مشاهدات وعبر من اليابان حول أهمية تعريب العلوم

من معرفة المصادر

مشاهدات وعبر من اليابان حول أهمية تعريب العلوم

رسالة إلى أصحاب العقول والأفهام:

نقتل إبداعهم، بحجة أن لغة العلم هى الإنجليزية، نقتل ابداعهم ونبتسم: ولسان حالنا يقول لاخير فى هؤلاء ولا فى أمثالهم، فهم متخلفون، متخلفون، متخلفون، لايجيدون الإنجليزية، الأجدر بهم


قام الأستاذ عبد العظيم المسلم والدكتور محرم خليفة بتغطية المؤتمر الخامس عشر لتعريب العلوم فى القاهرة، وكتبا مقالة تتناول بعض من الحوارات الشيقة التى تمت فى هذا المؤتمر، وأثار الدكتورمحرم خليفة عدة نقاط هامة حول أهمية تعريب العلوم، والجدوى من ذلك، وألمح أن تفاصيل مهمة وكثيرة ستضيع عند التعريب والترجمة، وأثار نقطة أن للعلم لغة لابد أن يؤخذ بها وهى الإنجليزية، وإلا فإن تعريب العلوم سيأخذ المجتمع ويهبط به وسيؤدى إلى تدهور أحوالنا. وأنه من الأفضل له أن يأخذ العلم بنفسه من مصادره دون الحاجة إلى مترجم. وهذه جميعا أفكار مشروعة وموجودة بين الناس، ولكن حقيقتها ومآلاتها التخريبية تختلف كثيراً عن ظاهرها البسيط. فأحببت أن أناقش هذه الأفكار ببعض التروى، حتى أبين له وللقراء الكرام أهمية تعريب العلوم، وفلسفته كما رأيتها وخبرتها من مشاهداتى وخبرتى الشخصية، أفعل ذلك وهدفى أن يدرك هو وهو أخ فاضل أهمية ما ندعو إليه، لعله يميل إلينا ويدرك كم الخسارة التى تخسرها الأمة بإصرارها على عدم تعريب العلوم، وأنا على وعد له إن شاء، أن أكتب مقالة شاملة مدعمة بالشواهد والمراجع عن أهمية تعريب العلوم. فأنا مازلت عند هذا الوعد وسأوفيه لاحقا إن شاء الله.

رابط مقالة الأستاذين الكريمين: http://knol.google.com/k/-/-/33rcxugjer8w8/155#

الأخ العزيز د/ محرم تحية طيبة، أولا أحب أن أشكرك على متابعة مؤتمر تعريب العلوم فى القاهرة مع الأستاذ عبد العظيم المسلم. وأحب أن أعرض رأيي هنا فى عجالة عن أهمية تعريب العلوم، وإن شاء الله ستكون هناك مستقبلاً مقالة أشمل وأعمق تتناول هذا الموضوع . بداية، أحب أن أزيل سوء الفهم الذى قد يتبادر إلى ذهن القارىء عندما نتكلم عن تعريب العلوم، فيظن البعض أنه إذا كتبت المقالة بالعربية فإن أي قارىء لها سيفهمها كاملة على الوجه الذي يفهمها به المتخصص. وهذا خطأ، فالمقالة المتخصصة تظل متخصصة فى أي لغة من اللغات، ولا يستطيع فهم كل تفاصيلها ولا إدراك أهمية محتواها إلا القارئ المتخصص. إلا أن القارىء العادى سيفهم الكثير من محتوياتها، إذا قرأها بلغته. فلو أن المقالة عن الاصلاب (وهي فى الحقيقة ليست مقالة ولكن تصنيف، ولكن مكتوب بشكل ردئ، اعذرنى فى هذا) ، مكتوبة بالإنجليزية، مثلاً، فإن نسبة ما ستعلمه عند قرأتها ستكون أدنى بلا شك. وهذا الأمر يستوي فيه طلبة العلم والقارىء العادي. فتحصيلك بلغتك أكبر منه بأي لغة أخري. وإليك مقالة الأستاذ مصطفي النشار وفيها الإجابة عن الكثير من أسئلتك.

