نظرات في المسألة الأمريكية

من معرفة المصادر

نظرات في " المسألة " الأمريكية

ما كنت أحسب أن أجلس لأكتب عن واحدة من أمهات مسائل الكون فيما النار تضطرم في حياض أم الرأسماليات , ووقودها المال والمعيشة ونمط الحياة والرزق واللهو وكل تصاريف الحياة . عشت فيها واشتغلت – ولا زلت - لثلث قرن من الزمان , قضّيت ثلثه الأخير وأنا مسكون برجحان توقع عصف كارثة مهولة بها وبالعالم من حولها جراء ما ارتكبته رأسماليتها من موبقات فاقت ما في قدرة أي مخيلة بشرية على تصوره حمقا وعبثا وفجورا . أين كانت نقطة البدء في تلك المسيرة المفزعة ؟ نطفتها ... انزرعت مع حرب فيتنام , وظهرت عوارض حملها مع ظهور عجز الميزانية وتحول البلاد من دائنة لمستدينة , ومع إلغاء قاعدة الذهب كوحدة قيمة عام 1971 , والاضطرار لتجميد الأجور والأسعار ذات العام . مضغتها ... استقرت في مشيمتها مع ارتفاع سعر النفط الأول غداة حرب أكتوبر 1973 وما لحقه من ركود تنكسي استطال لعامين , ثم لحقه تضخم طاحن مع ارتفاع سعر النفط الثاني إثر الثورة الإيرانية عام 1979 لتنيخ البلاد تحت كلكلة ركود تضخمي أعواما ثلاث . حبلها السري ... وصول اليمين الصقوري للسلطة عام 1980 بما عناه ذلك من نهج تصعيد الحرب الباردة سعيا للوصول بها إلى خواتيم فوز محقق . كان من تجليات ذلك النهج الارتفاع بميزانية الأمن القومي ( دفاع ومخابرات وأمن ) إلى سويّات غير مسبوقة , بقصد إنهاك الخصم السوفياتي واستنزافه والتطويح به في ضربة قاضية , أو بنقاط يصعب عدّها . وصل الأمر بريغان ورهطه حينها إلى التفكير بالمضي في نهج التصعيد لحد ازهاق مبدأ الردع النووي المتبادل طلبا للسيادة النووية (حرب النجوم ) , والتي مغزاها الأوحد تدمير الخصم دون رادع . سائلها الأمنيوسي ... خطل حسابات ما بعد السقوط السوفياتي : لقد جلست الولايات المتحدة على عرش العالم يوم 9 نوفمبر 1989، لكنها ظنّت – وإثما – أن وحدانية القمة تعني استعباد من دونها وعلى مد النظر . وبدلا من أن ترتوي بثمار " نصرها " - وخداع البصر أبداه نصرا فيما الحال متسابق لاهث وجد منافسه قد فارق الحياة لحظة أن وصل بالكاد لخاتمة السباق لاهثا لحد انقطاع النفس مع علائم شحوب بل وزرقة شفاه – وتجيّر حيّزا وازنا من إنفاقها العسكري لصالح نهضتها المدنية ، إذ بها تعقد العزم على المضي فيما اعتادت عليه من اقتصاد ودولة وسياسة وجيش , لحمتهم وسداهم " الأمن القومي" , وقاطرتهم المجمع العسكري – الصناعي بامتداداته المالية والطاقوية والإعلامية . علقتها ... واحدة من أبشع أطوار الرأسمالية وأكثرها غيلة , وهو الرأسمالية المالية .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نظرة طائر تاريخية هنا تفي بالقصد

عرفت الرأسمالية الأمريكية تحديها الأبرز مع نجاح الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا , إذ كانت طبائعها حينذاك من الصنف المحفّز على النقمة بل والتمرد عليها , كما تجلى في أضطهادها النشاط النقابي و والتعامل البوليسي مع جموع العاملين , وفي انفلات جشع لها من عقالها طيلة عشرينات القرن , وصولا إلى خسف 1929 وما تلاه من كساد عظيم امتد طيلة الثلاثينات . قيّض الله للرأسمالية الأمريكية يومها إبنا حاذقا بصيرا وفاهما لحقائق العصر ومستوجباته , ومؤمنا بأن الخلاص من الكساد من جهة ، ودرء الخطر البلشفي من جهة أخرى , لا مفر لهما من إعادة إنتاج محسّنة للرأسمالية عنوانها " الأنسنة والرقابة " . استطاعت الرأسمالية الأمريكية منذ منتصف الأربعينات أن تجدّد نفسها وتبعد عنها شبح التهديد البلشفي , بل وأن تتفاضل معه لجهة مزايا التقديمات للعاملين , وهم من توجّه البلاشفة بالنداء لهم في الأساس .

