نحو مرحلة الانطلاق الاقتصادي المصري (3) الخروج من البر إلى البحر لتنمية مصر
نحو مرحلة الانطلاق الاقتصادي المصري (3) الخروج من البر إلى البحر لتنمية مصر، مقال لمحمود وهبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقال
لأنني أعيش في أمريكا فلقد طلبني صديق من مصر تليفونياً ليتساءل عن الآثار الخطيرة المترتبة على انخفاض معدل النمو الاقتصادي المصري الحقيقي سنوياً إلى 2.4% فقط خلال السبع سنوات الماضية وانخفاض معدل الادخار والاستثمار وإذا كان معدل الزيادة السكانية السنوية قد تماثل مع معدل النمو الاقتصادي أو زاد أحياناً في نفس الفترة فإن معنى ذلك أن دخل الفرد المصري الحقيقي انخفض عاماً بعد عام فكيف يواجه الآن الفرد المصري المتطلبات الضرورية للمعيشة وكيف نخرج من المعادلة الصعبة المترتبة على زيادة مستوى الاستهلاك للفرد المصري عن مستوى دخله بما لا يترك له أي هامش للإدخار ؟ فقلت للصديق إنني متفائل – ولكن بشروط – بالنسبة لمستقبل الاقتصاد المصري فلقد شهد الاقتصاد المصري في السنوات الماضية مرحلة انتقالية ، وهي مرحلة اعتمدت على امتصاص السيولة النقدية وتؤدي بطبيعتها إلى انكماش اقتصادي ، وهو ما يظهر في أرقام صماء ( مثل المقارنات مع الدول الأفريقية في المقال السابق وبالمناسبة فلقد أودعت مصدر هذه الأرقام بالأهرام لمن يرغب في مراجعتها أو مراجعتي ) .
والسؤال الحقيقي هو هل أعدت هذه المرحلة الانتقالية مصر للدخول في مرحلة جديدة ؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تقاس بالأرقام ، ولكنها تعتمد على تقديرات مستقبلية ، وفي رأيي أن أهم مؤشرين للمستقبل الاقتصادي المصري – الذي يجب أن نعمل جميعاً لكي يكون مشرقاً – هما:
1) استقلال مصر من تأثير البنك الدولي وصندوق النقد في اتخاذ قرارها الاقتصادي ، ويرجع ذلك إلى نجاح القيادة السياسية المصرية في إلغاء أكثر من ثلث ديونها الخارجية ، ولعل قرار الحكومة برفض تخفيض قيمة الجنيه المصري إدارياً ، ( رغم أن ذلك قد يؤدي إلى عدم إلغاء الشريحة الأخيرة من القروض الأجنبية ) ما هو إلا تعبير عن استقلالية مصر وتملكها لقرارها الاقتصادي .
2) أن المرحلة الانتقالية مكنت مصر من أن تنشء كلاً من البنية التحتية والفوقية التي ستمكنها من الدخول في مرحلة الانطلاق الاقتصادي فمن حيث معدل التنمية التحتية فلقد تمكنت مصر من بناء شبكة من الطرق ومولدات الكهرباء وشبكة من الاتصالات الهاتفية وشبكة لمياه الشرب والصرف بأسرع من غيرها من معظم الدول الناشئة في السبع السنوات الماضية . ولقد انعكس ذلك بعض الشيء في تقرير هيئة الأمم المتحدة للتنمية البشرية إذ كان ترتيب مصر بين 173 دولة هو 110 عام 1992 وتحسن نسبياً ليصبح 107 في عام 1993 أما من حيث البنية الفوقية فلقد ذكرت بعضها في مقالي السابق وأهم نتائج المرحلة الانتقالية هي زيادة الاحتياطي من العملة الأجنبية حتى أن مصر تعد في المرتبة الأولى بالقياس إلى الدول الأفريقية وهذا وحده يحمى استقلالية مصر التي أشرت إليها مسبقاً ومعنى ذلك أن مصر الآن يمكنها يمكنها التحكم في قيمة عملتها ، ودفع تكاليف وارداتها دون اللجوء إلى القروض الأجنبية فالقروض الأجنبية هي أصلاً ما جرنا إلى الوقوع تحت نفوذ البنك الدولي وصندوق النقد رغم كل هذه الإيجابيات فإننا لا يمكن أن نضع رؤوسنا في الرمل لمواجهة خطر قادم لاشك فيه فإن مصر الآن في مفترق الطرق ، إما أن نبدأ بدفع معدل النمو الاقتصادي إلى ما بين 8% إلى 10% سنوياً وهو ما تحتاجه حسب تقديري لبدء مرحلة الانطلاق الاقتصادي ويتطلب ذلك رفع معدلات الاستثمار والادخار القومي بما يتطلبه ذلك من خفض نسبة استهلاك الفرد إلى دخله السنوي أو أنها ستنحسر ما كسبته في مرحلة الانتقال وتبدأ من جديد في ظروف اقتصادية عالمية قد لا تسمح لها حتى بالمحاولة فمن التنمية نبدأ والوقت من ذهب وإلا فإن كل ما نبنيه من مؤسسات ومنظمات لن تكتب له الاستمرارية في ضوء الانخفاض المتواصل لمعدل التنمية .
