراء المفترين، ولا يلج إلى حظيرة قدسه عبث الشياطين، فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر : 9]، وليتأمل المتأملون في هذه الآية الحكيمة المحكمة، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء....﴾ [المائدة: 44]، ليروا ما أضفى رب العزة تبارك وتعالى على كتابه القرآن الحكيم المحكم من حفاوة الاختصاص بتولي حفظه وإسناد ما أفاضه على التوراة من فضله، فوكل حفظه إلى الربانيين والأحبار...
هذه الأكذوبة الخبيثة البلهاء كانت إحدى الفِرَى الحاقدة التي طوَّفت ببعض مؤلفات الجَمَّاعين للغث والسمين، فرواها في غفلة من عقله وعلمه بعض المفسدين، وأدخلت على بعض المحدثين، مغلَّفة بأغلفة الأسانيد، محاطة بهالات بريق الأسماء، فرددها بأساليب مختلفة وفرطحها كثير ممن تلقفها بالبله والغفلة، ورتعت في أسفار المؤرخين فأعادوا فيها وأبدوا، وزادوا ونقصوا، وأثبتوا وحذفوا، وشوَّهوا وزينوا، ومسخوا وحرفوا، وتلقاها القصَّاصون فغنوا بها، وكان إبليس هو عازف موسيقاها في أنديتهم ومجالسهم، ومصمصت لسماع أباطيلهم شفاه الجاهلين من غوغاء العامة، وعامة الغوغاء، الذين تكبر في صدورهم الغرائب والأعاجيب من المضحكات المبكيات – فيهشون لها – ويتزاحمون على محافلها.
بيد أن هذه الأقصوصة الخبيثة والأكذوبة البلهاء لم تفلت من سياط النقد الممحص، فنهض إليها من الجهابذة المهرة، والحذَّاق العيالم من أئمة الإسلام المشهود لهم بالفضل والصدق والتبحر، والتفقه في الدين مَنْ طعنها في أقتل مقاتلها، فبهرج زيفها، وكشف عن سوأتها، وعرّاها شوهاء متزندقة، وجلَّاها بلهاء ملحدة، وأظهرها فرية مستخبثة، ولكنها ظلت تعيش في أودية الشياطين، تتربص للوثبة، لتفسد على المجتمع المسلم حياته الإيمانية بتشكيكه في أصل أصول دينه، ودستور حياته (القرآن الحكيم المحكم) وتزعزع ثقته في صدق نبيه، سيد الأنبياء والمرسلين، محمد خاتم النبيين ، ليصبح هذا المجتمع المسلم الذي اكتسح حياة الوثنية والإلحاد المشرك بهُدَى قرآنه وسنة نبيه فريسة للإلحاد الجديد على ألسنة المستشرقين والمبشرين الصليبيين واليهود السبائيين، والزنادقة الراونديين، والمتحللين من فجار الشيوعيين الذين عجزوا عن مواقفة القرآن في مواجهة فكرية ومحاجة علمية، فلاذوا إلى الافتراء يختلقونه وإلى الأباطيل يزرعونها في أرضه في غفلة من حراسه الغُرّ الميامين، ليغيروا معالم هدايته، ويشوهوا حقائق دستوره، ويخلعوا عن نبيه سيد الأنبياء والمرسلين خلعة العصمة التي حفظه الله بها عن أي خطأ فيما يبلغه الرسول عن الله تعالى من الشرائع والأحكام إلى الخلق كافة، فكانت عاصما له من أن يكون للشيطان عليه سبيل، والعصمة عن الخطأ فيما يبلغه الرسول عن الله تعالى ثابتة بإجماع طوائف الأمة خلفا عن سلف، لم يعرف في هذا مخالف إلا من أوَّل وحرَّف وبدَّل، وذلك أمره إلى الله، يتولى جزاءه بما يستحق من جزاء))( ). وبعد تفنيد مفصل لروايات هذه الأسطورة سندا ومتنا يلفت الشيخ عرجون نظر القارئ إلى وجه عقلي في المسألة مفادُهُ أنها لو صَحَّتْ في زمانها لسلق المنافقون والمشركون واليهود الرسول وأتباعه بألسنة حداد، وَلَشَغَبُوا على عقيدتهم كما فعلوا في حادثة الإسراء والمعراج، ولكن هذا لم يحدث منهم ولم يُروَ عنهم.
وبعد أن يستعرض د. تمام حسان مواقف المفسرين من هذه الفرية يأخذ عليهم أنهم لم يفندوها حسب مبدأهم القاضي بأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وهو ما يعرف في علم اللسانيات الحديث - وبخاصة فرع علم النص منه - بالتناص، يقول: ((ولقد كان يمكن لمفسرينا لو أنهم تنبهوا لتطبيق مبدأهم القائل: القرآن يفسر بعضه بعضا، أن يربطوا الآية بمحيطها وبيئتها، وأن يصلوا بذلك إلى المقاصد الحقيقية بالنص، ولكنهم - رحمهم الله - ورثوا طريقة الشرح التي تُقَطِّعُ النص إلى مفردات يُشْرَحُ كل منها بمعزل عما سواه، إذ يقول الشارح: قوله كذا: أي كذا وكذا، فيربط المعنى باللفظ المفرد دون تعويل على دلالة النص في عمومه، ولا على تضافر أجزائه... يقول الله تعالى في سورة النجم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى(23)﴾، كيف تستقيم الدعوى الكاذبة مع هذا النص وكيف يُفْهَمُ الكلام؟ بل كيف تُرْجَى شفاعتهن وهم مجرد أسماء سَمَّوْها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان؟ ألا يمكن أن نرى التناقض الصارخ الذي من شأنه أن يثير السامعين دون أن يُغْرِيَهم بالسجود))( ). أما د. البوطي فيعلق على هذه الأكذوبة برمتها وعلى حال مُرَوِّجِيهَا، ساخرا، بقوله: ((عندما يشتهي المبطل رَوَاجَ باطله، وتألقه في الخواطر والأبصار، يختلق بشهوته المبررات التي لا وجود لها، وقد قالوا: إن رجلا عضه الجوع في الصحراء، فرأى حمارا صغيرا أمامه فَتَشَهَّاهُ، وسال لعابه عليه، فقال لنفسه وهو ينهشه: ما أشبه أذنيه بأذني الأرنب))( ). بقي أن نختم مناقشة هذه القضية بكلام حاسم للمستشرقة كارين أرمسترونج، قالت فيه عن هذه الأسطورة: ((ولكن تلك القصة تتعارض مع المأثورات الأخرى ومع القرآن نفسه... وهكذا فإن تلك القصة... غير محتملة الحدوث... كما أن الرسول ، فيما بعد، سوف يرفض عروضا من ذلك القبيل من قادة قريش دون تردد))( ).
ب) ادعاء تأثره بالسابقين
يزعم المؤلف في مواطن عديدة من كتابه، أن تعاليم النبي قد تأثرت، بشكل أو آخر، بالشرائع السماوية والوضعية السابقة عليه، وهو في نظره قد اقتبس من التوراة والإنجيل (الكتاب المقدس) وتأثر بأهل الكتاب، وليس هذا فقط، بل إنه تأثر بالمعتقدات الفارسية وكهان الوثنية، يقول مثلا، في نصوص عديدة: ((لقد اقتبس النبي عن التوراة فكرة الخطيئة الأصلية))( )، ((وتذهب الروايات إلى أنه اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد))( )، ((أما الشعائر الدينية الأخرى كالدعاء إلى الله - وبخاصة في الصلوات الليلية- كان محمد يمارسه في حرارة، على منوال الزُّهَّاد النصارى، فكانت تعتبر مسائل خاصة، ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الصلوات كان يقدم لها، منذ البدء، بالوضوء، الذي كان مألوفا عند بعض الفرق النصرانية))( )، و((في غمرة هذا النضال الناصب المخفق، ضد جحود مواطنيه الأرستقراطيين وإنكارهم كان محمد يعزّي نفسه بالأنبياء السابقين الذي لم تكن مهمتهم مع أقوامهم أسهل من مهمته، وهكذا نجده، في عهده الأول، يكثر من الإشارة إلى قصص هؤلاء الأنبياء، وإلى قصة موسى بخاصة، وليس من شك في أن معرفته بمادة الكتاب المقدس كانت سطحية إلى أبعد الحدود، وحافلة بالأخطاء، وقد يكون مدينا ببعض هذه الأخطاء للأساطير اليهودية التي يحفل بها القصص التلمودي، ولكنه مدين بذلك - دينا أكبر - للمعلمين المسيحيين الذين عرفوه بإنجيل الطفولة، وبحديث أهل الكهف السبعة، وحديث الإسكندر، وغيرها من الموضوعات التي تتواتر في كتب العصر الوسيط، وكان إلى جانب ذلك قصص عربية كتلك التي تتحدث عن هلاك قبيلة ثمود، والتي قد يكون وضع لها قصة النبي صالح الثانوية - كملحق ضروري. وها هنا في هذه القصص نجد أسلوبه ينزع إلى أن يكون أكثر إسهابا وأقل توقدا كما نجد أنه كان يوشح هذه القصص بمناقشات خطابية تدور على محور إثبات وجود الله بمختلف الدلائل التي تقدمها الطبيعة))( )، ((وتأثرت اتجاهات النبي الدينية في الأيام الأولى من مقامه في المدينة، بالصلة التي كانت بينه وبين اليهود، وأغلب الظن أنه كان يرجو عقب وصوله المدينة أن يدخل اليهود في دينه، وهكذا حاول أن يكسبهم من طريق تكييف شعائر الإسلام بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي، فشرع صوم العاشوراء وهو العاشر من المحرم على غرار الصوم اليهودي في يوم الكفارة الذي يقع عندهم في العاشر من تشرين، وعلى حين كان المؤمنون في مكة لا يصلون إلا مرتين في اليوم، أدخل في المدينة على غرار اليهودية أيضًا، صلاة ثالثة عند الظهر، وإذ كان في وسعه ووسع أتباعه أن يقيموا الصلوات منذ عهده بالمدينة، جهارا ومن غير إزعاج، فقد عيّن مناديا للصلاة يعرف بالمؤذن، وليس من شك في أنه بدأ بذلك معارضته لكل من الديانتين الموحدتين، فبينما كان النفخ في البوق هو وسيلة الدعوة إلى الصلاة في كنيس اليهود الشرقية، كان النصارى يصطنعون النواقيس الخشبية بدلا من أجراس الكنيسة، أما محمد فقد وقع اختياره على الصوت البشري لدعوة أتباعه إلى الصلاة، كذلك جعل يوم الجمعة يوم صلاة عامة على غرار "السبت" اليهودي، ولكنه خالف اليهود حين سمح للمؤمنين بأن ينصرفوا في ذلك النهار إلى شئونهم الدنيوية قبل أداء الصلاة وبعدها.
لم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع بينه وبين أحبار اليهود، فالواقع أنهم على الرغم مما تم لهم من علم هزيل في تلك البقعة النائية، كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة الإدراك - فالفجوات المختلفة التي تكشف عن علمه بالعهد القديم، والتي تركها عارية، في السور المكية، لم يعد من الممكن أن تظل خافية عليهم، ولكن إشارتهم الساخرة إلى هذه الفجوات كانت أعجز من أن تزعزع إيمانه بصحة ما يُوحَى إليه، بل إن معارضة اليهود لتعاليمه حملته على أن يستنتج أنهم قد ضلوا عن طريق الإيمان الصحيح، وأنهم قد حرّفوا الكتاب المقدس الذي اعتقد هو نفسه بأنه منزل من عند الله.
ولم يلبث هذا الصراع مع اليهود أن جرّ ذيولا عملية أيضا، فمنذ ذلك الحين شرع النبي يؤكد تأكيدًا متزايدًا على الطابع العربي القومي الذي يطبع دينه، صحيح أنه لم يلغِ صوم العاشوراء، الذي اقتبسه من اليهود - والذي لا يزال بعض المسلمين اليوم يؤدونه، جريا على العادة، تطوعا واختيارا - ولكنه أضاف إلى هذا الصوم صوما آخر معمولا به حتى اليوم، يستغرق شهر رمضان بكامله وهو الشهر التاسع من أشهر السنة القمرية، وعلى حين يكتفي النصارى بمجرد الامتناع عن أكل اللحم خلال صومهم الكبير، نجد محمدا كلّف أتباعه الامتناع عن كل ضرب من ضروب الغذاء طوال النهار، مانحا إياهم – مقابل ذلك - حرية الطعام بعد المغيب، ولسنا نعرف حتى الآن ما إذا كان محمد قد اقتبس هذه الفريضة عن إحدى الفرق الغنوسية أم عن المانيين الذين نفذ مبشروهم إلى بلاد العرب أيضا، فقد كان لا يعرف شيئا، أو يكاد، عن الحرانيين في العراق الذين كانوا يصومون كذلك في شهر آذار تمجيدًا للقمر))( )، ((وبعد أن قطع النبي الرجاء من إدخال اليهود في الإسلام، أصبحت الأخبار المتداولة في مكة في مقدمة معتقداته الدينية، ولكي يزيد هذه الأخبار قيمة وشأنا رقي بها إلى إبراهيم الذي صار يعده الآن مؤسس الدين الإسلامي الحق نفسه، لا مجرد نبي من أنبياء الماضي المتعددين، لقد قرر أن إبراهيم هو الذي أسس الكعبة المقدسة في مكة لابنه إسماعيل، وسنّ الحج إليها ولا تحتاج هذه الكعبة لكي تشد شدا محكما إلى ملة إبراهيم الإلهية، إلا إلى أن تُطهَّر من تلك الانحرافات الوثنية الطارئة عليها في عصر متأخر))( )، ((وليس يجوز أن نطلق الحكم على دين محمد على أساس القرآن وحده طبعًا، وليست المسألة مسألة نظام مرتب، إذ لم تكن الدقة والتماسك الفكري أقوى جوانبه على الإطلاق، ولم يكن عالمه الفكري من إبداعه الخاص إلا إلى حد صغير، فقد انبثق في الدرجة الأولى عن اليهودية والنصرانية، فكيفه محمد تكييفا بارعا وفقا لحاجات شعبه الدينية، وبذلك ارتفع بهم إلى مستوى أعلى من الإيمان الفطري والحساسية الخلقية))( )، ((وفي مكة دارت فكرات محمد الدينية، أول ما دارت على محور الآخرة، وإنما ترجع معتقداته في ما يتعلق بالعالم الآخر إلى مصادر يهودية، وهكذا تتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسية وبابلية قديمة، ولقد اعتقد بادئ الرأي أن القيامة على وشك الحلول، ليجد نفسه مضطرا بعدُ إلى أن يغفل تحديد ميقات لها؛ لأن الله احتفظ بعلم ذلك لنفسه، وتوقع محمد أن تعلن ساعة الحساب بنفخة هائلة ودوي عظيم))( )، ((وعلى حين كان محمد وأصحابه يصلون مرتين في اليوم في مكة، وثلاث مرات في المدينة كاليهود جعلت الطقوس المتأخرة المتأثرة بالفرس عدد الصلوات المفروضة في اليوم الواحد خمسا))( )، ((وفرائض القرآن الدينية ليس لها صلة ملازمة بعقيدة المؤمن، إن لها كما هو الحال في اليهودية المتأخرة، صفة الطقوس الخارجية، ونحن نجد بعض السنن الطقسية، من مثل الوضوء قبل الصلاة تحتل عين المكان الذي تحتله الوصايا ذات القيم الأخلاقية الرفيعة كالأمانة مثلا))( )، ((وبسبيل التميز عن اليهود لم يحظر النبي - كما رأينا سابقا - على أتباعه العمل في الجُمَع، بل ترك لهم حرية التجارة والسعي وراء الرزق))( )، ((والواقع أن المعتقدات الفارسية لزمته... وإنما يظهر هذا السمو الروحي الذي عرفه النبي في تلك السنوات الأولى من بعثته في أسلوب الآيات نفسه، فهي زاخرة بالصور الرائعة، عابقة بالنفس الخطابي الذي يضج بين جنباته التناغم الموسيقي، والإحساس الشعري الأصيل ثم إنها كانت كنفثات الكهان الوثنيين، قصيرة جدًّا، في العادة))( )، ((ومن الجائز أن تكون هذه الرحلة السماوية التي كثيرًا ما أشير إليها بعد في الأساطير الشعرية التي خلفتها لنا الكتب الإسلامية جميعها أقدم من ذلك عهدا، ولعلها ترجع إلى الأيام الأولى للبعثة النبوية، وأمثال هذه الرؤى في أثناء تهجد العرَّاف معروفة ثابتة لدى بعض الشعوب البدائية))( ). لعل من الأوفق أن نبدأ مناقشة ما تتضمنه هذه النصوص الحاشدة من أفكار مغالطة بكلام إجمالي للشيخ محمد الغزالي، يُفَنِّدُ فيه مبدأ اقتباس المسلمين تعاليمهم وتراثهم، على ما زعم الزاعمون، من الآخرين، يقول: ((لقد ظل الرومان بضعة قرون ملوك هذا البحر وحكام شواطئه، ما أخرجهم منها إلا الإسلام، وما رد الحريات إلى شعوبه المأسورة إلا دين الله بعدما حمله العرب، فلا غرو إذا تنامى حقد الأوروبيين عموما على دين غسل الأرض من جبروتهم، وسواهم بغيرهم من عباد الله، وقد شرعوا يتلمسون العيوب للإسلام ويفترون الأكاذيب ليشفوا صدورهم. قالوا: إن القرآن مأخوذ من الكتاب المقدس! وقال أولو الألباب: كيف يؤخذ التوحيد من التثليث؟!! والتنزيه من التجسيد؟!! وقالوا: الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني!، وقال أولو الألباب: إن تشريعا يحث على إنظار المعسر والتجاوز عن الدَّيْن لا يؤخذ من تشريع يقضي باسترقاق المعسر وقد يأمر بقتله! وشتان بين المسئولية في الإسلام والمسئولية عند الرومان... ذاك من ناحية الكيف، أما من ناحية المساحة الاجتماعية فالقول بأن الفقه الإسلامي مستمد من الفقه الروماني كالقول بأن نهر النيل ينبع من بئر حفرها جندي روماني في بلاد النوبة ليستقي منها هو وجواده!
إن البواعث على إهانة الإسلام وتصغير رسالته وتحقير أمته وإنكار ما تركته في الدنيا من دوي، وما خلفته في العالم من رقي، لا سناد لها إلا كره أعمى))( ).
ومن الواضح أن نصوص بروكلمان - سابقة الإيراد - تطعن في صحة نبوة محمد وترجح - من وجهة نظره – أنه لم يتلق وحيا من السماء، وإنما لفق رسالته من السابقين عليه والمعاصرين له من الأنبياء والكهان والعرافين ومن شابههم، ولهذا يلزم أن نشير هنا – ابتداءً – إلى ما تواتر من اعتراف أهل الكتاب بصحة نبوته في زمانه، يقول الإمام ابن الجوزي في هذا الشأن: ((قال كعب الأحبار: نجد نعت رسول الله في التوراة: محمد بن عبد الله، عبدي المختار، مولده بمكة ومهاجره المدينة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. وعن أبي هريرة قال: أتى رسول الله بيت المدراس، فقال: أخرجوا إليَّ أَعْلَمَكُم، فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله فناشده بدينه وبما أنعم الله به عليهم وأطعمهم المن والسلوى، وظللهم به من الغمام: أتعلم أني رسول الله؟ قال: اللهم نعم، وإنَّ القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة، ولكنهم حسدوك، قال: فما يمنعك أنت؟ قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
وعن ابن عباس، قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي عندهم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، فلما وُلِدَ رسول الله قالت أحبار يهود: ولد أحمد الليلة، فلما نُبِّئ، قالوا: قد نُبِّئ أحمد، يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه، فما منعهم عن إجابته إلا الحسد والبغي.