تواصل نهج الرأسمالية الذكية طيلة تواجد المنظومة الشيوعية , فما أن تداعت وتفرّقت أيدي سبأ إلا وأمسك بناصيتها – الرأسمالية – كل من خالف روزفلت في حياته أو بعد مماته واعتبره أخرقا خائنا لرأس المال الذي به من بيت أبيه ضرب . بدأت الحكاية مع عرّاب النكوص إلى الوحشية – ريغان .. مذ ذاك والرقابة تتآكل , والنقابات تذوي , والرأسمالية تتناسل عجائبيا , وأجور الوظائف تتجمد – مع حسبان عامل التضخم – , فيما الاستهلاك يصبح قيمة لا حاجة , والاستدانة فضيلة لا اضطرار , والتوفير ضربا من التعويذ لا الفائدة , والبلاد كلها تدخل أتون الاستدانة المتفاقم , دولة وشركات وأفرادا .. ومن خارج الحدود . تجلّت تقلصات الرحم الحامل ..... في أزمات 87 و 90 و 98 و 2000 التي ضربت بورصة الأسهم فأذهبت أرباحا ورقية , ثمّرت من سالف , وتلاعبت بعوائد ومدخرات واستثمارات مخدوعين بالملايين ظنّوا أن موئلهم هو مجمّع لتنظيم الاستثمار لا كازينو قمار ... بامتياز . ثم دبّت عوارض الوضع ... في 11 سبتمبر 2001 . ما بين 9 نوفمبر 89 و 10 سبتمبر 2001 جلست الولايات المتحدة على العرش , وإن دون استواء تسبّب بافتقاده طيش المضي في طريق القوة حشدا وتهديدا واستعمالاً. في يوم النار والدم ذاك انزاح الكرسي عن القمة إلى حوافها , وتعلّق بنتوءات عندها وقته من السقوط المدوي . كانت لا زالت ثمة عافية في جسد الاقتصاد والمجتمع , عفيّة وان ذاوية , كفلت أن تلجم جاذبية السقوط وتحفظ قدرا من توازن . اشتدت آلام الوضع وتواترت .... مع قرار المؤسسة الحاكمة – بقيادة يمينها الصقوري – شن الحرب على "الإرهاب" بدءا من أفغانستان 2001 , مرورا بالعراق 2003 , وانتشارا لما بين مندناو في الشرق إلى كازابلانكا في الغرب . مع قرارها بالحرب على " الإرهاب" أصبحت الرأسمالية الأمريكية أسيرة حماقة قوة كفيلة بفرط انتشار وتمدّد , مفضية إلى انكشاف لا للأطراف وحدها بل وللجذع معها , ومؤديّة إلى اشتغال عوامل الحت والتعرية وضربات كعوب أخيل , ومحيلة إلى ترنح يبدأ معتدل الشدة , ليتحول إلى فائق الشدة , لا مندوحة بعده عن سقوط من عل . ما بين أعوام 1981 و 2008 راكمت الرأسمالية الأمريكية الطبائع التالية : 1- ضحّت بدولة الرعاية – أو تكاد – لصالح عودة شبه وحشية إلى رأسمالية بلا ضابط ولا حسيب . 2- عظّمت من شريحتها المالية بشرهها اللامتناهي لتحصيل الربح كيفما اتفق . معها عرفنا " المشتقات"-derivatives , والرهانات - options-futures shortselling , و" الروافع"- levereging , و " تسنيد"- securitization القروض العقارية , وتضليل المستدينين , وهدم الجدار الفاصل بين البنوك التجارية وبنوك الاستثمار , والسماح بنسب اقراض قياسا إلى أصول تصل إلى 45/1 . 3- أوقفت نشاطها الانتاجي داخل البلاد - فيما سوى الانتاج العسكري ومتفرقات تقانة ودواء وخلافه - ونقلته إلى دول منخفضة الكلفة , بما يؤمّن عوائد خيالية لها , دون اعتبار كلفة أفدح مع مقبل الأيام ألا وهي البطالة المتصاعدة , والتي تقلّص حجم الاستهلاك لسلعها الموّردة من الخارج . 