وسأهدف في هذا المقال وما يليه إلى البحث عن حل وسأعرض نظرية غير تقليدية لكيفية أن تبدأ مصر مرحلة الانطلاق الاقتصادي ولكن أرجو أن يعتبر القارئ هذا المجهود المتواضع دعوة لأن نشترك جميعاً في البحث عن حلول فإنني أعتقد أنه من السهل أن ننتقد ومن الصعب أن نبني وليست هذه مسئولية الحكومة وحدها بل هي مسئولية الشعب بأسره .
مكان تحت الشمس
يعتمد الاقتصاد الكلاسيكي على مفهوم الميزة النسبية لقدرة الدولة على الدخول في مجال التجارة العالمية والميزة النسبية هنا هي الموارد الطبيعية التي تعطي لها ميزة خاصة عن غيرها من الدول حتى تتبادل معها السلع والخدمات وتقول لنا النظرية الكلاسيكية أن الميزة النسبية لمصر هي الزراعة والسياحة وبعض الصناعات الزراعية والصناعات الاستخراجية للمعادن وغيرها وبناء على ذلك فمصر تصدر للعالم مواد اولية – إذا توافرت للتصدير وموقعها تحت الشمس لا يفرق بينها كثيراً وبين معظم الدول النامية ولا يسمح لها بالمنافسة في السوق العالمية وما تحتاجه مصر هو أن تحول الميزة النسبية إلى ميزة تنافسية – أو باختصار تقوم بتعظيم قيمة ميزاتها النسبية عمداً ، وهذا ما فعلته عديد من الدول الناشئة والمتقدمة إذ لم تتوقف عند الاستفادة المحايدة بالميزة النسبية ، بل حولتها بصورة إيجابية إلى ميزة تنافسية بحيث أنها تحقق شهرة عالمية في بعض الصناعات أو النشاطات بما لا يترك للغير فرصة مزاحمتها ، وتقوم الميزة التنافسية على قدرة الشركات والمؤسسات الاقتصادية في الدول على المنافسة ، أي أن الدول الآن لا تتنافس مع بعضها البعض اقتصادياً ولكن تتنافس شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية خاصة أو عامة مع بعضها البعض ودور الدولة أن تتيح المناخ الملائم لهذه الشركات حتى تتمكن من المنافسة بينما تمنحها الميزة النسبية الطبيعية عوامل النجاح ، وأمثلة لذلك عديدة . فمثلاً سنغافورة تشتهر شركاتها بالخطوط الجوية ، صناعة الملابس ، إصلاح السفن ، المشروبات ، وهي أيضاً كدولة مركزة للتجارة العالمية ، أما ماليزيا فتشتهر شركاتها بالالكترونيات ، والمطاط وزيت النخيل والغزل والنسيج وتصنيع الغذاء ومعدات النقل ( بالمناسبة كان دخل الفرد الماليزي السنوي عام 1970 حوالي 250 دولاراً وأصبح عام 1994 3500 دولار – أي تضاعف عشر مرات بينما كان معدل النمو الاقتصادي خلال النصف الأول من عام 1995 حوالي 9.3% وبالمقارنة فإن دخل الفرد المصري كان في عام 1970 حوالي 550 دولاراً سنوياً وأصبح في عام 1994 حوالي 660 دولاراً سنوياً وتشتهر شركات مالطه بالملاحة والنقل البحري والمواني لإصلاح السفن ، ومركز مالي عالمي ثم بعض الصناعات التشجيعية وكان معدل النمو لها 6% ودخل الفرد السنوي 8300 دولار عام 1994 ) فأين تقع مصر تحت الشمس ؟ وما هي ميزاتها التنافسية وما هي شركاتها والتي تقوم بالتنافس في السوق العالمية أو يمكنها أن تتكامل وتتعاون مع غيرها من الشركات العالمية ؟ أنني سأحاول أن أعرض مفهوماً عاماً قد يمكن مصر من أن تحول ميزاتها النسبية إلى ميزات تنافسية .