وعن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال: كان الزبير بن باطا – وكان أعلم اليهود – يقول: إني وجدت سِفْرًا كان أبي يختمه( ) عليَّ، فيه ذكر أن أحمد نبي صفته كذا وكذا، فحدث به الزبير بعد أبيه والنبي لم يبعث، فما هو إلا أن سمع بالنبي قد خرج إلى مكة، فعمد إلى ذلك السِّفْر فمحاه، وكتم شأن النبي ، وقال: ليس به. وعن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته، قبل أن يبعث النبي بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، عليَّ بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال: ذلك لقوم أهل شرك، أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحْلَفُ به، يود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ – وأنا أحدثهم سنا – فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسول الله وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى وليس به))( ).
أما الإمام البيهقي فيخصص لهذه المسألة بابا تحت عنوان (صفة رسول الله ) في التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب وصفة أمته يبدأه بقوله: ((قال الله فيما أخبر أنه كلم به موسى صلوات الله عليه: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾[الأعراف: 156، 157]. وقال : ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]))( )، ثم يورد حشدا من الأحاديث النبوية في هذا الشأن.
أما فكرة الاقتباس والمشابهة بين تعاليم محمد والآخرين، فيعتبر الأستاذ العقاد أن الفيصل في دحضها يتلخص في أن نبوة محمد تقوم على هداية العقل والضمير، بينما تقوم نبوءات الآخرين على الغرائب والأعاجيب، يقول: ((وأبعد شيء عن البحث الأمين أن تنعقد المقارنة بين هذه النبوة الإسلامية ونبوءات أخرى تقدمتها، فيزعم الباحث أنها نسخة محرفة منها أو منقولة عنها، فإن الفارق بين نبوءة تقوم حجتها الكبرى على هداية العقل والضمير ونبوءات تقوم حجتها الكبرى على الغرائب والأعاجيب لهو من الفوارق البينة التي لا يمتري فيها باحثان منصفان، ودع عنك الفارق بين نبوءة تدعو إلى رب العالمين ونبوءة تدعو إلى رب سلالة أو رب قبيلة، وربما اعترى الخطأ مقياسًا من مقاييس البحث فتساوت لديه الزيادة والنقص وتعادل أمامه الراجح والمرجوح، فأما أن يرجح النقص على الزيادة فذلك هو الخطأ الذي لا ينجم إلا من زيغ في الطبع أو عناد يتعامى عمدا عن الشمس في رائعة النهار.
والواقع أن النبوة الإسلامية جاءت مصححة متممة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوة كما كانت عقيدة الإسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الإنسان في الإله))( ). فإذا تجاوزنا العموم إلى الخصوص في هذه المناقشة يحسن أن نتوقف هنا عند دعواهم أن محمدا قد تلقى تلقيا مباشرا من بحيرا الراهب، الذي لقيه في طريقه إلى الشام، ومن الحداد الرومي الذي كان يعيش بمكة، ومن ثم فإن ما يتضمنه القرآن ما هو إلا ثمرة هذا التلقي وذاك التعلم.
وفي تفنيد هذه الشبهة يصول الشيخ الزرقاني ويجول، إذ يقول: ((يقولون: إن محمدا لقي بحيرا الراهب، فأخذ عنه وتعلم منه، وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم، وندفع هذا:
أولا: بأنها دعوى مجردة من الدليل، خالية من التحديد والتعيين، ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مُدَلَّلَةٍ، وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرا الراهب؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟.
ثانيًا: إن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه سافر إلى الشام في تجارة مرتين: مرة في طفولته ومرة في شبابه، ولم يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما، ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين، ولم يك أمره سرا هناك، بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب، وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة، التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذٍ، وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس، فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذره عليه من اليهود، وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته، كذلك روى هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف، ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا( )، وليس في شيء من الروايات أنه سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة، لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، فأنى يؤفكون؟!
ثالثًا: أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل – تجعل من المستحيل - أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد ؛ لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها، ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين، وهادي الهداة والمرشدين! وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.
رابعًا: أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز، لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم.
خامسًا: أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف، بحيث يصبح أستاذ العالم كله، لمجرد أنه لقي مصادفة أو اتفاقا راهبا من الرهبان مرتين، على حين أن هذا التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة، وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لابد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية، وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها.
سادسًا: أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا، تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته؛ خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف. وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره، وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره، وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها، وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها، وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها، فارجع إلى ما أسلفناه، ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب، وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور.
سابعًا: أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة، يقولون: إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل؛ فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه، وندعوهم أن يقرأوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفة؛ ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره، وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة، بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة، إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ، ومن ذلك الخبط والخلط، هدانا وهداهم الله فإن الهدى هداه ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النور : 40].
ثامنًا: أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة، لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا؛ لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله r ، وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة، لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة؛ فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا أن يقولوا: إنه تعلم من بحيرا الراهب، كما قال هؤلاء؛ لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه، بل لجأوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إلى شيء من الطرافة والهزل، حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها، فقالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ وأرادوا البشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه، ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه؛ غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم، أحدهما: أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه، والآخر: أنه غريب عنهم وليس منهم، ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم، فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد، وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه؛ لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية، فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية، بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل : 103]))( ).
وإذ يستعرض الشيخ القرضاوي، إجمالا، موقف المستشرقين والمبشرين من إلهية القرآن، يتفهم أن الملاحدة ينكرون نبوة محمد ويصرون على بشرية القرآن، فهذا يتمشى مع فلسفتهم المادية الجاحدة، ولكنه يعجب في الوقت نفسه من موقف المبشرين والمستشرقين المؤمنين بموسى وعيسى - عليهما السلام - وبإلوهية كتابيهما التوراة والإنجيل، مع ما أصابهما من تحريف ظاهر مقارنًا بالقرآن المصون من التحريف والتبديل، يقول فضيلته: ((وللغربيين موقف من القرآن يكاد يكون عامًّا بينهم، وهو: إنكار نسبه الإلهي، واعتباره كتابا بشريا، من صنع محمد وتأليفه، ومنهم من زعم أن محمد اختلق هذا القرآن اختلاقا، وافتراه من عند نفسه، ثم نسبه إلى الله تعالى عمدا وكذبا!، ومنهم من قال: إنه اقتبسه من كتب اليهود والنصارى: التوراة والإنجيل!، ومنهم من قال: إنه لم يختلقه عمدا، بل خيل إليه أنه يوحَى إليه وَيُكَلَّم من الله، وهو في الواقع صادر من داخل نفسه، لا من مصدر خارج عنه، وهو ما يسمونه (الوحي النفسي)، وهو ما رد عليه الشيخ رشيد رضا بكتابه الشهير (الوحي المحمدي) الذي جدد فيه التحدي بالقرآن.
إلى غير ذلك من الدعاوي التي ادعوها على محمد (الصادق الأمين) كما كان قومه يسمونه، قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، فما جربوا عليه كذبا قط، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى، كما قال (هرقل) إمبراطور الروم بعد أن وصلته رسالة محمد يدعوه فيها إلى الإسلام، وجاء بجماعة من قومه ومن خصومه، فسألهم جملة من الأسئلة الدقيقة الذكية، عرف من أجوبتها أن محمدا هو النبي المنتظر الذي بشر به المسيح، وأنه لو كان عنده لغسل عن قدميه، ولكن من حوله لم يوافقوه على اتجاهه، فآثر إرضاءهم، وغلب حب ملكه على الإسلام، المهم أن هرقل سألهم: هل جربتم عليه كذبا؟ قالوا: ما جربنا عليه كذبا. قال: ما كان ليدع الكذب على الناس ثم ليكذب على الله!
وهذه الدعاوي أو التهم التي يرددها المبشرون والمستشرقون اليوم، أشبه بالتهم التي كان يرددها كفار قريش الوثنيون، ورد عليها القرآن في حينها، كما في قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الفرقان 4: 6].
وأحيانا يتحيرون في حقيقة هذا القرآن، وحقيقة من جاء به، وينتقلون من دعوى إلى أخرى في الحال، لا يثبتون على شيء منها، كما قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء : 5]، ثم غلبهم القرآن بحججه وبيناته، فأذعنوا له، وآمنوا به، وتركوا العناد والكبر وتقليد الآباء، واتباع الأهواء، وقالوا: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران : 193]، وغدا أعداء القرآن بالأمس أنصاره اليوم، وأصبح القرآن ربيع قلوبهم، ونور أبصارهم، وقرة أعينهم.
وقد يجد المرء بعض العذر للماديين من الغربيين الذين لا يؤمنون بما وراء الطبيعة المادية المُحَسَّةِ، فهم لا يؤمنون بوحي ولا نبوة، بل لا يؤمنون بإله للكون، ولا بروح للإنسان، فلا عجب أن يجحدوا بكل كتاب أنزل، ويكفروا بكل نبي أرسل، فهم يدخلون تحت قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام : 91]، فهؤلاء منطقيون مع فلسفتهم المادية الجاحدة، إذا أنكروا نبوة محمد وأصروا على بشرية القرآن.
أما الذي لا ينقضي عجب الإنسان من موقفهم، فهم المبشرون والمستشرقون الذين يؤمنون بنبوة موسى وعيسى، ويؤمنون بإلهية التوراة والإنجيل، وأنهما من عند الله، مقدسان مع ما دخل على التوراة من تحريف وتبديل، فقد فقدت التوراة الأصلية حين حرَّقها البابليون في غزوهم لبني إسرائيل، وظلت مفقودة عشرات السنين، ثم جاء (عزرا) فكتبها من حفظه، ومما سمعه ممن حوله، فشابها ما شابها من الأوهام والأغلاط والتحريفات اللفظية والمعنوية.
وقد تَجَسَّدَ هذا فيما نلحظه في أسفار التوراة الحالية: من تشويه لحقيقة (الإله) الخالق، الذي يجب أن يتصف بكل كمال، ويتنزه عن كل نقص، فالتوراة تصفه – كما في سفر التكوين – بالجهل والعجز والندم والحسد ونحوها من صفات البشر المخلوقين الناقصين.
ومثل ذلك: تشويه صورة الرسل والأنبياء، الذين بعثهم الله هداة ومعلمين للناس، وجعلهم أسوة حسنة لهم، يقتبسون من هديهم، كما يتعلمون من كلامهم، فقد نسبت إليهم التوراة من النقائص وسوء السلوك ما لا يصدر إلا من أراذل الناس.
وفي التوراة الحالية: تعاليم غريبة، مثل: محاكمة الحيوان الأعجم وعقوبته، ومثل التفرقة بين الناس بسبب عروقهم وأجناسهم، وتفضيل بعضهم على بعض، بل استعباد بعضهم لبعض، مثل: (شعب كنعان) الذي يجب أن يعيش أبدا معبَّدا لبني إسرائيل!.
هذا في شأن التوراة، أما الإنجيل الذي أنزله الله على المسيح عليه السلام، فلا يعرف ولا يوجد في أي مكان، وإنما الذي وجد: سِيَرٌ كتبها بعده بزمن غير يسير بعض تلاميذه مثل متى، أو تلاميذ تلاميذه، بلغة لا توجد منها نسخة أصلية، إنما توجد ترجمات لها بلغات أخرى، وقد اختير من بين سبعين إنجيلا كانت موجودة أربعة منها: هي التي اعترفت بها الكنيسة، وألغت ما عداها، وفي هذه الأناجيل من الاختلاف والتناقض بين بعضها وبعض، وبينها في أنفسها، ما يعلمه الدارسون والمتخصصون، وألفت فيه الكتب.
فأين هذه التوراة القائمة، وهذا الإنجيل القائم اليوم، من القرآن الحكيم، الذي لا يجرؤ امرؤ على أن يزيد عليه حرفا أو ينتقص منه حرفا؟! وقد تولى الله تعالى حفظه بنفسه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر : 9]، كما سنبيِّن ذلك عما قريب، وأين ما تضمنته التوراة والإنجيل مما تضمنه القرآن من عقائد وعبادات، ومعارف ومفاهيم، وقيم وأخلاق، وتشريعات ومعاملات، وأنباء عن عالم الغيب وعالم الشهادة، ولفت الأنظار إلى آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس؟
لا يستطيع عاقل أن يقارن بين الكتابين السابقين في وضعهما الحالي (التوراة والإنجيل) وبين القرآن، الكتاب الخالد المبين: في التوجهات، وفي الموضوعات، وفي الصياغة والأسلوب، في الشكل والمضمون والتأثير، إلا أن ينشد ما قاله البوصيري قديما في بردته( ):
لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنْكِرُهَا تَجَاهُلًا، وَهْوَ عَيْنُ الحَاذِقِ الفَهِمِ ! قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ !))
وكعادتنا في هذه المناقشات العلمية نختم هذه القضية بشهادة شاهد من أهلها، وهو المستشرق الفرنسي موريس بوكاي الذي عرض مضامين الكتب السماوية الثلاثة على حقائق العلم الحديث، وخلص إلى أن الإشارات العلمية في القرآن تطابق الحقائق العلمية، في حين أن كثيرا جدا مما هو متضمن في التوراة والإنجيل بحالهما الراهنة يتصادم مع هذه الحقائق، مما يشهد للقرآن بإلوهية مصدره، ولمحمد بصدق نبوته.
يقول بوكاي: ((في نهاية هذه الدراسة، يبدو واضحا أن الرأي السائد، المُتَمَسَّك به في بلادنا عن نصوص الكتب المقدسة التي في حوزتنا اليوم، لا يستقيم مع الواقع، ولقد رأينا في أي ظروف وفي أي عصور وبأي طريقة جُمِعَتْ وَنُقِلَتْ كتابة العناصر التي شكلت العهد القديم والأناجيل والقرآن، ولما كانت الظروف التي سادت ميلاد كتابات كل من التنزيلات الثلاثة قد اختلفت اختلافا شاسعا، فقد نجمت عن ذلك نتائج بالغة الأهمية، فيما يتعلق بصحة النصوص وببعض جوانب مضامينها.
إن العهد القديم يتكون من مجموعة من المؤلفات الأدبية، أُنْتِجَتْ على مدى تسعة قرون تقريبا، وهو يشكل مجموعة متنافرة جدا من النصوص عدل البشر من عناصرها عبر السنين، وقد أضيفت أجزاء لأجزاء أخرى كانت موجودة من قبل، بحيث إن التعرف على مصادر هذه النصوص اليوم عسير جدا في بعض الأحيان.
لقد كان هدف الأناجيل هو تعريف البشر، عبر سرد أفعال المسيح وأقواله، بالتعاليم التي أراد أن يتركها لهم عند اكتمال رسالته على الأرض، والسيء هو أن الأناجيل لم تكتب بأقلام شهود معاينين للأمور التي أخبروا بها، إنها ببساطة تعبير المتحدثين باسم الطوائف اليهودية المسيحية المختلفة عما احتفظت به هذه الطوائف من معلومات عن حياة المسيح العامة، وذلك في شكل أقوال متوارثة شفهية أو مكتوبة اختفت اليوم بعد أن احتلت دورا وسطا بين التراث الشفهي والنصوص النهائية.
على ضوء هذا يجب أن ننظر اليوم إلى الكتابات اليهودية – المسيحية، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين فعلينا أن نتخلى عن المفاهيم التفسيرية الكلاسيكية ...
إن التناقضات والأمور غير المعقولة والتعارضات مع معطيات العلم الحديث تتضح تمامًا وظيفيا مع كل ما سبق، ولكن دهشة المسيحيين تعظم حقا عندما يدركون كل هذا، فقد كان الجهد عميقا ومستمرا ذلك الذي قام به كثير من المعلقين الرسميين حتى ذلك الوقت لإخفاء ما يتضح للعين المجردة بفضل الدراسات الحديثة، ذلك الذي أخفاه هؤلاء المعلقون تحت بهلوانيات جدلية حاذقة غارقة في الرومانسية المديحية.
ولقد أعطينا أمثلة تشي بهذه الحالة العقلية، خاصة فيما يتعلق بنسبي المسيح في إنجيلي متى ولوقا المتناقضين والمرفوضين علميا، ولقد جذب إنجيل يوحنا الانتباه بوجه خاص لاختلافاته الهامة جدا عن الأناجيل الثلاثة الأخرى، وخاصة فيما يتعلق بالثغرة التي كانت مجهولة بتأسيس تناول القران المقدس.
إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماما عن تاريخ العهد القديم والأناجيل، فتنزيله يمتد على مدى عشرين عاما تقريبا، وبمجرد نزول جبريل به على النبي كان المؤمنون يحفظونه عن ظهر قلب، بل قد سجل كتابةً حتى في حياة محمد .
إن التجميعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاما وأربعة وعشرين عاما من بعد وفاة النبي قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النص حفظا، بعد أن تعلموه في نفس زمن التنزيل وتلوه دائما فيما بعد، ومعروف أن النص منذ ذلك العصر قد ظل محفوظا بشكل دقيق، إن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة. إن القرآن – وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه – لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل هو يظهر أيضا – لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم – طابعه الخاص وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك – وكما أثبتنا – يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمد قد استطاع أن يؤلفها، وعلى هذا فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.
إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميا وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماما مع المعطيات الحديثة، ولقد رأينا دليلا على هذا من خلال روايتي الخلق والطوفان.
وعلى حين نجد في نص القرآن، بالنسبة لتاريخ خروج موسى، معلومة ثمينة تضاف إلى رواية التوراة، وتجعل مجموع الروايتين يتفق تماما مع معطيات علم الآثار بما يسمح بتحديد عصر موسى، نجـد، فيما يتعلق بموضوعات أخرى، فروقا شديدة الأهمية تدحض كل ما قيل ادعاء – ودون أدنى دليل – عن نقل محمد للتوراة حتى يُعِدّ نص القرآن...
ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيرا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد . لذا فمن المشروع تماما أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحي من الله وأن تعطى له مكانة خاصة جدا؛ حيث إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه، وحيث إن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أي تفسير وضعي، عقيمة حقا المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية))( ).
ثالثاً. الطعن في الصحابة
إذْ لمْ تسلم الذات الإلهية ولا الرسول الكريم من الطعن لدى بروكلمان – كما سبق القول – فمن المتوقع ألا يسلم صحابة النبي من ذلك، من باب أولى، فهم ما وُجِّهوا إلى الفتوحات – حسب زعم المؤلف – إلا بغرض صرفهم عن الفتنة والاقتتال فيما بينهم، كذلك كانت الغنائم الهائلة لهذه الحروب دافعاً اقتصادياً أساسياً دفعهم لخوضها بشراسة، وما حدث بعد وفاة النبي في سقيفة بني ساعدة، حيث اختير الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، ما هو إلا مؤامرة تمت بترتيبٍ بين كبار الصحابة ليتداولوا الأمر فيما بينهم، قاطعين بهذا الطريق على طامعين آخرين فيها، خاصةً من الأنصار الذين ثَقُل عليهم سلطان المهاجرين فحاولوا التخلص منهم، لكن بقايا الشحناء القديمة فيما بين عشائرهم، من الأوس والخزرج، حالت دون اتحادهم في وجه نفوذ المهاجرين.
هذا في العموم، فضلاً عن الخصوص الذي يتمثل – من وجهة نظر المؤلف – في كون كثير من الصحابة ليسوا فوق مستوى الشبهات، فالمغيرة بن شعبة انتهازي متآمر لا ذمة له، وعثمان بن عفان أرستقراطي لين الشخصية مستسلم لسلطان عشيرته وتحكمها في مجريات الحكم، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - شابة محبة للفتنة مثيرة لها، والحسن بن علي وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ضعيفان مترددان طامعان في مال بيت المال.
توكيدًا لما سبق اقرأ معي هذه النصوص المتناثرة في الكتاب، يقول بروكلمان: ((ولم يقدر لمحمد نفسه أن يخوض غمرات القتال من جديد إلا مرة واحدة، وذلك بأن الهزيمة التي أنزلها البيزنطيون بجيوشه في مؤتة ظلت على كل حال بلا ثأر، ومن هنا أمر أصحابه في أشد الصيف قيظًا من سنة 630م بأن يحملوا على البيزنطيين، ولسنا نعرف على اليقين ما الذي دعاه إلى انتهاج هذه السبيل في ذلك الوقت بالذات فقد يكون قصد إلى أن يشغل أتباعه المدنيين الذين كانوا لا يزالون في حال من عدم الارتياح بعد توزيع غنائم "حنين" ولعله كان يرجو إخضاع ما بقي من نصارى العرب، الذين كانت بيزنطة وراءهم، تمدهم وتساندهم))( ).