4- استدانت حتى الثمالة عبر بيع السندات الحكومية والشركاتية والبلدية لكل أهل الأرض , ليصل الحكومي منها وحده إلى دزينة من التريليونات , غير عابئة بما تجنيه يداها من عقابيل طويلة الأمد , وعبر اقناع نفسها بأن الدائن هو صاحب حصة في سلامة المستدين , وأن شراء الأجانب لسنداتها شرط لازب لاستهلاك انتاجهم . نحن الآن أمام حجم دين حكومي يقارب الدخل القومي السنوي للبلاد.. أمن وصفة كارثية أشد نذيرا من ذلك ؟ 5- خدعت نفسها والغير بترديد مقولة الاقتصاد الجديد المعلوماتي والمعولم , فأضحت بنية الاقتصاد الحقيقية هي من ربع للإنتاج وثلاثة أرباع للخدمات والمعلوماتية . بذا هبط متوسط دخل العامل الأمريكي إلى قاع صفصف , لوحته موسومة بوفرة أعمال النوادل وندرة أشغال المنتجين , مضافا إليه تحايل الشركات عبر توظيف عمال غير دائمين وبلا مزايا إضافية من تأمين وخلافه. 6- خفّضت تكلفة الاستدانة في الداخل إلى مستويات دنيا كفلت رفع أسعار العقار لمديّات غير مطروقة , مع ما أفضى اليه ذلك من اجتراح سبل دين متعاظم على العقار ذاته وفّرت "مداخيل" شائهة أطلقت العنان لنوبة استهلاك فاجر لا يعرف هدأة ولا همودا.. فإذا أضفنا عليها ديون بطاقات الإئتمان لوجدنا مواطنا يرتع في نعيم خلبيّ "عابر" , لا بفضل دخله بقدر ما من خلال مديونيته الاقتراضية , دعك عن قروض التعليم لأبنائه وإيجارات سياراته البيعية .. وهو فوق هذا وذاك بلا قرش توفير لا لأبيض ولا لأسود من أيامه , فانتهى به الحال أن أضحى مخلوقا يعيش ليستهلك , فيما نظراؤه في العالم الثالث ينتجون له ويصدّرون . 7- فقدت أي معايير أخلاقية تنظم سلوكها وترعى شفافية تعاملاتها التي طالما باهت بها العالمين لعقود وعقود . والحق أن التاريخ سيسجل أن أكبر عملية نهب فاضح وعلني في تاريخ البشرية قامت بها الرأسمالية المالية الأمريكية طيلة التسعينات من القرن العشرين وعشرية الواحد والعشرين الأولى. إن عشرات من التريليونات ذهبت لاحتكارات مصرفية كبرى , ولجيوب قادتها معا , وعبر استعمال الدولة وبنكها المركزي وخزانتها ودافع ضرائبها مضخّةّ وقناة . والطريف أن كثيرين ظنوا أن بعضا من ذكاء عاد لتلك الرأسمالية , إنهاضا لنفسها من كبوتها , عبر تأميم جزئي للمصارف.. لكن حقيقة ما جرى هي أن الرفد الحكومي اقتصر على شراء أسهم "خاصة" لا تذيب أيا من أسهم المالكين ولا تضمن حقا في التصويت والإدارة , بل هي حقن نسغ بالوريد لخزائن الرأسمالية المالية وهي تقوم بعملية تجميع صفوفها وإعادة تنظيم ملاكاتها عبر ابتلاع كبيرها لصغيرها , وتكتيل قواها في مجمّعات أخطبوطية أقدر على مزيد من القضم والبلع والهضم لمشاريع افتراس . 8- أنها أهملت بدواعي الجشع أي اهتمام " بخضرة " البيئة بما يشمله ذلك من ابتداع مصادر جديدة ونظيفة للطاقة , فانتهت بأن أصبح اعتمادها على استيرد الطاقة شبه كامل , وبظن أن قعقعة سلاحها كفيلة بتأمين السيطرة على قرارها – أي الطاقة – في بلاد المستضعفين , مغيّبة عن قشرها المخي أن السطو لا يدوم , وأن ما لصاحبه هو له في النهاية مهما جثم فوقه غصبا الأتباع والعبّاد , وبدوا وكأنهم في أمان يرفلون . 9- مركزت الثروة في أياد أقلية أوليغاركية , بفجاجة لم يعرف لها المجتمع الأمريكي مثيلا إن 1% من الناس يملكون ماينوف عن ثلثي الدخل القومي , فيما 80% منهم يحوزون على خمسه . حدث ذلك منذ ريغان , ووصل مع بوش الثاني إلى استقطاب طبقي فادح يهدد سلامة النسيح المجتمعي .