مجتمع فلاحين أم ملاحين؟
من الله على مصر بمصريين اقتصاديين نادراً ما يتوافران لأي مجتمع آخر ويمثلان الميزة النسبية لمصر فلقد منحها أولاً بعض الموارد الطبيعية تتركز معظمها برياً حول النيل وخيراته الزراعية . ثم تتسع لتشمل رقعة مصر الصحراوية لتشمل الموارد الأولية المعدنية وقليلاً من البترول – وكثيراً من الغاز الطبيعي الذي مازلنا نكتشفه وأعقد عليه شخصياً أملاً كبيراً – ثم منحها الله ثانياً موقعاً برياً وبحرياً فريداً فطول مصر على البحر الأحمر وعرضها على البحر الأبيض المتوسط ويشكل البحران زاوية منفرجة كإطار مائي أزرق جميل حول لوحة فنية اسمه مصر ووسط هذا الإطار الأزرق نهر النيل البني بمياهه العذبة وطميه الأسمر في شكل عمودي على البحر الأبيض وشكل متواز على البحر الأحمر ، هي قناة السويس وهي التي مكنت البحرين الأحمر والأبيض من الالتقاء والاتصال فمصر هي دولة بحرية بأي معيار ، وتقطن على شط البحر وعلى مدخل الدنيا ومصر بذلك هي هبة الموقع أكثر منها هبة النيل ومن الحقائق التاريخية – الموثقة في أكثر من مصدر فإننا سنقدم نظرية أو مفهوماً اقتصادياً عاماً حتى نستنبط بعض الخطوات العملية لتمكين مصر من الدخول في مرحلة الانطلاق الاقتصادي وهي أنه استطاعت مصر أن تضيف موقعها البحري إلى مواردها البرية ، استطاعت أن تنمو وتزدهر اقتصادياً والعكس صحيح بمعنى أنه إذا قامت مصر بإهمال موقعها البحري أو حرمت من الاستفادة منه واعتمدت على مواردها البرية فقط فإنها تضعف وتنكمش اقتصادياً ، وسأحاول أن أقدم بعض الأمثلة التاريخية كما عرضها سليمان حزين وجمال حمدان كبرهان على هذا المفهوم فلقد عاشت مصر حوالي ألف عام في أوج حضارتها ، وارتبطت هذه الحضارات بقدرة مصر على الخروج من البر إلى البحر فلقد تعلمت مصر الملاحة بالإضافة إلى الفلاحة ففي الدولة المصرية القديمة والوسطى كان النفوذ المصري ممتداً من طريق البر إلى عمق جنوب الشام وعن طريق البحر إلى مدن الشام البحرية وموانيه الساحلية ثم تراجعت مصر إلى البر وضعفت عندما احتلتها الهكسوس ، ولم تتخلص مصر من الهكسوس إلا بالخروج من البر إلى البحر مرة أخرى للانتصار عليهم في معركة في جنوب فلسطين ، فبعد أن كان مصدر قوة مصر هو التكامل بإضافة موقعها البحري إلى مواردها البرية – بدأ موقعها البحري يمثل خطراً على مواردها البرية ويستقطع منها ولقد استطاع محمد على تكوين أهم الامبراطوريات المصرية الحديثة بالخروج من البر إلى البحر ، واستولى على الحجاز ونجد واليمن وسواحل الخليج العربي والشام والسودان وتم كل ذلك بواسطة أسطوله البحري الشهير ولكن طمع الأجانب مرة أخرى في التحكم في موقع مصر البحري واستغلال مواردها أدى إلى تحطيم أسطوله وإنهاء توسعاته الخارجية وتلى محمد على أحفاده – ومنهم إسماعيل الذي شق قناة السويس وبذلك أعاد لموقع مصر البحري ما فقدته عندما تحولت التجارة العالمية إلى رأس الرجاء الصالح وأثبت أن هذه القناة هي نعمة ونقمة في نفس الوقت فلقد حاول الفرنسيون ثم الإنجليز استعمار مصر حتى تم استعمار مصر تماماً بواسطة الإنجليز وبذلك انكمشت مصر من جديد لتصبح دولة برية وأصبحنا شعباً من الفلاحين بدلاً من أن نستمر أيضاً شعباً من الفلاحين ورغم انكساح الاستعمار إلى غير رجعة ، إلا أننا مازلنا نعيش بحكم العادة كأننا محبوسو فكر وتقاليد وطبيعة المجتمع البري وآن الأوان أن نعود إلى تكامل البر والبحر في مصر ليس عن طريق الغزو والاستعمار البغيض ولكن باستخدام الأساليب المعاصرة للمواصلات والاتصالات في مجال التجارة والمال بين دول العالم .
