مقدمة ابن خلدون/الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة

و فيه مقدمات

الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري

و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم و هو معنى العمران و بيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان و ركبه على صورة لا يصح حياتها و بقاؤها إلا بالغذاء و هداه إلى التماسه بفطرته و بما ركب فيه من القدرة على تحصيله إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه و لو فرضنا منه أقل ما يمكن فرصة و هو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن و العجن و الطبخ و كل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين و آلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد و نجار و فاخوري وهب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله أيضاً حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة و الحصاد و الدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل و يحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة و صنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير و يستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له و لهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بإضعاف و كذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها و قسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان و كذا قدرة الحمار و الثور و قدرة الأسد و الفيل أضعاف من قدرته. و لما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره و جعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر و اليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر و الصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة و السيوف النائبة عن المخالب الجارحة و التراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك و غيره مما ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة و لا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه و ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت و لا غذاءاً و لا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته و لا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات و يعاجله الهلاك عن مدى حياته و يبطل نوع البشر و إذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء و السلاح للمدافعة و تمت حكمة الله في بقائه و حفظ نوعه فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني و إلا لم يكمل و جودهم و ما أراده الله من اعتمار العالم بهم و استخلافه إياهم و هذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم و في هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له و هذا و أن لم يكن واجباً على صاحب الفن لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضاً من المنوعات عندهم فيكون إثباته من التبرعات و الله الموفق بفضله. ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظلم و ليست السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيىء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض. و لا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم و إلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة و السلطان و اليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان و هذا هو معنى الملك و قد تبين لك بهذا أن للإنسان خاصة طبيعية و لا بد لهم منها و قد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل و الجراد لما استقرىء فيها من الحكم و الانقياد و الاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه و جثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة و الهداية لا بمقتضى الفكرة و السياسة أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و تزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل! العقلي و أنها خاصة طبيعية للإنسان فيقررون هذا البرهان إلى غاية و أنه لا بد للبشر من الحكم الوازع ثم يقولون بعد ذلك و ذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر و أنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه في خواص هدايته ليقع التسليم له و القبول منه حتى يتم الحكم فيهم و عليهم من غير إنكار و لا تزيف و هذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود و حياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم و حملهم على جادته فأهل الكتاب و المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم و مع ذلك فقد كانت لهم الدول و الآثار فضلاً عن الحياة و كذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال و الجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع و بهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات و أنه ليس بعقلي و إنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة و الله ولي التوفيق و الهداية.

المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض و الإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار و الأنهار و الأقاليم