نصل الآن إلى الوليد

هو خديج لم يكمل تسعا , ضربته علل خلقية ومكتسبة أسكنته غرفة العناية المشددة للرضّع والخذّج , فيما الأنابيب والعقاقير والسوائل والمعدات تسري في جسده ومن حوله يمنة ويسرة , والأخصائيون والممرضات في مداومة لا تتوقف جسّا وفحصا وعلاجا.. والعائلة في الخارج ترقب بهلع احتمال الوفاة مصرّة على المعالجين بذل أقصى الجهد والمضي إلى آخر المطاف في إنعاش الوليد , وبث العافية في جسده دون حسبان لكلفة . والحاصل أن ما يتطاير أمامنا من نذر يفضي إلى الاستشراف التالي : لن يجدي منعش ولا سائل مغّذ ولا أكسير , بل ولا أنبوب تنفس .. كله ضرب محال . أمام المؤسسة الحاكمة – برمتها - الآن أن تختار بين نهجين : المواظبة على ما فات مع محاولة تشذيبه وإلباسه لبوس حُسن , وإطالة اعتماد نهج القوة في الخارج والانفلات في الداخل بأمل أن يسعفها الوقت أو الحظ بمخارج مأمولة تعيدها إلى القمة , وربما حتى بانفراد أو تبني نهج جديد مخالف بالضرورة , بل ومعاكس في الاتجاه , تفيء فيه إلى حسابات المنطق وإلى إملاءات الضرورة , دون التفات لغرائز الرغبة وجموح العادة . إنها بين أن تكون دولة قائدة دون امبراطورية أو مشروعا امبراطوريا يقود ولكن إلى التهلكة . لم يعد في المستطاع تلفيق المسار ولا التذاكي على النفس قبل الغير ولا الفهلوة ولا التأجيل ولا التدجيل , بل هي القارعة ... وما أدراك . والثابت عندي أن المؤسسة - مقودة بجناحها الديموقراطي - ستصل إلى ضرورة – لا خيار- اعتماد ثاني النهجين..... لا لأمر الا لافتقاد مخرج سواه . لقد دخلت الولايات المتحدة في الربع الأخير من عام 2008 فترة كساد تختلف في قسماتها عن تلك التي مرت بها في الثلاثينات . لم تكن مديونية الدولة حينها كما الآن ، ثم إن الحرب العالمية الثانية كانت البلسم الأخير والشافي حينها . الآن ... حروب 1964- لتاريخه ... هي أهم أسباب ما انتاب الولايات المتحدة من مرض عضال , ومن ثم فهي الداء لا الدواء ، فضلا عن أن مديونية البلاد – دولة وشركات ومواطنين – لا تتيح إلا رسالة من تحت الماء .

