نساء في حياة المقريزي

من معرفة المصادر

أمّ نساء في حياة المقريزي‮ ناصر الرباط
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (M.I.T.)
تشرين الثاني‮ ٧٠٠٢‬

مازال التاريخ القروسطي العربي بقعة معتمة بعض الشيء على الرغم من الاهتمام الكبير بتحقيق مصادره المخطوطة خلال نصف القرن الماضي بحيث أنها أصبحت بغالبيتها متاحة في طبعات متعددة أحياناً، وعلى الرغم من ازدياد عدد الباحثين المتخصصين ازدياداً مضطرداً خلال الفترة ذاتها ومقاربتهم لشتى المواضيع التاريخية بحثاً وتمحيصاً ومناقشةً. ولهذا الغموض التاريخي أسباب، بعضها موضوعي، كسكوت المصادر عن بعض مناحي الحياة العامة والخاصة وغياب الدلائل المادية من مبنى وأداة وحلية أو لباس، وبعضها مقصود، أي أن العتمة تعتيم في الحقيقة، كإغفال المصادر لبعض مالم يعجب كاتبيها أو تحويرهم إياه ليتلاءم مع نظرتهم للأمور، أو كرفض الدارسين المحدثين التطرق لبعض المواضيع الخلافية والشائكة خوفاً أو تعففاً أو تزلفاً، وبعضها الآخر ثقافي-إجتماعي وسيكولوجي، أي أنه نتاج تضافر عوامل عدة منها المبتغى لغايات شتى، ومنها المادي، ومنها الخاضع لسياقات المجتمع المعرفية والأخلاقية. هذا النوع من العتمة هو الأصعب على التفسير والأجدر به في آن واحد لأن تحليله وإضاءة جوانبه لاتلقي ضوءاً جديداً على معرفتنا التاريخية وحسب، ولكنها أيضاً تسلط نورها على نوازعنا، كأفراد وكمجتمع، وعلى مقاربتنا للتاريخ وتفاعلنا معه في حياتنا المعاصرة سلباً وإيجاباً.

حياة المرأة، نصف المجتمع وعموده ومبرر بقاءه ووجوده، واحد من أهم وأخطر تلك المواضيع التاريخية المغيبة بشكل عام من الخطاب التاريخي‮ ‬العربي‮ ‬في‮ ‬العصور الوسطى‮،‮ ‬التي‮ ‬اصطلح‮ -‬زوراً‮ ‬وبهتاناً‮ ‬برأيي‮- ‬على تسميتها بعصور الانحطاط،‮ و‬التي‮ ‬تمتد عموماً‮ ‬بين القرنين الحادي‮ ‬عشر والثامن عشر. ففي هذه الفترة الطويلة حقاً ‬لانجد أي‮ ‬صوت نسائي‮ ‬مستقل على الإطلاق،‮ ‬ماعدا ذلك الصوت المحاجج والرائع في‮ ‬عالم القصص‮: ‬صوت شهرزاد التي‮ ‬لم تعادلها أية امرأة في‮ ‬البلاد،‮ ‬ولكن بلاد الخيال بالطبع، مما يزيد من رجاحة الرأي بأن غياب الصوت النسائي أو تغييبه في الواقع والأدب قد اضطره للهجرة إلى عالم الخيال. وهو قد وجد بعضاً من فضاء الحركة هناك في سير ألف ليلة وليلة وغيرها من قصص الخيال، خاصة الجنسية منها مثل سير "الألفية" تلك الجارية الماهرة في فنون الجنس والتي جربته مع ألف رجل بحيث استحقت ذلك اللقب الغريب والجارح بسخريته وشديد الدلالة بنظرته للمرأة.

‬والأمر نفسه‮ ‬يتكرر في‮ ‬مجال الحياة الاجتماعية‮: ‬فالفضاء المدني‮ ‬لايمكن وصفه إلا بأنه فضاء ذكوري‮ ‬مطلق لادور فيه‮ ‬يذكر للمرأة إلا في‮ ‬بعض النواحي‮ ‬الخيرية،‮ ‬التي‮ ‬ساهمت فيها بعض نساء الطبقة الحاكمة ببعض ثرواتهن في‮ ‬دعم المؤسسة الدينية عن طريق إقامتهن لأوقاف خيرية للصرف على مدرسة أو زاوية أو خانقاه،‮ ‬غالباً‮ ‬من خلال وكيل ومن دون أن‮ ‬يظهرن على الملأ،‮ ‬أو في‮ ‬الزوايا التآمرية المعتمة،‮ ‬حيث نسمع همسات،‮ ‬حانقة وغاضبة ومنذرة،‮ ‬عن تدخل بعض نساء أو جواري‮ ‬الحكام في‮ ‬الحكم وتلاعبهن برجاله عن طريق دلعهن وسيطرتهن الجنسية عليهم‮. ‬القليلات من نساء الحكام هن من‮ ‬أبدين اهتماماً‮ ‬بوضع المرأة في‮ ‬المجتمع بشكل عام فوجهن بعضاً‮ ‬من ثرواتهن باتجاه أخواتهن كإنشاء خانقاه للنساء من الصوفيات كما في‮ ‬حالة الست حدق، قهرمانة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والأميرة طغاي، زوجته وأم ولده الأثير أنوك.

هذا عن نساء الطبقات العليا،‮ ‬أما عن وجود المرأة العادية في‮ ‬المجتمع فنحن كثيراً‮ ‬مانطالع في‮ ‬المراجع التاريخية‮ ‬إدانةً‮ ‬للنساء عموماً‮ ‬بسبب من استعدادهن للاستهتار والتبرج في‮ ‬كل مناسبة،‮ ‬مثل الأعياد والاحتفالات السلطانية بصعود عرش أو القضاء على منافس أو تدمير عدو‮. ‬‮‬تطالعنا أحياناً أيضاً‮ ‬تحذيرات وتوعدات عن العلاقة بين الكوارث التي‮ ‬أصابت المجتمع،‮ ‬مثل الطواعين المتكررة أو الجدب أو الفيضانات أو الغزوات المغولية المدمرة،‮ ‬وبين فساد الأخلاق العامة الناتج من السماح بخروج النساء إلى المحلات العامة واختلاطهن بالرجال في‮ ‬المناسبات الاحتفالية اختلاطاً‮ ‬فاحشاً‮ ‬على‭ ‬رأي‮ بعض ‬مؤرخينا كابن أياس وابن الحاج المغربي المشهور بتزمته‮. ‬وتبقى الشهادات الإيجابية بحق النساء عامة أو أية امرأة بذاتها قليلة،‮ ‬وهي‮ ‬في‮ ‬غالبيتها تنصب على التنويه بورعها وعبادتها أوصونها وعفافها وطاعتها لزوجها ومساعدتها للفقراء والمحتاجين‮. ‬ومن النادر جداً‮ ‬أن نجد أي‮ ‬معلومات أخرى عن‮ ‬امرأة ما، مشهورة أم لا،‮ ‬ماعدا بعض الحالات الاستثنائية الخاصة بالزاهدات المتعبدات أو المحدثات اللواتي‮ ‬اشتهر بعضهن في‮ ‬القرون الوسطى،‮ ‬لعل أهمهن الدمشقية عائشة الباعونية‮ (‬ت‮. ٦١٥١) ‬المؤلفة العربية الوحيدة‮ -‬على حد علمي‮- ‬لكتاب ذي‮ ‬صبغة تاريخية دينية،‮ ‬وهو كتابها في‮ ‬مدح النبي‮ "‬المورد الأهنى في‮ ‬المولد الأسنى،‮" ‬الذي‮ ‬حققه ونشره‮ ‬فارس أحمد العلاوي‮ ‬ولؤي‮ ‬غنام‮، والتي مازلنا مع ذلك لانعرف الشيء الكثير عنها إلا مايمكننا أن نستقيه من معلومات عن دروسها والآخذين عنها.