و((ما كاد الرسول يلحق بالرفيق الأعلى حتى أحدقت الأخطار بالرسالة التي وقف عليها حياته، أعني توحيد بلاد العرب دينيا وسياسيا، ففي المدينة نفسها أحدث النبأ الذي لم يتوقعه أحد اضطرابا هائلا شغل الناس عن كل شيء، حتى عن جثمان الرسول نفسه، فلم يدفن إلا في اليوم التالي في بيت عائشة، والحق أن جميع الأحقاد السياسية التي كان النبي قد كبتها بنفوذه الأدبي لم تلبث أن ذرت قرنها، فمن ناحية كان عدد المنافقين لا يزال في المدينة كبيرا جدا، ومن ناحية ثانية كان الأنصار العريقون في المدينة يتوقون إلى التحرر من سلطان الأغلبية المتمثلة في المهاجرين، ليصبحوا سادة موطنهم الوحيدين، كرة أخرى، ثم إن عليا ابن عم النبي وزوج ابنته ادعى لنفسه الحق في خلافته كرئيس للدولة، بوصفه أقرب الناس رحما إليه، ولكنه كان كسعد بن عبادة سيد الأنصار، الذي طمع في الخلافة أيضا، لا يملك من القوة والنفوذ ما يساعده على تحقيق طلبته، ومن هنا لم يلبث أصحاب محمد السابقون أن وفقوا إلى إقناع الناس بالاعتراف بأبي بكر – والد عائشة زوج النبي، وكان يتمتع مع عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح بنفوذ كبير عند محمد - خليفة له، فلم يعد في وسع الأنصار إلا أن يبايعوا الأمير الجديد))( ).
((والواقع أن أصحاب النبي المكيين المقدمين عنده لسبقهم إلى الإسلام، كانوا كثيرا ما يستشيرونه في شئون الدولة، وكانت خاصتهم تتألف من أبي بكر، وعمر بن الخطاب وكلاهما حمو الرسول، ومن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، ذي المواهب العسكرية الممتازة، فلم يكد محمد يموت حتى استولى هؤلاء على زمام الأمر، وكان عمر بن الخطاب أعظمهم شأنا، والروايات تصور لنا، دائماً، هذا الرجل طويل القامة وهو يحمل سوطاً ينتهر به ابنته حفصة، بل ينتهر سائر أزواج النبي فيخفنه بأكثر مما يخفن محمداً نفسه))( ).
((ومهما يكن من شيء فلم يكن أصحاب النبي من المهاجرين هم وحدهم أصحاب النفوذ في الدولة، بل شاركهم في ذلك نفر من إخوانهم القرشيين الذين لم يسلموا إلا بعد أن أسلم الناس، وبعد أن تحقق لهم أن النصر مكتوب للمسلمين – بلا خلاف - وكان الأنصار ينقمون على القرشيين هذا النفوذ، فقد أظهروا احتجاجهم حتى في حياة النبي على محاباته لبني قومه عند توزيع الغنائم، وبخاصة الأراضي، ولكن المصالح المشتركة التي كانت تحمل الأوس والخزرج على الاتحاد في وجه المكيين لم تكن قد قضت بعد على ما بينهما من عداء قديم، ومن هنا كان في استطاعة محمد أن يهدئ من روع الأنصار مرة بعد مرة، وفي النهاية كاد الأنصار يخسرون مركز الأكثرية في المدينة حتى إذا توفي النبي منيت محاولتهم الأخيرة إلى استعادة الاستقلال بإخفاق ذريع بسبب من حزم عمر وسرعة تقريره))( ).
(( وكان من الطبيعي أن تصبح الغنائم التي وقعت في أيدي العرب هناك والتي تتحدث عنها الروايات حديثا حافلا بالعجائب، حافزا قويا للعرب في الجزيرة لا سيما عندما اضطروا إلى تجهيز النجدات لتحل محل الخسائر التي ألمت بهم في الأرواح))( ).
((ولعل العوامل الاقتصادية قد أدت دورًا كبيرًا في هذا الاجتياح المغولي شأنها من قبل في ما يتصل بخروج العرب من بلادهم لفتح العالم))( ).
((ولكن أحدا – أول الأمر - لم يكن يتوقع أن يعتنق غيرالعرب الإسلام، وعلى هذا الأساس كان الغرض من الحرب المقدسة (الجهاد) إخضاع الأعاجم لسلطان العرب قبل كل شيء))( ).
((وفي سنة 630م استسلمت الطائف أيضا بعد أن شدَّد البدو عليها الخناق، وانتهى أمر بني ثقيف فيها إلى الجوع والاستجداء، وعبثًا حاول رسلهم الذين جاءوا معلنين استسلامهم أن يتلمسوا مهلة قصيرة لإلههم اللات، فقد أبى النبي ذلك عليهم أشد الإباء، ثم إن أحد أفرادهم، المغيرة بن شعبة الذي سبق له أن قصد إلى المدينة والذي سنراه بعدُ انتهازيًّا لا ذمة له ولا ذمام، كلف بتحطيم صنم إله البلدة، ومن ذلك الحين انقضت مقاومة الوثنيين للنبي من الوجهة الروحية))( ).
((وعهد معاوية لولاته على الكوفة والبصرة بمهمة عسيرة تقتضيهم تثبت سلطته بين العراقيين الرافعين أبدا راية الثورة والعصيان، وإنما ولّى على الكوفة المغيرة بن شعبة، وهو رجل انتهازي لا ذمة له ولا ذمام اضطر في شبابه إلى أن يغادر مسقط رأسه الطائف؛ بسبب جريمة قتل حتى إذا كانت سنة 629م وفد على محمد في المدينة، ثم إنه حطم صنم إله البلدة بأمر من الرسول، وأظهر من التقوى ما جعله في جملة الأرستوقراطية الإسلامية الجديدة، ولقد أدى أثناء الحروب ضد الإمبراطورية الساسانية خدمات دبلوماسية عديدة من طريق معرفته باللسان الفارسي من أجل ذلك كافأه عمر بالإمارة على البحرين ليعهد إليه بعد ذلك بعمل أعظم خطرا، أعني الإمارة على البصرة وفي سنة 638م عزل من منصبه بسبب من سوء السيرة الأخلاقية، ولكنه لم يلبث أن لمع من جديد بفضل الحرب الأهلية التي أظهر فيها حكمة وكياسة، فلما ولي أمر الكوفة جعل من همه أن يفسد بدهاء بارع بين الخوارج وأتباع علي الشيعة، وبذلك استطاع أن يشغل الكوفيين عن معارضة الأمويين معارضة فعالة على الرغم من أنهم لم يكونوا يكتمون كراهيتهم لأهل الشام))( ).
((واجتمع للنظر في انتخاب الخليفة الجديد كل من صهري النبي علي وعثمان، وثلاثة من أقرب أصحابه إليه - عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص - أما طلحة الذي كان من المفروض أن يشترك في المؤتمر عضوا سادسا فلم يكن في المدينة آنذاك، ولم يستطع بلوغها في الوقت المناسب، وإنما وقع اختيار هذا المجلس الانتخابي على أقل أعضائه شأنا عثمان بن عفان الأموي، ولعل أصله الأرستقراطي هذا الذي عوضه عن قلة مقدرته الشخصية حتى في عيني النبي، كان له أثره الحاسم في انتخابه، وليس من شك أيضا في أن أعضاء المجلس آثروا اختياره رغبة منهم في أن يروا على رأس المسلمين رجلا يستطيعون توجيهه والتعامل معه، في سهولة ويسر، ولكن الأيام ما لبثت أن خيبت رجاءهم هذا، مع العلم بأن ذلك لم يكن ناشئا عن قوة شخصية الخليفة نفسه - على التحقيق - بقدر ما كان راجعا إلى عشيرته التي استسلم هو نفسه لسلطانها استسلاما مطلقا))( ).
((فلما كانت خلافة عثمان انتهى الأمويون إلى القمة؛ لأن عهده كان في الواقع عهد أسرته وعشيرته، فقد ترك تصريف الشئون لنسيبه مروان في المدينة، وعيّن أقرباءه حكاما على جميع الإمارات الرئيسة، ومن هنا رأى أصحاب النبي القدماء - الذين أثروا ثراء ضخما أثناء الفتوح والذين اقتنوا بالإضافة إلى أملاكهم الأصلية في مكة أملاكا مثلها في الطائف وأراضي واسعة أيضا - أن مكانتهم القديمة توشك أن تضيع على يد هذه الأسرة التي تسعى إلى أن تسيطر على كل شيء، ولقد حاولوا بادئ الأمر أن يحرروا الخليفة من سلطان أسرته فباءت محاولاتهم بالإخفاق، وعندئذ أعلنوه الخصومة شخصيًّا، وما هي إلا فترة قصيرة حتى وجد عثمان نفسه في المدينة وليس حوله إلا نفر من الأصدقاء، وخاصة بعد أن وقفت عائشة أم المؤمنين أرملة النبي الشابة، المحبة للفتنة، في جانب خصومه، كذلك استطاع أعداء الخليفة أن يستثيروا العرب في الولايات فانقلبوا على عثمان))( ).
((وفي مصر لم يتورع عثمان عن خلع عمرو بن العاص فاتح البلاد وتعيين نسيبه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح حاكما مكانه على الرغم من أن النبي أهدر مرة دم هذا الأخير، واشتدت النقمة على عثمان في مصر، وانضم إلى عمرو في إذكائها محمد بن أبي حذيفة، وهو ابن أبي بكر الصديق بالتبني ومن أشياع علي المتحمسين، وفيما كانت إحدى المعارك البحرية الكبرى، تدور على الشاطئ الليقياني بين الأسطول المصري وبين البيزنطيين في عهد الإمبراطور قسطنطين الثاني، انسحب الناقمون من المعركة على ظهر إحدى السفن زاعمين أن الجهاد الحق قد انتهى إلى أن يهمل ويطرح))( ).
((وتجمهر المدنيون حول منزل عثمان ورفضوا أن يتزحزحوا من أماكنهم، ورجع المصريون أيضا، مدعين أنه قد وقعت في أيديهم رسالة من عثمان إلى عامله ابن أبي سرح يأمره فيها بالفتك بالزعماء عقب عودتهم، على الرغم من أن الخليفة أنكر أن تكون له معرفة بالرسالة التي وضعت نصب عينيه، عندئذ طلب إليه الثائرون أن يستقيل ما دام من الممكن أن يجري شيء كهذا من غير علمه، ولكن عثمان رفض في أنفة وكبر أن يحقق هذا الاقتراح الجريء الذي تقدم به الثائرون، فحاصروه في منزله حيث لم يدافع عنه غير نفر قليل من أنسبائه وبعض العبيد والموالي، أما المحرضون الفعليون على الثورة، علي وطلحة والزبير، فآثروا أن يتباعدوا إنقاذا للمظاهر، وأما عائشة الداهية فتركت المدينة تحت ستار الحج إلى مكة لكي لا تشهد الوقائع في ما بعد))( ).
((وكانت أم المؤمنين لا تزال تضمر لعلي عداءها القديم، فما كادت تعلم أنه قبل البيعة حتى دعت المؤمنين إلى الثأر للرجل القتيل))( ).
((كان معاوية قد اتخذ طريقه إلى العراق، مجتازا قبل مقتل علي، وخلف عليا أول الأمر، ابنه الحسن، ولم يكن الحسن هذا رجل الساعة فلم يرتضِ أن يقود جنوده في هجوم على خصمه، والواقع أنه آثر مفاوضة معاوية وتنازل عن حقه في الخلافة على أن يترك له خمسة ملايين درهم كانت في بيت المال بالكوفة، وكان عبد الله بن عباس جد السلالة العباسية التي ارتقت بَعْدُ عرش الخلافة، قد استولى قبل ذلك على ما في بيت مال البصرة وانضم إلى صفوف معاوية))( ).
* مقام الصحابة في تاريخ الأمة
نستهل مناقشة هذه المطاعن في حق صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقول: بأننا نحن – المسلمين – لدينا مُقَدَّسٌ هو الوحي، لكن ليس لنا قديسون من البشر، ولا معصومَ عندنا سوى المعصوم ، وعندنا أيضًا يُعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، ويعني هذا أن الصَّحَابَة الكرام قد نالوا منزلتهم السامية في تاريخ الأمة بعلمهم وجهادهم لا بحسبهم ونسبهم، فهم صفوة خلقه اختارهم لصحبة خير خلقه ، فنحن لا نقدسهم ولا ندعي لهم عصمة، وإنِّمَا نُجِلُّهم ونُقدِّرهم أقدارهم ونُنْزِلْهُم مَنَازِلَهم، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وبالأحرى فإنهم - وإن لم يكونوا قديسين – عدول.
وهذا ما يؤكده العلامة (محمد شفيع) حين قال: ((نود أن نُوَضِّحَ أن هناك اتفاقا على أن الصحابة ليسوا بمعصومين كالأنبياء؛ إذ يمكن أن تصدر عن بعضهم أخطاء، ويمكن أن يقترفوا ذنوبًا، وقد صدرت عن بعضهم بالفعل أخطاء وذنوب أقام عليهم – بسببها – رسول الله الحَدَّ وعاقبهم عليها، وجميع هذه الوقائع واردة في الأحاديث النبوية ولا يمكن إنكارها وقد سبق لنا ضمنًا ذكرها - اذكر ما نقلناه عن ابن تيمية في العقيدة الواسطية، ص441 - إلا أنه - رغم ذلك - فالصحابة الكرام ينمازون عن عامة أفراد الأمة؛ نظرا لعدة أسباب خاصة نوردها فيما يأتي:
1– جعل الله الصحابة الكرام تقاة ورعين؛ وذلك نتيجة صحبتهم للنبي الكريم، حتى أصبحت الشريعة جزءًا من طبيعتهم، فكان صدور أي عمل أو ذنب مخالف للشرع أمرًا نادرًا جدا، فلا نجد لهم نظيرًا في الأمم السابقة بما كانوا عليه من صلاح أعمالهم، واقتداء بالنبي الكريم، وفداء له وتضحية في سبيل دين الإسلام بالروح والمال والولد، قد جعلوا حياتهم تمضي تبعاً لما يرضي الله تعالى ورسوله الكريم، وذلك في كل ما يصدر عنهم من أعمال، وفي مقابل أعمالهم الصالحة التي لا حصر لها، والفضائل التي لا حدود لها التي صدرت عنهم، فإذا ما حدث وصدر عن بعضهم خطأ ما أو ذلة ما أو هفوة ما في حياتهم، فإن ذلك الخطأ أو تلك الذلة أو الهفوة تكون كأن لم تكن.
2– إن محبة الصحابة لله ولرسوله وخشيتهم الله، وتوبتهم الفورية إذا ما صدر عنهم أيُّ خطأ، بل تقديمهم لأنفسهم ليعاقبوا من جراء ما صدر عنهم من ذنب، والإصرار على ذلك، أمورٌ كلُّها معروفة ومشهورة وردت في الروايات والأحاديث، والتوبة بحكم الحديث تمحو الذنوب تلقائيًّا، وإذا كان الأمر كذلك فلا ذنب عليهم.
3– طبقًا للإرشاد القراني، فالحسنات تمحو السيئات، يقول تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ))[هود : 114].
4– إنَّ ما قاموا به من كفاح من أجل إقامة الدين ونصرة الإسلام، واستمرارهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الأوقات، وأشد المحن وأوجع الظروف أمرٌ لا نجد له مثيلاً بين أمم العالم الأخرى.
5– إن كون هؤلاء الصحابة الكرام الواسطة والرابطة بين رسول الله والأمة جعلهم ينالون تربية أخلاقية من عند الله على يد رسول الله ، فجاءت حركاتهم وسكناتهم تمضي تبعًا لتعاليم الدين الحنيف؛ وذلك ببركة صحبتهم للنبي .
لقد كان هؤلاء الصحابة هم الواسطة بين الرسول والأمة فقد وصل القران والحديث ووصلت بقية تعاليم الدين الحنيف إلى أجيال الأمة المسلمة عن طريقهم، ووجود قصور في داخلهم لم يكن ليوجد أية إمكانية لنشر الدين في ربوع الدنيا حتى يوم القيامة، ولو صدر عنهم طوال حياتهم خطأ جاء عفوا وبصورة نادرة فكانت كفارته فورا التوبة والاستغفار والمضي في أمور الدين باستحكام أكثر وبجهد أعظم، وهذا ما بلغنا عنهم، وعرف عنهم، واشتهروا به.
6– لقد اختارهم الله ليكونوا صحابة نبيه الكريم وجعلهم واسطة ورابطة للدين، فشرفهم بأن غفر ذنوبهم وعفا عنهم، ورضى عنهم ورضوا عنه ووعدهم الجنة كما ورد في قرآنه الكريم.
7– لقد أوضح النبي الكريم للأمة أن محبة الصحابة وتعظيمهم علامة من علامات الإيمان، كما أن إهانتهم والحط من شأنهم خطر على الإيمان، وسبب لإيذاء الرسول .
كانت هذه الأسباب التي قامت على أساسها عقيدة الأمة فيما يتعلق بالصحابة، فرغم صدور أخطاء نادرة عنهم لأنهم غير معصومين، فإنه يجب ألا نعيبهم، ويجب أن ننتبه فلا نوجه إليهم ما من شأنه أن يسيء إليهم أو ينقص من شأنهم))( ).
ولكن للمغالطين من المستشرقين مناهجهم ومآربهم وإسقاطاتهم من تواريخ أممهم على تاريخ أمتنا، ومن ثم آراؤهم التي يميلون فيها كثيرَاً عن الحق وينحرفون عن جادة الصواب. وفي هذا يقول د. محمد أمحزون: ((إن المستشرقين في كثير من الأحيان يحكمون على الإسلام والتاريخ الإسلامي معتمدين على قيمهم ومقاييسهم الثقافية الخاصة، بدلاً من الاعتماد على المصادر التاريخية، وأعراف المجتمع الإسلامي ومبادئه.
ولا شك في أن مصدر الخطأ في منهجهم هو التدخل بالتفسير الخطأ للأحداث التاريخية، وفق مقتضيات عصرهم وأحواله الذي يعيشون فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها. وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لديهم، يمكن القول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الطريق هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في نظر هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة من النوع الذي شهدته الحكومات الأوروبية في العصور المتأخرة.
فمثلاً عندما يعرض المستشرق الفرنسي ((لامنس)) لحادثة سقيفة بني ساعدة، وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية – حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية( ) – فإن صور المؤامرات في البلاط الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوِّه رؤيته لأحداث السقيفة، حين يزعم أن الصراع على الخلافة بين المهاجرين والأنصار قد بلغ غايته بعد وفاة الرسول وأن أبا بكر وعمر تآمرا على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها لغير صالح علي))( ).
هذا إجمالا، ولنتوقف الآن عند اتهامات محددة تضمنتها نصوص بروكلمان السابقة. ومنها:
* الجهاد كان إشغالًا للصحابة عن الفتنة ورغبةً في جمع الغنائم
لعله من نافلة القول أن نذكر هنا أن حركة الفتح الإسلامي، خصوصا في موجتها الأولى في عصر الرسالة والخلافة الراشدة، كانت – بالأساس – حركة تحريرية ابتغت تحرير الشعوب المستعمرة في بلاد العراق والشام ومصر وشمالي أفريقيا من أغلال الغزاة المحتلين والطواغيت المستكبرين من أكاسرة الفرس وقياصرة الروم، فأخرجتهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. كما كانت أيضا حركة أخلاقية التزمت – قدر طاقة البشر – بتعاليم إنسانية سامية في ميدان الحرب حيال الأسرى العسكريين والمدنيين المسالمين الأطفال والنساء والعجزة وما شابه ذلك.