لذا فإن النهج الجديد يتضمن بالضرورة الأقانيم التالية : 1- خفض جذري لميزانية الأمن القومي ( دفاع ومخابرات وأمن داخلي ) بنسبة لا تقل عن النصف ( هي الآن تريليون دولار) , بما يعنيه ذلك من تفكيك معظم القواعد العسكرية المنتشرة في الخارج كغثاء السيل ( هناك ما مجموعه 1000 في الداخل و 800 في الخارج ) . 2- إنهاء حربي العراق وأفغانستان على الفور , مع سحب كامل للقوات الأمريكية منهما في غضون عام 2009 . 3- تأميم – أقلّه نصفي – " حقيقي " للمصارف وشركات التأمين الكبرى , يضمن إشرافا دولتيا فعالا على التعاملات المالية , معطوفا على ضوابط حازمة لأنشطة المرافق المالية متوسطة و صغيرة الحجم تقي من عبث اللامعقول . 4- إعادة تصنيع – خضراء – للولايات المتحدة تشمل بناء صناعات حقيقية ونظيفة تعتمد على مصادر بديلة للطاقة , وتوفر وظائف عمل برواتب مجزية تكفل هامشا آمنا للاستهلاك .... بما يتطلبه ذلك من حسومات ضريبية لشركات تسلك ذاك السبيل . 5- فرض ضرائب أرباح عالية على الشركات التي تستخدم العمالة الخارجية في مواطنها , كحافز سلبي لاستعادتها , مصحوبا بالحافز الإيجابي أعلاه . 6- زيادة الحد الأدنى للأجور , مع إعفاء ضريبي لصغار الدخل , وتخفيض ضريبي على الطبقة الوسطى , وتصعيد ضريبي على شريحة ال 2 % العليا من المجتمع . 7- إخراج شركات التأمين من عملية التأمين الصحي بالكامل , مع فرض تخفيضات سعرية كبيرة على شركات الأدوية ، وإنشاء وكالة تأمين صحي حكومية واحدة توفّر التأمين الصحي الشامل للمواطنين.... بذا تنخفض كلفة الصحة من 17 % من الدخل القومي إلى النصف , مزيّنة بإزالة وصمة عار أن في أمريكا 46 مليون مواطن بدونه. 8- إبدال اتفاق "بريتون وودز – 1944 , والذي دق نيكسون عنقه عام 1971 بإلغاء ثنائية الذهب – الدولار لصالح اعتماد الدولار وحدة قيمة عالمية منفردة , بهيكلية نقدية عالمية تشكل تلك الوحدة , و بما يقي من شرور المضاربة على العملات وما يترتب عليه من أضرار لا حدود لها على اقتصادات الدول .. صغيرها وحتى الكبير منها (بريطانيا - 1992 مثالا ) . 9- جرف كل " البدائع" الجهنمية المالية من حومة التداول .. أقصد المشتقات -derivitives ( والتي وصل حجم تعاملاتها في العالم إلى ألف تريليون دولار) وصناديق التحوط hedge funds - , والروافع - leverages , مع تحجيم الرهانات- futures – options - shortselling لتقتصر على السلع لا الأدوات المالية . 10ـ فرض الحراسة على ممتلكات مئات , بل ألوف , السّراق والنهّابين الذين اكتنزت جيوبهم من مدّخرات وعوائد الدولة والمجتمع .

ما الذي سيؤمنه نهج كهذا من عائد ومردود ؟

هو بالقطع سيوقف الانهيار , ويتيح مصادر هائلة للدولة , ومنابع دخل معقولة للناس , تسدّ ثقب الضائقة الائتمانية الأسود , وتوفر حراكا نقديا لزجا وآمن النقلية . هو ثانيا , سيصالح الولايات المتحدة مع نفسها أولا , ثم مع باقي خلق الله تلوا . هو ثالثا , سيؤمّن للولايات المتحدة ركنا قائدا - بالشراكة والاعتماد المتبادل السلمي والمتكافئ - مع قوى عديدة صاعدة ينتقل إليها مركز جاذبية المعمورة , وبالتحديد منها الصين وروسيا وأمريكا اللاتينية والهند ...... وعالم العرب والإسلام . هو رابعا , سيطلق طاقات خلاقة طال استنزافها في حلبة المجمع العسكري – الصناعي , وتقدر على الإسهام المبدع في الارتقاء بحضارة الإنسان إلى مديّات غير مسبوقة في العلم والتقانة والطب والفضاء والعمران والطاقة .