ولايختلف الأمر كثيراً‮ ‬عندما ننظر إلى مجال الحياة الخاصة‮. ‬فهنا أيضاً‮ ‬يندر أن نجد تمثيلاً‮ ‬وافياً‮ ‬لوجود المرأة في‮ ‬المضمار الوحيد الذي‮ ‬تمكنت فيه من الحركة بحرية نسبية،‮ ‬أي‮ ‬البيت‮. ‬فعلى الرغم من رواج الكتابة التاريخية في‮ ‬القرون الوسطى،‮ ‬وبشكل خاص في الفترة المملوكية التي شهدت نهضة تأريخية لاسابق لها وظهر فيها المئات من المدونين والمؤرخين الذين غطوا في كتاباتهم شتى المواضيع السياسية والعسكرية والاجتماعية بل وحتى الثقافية، وحرروا آلاف الصفحات عن كل شاردة وواردة في حوادث مصر والشام خلال تلك الفترة، ودبجوا مئات الآلاف من السير الذاتية في كتب التراجم التي‮ ‬أرخت لكافة طبقات الفاعلين في‮ ‬المجتمع‮ ‬من أمراء وقضاة وعلماء وفقهاء ومحدثين وأدباء وشعراء وأطباء وحتى بخلاء وعميان ومغفلين،‮ ‬فنحن لانعثر إلا على القليل القليل من سير النساء كما في‮ ‬المجلد الوحيد والهزيل المخصص للنساء من كتاب شمس الدين السخاوي‮ " ‬الضوء اللامع في‮ ‬أعيان القرن التاسع‮." ‬ولانجد أيضاً‮ ‬إلا القليل النادر من الإشارات لحياة الرجال المؤرَخين العائلية،‮ ‬أو لأمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم وسراريهم في‮ ‬كتب التاريخ والسير‮. ‬ولايطالعنا عموماً‮ ‬إلا بعض الملاحظات العابرة عن نمط‮ ‬سلوكهم في‮ ‬محيطهم العائلي،‮ ‬وأقل من ذلك عن علاقاتهم بالنساء في‮ ‬حياتهم وعواطفهم تجاههن‮. ‬كيف نظروا إليهن؟ كيف فكروا فيهن؟ كيف عاملوهن؟ هل اعتبروهن رفيقات حياة؟ أو رأوهن ككيان أسروي‮ ‬منفصل لاعلاقة له بحياتهم إلا في‮ ‬شؤون الجنس ورعاية البيت والذرية والحفاظ على السمعة والشرف؟‮ ‬أو بين هذا وذاك؟‮ ‬هل أحبوهن أو كرهوهن؟ كيف عبروا عن‮ ‬ذلك الحب أو تلك الكراهية؟ تلك أسئلة تبقى معلقة من دون أجوبة في‮ ‬عموم الأحوال حتى عندما‮ ‬يطالع القارئ ذلك النوع الأدبي الحديث‮ ‬الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬لأكثر مظاهر الذات خصوصية‮: ‬السيرة الذاتية،‮ ‬التي‮ ‬ينتظر منها أن تتعاطى في‮ ‬بعض هذه الشؤون الخاصة والعائلية. وهي لاتفعل فيما عدا القليل منها الذي مازال يثير في أوساط القراء المعاصرين الكثير من الاستهجان كما حدث في حالة سيرة أدوارد سعيد الذاتية "خارج المكان،" التي هاجمها البعض بسبب ماوصفوه "بقلة الاحترام" التي عامل فيها سعيد ذكرى بعض أفراد أسرته، خصوصاً والده، أو كما حصل مؤخراً وإن بنطاق أضيق مع سيرة جلال أمين الذاتية "ماذا علمتني الحياة؟" التي أثارت غضبة بعض القراء مما يبدو وأنه "فضح" لقلة تدين والده ووالدته على الرغم من اشتهار الوالد، أحمد أمين، بكتاباته التاريخية الإسلامية.

من هذا المنطلق فإن أي‮ ‬سيرة لشخصية قروسطية تتعرض لبعض مظاهر علاقته بالنساء في حياته جديرة بالاهتمام والاحتفال لندرتها واختلافها عن المئات‮ ‬غيرها من السير التي‮ ‬تقتصر على النواحي‮ ‬المدنية والمهنية العامة والتي تقدم لنا صوراً‮ ‬باردة،‮ ‬محايدة،‮ ‬ووحيدة البعد لأصحابها‮. ‬أما هذه السير‮ ‬غير العادية والنادرة _كسيرة الفارس الشيزري أسامة ابن منقذ، "كتاب الاعتبار،" وسيرة المؤرخ الدمشقي أبي‮ ‬شامة المعروفة "بالذيل على الروضتين‮،" واللتين‮ ‬تتطرقان للحياة الخاصة لكاتبيهما_ فهي‮ ‬تضفي ‬على كتابها أبعاداً‮ ‬إنسانية تجعلنا نشعر معهم،‮ ‬نتعاطف مع آلامهم،‮ ‬نسر لنجاحاتهم،‮ ‬ونحزن لمصائبهم على الرغم من بعد الزمن الذي‮ ‬يفصلنا عنهم. ‬هذه السير تفتح لنا نوافذ على عقليات ومشاعر كانت ستبقى مجهولة تماماً‮ ‬بالنسبة لنا،‮ ‬بل وتسمح لنا‮ - ‬وربما كان هذا أهم مافيها‮- ‬بالتعرف بعض الشيء على علاقات أصحابها العائلية وبشكل خاص على صلاتهم بالنساء في‮ ‬حياتهم، وبالتالي بالولوج قليلاً إلى حياة النساء في العصور الوسطى، تلك البقعة المعتمة تماماً في معارفنا عن ذلك العصر‮.