http://knol.google.com/k/-/-/3cvhr0hv4ebb3/34#

أما موضوع أن تفاصيل كثيرة ستضيع عند التعريب والترجمة، فالعكس تماما هو ما يحدث. إن الطالب غير المتمكن من اللغة الاجنبية (وهذا حال معظم طلابنا مهما أنفقتا وصرفنا على تعليم اللغات الأجنبية)، عندما يضطر إلى الرجوع إلى كتاب فى تخصصة باللغة الإنجليزية مثلاً ويحاول أن يتعلم منه أو يقرأ فيه، ستصل إليه المعلومة مشوهة وناقصة، لعدم تمكنه من اللغة، وستظل هكذا فى عقله حتي يصححها له شخص آخر، ولأن لم يجد، فسيظل هكذا، سقيم الفهم فى هذا الموضوع. وقد يضطر إلى حفظها كما هي على سقامة فهمه لها بسبب الامتحان، وهذا الكلام ليس رأي أو وجهة نظر، ولكني شاهدته وعايشته بنفسي طالبا ًومعيداً ومحاضراُ فى كلية الهندسة . يجيئ إلينا فى كلية الهنسة أفضل العقول والطلبة من أنحاء الجمهورية، وهؤلاء مختلفون فى إمكانياتهم العلمية واللغوية والمادية، ولكنهم جميعا أصحاء بل ومتفوقون عقلياً، وذهنياً. فنفرض عليهم التعليم بالإنجليزية، ونيسر لهم الأمر فى المحاضرات، بلغة هجين، بين بين. فيستوعب الطلبة معظم ما نقول، أوهكذا نظن، ولكن ليس هذا فقط ما تجب معرفته، بل يجب عليه الاطلاع علي مصادر أخري، ويستمر فى هذا، دائما وأبدأً، وهنا مكمن المشكلة. إن ما يتعلمه الطالب بمفرده من الكتاب الإنجليزي، دائما فيه قصور، ومشوش وغير دقيق، بالإضافة إلى استغراق ذلك وقتا وجهداً كبيرا جداُ، وأنا أقصد هنا عامة الطلبة من أصحاب القدرات اللغوية المتواضعة، وهم معظم الطلبة المصريين . يمكن توفير هذا الجهد والحصول علي معلومات دقيقة، عن طريق التعريب واستخدام الكتب العربية. فلا تظن أن التعريب سيضيع التفاصيل المهمة، لأن من يترجم أو يؤلف فى العلم بالعربية، إنما هم أستاذ متخصص، يعلم ما يقرأ وما يكتب. وكثيرا ما يسألنا الطلبة عن مصادر وكتب بالعربية، خاصة فى الموضوعات الصعبة. لماذا يسالون عن كتب بالعربية؟ لأن الطالب يفهم بها خيرا من غيرها، وهو يعلم أن هذا الموضوع الصعب سيسير سهلاً عليه أذا قرأه بالعربية. وهو محق بلا شك فى هذا. ومن هنا فنحن نقتل العلم ونقلص الاستفاده منه بعدم تعريبنا للعلوم. ولى شخصياً تجربة، فكان لدينا مقرر فى استخلاص الفلزات، وكان لدي الكتاب المستخدم فى هذه المقرر، وكان لدي أيضاً ترجمة هذا الكتاب. والله شتان بين الاثنين. كنت أستغرق بين اليوم واليومين حتى أفهم فصل واحد من الكتاب بالأنجليزية، وأثناء ذلك أحمل فى يدي قاموسين :عام وهندسي، وأحارب بهما بين الصفحات والسطور، حتى أتبين ما يريده الكاتب. وفى المقابل كنت أقرأ الفصل الواحد من الكتاب المترجم بيسر وكأنى أقرأ جريدة أخبار اليوم، وكان تحصيلي منه يفوق بكثير ما كنت أحصله من الكتاب الانجليزي: يفوقه فى الكم والكيف ودقة المعلومة. فوالله لو أن الطالب يتعلم كل العلوم بالعربية، ويجد مصادر معتبرة لذلك ، لفهم كثيراً وعميقا ووفر وقتا وجهداً ضائعا، نخسره نحن كأمة كل يوم وكل ساعة. ثم ، قل لي، ماذا أنجزنا ونحن ندرس العلوم بالإنجليزية منذ الأبد، فلماذا لم نحقق نموا وتطوراً ، مع أننا نتعلم بالإنجليزية؟ حالنا هذا وتردينا وتخلفنا العلمي والتقني، عندما نقارن أنفسنا مع دول العالم الأخري التي أخذت الطريق الصحيح ووطنت العلوم بلغاتها القومية، سيرجع فى جزء كبير منه، إلي عدم توطن العلوم فى مجتمعاتنا، بسبب الإصرار على تعليمها باللغات الأجنبية. عدم التعريب هو سبب رئيسى في ذلك. وختاماً أحب أن أنقل أليك مقولة جميلة جداً، مقولة لأديب العربية الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول فيها: "هذا العلم الذي يسخّر السماوات والأرض لهذا الإنسان الضعيف، ويذلّل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى مِلْكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر، ولا يمكن أن يصلنا به أو يدنينا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة". وفى النهاية معذرة على الإطالة.