وهكذا اندفع الفاتحون يبشرون برسالة سامية وسيلتها – على الأصل – البلاغ سلما، فمن أَبَى وَسَالَمَ فهو وشأنه فـ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: ٢٥٦]، أما من طغى واستكبر ووقف حاجزا أمام مجرى نهر الدعوة الهادية فله السيف وسيلة لا غاية، واستثناء لا قاعدة. ورغم الحاجة للسيف فقد ارتفع - حين ارتفع - راشدا يجري عمليات جراحية تستأصل الداء فتصح بقية الجسم، لا غاشما يشن غارات تدميرية.
أما عن كون الدافع لهذه الفتوحات استلاب الأموال وجمع الغنائم – كما زُعِمَ – فإن العرب – وهم حملة لواء الإسلام في صدر تاريخه – كانوا فقراء بسطاء، يسكنون الجزيرة القفراء، طوال تاريخهم – في الغالب – فَلِمَ لمْ يتقدم غزوهم للبلاد العظيمة قبل هذا التاريخ؟ ولِمَ لم يتأخر عنه؟ إن كان الغرض ماديًّا صرفًا!! أم أن باعثا محوريا جديدا دفعهم في هذا التوقيت خارج جزيرتهم لإبلاغ دعوتهم بالأساس؟!
وزيادة في حرصهم على شرف الوسيلة المناسب لنبل الغاية فإنهم دققوا في اختيار العناصر المجاهدة، حتى إن الصديق أوصى مثلا قادة الجند ألا يستعينوا بمسلم سبقت ردته في فتوحاتهم، بينما سمح الفاروق للتائبين من المرتدين أن يشاركوا كأفراد لا كقادة مهما علا قدرهم في أقوامهم.
وحول دوافع الفتح الحقيقية، يقول د. أحمد كامل: ((إن الباعث الديني هو الباعث الأول والأساسي في الفتوحات الإسلامية، فقوة العقيدة في نفوس المسلمين دفعتهم إلى الخروج من الجزيرة العربية لرفع راية التوحيد وتبليغ الدعوة الإسلامية في أوسع نطاق ممكن، قياما بواجب الدين عليهم، فالإسلام رسالة عالمية، والله تعالى يقول: چ ک ک گ گ گ گ چ (الأنبياء)، ويقول: چ ڻ ڻ ۀ ۀ ہ ہ ہ ہ چ( الأعراف: ١٥٨)، والرسول قال لعشيرته: "والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة"، وقد أرسل رسول الله إلى الملوك والرؤساء خارج الجزيرة يدعوهم إلى الإسلام تحقيق لعالمية الرسالة، وكان على المسلمين أن يواصلوا ما بدأه الرسول من الدعوة إلى الإسلام خارج الجزيرة، وأن يزيلوا العقبات التي تقف في طريق هذه الدعوة.
ولما كان الفرس والروم وأعوانهم قد رفضوا الدخول في الدين الإسلامي، وأخذوا يتحرشون بالدولة الإسلامية الناشئة ودعوتها، كان على المسلمين أن يخرجوا لمحاربتهم يشجعهم على ذلك أن رسول الله بشرهم بأن الله تعالى سيفتح لهم البلدان.
وكان للعوامل السياسية أثر كبير في دفع المسلمين إلى الفتوحات، فالعرب في الجزيرة العربية كانوا نشطين وكانوا يفرغون طاقاتهم الحربية في حروبهم القبلية، فرأت القيادة الإسلامية بعد القضاء على حركة الردة، وتوحيد الجزيرة العربية ومنع الحروب القبلية في ظل الإسلام – رأت القيادة الإسلامية أنه لابد من توجيه طاقة العرب الحربية إلى مجال مفيد، حتى لا تنفجر ضد بعضها بعضًا، فوجهتهم إلى الفتوحات خارج الجزيرة العربية.
وكانت هناك رغبة لدى القيادة العربية الإسلامية في تحرير الشعوب العربية الخاضعة للفرس في بادية العراق والشعوب العربية الخاضعة للروم في بادية الشام وضم هذه الشعوب إلى الوحدة العربية الإسلامية.
وكان الفرس والروم يتحرشون بالدولة الإسلامية الناشئة منذ أيام الرسول وازداد هذا التحرش بعد وفاة الرسول ونجاح المسلمين في القضاء على حركة الردة، وكان لابد أن يقوم المسلمون بهجوم وقائي قبل أن يتعرضوا للهجوم من قبل الفرس أو الروم. ولم يكن النظام الإسلامي يرضى بأنظمة الحكم الفاسدة في بلاد الفرس والروم، فكان لابد أن يتحرك هذا النظام لإسقاط تلك الأنظمة وتحرير الشعوب الخاضعة تحت نفوذها من القهر والذل والاستعباد.
ويذهب البعض إلى أن الباعث على الفتوحات الإسلامية سبب اقتصادي، فيقول توماس أرنولد مثلا: "إن العرب شعب نشيط فعال دفعته يد الجوع والحاجة إلى ترك صحاريه القاحلة، واجتياح الأراضي الغنية للشعوب المجاورة"، ويقول فيليب حتي: "إن الحاجة المادية هي التي دفعت بمعاشر البدو وأكثر جيوش المسلمين منهم إلى ما وراء تخوم البادية القفراء إلى مواطن الخصب في بلدان الشمال"، وهناك من يعتبر السبب الاقتصادي سببا رئيسًا من أسباب الفتوحات.
وقد استند هؤلاء إلى بعض النصوص التي وردت عند المسلمين مثل ما ورد من أن أبا بكر بعد الفراغ من أمر الردة كتب إلى المسلمين في نواحي بلاد العرب "يدعوهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس بين محتسب وطامع تلبية دعوته، وتوافدوا إلى المدينة من كل حدب وصوب"، وواضح أن أبا بكر يحرض الناس على الخروج في سبيل الله، فإما النصر والغنيمة وإما الشهادة فالأساس هو الجهاد والغنائم نتيجة.
فالعامل الاقتصادي ليس عاملا أساسيا في حركة الفتوح، فليس هناك ما يدل على أن حركة الفتح كان سببها الجفاف أو الجوع، وقد عرض الفرس والروم على المسلمين الأموال والعطايا في مقابل العودة إلى الجزيرة، فرفض المسلمون ذلك في شدة.
ويحاول البعض أن يفسر حركة الفتوح الإسلامية بأنها هجرة من المناطق الصحراوية القاحلة في الجزيرة العربية إلى مناطق الخصب في بادية الشام أو بادية العراق، وخصوصًا أنه سبق أن خرجت هجرات من داخل الجزيرة نحو المناطق الخصبة المحيطة بها قبل ظهور الإسلام، وهذا التفسير خطأ كبير؛ لأن خروج المسلمين من الجزيرة العربية كان له أهدافٌ دينية وسياسية قوية، ولم يقنع بالتوقف عند بادية العراق وإنما تجاوز ذلك بكثير))( ).
يؤكد ما سبق المستشرق غوستاف لوبون، بقوله: ((لم تقل براعة الخلفاء الأولين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عجل، وذلك أنهم اتصلوا منذ الوقائع الأولى بسكان البلاد المجاورة الأصليين الذين كان يبغي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة، والذين كانوا مستعدين لأن يستقبلوا بترحاب وحبور أي فاتح يخفف وطأة الحياة عنهم، وكانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها، مكتفين بأخذهم - في مقابل حمايتها - جزية زهيدة تقل كثيرا عما كانت تدفعه إلى سادتها السابقين من الضرائب.
وكان العرب، قبل أن يسعوا إلى فتح بلد، يرسلون رسلا حاملين إليه شروطا للوفاق، وتكاد هذه الشروط تكون مماثلة للشروط التي عرضها عمرو بن العاص على أهالي غزة حين حصاره لها في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وللشروط التي عرضت على المصريين وأهل فارس، وتلك الشروط التي عرضها عمرو بن العاص هي، كما رواه المؤرخ العربي "المكين" ما يأتي:
"أمرنا صاحبنا أن نقاتلكم إلى أن تكونوا في ديننا فتكونوا إخوتنا ويلزمكم ما يلزمنا فلا نتعرَّض إليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم إن تعرض إليكم في وجه من الوجوه ويكون لكم عهد علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف فنقاتلكم حتى تفيئوا إلى أمر الله".
ويثْبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يعامل به العرب الفاتحون الأمم المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامة، فلم يُرِدْ عمر أن يدخل مدينة القدس معه غير قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدا باحترام كنائسهم وأموالهم وبتحريم العبادة على المسلمين في بيعهم.
ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقًا من ذلك فقد عرض على المصريين حرية دينية تامة وعدلا مطلقا واحتراما للأموال وجزية سنوية ثابتة لا تزيد على خمسة عشر فرنكا عن كل رأس بدلا من ضرائب قياصرة الروم الباهظة، فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط دافعين للجزية سلفا، وقد بالغ العرب في الوقوف عند حدِّ هذه الشروط والتقيد بها، فأحبهم المصريون الذين ذاقوا الأمرِّين من ظلم عمال قياصرة القسطنطينية النصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أيَّما إقبال.
ونتائج مثل هذه لا تنال بالقوة كما قلت غير مرة، ولم يظفر بمثلها من ملك مصر من الفاتحين قبل العرب.
وللفتوح العربية طابع خاص لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيان ذلك أن البرابرة الذين استولوا على العالم الروماني والترك وغيرهم، وإن استطاعوا أن يقيموا دولا عظيمة، لم يؤسسوا حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها، كالعرب الذين تمكنوا من اجتذاب أمم كثيرة إلى دينهم ولغتهم فضلا عن حضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة كشعوب مصر والهنود، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك الدور أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب فظل نفوذ العرب فيها ثابتا، ويلوح لنا رسوخ هذا النفوذ إلى الأبد في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند، والإسبان وحدهم هم الذين استطاعوا أن يتخلصوا من الحضارة العربية، ولكنهم لم يصنعوا هذا إلا ليقعوا في الانحطاط العضال كما يأتي بيانه))( ).
* بيعة الصديق مؤامرة مدبرة:
((توفي رسول الله ولم يوصِ ولم يُعَيِّن من يخلفه في حكم أمته – وذلك عند جمهور الأمة عدا الشيعة القائلين بالوصية - ولم يبين الطريقة التي ينتقل بها الحكم، فقط وَضَّحَ القواعد العامة، وبيَّن المثل الأخلاقية التي تحكم اختيار الحاكم وتقومه وترشده، ولعل الحكمة في ذلك عدم تقييد الجماعة بقوانين جامدة، قد تثبت الأيام أنها لا تتفق مع التطورات التي تحدث، ولا تلائم الظروف والأحوال، وهو اعتراف بالرأي العام للجماعة.
وقد أدرك الصحابة ووعوا أن الخلافة موضوعة لخلافة النبوة وحراسة الدين والدنيا؛ لذا تحركوا سريعًا نحو تنصيب خليفة للمسلمين - حتى وإن كان رسولهم لم يدفن بعد - وذلك تنفيذًا لسنته ، وحرصا منهم على ألا ينفرط عقد المسلمين في هذه الظروف الحالكة. فكان مؤتمر السقيفة الذي يعد من أهم المؤتمرات السياسية وأخطرها في تاريخ الإسلام، وحين بلغ نبؤه أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – وبعض المهاجرين أسرعوا إلى حضوره، وغاب عنهم بعض كبار الصحابة، وتبارى في هذا المؤتمر المهاجرون والأنصار في إثبات أحقية كل منهما بالخلافة، فالمهاجرون أول من عَبَدَ الله في الأرض، وهم أولياء الرسول وعشيرته، وقال النبي عنهم: الأئمة من قريش...إلخ، والأنصار هم الذين دافعوا عن الإسلام وحموه بأنفسهم وأموالهم ونصروا الرسول ...إلخ، ثم حاول أحدهم اقتسام السيادة أو تعداد الإمارة، ولكنهم في النهاية أقروا مبدأً خطيرًا هو: أن اختيار رئيس الجماعة أو الدولة يكون بالبيعة؛ أي: بالانتخاب، ثم استقر الرأي على انتخاب أبي بكر؛ لما كان يتمتع به بين الصحابة من مكانة عالية يقر له بها الجميع، فهو أسبقهم إلى الإسلام، وأحسنهم بلاءً في سبيله، وأكثرهم صحبة للرسول ، وهو صِدِّيق هذه الأمة، وثاني اثنين في الشجاعة والرجولة، وإخلاصه ورسوخ إيمانه، وصفاته العقلية والخلقية النادرة التي جعلت من شخصيته المثل الكامل للمسلم، وهو من الدين ملء السمع والبصر، وهو إمام المسلمين في الصلاة وقت مرض المصطفى .
فأما الزعم بأن مبايعة أبي بكر بالخلافة كانت نتيجة اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على الاستئثار بالأمر، فهو زعم غير مقبول؛ ذلك أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة لم يعقدوا مؤتمر السقيفة ولا أعدوا له، وإنما عقده الأنصار، ووصلت أخباره إلى بعض المهاجرين، فأسرع أبو بكر وعمر، وقابلا في الطريق أبا عبيدة فاصطحباه معهما إلى هناك، دون اتفاق على ما يقال لإخوانهم الأنصار، ودون اتفاق على من يبدأ الحديث، ولما أراد عمر أن يتكلم – وكان قد هيَّأ كلاما ليقوله – أسكته أبو بكر .
لقد قبل أبو بكر الخلافة في السقيفة آخر الأمر؛ حسما للنزاع وللخروج بنتيجة واضحة وتحملا للمسئولية، وقد قال في خطبته بعد اختياره للخلافة: "وأيم الله، ما حرصت عليها ليلا ولا نهارا، ولا سألتها قط في سر ولا علانية.
وأما ترشيح الصديق أبو بكر عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنهما – للخلافة من بعده، فلم يكن جانبا من جوانب تنفيذ المؤامرة المزعومة، وإنما اجتهد واختار، وعرض الأمر على كبار الصحابة، واستقصى الجهد في الشورى، حتى اطمأن إلى ارتياح الناس له، فكان ما أراد. وأما قول الفاروق عمر قبل وفاته حين سئل أن يستخلف أحدا بعده: "لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته"، فقد بيَّن العلة في ذلك؛ إذ قال: فإن سألني ربي، قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة))( ).
ومما سبق يتبين أن هذه الدعوى ما هي إلا خلط وتشويش للحقائق، وقلب لترتيب الحوادث، وتشويه للتاريخ.
أما حديثه عن شخصيات بأعينهم من كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - فيمكن تفنيده على النحو الآتي:
- المغيرة بن شعبة :
((كان من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة، وممن شهد بيعة الرضوان، وقد ذهبت عينه في سبيل الله يوم اليرموك، وروى عن رسول الله أحاديث عديدة؛ إذ كان يلزم رسول الله فيمن يلزمه، وعن الفتنة الكبرى ومشاركة الناس فيها، قال الليث عنه: وكان المغيرة قد اعتزل، فلما صار الأمر إلى معاوية كاتبه المغيرة))( ).
((ولقد اختاره النبي كاتبًا من بين كتبة الوحي المعتمدين لديه، كما اختاره ليكون شاهدًا على كتاب كَتَبَه ، وأرسله إلى جماعة من أهل نجران يدعوهم فيه للتقيد بتعاليم الإسلام.
اشتهر قبل إسلامه بحنكته وحسن تدبيره في تعامله مع الآخرين، فكان واحدا من كبار دهاة العرب، قال عن نفسه: "أول ما عرفه العرب مني كان الحزم والدهاء"، وتطرق أحد معاصريه إلى دهائه، فقال: "وصحبْتُ المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها"))( ).
أما تآمره المزعوم ((فإنه كان قد أعلن إسلامه حين وفد على النبي عام الخندق 5هـ، ولما سُئل عن أصحابه من بني مالك الذين كانوا معه بمصر، أخبر أنه قتلهم وجاء بأسلابهم إلى الرسول ليعطيه رأيه فيها ظنًّا منه أنها غنيمة جائزة للمسلمين، لكن النبي قَبِلَ إسلامه ورفض الأموال التي حملها؛ لأنها أخذت غدرا، والأموال لا تحل إلا بالمحاربة والمغالبة، وبهذا تعلَّم المغيرة أولَ درس من دروس الإسلام ساعة إسلامه مباشرة، وقد أخلص للإسلام، فقد كان يعظِّم النبي ويجله، ومن دلائل ذلك أداؤه مهمة حراسة الرسول يوم الحديبية، وهدمه اللات صنم ثقيف المعظم بعد دخول المسلمين الطائف))( ).
ولقد كان مستشارا أمينا للخليفتين الصديق والفاروق، ((وهو أول من أطلق تسمية "أمير المؤمنين" على الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب وكان موضع ثقة وتقدير لهما، أما الخليفتان عثمان وعلي فإنه كان ناصحا لهما، مبعدا عن الولاية والإمارة في عصريهما، واعتزل الفتنة الحاصلة آنئذٍ، ثم كان له دور مهم في إطفاء نار الفتنة بين الحسن بن علي ومعاوية – رضي الله عنهما؛ ذلك أنه حمل الحسن على "الموادعة والمهادنة"، وكذلك بين الخوارج وشيعة علي بن أبي طالب ؛ عندما تولى إدارة شئون الكوفة في عهد معاوية ، بفضل حنكته ودهائه وحسن تصرفه في الأمور))( ).
يقول الطبري في تناوله لأحداث سنة 42هـ، واصفا سلوك المغيرة مع أهل العراق، عقب توليه الكوفة: فأحب العافية، وأحسن في الناس سيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتى فيقال له: إن فلانا يرى رأي الشيعة، وفلانا يرى رأي الخوارج، فكان يقول: قضى الله ألا يزالوا مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون".
- عثمان بن عفان :
كان من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد العشرة الأوائل الذين دخلوا الإسلام، ((وقد امتاز بصفتين مهمتين، أولاهما: الحياء، فما كان يعرف إنسان أشد حياء منه، وإن الملائكة كانت لتستحيي منه – كما ذكر رسولنا ، والثانية: هي الكرم؛ إذ كان جوادا لا يوجد من يعادله في البذل والسخاء، ومما يذكر له في هذا السياق تجهيزه تسعمائة وخمسين بعيرا، وخمسين فرسا يوم تبوك، ومجيئُه بألف دينار في ثوبه، فصبها في حجر النبي، حتى إن النبي قال: "ما على عثمان ما فعل بعد اليوم"، وهو الذي اشترى بئر رومة، وجعلها للمسلمين، وهو أول من وسع المسجد النبوي؛ استجابة لرغبة رسول الله حين ضاق المسجد بأهله... إلخ))( ). لقد كان في عهد أبي بكر الكاتب الأول له، وثاني اثنين في تسيير شئون الدولة بعد الفاروق عمر بن الخطاب ، وهو الذي كتب لأبي بكر كتاب استخلاف عمر بيده، وفي عهد عمر كان الرجل الثاني في الدولة، وكان لينه مع شدة عمر تعادل شدة عمر مع لين أبي بكر، حتى إن الناس إذا أرادوا أن يسألوا عمر شيئا لاذوا بعثمان، يقول الشيخ محمود شاكر – رحمه الله: ((أما عثمان فقد كان لينا للناس، وقد تغير المجتمع في عهده، إلا أنه لم يغير ولم يبدل، ولم يحدث جديدا، ولم يبتعد عن سيرة رسول الله ، ولا عن نهج الشيخين من قبله، وإنما لينه وحبه لأقربائه وكرمه في العطاء قد أطمع فيه فكثر القول، ووجود الموالي والأرقاء في المدينة والصحابة خارجها قد شجع أصحاب الأهواء البدء في العمل بالخفاء، وكثرة الأموال في أيدي الناس واكتفاؤهم قد جعل الألسنة تتكلم، وبدأ الحديث عن الخليفة نقطة انطلاق، والتهديم في المجتمع بدء ارتكاز))( ).
وفي هذا أيضا يقول العقاد معارضًا لما يردده بعض المؤرخين عن ضعف سيدنا عثمان : ((فهذه شخصية سمحة تساندت فيها مناقب السماحة وأوشكت أن تستوي فيها على مثال منقطع النظير فيمن عرفناهم من الأعلام بين الجاهلية والإسلام: كرم وحياء ودعة ورفق وأريحية ومروءة تعين على المروءات... فالقول بضعف عثمان صعب على من يعلم أن السماحة نفسها قوة لا يضطلع بها ضعيف))( ).