ما الذي يعيق اعتناق نهج كهذا ؟

حزب الحرب الأمريكي – وأكرر التنويه بتراكبه فوق الحزبين الرئيسين – والذي سيفعل المستحيل لوقف اندفاعة الضرورة. سيترتب على ذلك عسرة المخاض , واحتمال تعرّج المسار بل وربما بطء وتيرته , لكن ما على الحائط قد كتب وما تبقى هو هدمه و تجاوز أطلاله . هل من بديل متاح يغني عن اعتناق نهج جديد ؟ لا يحتاج المرء الا لاستعراض جملة معطيات تتكامل في مشهد بانورامي يحفل بكل ما عجب وشذ : 1- بعثرت الدولة – من تموز الى تشرين الثاني - ما مجموعه 8,6 تريليون دولار في محاولة لجم تسارع وحدّة الانهيار المالي , توزّعت ما بين أعطيات الخزانة - 20% -وتقديمات الاحتياط الفدرالي - 60% - وتغطيات هيئة الضمان المصرفي – 12% , ومن دون جدوى بادية . 2- بلغ عجز الميزانية 1 تريليون دولار ... فإذا أضفنا العجز التجاري قفز المبلغ نصف تريليون آخر . 3- وصل مجموع الدين الأمريكي العام والخاص ( والأخير يشمل الأفراد والشركات والبلديات والمرافق ) لحد 400 % من الدخل القومي , أي قرابة 60 تريليون دولار . 4- اقتربت شركات بطاقات الائتمان والاقراض الجامعي وإقراض السيارات وصناديق التحوط والبنوك اكبيرة من إشهار الإفلاس، دعك عن شركات صناعات السيارات . 5- توقفت البنوك عن الاقتراض والإقراض ما بينها , فأضحى بنك الاحتياط هو المحطة الأولى - لا الأخيرة كما دوره - لحقن البنوك بسيولات نقدية تكفل مجرد استمرار عملياتها الاعتيادية .

والحاصل أن الاعتماد على شراء الأجانب للسندات الحكومية كمصدر تمويل رئيس لم يعد منهل طمأنينة , كما الحال عبر ربع القرن المنصرم . لقد وفرت الثنائية الأمريكية – الصينية صيغة اعتياش متبادل : الصين تنتج وتصدّر , وأمريكا تستورد وتستهلك... الأولى تشتري سندات الثانية لكفالة بقاء الدولارقويا ضمانة لزهد أسعار صادراتها وحث نهم الاستهلاك الأمريكي إلى ما بعد الذروة , والثانية تستعمل السندات المشتراة لسد ثقب أوزونها المالي المتزايد الاتساع , ولدعم دولارها ليحتفظ بعالمية محوريته .

ومن أصل قرابة 2 تريليون دولار احتياط مالي جمّعته الصين بالكد والجهد موضعت أكثر من 800 بليون منها في قطاع السندات الحكومية وشبه الحكومية الأمريكية ابتغاء ما سلف ذكره . يفسر لنا ذلك اضطرار إدارة بوش لاستنقاذ البنكين العقاريين ب 200 بليون دولار تحت تهديد الصين بالتوقف عن أية مشتريات سنداتية جديدة . وحتى بعد انفجار الفقاعة فإن الصين واظبت على الاستزادة من تلك السندات بأمل صون الاقتصاد الأمريكي من الوقوع من طوله , فمصيبته كارثة لهم وهم من يتكّل اقتصادهم على التصدير , وللسوق الأمريكية في المقام الأول . مهماز التنائي المرتقب بين الاقتصادين هو عجز الأمريكي عن إدامة معدلات استهلاك عالية بواقع تلقّيه ضربة انكماش ركودي طوّحت به بل تكاد ترميه إلى حافة الكساد . يضع ذلك الصين وغيرها أمام انعدام جدوى التزيّن بمزيد من تلك السندات , بل وحتى الولوج إلى التخفف مما في حوزتها منها ، وكلاهما بسبب شحوب التبادلية في العلاقة . في عرفها أن ما بين توفير هدر كهذا وتحويله لاستصلاح السوق الداخلي – فيما أسواق التصريف في الخارج معطوبة بأنيميا مستعصية – تستطيع الصين أن تخرج بأقل الخسائر , فيما الولايات المتحدة عندها تطرق أبواب المخرج الأخير – ولو لغير النجاة – , وهو طبع لا محدود للعملة مع شراء بنك الاحتياط بنفسه لسندات الخزينة المتناسلة . ما الذي يعنيه ذلك ؟ فرط التضخم , ومن ثم الانتقال من حافة كساد إلى مناخ يختلط فيه التنكس الراكد الانكماشي مع تضخم لاهب في سبيكة وقودها أرزاق الناس وحياتهم ومستقبلهم . أصل لأبعد فأقول , ودون ذرة من مبالغة , أن عام 2009 يحمل جديا نذر اضطرار الدولة الأمريكية لإعلان عجزها عن تسديد ديونها ، أي بكلمة واحدة  : الإفلاس . ذلك لو مضت المؤسسة في غيّها , وتعامت عن فداحة خطبها , وظنّت أن هامتها لازالت بيرقا تنحني له القامات وتصدع له الأنام .. ولعمري أن ذلك ضرب من جنون فالت من عقاله .

ما هو موقع باراك أوباما من كل هذا التصور؟

الحق أن شرائح يعتد بها من مجمع الشركات الأمريكي ذاته تبنّته ثقةّ بأنه برهن طيلة عضويته في مجلس الشيوخ , 2004 – 2007 , عن حسن تدبيره , وذكيّ ولائه , وجاذبية أدائه لجهة المؤسسة ( جناحها الديموقراطي ) , والتي فاضلت بينه وبين المرشح الأكثر تقليدية هيلاري كلنتون لتفضّله عليها , لما لخياره من بريق يجمع التجدد والشباب والألق , ويتجاوز أخدود العرق لصالح قاسم الحاجة . هو ثابر وهم تثبّتوا.... هو برهن وهم تبنّوا....هو استجابة ذاتية لحاجة موضوعية , وهم قارئون حصيفون لأزمة ضاربة قد تطيح بهم في عصفة واحدة إن لم يجترحوا لها ما يشفي و يبرأ . ولعل أمثل تعبير عن الحاجة هو انتشار خمسة ملاييين متطوع شاب في طول البلاد وعرضها تجنيدا للأصوات بمثابرة لا تعرف الكلل , متزاوجة مع نشاط تبرعي عارم - عبر الانترنت - لجمهرة الناس , فيما أفضل تجسيد لتلك القراءة هو إنفاق الشريحة الذكية من الرأسمالية لرافد وازن الاسهام وصل بالحصيلة لما ينوف عن 600 مليون دولار . والثابت أن الرجل على موعد مع التاريخ .... فليس من أسوأ مما هو أمامه من حال سبق وواجه أحدا من قبله , حتى روزفلت . هو الآن وجها لوجه – وخلفه المؤسسة بكل تضاريسها وألوانها – أمام المفترق .. قدما إلى المهلكة , أو استدارة إلى وعد خلاص من نوع جديد . كيف لأوباما أن ينقل النهج الجديد من استراتيجية عليا إلى تكتيكات عمل ناجح ؟ أتصوره يعقد قمما متعاقبة مع قادة الصين روسيا ، ويحضر قمة منظمة الدول الأمريكية ليلتقي فيها كل أخصام الولايات المتحدة .. وماأكثرهم , ويجلس مع علي خامنئي و بشار أسد في أنقرة بحضور غول – أردوغان وحمد ال ثاني . على المناط الروسي .. هناك التوقف عن سعار السيادة النووية , وسحب الصواريخ المضادة للصواريخ من بولندا وتشيكيا , ووقف تمدد الناتو شرقا والتدخل في الشؤون الداخلية لروسيا , واللعب في القفقاس , ومحاولة استثناء روسيا من خطوط أنابيب النفط والغاز المنبثقة من آسيا الوسطى وجنوب القفقاس . على المناط الصيني .. هناك وقف التدخل في الشؤون الداخلية ( التبشير والأنجزة والدالاي لاما والإيغور) , وعدم عرقلة وحدة تايوان مع الصين على غرار هونغ كونغ . على المناط المشرقي .. هناك وقف اعتماد المشروع الوظيفي الاقليمي الإسرائيلي عبر إعادة إسرائيل لحدود 4 حزيران 1967 مقابل إحياء اتفاق الهدنة 1949. ستحاول واشنطن تحسين شروط الصفقة عبر مقايضة حدود 67 بالتطبيع العربي الكامل مع إسرائيل , لكنها لن تقدر على فرضها إن تماسك الممانعون . هناك تسريع الانسحاب الأمريكي من العراق وشموليته مقابل إعفاء واشنطن من تعويضات احتلالها وآثامه (مرفقة بإعفاء العراق من بقايا عقوبات سابقة عليه) , وهناك وقف التدخل بالشؤون الداخلية لإيران , والقبول بامتلاك إيران للمعرفة النووية ( كما البرازيل واليابان مثلا ) , وخروج الأسطول الخامس من الخليج إلى المحيط الهندي ليتموضع هناك كما في الأطلسي والباسفيكي .