وليد خليفة

مشاهدات حول تعريب العلوم


أشكرك يا د/محرم على تعليقك، وأحب أن أعقب عليه لو سمحت لى بذلك.

أولاً، إذا كان هناك من يستطيع أن يتعلم العلوم باللغات الأجنبية، دون الحاجة لأن ينقل له المترجم فأهلاً وسهلاً به، إن مثل هذا الشخص سيكون لنا زادا ومعينا فى نقل العلوم إلى العربيةً بعد ذلك، وليس هذا فحسب ولكننا يجب أن نساعده وندعمه فى ذلك، وأن نقوم بإعداده وغيره باستمرار للقيام بهذا الدور. فهذا بلا شك مكسب لنا. أما من لا يستطيع أن يحصّل العلوم باللغة الأجنبية، فماذا نفعل معه؟ أنأخذ بيده ونيسر له العلم باللغة التى يفهم، ونساعده ونعلمه حتى يفيدنا ويساهم فى نهضة مجتمعنا بجهده وفكره وذكائه؟ أم نقول له: لا مرحبا بك، لا مرحبا بك، اذهب عنا! إن المشاركة فى تنمية ونهضة هذه البلد لا بد أن تمر من خلال البوابة الإنجليزية ، أما وأنت لا تجيد هذه اللغة ، فلا حاجة لنا فى جهدك وعملك وإبداعك، اخسىء، وانزوى من هنا فلا حاجة لنا فيك. اذهب واعمل أى شيء إلا العلم والاشتغال به، اذهب عنا وابق على جهلك وتخلفك، فالعيب كل العيب فيك، لأنك لا تجيد الإنجليزية. أنت متخلف ولن تكون ذا أي نفع لنا، أذهب عنا وكن حيث أنت، لا ترتقى ولا تتقدم، بل كن وابق مهمش غير مؤثر وغير مثمر. هذا السيناريو الثانى هو ما نفعله نحن كدولة وكمجتمع باقتدار عندما نضيق ونحارب تعريب العلوم: منتهى الفشل فى إدارة مواردنا البشرية. وهذا ما يحدث فعلياً بلا مواربة أو تجمل. فبدلاً من أن نعظم استفادتنا من مواردنا البشرية وخاصة خريجى الجامعات، ومعظمهم لا يجيد الإنجليزية، نقتل إبداعهم قتلا سمجاً فظاً، بحجة أن لغة العلم هى الإنجليزية، نقتل ابداعهم ونبتسم: ولسان حالنا يقول لاخير فى هؤلاء ولا فى أمثالهم، فهم متخلفون، متخلفون، متخلفون، لايجيدون الإنجليزية، الأجدر بهم وبأمثالهم، أن يذهبوا إلى سوق الجملة فيعملوا حمالين أو عتالين، فلا حاجة لنا فيهم ولا فى جهدهم، ولا فى ذكائهم إذا لم يجيدوا الإنجليزية، إنهم لا يستحقون أن يتعلموا، لا، لا، لا فائدة فيهم، فليذهبوا إلى الجحيم. وبهذا ننجح باقتدار فى تقليص استفادتنا من العلوم الحديثة إلى الحد الأدنى الذى لا يتجاوز عدد أساتذة الجامعات والباحثين ومن يجيد ويستطيع الوصول إلى العلم باللغة الأجنبية، حتى أصبحنا أكثر الدول تخلفاً على وجه الأرض. هذا هو نتيجة الإصرار على عدم تعريب العلوم، وعدم إتاحة العلم للناس بلغتهم.