عبقرية العصر ومصر
انتهت أيام الازدهار والانحدار عن طريق الغزو العسكري بالنسبة إلى مصر سواء أكانت دولة استعمارية أو مستعمرة ولكن العصر الحالى أضاف إلى الميزات النسبية المصرية ما لم يخطر على البال أو يحلم به أحد فمصر الآن يمكنها تعظيم موقعها ومواردها وتحقيق التكامل بينهما وبتكنولوجيا رفيعة لم تتوافر في الماضي فالعالم الآن شبكة مالية وتجارية واقتصادية – ولنقل قرية صغيرة حسب التعبير الشائع – ويزداد التشابك والترابط والتنافس والتكامل بواسطة تكنولوجيا اتصالات ومواصلات تقاس بسرعة الدق على مفتاح الكمبيوتر ومصر مازالت على ناصية العالم على حد تعبير جمال حمدان ، بل واقترب العالم منها أكثر ليؤكد هذه المنزلة أكثر وأكثر أو بالتحديد أصبحت مصر حقاً في " وسط " العالم فمصر هي دولة " وسط " الآن بمعنى الكلمة ( لا أقول أوسطية من فضلك ) وهذا الموقع الوسط يمكن أن يتيح للشركات والمؤسسات الاقتصادية المصرية – خاصة أو حكومية – الميزة التنافسية التي نبتغيها جميعاً وبقليل من إعادة ترتيب الأولويات وبعض التوجيه والتركيز من الدولة نعم ( التركيز ) يمكن إنشاء البنية التحتية والفوقية المطلوبة لتحقيق مرحلة الانطلاق بالخروج من البر إلى البحر ( وباستثمارات حكومية مقبولة نسبياً والباقي من القطاع الخاص كما سنعرض لاحقاً ) وما يلي أمثلة سنعرض كيفية تنفيذها في المقالات التالية :
1) مصر هي دولة وسط في المكان ولكنها ليست دولة وسيطة في التجارة العالمية فهى الآن دولة عبور تجاري وليست دولة وسيط تجاري بين بلاد العالم مثل دول النمور الآسيوية والوساطة هنا تشمل الاستيراد والتصدير من شمال العالم إلى جنوبه والعكس وتشمل البيع والشراء لسلع العالم لدول العالم والسمسرة والنقل والتخزين والتعبئة والتغليف والشحن والتوزيع أي أن تكون مصر مركزاً للتجارة البينية العالمية سلعاً ومنتجات ولذلك فإن الحديث الجاري حالياً في مصر عن زيادة صادراتها هو حديث دولة برية تتضاءل فاعليته بالقياس إلى المشاركة والوساطة في التجارة العالمية التي يتوقع أن تزيد بحوالي 90 تليار دولار سنوياً بعد اتفاق الجات فأين نصيب مصر من هذه التليارات ؟
2) مصر دولة وسط في المناخ فهي معتدلة المناخ بين محور متباين على امتداد بحرين بارد في شماله حار في جنوبه وهذا التباين يسمح لمصر بتحقيق التكامل بين الشمال ،،،،،، الملاحة هنا فالمستعمر كان أذكى لأنه لم ،،،،،، مصر السياحة ولم يعتمد على السياحة اقتصادياً لأنها متقلبة بطبيعتها – ولكن لينقل حاصلات ومنتجات الشمال البارد إلى الجنوب وحاصلات ومنتجات الجنوب الحار إلى الشمال ويستكمل التباين بين المحاصيل في الشمال والجنوب من حاصلات ومنتجات المناخ المعتدل في مصر في كل الفصول وعلى مدى العام فأين نصيب مصر من هذه التجارة العالمية عندما تبرد أوروبا وشرق أمريكا ؟ وأين نصيبها عندما يشتد الحر بأفريقيا وأجزاء من آسيا ؟
مصر دولة وسط الزمان فهي تستكمل عبقرية الساعة إلى أربعة وعشرين ساعة فعندما ينام الشمال والجنوب تستيقظ مصر وحالياً يقوم العالم بالتداول بين بلاده المختلفة بما يقدر بمبلغ تليار دولار يومياً ممثلة في حركة رأس المال وفي الأوراق المالية وعقود السلع ويتم هذا التبادل في مراكز مالية عالمية على مدى الأربع والعشرين ساعة في عقرب الساعة ؟ وهل يمكن لنا أن نتساءل أين نصيب مصر اليومي من حركة رأس المال عندما تستيقظ بينما يكون أهل الشمال والجنوب نائمين ؟