سأعرض هنا لسيرة معبرة أخرى لعالم ومؤرخ من أكثر علماء العرب شهرة في‮ ‬العصر المملوكي‮: ‬تقي‮ ‬الدين أحمد بن علي‮ ‬بن عبد القادر المقريزي‮ (٤٦٣١-٢٤٤١)، تلعب فيها النساء دوراً قل وجود مثيله في سير أخرى مشابهة من العصر نفسه. ‬لاأظن أن أحداً‮ ‬ممن تعاطى في‮ ‬التاريخ القروسطي‮ ‬لبلاد الشام ومصر‮ ‬يجهل المقريزي أو‮ ‬يجهل قيمته‮، فهو ‬صاحب المؤلفات التاريخية العديدة التي‮ ‬لعل أشهرها هو تاريخه لمدينته القاهرة‮ "‬كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثا‮ر،" الذي أنا بصدد إنهاء كتاب عنه وعن أسبقيته في مجال التاريخ العمراني. ‬ وهو كذلك ‬صوت متفرد ومتميز في‮ ‬تاريخ‮ ‬مصر وبلاد الشام،‮ ‬بل وفي‮ ‬التاريخ الإسلامي‮ ‬برمته،‮ ‬أثبت في كتاباته التاريخية‮ ‬أنه‮ ‬يمتلك حساً‮ ‬تاريخياً‮ ‬حقيقياً،‮ ‬مغايراً‮ ‬كل المغايرة للاجترار التدويني‮ ‬الذي‮ ‬طبع معظم انتاج معاصريه وسابقيه والكثير من تابعيه‮. لم‮ ‬يكتب المقريزي‮ ‬سيرة ذاتية بالمعنى الصريح للعبارة وإنما ‬قدم نتفاً‮ ‬من حياته ضمن عرضه لسير حياة معاصريه في‮ ‬كتابه الصغير‮ "‬درر العقود الفريدة في‮ ‬تراجم الأعيان المفيدة‮،" على الأغلب تحرجاً‮ ‬وتعففاً‮ -‬بعضه بحكم المهنة والعادة‮- ‬عن التركيز على النفس‮. ‬ولكنه مع ذلك ‬خالف العادة في‮ ‬عصره‮ وقدم لنا صوراً‮ ‬معبرة وحساسة عن بعض النساء المهمات في‮ ‬حياته اللواتي ‬سطر سيرهن باختصار وبأسلوب حاول أن‮ ‬يجعله رصيناً‮ ‬ولكنه أتى‮ ‬يذوب رقة وحناناً‮. ‬هذه الأمثلة،‮ ‬وإن كانت لاتكفي لتكوين صورة متكاملة عن النساء في‮ ‬عقلية علماء العرب القروسطيين إلا أنها ‬تضيء بعض الجوانب الإنسانية المؤثرة عن علاقة عالم‮ ملتزم وحساس وشديد الإيمان بنساء أسرته‮.‬

فالمقريزي‮ كان بحق نسيج وحده. فهو ‬وإن‮ ‬ابتدأ حياته المهنية على نفس المنحى المعتاد عند معظم العلماء القروسطيين من التتلمذ لكبار علماء عصره والاستفادة من اتصالات عائلته والسعي‮ ‬لنيل الحظوة عند الأمراء وأصحاب الشأن،‮ ‬و‮"‬قضى شطراً‭ ‬طويلاً‮ ‬من فتوته وهو‮ ‬يجالد في‮ ‬كواليسهم للوصول إلى منصب‮ ‬يرضاه‮،" ‬نجده فجأة ومن دون سبب واضح‮ ‬يقرر الكف عن التزلم للأكابر وينعزل في‮ ‬بيته العائلي‮ ‬في‮ ‬حارة برجوان في‮ ‬قلب قاهرة المعز وهو في‮ ‬عز الشباب وفورة النشاط وينصرف للمطالعة والكتابة والعبادات التي‮ ‬قاربت التصوف.‬‮ ‬ولاندري‮ ‬سبباً‮ ‬مباشراً‮ ‬لهذا القرار وإن كان‮ ‬يبدو حصيلة سنين من المعاناة من الصراعات المذهبية‮ (‬أي‮ ‬بين أتباع المذاهب السنية الأربعة‮) ‬والسياسية والمنفعية والتكالب على المناصب والفساد والرشاوى التي‮ ‬عايشها المقريزي‮ ‬عن قرب من خلال اتصاله بالسلطان برقوق وابنه فرج وبكبار رجال دولتيهما ومن بعدهما بالسلطان المؤيد شيخ الذي‮ ‬أدناه في‮ ‬بداية حكمه ثم أبعده من‮ ‬غير ما سبب واضح،‮ ‬ومن خلال المناصب التي‮ ‬شغلها خلال تلك الفترة وعلى رأسها وظيفة حسبة القاهرة التي‮ ‬احتلها ثلاث مرات‮ (‬آذار-آب ‮٩٩٣١‬؛ كانون الثاني‮- ‬نيسان ‮٠٠٤١‬؛ نيسان-آيار ‮٥٠٤١)‬‭ ‬ والتي‮ ‬أتاحت له الفرصة لكي‮ ‬يشاهد بعينيه السوس الذي‮ ‬كان‮ ‬ينخر في‮ ‬بنية السلطة المملوكية والفساد الذي‮ ‬استشرى في‮ ‬مختلف طبقات المجتمع من عامة وحكام‮. ‬وقد شحذت تجربة الحسبة قريحة المقريزي‮ ‬وأمدته بالخبرة اللازمة والمعلومات الوفيرة التي‮ ‬استعملها في‮ ‬تأليف كتيبيه المهمين‮: ‬الأول،‮ ‬إغاثة الأمة بكشف الغمة،‮ ‬عن الضائقة الاقتصادية التي‮ ‬واجهت المجتمع المملوكي‮ ‬في‮ ‬بداية القرن الخامس عشر،‮ ‬والثاني،‮ ‬شذور العقود بذكر النقود،‮ ‬عن السياسة النقدية للدولة المملوكية،‮ ‬ليأتي‮ ‬من بعدهما كتابه الفريد عن الخطط وافياً‮ ‬وشاملاً‮ ‬في‮ ‬معلوماته العمرانية والاقتصادية والتاريخية. ‬‮ وقد ظهرت أول أعراض القرف على هذا العالم الشديد الإيمان ونقيه ‬عندما كان بصحبة السلطان فرج بن برقوق وحاشيته في‮ ‬دمشق بين ‮٧٠٤١ ‬و ‮٢١٤١. ‬فقد عرض السلطان عليه قضاءها مراراً‮ ‬وهو‮ ‬يرفض ولو أنه باشر بعضاً‮ ‬من الوظائف الصغيرة من تدريس وإدارة وقف‮.‬‮ ‬وبعد مقتل فرج وانتقال السلطة إلى السلطان المؤيد شيخ عام ‮٢١٤١‬،‮ ‬عاد المقريزي‮ ‬إلى القاهرة من دمشق وأعرض عن الوظائف وانقطع في‮ ‬داره عاكفاً‮ ‬على الخلوة والعبادة والتأليف،‮ ‬وتوقف عن التردد لأحد إلا فيما ندر‮. ‬ولم‮ ‬يغادر القاهرة إلا مرتين على الغالب في‮ ‬أواخر حياته للحج والمجاورة في‮ ‬مكة إتماماً‮ ‬لفروض دينه وانعكاساً‮ ‬لمتطلبات زهده المتنامي‮. ولما كان السلاطين بعد فرح قد ‬أبعدوه من‮ ‬غير إحسان‮" ‬على حد رأي‮ ‬ابن تغري‮ ‬بردي،‮ ‬تلميذه ومنافسه أحياناً‮، ‬فقد أخذ هو، أي المقريزي، في‮ ‬ضبط مساوئهم وانتقاد سياساتهم نقداً‮ ‬عنيفاً،‮" ‬على أنه كان‮ "‬ثقة في‮ ‬نفسه،‮ ‬ديناً،‮ ‬خيراً‮. ‬وقد قيل لبعض الشعراء إلى متى تمدح وتهجو،‮ ‬فقال،‮ ‬مادام المحسن‮ ‬يحسن والمسيء‮ ‬يسيء‮."‬‮ ‬هذا هو في‮ ‬الحقيقة لسان حال المقريزي‮ ‬الذي‮ ‬تمكن،‮ ‬بحكم إبعاده عن الدولة،‮ ‬من الجهر في‮ ‬كتاباته‮ ‬بما لم‮ ‬يقله‮ ‬غيره علانية حفاظاً‮ ‬على المنصب والصلة،‮ ‬ومن تتبع أخطاء ومثالب وفساد الحكام في‮ ‬زمانه‮. ‬وحاول من ضمن معطيات علمه وعقيدته تحليل مظاهر الفساد وتبيان نتائجها في‮ ‬تدهور الإقتصاد المملوكي‮ ‬وزيف العملة وتفسخ المجتمع وفي‮ ‬الخراب الذي‮ ‬حاق بعمران مصر والقاهرة بشكل خاص‮.

وقد قضى المقريزي‮ ‬النصف الثاني‮ ‬حياته‮ (‬من ‮٢١٤١ ‬إلى ‮٢٤٤١) ‬في‮ ‬عزلة نسبية بعيداً‮ ‬عن مواقع السلطة ومسييريها من سلاطين وأمراء وكتاب ووزراء‮. ‬وكتب وصنف مجموعة من كتب الأخبار عن السلالات التي‮ ‬حكمت مصر الإسلامية وعن أهم رجالاتها،‮ ‬مجموعها سبعة،‮ ابتدأها بكتاب صغير عن دخول العرب إلى مصر وترتيب قبائلهم سماه‮ ‬البيان والإعراب عمن دخل مصر من الأعراب،‮ ‬أتبعه بكتاب عن عاصمة مصر الإسلامية الأولى تحت عنوان،‮ ‬عقد جواهر الأسفاط في‮ ‬تاريخ مدينة الفسطاط،‮ ‬وهو للأسف مفقود اليوم،‮ ‬ثم كتابه المهم عن الفاطميين،‮ ‬إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا،‮ ‬المتعاطف مع هذه السلالة الحاكمة التي‮ ‬أدانتها العقلية السنية السائدة والذي‮ ‬يفصح عنوانه ومضمونه عن ميول المقريزي‮ ‬للفاطميين الذين كان‮ ‬يعتقد أنه من سلالتهم،‮ ‬وفي‮ ‬النهاية كتابه الكبير والمهم‮ ‬السلوك لمعرفة دول الملوك،‮ ‬الذي‮ ‬يعرض فيه حوادث العهدين الأيوبي‮ ‬والمملوكي‮ ‬بما فيها مشاهداته الشخصية حتى قبيل وفاته‮. ‬ويبدو أن المقريزي‮ ‬قد اتبع الترتيب الزمني‮ ‬في‮ ‬تأليف هذه الكتب مع أنه شغل نفسه خلال نفس الفترة بتجميع كتيبات صغيرة عن مواضيع مختلفة،‮ ‬أغلبها تاريخي‮ ‬أو ترجمي‮ (‬مجموعها ‮٩١ ‬كتيباً،‮ ‬منها ‮٢١ ‬منشورة وفقاً‮ ‬لمعلوماتي‮). ‬وخلال هذه الفترة الطويلة كلها كان المقريزي‮ ‬مشغولاً‮ ‬على الدوام بكتابه المركزي،‮ ‬"كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار،"‮ ‬الذي‮ ‬أخذ من جهده أكثر من أي‮ ‬من مؤلفاته الأخرى‭ ‬ومات دون أن‮ ‬يكمله كما أراد واشتهى‮. ‬فهو على مايبدو من خلال التواريخ التي‮ ‬تظهر ضمن الكتاب مافتئ‮ ‬يزيد وينقح فيه منذ بداية تأليفه حوالي‮ ‬العام ‮٥١٤١ ‬وحتى سنتين قبل وفاته‮ (٠٤٤١)‬،‮ ‬بل حتى‮ ‬يظهر أنه عدل في‮ ‬مخططه الأساسي‮ ‬ومنهجه مع مرور الزمن وتراكم المواد الأولية لديه من جهة،‮ ‬وتغير رأيه بالنظام المملوكي‮ ‬القائم من جهة أخرى،‮ ‬كما‮ ‬يظهر ذلك واضحاً‮ ‬من مقارنة المسودة التي‮ ‬نشرها أيمن فؤاد سيد‮ ‬والتي‮ ‬تمت كتابتها بين ‮٥١٤١ ‬و‮٠٢٤١ ‬على رأي‮ ‬ناشرها،‮ ‬مع المبيضة المنشورة والتي‮ ‬تعود افتراضاً‮ ‬إلى آخر تنقيح وإضافة أجراهما المقريزي‮ ‬على الكتاب قبيل وفاته وإن كان مازال‮ ‬غير كامل وفقاً‮ ‬لما وعد المقريزي‮ ‬به نفسه في‮ ‬ديباجة الكتاب‮. ‬والأمر نفسه فيما يتعلق بكتاب التراجم الكبير،‮ "‬المقفى الكبير،‮" ‬الذي‮ ‬أراده على مايبدو جامعاً‮ ‬وحاوياً‮ ‬لتراجم كل من سكن مصر أو زارها أو مر بها من الشخصيات المهمة،‮ ‬ولكنه أيضاً توفي‮ ‬قبل أن‮ ‬يتمكن من إتمامه‮.

أما كتاب تراجم الشخصيات المعاصرة له "‬درر العقود الفريدة في‮ ‬تراجم الأعيان المفيدة‮،" _وهو مايهمنا هنا_ ‬فهو على مايبدو مما يقوله في ديباجته قد ابتدأ بكتابته عندما بلغ الخمسين من العمر، أي حوالي عام ١٤١٥، بعدما لاحظ بأسى وحزن أنه يشيخ وأن العديد من أهله ومعارفه وأصحابه قد توفوا، فرغب بحفظ ذكراهم _لنفسه كما يقول_ مما لعله يفسر اللهجة الصريحة والعاطفية في تراجم أولئك الذين أحبهم وأحبوه من معاصريه. واستمر المقريزي يزيد وينقح في الكتاب منذ بداية تأليفه ‬وحتى قبيل وفاته كما يبدو من خلال التواريخ التي‮ ‬تظهر ضمن دفتيه. وقد نشر هذا الكتاب مؤخراً ثلاث مرات: في المرتين الأوليين في‮ ‬طبعتين من المخطوطة‮ ‬غير الكاملة‮ (‬تحتوي‮ ‬على ‮٠٣٣ ‬ترجمة من الأصل المقدر ب‮٦٥٥ ‬ترجمة‮،‮ ‬المحفوظة في‮ ‬مكتبة‮ ‬غوطا‮ -‬مخطوطة ‮٠٧٢ ‬عربية‮) ‬نشرتا بفارق ثلاث سنوات بينهما من دون أي‮ ‬تبرير‮. ‬الأولى بجزئين بتحقيق محمد كمال الدين عز الدين‮ (‬بيروت‮: ‬عالم الكتب،‮ ٢٩٩١) ‬والثانية بجزئين أيضاً‮ ‬بتحقيق درويش ومصري‮ (‬دمشق‮: ‬وزارة الثقافة،‮ ٥٩٩١). ثم أتى محمود الجليلي، الذي عرف عنه امتلاكه للنسخة الوحيدة الكاملة والتي كان ضنيناً بها على الباحثين، ونشر الكتاب كاملاً في أربعة أجزاء (بيروت، دار الغرب الإسلامي، ٢٠٠٢).

في هذا الكتاب الصغير والذي يبدو أقرب مايكون إلى المدونة الشخصية غير المكتملة،‬‮ ‬يفرد المقريزي لأمه ترجمة شيقة وغير عادية. ‬يبدأ الترجمة بمكان وتاريخ ميلادها ووفاتها (القاهرة، ١٣٤٦-١٣٩٧) على الطريقة المتبعة في التراجم. و‬يخبرنا المقريزي أيضاً باسم أمه ونسبها،‮ ‬وهو تصرف نادر بين الطبقات المتزمتة أساساً،‮ ‬فهي‮ ‬أسماء بنت محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصائغ‮ ‬الحنفي،‮ ‬أحد أشهر علماء الحنفية في‮ ‬عصره ومدرس المقريزي‮ ‬الأول‮. ‬ويعطينا الابن لمحة عن حياة أمه،‮ ‬فهي‮ ‬قد تزوجت ثلاث مرات،‮ ‬الأولى عندما كانت طفلة في‮ ‬الثانية عشرة وزفت إلى رجل يدعى نجم الدين المهلبي فارقها فتزوجت بأبي‮ ‬المقريزي،‮ ‬علي‮ ‬بن عبد القادر،‮ عام ٣٦٣١ (أي عاماً واحداً قبل ولادة المقريزي). ثم مات علي سنة ٧٧٣١ ‬ليخلفه عليها آخر بعد وفاته‮ ‬يهمل المقريزي‮ ‬ذكر اسمه ولكنه يخبرنا بأنها أنجبت من زوجها الثالث ذاك ولداً بالإضافة إلى ولدين اثنين غير المقريزي، محمد وحسن، كانت أنجبتهما لعلي بن عبد القادر. ‮ ‬وربما كان لإهمال ذكر المقريزي لاسم الزوج الثالث دلالة ما، ولكن المقريزي‮ ‬لايظهر أي‮ ‬استهجان لزواج أمه من آخر بعد أبيه ولايعلق أبداً‮ ‬على اختيارها لهذا الزوج الثالث أو حياتها معه‮. بل هو ‬يقول عنها أنها كانت‮ "‬من أفضل نساء زمانها‮:‬‭ ‬ديناً‮ ‬وعفةً‮ ‬وصيانةً‮ ‬وعقلاً‮ ‬ومعرفةً‮ ‬وصبراً‮ ‬وخبرةً‮،" وهي ‬كلها صفات مستحبة في‮ ‬النساء،‮ ‬وبخاصة منهن نساء وأمهات العلماء الوقورين الجادين كالمقريزي‮.

لعل المقريزي‮ ‬يذهب بعيداً‮ -‬حتى بالنسبة لعصره‮- ‬في‮ ‬التأكيد على سمو أخلاق أمه،‮ ‬إذ أنه‮ ‬يخبرنا بأنها كانت لاترفع النقاب عن وجهها حتى إذا ذهبت لزيارة قبر أبيها لأن‮ "‬الأرواح،‮" ‬برأيها‮ "‬بإزاء القبور‮." ‬ويؤكد المقريزي‮ ‬على هذا التشدد بأن‮ ‬يزيد بأنها قالت له مرة‮ "‬مارأيت قط وجه أجنبي‮." ‬ثم‮ ‬يكر لنا سبحة التزامها الديني‮ ‬الورع والشديد،‮ ‬فهي‮ ‬كانت‮ "‬تديم قيام الليل وصيام الإثنين والخميس،‮ ‬وتواظب على الأوراد من الذكر والقراءة،‮ ‬وتديم الإحسان للأيتام والأرامل والفقراء‮. ‬وحجت مع الرجبية‮ (‬أي‮ ‬الذين‮ ‬يذهبون للحج مبكرين في‮ ‬رجب‮) ‬فأنفقت مالاً‮ ‬كثيراً‮ ‬في‮ ‬وجوه البر‮." ‬ثم،‮ ‬بعد برهة‮ ‬يستجمع فيها أنفاسه،‮ ‬يظهر المقريزي‮ ‬حقيقة عاطفته تجاه أمه‮: " ‬وبالجملة فقل ماكان في‮ ‬عصرها مثلها‮."‬ لاندري بمن يقارنها المقريزي هنا ولكن الاعتزاز البنوي بأم وافقت في سيرتها وأخلاقها التزام ابنها واضح وجلي في هذه العبارة. بل لو أردنا أن نرى فيها مبالغة، وهي بالضرورة كذلك، فهي مبالغة تحببية من ابن لأمه، لعلها لاتختلف كثيراً في مضمونها وهدفها عما يقوله عامتنا اليوم عن تفوق طبخ أمهم مثلاً، أو جمالها الفائق، وكذلك أيضاً عن استقامة أخلاقها وحميد صفاتها، فالأم هي المثل الأعلى لابنها وموئل تشكل وعيه بفكرة المثل الأعلى أصلاً.

هذا هو بيت القصيد في سيرة أسماء،‮ ‬ولكن المقريزي‮ ‬لايسمح لعاطفته البنوية الواضحة بزعزعة وقاره،‮ ‬فهو لايتعرض لتلك الأشياء الصغيرة والخصوصية والعادية التي‮ ‬جعلته قطعاً‮ ‬يحب أمه ويحترمها،‮ ‬بل ويقدسها،‮ ‬كما لابد وأننا كلنا نشعر إزاء أمهاتنا،‮ ‬ولكنه‮ ‬ينزع لسرد القصص التي‮ ‬تثبت ندرة مثال أمه على الصعيد الأخلاقي‮ ‬الديني‮ ‬والانساني‮ ‬في‮ ‬آن لتبرير عاطفته التي‮ ‬لاتحتاج لتبرير من وجهة نظرنا المعاصرة‮. ‬فهي‮ ‬صابرة مصابرة،‮ "‬أقامت بالحمى إحدى وعشرين سنة وبها ماتت‮ ‬غير جازعة ولامتسخطة‮." ‬وهي،‮ ‬فوق ذلك،‮ ‬كانت ذات جلد خارق للعادة،‮ ‬فهي‮ ‬عندما "ابتليت بداء في‮ ‬عينها اقتضى قطع جفنيها بالحديد ـبدون مخدر بالطبع-لم تحتج إلى مسك‮ ‬يديها بل ثبتت لقص جفنيها ولم تتأوه أو تئن،‮ ‬بل مازادت على أن كانت تنفخ‮." ‬ويعلق المقريزي‮ ‬باندهاش‮ "‬فكان أمراً‮ ‬مهولاً‮ ‬لم نكد‮ -‬هو وخاله‮ محمد ابن الصائغ- ‬نثبت لرؤيته،‮ ‬وصبرت هي‮ ‬لعظيم مابليت به‮."‬

وهي‮ ‬كذلك ثابتة الجأش في‮ ‬مواجهة المصائب،‮ ‬ذات نزعة تأملية وحتى فلسفية بعض الشيء،‮ ‬فهي‮ ‬عندما فقدت ولداً‮ _لاندري أي من الثلاثة المذكورين هو_ ‬وعزيت فيه قالت‮: "‬ماأحسن الصبر لولا‮ ‬يفني‮ ‬العمر‮." ‬وكان‮ ‬لها الكثير من الحكم المروية التي‮ ‬اشتهرت النساء منذ القديم بتناقلها من جيل لجيل كمستودع شفهي‮ ‬للحكمة الشعبية التي‮ ‬حفظت للمجتمع طابعه ولحمته‮. ‬فهي‮ ‬مثلاً‮ ‬تعطي‮ ‬وصفات طبية شعبية مجربة لاتخيب‮. ‬وهي‮ ‬كذلك أخبرت ابنها عن عقوبة الشماتة القدرية،‮ "‬أنه مانزلت بأحد مصيبة فعمل جيرانه فرحاً‮ ‬إلا وأصيبوا عن قريب،‮" ‬أو عن الاعتقادات السائدة عن علاقات خفية بين دلالات الفعل وتأثيراته كما في‮ ‬قولها مثلاً‮ "‬أنه ماعمل عرس وختان معاً‮ ‬إلا وانتفض العرس وافترق الزوجان سريعاً‮ ‬لانه فيه قطع ووصل‮." ‬ وكانت أيضاً تخبر ابنها ببعض القصص ذات الأبعاد الخارقة للعادة، كقصة أم تاهت وابن صغير لها في جزيرة مهجورة بعد غرق السفينة التي كانت تقلهما، ثم أنقذها بعض البحارة فاستعادت ثروة زوجها الذي غرق ونمتها بطرق غرائبية لكي يستلمها ابنها ويتجر بها في البحر. وهذه قصة فيها الكثير من نكهة سير ألف ليلة وليلة، ولعلها واحدة من تلك المرويات الشعبية التي لم يسعفها الحظ بأن تدون كما هي في مجموعة ألف ليلة وليلة وإن تركت بعضاً من خيوط غرائبيتها في بعض تلك القصص العجيبة التي وصلتنا بعد قرون.

ولكن أرق مايثبته المقريزي‮ ‬عن أمه هو إخبارنا بأنها كانت تحب الإنشاد وأنها كانت تنشده مقاطع صوفية عشقية مرهفة،‮ ‬حفظتها عن أبيها،‮ ‬لعل أجملها‮:‬

قل للذي‮ ‬نقض العهود وخانـا‮ ‬وأمال‮ ‬نحو‮ ‬العاذل‮ ‬الآذانا
إن‮ ‬الذي‮ ‬خلق‮ ‬المحبة‮ ‬قادر‮ من بعدها‮ ‬أن‮ ‬يخلق‮ ‬السـلوانا

أو أيضاً، وهذا أخر ماينقله المقريزي عن أمه‮، وهما بيتان للمتصوف المشهور الشبلي الصالح الخراساني صاحب أبي القاسم الجنيد:

عودوني‮ ‬الوصال والوصـل عذب ‬ورموني‮ ‬بالصد‮ ‬والصـد‮ ‬صعب
زعموا‮ ‬حين‮ ‬أزمعوا‮ ‬أن‮ ‬ذنبي‮ فرط‮ ‬حبي‮ ‬لهم وما ذاك‮ ‬ذنب
لا وحق‮ ‬الخضوع‮ ‬عند‮ ‬التلاقي‮ ‬ماجزا‮ ‬من‮ ‬يُحِب‮ ‬إلا‮ ‬يُحَبُّ

فكيف وأين كانت أسماء تنشد ابنها هذا الشعر؟‮ ولماذا هذا الشعر بالذات خاصة وأن المقريزي نفسه، الذي قرض الشعر هو أيضاً، لايرقى في شعره إلى هذه الدرجة من الشفافية الغزلية أو التعبير العاطفي. ‬هذا ما لايخبرنا إياه المقريزي‮. ‬ولكنه‮ ‬يضيف تعليقاً‮ ‬على‭ ‬الأبيات التي‮ ‬ينقلها أنها أبيات اشراقية تصوفية‮. ‬فهل‮ ‬يقصد المقريزي‮ ‬من تلك الملاحظة أن‮ ‬يخبرنا أن أمه كانت متصوفة؟ لاأظن ذلك،‮ ‬ولكن إنشاد مشاعر الحب صراحةً‮ ‬أمر‮ ‬غير مستحب في‮ ‬أوساط العلماء،‮ ‬خاصة إذا كانت المشاعر آتية من شخصية لاتمس،‮ ‬بل ويفترض فيها أنها الحاوية لكل الأخلاق الحميدة،‮ ‬كالأم‮. ‬أما التواري‮ ‬خلف مشاعر العشق الإلهي‮ ‬فممكن بل ومحبب،‮ ‬لأن التصوف بعاداته وأشعاره كان قد دخل ضمن المجال العلمي‮ ‬المحترم منذ القرن الثاني عشر ميلادي (السادس الهجري) ولاقى قبولاً‮ ‬في‮ ‬أوساط العلماء والفقهاء‮. ‬فهل كانت أسماء تعني‮ ‬أحداً‮ ‬معيناً‮ ‬في‮ ‬إنشادها؟ أبو المقريزي‮ ‬مثلاً‮ ‬أم ذلك الزوج الثالث المجهول،‮ ‬أم أنها فعلاً‮ ‬كانت تتغنى بالذات الإلهية أو المعشوق الأزلي‮ ‬المترفع؟ هذا هو مايتركنا المقريزي‮ ‬معه في‮ ‬نهاية ترجمته لأمه،‮ ‬ربما لأنه لايريد الإفصاح أكثر، احتراماً لذكرى أبيه أو تعففاً من أي سوء ظن قد يلحق أمه لو أنه وجه عواطفها باتجاه أحد من أزواجها،‮ ‬أوربما لأنه لايعرف كيف‮ ‬يفصح أكثر‮. ‬ فلا اللغة ولاالكوابح الاجتماعية ولاالمواضعات المتبعة ولاالرزانة المفترضة تسمح له بالانطلاق في‮ ‬تيار التعبير الذاتي‮ ‬بحرية وعفوية‮. ‬ولكننا لانملك في‮ ‬نهاية قراءتنا لترجمة أسماء من أن نرى فيها إنسانة ذات أبعاد فردية ‬متميزة كأمرأة بنت عصرها وليست فقط أم عالم‮ متألق. ‬أي‮ ‬أن المقريزي‮ ‬أيضاً ‬تجاوز حدود السيرة العادية ليصوغ‮ ‬لوحة واقعية بعض الشيء‮ -‬على أقل تقدير من ضمن المتخيل المتاح له‮- ‬لأمه قربها منا وأفادنا عن درجة محبته واحترامه لها‮.‬

ليست أسماء المرأة الوحيدة من عائلة المقريزي التي يفرد لها ترجمة في كتابه الصغير هذا وإن كانت ترجمتها من أطول ترجمات النساء في هذا الكتاب وأي من كتب الترجمات عموماً، وهي قطعاً أكثرهن صدق عاطفة وإخلاص. ولكن المقريزي يقدم أيضاً ترجمة لزوجته سفرى ابنة عمر بن عبد العزيز بن عبد الصمد البغدادي، التي تزوجها مرتين وأقامت عنده مامجموعه ثماني سنوات وأنجبت له ولدين، محمد وعلي، ثم توفيت عام ١٣٨٨، وترجمة أخرى، غير مألوفة على الإطلاق في ذلك العصر، لسول المولدة، وهي جارية بكر ذات خمس عشر ربيعاً اشتراها من بيت السلطان بعد تسع سنوات من وفاة زوجته سفرى ويبدو أنه تسرى بها لفترة، وتعلم منها، ثم فقدها لسيد آخر أخذها إلى مكة وأنجب منها أولاداً.

والمقريزي في كلتا الترجمتين عطوف ورحيم بل ومحب، كما ظهر لنا من ترجمته لأمه، وإن كان أيضاً مقلاً في توضيح بعض مظاهر علاقته مع زوجته وسريته، خصوصاً منها الصعبة والتي آلت إلى فراق. فهو مثلاً لايخبرنا قط لماذا طلق سفرى واستعادها في نفس السنة، على الرغم من أنه كان قطعاً يكن لها حباً ومودة. وهو أيضاً لاينبؤنا لماذا فقد سول وكيف ومن هو سيدها الجديد وكيف حافظ على صلته بها بعد أن انتقلت ملكيتها منه إلى سيد آخر يقيم بعيداً بما أنه يثبت لنا تاريخ وفاتها في مكة عام ١٤٢١، بعد سنوات من خروجها عن ملكيته، مما يدل على أنه كان إما على اتصال معها ومع أسرتها الجديدة أو أنه كان يتابع أخبارها على البعد.

إلى ذلك، فعاطفة المقريزي تجاه هاتين السيدتين واضحة وجياشة، خاصة تجاه سفرى. ولكنه لايعبر عن هذه المشاعر صراحة أو مباشرة، ربما لأن ذلك لايليق بعالم مرموق، بل يستخدم طرائق سردية مختلفة لإيصال الإحساس بطريقة مواربة. فهو مثلاً يستعمل الأحلام وتأويلها كأداة تعبيرية عن الوجد واللهفة والخوف من المجهول ومن ثم القبول به بما أنه قدر لاراد له، ويستخدم أيضاً الشعر للتخفيف من وقع القضاء والحفاظ على التواصل مع الأحبة. فهو يخبرنا أنه عندما راجع سفرى وبنى عليها ثانية رأى فيما يراه النائم شخصاً ينشده هذين البيتين الحزينين الذين يوردهما ابن كثير في "البداية والنهاية" ضمن قصة حب ملوعة تنتهي بقتل المحب نفسه في مجلس هارون الرشيد:

أحسن ماكنــــا تفرقنا وخاننا الدهر وماخّنا
فليت ذا الدهر لنا مرة عاد لنا يومـاً كما كنا

وفهم منهما أن سفرى لن تقيم عنده سوى عامين (لاأدري كيف!). وفعلاً مرضت سفرى بعد عامين، وخلال مرضها رآى المقريزي هاتفاً آخر أنشده بيتاً لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر المخضرم:

فالعين بعدهم كأن حداقها سُمِلت بشوك فهي عور تدمع

وغلب على ظنه بعد استيقاظه أن سفرى ستموت وفعلاً ماتت. ثم يثبت المقريزي هنا قصة رقيقة عن رؤيته لها في المنام وقد جاءته كهيأتها عندما ماتت، فسألها وهو عارف أنها رؤيا، "الذي أرسله (يقصد الدعاء والاستغفار الذي دأب عليه بعد وفاتها) إليك يصل؟" لتجيبه، "نعم ياسيدي، في كل يوم تصل هديتك إلى." ثم بكت (في المنام) وقالت، "قد علمت ياسيدي أني عاجزة عن مكافأتك،" فقال لها، "لاعليك، عما قليل نلتقي." (وهو مالم يحصل طبعاً بما أن المقريزي عاش فوق الأربعين سنة بعد وفاة سفرى، وعرف على الأقل سول بعدها). وبعد ذلك يصرح المقريزي أن سفرى كانت من خير نساء زمنها، وفي هذه الحاشية شيء من الصنعة، ثم يقول ماعوضت بعدها مثلها، مما يوحي أنه عرف نساء أخريات بعدها وإن كنا لانعرف منهن سوى سول ونعرف أيضاً أنه عندما مات كان وحيداً من دون زوجة أو ولد. وفي ختام الترجمة القصيرة يستشهد المقريزي بالبيتين التاليين للنابغة الجعدي، قبل أن يكرر رغبته بلقائه سفرى في الجنة على طريقة المتقين المتأملين بثواب ربهم:

أبكـى فراقـهـم عيــنـي فـأرقــها إن التفــرق لـلأحبـــاب بكــاء
مازال يعدو عليهم صرف دهرهم حتى تفانوا وصرف الدهر عداء

هنا يبلغ المقريزي قمة التصريح بحبه لسفرى ولوعته على فقدها ولكنه يختار شعراً يحمل في طياته أيضاً حكمة وموعظة، ربما للمحافظة على وقاره. ولكنه قطعاً مكلوم لفقد سفرى وراغب بالتعبير عن لوعته من ضمن الأدوات المتاحة له التي تنقل مشاعره وتحافظ على صورته في آن واحد. والشعر في الذائقة العربية قديما _وحديثاً_ حمالٌ للمعاني ووسيط مثالي في التعبير والتصريح من خلف ستار الصنعة والقافية. والمقريزي، الشاعر المتذوق، ضليع باختيار أبلغ الأبيات من التراث الشعري المتوافر له لنقل مشاعره، الصادقة حقاً، وإن لم يكن بإمكانه التعبير عنها ببساطة المحدثين ومباشرتهم.

والحال نفسه فيما يخص مشاعره تجاه سول، الفتاة الصغيرة التي أدفأت قلب الرجل المكتمل صاحب الحظوة لدى السلطان برقوق الذي أصبحه المقريزي لفترة وجيزة في نهاية ثلاثينياته قبل أن يخسرها لسبب مجهول وتغادره إلى غيره. فهو في الأسطر القليلة التي يخصصها لذكراها يركز على ماعرفه فيها من أدب وعلم وفن، خاصة ضرب الرمل أو التنجيم، وهذا علم اشتهر به المقريزي نفسه وإن كان بعض معاصريه الهجائين كالسخاوي قد انتقده انتقاداً لاذعاً عليه. وهو ينهي ترجمته لسول بالشعر، كما فعل في ترجمة أمه وزوجته، ليبثنا بعضاً من عواطفه بما يتلائم وماقاله عن علمها وإن كان ينسب قول الشعر لسول لاله. فهي قد "أنشدته"

تعلمت ضرب الرمل لما هجرتهم لعلـي أرى شــكلاً يدل على الوصــل
فصـادفني فيـه بيـاض وحمــرة فعـاينتهـا في وجنـة سلبــــت عقلــي
وقالـوا طـريقـاً، قلـت يـرب للقـا وقالــوا اجتمـاعاً قلـت يرب للشمــل
وقالـوا نقـي الخــد ذاك معذبـي يجور على ضعفي ويسعى على قتلي

ماالذي يمكننا أن نقرأه في هذه الأبيات الغريبة التي لم أتمكن من معرفة قائلها (بل وربما كان المقريزي هو نفسه قائلها)؟ بل وهل يحق لنا أن نقرأ فيها ماتعودنا على قراءته في الشعر الذي نعرف مصدره ومراده وقائله، خاصة بعد الفترة الرومانتيكية حيث أصبح التعبير عن المشاعر الشخصية في الشعر فيها معتاداً ومنتظراً؟ أكاد أجزم بذلك فالربط بين ضرب الرمل الذي مارسه كلاهما وتبادل الوجد والهوى مؤثر ودال. والأكثر دلالة في رأيي هو استخدام المقريزي لهذه الأبيات ليبثنا (أو ليبث سول أو نفسه كما زعم) رغبته في اللقاء وتلهفه على المحبوب الذي فرقته عنه الأيام وأمله بأن يكون الأمر كذلك من خلال مطالعة الطالع الذي يؤمن به كلاهما بما أنهما كلاهما ممارسان للضرب بالرمل (حتى أن السخاوي الساخط والناقم على المقريزي يقول ساخراً أن صحبة ابن خلدون العظيم للمقريزي ابتدأت بعد أن أخذ المقريزي لاستاذه طالعه وصدق تنبؤه). ولعل في معرفة المقريزي بما حل بسول بعد مفارقته لها كما يبدو من الترجمة دليل آخر على اهتمامه بها بل وربما رغبته في استعادتها. وقد تكون هذه الرغبة مشتركة، خاصة وأن المقريزي لاينبأنا متي أنشدت سول له هذه الأبيات، ولو أن عبارة "لما هجرتهم" في الشطر الأول قد تكون التعبير الصحيح عن تاريخ الإنشاد. وهو أيضاً لايخبرنا إن كان التقى بسول في مكة التي نعرف أنه جاور فيها مرات عدة، وإن كنا لانعلم ماإذا كانت مجاوراته قد بدأت قبل وفاة سول سنة ١٤٢١ أم لا. (نعرف فقط أنه كان في مكة سنتي ١٤٢٦ و١٤٣١، ولكنه على الأغلب زار مكة أكثر من هذين المرتين).

ها نحن الآن من موقعنا المعاصر ننظر لهذا الفرد الفذ الذي بذّ نظراءه في‮ ‬مجتمعه العلمي‮ ‬من خلال التقيد بأشد قيوده والالتزام بضوابطه والانتهاء عن نواهيه حتى أنه اشتط في ذلك في نهاية حياته بعد اعتزاله‮. ‬وحاز على اعتراف معاصريه ولاحقيه بالسبق في‮ ‬العلم وفي‮ ‬التاريخ‮، حتى قال عنه تلميذه النجيب المؤرخ ابن تغري بردي أنه كان "عمدة المؤرخين" و "هو أعظم من رأيناه وأدركناه في علم التاريخ وضروبه مع معرفتي لمن عاصره من علماء المؤرخين" (وهم فعلاً من أهم المؤرخين المملوكيين إن لم يكن الإسلاميين قاطبة). ‬ومع ذلك،‮ ‬فهو في إثباته لمشاعره في كتاب الدرر وغيره متعالٍ‮ ‬عن محيطه الوقور والرزين والمتزمت في‮ ‬نهاية الأمر ومخالف له بعض الشيء،‮ ‬لأنه‮ ‬يفصح عن نفسه في‮ ‬سيرته الإنسانية بالمعنى الأوسع للكلمة‮. ‬وهو كذلك‮ ‬يحاول من خلال‮ ‬سرد سير أهله وأحبابه طرق تعبيرات لم تكن ضمن المنهج كما‮ ‬يقال وإشراع مجالات جديدة لأنسنة عواطفه بطريقة شخصية،‮ ‬حميمية ربما،‮ ‬ولكنها تبقى في‮ ‬نهاية الأمر مترددة،‮ ‬وجلة،‮ ‬ومعتمدة على طرائق غير مباشرة كالماورائيات والأحلام والاستشهاد بالشعر. ومع ذلك فهذه العواطف صادقة مع أنها فريدة‮ و‬غير معهودة في وقتها وغير داخلة ضمن السياق الأدبي‮ ‬السائد الذي‮ ‬تعامل المقريزي مع الكتابة من ضمن إطاره‮. ‬ومن هنا جمالها وحساسيتها ودفئها بالنسبة لنا اليوم لأنها تخاطبنا بلغة نفهمها وإن كانت على الأغلب‮ ‬غريبة على أسماع ومفاهيم معاصري المقريزي.‮ ‬ وهي كذلك تزيح لنا الغطاء بعض الشيء عن المرأة‮ ‬،‮ ‬ذلك الكائن الإنساني‮ ‬الصامت عموماً‮ ‬وربما المكمم أحياناً في التاريخ الوسيط،‮ ‬كما ظهرت في ثلاثة أدوار رئيسة في‮ ‬حياة المقريزي: كأم وزوجة وسرية‮. ولاأعرف أي كاتب مملوكي أخر سوى أبي شامة الدمشقي، ‬الذي صاغ‮ مشاعره تجاه زوجته شعراً‮ ‬يدل على عاطفة جياشة وحب زوجي‮ ‬صريح، بلغ في تعبيره مابلغه المقريزي في درره. فلله دره.