ولكن هل للعلم فعلاً لغة لا يستقيم إلا بها؟ الإجابة: لا، لا يوجد للعلم لغة محددة، فالعلم يكتب وينقل ويتوطن فى أي لغة، مهما كانت إذا قام أهلها ونقلوا ودرسوا العلم بها. وهذا ما قامت به أمم الأرض قاطبة إلا نحن العرب!!! بالرغم من أننا نملك أرقى اللغات جميعاً. ولكننا مهزومون نفسياً مهزومون من داخلنا. رأيت الناس فى فيتنام، التى هرست وسويت بالأرض فى الحرب مع أمريكا، يعلمون العلوم باللغة الفيتنامية ويجتهدون فى ترجمة العلوم ونقلها للغتهم حتى تكون معينا لهم فى التنمية، وقطعوا فى ذلك شوطاُ معتبراً. وهذه كوريا وهذه اليابان وهذه الصين. وما أدراك ما الصين وما اليابان وما لغاتهما؟، لغات قديمة، سقيمة، عقيمة، ولكن يحملها أناس أحرار فى فكرهم، لديهم إرادة النجاح والتغلب على الصعاب. ففى اليابانية ثلاثة أنواع من الحروف، كاتاكانا وعدد حروفها 56 حرف، كثير منها صعب، وتكتب بها الكلمات الدخيلة على اللغة اليابانية، والهيراكانا وفيها أيضاً ستة وخمسون حرفاً، تناظر فى النطق تماما حروف الكاتاكانا السابقة، ولكن تكتب بشكل مختلف وتكتب بها بعض الكلمات اليابانية، ثم الكانجي وهى ليست بالحروف ولكنها كلمات أو قل رموز، معقدة الشكل والبنية، يحتار الحليم فى أشكالها، والشخص البالغ العاقل، لو قلت له انقل لى هذه الكلمة التى أمامك واكتبها فى مكان آخر، سيفشل فى أن ينقلها على الوجه الصحيح، وهذه الكانجيات بالآلاف ولابد أن تحفظ كما هى، وإذا أردت أن تقرأ الجريدة اليومية، لابد أن أن تكون ملماً على الأقل بألفين من هذه الكانجيات. وفى الكتابة العادية، تستخدم الثلاثة أنواع من الحروف والرموز فى نفس النص، فتجد الكاتاكانا والهيراكانا والكانجى جانبا إلى جانب فى السطر الواحد. والطريف أن اليابانيين يعلمون أن لغتهم صعبة، ولا يحس أحدهم بالخجل إذا لم يعرف كيف تكتب كلمة من الكلمات، بل ويسأل زميله عن كيفية كتابة هذه الكلمة أو تلك، وليس هذا استثناءاً ولكن روتين يومى، أراه كل يوم وقد يعلم أحدهم كيف تنطق الكلمة ولكن لايعلم كيف تكتب، فيلجأ إلى الكمبيوتر ويبدأ فى كتابة الكلمة ثم ينقر على اختيار معين فتظهر له قائمة فيها كل الكانجيات التى لها نفس النطق (وانتبه لهذا الأمر، كلمات كثيرة لها نفس النطق ولكن تكتب بطرق مختلفة ومتفاوتة جداُ)، فيختار منها ما يراه مناسبا، أو يطلب العون من زميل له ليساعده فى الاختيار. وفى الكثير من الأحيان، يجد الشخص اليابانى كلمة غريبة عليه مكتوبة (رمز من رموز الكانجى) فلا يستطيع أن يقرأها، (وانتبه جيداً لهذا الأمر، لا يستطيع أن يقرأها، لا يستطيع أن ينطقها، لأنه لم يعرفها، وهناك عدد هائل، آلاف مؤلفة، من هذه الكانجيات، التى لا يعرفها الكثير من اليابانيين، ولا يعرفون نطقها. أو ليس هذا من السقم والعقم فى هذه اللغة). وهؤلاء هم طلبة فى أخر مرحلة البكالوريوس، وطلبة ماجستير وباحثون، وليسوا صبية فى المدرسة الابتدائية. هذا والله ما رأيته وشاهدته بعينى رأى العين. ولم يقل واحد منهم أبداً أن تفاصيل مهمة فى العلم ستضيع عند الترجمة إلى اللغة اليابانية، لا فى الطاقة النووية ولا فى غيرها من العلوم. ولم يقل أحدهم أن للعلم لغة هى الانجليزية، لابد أن يؤخذ بها وإلا ضاع وضاعت دقته !!! هذا من ناحية أما عن كيفية صياغة الجمل والتعابير في اللغة اليابانية فهذا أمر آخر، لو علمته لقلت أنه لايمكن بحال من الأحوال التعبير بدقة عن العلوم فيها ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، ونقلت وما زالت نتنقل العلوم بالترجمة والتأليف إلى اليابانية. اللغة اليابانية هذه وعاء ضخم للعلوم، فيها كل العلوم بتفاصيلها الدقيقة، وينشر بها ما يزيد عن ثلاثين ألف عنوان سنوياً (أعلى معدل عالمى فى نشر الكتب بين الدول)، وفى هذه عدد ضخم جداً من كتب العلوم التجريبية مثل الهندسة والطب والعلوم الأخري التى تحتاج إلى الدقة فى البيان. ولم يقل أبدا واحد منهم أن العلوم لابد أن تدرس بلغاتها الأجنبية، أو أنها تفقد تفاصيلها الدقيقة عند نقلها إلى اليابانية.