والطريف أن أوباما كرر بإطناب عزمه على نقل مسرح عملياته من العراق إلى أفغانستان بزعم أن المعركة الفيصل هناك وأنه سيخوضها بقضّه وقضيضه , وحتى " النصر المبين" على الجهادية السنيّة . والحال أن تلك وصفة أكيدة لانتحار إمبراطورية أصرت عليه بكامل وعيها... والأدق بدونه . طريقه الأوحد هو الانسحاب الشامل مصحوبا بتسوية سياسية محلية – إقليمية تشمل طالبان والحزب الإسلامي وتحالف الشمال والهزارة في الداخل , وباكستان وإيران ومنظمة شنغهاي في الخارج . لقد وصل الحال بالإمبراطورية الفريدة ( إمبراطورية قواعد ووكلاء ارتكاز اقليميين وشركات متعدية الجنسية - أمريكية الأصول ) أن ثار عليها , ببأس لا يلين , من كان يحتسب من جواريها وأقنانها في الأمريكيتين الوسطى والجنوبية , أي حديقتها الخلفية التي أرسي مبدأ مونرو لإبقائها في الحظيرة .

إن عقيدة المؤسسة الذي طال الاعتياش عليه بأن " قدر أمريكا المتجلي " هو تجسيد لاستثنائيتها , وضرورتها , وحتمية اصطفاف أمم الأرض في طابورها , تخبو الان جذوتها وتنطفىء . لقد كان النصف الثاني من القرن العشرين قرنا شبه أمريكي , لكن أمارات الدعث والتداعي بدت عليه مع نهايته , فما أن لاحت تباشير القرن الواحد والعشرين إلا وتلاشت بشارة أنه القرن الموعود . هو قرن الإنسانية جمعاء , كلّ حسب إسهامه وقدرته وطموحه .....أما دعاوى "الاستثنائية" و"الحلم" فكلها فقاعات هواء تغيب كحلم ليلة صيف . والراجح أن المجتمع الأمريكي لايعرف الثورة , لكنه يعرف التحول , بدليل أن تحولات بنيوية كبرى لحقت به على مدى قرنين من الزمان : 1860 وتحرير العبيد... 1898 والتوسع الإمبريالي خارج الحدود.. 1932 وإعادة انتاج الرأسمالية مع روزفلت ... و 1980 والردة الريغانية , والآن 2008 – 2009 ....عند مفترق الطرق . إن واحدة من أسوأ مخاطر التعامي عن نهج الضرورة هو صعود فاشية أمريكية صارخة تستمد سمادها وأودها من بيض ذكور يعتقدون أن الخارج سبب العلّة , ومهاجروه في الداخل رافعتها , وأن أمريكتهم تتسرب من أيديهم كحبات الماء , ومن ثم فلا مناص من أن يستبقوا منتصف القرن وتحولاته الديموغرافية الكبرى بإعلان معظم المعمورة ديار حرب , وملوّني الداخل طابورها الخامس . لن يكون التحول سهلا.. صحيح , لكنه فعل اضطرار وليس اختيار . هو سيوتّر أجواء المجتمع لحدود حرب أهلية ثقافية.. نعم , إذ لم ينتخب أوباما قرابة 46 مليون مواطن مقابل 66 مليون صوتوا له , و بعلم أن 42% فقط من البيض منحوه أصواتهم . والحاصل أن البيض هم الان زهاء ثلثي السكان , فيما سيضحون أقل من النصف مع انتصاف القرن , ثم إن هزال الفكر طابع كوادر المؤسسة الراهنة , وضمور المعرفة ميسمها .

أليست فضيحة أن ثلث البالغين – 60 مليون - هو إما أمي أو شبهه , وأن ثلث خريجي الثانوية العامة و 40% من خريجي الجامعات لم يقرؤوا كتابا بعد التخرج , وأن 80% من العائلات لم تشتر كتاب طيلة عام 2007 . والحاصل أن الأميتين الوظيفية والثقافية هما ناموس شرائح متسعة من عامة الناس . رغم ذلك كله وبه ومعه ، فإن لحظة الحقيقة قد أزفت . ان حوصلة من أهم قسمات العقل الأمريكي تجمع " العملية " و" الذرائعية " و " النفعية " , تدفعني لأرجّح أن المؤسسة ستسلّم بالمقدور وتتصرف على هديه .

ذلك هو " قدر أمريكا المتجلي" في القرن الواحد والعشرين .

والله أعلم . د . كمال خلف الطويل

واشنطن، 25 تشرين 2، 2008