والمتتبع لسيرته يجدها مليئة بالمواقف التي تدل على شجاعة في الحق، وقوة بأس، وبطولة وتضحية وتسامح هو أشد من القسوة، وعفو هو أعظم من القهر والغلبة( ). أما استسلامه لسلطان عشيرته، فيقول الدكتور عبد الله جمال الدين: ((إن عثمان لم يكن مستسلمًا لسلطان عشيرته وتحكمها في مجريات الحكم، فقد رأى رسولُ الله قبله في بني أمية حصافة في سياسة الناس، فجعلهم حكاما على كثير من البلاد الإسلامية، قال عمر بن عبد العزيز: توفي رسول الله وأربعة من بني أمية عماله: عتاب بن أسيد على مكة، وأبان بن سعيد على البحرين، وخالد بن سعيد على صنعاء، وأبو سفيان بن حرب على نجران، وظل كثير من بني أمية أمراء على البلاد في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما، فكيف يلام عثمان على تولية من ولاه من قبل عمر، ومن تولى لأبي بكر، ومن تولى بعض عمل رسول الله ؟!!... ومن هنا نؤكد أن بني أمية استعملهم رسول الله في حياته، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله أكثر من بني عبد شمس... ولهذا صح لعثمان قوله : أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده...إلخ))( ).
- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
((زوج رسول الله وأَحَبُّ أزواجه إليه، برَّأها الله من فوق سبع سماوات، عندما تكلم أهل الإفك فيها بالزور والبهتان، وقد مات رسول الله في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها ودفن في بيتها، وهي أعلم النساء على الإطلاق، قال الزهري عنها: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، وهي أفقه الناس وأعلمهم وأحسنهم رأيًا في العامة، يقول عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة... إلخ، حتى إنها تفردت بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها))( ).
إن الطعن في السيدة عائشة إنما هو طعن في الإسلام، وتشويه لمعالم هذا الدين، فهو طعن بنبينا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ((أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ، قال: سمعت رسول الله يقول: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، وهي التي نزل فيها قرآن يتلى إلى يوم الدين، ذلك عندما حدثت حادثة الإفك، ولَمَّا نزلت براءتها قال لها أبوها: قومي إلى رسول الله ، فقالت: "والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله"، وهذا يدل على قوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها، وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتواضعها وإنكار ذاتها، وكذلك ذكاؤها وحسن تقديرها للأمور))( ).
ويكفي هذا ردا على تلك المطاعن المزعومة السابق ذكرها بحقها رضي الله عنها.
- الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
أما الحسن بن علي ، فإنه ((سبط رسول الله ، وأشبه خلق الله به في وجهه، دعا له النبي فقال: "اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه"، وروي عنه أيضا قوله: "من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي"، وروى أحمد عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله قال عنه: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
وقد كان الصديق يُجِلُّه ويعظِّمه ويكرمه ويحبه، وكذلك عمر بن الخطاب ، حتى إنه فرض له ولأخيه الحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، ومثله عثمان بن عفان ، وقد كان الحسن يوم الدار – وعثمان بن عفان محصور فيه – عنده ومعه السيف، متقلدا به، يجاحف عنه، فخشي عليه عثمان، فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي ، وخوفا عليهم .
لما قتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه وأحبوه أشد من حبهم لأبيه، ثم سار في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام فالتقوا، فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن يجعل العهد له من بعده، وعقب تنازله قام فاختطب – وقيل: طلب منه معاوية ذلك – فقال في خطبته: "... أيها الناس لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا معاوية، ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين"، وكان أصحابه يقولون له: يا عار المؤمنين؛ لتنازله عن الخلافة. فيقول لهم: العار خير من النار.
لقد كان نزوله عن الخلافة ورعًا منه وصيانة لدماء المسلمين، ولما انقطع سنةً عن الذهاب لمعاوية – لأخذ عطيته السنوية التي وعده إياها – وجاء وقت الجائزة، فاحتاج الحسن إليها – وكان من أكرم الناس وأجودهم لعطاء الناس – فأراد أن يكتب إلى معاوية،؛ ليبعث بها إليه، فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله في المنام، فقال له: يا بني أتكتب إلى مخلوق بحاجتك؟ وعلمه دعاء يدعو به، فترك الحسن ما كان همَّ به من الكتابة، فذكره معاوية وافتقده، وقال: ابعثوا إليه بمائتي ألف، فلعل ضرورة في تركه القدوم علينا، فحملت إليه من غير سؤال))( ).
وعن تنازله عن الخلافة، وتحقيق قول الرسول الكريم عنه أنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين يقول عثمان الخميسي: ((وبعد أن بايعه أهل الكوفة خرج إلى الشام وفي نيته الصلح، وكان لا يحب القتال؛ اتقاء إهراق الدماء، وكان من علامات إرادته للصلح أنه عزل قيس بن سعد بن عبادة عن القيادة وجعلها بيد عبد الله بن عباس، وما صلحهما بضعف أو طمع في المال، وإنما لوحدة المسلمين، وصيانة لدمائهم، والتفرغ للفتوحات الإسلامية، ودحض الأعداء والمناوئين للفتنة))( ).
وأما عبد الله بن عباس فهو ابن عم رسول الله ، ((وحبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، صحب النبي نحوا من ثلاثين شهرا، وحدَّث عنه، وقد دعا له النبي ، فقال : "اللهم علمه تأويل القرآن"، وفي رواية أخرى: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"... وقد كان الفاروق عمر يدنيه منه ويقربه لمنزلته ومكانته، وقال عنه يوما عندما قال المهاجرون له: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ فقال لهم: ذاكم فتى الكهول، إن له لسانا سئولا، وقلبا عقولا.
لما أراد أمير المؤمنين علي أن يوليه الشام، قال له: ما هذا برأي، ولكن اكتب إلى معاوية فَمَنِّهِ وَعِدْه. لكن عليا قال: لا كان هذا أبدا. وفي واقعة التحكيم أشار على أمير المؤمنين علي ألا يُحَكِّم أبا موسى؛ لأن معه رجلا حذرا مرسا قارحا من الرجال، وقال فيما قال: فَلُزَّنِي إلى جنبه، فإنه لا يحل عقدة إلا عقدتها، ولا يعقد عقدة إلا حللتها، لكن أصحاب علي غلبوه على رأيه، ولولا إصرارهم ألا يكون في التحكيم مضريان لوافق علي، وبذلك كانت المشكلة قد حلت من رأسها، وقد سأله معاوية زمن الفتنة بينه وبين علي : أنت على ملة علي؟! فرد عليه قائلا: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله .
فمن كانت هذه صفاته ومواقفه، أيمكن أن يكون طامعا في بيت مال المسلمين؟! وهو الذي فرَّغ بيته لأبي أيوب الأنصاري عندما أتاه شاكيا ديْنًا، طالبا عشرين ألفا، فأعطاه أربعين ألفا وعشرين مملوكا وكل ما في البيت))( ).
رابعًا: دعوى التمدين الاستعماري
نحا المؤلف أحيانًا نحو كثير من أقرانه المستشرقين في زعمهم أن موجة الاستعمار الغربي الحديث للعالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين إنما استهدفت تمدين هذا العالم وترقية أحوال شعوبه، وذلك على تنويعات منها:
• دعوى استهداف رفع مستوى معيشة المصريين:
فقد أورد في كتابه أن الاحتلال إنما كان يهدف إلى تمدين الدول المستعمرة والنهوض بها، في حين أن الواقع الأليم يشهد بغير ذلك، فهو يقول: ((وليس يحق لنا، دون شك، أن نعد من باب الرياء السياسي تلك التوكيدات التي أكثر الساسة البريطانيون من ترديدها والتي تنص على أنهم لا يهدفون إلى المحافظة على مصالح الإمبراطورية في تلك البلاد فحسب، بل إلى رفع مستوى المصريين من الوجهتين المادية والفكرية أيضًا. فالحق أن مصر، على ما اعترف بعض الوطنيين المصريين الحصفاء، مدينة للإدارة البريطانية إلى حد بعيد جدًّا، وأنه لمن العبث الذي لا طائل تحته أن نحاول الآن بحث ما إذا كان ممكنًا، لولا تدخل البريطانيين، أن تُوفَّق الثورة العرابية إلى إيجاد تسوية بين مطالب أسرة محمد علي بإرستوقراطيتها التركية المدنية العسكرية، ومطالب أهل مصر الأصليين، ويحسن بنا أن نقر أن بريطانيا، وإن لم تستطع، بعد استيلائها على مصر، حل هذه المشكلة، فقد نجحت على الأقل في وضع أساس لحلها على الوجه الأكمل، صحيح أن الطبقات التي استبدت بالحكم في العهود السابقة كانت كثيرًا ما تشمئز من وصاية القنصل البريطاني العام، السير إفلين بارنج (الآرل كرومر في ما بعد) الفظة القاسية، من 11 أيلول (سبتمبر) سنة 1883 إلى 6 نوار (مايو) سنة 1907، ولكن ثمة مجالًا كبيرًا للشك في ما إذا كان من الميسور أن يتحقق ازدهار البلاد وارتفاع مستوى سكانها الفكري والمعنوي بمثل هذه السرعة التي تحققا بها فعلًا، لولا هذه الوصاية.
ومهما يكن من شيء، فليس ههنا محل للكلام المفصل على تاريخ الإدارة البريطانية، إنه بحث يتصل بدراسة الإمبراطورية البريطانية، كذلك لن نشغل أنفسنا هنا بالتأريخ للتقلبات الوزارية التي لا تدل إلا على مدى النفوذ البريطاني في الدوائر الحاكمة، ولكننا سنجتزئ بمحاولة وضع صورة موجزة عن تطور الشعب المصري في ظل الاحتلال البريطاني. في ظل كرومر
حتى السفير البريطاني في إستانبول، اللورد دافرين، وكان أول من مثل حكومة بلاده في مصر بعد الاحتلال، عمل جاهدًا لتحسين أحوال الفلاحين البائسة، فقد جرت عادة الموظفين الإداريين المصريين، حتى ذلك الحين، بأن يحققوا مهمتهم الرئيسة، أعني جباة الضرائب، من طريق إنزال أقسى العقوبات الجسدية وغيرها من ضروب التعذيب بكل من تخلف عن أداء الضريبة، وإنما حُرِّمت هذه الأساليب بأمر وضعه اللورد دافرين موضع التنفيذ، وأُتبع ذلك بإلغاء العمل الإلزامي (السُّخرة) الذي كان يُفرض على الفلاحين ابتغاء تنظيف قنوات الري قبل فيضان النيل ـ إثر نضال سياسي متطاول مع ممثلي لجنة الرقابة المالية الدولية التي لم يكن بد من انتزاع موافقتها في سبيل الحصول على الأموال الضرورية للنهوض بأعباء العمل الحر، ولم يتم التحرر نهائيًّا من العمل الإلزامي حتى وفاة توفيق باشا، في كانون الثاني (يناير) سنة 1892م، فكان هذا الحدث بمثابة هدية قُدمت إلى الشعب المصري بمثابة ارتقاء الخديوي الجديد العرشَ، ولكن الضرائب التي كان السكان يرزحون تحتها ظلت مع ذلك ثقيلة فادحة، إذ كان عليهم أن ينهضوا، بالإضافة إلى نفقات الإدارة العامة، بنفقات الاحتلال البريطاني والمستشارين البريطانيين المعينين في مختلف الوزارات ـ والذين كان لهم نفوذ ضخم يفرضونه في كل صغيرة وكبيرة ـ وجمهرة من الموظفين الإداريين أيضًا، والواقع أن مستشاري وزارة المالية ـ السير فينسانت أولًا، ثم السير ألوين بامر، ابتداء من سنة 1888م ـ وُفِّقا تحت إشراف اللورد كرومر إلى أن ينظما المالية المصرية تنظيمًا دقيقًا جدًّا، ولكنهما عجزا عن تخفيض دين الدولة تخفيضًا محسوسًا، أضف إلى ذلك أن احترام الرقابة المالية الدولية قاد في بعض الأحيان إلى نفاذ إجراءات شاذة بعض الشيء، كذلك عجز المشرفون على الشئون المالية عن تخفيف وطأة الضرائب الثقيلة، ولم تُغفل السلطات موردًا من موارد الضريبة إلا استغلته، وكان في استطاعة الأفراد الخاضعين للخدمة العسكرية أن يشتروا إعفاءهم منها بواسطة البدل العسكري كما جرت العادة من قبل، مع أن ذلك ظل وقفًا على الأثرياء دون سواهم، ولكن علينا أن لا نغفل عن أن زراعة القطن التي سبق لمحمد علي أن أدخلها إلى مصر، والتي عززها إسماعيل من بعده، قد انتهت إلى نجاح لم يخطر لأحد ببال، على أيدي المهندسين المائيين البريطانيين الذين استطاعوا أن يطبِّقوا ههنا خبرتهم المستفادة في بلاد الهند، من أجل ذلك كان لابد من إنشاء سلسلة من الخزانات تساعد على اصطناع نظام في الري غير خاضع لرحمة الأحوال الجوية، وهكذا جدد سكوت مونكريف في ما بين سنة 1885م وسنة 1890م الخزان الذي سبق لأحد المهندسين الفرنسيين أن أقامه عند مدخل الدلتا في ما بين سنة 1842م وسنة 1863م، والذي أثبتت الأيام أنه غير وافٍ بالحاجة، ومن ثم تضاعف محصول الدلتا من القطن، وفي سني 1898 ـ 1902م تم إنشاء خزان أسوان، وهو من عمل السير وليم ولكوكس، ويجب أن لا ننكر، من غير شك، أن مصر قد سيقت، من هذه الطريق، إلى مخاطر الاقتصاد العالمي، هذا الاقتصاد الذي أخذت تحس أزماته الثقيلة في مناسبات مختلفة، وبذلك فقدت قدرتها على أن تؤمن تغذية سكانها من نتاج تربتها الخاصة، وكان من الطبيعي أن يستنكر المصريون سكوت بريطانيا وعدم تحريكها ساكنًا للقضاء على نفوذ الأجانب ومركزهم الممتاز الذي تمتعوا به بفضل الامتيازات الأجنبية، والذي ساعدهم في كثير من الأحيان على التحكم بحياة البلاد الاقتصادية، وكان من الطبيعي أيضًا أن يحسب المصريون هذا السكوت حيفًا وظلمًا، ولكن أبرز ما يُلام عليه إدارة كرومر لومًا كبيرًا أنها لم ترصد غير اعتمادات هزيلة جدًّا لتعليم الشعب، في حين خصصت أموالًا ضخمة للإنشاءات التي تنطوي على خدمة المصالح البريطانية أيضًا، فمن سنة 1882م إلى سنة 1902م مثلًا لم تبلغ اعتمادات التعليم الشعبي نصف نفقات خزان أسوان إلا بعد جهد، وقد حاول خلفه اللورد لويد أن يلتمس له عذرًا، فأشار إلى فقدان الوسائل الضرورية لذلك، قائلًا: إنه لم يكن من همِّ الدولة المحتلة، على أي حال، أن تفرض نفوذ الثقافة البريطانية على البلاد، وليس من شك في أن هذه الثقافة ما كانت لتفيد المصريين إلا قليلًا، ولكنها كانت خليقة بأن تخدم مصالح البريطانيين وتعزز ثقافتهم في وجه الثقافة الفرنسية التي أقبلت عليها الطبقات المصرية العليا.
ومهما يكن من شيء، فيجب أن لا نغفل حقيقة راهنة وهي أن الدوائر الحاكمة في مصر، حتى بعد تحررها من السيطرة البريطانية، لم تُبْدِ من الاهتمام بقضايا الثقافة إلا قدرًا يبدو ضئيلًا جدًّا إذا قيس باهتمامها البالغ بالمسائل الاقتصادية، وهي حال كانت موضع الشكوى المريرة من قبل الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة، في كتاب له ظهر في مطلع سنة 1939م))( ).
فهل هذه المزاعم صحيحة؟ وهل ارتفع مستوى معيشة المصريين في عهود الاحتلال وازدهرت معه البلاد؟ وهل الإصلاحات التي قام بها كانت لخدمة المصريين بحق أو إنها كانت لخدمة نفسه؟!! يفضح الشيخ الغزالي سياسة الاحتلال وأهدافه وغاياته فيقول في إشارة إلى مبادئ التعاون المقترح بين صفوف المسيحيين (المستعمِرين) وصفوف المسلمين (المستعمَرين): ((بيد أن ساسة الغرب والرجال الذين يعملون معهم، أولهم لا يريدون هذا، أو لا يكتفون به؛ أي: يرضي القتيل وليس يرضي القاتل!!... يجب أن تجر الدول العربية كلها إلى جانب الاستعمار الغربي، وأن تعمل في حقله، وأن تقاتل تحت لوائه، وهذا الاستعمار هو طارد المسلمين من فلسطين وواهبها لليهود، وهو طارد المسلمين من الجزائر وواهبها لفرنسا، وهو كاسر جناح المسلمين في لبنان والحبشة مع كثرتهم، وهو الذي يرهب اليوم الشعوب المتحررة، ويراودها عن عقائدها وشرفها، وهو الذي يبسط يده بالأدنى حينًا، وبالرشوة حينًا، ليقيم حجابا بين حاضر المسلمين وماضيهم، فإما عاشوا مرتدين أتباعا لغيرهم... وإما... فلا حق لهم في الحياة))( ).
ويقول عن انخداع الشعوب المستعمرة بمظاهر المدنية المزعومة في الغرب: ((إن الناظر إلى أقطار الغرب قد تخدعه مظاهر المدنية التي بلغتها، وقد يظن أن نظافة القوم في وجوههم وملابسهم فيض من نظافة ضمائرهم وأرواحهم، وهذا خطأ شديد، ووهم بعيد، فالقوم من أقذار أهل الأرض ضمائر وأرواحا))( ).
ويقول: ((فعندما نزل المستعمرون الغرباء على السواحل النقية – في طرابلس ليبيا – وشرعوا يقاتلون العرب عليها ويذودونهم عنها، فإذا رضيت بعض القبائل أن تعيش خدما للفاتح الغالب، انتهزوا لها أول خطأ – أو اختلقوه – ثم حكموا على شباب القبيلة بالموت رميا بالرصاص، وطاردوا البقية إلى الصحراء))( ).
ويقول عن تملك المحتلين أجود الأراضي الزراعية : ((والغريب أنه قبل انحلال النظام القبلي – في جنوب أفريقيا – كانت الأرض ملكا لجميع الإفريقين، فلم يكن هناك نظام الملكية الفردية، بل كان ينظر للأرض باعتبارها هبة الطبيعة – الله – للجميع... وبعد ظهور القانون الوطني للأراضي عام 1918م، قضى قضاء تاما على نظام الحياة الاقتصادية الكريمة للإفريقيين... ويلاحظ أن الكثير من الأراضي المحلية المخصصة لهم غير صالحة للزراعة أو الري، ومع ذلك يحرم القانون عليهم امتلاك أراض أخرى... إن استغلال الأراضي الإفريقية هو الدافع الأول للاستعمار الأوروبي، ولولا هذا الغرض لما تمكن البيض من استيطان هذه المناطق الحارة، مهما عظم الأمل في كثرة الأرباح ولو أن إفناء أهل البلاد الأصلاء كان أجدى على الفاتحين لأفنوهم جميعا، أما وهذا الإفناء السريع يحرمهم الألوف المؤلفة من الرقيق الكادح الذليل، فلا حرج من استحيائهم، على ألا يتجاوز محياهم هذا النطاق المهين))( ). ويشهد على ذلك وقوع بروكلمان نفسه في تناقض صريح وواضح في مواضع عديدة، إذ يقول مثلا - عن استنزاف بريطانيا لموارد مصر في حال الحرب: ((وفي حال الحرب تعهدت مصر بأن تضع جميع موارد البلاد تحت تصرف بريطانيا، وأن تفرض عند الاقتضاء الأحكام العرفية والرقابة على المطبوعات، كذلك تعيَّن على مصر أن تنشئ شبكة خطوطها الحديدية وفقًا لوجهات النظر الإستراتيجية التي تراها بريطانيا ضرورية))( ).
وعن نظارة الزراعة وخدمتها للمصالح البريطانية وليست المصرية، يقول: ((ومما لا شك فيه أن نظارة الزراعة التي أنشأها إنما خدمت المصالح البريطانية في زراعة القطن المصري، في حين عملت في الوقت نفسه للقضاء على ما كان لشركة الخديوي الزراعية من تغلب وسلطان))( ).
وفي إشارة سريعة نجده يؤكد أن الانتدابات وسيلة لتوزيع البلدان المفتوحة بين المنتصرين في الحرب، وذلك إبان انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ إذ أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، يقول: ((والواقع أن العالم أدرك حقيقة هذه الانتدابات أول ما أدركها في 25 حزيران (يونيو) سنة 1920م من الخطاب الذي ألقاه اللورد كرزن وزير الخارجية البريطانية في مجلس اللوردات، والذي أعلن فيه في صراحة تُحمد له أن انتدابات جمعية الأمم حديث خرافة؛ لأنها ليست سوى وسيلة لتوزيع البلدان المفتوحة بين المنتصرين))( ).
ومما ينبغي لفت النظر إليه هنا - وهو ما ذكره في موضع آخر - أن الموظفين الأجانب كانوا كثيرين في الدولة المصرية وبخاصة البريطانيين، حتى إنهم مع نهاية العقد الثالث من القرن الماضي نقص عددهم بصورة ملحوظة، يشير إلى ذلك بقوله: ((والحق أن الأجانب لم يكونوا ـ على أية حال ـ عاملًا لا يستغنى عنه بالكلية في رخاء البلاد وازدهارها، يدلك على ذلك الإحصاءات الرسمية التي تشير إلى تناقص الموظفين البريطانيين من 871 إلى 160 موظَّفًا، والموظفين الهنود من 2035 إلى 36 خلال المدة الواقعة ما بين 1920م وسنة 1931م))( ). وقد ألف الأستاذ "جودا" – أستاذ الفلسفة الإنجليزية كتابا قيما سماه "سخافات المدنية الحديثة" قال فيه: ((إن المدنية الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق، فالأخلاق متأخرة جدا عن العلم ومنذ النهضة ظل العلم في ارتقاء، والأخلاق في انحطاط، حتى بعدت المسافة بينهما... إن الفلسفة المادية هي دين الغزو الأوروبي في القديم والحديث، والقوم على اختلاف مواطنهم وحكوماتهم، تجمعهم فكرة السطو على أموال الآخرين، وهم يخرجون من بلادهم يراودهم حلم واحد: كيف يثرون من أقصر طريق؟ كيف يجمعون الثروات الضخمة؟ كيف يرضون أطماعهم في التشبع من هذه الدنيا، والامتلاء منها إلى حد البطنة المردية؟!! ... ولو تتبعت أحوال المستعمرين حيث حلوا، من أعصار خلت، أو في هذه الأيام، لوجدت الهدف هو الهدف، ما تتغير من سياستهم إلا الأساليب والأسماء، أما الحقائق والغايات فهي هي))( ). وقد كان من وسائل التمدين المزعومة - للبلاد العربية والإسلامية - التبشيرُ، أو كما يطلق عليه التنصير، ((وكان الباعث الحقيقي له هو القضاء على الأديان غير النصرانية توصلا إلى استعباد أتباعها، والمعركة بين المبشرين وبين هذه الأديان هي معركة في سبيل السيطرة السياسية والاقتصادية، ولأن الإسلام أشد الأديان مقاومة للاستعباد، قنع هؤلاء المبشرون أن يكون عملهم الأساسي الاقتصار على زعزعة عقيدة المسلمين، ولهذا استعملوا وسائل عديدة منها التطبيب والتعليم والسياسة))( ).
((فلقد ادَّعت أوروبا أن لها رسالة حضارية وثقافية تريد نشرها في البلاد التي تحتلها؛ ولكن هل نشرت بحق الحضارة والتطور في البلدان التي استعمرتها؟ كلا، وواقع تلك الدول التي حررت نفسها من ربقة الاستعمار أوضح دليل على ذلك، وإنما نشرت أوروبا الاستعمارية البؤس والشقاء والحرمان والتخلف، وكل ألوان الظلم والاضطهاد، وما حرصت عليه إنما كان سلب خيرات تلك البلاد التي سيطرت عليها وتسخير شعوبها لفائدة المستعمرين ورفاهيتهم، والزيادة في قوة شعوب أوروبا... وقد كان من أهم الطرق التي اتخذها الاستعمار للوصول إلى أهدافه ما يأتي: الهجرة والاستيطان وتسليط الأبيض على الأسود ونشر الفرقة والفوضى بين الطوائف والاحتلال العسكري والتستر وراء قناع التجارة والاستثمار برءوس الأموال والاتفاقيات الودية والامتيازات الأجنبية والغزو الديني والثقافي والفكري والانتداب والوصاية... إلخ))( ).
ولعل السبب في تأخر العرب المسلمين هو جمود التفكير العلمي لدى كثيرين منهم وظهور التقليد وانتشاره، ((وقد بدأت روح التقليد تدب في نفوس العلماء منذ منتصف القرن الرابع الهجري، ومن أسباب ذلك: انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة دويلات، وقيام أنصار المذاهب المختلفة بالدعاية لها، حتى حلت في القلوب، وملكت على الناس مشاعرهم، بالإضافة إلى ضعف الثقة بالقضاة... ومما زاد التقليد انتشارا واتساعا: التعصب الشديد لأقوال الأئمة، والمبالغة في اختصار كتب السابقين، بل وانقطاع الصلة بالكتب السابقة، وسيطرة روح الجفاء والضغينة بين العلماء عقب انقسام الدولة الإسلامية، وتعصب كل عالم لدولته... وإنما الذي أوصلنا إلى هذا الركود والخمول هو الضعف النفسي الذي ضرب علينا في ظل الفرقة والعداء، وتمكن أعداء الإسلام منا وتحكمهم فينا، ومحاولتهم إبادة التراث الإسلامي، فلا ننسى ما لأعداء الإسلام من محاولات بذلت للقضاء على التراث الإسلامي، وفي مقدمتها إحراق الكتب والمؤلفات الكثيرة التي أنتجتها عقول العلماء في العصور الماضية مما امتلأت به مكتبات العواصم الإسلامية، فقام الصليبيون بإحراقها، ثم بعدهم الفرنسيون، ثم سرقوا كثيرا من هذه الكتب ونقلوها إلى بلادهم، فأصبحت نوادر المخطوطات وأمهات الكتب موجودة لديهم في مكتباتهم... ولم يتوقفوا عن محاولة الاستغلال والتحكم والعمل على تأخر البلاد وتدمير أمجاد الإسلام، وما الصهيونية العالمية إلا امتداد للغزو الصليبي القديم))( ). إن الإسلام عندما دخل الأندلس بفتوحات القرن الأول الهجري وما بعده قد حولها إلى كعبة علم ومنارة حضارة... يقول يوسف كوندي في كتابه "مدنية العرب في الجاهلية والإسلام"، مؤبِّنًا خروج العرب من إسبانيا، ومعلقا على ما أصاب البلاد بعد رحيلهم: ((ظهر العرب في إسبانيا فملئوها بنشاطهم وبراعتهم ثم خرجوا منها حاملين أموالهم وفنونهم، فماذا أنشأ الإسبان مكانها؟ لا نستطيع أن نجيب بشيء إلا أن حزنا خالدا يغمر هذه الأرض، وكانت من قبل تتنفس فيها أبهج الطبائع!.
وكتب "لاين بول" يقول: لبثت إسبانيا في أيدي المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها يبهر أوروبا؛ إذ أزهرت بقاعها الخصبة بجهود الفاتحين الموفقة، وأنشئت المدائن العظيمة في سهول الوادي الكبير، ثم اندثر هذا كله ولم يبق ثمة ما يذكر بهذا المجد سوى الأسماء فقط.
إن الآداب والعلوم والفنون تقدمت بها دون سائر أقطار أوروبا، فما اكتملت ولا أثمرت علوم الرياضة والفلك والنبات والتاريخ والفلسفة والتشريع إلا في إسبانيا العربية، وبسقوط غرناطة ذوت عظمة إسبانيا وشملتها ظلمة حالكة عفت على صناعاتها، وسحقت معاهدها العامة، وحل الدهماء واللصوص مكان الطلاب والتجار...))( ).
وبعد إخراج المسلمين من الأندلس ماذا حدث؟ وما نتائج ذلك؟ .. يقول د. سيجريد هونكه: ((أما في إسبانيا ذاتها فقد اختفت آثار العصور العربية الذهبية ولم يبق بها إلا القليل جدا، وآخر آثار الماضي الذهبي التي تحمل بعض الآثار الفنية لمشيديها السالفين: قصر الحمراء، وقصر السلطان العظيم في غرناطة وبقايا القلعة الصيفية وقصر طليطلة وغير ذلك وبخاصة برج أشبيلية الذي كان يستخدم قديما مرصدا للفلكيين... ومن بقايا الآثار العربية العظيمة في الأندلس وهذه الثقافة الرفيعة هذا المسجد العظيم الذي شرع في تشييده عبد الرحمن الأول في قرطبة، وأتمه من بعده ابنه هشام الأول... إلخ))( ). وعن الحملة الفرنسية التي حاولت استعمار مصر عام 1798م، يقول الأستاذ محمد قطب: ((إنها كانت حملة صليبية في حقيقتها؛ فقد حاولت تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها – لولا ثورة علماء الأزهر، والشعب معهم، تلك الثورة التي أدت إلى خروج الحملة من مصر قبل أن تستكمل مهمتها – ثم إنها جاءت معها بمن يبعث الفرعونية لزلزلة الولاء للإسلام، ومحاولة وصل المصريين بتاريخهم الفرعوني، بدلا من تاريخهم الإسلامي، كما قال أحد المستشرقين الصرحاء - وهو شاتلييه -: "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات".
ثم جاء الاحتلال البريطاني فمكث طويلا، وأفسد كثيرا في كل مجالات الحياة الإسلامية، ولكن أخطر ما فعله كان السياسة التعليمية التي وضعها القسيس دنلوب،؛ لتخريج أجيال من المسلمين لا تعرف شيئا من حقائق الإسلام، ولا تعرف عن الإسلام إلا الشبهات التي يثيرها أعداء الدين))( ).
ويقول أيضا: ((وكان المطلوب تخريج أجيال لا ترفض الذوبان في الغرب، بل تتقبله على أساس أنه وسيلة للخروج من التخلف، والسير نحو الحضارة والتقدم والرقي، وكان لابد لتخريج تلك الأجيال من سياسة تعليمية تقتل اعتزاز المسلم بإسلامه وبلغته وبتاريخه وبأمجاده، وتزرع بدلا منها انسلاخا من الدين، وإعراضا عن اللغة، وانخلاعا من التاريخ، وجهلا وتشويها لكل ما يعتز به المسلم من أمجاد، وكان منهج "دنلوب" وافيا بالأغراض كلها التي أرادها الاحتلال، وخرَّج تلك الأجيال المطلوبة، بطريقة بالغة الخبث، بالغة الشر، بالغة التأثير))( ).
ويقول خالد زيادة عن دور الفرنسيين في إنجاح بعض مشاريع الإصلاح للعثمانيين طمعًا في تحقيق بعض الأهداف الخاصة: ((إن الفرنسيين أسهموا إسهاما فعالا وأساسيا في إنجاح مشاريع الإصلاح للسلطان سليم الثالث العثماني، فكانوا يعاونون في التدريس والتدريب وتسيير المؤسسات العسكرية من خلال ضباطهم وتِقَنِيِّيهم وخبرائهم يشاركهم في ذلك عدد ضئيل من أوروبيين آخرين من إيطاليين ونمساويين، وبالنسبة للسلطان العثماني، كانت هذه المساعدات الفرنسية المتعددة الأشكال أمرًا لا مفر منه حتى ولو كانت على حساب التهديد الروسي والإنجليزي، كما حدث في آخر سنوات عهده بين عامي 1806 و1807م، وكانت أغراضهم من وراء مساعداتهم متعددة الأوجه: فمن ناحيةٍ مجابهة الخطر الروسي والإنجليزي، ومن ناحية أخرى الرغبة في الوصول إلى آسيا ومجابهة النفوذ الإنجليزي في الهند))( ).
وهذه جريدة "العروة الوثقى" التي أنشأها كلٌّ من جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده تفضح أغراض الاحتلال وأهدافه الحقيقية، فتقول: ((وللإفرنج مطامع في ديار المسلمين، وهم يعملون لفصم روابط الدين بينهم ليستغلوا ما ينشب بينهم من خلاف وشقاق، والأجانب الذين تستخدمهم الحكومات الإسلامية لا يتصلون بصاحب الملك في جنس ولا في دين، تقوم رابطته مقام الجنس، فهم لا يعبأون بشرف الأمة وسعادتها، ولكنهم يهتمون فقط بأجرهم ومنفعتهم الخاصة))( ).
((إن الثابت تاريخيا عن الاحتلال الأوروبي بعامة والإنجليزي بخاصة محاولاته المتكررة والمتعددة في إضعاف اللغة العربية الفصحى وترويج العامية، بل ومحاولات فرض لغته على الشعوب المستعمرة، كما كان من أساليب حروبه الفكرية الخفية دراساته عن الفرق الإسلامية، وتأجيج نار الفتنة بينها، وتجهيل الحقائق وتصيد الرويات الضعيفة والمنكرة ونشرها والعمل على إشاعتها، وإخضاع القيم الروحية الإسلامية للمقاييس المادية التي تختلف عن طبائعها أتم اختلاف، وكذلك الإلحاد والتشكيك في النبوات والطعن المباشر وغير المباشر في الإسلام والرسول والقرآن...إلخ، والتحريف المتعمد للنصوص، وتقعيد الأفكار السائدة في المجتمع الغربي وتقنينها للفكر في الدول المحتلة))( ).
خلاصة الرأي، وفي الواقع خير شاهد على ما ذكرنا، فإن المتابع لحركات التحرير المزعومة والتمدين المشئومة من جانب الدول الكبرى – خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وروسيا - يجد أن هذه الدول عندما أعلنت – مثلا – الحرب على العراق بِحُجَّةِ امتلاكه أسلحة دمار شامل، قد قوضته فانهارت الدولة وأشاعت بين شعبها الفرقة والانقسام، ومنذ العام 2003م لم تقم للعراق دولة ولم يستقم له نظام، وكذلك فلسطين المحتلة من الصهاينة...إلخ( )، فهل هذا المحتل يُعَمِّرُ أو يُدَمِّرُ؟!!
إننا نسمع يوميا عن المستوطنات والتخريب والتدمير الذي يجتاح أراضي الفلسطينيين، وكل هذا على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وبحجج واهية لا تستقيم أمام الحوار الفعال أو النقاش البنَّاء بالأدلة والبراهين، وبعد كل هذا أَيُعْقَلُ أن يُقَالَ: إن الاستعمار أو الاحتلال يأتي برسالة التمدين؟!!
القسم الثاني - بصيرة تاريخية
في مقابل ما سبق ذكره لا ننكر أنه تتضح خلال هذا الكتاب بصيرةٌ تاريخيةٌ لدى بروكلمان في معالجته لكثير من الموضوعات والقضايا؛ من ذلك مثلًا:
• أثر مقتل الحسين في كربلاء على التطور الديني للشيعة:
إذ يقول: ((والحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين والتي لم يكن لها أي أثر سياسي قد عجلت في التطور الديني للشيعة - حزب علي - الذي أصبح فيما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب [الشعوبية]. واليوم لا يزال ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة عند الشيعة وبخاصة الفرس الذين ما فتئوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره غاية ما يطمعون فيه))( ).
• نشاط يزيد الثاني الأموي وإصلاحاته:
حيث يقول: ((والروايات المعادية للأمويين تصور يزيد الثاني كما صور سميه (يزيد الأول) من قبل رجلا مستهترا انغمس في مناعم اللهو والموسيقى، وشغلته القيان والمغنيات، فترك شئون الأمصار إلى أمرائه وعماله يصرفونها كيف يشاءون، والواقع أن عهده القصير ظل حافلا بضروب النشاط الجدي، حتى بعد القضاء على الفتنة في العراق، فلقد وحَّد الإدارة في مكة والمدينة، وأدخل إصلاحات على ديوان القبائل في مصر، وكان أساسا لأعطياتهم))( ).
• ستار التشيع لإسقاط الإمبراطورية:
وعن محاولة إسقاط إمبراطورية السلطان السلجوقي ملكشاه من جانب المتشيعين، يقول بروكلمان: ((وفي عهد ملكشاه عرفت الإمبراطورية عدوًا داخليًّا قُدِّر له أن ينشر الذعر في ربوع الشرق الأدنى، سنوات طوالًا. والواقع أن نظام الملك لم يحذِّر السلطان من مكائد الطوائف الشيعية لغير ما سبب؛ ذلك بأن التشيع - الذي بدأ أول ما بدأ حزبًا سلاليًّا خالصًا انضوى تحت لوائه الداخلون حديثًا في الإسلام ليناضلوا ضد السياسة العربية - كان في كثير من الأحيان ستارًا يستخدمه الانتهازيون الذين لا ذمة لهم ولا ذمام، لتحقيق أهدافهم الأنانية الصرفة، المناهضة للحكومة))( ).
• تناحرُ النصارى ثباتٌ للإسلام:
فالأندلس ما كان للإسلام أن تستمر دولته فيها بعد ضعفها إلا بسبب اختلاف النصارى وتناحرهم، وفي ذلك يقول: ((وتفسَّحت الأندلس، منذ اليوم، وتفرق أهلها شيعًا، ففي كلَّ ناحية أمير ودولة. وعلى الجملة فقد استبدَّ البربر بالسلطان في كلٍّ من المدن الجنوبية، في حين استبد الصقالبة بالسلطة في كلٍّ من المدن الشرقية. وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يثبت في شبه الجزيرة بعد أن توزعت هذه الدويلات الهزيلة تراثه الواسع العريض، فالفضل في ذلك، من غير شك، لاختلاف النصارى وتناحرهم، وليس في هذه الأسر واحدة تستحق أن نقف عندها وقفة عاجلة غير بني عبّاد أصحاب إشبيلية))( ).
• الوزيران ابن الخطيب وابن خلدون:
اشتهر الأول بالعناية بالصناعة اللفظية والأسلوب على حساب صحة الرواية في كتاباته الأدبية والتاريخية، بعكس الثاني الذي كان مولعا بمصائر الدول ومصارعها دون تنميق الأسلوب وزخرفته، يقول بروكلمان: ((وكان بين هذين الوزيرين المتنافسين فروق صارخة في صعيد النشاط الأدبي أيضًا، فابن الخطيب لا يعدو أن يكون، في الواقع، أديبًا من أدباء ذلك العصر المثقفين، تتمثل فيه مساوؤهم ومواطن ضعفهم على اختلافها، ولعل قارئه لا يجانب شاكلة الصواب إذا زعم أن الأسلوب كان يعني، بالنسبة إليه، كل شيء تقريبًا، والجدير بالذكر أن ابن الخطيب لم يكشف عن هذا الاحتفال البالغ بالزخرف في رسائله النموذجية فحسب، بل في مصنفاته التاريخية الكبرى حيث ينزع في كثير من الأحيان إلى التضحية بصحة الرواية ودقتها على مذبح الصناعة اللفظية، والحق أن القرينة التاريخية لا تكاد تعني عنده شيئًا، ففي كتابه الكبير عن تاريخ غرناطة وكتبه التاريخية الأخرى كانت عنايته بأخبار زملائه الأدباء أعظم من عنايته بتصوير مجتمعهم الذي عاشوا فيه. أما ابن خلدون فلم تسمح له حياته بالغة الاضطراب بأن يفرغ للأسلوب ينمقه ويزخرفه، لقد كان مولعًا بمصاير الدول ومصارعها، وليس من شك في أن كتابه عن تاريخ البربر فريدٌ في الأدب العربي بما هو محاولة لتصوير حياة شعب بكامله في جميع مظاهرها، على أساس الملاحظة الشخصية والدراسة الجاهدة للمصادر، ولكنه مدينٌ بشهرته للمقدمة التي استهل بها تاريخه العام، على الخصوص، وبينا لا يرتفع تاريخه العام هذا يحاول في مقدمته ـ التي استطالت فغدت كتابًا برأسه ـ أن يرسم الخطوط الإسلامية التي تطغى على آرائه في الدولة والاجتماع طغيانًا كاملًا، ولكنه مع ذلك مزج بها عددًا من الملاحظات والاستنتاجات الثاقبة، التي انتزعها من حقبة صاخبة من التاريخ، عاش جزءًا منها في مقام الصدارة والرياسة، وعاشها كلها وسط تيار الأحداث الجارية، والواقع أن الأحكام السليمة الهادئة التي أصدرها حول مظاهر العلم الإسلامي والحضارة الإسلامية جميعها، في تلك الدراسة ذات التصميم المنظم والعرض الواضح، لم تتيسر لأي من المؤلفين المسلمين، على الإطلاق))( ).