وهنا نموذج للكتابة اليابانية، التى أصبحت لغة علم راقية بجهود أبنائها. أضعه حتى يعتبر أصحاب العقول والأفهام ويدركوا النعمة التى ننعم فيها والتى اسمها اللغة العربية.




ودخلت عيادات طبية وعيادات أسنان، فيها من المعدات الطبية الحديثة المصنوعة فى اليابان، قلما ترى مثيله فى أى مكان آخر فى الدنيا، ويقوم عليها أطباء شباب وكبار لا يجيدون أى شيء فى الانجليزية، وأذا أراد أن يحدثك عن شيء ولكنك لا تفهم يلجأ إلى سكرتارية العيادة أو إلى أحد المرضى فى صالة الانتظار حتى يساعده وينقل إليك ما يريد الطبيب توصيله إليك، أو يتركك ويهرول خارجا من العيادة ثم يعود وفى يديه قاموس أحضره من سيارته بالخارج حتى يترجم لك كلمة التهاب أو استرخاء أو غير ذلك. ومع هذا فهم أطباء محترفون ماهرون، لا يعيبهم أبدأ أنهم لا يجيدون الإنجليزية، ولم يؤثر ذلك أبداً على مستواهم العلمى أو التقنى. ولماذا يحتاج الإنجليزية، فهو يدرس باليابانية ولديه فيها ما كان وما يستجد من علوم الطب وهو يعمل فى اليابان. فما حاجته بالإنجليزية؟ استنتج من هنا أن العلوم الطبية وكافة العلوم الاخرى لا تحدها لغة، ويمكن أن تكتب وتدرس وتمارس بأى لغة كانت، إذا أراد أهل هذه اللغة فعل ذلك. وقد شاهدت مهندسين ماهرين حازقين، لا يجيدون التحدث بالإنجليزية، بل لا يتحدثونها إطلاقاً، ومع ذلك يديرون ويصممون ويصنعون أجهزة ومعدات صناعية غاية فى التعقيد والدقة، تتفوق على نظيراتها فى الغرب وأوروبا. فما بال هؤلاء يجيدون العلم والإبداع والإبتكار باليابانية !!! وقد استمعت إلى مهندس شاب من شركة تويوتا للسيارات، رئيس فريق التطوير فى أحد مصانع الشركة، وهو يلقى محاضرة قد دُعى إليها من قبل القائمين على المؤتمر الأسيوى العاشر لسباكة الفلزات، مايو 2008 ، وكانت المحاضرة عن الأساليب التى طورتها شركة تويوتا للتغلب على مشكلات السباكة وتوفير الطاقة أثناء سباكة جسم المحرك للموديلات المختلفة من سيارات الشركة. وقد تابعت والحاضرون المحاضرة الممتعة الغنية بالتفاصيل التقنية الرائعة والحلول الهندسية المدهشة، تابعناها بصعوبة، بسبب المستوى المتواضع فى اللغة الإنجليزية الذى يحظى به محاضرنا. وليس هذا بعيب أنه لا يتحدث الإنجليزية بطلاقة، بل فخر له ولفريقه من الباحثين الذين يقودون التطوير فى أقوى وأكبر شركات السيارات فى العالم، فخر لهم أنهم يفعلون ذلك ويضمنون التفوق لشركتهم، وحصيلتهم وزخيرتم العلمية مودعة ومخزنة فى لغتهم ولسانهم. هذا أكبر دليل أن العلم ليس له لغة يعرف بها ولا يستقيم إلا بها، ولكنه يكتب ويدرس بأى لغة.