اعلم أنه تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي و أنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها و عمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها و قد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض و ليس بصحيح و أنما النحت الطبيعي قلب بالأرض و وسط كرتها الذي هو مركزها و الكل يطلبه بما فيه من الثقل و ما عدا ذلك من جوانبها و أما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض و أن قيل في شيىء منها إنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. و أما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر الماء من بها من جميع جهاتها بحراً يسمى البحر المحيط و يسمى أيضاً لبلايه بتفخيم اللام الثانية و يسمى أوقيانوس أسماء أعجمية و يقال له البحر الأخضر و الأسود ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار و الخلاء أكثر من عمرانه و الخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال و إنما المعمور منه أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الاستواء و من جهة الشمال إلى خط كروي و وراءه الجبال الفاصلة بينه و بين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج و مأجوج و هذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق و ينتهي من المشرق و المغرب إلى عنصر الماء أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة و هذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل و المعمور منه مقدار ربعه و هو المنقسم بالأقاليم السبعة و خط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق و هو طول الأرض و أكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج و دائرة فعدل النهار أكبر خط في الفلك و منطقة البروج منقسمة بثلثمائة و ستين درجة و الدرجة من مسافة الأرض خمسة و عشرون فرسخاً و الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع و الذراع أربعة و عشرون إصبعاً و الإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن و بين دائرة فعدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين و تسامت خط الاستواء من الأرض و بين كل واحد من القطبين تسعون درجة لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع و ستون درجة و الباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد و الجمود كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى. ثم إن المخبرين عن هذا المعمور و حدوده و عما فيه من الأمصار و المدن و الجبال و البحار و الأنهار و القفار و الرمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا و صاحب كتاب زخار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق و المغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول فالإقليم الأول أطول مما بعده و هكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة عن انحسار الماء عن كرة الأرض و كل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي و في كل جزء الخبر عن أحواله و أحوال عمرانه. و ذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج من جهة المغرب في الأقليم الرابع البحر الرومي المعروف يبدأ في خليج فتضايق في عرض اثني عشر ميلاً أو نحوها ما بين طنجة و طريف و يسمى أن الزقاق ثم يذهب مشرقاً و ينفسح إلى عرض ستمائة ميل و نهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ و مائة و ستين فرسخاً من مبدأه و عليه هنالك سواحل الشام و عليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أولها طنجة عند الخليج ثم أفريقية ثم برقة إذ الاسكندرية و من جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج ثم البنادقة ثم رومة ثم الافرنجة ثم الاندلس إلى طريف عند أن الزقاق قبالة طنجة و يسمى هذا البحر الرومي و الشامي و فيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش و قبرص و صقلية و ميورقة و سردانية قالوا: و يخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينية يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض رمية السهم و يمر ثلاثة بحار فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال و يمر في جريه ستين ميلاً و يسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال فيمد بحر نيطش و هو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هرقلة و ينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف و ثلثمائة ميل من فوهته و عليه من الجانبين أمم من الروم و الترك و برجان و الروس. و البحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي و هو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة و ينتهي إلى بلاد إنكلاية على ألف و مائة ميل من مبدإه و على حافتيه من البنادقة و الروم و غيرهم أمم و يسمى خليج البنادقة. قالوا و ينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق و على ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر في الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم الأول ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة و الزنج و إلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ من مبدئه و يسمى البحر الصيني و الهندي و الحبشي و عليه من جهة الجنوب بلاد الزنج و بلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره و ليسوا من البربر الذين هم قبائل المغرب ثم بلد سفالة و أرض الواق واق و أمم أخر ليس بعدهم إلا القفار و الخلاء و عليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم الهند ثم السند ثم سواحل اليمن من الأحقاف و زبيد و غيرها ثم بلاد الزنج عند نهايته و بعدهم الحبشة. قالوا و يخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقاً ثم يمر مستبحراً إلى ناحية الشمال و مغرباً قليلاً إلى أن بنتهي إلى القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثاني على ألف و أربعمائة ميل من مبدئه في و يسمى بحر القلزم و بحر السويس و بينه و بين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل و عليه من جهة الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز و جدة ثم مدين و أيلة و فازان عند نهايته و من جهة الغرب سواحل الصعيد، و عيذاب و سواكن وزيلع ثم بلاد الحبشة عند مبدئه و آخره عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش و بينهما نحو ست مراحل و مازال الملوك في الإسلام و قبله يرمون خرق ما بينهما و لم يتم ذلك. و البحر الثاني من هذا البحر الحبشي و يسمى الخليج الأخضر يخرج ما بين بلاد السند و الأحقاف من اليمن و يمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة فرسخ و أربعين فرسخاً من مبدئه و يسمى بحر فارس و عليه من جهة الشرق سواحل السند و مكران و كرمان و فارس و الأبلة و عند نهايته من جهة الغرب سواحل البحرين و اليمامة و عمان و الشحر و الأحقاف عند مبدئه و فيما بين بحر فارس و القلزم و جزيرة العرب كأنها داخلة من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب و بحر القلزم من الغرب و بحر فارس من الشرق و تفضي إلى العراق بين الشام و البصرة على ألف و خمسمائة ميل بينهما و هنالك الكوفة و القادسية و بغداد و إيوان كسرى و الحيرة و وراء ذلك أمم الأعاجم من الترك و الخزر و غيرهم و في جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها و بلاد اليمامة و البحرين و عمان في جهة الشرق منها و بلاد اليمن في جهة الجنوب منها و سواحله على البحر الحبشي. قالوا و في هذا المعمور بحر آخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان و طبرستان طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربه أذربيجان والديلم و في شرقه أرض الترك و خوارزم و في جنوبه طبرستان و في شماله أرض الخزر و اللان. هذه جملة البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا. قالوا و في هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار و هي النيل و الفرات و دجلة و نهر بلخ المسمى جيحون. فأما النيل فمبدأه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول و يسمى جبل القمر و لا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في الحيرة هناك و بعضها في أخرى ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل و يخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته و يمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر فإذا جاوزها تشعب في شعب مقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً و تصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية و يسمى نيل مصر و عليه الصيعد من شرقه و الواحات من غربه و يذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب ي البحر المحيط و هو نهر السودان و أممهم كلهم على ضفتيه. و أما الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس و يمر جنوباً في أرض الروم و ملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة ثم بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء التي بين البصرة و واسط و من هناك يصب في البحر الحبشي و تنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة و يخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة. و أما دجلة فمبدؤها عين ببلاد جلاط من أرمينية أيضاً و تمر على سمت الجنوب بالموصل و أذربيجان و بغداد إلى واسط فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة و تفضي إلى بحر فارس و هو في الشرق على يمين الفرات و ينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كل جانب و فيما بين الفرات و دجلة من أوله جزيرة الموصل قبالة الشام من عدوتي الفرات و قبالة أذربيجان من عدوة دجلة. و أما نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة و تنجلب إليه أنهار عظام و يذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان ثم يخرج معها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس فيصب في بحيرة الجرجانية التي بأسفل مدينتها و هي مسيرة شهر في مثله و إليها ينصب نهر فرغانة و الشاش الآتي من بلاد الترك و على غربي نهر جيحون بلاد خراسان و خوارزم و على شرقه بلاد بخارى و ترمذ و سمرقند و من هنالك إلى ما وراءه بلاد الترك و فرغانة و الجرجانية و أمم الأعاجم و قد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه و الشريف في كتاب روجار و صوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال و البحار و الأودية و استوفوا من ذلك ملا حاجة انا به لطوله ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر و بالأوطان التي للعرب من المشرق والله الموفق. تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمراناً من الربع الجنوبي و ذكر السبب في ذلك

و نحن نرى بالمشاهدة و الأخبار المتواترة أن الأول و الثاني من الأقاليم لمعمورة أقل عمراناً مما بعدهما و ما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء و لقفار و الرمال و البحر الهندي الذي في الشرق منهما و أمم هذين الإقليمين و أناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة و أمصاره و مدنه كذلك و الثالث و الرابع و ما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة و الرمال كذلك أو معدومة و أممها و أناسيها تجوز الحد من الكثرة و أمصارها و مدنها تجاوز الحد عدداً و العمران فيها مندرج ما بين الثالث و السادس و الجنوب خلاء كله و قد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحر و قلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه و يتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث و الرابع من جانب الشمال إلى الخامس و السابع. فنقول إن قطبي الفلك الجنوبي و الشمالي إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب و تسمى دائرة معدل النهار و قد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك في جوفه قهراً و هذه الحركة محسوسة و كذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة و هي من المغرب إلى المشرق و تختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في السرعة و البطء و ممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين و هي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجاً و هي على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أول الحمل و أول الميزان فتقسمهما دائرة معدل النهار بنصفين نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال و هو من أول الحمل إلى آخر السنبلة و نصف مائل عنه إلى الجنوب و هو من أول الميزان إلى آخر الحوت و إذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار يمر من المغرب إلى المشرق و يسمى خط الاستواء و وقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدإ الإقليم الأول من الأقاليم السبعة و العمران كله في الجهة الشمالية يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع، و ستين درجة و هنالك ينقطع العمران و هو آخر الإقليم السابع، إذا ارتفع على الأفق و بقيت تسعين درجة و هي التي بين القطب و دائرة معدل النهار على الأفق و بقيت ستة من البروج فوق الأفق و هي الشمالية و ستة تحت الأفق و هي الجنوبية و العمارة فيما بين الأربعة و الستين إلى التسعين ممتنعة لأن الحر و البرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما يحصل التكوين فإذاً الشمس تسامت الرؤوس على خط الاستواء في رأس الحمل و الميزان ثم تميل في المسامتة إلى رأس السرطان ورأس الجدي و يكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعاً و عشرين درجة ثم إذا ارتفع القطب الشمالي عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس بمقدار ارتفاع و انخفض القطب الجنوبي كذلك بمقدار متساو في الثلاثة وهو المسمى عند أهل المواقيت عرض البلد و إذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان و انخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشمالي يرتفع حتى يصير أبعد الشمالية و هو رأس السرطان في سمت الرؤوس و ذلك حيث يكون عرض البلد أربعاً و عشرين في الحجاز و ما يليه و هذا هو الميل الذي إذا مال رأس السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالي حتى صار مسامتاً فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع و عشرين نزلت الشمس عن المسامتة و لا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً و ستين و يكون انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك و انخفاض القطب الجنوبي عن الأفق مثلها فينقطع التكوين لإفراط البرد و الجمد و طول زمانه غير ممتزج بالحر. ثم إن الشمس عند المسامتة و ما يقاربها تبعث الأشعة قائمة و فيما دون المسامتة على زوايا منفرجة و حادة و إذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء و انتشر بخلافه في المنفرجة و الحادة فلهذا يكون الحر عند المسامتة و ما يقرب منها أكثر منه فيما بعد لأن الضوء سبب الحر و التسخين.


ثم أن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي الحمل و الميزان و إذا مالت فغير بعيد و لا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان و الجدي إلا أن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق و يطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة و يفرط في شدتها و كذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربع و عشرين فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء و إفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً و يبساً يمنع من التكوين لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه و الرطوبات و فسد التكويني في المعدن و الحيوان و النبات إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمس و عشرين فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً فيكون التكوين و يتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضوء و كون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين و يفسد بيد أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد فلذلك كان العمران في الإقليم الأول و الثاني قليلاً و في الثالث و الرابع و الخامس متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء و في السادس و السابع كثيراً لنقصان الحر و أن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر و أوفر و الله أعلم. و من هنا أخذ الحكماء خلاء خط الاستواء و ما وراءه و أورد عليهم أنه مغمور بالمشاهدة و الأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك و الظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قري بإفراط الحر و العمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي و هو كذلك فإن خط الاستواء و الذي وراءه و إن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جداً. و قد زعم ابن رشد أن خط الاستواء معتدل و أن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا و الذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التكوين و إنما امتنع فيما وراء خط الاستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابلاً للتكوين و لما امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه لأن العمران متدرج و يأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع و أما القول بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر و الله أعلم. و لنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى أخره.