• موازنة موضوعية بين ابن بطوطة المراكشي وماركو بولو البندقي:
فلقد خرج ابن بطوطة رحالة إلى بلدان كثيرة، ثم استقر في النهاية بمراكش – المغرب حاليا – ليكتب نتاج رحلاته ولم يكن بأقل من معاصره ماركو بولو البندقي، وقد عقد بينهما بروكلمان موازنة جيدة في كتابه، يقول عن عودة ابن بطوطة من رحلته: ((ليستقر بعد ذلك في مراكش حيث أملى وقائع أسفاره على أحد الكتاب، تاركًا له صياغتها اللغوية والبيانية جميعًا.
والحق أن أحدًا من الرحالين لا يدانيه في سعة استشرافه العالمي غير معاصره، ماركو بولو، البندقيّ الذي كان أسنّ منه، بعض الشيء، والذي عهد إلى كاتب له في إخراج مذكراته إخراجًا أدبيًّا. وإنما يؤلف كلٌ من هذين الأثرين تتمة صالحة للآخر، في ما يتصل بمعرفتنا بآسيا، لأن الرحالة البندقي وفق إلى أن يقدم إلينا حقائق عن الشرق الأقصى أصح بكثير من تلك التي تسنى للرحالة المراكشي إيرادها، في حين عوَّض هذا الأخير من ذلك النقص بما كان له من معرفة أوثق بالأحوال الثقافية في العالم الذي وصفه.
إن أحدًا منهما لم يكن عالمًا جغرافيًّا، ولكن معلومات الرحالة المسلم الطوبوغرافية أوثق وأجدر بالاعتماد من تلك التي نجدها في رحلة زميله النصراني))( ).
• تعاليم ابن تيمية تُحْيَى بعد موته:
وفي لفتة رائعة منه يؤكد بقاء الفقه الحنبلي ممثلا في شيخ الإسلام ابن تيمية رغم ألوان الاضطهاد التي لاقاها من خصومه ومعاصريه، وانتشار مذهبه بعد موته، حتى إنه أضحى نواة حسنة لمعظم الحركات التجديدية في الفقه المعاصر، يقول: ((ولئن كان معاصروه قد حاولوا قمع تعاليمه بالقوة، فقد كتب لها برغم ذلك أن تبقى حية في دوائر أتباعه المحدودة لتستمد منها حركة التجدد الإسلامية في الجيل الحاضر))( ).
• تقليدية النتاج الثقافي والحضاري ونمطيته زمن المماليك:
رغم الإنتاج الثقافي الخصب الذي انماز به عصر المماليك وحكومتهم في كل من مصر وسوريا، فإنه يظل تقليديا ونمطيا لا أصالة فيه ولا إبداع، يقول في ذلك: ((أما في حقول الثقافة الأخرى فقد أنتج السوريون والمصريون إنتاجا خصبا جدا في عهد المماليك، ولكن هذا الإنتاج يكاد يكون خلوا من الأصالة والإبداع بالكلية))( ).
• معاهدات جمهوريات إيطاليا مقدمات للامتيازات الأجنبية:
يقول: ((والحق أن التجارة ازدهرت ازدهارا فائقا للعادة في عصر المماليك؛ لأن مصر وسورية كانتا لا تزالان حتى ذلك الحين واقعتين على طريق التجارة الهندية الغنية التي نهضت بعبئها جمهوريات إيطالية التجارية، ولقد وفقت هذه الجمهوريات – في كثير من الأحيان - إلى أن تنتزع لنفسها من طريق المعاهدات التي عقدتها مع المماليك،حقوقا خاصة انتهت في ما بعد إلى أن تصبح أساسا للامتيازات الأجنبية التي كان لها أبعد الأثر في تاريخ مصر حتى العصر الحديث))( ).
• الصراع بين الإسلام والنصرانية ورجاحة الأول:
يقول: ((وكانت النصرانية التي نشرها المرسلون النساطرة في ربوعهم لا تزال تصطرع والإسلام الذي ظل في النهاية أرجح كفة وأعز نفرا بسبب من تشعّب صلاته واتساعها))( ).
• من فضائل العثمانيين:
يقول: ((كانت حياة العثمانيين العلمية خلوا – أو تكاد – من الأصالة والإبداع فهي تتخذ سبيلها في مجاري التقليد والاتباع الثابتة، ذلك أن العلم لم يكن يعني عند المسلم اكتساب معرفة جديدة، بل التمكن إلى أقصى حد مستطاع من المادة التي أنتجتها الأجيال السالفة، وكان أعظم القدر والاعتبار يخلع على التفقه في الدين والشرع الإسلامي الذي لم يكن ليفصل عن القانون المدني والذي طغى على هذا القانون أيضا، وإذا كانت أمهات الكتب القانونية موضوعة بالعربية، فقد اصطنع العلماء العثمانيون في آثارهم التشريعية هذه اللغة أيضا في الأعم الأغلب، ولم يكتب باللسان الوطني غير بعض الكتب الوعظية الموضوعة لعامة القراء، والواقع أن فضيلة العلماء العثمانيين ليست في عمق التفكير وجراءته، ولكنها في الذاكرة الجامعة والتطبيق الجلد الصبور))( ).
• محمد علي يفتح الباب للحضارة الأوروبية:
يقول: ((وعلى الرغم من جميع الأخطاء التي حفلت بها سياسة محمد علي الأنانية، فليس من شك في أن الفضل يرجع إليه دون غيره في فتح أبواب مصر لمؤثرات الحضارة الأوربية))( ).
• الأصابع الخفية في الوقيعة بين المسلمين والنصارى:
يقول: ((ولم يكتفِ جورست بإثارة الخديوي على الحزب الوطني، بل عدا ذلك إلى تحريك الأقباط عليه، بحجة أن مؤسسه (مصطفى كامل) كان يقول بالجامعة الإسلامية التي عمل لها السلطان العثماني، فلما استقال رئيس مجلس النظار (مصطفى فهمي) حمل جورست الخديوي على إسناد هذا المنصب إلى رجل قبطي، هو بطرس غالي باشا ناظر المالية السابق، فما كان من الوطنيين إلا أن شنوا عليه حملة شعواء أدَّت إلى مصرعه، في 20 شباط (فبراير) سنة 1910م، وإلى قطيعة بين المسلمين والأقلية النصرانية تهددت البلاد بنشوب حرب أهلية دامية))( ).
• ولاء الشيعة لبعضهم:
يقول: ((وكان الشيعة المقيمون في النجف وكربلاء والكاظمية وحواليها ـ وكلها مقدسة عندهم ـ على اتصال دائم وثيق بإخوانهم في فارس، فهم لا يعدون أنفسهم من رعايا السلطان "المبتدع" إلا على كره))( ).
القسم الثالث - إنصاف واعتراف
على عكس ما سبق إيراده من مواطن الاشتباه ومزاعمه ومطاعنه، يترقى الأمر ويرتقي عند بروكلمان بحيث يصل في كثير من المواضع إلى درجة إنصاف الحق والاعتراف بالفضل، وفيما يأتي بيان بأهم هذه المواضع:
• عظمة الفتح الإسلامي:
إذ يحدثنا عن فتح الرسول الأعظم لمكة ومنعه القتال إلا في الضرورة القصوى، فيقول: ((وأمر محمد جنوده بالتقدم إلى مكة من جهتين في وقت معا، فلم يلقوا شيئا من المقاومة إلا عند الباب الجنوبي، الذي كان يحتله حزب الحرب، ولعلهم احتلوه للاحتفاظ بخط الرجعة فيشقون طريقهم منه إلى اليمن، ولكن خالد بن الوليد قضى على هذه المقاومة في يسر كثير، وهكذا ألقت مكة بنفسها دونما صراع جدي، على قدمي ابنها العظيم الذي آذته وأتباعه قبل ثماني سنوات واضطرتهم إلى الهجرة))( ).
• اذهبوا فأنتم الطلقاء:
وفي تعبير جيد يذكر لنا بعضًا من نتائج هذا الفتح العظيم، فلقد أطلق سراح المكيين جميعا إلا عددا له سابقة عنده، يقول في ذلك: ((ولم يعاقب بالقتل من خصومه القدماء إلا أفرادا قلائل ذوي جرائم خاصة بهم، بينهم مغنيتان سبق لهما أن أنشدتا بعض الأغاني في السخرية به، مظهرا من التساهل والتسامح مع الآخرين، قدرا عظيما أثار حسد المدنيين، على الرغم من أن الأيام لم تلبث أن برهنت لهم أن تخوفهم من بقاء النبي في مكة كان في غير محله))( ).
• لا إكراه في الدين:
وانطلاقا من هذه القاعدة القرآنية في نشر الإسلام، والتي كان يتعامل بها النبي مع غير المسلمين، يذكر لنا بروكلمان محاولات النبي في إقناع أحد أساقفة النصارى بالإسلام دون جدوى ودون إجبار، يقول: ((ولقد استنفد النبي كل ما أوتيه من قوة الحجة ليقنع أسقف هذه الكنيسة، أبا الحارث، والأمير عبد المسيح في الدخول في الإسلام، وكانا قد قدما المدينة لمفاوضته وجها لوجه، فلم يوفق إلى ذلك، وأخيرا اكتفى محمد بأن يعقد معهما معاهدة تمنح نصارى نجران حرية المعتقد، مقابل جزية ضخمة))( ).
ويقول أيضا: ((وهناك جاء صاحب إيلة (العقبة اليوم) عند الطرف الشمالي الشرقي من جانب البحر الأحمر الأيمن، وكان نصرانيا فأقسم له يمين الطاعة، فمنح الرسول نصارى تلك المنطقة حرية العبادة أيضا مقابل تعهدهم بأداء الجزية))( ).
• فتح الفاروق بيت المقدس وعهده الشهير:
ويقول عن افتتاح المسلمين بيت المقدس بحضور الفاروق ذلك وإعطاء أهل إيلياء عهده الشهير: ((ومن هناك وجّه عمرُ خالدَ بن ثابت لفتح بيت المقدس التي لم تلبث أن طلبت السلام، فتولى عمر نفسه عقد الصلح مع أهلها، وكانت شروطه رفيقة غير ثقيلة، فقد أعطاهم عمر الأمان لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم كما منحهم الحرية الدينية على أن يعطوا الجزية للمسلمين، وعلى ألا يسكن بيت المقدس معهم أحد من اليهود، والواقع أن عمر سار بنفسه إلى بيت المقدس، فدخل ساحة الهيكل المهجورة فأزال الردم بيده عن الصخرة المقدسة التي يعدها اليهود والنصارى والمسلمون جميعا منتصف الأرض، وأمر ببناء المسجد هناك))( ).
• مقاصد صالحة لحاكم مسلم:
ويقول عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ومحاولات إصلاح الدولة ومقاصده الجليلة في ذلك: ((ومهما يكن من أمر فقد كانت مقاصد عمر صالحة، وهي لم تصدر – كما زُعِمَ – عن عقل لاهوتي يسعى وراء الآخرة، ولكنه لم يُعْطَ الفرصة الكافية لإنفاذها، في همة ونشاط خلال حكمه القصير))( ).
• آثار الحضارة العربية في البلدان الأوروبية:
إذ إن بقايا الحضارة العربية الإسلامية لتشهد بعظم المسلمين وشموخ دينهم، وكانت بلاد الأندلس وجزيرة صقلية هما مشعل الحضارة والتمدن الحقيقي لبلدان أوروبا قاطبة، يقول عن صقلية مثلا: ((وفي الحق أن سنوات السلام الثلاث والسبعين التي قدِّر للعرب أن ينعموا بها في صقلية منذ ذلك الحين كانت كافية لنشر حضارتهم والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين قضوا على الحكم العربي سنة 1060م في عهد الكونت رُجار على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية وفي فنهم أيضًا، وفي سنة 1154م ألف الإدريسي، (العالم العربي)، لرجار الثاني، كتابه الشهير في صفة الأرض (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق). ليس هذا فحسب بل إن فريدريك الثاني (1197م – 1250م) الذي خلف النورمانديين في حكم صقلية عني بتنمية هذا التراث إعجابًا منه بعلوم العرب وبأساتذتهم اليونان))( ). وفي علوم الطب وتأثر أوروبا بالفيلسوف الطبيب ابن سينا، يقول بروكلمان: ((وهكذا نجد ابن سينا الفيلسوف والطبيب الشهير الذي بدأ إنتاجه في عهد نوح بن منصور (976 – 997م) ثامن الأمراء السامانيين، يضع بالعربية مؤلفاته الفلسفية (القانون) الذي كان المرجع الأساسي في علم الطب بأوروبة، خلال القرون الوسطى، والذي ساد فن الشفاء برمّته، في فارس حتى وقت قريب))( ).
وفي الأندلس – إسبانيا والبرتغال حاليا - أقام المسلمون حضارة عظيمة شامخة ما زال أثرها بينا واضحا حتى الآن، يقول في ذلك: ((وفي عهد عبد الرحمن الذي تميز، على تطاوله، بالاستقرار الداخلي، شهدت الأندلس تفتّح حضارة زاهية أثارت إعجاب أوروبة في العصر الوسيط، ذلك أن الزراعة، والبستنة، والتجارة، والصناعة، انتهت كلها إلى درجة من الازدهار بعيدة، فقد زرع العرب الحبوب وأدخلوا إلى أوروبا زراعة النخيل، ولا تزال بقايا حدائقهم ماثلة إلى اليوم في حقول النخيل في أَلْش، جنوبي مقاطعة بَلنْسِية، وامتازت الأندلس بصناعاتها اليدوية، التي تعتمد المعدن والجلد، بصورة خاصة، وحتى اليوم لا يزال الجلد القرطبي يخلد اسم العاصمة الأندلسية في السوق العالمية))( ).
كذلك كان للفقيه الأندلسي ابن حزم الظاهري أثر في أغراض الشعر الغربي ورواجها في أناشيدهم وأغانيهم، يقول: ((كذلك ألف ابن حزم، الفقيه الظاهري الأندلسي، في شبابه، كتابًا تناول فيه بالبحث المفصل مختلف الرغبات الحبية وظواهرها، ممثلًا لذلك كله بطائفة من المقطوعات الشعرية، معظمها من نظمه، وههنا نقع، في حال من النضج الكامل، على جميع الأغراض الشعرية التي راجت بعد في الغرب، في أناشيد التروبادور البروفنساليين، وأغاني الجرمان الغرامية... وأغلب الظن أن فن هؤلاء جميعًا قد خضع للمؤثرات الأندلسية، وإن يكن متعذرًا من غير شك، تعيين السبل التي انتقلت بواسطتها هذه المؤثرات عبر الجزء الشمالي في تلك الأيام ضئيل إلى أبعد الحدود))( ).
ويقول أيضا: ((وما هي إلا فترة يسيرة حتى شرع في وضع مؤلفه الديني التاريخي العظيم، (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)، وهو كتاب لم يُسبق إلى مثله في الأدب العالمي، عرض فيه لمختلف الفرق الإسلامية، وللديانتين اليهودية والنصرانية، أيضًا، بأقسى النقد وألذَعِهِ، طاعنًا عليها ومندّدًا بأصحابها جميعًا))( ).
أما عن الطب في بلاطات الأندلس فإنه يحدثنا عن شأنه وأثر علماء العرب بما وضعوه من مؤلفات فيه على أوروبا، يقول: ((وكان الطب يُعتبر في بلاطات الأندلس، شأنه في المشرق، أرفع العلوم اليونانية شأنًا وأسماها مقامًا، ولقد ألّف أبو القاسم الزهراوي، المنسوب إلى الزهراء ضاحية قرطبة المتوفي حوالي سنة 1023، كتابًا جامعًا لأبواب الطب كلها، والحق أن الأجيال التالية احتفلت احتفالًا خاصًا بالجزء المفرد للجراحة في هذا الكتاب؛ لما يشتمل عليه من وصف مفصّل للآلات الجراحية، فنقل إلى اللاتينية في القرن الخامس عشر، ونشر في طبعات عدة))( ).
ويقول عن تأثر الأدب العبري بالشعر العربي: ((أما سليمان بن يحيى بن جبيرول، الذي حظي فترة برعاية ابن نغرالة وتأييده، فمدينٌ بشهرته عند اليهود لقصائده العبرية التي تتكشف، في وضوح، عن أثر الشعر العربي في الأدب العبري، ولكنه فرغ أيضًا لدراسة فلسفة ابن مسرة، دراسة عميقة، ضمّنها كتابه (ينبوع الحياة) الذي نقله إلى اللاتينية اليهودي المتنصر، يوحنا الإسباني الطليطلي، فاكتسب صاحبه شهرة بين فلاسفة اللاهوت المدرسيين في الغرب حيث حُرِّف اسمه فصارAvicebrolأوvicebron ))( ).
• خيانة وإكراه:
عندما استولى النصارى الفرنجة على الأندلس، لم يلتزموا بما تعاهدوا عليه مع المسلمين، وأنشأوا محاكم التفتيش لكل من بقي على الإسلام، فخانوا عهدهم وأكرهوا المسلمين على تنصيرهم وترك إسلامهم، يقول في ذلك: ((ثم إن ديوان التفتيش أكره من بقي من المسلمين في إسبانية على اعتناق النصرانية، غير عابئ بما نصت عليه شروط الاستسلام، ولكن جموعًا غفيرة منهم جازت الزقاق إلى مراكش فزهت على أيديهم حضارتها، وانتشرت أوارها في الأقاليم الجنوبية))( ).
• تقييم موضوعي لقيادات إسلامية:
وفي كلامه عن شخصيات إسلامية حاكمة كان لها أثر إيجابي في عهد حروب الفرنجة – الصليبيين – يعرض لنا بموضوعية جيدة شخصية الأمير عماد الدين زنكي – مؤسس الدولة الزنكية – قائلا: ((وكان عماد الدين جنديًّا بارعًا وسياسيًا لبقًا، بل كان فوق ذلك إداريًّا ممتازًا، فوُفق بهذه الصفات التي اجتمعت له إلى توسيع رقعة سلطانه شيئًا بعد شيء، حتى إذا توفي سنة 1146م كانت هذه الرقعة تنتظم كامل الجزيرة الفراتية تقريبًا حتى الشمال، حيث كان الأرتقيون لا يزالون يحتفظون بماردين وجزء كبير من سورية، وكان عماد الدين رءوفًا برعيته معنيًّا بمصالحها، حتى لقد دعاه السكان، غير مرة، إلى أن ينصرهم على جلاديهم السابقين، وساد العدل في أيامه واطمأن الناس إلى سلامتهم الشخصية، بعد أن أتى على تلك البلاد حين من الدهر عَدِمَ فيه الناس الثقة والأمن، فلقد كان ما حول المسجد الجامع في المدينة قاعًا صفصفًا، عند ارتقائه العرش، فإذا به عند وفاته ميدان مكتظ بالمباني العامرة، وليس من شك في أن أعظم مآتيه، وآخرها، انتزاعه الرهاء، سنة 1144م من أيدي الفرنجة الذين سيطروا عليها نحوًا من نصف قرن))( ).
ثم ورث ابنه نور الدين محمود هذه الصفات منه وزاد عليها، يقول عنه: ((والواقع أن نور الدين ورث عن أبيه صفات الحاكم الفاضل إلى حد بعيد جدًا، فبينا كانت الكثرة المطلقة من الحكام الذين تصدروا لسياسة المسلمين، طوال أجيال عدة، يعتبرون ممالكهم إقطاعات واسعة يستغلونها لمصالحهم الخاصة، كان هو أول من استشعر أنه مسئول تجاه الله عن رفاهية رعيته. ومن هنا لم ينفق موارد الدولة الغزيرة، التي تمت له بالإرادة البارعة والتي لم تُثقل كاهل رعيته على كل حال، على تحصين بلاده وتوطيد مركزه الحربي في عالم زاخر بالأعداء ـ وهو ما اقتضته نفقات ضخمة ـ فحسب، بل أنفقها في المحل الأول على الشئون الثقافية والمساجد وزوايا الدراويش، وخانات المسافرين، والمستشفيات، ودُور العلم، والبيمارستان (المستشفى) الذي يحمل اسمه، والذي لم يلبث أن نما وتطور إلى مدرسة طبية راقية، ودفن نور الدين في المدرسة المعروفة باسمه))( ).
ثم يذكر خليفتيهما صلاح الدين الأيوبي في الجهاد ضد الفرنجة بعزيمته الراسخة وموهبته النادرة، فيقول: ((ووفق صلاح الدين، بعزيمته الراسخة وموهبته الدبلوماسية النادرة، إلى أن يثب من غمرة هذا الوضع الحرج الدقيق إلى قمة من القوة والسلطان لم ينته إلى مثلها أحد من أمراء الإسلام منذ عهد طويل))( ).
ثم يتحدث عن نبل القائد وشهامة المنتصر ومفاجئة الأجل، فيقول: ((ولم ينعم صلاح الدين بهذا الصلح الذي عقد أخيرا غير بضعة أشهر، ففي نهاية تشرين الثاني سار من القدس إلى دمشق حيث حُمَّ ومات، في شباط سنة 1193م، وليس له من العمر غير خمس وخمسين سنة، والحق أن حروب صلاح الدين ضد الصليبيين قد جعلته من أشهر ملوك الشرق في أوربة، أما الذاكرة الشرقية فلا يزال اسمه خالدا إلى جانب اسمي هارون الرشيد وبيبرس كرمز لحقبة من أسعد حقب التاريخ وأهنأها، وليس من شك في أن قلة ضئيلة من أمراء الإسلام كانت تضارعه من حيث تجرده عن أيما نزعة إلى الكسب الشخصي، ومن حيث انصرافه إلى خدمة دولته ورعاياها، ليس غير، ولم يستطع أعداؤه أنفسهم إلا الإقرار له بالشهامة والنبل في معاملة الخصم المغلوب، ليس هذا فحسب، فقد كان صلاح الدين بالإضافة إلى ذلك نصيرا للعلم))( ).
ويقول عن الفارس الشاعر أسامة بن منقذ أحد مخضرمي الدولتين الزنكية والأيوبية في نزاهته وعدله وموضوعيته عند الحكم على غير المسلمين: ((وإنه ليبلغ غاية عجيبة من النزاهة والتجرد في أحكامه على المسلمين والنصارى جميعا))( ).
أما عن العثمانيين فإنه تناول أحد حكامهم الأُوَل بصورة منصفة يغير من الصورة الشائعة عنهم أنهم بداة وأجلاف: ((وفي سنة 1327م سقطت إزميد أيضا في أيدي أورخان الذي عبر بوصفه مسلما صادقا عن تقديره للمعرفة - التي كانت رعايتها عنوانا من أعظم عناوين المجد عند الحكام المسلمين في جميع الأجيال - فأنشأ أول جامعة عثمانية (مدرسة) وعهد في إدارتها إلى داود القيصري أحد العلماء الذين تلقوا العلم في مصر))( ).
وليس أدل على اهتمامهم بالعلم والصناعة وازدهار المدن المفتوحة من قوله: ((وحاول البيزنطيون استخلاص نيقية - على الأقل - ولكن الجيش الذي أسندوا إليه هذه المهمة لم يلبث أن هزم عند طاوشانلي سنة 1330م، وتعين على المدينة أن تستسلم للعثمانيين، وما هي إلا فترة حتى استعادت مكانتها كمركز لصناعة القياشاني، ومقر لعدد من معاهد التعليم))( ).
وفي إشارة جيدة ولمحة ممتازة يحدثنا عن السلطان محمد الفاتح وحسن إدارته لتنظيم أحوال البلاد، وعدم إكراه أحد على التقاليد الإسلامية، يقول: ((وأيا ما كان فقد عمل السلطان محمد عَلَى تنظيم أحوال اليونان (الروم) المغلوبين، للتو والساعة، والواقع أنه أبقى على استقلال البلغار الكنسي، كما فعل أسلافه من قبله، واعترف وفقا للفكرة الإسلامية المعززة بالتقاليد الدينية بجميع السلطات الدينية اليونانية، بل إنه زادها إلى قوة بأن وكل إليها أمر القضاء المدني وتطبيق أحكامه على أتباعها))( ).
وكان شديد الاهتمام بالنهضة والعلم وإقرار السلام، يدلل على هذا قول بروكلمان: ((وكان السلطان محمد من المعجبين بتراث الرعايا المحتقرين الفني أيضا، ففي صيف سنة 1458م وبينا كان يحاول إقرار السلام في اليونان مَنَحَ أثينا استقلالها الداخلي؛ لافتتانه ببقايا التراث الكلاسيكي التي كانت - ولا تزال - محتفظة بروعتها وجلالها، كذلك كان شديد الاهتمام بالنهضة التي تفتحت أكمامها في إيطالية، فقد طلب إلى جمهورية راجوزه مرة أن تدفع إليه الجزية مخطوطات تجمع من إيطالية والواقع أنه تخطى التحريم الإسلامي للتصوير، فعهد إلى أحد فناني البنادقة (جنتيل بليني) في أن يخرج له صورة زيتية ولا تزال هذه الصورة محفوظة إلى اليوم في مجموعة لايارد بالبندقية))( ).
أما السلطان سليم الأول الذي اشتهر عنه فروسيته وشجاعته وفتوحاته حتى خشيت أوروبا المسيحية أن تنهار أمامه، فإنه بالإضافة إلى ذلك كان شاعرا جيدا ذا روح وعاطفة وإحساس أخَّاذ، حتى إن أحد القياصرة الروس في القرن الماضي تقرب بديوانه وقدمه هدية للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، يقول بروكلمان في ذلك: ((ولكن هذا الجندي الكبير كان مثل محمد الثاني فاتح القسطنينية، مولعا بالشعر فهو ينظمه بالفارسية، ولقد نشر بول هورن ديوانه، سنة 1904م، بأمر من القيصر ولهلم الثاني، ليقدم هدية إلى السلطان عبد الحميد في طبعة ممتازة أخرجها مكتب الطباعة الإمبراطوري))( ).
وعن الجيش العثماني وإطراء روح النظام والتدين لديه – فلقد كان لتدين الجيش أثر كبير في غلبته وانتصاراته – يقول: ((والحق أن جميع المصادر الأوربية حافلة بإطراء روح النظام التي تكشَّف عنها الجيش العثماني، فلم يكن فيه مكان للخمر أو القمار، أو البغاء، وهي آفات لم تسلم منها في يوم من الأيام جيوش أوروبة، لذلك العهد، وكانت الحرب ضد الكافرين لا تزال تعتبر واجبا دينيا، ولقد كان لذلك أثر كبير في ضمان الغلبة على النصارى، يوم كان الجيش العثماني في أوج قوته))( ).
• انتشار الحرية الدينية في ربوع الخلافة العثمانية:
كانت الدولة العثمانية ملجأ للحرية الدينية لكثير من الطوائف والجماعات، فلم تكن تتدخل في أمور الدين وقضايا شعوبها غير المسلمين، حتى إن اليهود المطرودين من إسبانيا والبرتغال تنعموا في ظل الدولة، وعاشوا آمنين، يقول بروكلمان عن ذلك: ((وإذ كانت الدولة العثمانية لا تتدخل – من حيث المبدأ – في قضايا الدين، فقد انتهت في الواقع إلى أن تصبح ملجأ للحرية الدينية بالنسبة إلى اليهود المطرودين من إسبانية والبرتغال عند منبلج القرن السادس عشر، فما وافت سنة 1590م، على وجه التقريب، حتى بلغ عدد سكان الحي اليهودي في استانبول نحوا من عشرين ألفا))( ).
ونتيجة لذلك – بطبيعة الحال – قوي بطريك الروم وتعاظم نفوذه وسلطانه في عهد العثمانيين أكثر مما كان عليه في عهد البيزنطيين، يقول بروكلمان في ذلك: ((والواقع أنه كان لبطريك الروم (القسطنطينية) من القوة والسلطان – في ظل العثمانيين - أكثر مما كان له في عهد بيزنطة نفسها، وكانت مراسيم المعمودية والزواج والدفن تقام علانية، وفي فخامة وأبهة في معظم الأحيان - ليس هذا فحسب - بل لقد كانت السلطات العثمانية نفسها تسعى في الأعياد الكبرى إلى أن تضمن للمصلين جوا من الهدوء وذلك بأن تعهد إلى حرس الانكشارية في المرابطة أمام أبواب الكنائس))( ).
وفي مفارقة عجيبة يذكر لنا بروكلمان ما كان من اليونانيين عندما سيطروا على إزمير واقترفوا فيها الفظائع الشديدة، يقول: ((وهكذا ثارت ضد اليونان ـ الذين اقترفوا من الفظائع في إزمير شيئًا لم يُسمع بمثله من قبل ـ عصابات تركية من المجاهدين (باش بوزق) يقودها الحداد أفه محمد، ويوروك علي))( ).
• أهداف الاحتلال من وراء ستار:
رغم ادعاءاته السابق ذكرها حول التمدين الحضاري الذي أتى به الاستعمار، نجد بروكلمان وفي مفارقة عجيبة يتعرض لأهداف الاحتلال البريطاني للوطن العربي عامة ولفلسطين خاصة، يقول في ذلك: ((كانت خيبة آمال العرب في فلسطين، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى أشد وأمر من خيبة آمال السوريين أنفسهم؛ لأنهم بذلوا تضحيات كبرى، في جانب البريطانيين ـ بسبيل تحرير بلادهم من الحكم التركي، والحق أن الشريف حسين كان دائمًا ينظر إلى فلسطين وبيت المقدس ـ وهي محل تقديس من جانب المسلمين أيضًا ـ كجزء أساسي من الدولة العربية التي كان يرجو إقامتها، غير أن الحملة التركية على قناة السويس أقنعت بريطانيا مرة ثانية، بصحة النظرية التي طالما برهن التاريخ على صوابها: أن التحكم في شئون مصر لا يتم إلا من قاعدة سورية، وأن شبه جزيرة سيناء التي استولت عليها لتلك الغاية لم تكن تفي بالمراد، وفي سنة 1915م أقر اللورد غاري ولويد جورج المشروع الذي وضعته القيادة العليا في مصر والقاضي بضم فلسطين إلى الإمبراطورية، ولكن الحكومة البريطانية رأت من الحكمة أن تخفي هذه الخطة وراء ستار إنساني، وقد وجدت ذريعة ملائمة لذلك في المطالب التي انبثقت عن المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة بال، وفي آب (أغسطس) سنة 1897م، لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين))( ).
وعن الاحتلال غير الشرعي لليهود لفلسطين، وتدفق هجراتهم من دول شتى إليها، يقول: ((وفي سنة 1933م تدفق على البلاد سيل من الهجرة اليهودية من ألمانيا، وأخذت هذه الهجرة في التضخم حتى بلغ عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين 61541 مهاجرًا خلال سنة 1935م، فكان طبيعيًّا أن يُحدث هذا كله رد فعل عنيف من جانب العرب، وفي هذه الفترة عقد النصارى والمسلمون الخناصر للدفاع المشترك عن البلاد، وتوارت عن المسرح أيضًا خصومات الأسر الإسلامية المتزعمة، هذه الخصومات التي كانت حتى ذلك الحين عنيفة صارخة، واكتسب مفتي القدس (الحاج) أمين الحسيني، بوصفه زعيم المسلمين، نفوذًا متعاظمًا يومًا بعد يوم، وإذا كانت النقمة العربية قد عبرت عن نفسها أول الأمر من طريق اصطدامات متفرقة وقعت بين العرب واليهود ـ بصرف النظر عن التعرض للسياح، وهو أمر مألوف منذ القدم ـ وعجزت شرطة الدولة المنتدبة نفسها عن وقفها، فقد بلغت هذه النقمة الآن أوجها لتنقلب شيئًا بعد شيء إلى حرب أهلية، ومنذ سنة 1935م نظَّم المتطوعون العرب صفوفهم ليربحوا لمواطنيهم معركة الاستقلال وتقرير المصير، وليس في ميسورنا أن نفصل القول ههنا، وليس من حاجة إلى ذلك، على هذه الأحداث المحزنة، خاصة وأننا لا نملك حتى الآن الوثائق الموضوعية التي تساعدنا على إصدار الحكم))( ).
المصادر والمراجع
أولا. المصادر:
1. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: سيد بن محمد السِّنَّاري، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 2010م.
2. أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: دلائل النبوة، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2007م.
3. الأسفراييني: ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام, المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, القاهرة,2011م.
4. بدر الدين الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل أحمد علي الدمياطي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2006م.
5. ابن حزم: الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل، دار الحديث، القاهرة، 2010م.
6. أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي: صفة الصفوة، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2009م.
7. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: عبد العزيز بن باز، دار الحديث، القاهرة، 2004م.
8. الحافظ ابن كثير: البداية والنهاية، المجلد الرابع، الجزء الثامن، مكتبة المعارف، بيروت، بدون.
9. شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج3، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي ، مأمون صاغرجي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1990م.
10. محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2001م.
ثانيًا. المراجع:
1- أحمد حطيط: المغيرة بن شعبة، دار الفكر اللبناني، ط1، 1992م.
2- أحمد كامل محمد صالح: دولة الخلفاء الراشدين، دار الهاني، القاهرة، 2006م.
3- أبو الوفا أحمد عبد الآخر: التآمر على التاريخ الإسلامي، ط2، 2006م.
4- تمام حسان: البيان في روائع القرآن، مكتبة الأسرة، ط2، 2003م.
5- تشارلز آدمس: الإسلام والتجديد في مصر، نقله: عباس محمود، تقديم: مصطفى عبد الرازق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط2، 2006م.
6- توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن، د. عبد المجيد عابدين، د. إسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1947م.
7- حسين مؤنس: تاريخ المغرب وحضارته، العصر الحديث للنشر والتوزيع، ط1، 1992م.
8- خالد زيادة: المسلمون والحداثة الأوروبية، مكتبة الأسرة، القاهرة، ط1، 2010م.
9- دانيل دينيت: الجزية والإسلام، ترجمة د. فوزي فهيم جاد الله، منشورات دار مكتبة الحياة.
10- رجاء جارودي: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة: د. عبد الصبور شاهين، نهضة مصر، القاهرة، ط3، 2010م.
11- سيجريد هونكه: شمس الله تشرق على الغرب، ترجمة: أ.د/ فؤاد حسنين علي، دار العالم العربي، القاهرة، ط2، 2011م
12- السيد سابق: فقه السنة, دار الفتح, القاهرة, ط21, 2009م.
13- شوكت محمد عليان: الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، دار الشواف، بيروت، ط2، 1996م.
14- صفي الرحمن المباركفوري، وإنك لعلى خلق عظيم، كندة للإعلام والنشر، ط1، 2006م.
15- عامر حسين السلامي: حديث الإفك: دروس وعبر، دار الإيمان، الإسكندرية، ط1، 2005م.
16- عباس محمود العقاد: اللـــه، نهضة مصر، القاهرة، ط7، 2010م.
17- عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، نهضة مصر، ط8، 2009م.
18- الأب عبد الأحد داود الأشوري، محمد في الكتاب المقدس، ترجمة: رمضان الصفناوي، دار طيبة، الجيزة، ط1، 2009م.
19- عبد الشافي محمد عبد اللطيف: بحوث في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2006.
20- عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، نهضة مصر، القاهرة، ط4، 2008م.
21- عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي، دار الحديث، القاهرة، 2009م.
22- عبد الله محمد جمال الدين: إنصاف الخليفة عثمان من افتراءات صاحب الكشف والبيان، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: قضايا إسلامية، العدد 44، 1999م.
23- عبد المتعال محمد الجبري: الاستشراق وجه للاستعمار الفكري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1995م. 24- عثمان بن محمد الخميسي: حقبة من التاريخ، مكتبة الإمام البخاري، ط4، 2008م.
25- علي جريشة: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي, دار الوفاء, ط3, 1979م.
26- علي الصلابي: خلافة عبد الملك بن مروان ودوره في الفتوحات الإسلامية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 2006م.
27- علي عبد الواحد وافي: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، دار نهضة مصر، ط10، 2011م.
28- غوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، دار العالم العربي، القاهرة، ط2، 2011م.
29- كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ت: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1969م.
30- كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد، ترجمة: د. فاطمة نصر، د. محمد عناني، كتاب سطور (1)، 1998م.
31- كارين أرمسترونج: القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر، د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2009م.
32- لبنى شاكر: اخترت الإسلام، دار طيبة، الجيزة، ط1، 2010م.
33- مجموعة مؤلفين: موسوعة بيان الإسلام، القسم الأول: القرآن، المجلد الثالث، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2011م.
34- محمد أمحَزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، دار السلام، القاهرة، ط2، 2007م. 35- محمد أمحزون: منهج دراسة التاريخ الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، طبعة سنة 2011م. 36- محمد بكر إسماعيل: الفقه الواضح, دار المنار, ط2, 1997م. 37- محمد جلاء إدريس: إسرائيليات: مقالات ودراسات، مكتبة الآداب، ط1، 2007م.
38- محمد جلاء إدريس: الاستشراق الإسرائيلي في المصادر العربية، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 1995م.
39- محمد حسن زماني: الاستشراق والدراسات الإسلامية لدى الغربيين, ت: محمد نور الدين عبد المنعم, المركز القومي للترجمة, القاهرة, ط1, 2010م.
40- محمد سعيد رمضان البوطي: لا يأتيه الباطل، دار الفكر، دمشق، ط1، 2007م. 41- محمد شفيع: مقام الصحابة وعلم التاريخ، ت: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، جيزة، ط1، 1989م. 42- محمد الصادق إبراهيم عرجون: محمد رسول الله، دار القلم، دمشق، ط3، 2009م.
43- محمد عبده: الأعمال الكاملة، تحقيق: د.محمد عمارة، ط1، 2009م.
44- محمد عمارة: في فقه المواجهة بين الإسلام والغرب، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2003م.
45- محمد الغزالي: الاستعمار: أحقاد وأطماع، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2003م. 46- محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، نهضة مصر، القاهرة، ط9، 2007م.
47- محمد الغزالي: سر تأخر العرب والمسلمين، نهضة مصر، القاهرة، ط10، 2009م.
48- محمد الغزالي: ظلام من الغرب، نهضة مصر، القاهرة، ط6، 2007م.
49- محمد الغزالي: عقيدة المسلم، دار نهضة مصر، ط8، 2008م.
50- محمد الغزالي: فقه السيرة، دار الشروق، ط7، 2011م.
51- محمد قطب: المستشرقون والإسلام، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1999م.
52- محمود محمد شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 2006م.
53- محمود محمد شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط8، 2000م، ج3.
54- موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، دار طيبة، الجيزة، ط1، 2008م.
55- نجيب العقيقي: المستشرقون, دار المعارف, القاهرة, ط5, 2006م.
56- هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح، ت: أحمد فتحي زغلول، مكتبة النافذة، الجيزة، ط1، 2008م.
57- يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟، دار الشروق، القاهرة، ط5، 2006م.