وكنت أبحث ذات مرة عن مقالة بحثية منشورة بالإنجليزية، تهمنى فى عملى، وسألت أحد الشباب اليابانيين وهو يعمل فى نقطة بحث قريبة من عملى، سألته عن هذه المقالة لعل لديه نسخة منها، فأجابنى أنها ليست لديه، فسألته عن اثنين من الطلبة لدينا فى نفس فريق البحث لعل أحدهم لديه هذه المقالة، أحدهم طالب ماجستير والآخر يعد مشروعه للتخرج، فقال لى إنهما لا يقرآن بالإنجليزية، فاستغربت هذا الكلام، واستوضحته فقال إنهما يعتمدان على المصادر اليابانية فقط ولديهما فيها الكثير والحديث فى موضوع البحث هذا، وبذلك يتمون دراستهم للماجستير دون الحاجة الماسة للمصادر الإنجليزية، مع العلم أنهم يعملون فى موضوعات بحثية متطورة على حافة التكنولوجيا فى هذا المجال، ومع ذلك لا تعجزهم اللغة ولا المصادر الإنجليزية. هنا زاد تأكدى أنه لا توجد لغة وحيدة للعلم. وأدركت مدى تخلفنا وتأليهنا للغة الإنجليزية ظلما وعدوانا وتعديا على العربية، وأدركت أيضاً مدى بعد نظر وحصافة الذين يخططون للدولة اليابانية، وكيف أنهم عظماء فى إدارة مواردهم البشرية، وكيف يعملون حتى يستفيدوا من جهد كل فرد فى اليابان، فيوفرون لهم كل العلم باللغة اليابانية، فتستفيد اليابان منهم فى التنمية والنهضة على اختلاف أهوائهم وقدراتهم، فمن أراد اليابانية فله ذلك ومن أراد أن يغوص فى المصادر الأجنبية فل أيضاً ذلك. أما فى بلادنا، فلا يمكن أن ترتقى بنفسك أو تساهم فى تنمية بلدك إلا من خلال البوابة الإنجليزية، وإن كنت لا تتقنها فلن تحصّل أى علم وستعجز عن تنمية نفسك وعن المساهمة فى نهضة بلدك. والله شتان بين الحصافة والحكمة فى اليابان وبين الرعونة والفشل فى إدارة الموارد البشرية فى مصر، فإصرارنا على عدم تعريب العلوم وعدم الاهتمام بذلك، أفقدنا مساهمة الكثير من النبهاء والنجباء فى نهضتنا. فهذا محمد على باشا والى مصر (رحمه الله)، أول من بعث البعوث وسن سنة جلب المعارف من مواطنها فى أوروبا إلى مصر، عندما بعث الطلبة للدراسة فى أوروبا، اشترط عليهم أن يترجم كل واحد منهم كتاباً فى تخصصه إلى اللغة العربية، عندما يرجع إلى مصر. وفى فترة عشرين عاماً صعدت مصر ونهضت، وأصبحت أوروبا تعمل لها ألف حساب، وجابت سفن الأسطول المصرى مياه البحر المتوسط، شمالا وحنوبا شرقا وغربا، وهابتها دول الاستعمار حق الهيبة فى ذلك الوقت. لماذا نجح محمد على فى إحداث نهضة خاطفة، وفشلنا نحن فى ذلك؟ محمد على -رحمه الله- عمل على توطين العلوم فى المجتمع بالترجمة، ووضعها شرطاً للسفر فى بعثة علمية، أما المتأخرون هذه الأيام الذين يديرون البعثات الآن فى مصر وفى كل العرب ويبعثون الشباب العربى لكل شبر فى المعمورة، لا يدركون الدور الحاسم والفعال للترجمة إلى العربية فى نهضة الأمة، فهم بحق قاصرى النظر أضاعوا علينا خيراً كبيراً، ومثلهم من يضع شروط الترقيات العلمية للأساتذة والمدرسين فى مؤسساتنا وجامعاتنا، سامحهم الله جميعاً.

