نقاش:سفر حزقيال
السفر :
( أ ) أصالة السفر : عند مقارنة سفر حزقيال بسائر الأسفار النبوية، نجد أن أصالة سفر حزقيال لم تكن في الواقع موضع جدل على الإطلاق، كما لم يتطلب كتابته للسفر جهداً، وقد باءت بالفشل كل الجهود التي بُذلت لإثبات تعدد الكاتبين له.
أما الجهود التي قام بها زونز ( Zunz ) قديماً، ثم ساينكه ( Saineke ) لإثبات أن سفر حزقيال قد كتب في زمن الحكم الفارسي أو اليوناني، والمحاولة التي قام بها كروتزمان (Kroetzmann) لإثبات حدوث تنقيحين للسفر، فليس لها جميعها أي سند. أما ما يزعمه " فولز " ( Volz ) بأن الإصحاحات التسعة الأخيرة ( 40 ـ 48 ) قد كتبها تلميذ لحزقيال، فإنما زعم باطل لا أساس له. وهناك قناعة عامة بأن سفر حزقيال يتميز بوحدته حتى إننا إما نقبل السفر كله أو نرفضه كله، لكن ليس ثمة سبب واقعي يدعو إلى رفضه.
( ب ) محتويات السفر : إن أقسام السفر ـ بعامة ـ شديدة الوضوح، فالسفر ـ بداية ـ ينقسم إلى قسمين يفصل بينهما إعلان سقوط أورشليم في الإصحاح الثالث والثلاثين. والقسم الأول منها يتناول الإنذارات والتهديدات، أما القسم الثاني فيتكلم عن التعزية والتشجيع. ولعل يوسيفوس عندما قال إن حزقيال قد كتب سفرين كان يقصد هذين القسمين.
إن تقديم النبوات عن العزاء، بعد نبوات الوعيد والتهديد في أسفار نبوية أخرى، أمر له أهميته. والتقدير السليم لهذه الحقيقة عامل هام في صد الهجمات الموجهة إلى أصالة هذه الأسفار.
وقد اضطر حزقيال ـ حتى إلى وقت سقوط أورشليم ـ أن يناقض الآمال التي روَّجها الأنبياء الكذبة بأن الله لن يسمح بوقوع هذه الكارثة. فقد أكد حزقيال بكل إصرار وجزم أن الارتداد بلغ مدى بعيداً حتى إن الله لا يرى معه بداً من وقوع الكارثة، ولم يكن ثمة انتهاك لوصية من الوصايا ـ دينية أو أخلاقية ـ لم يضطر النبي إلى مواجهة الشعب به في الأقسام الثلاثة ( حز 3 : 16 ـ 21، 8 : 1 ـ 4، 20 : 1 ـ 10 إلى 24 : 1 ـ 14، إلى اليوم العاشر من الشهر العاشر من السنة التاسعة (589 ق. م.) حيث شبَّه أورشليم بالقدر التي تغلي وبها قطع اللحم والعظام، كما صوَّر خراب المدينة دون أن يبكيها أحد، بموت زوجته المفاجيء دون أن يُسمح له بالبكاء عليها.
وبعد الأجزاء الخمسة من القسم الفرعي الأول ـ الذي يشير إلى إسرائيل ـ والتي يقدم لكل منها بتاريخ جديد وبذلك يفصلها عن غيرها، مع ترتيبها ترتيباً زمنياً ( حز 1 : 1 ـ 3، ويليها مباشرة تكريس النبي للعمل، ثم 3 : 16 ـ 21، 8 : 1 ـ 4، 20 : 1 ـ 12، 24 : 1 ـ 5 ). يلي ذلك القسم الفرعي الثاني ويشمل أقوال الله السبعة ضد بني عمون ( 25 : 1 ـ 7 )، وموآب ( 25 : 8 ـ 11 )، وأدوم ( 25 : 12 ـ 14 )، والفلسطينيين ( 25 : 15 ـ 17 )، وصور ( 26 : 1 ـ 28 : 19 )، وصيدون ( 28 : 20 ـ 26 )، ومصر ( 29 : 1 ـ 16 ) وواضح أنها مرتبة ترتيباً جغرافياً، وأطولها هي النبوة ضد "صور" والنبوات ضد مصر وجميعها محددة بتواريخ معينة ( 26 : 1، 29 : 1، 30 : 1، 32 : 1 و 17) ولعل الإشارة ـ في الإصحاح التاسع والعشرين ـ إلى صور ( 29 : 17 ـ 21) هي آخر ما تنبأ به حزقيال ( في 571 ق. م.)، وقد وضعت هنا في مكانها المناسب، بسبب ارتباطها بالتهديد الموجه ضد مصر ( حيث أن الإصحاحات من الأربعين إلى الثامن والأربعين ترجع إلى 573 ق. م. ) كما جاء في (40 : 1 ).
ومن الواضح أن العدد سبعة لم يرد صدفة أو اعتباطاً، حيث يظهر في تهديدات أخرى من هذا النوع، أن رقماً رمزياً قد اختير قصداً، ففي إشعياء ( 13 إلى 22 ) نجد عشرنبوات، كما نجد عشر نبوات في إرميا (46 ـ 51). وهي حقيقة تعد ـ في مثل هذه الأحوال ـ حجة هامة في التصدي للهجمات الموجهة إلى أصالة السفر.
والأرجح أن الأجزاء الخمسة من القسم الفرعي الأول مع الأجزاء السبعة من القسم الفرعي الثاني، تكمل بعضها بعضاً، مكونة اثني عشر جزءاً ( انظر التركيب المشابه في الخروج 25 : 1 إلى 30 : 10 ) وكذلك التركيب المشابه في ( حزقيال 34 إلى 48 المكون من 5 + 7 أجزاء ). وعبارات الوحي ضد الدول الأجنبية لا تتلاءم فحسب مع وضعها بين الإصحاح الرابع والعشرين والعدد الحادي والعشرين من الإصحاح الثالث والثلاثين، بل إنها ـ بمضمونها ـ تساعد مساعدة بالغة على تفسير الصعوبة الموجودة في الإصحاح الرابع والعشرين، وبذلك تسد هذه الفجوة بصورة مرضية. فبوصول الأخبار بسقوط أورشليم في 586 ق. م. (انظر حز 33 : 21 ـ 29 ) ـ الذي سبق أن أنبأ به في الإصحاح الرابع والعشرين ـ والمسبوقة بنداء الرقيب لهم إلى التوبة (33 : 1 ـ 20)، والمتبوعة بتوبيخهم على القبول الظاهري لكلمة النبوة، يختم القسم الرئيسي الأول من السفر.
وينقسم القسم الرئيسي الثاني إلى قسمين فرعيين، يتناول أولهما تطور المستقبل ـ البعيد والقريب ـ بالنسبة لطبيعته الداخلية ومسار التاريخ ( حز 34 إلى 39 ):
( 1 ) الراعي الحقيقي لإسرائيل ( حز 34 ).
( 2 ) مصير أدوم ( حز 35 ).
( 3 ) خلاص إسرائيل من معاملة الوثنيين المزرية، وارتدادها عليهم ( حز 36 : 1 ـ 15 ).
( 4 ) تدنيس إسرائيل لاسم يهوه، وتقديس يهوه لاسمه ( حز 36 : 15 ـ 38 ).
( 5 ) إحياء الأمة الإسرائيلية ( حز 37 : 1 ـ 14 ).
( 6 ) توحيد المملكتين المنقسمتين ( حز 37 : 15 ـ 38 ).
( 7 ) الإطاحة بقوة الأمم الشمالية ( حز 38، 39 ).
أما القسم الفرعي الثاني ( ص 40 ـ 48 ) فيشتمل على إعادة ترتيب الشئون الخارجية للشعب في رؤية في مطلع عام 573 ق. م. فبعد المقدمة التوضيحية ( حز 40 : 1 ـ 4 ) تأتي:
( 1 ) إرشادات بخصوص الهيكل ( 40 : 5 إلى 43 : 12 ).
( 2 ) المذبح ( حز 43 : 13 ـ 46 : 24 ).
( 3 ) النهر العجيب الخارج من الهيكل والذي تنمو على شواطئه أشجار لا ينقطع ثمرها لأنها تعطي ثمراً جديداً كل شهر ( حز 47 : 1 ـ 12 ).
( 4 ) حدود الأرض وتقسيمها بين الأسباط الإثنى عشر ( حز 47 : 13 ـ 48 : 29 ).
( 5 ) حجم المدينة المقدسة وأسماء أبوابها الإثنى عشر ( حز 48 : 30 ـ 35 ).
ويبرز في البنود 3 و 4 و 5 رقم 12 بوضوح. ولعلنا نستطيع أيضاً أن نقسم كلا من البندين 1 و 2 إلى 12 جزءاً كما يلي:
فينقسم البند الأول إلى : ( 1 ) ـ حز 40 : 5 ـ 16، ( 2 ) ـ 17 ـ 27، ( 3 ) ـ 28 ـ 38، ( 4 ) ـ 39 ـ 47، (5) ـ 48 و 49، ( 6 ) ـ 41 : 1 ـ 4، ( 7 ) ـ 41 : 5 ـ 11، ( 8 ) ـ 41 : 12 ـ 14 ( 9 ) ـ 41 : 15 ـ 26، (10) ـ 42 : 1 ـ 14، ( 11 ) ـ 42 : 15 ـ 20، ( 12 ) ـ 43 : 1 ـ 12.
أما البند الثاني فينقسم إلى : ( 1 ) ـ 43 : 13 ـ 17، ( 2 ) ـ 43 :18 ـ 27، ( 3 ) ـ 44 : 1 ـ 3، (4) ـ 44 : 4 ـ 14، ( 5 ) ـ 44 : 15 ـ 31، ( 6 ) ـ 45 : 1 ـ 8، ( 7 ) ـ 45 : 9 ـ 12، ( 8 ) ـ 45 : 13 ـ 17، (9) ـ 45 : 18 ـ 25، ( 10 ) ـ 46 : 1 ـ 15، ( 11 ) ـ 46 : 16 ـ 18، ( 12 ) ـ 46 : 19 ـ 24).
وعلى أية حال فإن القسم الرئيسي الثاني جميعه ( ص 34 إلى 48 ) يحتوي على نبوات بالخلاص. لقد كان الناس حتى عام 586 ق. م. في حالة إطمئنان وثقة حتى اضطر حزقيال إلى توبيخهم. لكن بعد سقوط أورشليم، حدث تغيير في كلا الجانبين، فأصبح الناس في حالة يأس، وكان هذا هو الوقت المناسب للنبي لكي يبشرهم بالخلاص. وسنتناول النبوات الهامة في موضع آخر من هذا المبحث.
( 3 ) علاقته بإرميا :يشكل إرميا وحزقيال ثنائياً نبوياً، مثل إيليا وأليشع، وعاموس وهوشع، وإشعياء وميخا، وحجي وزكريا. وكما حدث عندما أرسل الرب يسوع تلاميذه اثنين اثنين ( لو 10 : 1 )، وكما ارتبط بطرس ويوحنا ( أع 3 : 1 )، وبولس وبرنابا ( أع 13 : 7 )، فقد تنبأ كلا النبيين في زمن واحد تقريباً، كما كان كلاهما من سلالة كهنوتية، وقد شهد كلاهما سقوط الأمة اليهودية، وعايشا مصير الدولة اليهودية إلى أن حلت بها الكارثة. وظلا يوبخان وينذران ويحثان، بل يعزيان ويشجعان.
وهناك تشابه كبير بينهما حتى في التفاصيل، كما في إنذار الرعاة غير الأمناء ( حز 34 : 2 ـ 6، إرميا 13 : 1 ـ 4 )، وفي الجمع بين المملكتين الشمالية والجنوبية وإدانتهما معاً رغم التنبؤ بتوحيدهما والصفح عنهما ( حز 23 : 16، إرميا 3 : 6 ـ 11، حز 7 : 15 ـ 22، إرميا 3 : 14 ـ 18، 23 : 5 و 6، 30 ـ 31 : 40 ).
كما يتشابه حزقيال وإرميا في نظرتهما الواقعية لحالة الشعب الدينية، فكلاهما يرفض القول الشائع : " الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست " ( حز 18 : 2، إرميا 31 : 29 )، وكذلك في إهتمامهما بحالة القلب لا بالمظهر ( حز 26 : 25 ـ 31، إرميا 24 : 7، 31 : 27 ـ 34، 32 : 39، 33 : 8 )، وفي تشبيههما الدينونة القادمة بالقدر الذي يغلي ( حز 24 : 3 ـ 14، إرميا 1 : 13 و 14)، ثم في نبواتهما عن المسيا كالملك الكاهن ( حز 21 : 25 و 26، 45 : 22، إرميا 30 : 21، 33 : 17 ـ 19). ولا يمكن فهم أحدهما تماماً منفصلاً عن الآخر، حيث أن الكتابات النبوية قد وجدت مكانها في الكتاب المقدس كأسفار قانونية فور تدوينها أو بعد ذلك بقليل ( انظر عبارة " الأنبياء الأولين " في زك 1 : 4، 7 : 7 و 12، وكذلك الاقتباسات المتزايدة باستمرار عن الأنبياء السابقين في الأنبياء المتأخرين، وكذلك عبارة يوسيفوس عن التعاقب الدقيق للأنبياء إلى زمن أرتحشستا).
ولعل حزقيال أراد من مقدمة سفره أن يربط بينه وبين سفر إرميا السابق له.
( 4 ) وضع السفر ومكانته بين الأسفار القانونية : في الكثير من المخطوطات العبرية، وبخاصة عند اليهود من الفرنسيين والألمان، تبدأ أسفار الأنبياء المتأخرين بإرميا فحزقيال فإشعياء. أما في النسخة الماسورية ومخطوطات يهود أسبانيا، فقد جاء ترتيب أسفار الأنبياء حسب الترتيب التاريخي وحجم السفر، فجاءت : إشعياء فإرميا فحزقيال.
ويقول جيروم إن في أول السفر وفي نهايته أجزاء غامضة، لذلك ـ مثلها مثل بداية سفر التكوين ـ لم يكن مسموحاً بقراءتها إلا لمن بلغ الثلاثين من العمر. وفي فترة إزدهار مدرستي هليل وشمعي، اعتبر سفر حزقيال ـ مع أسفار الأمثال والجامعة وأستير ونشيد الأنشاد ـ من الكتب التي طالب البعض بإخفائها عن العامة، ليس على أساس أي شك في قانونية السفر ـ حيث أن قانونيته كانت أمراً مقطوعاً به ـ ولا لمحاولة استبعاده من الأسفار القانونية، إذ لم يكن ذلك يتفق مطلقاً مع التقدير الرفيع الذي حظيت به هذه الأسفار، وبخاصة سفر أستير، بل كانت القضية هي إستبعاد هذه الأسفار من قراءة العامة لها في خدمات العبادة. ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، ولم يكن السبب في هذا الرأي، هو الشك في صدق وأصالة هذه الأسفار، بل بالنسبة لما تضمنته. كما أن زونز ( Zunz ) يضيف سبباً آخر هو الرغبة في تجنب تدنيس الرؤية المقدسة في بداية السفر، وليس ثمة شك في أن ما رأوه من اختلاف أسلوب هذا السفر عن التوراة، كان هو الدافع إلى عدم استحسان قراءته أمام العامة.
ثانياً : أهمية سفر حزقيال في التاريخ الديني لإسرائيل:
تدور النقطة الأولى من النقاط الخمس في هذا الموضوع، حول الخصائص الأساسية للسفر وأهميته، أما النقاط الأربع الأخرى فتدور حول دراسة محتويات السفر.
( 1 ) الخصائص الأساسية للسفر:
ليس من الصواب أن نعتبر حزقيال مجرد كاتب، كما يحاول البعض، لأنه كغيره من الأنبياء، إنما نطق بالأقوال التي أعلنها له الله ( حز 3 : 10 و 11، 14 : 2 ـ 25، 20 : 1 ـ 3 و 27، 24 : 18 ـ 20، 43 : 10 و 11 )، إلا أنه لم يتصل إلا بعدد قليل من الشعب، ولكنه اهتم ـ ربما أكثر من الأنبياء السابقين ـ بأن تصل رسالته إلى دائرة أوسع، وأن يكون لها تأثير دائم، وذلك بتدوينها في كتاب. وسنحاول هنا دراسة السفر، أولاً من جهة قيمته الشكلية والجمالية. ومن العسير أن نقدم في مثل هذه العجالة السريعة فكرة عامة عن الكنوز الهائلة من الأساليب البلاغية التي كانت طوع أمره في التعبير عن أفكاره.
( أ ) الرؤى :مما يجذب انتباهنا لأول وهلة، الرؤى العديدة، فمنذ البداية انفتحت له السماء ورأى رؤى الله : "وإذ بريح عاصفة جاءت من الشمال. سحابة عظيمة ونار متواصلة". وكان يحمل هذه البكرة أو المركبة ـ التي رآها ـ شبه أربعة حيوانات ( أي كائنات حية ) لها شبه إنسان. أما شبه وجوهها فوجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ممثلين بذلك كل الخليقة الحية. وتظهر هذه الحيوانات الأربعة أيضاً في رؤيا يوحنا ( رؤ 4 : 6 و 7 ) وقد رأى فيها البعض رموزاً للبشيرين الأربعة. وفي الإصحاح العاشر تتحرك مركبة العرش هذه في الرؤيا تاركة الهيكل، ومتجهة إلى الشرق، ثم تعود للظهور ثانية في النبوة عن الخلاص ( ص 43 ). كما يجب أن تُفهم الإصحاحات التسعة الأخيرة على أنها رؤيا ( انظر حز 40 : 2 ). ويجب أخيراً ألا ننسى إحياء الأمة اليهودية في الإصحاح السابع والثلاثين، حيث يصور ذلك ببقعة مليئة بعظام يابسة، ولكن هذه العظام تتقارب كل عظم إلى عظمه وتكتسي عصباً ولحماً ويُبسط عليها جلد وتهب عليها الروح فتحيا ( وكلمة ريح تعني الريح أو الروح ).
ويرى البعض أن رؤى حزقيال، مثل رؤى زكريا، لا تعبر عن خبرات واقعية، ولكنها صور أدبية، ويرجعون ذلك إلى أن عدد الرؤى كبيرجداً وأنها شديدة التعقيد، ولذلك من العسير عرضها وتقديمها كخبرات واقعية. ولكننا نقول بكل وضوح إن هذه القاعدة خطيرة وغير موضوعية ولا يمكن تطبيقها على هذه الحالة، فمهما كانت الحقائق المذكورة صحيحة في حد ذاتها، إلا أنها لا يمكن أن تؤدي بنا إلى هذه النتيجة، فلا يقتصر الأمر على عدم القطع بعدد الرؤى التي يحتمل أنها كانت خبرات واقعية ( فمثلاً في عاموس 7 و 8 خمس رؤى، تعتبر بوجه عام خبرات واقعية ). ومن المستحيل أيضاً أن نعتبره أمراً بديهياً بالنسبة إلى استحالة العمليات التي لا يمكن لنا تحقيقها في خبراتنا الشخصية، حيث أن هذه الرؤى جميعها من الوجهتين الدينية والأخلاقية ـ تتفق مع سائر نبوات العهد القديم، وإن كانت فريدة في طبيعتها.
وأخيراً ليس هناك ما يدعو لاعتبارها صوراً أو أشكالاً أدبية، لذلك نحن نتمسك تماماً بقناعتنا بأن تلك الرؤى إنما هي خبرات واقعية.
( ب ) الأعمال الرمزية : ونجد في سفر حزقيال أيضاً عدداً كبيراً من الأعمال الرمزية، فبناء على أمر الله لحزقيال، رسم حزقيال مدينة أورشليم على " لبنة " وجعل عليها حصاراً ( حز 4 : 1 ـ 3 ). كما أمره أن يتكئ على جنبه الأيسر وهو مربوط ثلاث مئة وتسعين يوماً ليحمل إثم بيت إسرائيل، ثم يتكئ على جنبه الأيمن أربعين يوماً ليحمل إثم بيت يهوذا، كل يوم عوضاً عن سنة ( 4 : 4 ـ 6). كما أمره الرب أن يكون الطعام الذي يأكله ـ خلال الثلاث مئة والتسعين يوماً ـ بالوزن، " كل يوم عشرين شاقلاً، من وقت إلى وقت تأكله. وتشرب الماء بالكيل "، وأن يخبزه على خثي البقر، وذلك إشارة إلى حال الشعب في أيام السبي.
كما أمر الرب حزقيال أن يأخذ موسى الحلاق ويمررها على رأسه ولحيته، ويقسم الشعر بالميزان، ويحرق ثلثه بالنار، ويضرب ثلثه الثاني بالسيف، ويذري الثلث الأخير إلى الريح، وأن يأخذ منه قليلاً بالعدد ويصره في أذيال ثوبه. وكان ذلك تصويراً لما سيحل بالشعب، فلا تبقى منه إلا بقية صغيرة ( 5 : 1 ـ 4 ).
ويأمره في الإصحاح الثاني عشر أن يهيء لنفسه أهبة جلاء، وأن يرتحل قدام عيونهم نهاراً، وأن يخرج مساء قدام عيونهم، وأن يغطي وجهه فلا يرى الأرض ( 12 : 1 ـ 16). وكان ذلك كله رمزاً إلى ذهاب بني إسرائيل إلى السبي في بابل، كما يرمز إلى أن ملك إسرائيل لن يرى الأرض التي سيسبى إليها، وهو ما حدث لأن الكلدانيين قلعوا عيني صدقيا الملك ( 2 مل 25 : 7).
كما أمره الرب أن يأخذ عصا " ويكتب عليها ليهوذا ولبني إسرائيل"، ويكتب على الأخرى "ليوسف عصا أفرايم وكل بيت إسرائيل"، وأن يقرنهما الواحدة بالأخرى كعصا واحدة، إشارة إلى أن السيد الرب سيجمع بني إسرائيل من كل ناحية ويصيرهم أمة واحدة، "ولا يكونون بعد أمتين ولا ينقسمون بعد إلى مملكتين" (37 : 15 ـ 22). ولا يمكن القطع بما إذاكانت هذه الأفعال الرمزية ـ أو علىالأقل بعضها مما يصعب تنفيذه عملياً، مجرد رؤى، كما في حالة توزيع كأس خمر سخط الله على جميع الشعوب ( إرميا 25 : 15 )، حيث لا يمكن تفسير ذلك إلا على أنه رؤية. إلا أنه يبدو لنا ـ على أي حال ـ أن اعتباره مجرد صورة مجازية أدبية هو أمر غير حتمي بل وغير مرضي.
( ج ) القصص الرمزية : من بين العديد من القصص الرمزية، يشد انتباهنا الأختين الخائنتين "أهولة وأهوليبة "، أي السامرة وأورشليم، حيث يصور حزقيال علاقتهما بالرب ثم خيانتهما له، في صورة مزرية جداً تمجها العقول الحساسة ( انظر الإصحاحين 23، 16 ). كما يصور حزقيال الملك صدقيا في صورة كرمة غرسها نسر عظيم ( أي ملك بابل )، ولكن هذه الكرمة تحولت نحو نسر عظيم آخر ( أي ملك مصر ). وبسبب هذه الخيانة تقلع أصول الكرمة ويقطع ثمرها فتيبس، حتى ينبت الله في النهاية شجرة جديدة من غصن آخر (ص 17 ).
( د ) المراثي : ونذكر منها ما جاء في الإصحاح التاسع عشر عن اللبوة التي ربت أشبالاً واحداً بعد الآخر، ولكنها أخذت أيضاً الواحد بعد الآخر في مصيدة وسيقت بخزائم، والإشارة واضحة إلى يهوآحاز ويهوياكين، ثم أن اللبوة ـ التي شبهت قبلاً بالكرمة ـ تنفى إلى أرض بعيدة (صدقيا). كما رفع حزقيال مرثاة أخرى على صور التي شبهها بسفينة فاخرة (27 : 1 ـ 36 )، ومرثاة أخرى على ملك صور الذي طرح من فوق " جبل الله " ( 28 : 11 ـ 19 )، ثم مرثاة على فرعون ملك مصر مشبهاً له بتمساح في البحار ( 32 : 1 ـ 16 ).
ولقد رأينا فيما سبق أن معاصري حزقيال عرفوا له قدره من الناحية الجمالية على الأقل، فأي إنطباع يتركه حزقيال علينا اليوم ؟ كثيراً ما يوصف اليوم بأنه : " من أعظم الشعراء "، "رائع الخيال "، " تبدو قوته في صوره المجازية البليغة ". وفي نفس الوقت هناك من يقول عنه: "ليس لديه موهبة شعرية "، أو أنه " أكثر الكتَّاب رتابة بين الأنبياء ".
وثمة أفكار أخرى كثيرة مشابهة تقال اليوم عن حزقيال، ويقول " فردريك فون شيلر" (F-von Schiller) إنه كان من عادته أن يقرأ سفر حزقيال لما فيه من روائع الوصف، بل إنه كان يريد شخصياً أن يتعلم العبرية لكي يستمتع بقراءة السفر في لغته الأصلية. كما أن "هردر" (Herder ) ـ وله دراية غير منكرة بشعر كثير من الأمم ـ يسمي حزقيال : " أسخيلوس (شاعر يوناني يعتبر أبا التراجيديا اليونانية ) العبرية وشكسبيرها ".
( 2 ) حزقيال والنظام اللاوي :
( أ ) حزقيال 44 : 4 ـ 8 القول بأن حزقيال كان أول من ميز بين الكهنة واللاويين:
( 1 ) الحقائق الكتابية عن هذا الموضوع : في الرؤيا عن إعادة بناءالعلاقات الخارجية للشعب في المستقبل ( الإصحاحات 40 ـ 48 )، وفي الجزء المختص بنظام العبادة ( 43 : 13 ـ 46 : 24 )، يوبخ حزقيال بني إسرائيل بناء على أمر الرب : " لأنه هكذا قال السيد الرب : " ابن الغريب أغلف القلب وأغلف اللحم لا يدخل مقدسي "، وذلك لأن بني إسرائيل أدخلوا أبناء الغرباء غلف اللحم للخدمة في مقدس الرب، فنجسوا الهيكل، كما أنهم لم يحرسوا حراسة أقداس الرب، بل أقاموا حراساً يحرسون ـ عوضاً عنهم ـ مقدس الرب ( 44 : 4 ـ 9 ). بل كان على اللاويين ـ الذين ابتعدوا سابقاً حين ضل بنو إسرائيل وراء أصنامهم في المرتفعات، فكانوا معثرة إثم لبيت إسرائيل، فمنعهم السيد الرب من أن يكهنوا له أو أن يقتربوا من أقداس بيته، بل كان عليهم أن يقوموا بحراسة بيت الرب لكل خدمة، لكل عمل ما يعمل فيه. لقد رُفضوا من الكهنوت عقاباً لهم على ذنبهم، أما الكهنة اللاويون بنو صادوق الذين حرسوا حراسة مقدس الرب، فهم وحدهم يتقدمون إلى الرب ليخدموه ويدخلوا مقدسه ويباشروا مهام الكهنة ( حز 44 : 9 ـ 16 ).
( 2 ) والتفسير الحديث لهذا النص ( 44 : 4 ـ 16) يعتبر واحداً من أهم الأدلة التي يستند إليها ويلهاوزن (Wellhausen) ومدرسته، فهم يزعمون أنه حتى القرن السابع قبل الميلاد، لم يكن هناك تمييز بين الأشخاص الذين يقومون بطقوس العبادة في إسرائيل. ويزعمون أن الدليل على ذلك مستمد من تاريخ الفترة السابقة، كما من سفر التثنية الذي يرجع به النقاد إلى ذلك التاريخ. ويقولون إن حزقيال كان أول من غيَّر ذلك، فهو في هذه الفقرة ( حز 44 : 4 ـ 16) يميز ـ لأول مرة ـ بين الكهنة والطبقة الأدنى من اللاويين، وبناء على ذلك، لم يكن حزقيال يعرف شيئاً عن وظيفة رئيس الكهنة، لأنها لم يكن قد أصبح لها وجود بعد. ويقولون إن الأمور جرت كما يلي: إن سفر التثنية الذي أبطل العبادة على المرتفعات وركز على إجراءات العبادة، أبدى إهتماماً بالكهنة المعزولين الذين كانوا يخدمون على المرتفعات، فسمح لهم بأن يباشروا عملهم في أورشليم مثل جميع إخوتهم من سبط لاوي، وسمح لهم أن يتمتعوا بنصيب مساوٍ لهم: "إذا جاء لاوي من أحد أبوابك ... حيث هو متغرب ... وخدم باسم الرب إلهك مثل جميع إخوته اللاويين الواقفين هناك أمام الرب، يأكلون أقساماً متساوية " ( تث 18 : 6 ـ 8 ) وبرغم الإقرار بجميع الوصايا الأخرى في سفر التثنية، فإن هذه الفريضة وحدها لاقت معارضة، فلم يسمح لكهنة المرتفعات بالصعود إلى مذبح الرب في أورشليم ( 2 مل 23 : 9 )، ولكن حزقيال ـ حسب رأي ويلهاوزن ـ " يخلع على منطق الحقائق رداء أدبياً بتصويره أن استبعاد كهنة المرتفعات كان عقاباً لهم على خدمتهم في المرتفعات على الرغم من أنهم كانوا يشغلون هذا المركز في الماضي بناء على حق شرعي.
ويقولون إن الواقع هو أن هؤلاء اللاويين لم يخضعوا بسهولة لهذا الأمر، ويستشهدون بأن ثورة قورح إنما كانت نتيجة لذلك ( الإصحاح السادس عشر من سفر العدد ).
كما يقولون أيضاً إن عدد الذين رجعوا مع زربابل من السبي كان 4289 كاهناً ( عز 2 : 36 ـ 39)، بينما لم يرجع من اللاويين سوى 74 ( عز 2 : 40 ) مما يدل على عدم رضى اللاويين على ذلك الوضع الذي ذكره حزقيال عن كهنة المرتفعات، فهم يرون أن حزقيال أوجد تمييزاً بين الكهنة وبين اللاويين، وجعل منهما فريقين منفصلين، ولكن سفر التثنية يذكر مراراً عبارة "الكهنة اللاويين" ( انظر تث 17 : 9 و 18، 18 : 1، 24 : 8، 27 : 9 ).
(3) وبتمحيص هذأ الرأى، نجد أن تفسيرهم لهذا الجزء من حزقيال (44: 4- 8) وكل ما بنوه عليه، لا أساس له ولا يمكن الدفاع عنه. إن هذا الافتراض لا يمكن إثبات أنه كان قائماً فيما قبل السبي، والزعم بأنه إلى القرن السابع قبل الميلاد، لم يكن في إسرائيل تمييز بين القائمين بالخدمات الدينية العامة، هو زعم يتنافى مع العقل، فشهادة التاريخ تدحضه، ففيما قبل السبي ورد ذكر الكاهن العظيم بوضوح (2 مل 9:12 و 10، 22: 4 و 8، 23: 4)، وبالتالي لم يكن "الكاهن العظيم" من نتاج فترة ما بعد السبي، كما كان عالي (1صم 1 :4)، وأخيمالك (1صم 21 و 22) وأبياثار (1مل 2: 26 و 27) وصادوق (1 مل 2: 35) يشغلون مركزاً أعلى بكثير من مجرد كاهن عادي. ورغم أن عبارة الكاهن العظيم (أو رئيس الكهنة) لم تذكر مع أسماء هؤلاء، إلا أنها مذكورة فيما يعتبرونه من القوانين الكهنوتية (انظر لا 21: 10، عدد 35: ه 2- 28). كما نعلم أن وظيفة الكاهن العظيم أو رئيس الكهنة، انتقلت من هرون الى ابنه ألعازار ثم إلى ابنه فينحاس (تث 10 :6، يش 33:24، قض 0 28:2، عدد 25: 11). وقبل زمن عالي انتقلمت وظيفة الكهنوت إلى نسل إيثامار الابن الآخر لهرون (1أخ 3:24)، ولكن بعد عزل إيثامار وإقامة صادوق، عاد الكهنوت ثانية إلى نسل ألعازار (1مل 26:2 و 27 و ه3 - انظر أيضاً (1صم 27:2 و28 و 35 و 36 مع 1أخ 3:24) كما نقرأ عن التمييز بوضوح بين الكهنة أنفسهم (أرميا 20: 1، 29: 25 و 26 و 29، 52: 24، 2 مل 18:25). وعلى نفس المنوال يُذكر اللاويون بوضوح في تاريخ الشعب (انظر القضاة من أصحاح 17- أصحاح 21، 1صم 6: 15، 2صم 15 :24، 1مل 3:8- 11). ولعل هذا التقسيم للسبط الكهنوتي إلى ثلاثة أقسام هو أساس تقسيم هيكل سليمان إلى ثلاثة أقسام: قدس الأقداس، والقدس، الدار. وبناء عليه لم يكن ممكناً ألا يوجد هذا التمييز في سفر التثنية وبخاصة إن كان هذا السفر لم يُكتب إلا في القرن السابع ق. م. - كما يزعمون- فلا بد أنه كان يذكر واقع الأحوال في ذلك الوقت. ولكن هذا الاختلاف موجود في سفر التثنية - ويمكننا التغاضي هنا عن التحديد الخاطيء لزمن كتابته - لأنه لو لم يكن الأمر كذلك، لكانت إضافة عبارة "كل سبط لاوي" إلى عبارة "الكهنة اللاويين" (تث 18: 1) لغواً لا قيمة له، ولكنها بوضعها هذا، نجد الآيات 3-5 تشير إلى الكهنة، والآيات 6-8 تشير إلي بقية اللاويين. كما أن اللاويين في التثنية (12:12 و 18 و19، 14 :27 و 29، 16: 11 و 14) هم موضوع الوصية، بينما تحدد الآيات (تث 3:18- 5) الموارد الثابتة للكهنة.
إن مثل هذه الأقوال العامة الواردة في التثنية (10: 8، 18: 2، 8:33) لا تستلزم هذه التوجيهات المحددة المذكورة في الأجزاء الكهنوتية - كما يزعمون، ولكن في التثنية (10: 9، 18: 2) إشارة مباشرة إلى ما جاء في سفر العدد (18: 20 و 24).
وعلى الجانب الآخر فإن سفر التثنية - وهو في مجموعه يشدد كل إسرائيل بروح التحريض الرعوي - لا يرى من المحتم أن يذكر - في كل مناسبة - الفروق الموجودة بين الفئات المختلفة من سبط لاوي.
ولا نجد في سفر العدد (7:18) وكذلك في التثنية (8:10، 8:33- 11) أي تمييز بين الكهنة والكاهن العظيم، بل تذكر الخدمة الكهنوتية كلها بعبارة موجزة (انظر لا 6: 22 بالمقابلة مع 6: 26، وكذلك الأصحاح الخامس والثلاثين من سفر العدد بالمقابلة مع الأصحاح الحادي والعشرين من يشوع). ومن الواضح قطعاً أن سفر التثنية لا يذكر "هرون وبنيه"، لأن هارون لم يكن حياً عندما ألقى موسى سفر التثنية على مسامع الشعب. أما تعبير "الكهنة اللاويون" الذي يستخدمه سفر التثنية، فهو تعبير صحيح تماماً لأن الكهنة - على أي حال - هم من سبط لاوي.
(*) بدراسة هذا الافتراض على أساس ما ذكره حزقيال، سنجد أنه لا أساس مطلقاً لما يزعمه النقاد، فالنبي يفترض سلفاً خدمة مزدوجة قي الهيكل، خدمة أدنى سيقوم بها الكهنة الذين سبق أن خدموا على المرتفعات، وهي الخدمة التي قام بها سابقاً الغرباء على غير ما تقضي به الشريعة (حز 44: 6- 9)، وخدمة أعلى كان يؤديها بنو صادوق الكهنة في المقدس حسب الشريعة، في الوقت الذي ضل فيه الكهنة الآخرون، ولذلك فستوكل اليهم وحدهم هذه الخدمة بعد ذلك (انظر حز 40: ه4 و 46، 43: 19). ولما كان الرب يأمر حزقيال أن يوجه توبيخاً شديداً إلى بني إسرائيل لأنهم سمحوا للغرباء الغلف بالقيام بالخدمة الأدق، فمن المستحيل إذن أن يكون حزقيال هو أول من قال بالتمييز بين الخدمتين العليا والدنيا، ولكنه يفترض أن هذا التمييز قائم فعلاً، وأن الله نفسه هو الذي رسم فرائض هذه الخدمة الدنيا كما هي موضحة في سفر العدد (2:18- ه)، فكان من الطبيعي أن يشير حزقيال إلى هذه الفرائض التي كان على اللاويين القيام بها. كما يعود حزقيال إلى تأكيد ذلك (حز 48: 11 - 13)، حيث ميز بين اللاويين (48: 11 و 12) والكهنة (13:48 و 14)، لا باعتبار ذلك أمراً جديداً بل باعتباره أمراً مقرراً من قبل.
(*) بدراسة ما آلت إليه الأمور بعد زمن حزقيال، نجد أنه لا يمكن فهم نجاح حزقيال لو أن التمييز بين الكهنة واللاويين قد أدخل دفعة واحدة وأصبح عند الرجوع من السبى في 538 ق. م. (عز 2: 36) حقيقة مؤكدة. ولكننا نلتقي - لأول وهلة - بالكثير من الصعاب، فتسأل مدرسة ويلهاوزن: لماذ يعود 74 لاوياً فقط كما جاء في عزرا (2: 40) إن لم يكن قد سبق إنزال رتبتهم الكهنوتية بناء على كلام حزقيال.
ولكننا نسأل بدورنا: لماذا عاد أي لاوي على الإطلاق لو أنهم كانوا قد تعرضوا لمثل هذه المهانة؟ وكيف يمكن أن تعود مثل هذه الكثرة من الكهنة (4289 من بين 42360 مسبياً، أي أكثر من عُشر العدد الكلي (انظر عزرا 36:2- 38 مع 64)، بل وأكثر من العُشر لو أن عدد النساء كان داخلاً في العدد 42360، لو لم يكن- منذ زمن حزقيال- ثمة كهنة سوى بني صادوق.
وبالايجاز نجد أن النقاد يجعلون من الحبة قبة، فلو أنهم كانوا على صواب، وإذا علمنا أن التوجيهاث المذكورة في حزقيال (40- 48) لم يتحقق منها شيء، حتى عندما تُفهم هذه الأصحاحات على حقيقتها (كما سنذكر فيما بعد)، وفي الواقع لم يكن المقصود تنفيذ أي شىء منها وقتئذ، فمن العجب أن يلتقط النقاد نقطة واحدة من كل أقوال حزقيال، في عجلة لا مبرر لها، ويبنوا عليها كل هذه الافتراضات، بينما لم يكن شيء من تلك العبادات قائماً في 573 ق. م.- حز 1:40)
(*) حل المشكلة: إن النص الوارد في حزقيال (9:44-14) يذكر - ولا شك- إنزال رتب الكهنة، ولو كان الأمر قاصراً على مجرد إعادة اللاويين إلى الوضع السابق، أي أولئك الذين أغتصبوا، على المرتفعات، الرتب الكهنوتية بخلاف ما تقضي به الشريعةكما يفهم هذا بوضوح، فإن الكلام الوارد في العددين 10 و 12 من أنهم "يحملون إثمهم" يفقد الكثير من أهميته. ومن الجانب الآخر يمكن تفسير الأمر كله، لو أن اللاويين من المرتبة الأدنى - أولاً - لم يقدروا عملهم حق قدره حتى أنهم عهدوا بخدمتهم للغرباء (حز 6:44- 8). وإذ كنا أيضاً نفهم أن ليس كل اللاويين قد ضلوا عن يهوه، عندما ضل بنو إسرائيل، بل الذين ضلوا هم جماعة معينة من الكهنة الذين عرفوا أنفسهم كما عرفهم معاصروهم، وكانوا بالتأكيد من نسل هرون، من إيثامار وألعازار، ولكنهم لم يكونوا من بنى صادوق، فالكهنة- من غير بني صادوق- سمحوا لأنفسهم أن يقوموا بالخدمة في معابد الأصنام في المرتفعات، ولهذا تم إنزالهم إلى الرتب الأدني بين اللاويين.
والحقيقة هى أن الرتب الدنيا للمشتركين في الخدمة الدينية في أيام داود الملك، حدث فيها انقسام آخر (1أخ 23-26)، فكان هناك المغنون والبوابون بين الدرجات الدنيا من اللاويين (نح 12 :44- 47، 13: 10) وهو أمر لا اعتراض عليه، بل يؤيده ما جاء أيضاً في عزرا (2: 40 - 42). وهنا نجد أن عدد اللاويين الراجعين من السبي يرتفع من 74 إلى 341. وبمقارنة هذا الرقم بعدد الكهنة العائدين من السبي (4289)، فإن الرقم يظل ضئيلاً، ولكننا نعلم من حزقيال (6:44) أن اللاويين لم يقدروا وظيفتهم حق قدرها، وإلا لما عهدوا بواجباتهم للغرباء -كما سبقت الإشارة. وبذلك لا يتضح كل شيء ويصبح مفهوماً فحسب، بل إن السلاح الذي هيأته مدرسة ويلهاوزن للدفاع عن مزاعمها، يرتد بالتالي إلى صدور أولئك النقاد، ويتأكد لنا أن حزقيال إنما كتب مستنداً الى ما جاء بأسفار التوراة، وهو على العكس ما يزعمون.
(ب) حزقيال 40- 48: وهو ما يزعمون على أساسه أفضلية سفر حزقيال على شرائع الكهنة.
(1) صورة إجمالية لوجهة النظر الحديثة: الرؤية الكاملة المذكورة في الأصحاحات 40- 48 للحالة الخارجية التى ستكون في المستقبل (وليس فقط ما جاءفي 4:44) هي جزء من التطور الديني، من وجهة نظر مدرسة ويلهاوزن، فهذا الجزء يشكل إحدى الحجج الرئيسية عندهم، الى جانب أن الاعتراض الذى يزعمونه، موجود في الأنبياء ضد الذبائح، بالإضافة إلى الدليل المأخوذ من تاريخ الشعب، ومن مقارنة مختلف مجموعات الشرائع بعضها ببعض. ففي حزفيال 45- 48 أمور كثيرة تختلف عما في كتابات الكهنة،كما أن سفر حزقيال ينقصه الكثير مما في كتابات الكهنة، فكيف يمكن لنبي أن يجرؤ على تغيير التشريع الوارد في كتابات الكهنة؟ ومن ثم لا بد أن تكون كتابات الكهنة أحدث عهداً من سفر حزقيال، وهذا - باختصار - هو منطق مدرسة ويلهاوزن.
(2)- انحياز هذا الرأي الى جانب واحد والنتائج الخطيرة المترتبة على ذلك: إذا ذكرنا أولاً الحقائق المتعلقة بالموضوع، وجمعنا ملحوظات المدرسة الحديثة، فسنجد أن الصورة الناتجة تختلف تماماً،كما أنها تؤدي إلى نتائج خطيرة. من الحق أننا لا نجد في حزقيال ذلك المكان البارز لرئيس الكهنة كما في كتابات الكهنة، كا أنه لا يذكر شيئاً عن الأدوات الموجودة في قدس الأقداس، أو عن مائدة خبز الوجوه أو المنارة ولا عن سائر المهمات القديمة في خيمة الاجتماع،كما هى مذكورة في كتابات الكهنة، والتى كان له دورها الهام. ولكن الاختلافات في حزقيال لا توجد فقط عند مقارنته مع كتابات الكهنة، لكنها توجد بنفس القدر أيضاً في الجوانب المتعلقة بالشرائع في سفر التثنية وفي "كتاب العهد"، والتي يقر الجميع بأنها من عصر ما قبل السبي (خروج 21-23 و 34)، فنحن لا نجد في الأصحاحات 40- 48 من حزقيال شيئاً عن العشور الموجودة في اللاويين (27: 30- 33)، ولا الشرائع الختصة بالأبكار (لاويين 26:27 و 27، عدد 18: 15 و 16)، ولا الفرائض المختصة بنصيب الكهنة في الذبائح (لا 31:7- 33)، وكذلك ما جاء في سفر التثنية عن الفرائض المختصة بالعشور والأبكار ونصيب الكهنة في الذبائح (تث 14: 22- ه 2، 12:26- 14، 4 23:1- 26، 19:15- 23، 18: 3)،كما أن عيد الأسابيع لا يذكر في حزقيال رغم أنه مذكور في شرائع الكهنة (لا 23: 15 - 25، عدد 26:28 - 31)، وفي التشريع الأقدم (خر 16:23، 22:34، تث 16: 9- 12). وبدلاً من الأعياد الثلالة المذكورة في كل مكان، لا يذكر حزقيال سوى عيد الفصح وعيد المظال (حز 45: 21). أما بالنسبة ليوم الكفارة (حز 18:45- 25) فنجد اختلافات في العدد والوقت والطقوس، كما جاء في شرائع الكهنة (لا 16). كما أن الأمر القائل: "لا تصعد بدرج إلى مذبحي" (خر 26:20)، لا يراعى في حزقيال (حز 17:43).
وبالنسبة إلى مسألة الشريعة، فإنهم يرون أن حزقيال لا يتفق مع حقائق التاريخ، فهو يغير تماماً مقاسات هيكل سليمان (حز 40: 5- 42: 20)كما أن تقسيمه للأرض بين الأسباط (حز 13:47- 29:48)، يخالف ما كان قائماً فعلاً. أليس من التعسف الشديد وضيق النظرة، أن نلتقط من بين هذا الكثير، هذه النقاط القليلة التي يختلف فيها حزقيال عن شرائع الكهنة لمجرد إثبات ما يزعمونه من أن شرائع الكهنة قد كتبت فيما بعد السبى، وفي نفس الوقت يغمضون عيونهم عن النتيجة الحتمية بأنه لو صح هذا التفسير لكان كتاب العهد (في سفر الخروج) والتثنية والهيكل والدخول إلى كنعان، لكان كل هذا قد حدث بعد السبي. ويقولون إن النبي لم يكن يجوز له أن يغير في شرائع الكهنة، ولكن ما غيَّره في الشرائع الأقدم عهداً وفي واقع التاريخ، لا يقل عما غيَّره في شرائع الكهنة - ومن ثم فإن هذا الزعم باطل ولا يقوم على أي أساس.
(3) التفسير الصحيح لحزقيال 40-48. هذه الأصحاحات لا يمكن أن تكون جزءاً من تطور الناموس في العهد القديم، فلم يكن سفر حزقيال برنامجاً للتنفيذ تحت كل الظروف، لأنه يفترض أحوالاً لم يكن في مقدور إسرائيل تحقيقها. ففي حزقيال (2:40) نجد وصفاً جغرافياً أو جيولوجياً جديداً لم يكن موجوداً في البلاد حتى ذلك الوقت (انظر، عبارة على جبل عال جداً) ونفس الشيء ينطبق على ما جاء عن النبع الذي يخرج من تحت عتبة الهيكل، ذلك النبع العجيب الذي يتحول إلى نهر عجيب أيضاً يمنح الحياة إلى كل مكان يصل إليه (حز 47: 1 - 12)، وكذلك فيما يختص بتقسيم الأرض (لا 47: 13- 23). ولا يمكن أن يتم هذا إلا بعد أن تحدث هذه الثغرات بقوة الرب وحده، ويدخل الرب إلى المدينة المقدسة (حز 43: 1- 6).
ومن المستحيل أن نفسر هذه الأصحاحات على أنها رموز مجازية، وذلك للعدد الكبير من التوجيهات والأحكام والمقاييس. إنها صورة مثالية لاستمرارية ملكوت الله حيث يحل الله فيه مطهراً ومقدساً ما يحيط به، ويبدو هذا جلياً في الاسم الجديد الذي سيُطلق على أورشليم "يهوه شمه"، الذي معناه "الرب هناك" (حز 35:48).
(3) حزقيال والنبوات عن المسيا: تتعامل الأصحاحات 48:40 مع المستقبل وتتيح لنا الانتقال إلى موضوع آخر، أساء علم اللاهوت الحديث تفسيره، وهذا الموضوع هو التنبؤ عن المسيا، فبعد أن قام النقاد باستبعاد الأقوال التى تتحدث عن المسيا من كل الكتابات النبوية قبل السبي باعتبارها غير صحيحة وغير أصيلة (مثل ما جاءفي عاموس 8:9- 15، هوشع 1: 10 و11، 3: ه، ميخا 12:2 و 13، ميخا 4،5، إشعياء 2:4- 6، 7: 14، 9: 1-7، 11: 1-10 .. إلخ)، قام "مارتي وفولز" (Marti and Volz) بإكمال هذا العمل، ففي حين أعلن "مارتي" عدم أصالة كل النبوات المختصة بالمسيا من البداية إلى نهاية القسم الثاني من إشعياء، توقف فولز عند حزقيال ومزج الموضوع كله في مفهوم واحد ذي خصائص بارزة، فيصرح بأن النبوة وفكرة المسيا ظاهرتان متداخلتان باعتبار أن المسيا عقيدة سياسية وقومية بحتة، وأن النبوات عن المستقبل إنما هى مجرد أمانٍ دينية بحتة. ويعتبر أن حزقيال هو أول نبي لم تتفق فكرته عن المسيا مع سائر نبواته لأنها خضعت للتوجيهات القومية التى كانت سائدة في عصره. كما خضعت لتأثير الأنبياء الكذبة الذين اختلقوا هذه الأمنية القومية الجسدانية، وغذوا بها المشاعر القومية. وهكذا ضمَّن حزقيال كتابة هذه الأقوال عن المسيا (حز 22:17- 24، 25:21-27، 23:34- 31، 22:37 - 25). إلا أن كل هذه المزاعم ليست سوى إدعاء صارخ، فمن الخطأ أن نعتبر المسيا مجرد شخصية سياسية قومية لشعب معين، طالما أن النبوة توضح الخصائص الدينية والأخلاقية والأدبية التى تتسم بالشمولية، التى يوصف بها المسيا. ومن الخطأ أيضاً اعتبار النبوة مجرد وجهة نظر دينية، إذا تجاهلنا الجانب القومي والظاهر لملكوت الله. ومن المستحيل استبعاد الأقوال المختلفة المتعلقة بالمسيا والتي سبقت عصر حزقيال، حيث أن أصالتها ثابتة تماماً من مضمونها وصياغتها وارتباطها الوثيق بسياق الحديث، وبناء الكتابات النبوية، والعلاقة المتبادلة بين هذه الأقوال وبعضها البعض.
ومنذ أن نشر " جريسمان" (Gressmann) كتابه عن "الأخرويات عند اليهود"، بدأ النقاد في التخفيف من هجومهم على صحة النبوات المختصة بالمسيا في الكتابات النبوية القديمة. ونشير هنا إلى حقيقة أن آراء "فولز" التى تنسب إلى حزقيال إدخال فكرة المسيا نقلاً عما كان يعتقده العامة، إنما هى آر اء بالغة التفاهة. والأقوال المختلفة المشار إليها آنفا - التي يتحدث فيها حزقيال عن المسيا - لا يكاد يكون فيها جديد عما جاء في النبوات السابقة، بل إن "فولز" يقول إنه لو لم تكن الكتابات النبوية السابقة قد رسمت صورة واضحة للمسيا، لما أتيحت الفرصة لحزقيال لرسم هذه الصورة، وبخاصة لو لم تكن متوافقة مع سائر آرائه كما يزعم "فولز".
والحقيقة هي أن الفكر عن المسيا في حزقيال أقل بروزاً نسبياً، فهو إنما يسترجع الصور التي ذكرها الأنبياء السابقون له، لأنه يقبل هذه الصور كحق معلن لهم وله من الله. ويشير حزقيال إلى الرجاء العام (حز 27:21)، كما يربط حزقيال مجيء المسيا (حز 34: 23 و 24، 37: 22- 25) بالوعود المعطاة لداود (2 صم 7)، ثم النبوة عن اندماج المملكتين في مملكة واحدة (حز 37: 15- 27) وقد أشار إليها عاموس (9: 11)، وهوشع (2: 19- 23، 3: ه)، وإشعياء (23:8- 9: 1، 11 : 1 1 - 13)، وميخا (5: 2)، وإرميا (3: 18، 23: 5 و 6)، كما تنبأ الأنبياء السابقون عن بركات عهد المسيا (إشعياء 11 :6- 10، عاموس 9 :13، هوشع 2: 21). وعلى أي حال فإن نبوات حزقيال عن المسيا محدودة ولا تشغل مكاناً بارزاً بين نبواته الكثيرة، مما لا يترك مجالاً للإدعاء بأنه كان أول نبي يتكلم عن المسيا. ولا ننسى- من ناحية أخرى- أن حزقيال يقاوم المشاعر القومية بكل شدة، بتصويره كل التاريخ الماضي لاسر ئيل كسلسلة متصلة الحلقات من رجاسات الوثنية (حز 1- 24، 33 وبخاصة 6 أو 23). ولنذكر أن حزقيال- مثل إرميا - قد وجد أقسى مقاومة من الأنبياء الكذبة (13 : 1- 10، 14: 9 و 0 1، 28:22). وفي أبرز معارضة لهم، أعلن- قبل سقوط أور شليم- أن هذا السقوط لا بد أن يحدث، رغم ذلك يزعم البعض أن حزقيال قد استعار فكرته عن المسيا من أولئك القوم، مع أن هذا المفهوم يبدو في كل موضع، إعلاناً إلهياً وليس نتاجاً طبيعياً للوعي الشعبي، ولا يوجد ما هو أكبر من هذا التخبط الواضح في الفكر اللاهوتي.
ولكن في نقطة معينة، نجد في حزقيال تطورا أكبر بفكرة المسيا، وهي بالتحديد في عمل المسيا، فبالإضافة إلى صفته كملك، فإن حزقيال يتكلم عنه باعتباره رئيس كهنة أيضاً، وهو ما أشار إليه إرميا أيضاً في نفس الفترة (إرميا 0 3: 1 2، 7:33 1 - 19) كما تكلم عنه زكريا (3، 4)، والعمامة التي سيضعها المسيا على رأسه (حز 36:21) هي في نفس الوقت عمامة رئيس الكهنة (حز 28: 4 و 39، 6:29، 39: 28 و 31).
وفي عيد الفصح - على الأقل- يقدم الرئيس "عن نفسه وعن كل شعب الأرض ثوراً ذبيحة خطية" (حز 22:45) مما يذكرنا بما كان يصنعه رئيس الكهنة في يوم الكفارة (لاويين 17:16 و 24 و 33).
ومما يدحض هذه المزاعم هو أن الصورة التى يرسمها حزقيال للمسيا هي أنه لن يكون مسيا لإسرائيل فحسب، بل كما جاء في نبوات أخرى (مثل إش 2:2- 4، 11: 10، ميخا 3:5 و 6) سيكون مسيا لكل العالم (انظر حز 17 :23 و 24، 16 :53 و 61).
(4) حزقيال والكتابات الرؤوية: يزعم أولئك النقاد أن حزقيال هو أول منشىء للكتابات الرؤوية التى حاولت أن تشبع فضول الشعب - في إطار نبوي - وأن تصور تفاصيل الأزمنة الأخيرة. ويذكر النقاد في هذا الصدد ما جاء في الأصحاحين الثامن والثلاثين والتاسع الثلاثين من سفر حزقيال عن الهجوم الأخير للأمم بقيادة جوج وماجوج الذي ينتهي بالنصر الأكيد لله وباندحار رهيب لأعداء يهوه، حيث تسقط كل جبال إسرأئيل كل جيوش الأعداء (حز 39: 4)، "ويخرج سكان مدن إسرائيل ويشعلون ويحرقون السلاح والمجان والأتراس والقسي والسهام والحراب والرماح (الخاصة بالاعداء) ويوقدون بها النار سبع سنين" (حز 9:39). ويستغرق دفن القتلى سبعة أشهر (حز 12:39) وهكذا تبسط وليمة ضخمة للطيور والوحوش (حز 39: 17).
ورداً على هذا، هناك أمران يجب ذكرهما: أولاً - أن حزقيال ليس هو منشىء هذه الأفكار فهناك أجزاء كثيرة في كتابات الأنبياء قبل حزقيال ترسم صورة للأمور في عصر المسيا وبعده (أنظر ميخا 2 : 12 و 13، 11:4 و 12، 4:5 و5 و 7 و20، يوئيل 3: 2 و 12 و 13، إش 11 :4، 28: ه و 6، هوشع 2: 21 - 23)، ولكن النقاد يدعون أن هذه جميعها غير أصيلة، أو أنها نتاج فترة متأخرة، ولكنهم في ذلك ينسون ملاحظة أن حزقيال إنما يشير في هذه الفصول إلى أنبياء أقدم منه (حز 7:38 1، 8:39)، وبذلك يفصلونه عن الغصن الذي يستند إليه. أما بالنسبة لرسم التفاصيل الكاملة، فليس ثمة ما يعادل حزقيال فيمن سبقوه، فهو يمثل الذروة في هذا الأمر، ويليه زكريا (ص 13 و 14)، ودانيال (7،9)، والارتباط واضح بين الأصحاحين الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين من حزقيال وسفر الرؤيا (17:19- 21).
ومن الجانب الآخر، يختلف حزقيال تماماً عن سائر الكتابات الرؤوية اليهودية المتأخرة، فقد أستعار أولئك المتأخرون الصورة النبوية، ولكن دون أن يتوفر لهم، لا المضمون الإلهي ولا الوحي الإلهي الذي يستند إليه النبي. ولهذا السبب نجد الكتابات الرؤوية المتأخرة لا يذكر اسم كاتبها أو يذكر باسم مزيف، في حين يضع حزقيال أسمه بوضوح على نبواته.
ويمثل موضوع الأخرويات في سفر حزقيال جزءاً من رسالته النبوية، ونحن هنا نواجه أقوالاً يصعب معها تحديد كم منها ينتمي إلى الأمور الأبدية وكم منها ينتمي إلى الأزمنة المعاصرة. وهنا أيضاً - كما في حالة تفسير الأصحاحات 40-48 - يتأرجح علم اللاهوت المسيحي بين طرفين، هما الروحانية والواقعية، وكلاهما يكمل الآخر، وبهذا ننهج المنهج الوسط الصحيح حتى نصل في المستقبل إلى الحقيقة الكاملة.
(5) مفهوم حزقيال عن الله: إن نبيا حاز - من الوجهة الأدبية - عل التقدير من أمثال شيلر وهردر، والذي قدم في تصويره للمسيا صورة الكاهن الأعظم، والذى رسم ملامح جديدة للأخرويات، لا يمكق مطلقاً أن يُقال عنه إنه "شخصية ثانوية بين الأنبياء". وهذه الحقيقة تصبح أكثر تأكيداً عندما ندرس مفهوم حزقيال عن الله، ويمكننا من هذه الناحية، مقارنة حزقيال بإشعياء وموسى في عظمة الفكر وتنوعه. فلا شك أننا ننذهل من الصورة التي يرسمها في رؤياه عن سمو الله وجلاله، وبخاصة في الرؤيا الافتتاحية، حيث يظهر الله جالساً على عرشه كالسيد المطلق على كل الخليقة، كما أنه يدعوه دائماً "السيد الرب" قي مقابل "ابن آدم" الذي يطلق على النبي نفسه!
ويعلن أكثر من خمسين مرة أن غرض النبوة هو أن تعرف الأمة الوثنية وبنو إسرائيل من أحكامه ومواعيده بأنه هو "السيد الرب". وفي هذا الأمر يقف حزقيال جنباً إلى جنب مع سفر الخروج (خر 7: ه و 17، 8: 10 و 22، 4:9 1 و 29 و 30، 10 :2، 11 :7، 14 :4 و 18). فاسم الرب يجب أن يتقدس ويسمو فوق كل اسم آخر (36: 22 و 23).
كما ينهار تماماً افتراض تطور الفكرة عن الله، حيث يزعم بعض النقاد أن العهد القديم - فيما قبل الأنبياء - كان يضع الله على مستوى واحد مع سائر الآلهة، كما كان يعتبر إلهاً لإسرائيل فحسب، وأن وجوده يرتبط بوجود الأمة الإسرائيلية،، وبدونها لا وجود له. ويستندون فى ذلك إلى العبارات المتعلقة بالدفاع عن كرامة الرب، وها نحن نجد نفس الفكر في حزقيال، حيث لا يمكن أن يراود الشك أحداً في اعتقاد حزقيال الراسخ بوحدانية الله المطلقة.
كما يبدو سمو هذا المفهوم عن الله في شموليته فهو يعاقب كل الأمم (حز 25، 35)، ويستخدمهم لإتمام مقاصده (الأصحاحات 38، 39،17، 9 1، 24،33). ويريد خلاصهم (الأصحاحات 17، 23، 16 :53 و61، 26:34).
وفكرة حزقيال عن الله، تذكرنا بما نادى به كالفن، فمن جهة هناك الله القدوس، ومن الجهة الأخرى هناك الإنسان الخاطىء، فالناس خطاة منذ البداية، فهو يقرر مذنوبية الشعب العظيمة (حز 16، 23). وفي نفس الوقت يؤكد أن كل فرد سيعاقب على خطاياه (حز 18 :2 و 4)، وبذلك لا يمكن لأحد أن يلتمس العذر لنفسه، كما لا يمكنه أن يتحرر من ذلك من خلال مذنوبية كل الشعب.
وهنا نصل إلى أسمى مفهوم، فالله القدوس المتعالي، يصبح إله المحبة، فأي شيء سوى المحبة، يجعله لا يرفض شعبه إلى الأبد، بل يعدهم بالمستقبل الباهر (انظر حز 34- 48، وإتحاد المملكتين في مملكة واحدة في حز 37: 15 - 27).
وكما يبلغ سفر الخروج ذروته في سكنى الله وسط شعبه حسب وعده (خر 25: 29، ومع أن هذا يبدو وكأنه أصبح محل شك في الأصحاحين الثاني والثلاثين والثالث والثلاثين من سفر الخروج بسبب ارتداد الشعب، إلا أنه تحقق في النهاية (الأصحاحات 35- 45)، هكذا نجد في سفر حزفيال أن "يهوه" يخرج من المدينة (حز 10، 11)، لكنه يعود لها ثانية (حز 43: 1- 6) فيصبح اسم المدينة "يهوه شمة" أي "الرب هناك" (حز 35:48). وكما يشترك كل فرد في خطية وعقوبة الشعب كله، فإنه يشترك أيضاً في خلاص الشعب كله.
يقولون أيضاً إن حزقيال - وإلى حد ما إرميا - هو منشىء مبدأ الفردية، ولكن يُرد على ذلك بشخصيات الآباء الأولين، ولكن حزقيال وإرميا قد ناديا بمفهوم أعمق للفردية، فقد انفرط عقد الأمة في ذلك الوقت، فكان على هؤلاء الأنبياء أن يتعاملوا مع الفرد، وقد أقام الرب حزقيال رقيباً على بيت اسرائيل (6:3 1 و 7 1، 7:33- 20)، فالشرير الذى يموت دون أن يحذره فإن الرب يطلبه من يد النبي، والله لا يسر بموت الشرير بل أن يرجع عن شره (حز 8:33- 11).
وهنا نجد مرآة صافية يجب أن يقف أمامها المبشرون المسيحيون ذوو الضمائر الحية شاعرين بالخجل.
إن يهوه هو الله الرحيم الذي لا يعامل الناس على مبدأ الانتقام، لأنه لو كان الأمر كذلك، فماذا يكون مصير الإنسان؟! إن الله يريد أن يمنح كل شيء بالنعمة المجانية، فمن يتوب ينال الحياة، وكان هذا أسمى مثال أمام النبي.
ولم يذكر حزقيال عيد الأسابيع، وهو عيد الخمسين عند إسرائيل، وقد أصبح هذا العيد بالغ الأهمية بعد أن انسكب الروح القدس، وحزقيال يعرف هذا الروح جيداً. فإلى جانب تلك الفصول كما في إرميا (31: 30، 32: 15، 44: 1- 6) والمزامير (51: 12)، ويوئيل (28:21)، فإن سفر حزقيال يتضمن أوضح النبوات عن عيد الخمسين، فالروح هو الذي يحيى عظام بني إسرائيل اليابسة ويمنحها حياة جديدة (حز 37) و"أرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون. من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم إياها وتكونون لي شعباً وأنا أكون لكم إلهاً" (حز 25:36- 28).