مقدمة ابن خلدون/الكتاب الأول في طبيعة العمران البشري

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة

و ما يعرض فيها من البدو و الحضر و التغلب و الكسب و المعاش و الصنائع و العلوم و نحوها و ما لذلك من العلل و الأسباب

إعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم و ما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش و التأنس و العصبيات و أصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض و ما ينشأ عن ذلك من الملك و الدول و مراتبها و ما ينتحله البشر بأعمالهم و مساعيهم من الكسب و المعاش والعلوم و الصنائع و سائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. و لما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته و له أسباه تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء و المذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص و النظر حتى تتبين صدقه من كذبه و إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. و كان ذلك الميل و التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد و التمحيص فتقع في قبول الكذب و نقله. و من الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين و تمحيص ذلك يرجع إلى التعديل و التجريح. و منها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع و ينقل الخبر على ما في ظنه و تخمينه فيقع في الكذب.

و منها توهم الصدق و هو كثير و إنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين و منها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس و التصنع فينقلها المخبر كما رآها و هي بالتصنع على غير الحق في نفسه. و منها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة و المراتب بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطلعون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا في الأكثر براغبين في الفصائل و لا متنافسين في أهلها. و من الأسباب المقتضية له أيضاً و هي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته و فيما يعرض له من أحواله فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود و مقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب و هذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض و كثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة و ينقلونها و تؤثرعنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الاسكندرية و كيف أتخذ صندوق الزجاج و غاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها و عمل تماثيلها من أجساد معدنية و نصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت و عاينتها و تم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي و مصادمة البحر و أمواجه بجرمه و من قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور و من اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة و انتقاض العقدة و اجتماع الناس إلى غيره و في ذلك إتلافه و لا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين و من قبل أن الجن لا يعرف لها صورة و لا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكيل و ما يذكره من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة و التهويل لا إنه حقيقة. و هذه كلها قادحة في تلك الحكاية و القادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله و هو أن المنغمس في الماء و لو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي و تسخن روحه بسرعة لقلته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة و الروح القلبي و يهلك مكانه و هذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد و المتدلين في الآبار و المطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالمعونة و لم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلى فيها يهلك لحينه و بهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بإفراط و الماء الذي يعدله بارد و الهواء الذي في خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني و يهلك دفعة و منه هلاك المصعوقين و أمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون و منه يتخذون زيتهم و انظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت و منها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة و تشتمل على عشرة آلاف باب و المدن إنما اتخذت للتحصن و الاعتصام كما يأتي و هذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن و لا معتصم و كما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس و أنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غروته إلى المغرب و أنها مغلقة الأبواب و أن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق و رمي بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص و صحراء سجلماسة قد نفضها الركاب و الأدلاء و لم يقفوا لهذه المدينة على خبرهم أن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادةً مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن و اختطاطها و أن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية و الخرثي و أما تشيي