إن الإبداع فى أى مجال من المجالات لابد أن يسبقه فهم عميق وشامل لتفاصيل هذا المجال، إذ كيف أبدع وأضيف جديداً فى مجال ما وأنا لا أحسن فهم الموجود فيه أصلاً. وهذا حالنا فى مصر وفى الكثير من بلاد العرب، فنحن مازلنا لا نفهم العلوم بدقة وبعمق حتى نضيف إليها شيئاً من إبداعنا، والسبب هو اللغة. فالعلوم غير متوفرة إلا بالإنجليزية، وهذه الإنجليزية لا يجيدها معظم الناس ومعظم طلبة العلم، وحتى الكتب بالإنجليزية غير متوفرة لدينا لا فى السوق فنشتريها ولا فى المكتبات العامة ولا حتى الخاصة مثل مكتبات الجامعات، فكلها فقيرة جداً، لا تكفى أن تكون مكتبات للمدارس الثانوية، فلا توجد بها أيه كتب فى علوم بأكملها. فأين المكتبات التى تعتمد عليها الأمة لتتعلم وتبدع، ولو حتى بالإنجليزية؟ فكيف نفهم العلوم الحديثة فى هذا الوضع الشاذ، ثم كيف نبدع ونبتكر فيها ونحن لم نفهمها بعد؟ هذا هو الخلل، هذا هو العطب، واضح ظاهر، لا يخفى على أحد! لا إبداع ولا ابتكار ولا نهضة ولا تنمية إلا من خلال بوابة اللغة العربية، بوابة العلوم باللغة العربية، بوابة تعريب العلوم. اللهم اهد قومى للتعريب، اللهم آمين.

وفى النهاية أقول إن اللغة مرآة لأصحابها تحيا بهم وتضعف بهم وتموت بموتهم. فإن كان أهلها أحرار ثوار يريدون أن يكتبوا التاريخ بأنفسم، فلهم ما يريدون وتعينهم لغتهم على ذلك، أياً كانت هذه اللغة، وإن كان أهلها مهزومين ومغلوبين داخل أنفسم، فلن يسعهم التاريخ ولا الجغرافيا وسيخرجون منهما خاسرين يتعللون بأن لغتهم لغة دينية، أدبية، لا تسعفهم ولا تفى بالعلوم الحديثة، وإن كانت عروس اللغات، وإن نطق بها خير البشر، ونزل بها خير الكتب.

ومعذرة على الإطالة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر