مستقبل العقل المسلم

من معرفة المصادر


مستقبل العقل المسلم



اولآ : التغيير الكبير في المجتمعات الإسلامية


مقارنةُ أحوالِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ اليوم بأحوالها منذ قرنٍ تؤكد أن "ذهنيةَ العنفِ" قد تفاقم وجودُها في هذه المجتمعاتِ. إلاِّ أن الدقةَ في التحليلِ تُملي علينا أن نقول أنه رغم شيوعِ "ذهنيةِ العنفِ" في بعضِ قطاعاتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ (وليس في كلهِا) فإن "ثقافةَ ذهنيةِ العنفِ" (وليست "ذهنية العنف" ذاتها) هي التي إنتشرت هذا الإنتشار الكبير في قطاعاتٍ كبيرةٍ بعددٍ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ. وهذا المناخُ الثقافي العام هو الذي يفرز جنوداً لذهنيةِ العنفِ وللثقافةِ العامةِ لذهنيةِ العنفِ. ويرجعُ كل ذلك (في تصوري) لخمسةِ أَسبابٍ أَساسيةٍ هي الإستبداد السياسي (ذيوع الأوتوقراطية أو إنتفاء الديمقراطية) ثم الإنتشار الكبير لثقافة الفهم الوهابي للإسلام (مقابل إنكماش وتراجع كبيرين لثقافة الإسلام غير الوهابي والتي كانت عبر قرون هي التيار الأساسي) ثم إنتشار القيم القبليةِ التي شاعت مع ثقافة الفهمِ الوهابي للإسلام. وأما السببُ الرابع فهم نظم التعليم منبتة الصلة بالعصرِ وخامساً الفساد العارم والذي هو نتيجةٌ منطقيةٌ وحتميةٌ للإستبدادِ السياسي.

أما الإستبدادُ السياسي فإنه ينتجُ آثاراً سلبيةً عديدةً أكثرها خطراً هو "قتل الحراك الإجتماعي" بمعنى توقف حركةِ صعودِ أفضلِ أبناءِ وبناتِ المجتمعِ للمقاعدِ القياديةِ في شتى المجالاتِ ووجودِ سلطاتٍ إستاتيكية وصل إليها من وصل عن طريقِ قبولِ (بل ودعمِ) الإستبداد وإبداء الولاء. وإذا كان الإستبدادُ يؤدي لقتلِ الحراكِ الإجتماعي ، فإن هذا الأخير (قتل الحراك الإجتماعي) يؤدي لشيوعِ عدمِ الكفاءةِ في كلِ المجالاتِ. فالإستبدادُ يأتي بالأتباعِ (The Followers) ولا يأتي بالأكفاء (The Competent) – وهكذا ، فكما أن الإستبدادَ يقتل الحراكَ الإجتماعي فإن إنتفاءَ الحراكِ الإجتماعي يشيع عدمَ الكفاءةِ في كلِ القطاعاتِ والمجالاتِ. وشيوع عدم الكفاءة يثمرُ (لا محالة) مُناخاً عاماً عامراً باليأسِ – ومن مُناخِ اليأس تنبثق ذهنيةُ العنفِ ناهيك عن إنخفاضِ معنى الحياةِ الإنسانيةِ كقيمةٍ – سواء كانت حياة الشخص نفسه أو حياة الآخرين. وقد قادني الإنشغال بشئونِ المجتمعاتِ العربيةِ والإسلاميةِ لأن أرى بوضوحٍ المعادلةَ التي أُسميها "معادلة التدمير": 1-الحكم الأوتوقراطي يؤدي لوقف الحراك الإجتماعي .. 2- وقف الحراك الإجتماعي يقضي على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ . 3-. القضاء على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ يولد طاقةً شريرةً عملاقةً هي "اليأس" .. 4- طاقةُ اليأسِ تفرز ذهنيةَ العنفِ وإسترخاص الحياة الإنسانية وتولد رغبات هائلة في الإنتقام.

ومن الغريبِ ، أن كلَ الكتاباتِ التي تعرضت خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ للعنفِ المتنامي في عددٍ غيرِ قليلٍ من المجتمعاتِ الإسلامية والعربية لم تستعمل مصطلح (الكفاءة) أو مصطلح (عدم الكفاءة) في تحليلِها لهذه الظاهرةِ. ويستوي في ذلك أن يكون الكاتبُ أستاذاً بجامعةٍ عريقةٍ مثل صموئيل هانتنجتون (الأستاذ بجامعة هارفارد) أو صحفي: فلم يحدث أن طالعت هذه الكلمة المفتاح (Key word) في كل ما طالعته. ويذكرني هذا بما قلته في محاضرةٍ منذ عدة سنوات (لطلاب الماجستير في الإدارة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة) ، إذ ذكرت أنني دونت مائة حديث بيني وبين آخرين عن شخصياتٍ عامةٍ محليةٍ ودوليةٍ عديدةٍ – ولاحظت أيضاً أن كلمة "كفاءة" لم ترد بأي شكلٍ من الأشكالِ في أحاديثِ التقييم المائة - رغم أن صنعَ المشكلاتِ (عند رجلِ إدارةٍ مثلي) ينبع من (عدمِ الكفاءةِ) وأن صنعَ النجاحِ بشتى صورِه ينبع من (الكفاءة). وفي إعتقادي أن يأسَ وقنوطَ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمعات الإسلامية والعربية والذي يوّلد "الغضب" ثم "العنف" في حالاتٍ كثيرة يكون بسبب أوضاعٍ نجمت من كون مجتمعاتهم تدار بكوادرٍ بشريةٍ اختيرت لولائها وانصياعها وليس لكفاءتها ، إذ أن الكفاءةَ (بالمعنى المعروف في علوم الإدارة الحديثة) لا تشغل بال أي نظامٍ سياسي أوتوقراطي.

ونظمُ التعليمِ منبتة الصلة بالعصرِ هي حلقةٌ أساسيةٌ من حلقاتِ مسلسل التدمير هذا : فنظمُ التعليم في معظمِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ تكرس العزلة عن مسار الإنسانية (وهو مسار لا جنسية له) وتكرس التعصب وتضع (بشكل غير علمي) أُسساً دينية لصراعاتٍ هي في الحقيقةِ "سياسية بحت" وتقدم من الدين ما هو منزوع من إطاره بحيث يكرس عدم التسامح وقبول الآخر والإيمان بالتعددية كما يكرس "المكانة الدونية للمرأة" .. كما تقوم معظم هذه البرامج على خلق "ذهنية الإجابة" وليس "ذهنية السؤال" (في عالمٍ يقوم التقدم فيه على أساس فعاليات "ذهنية السؤال") .. كذلك تخلو برامج التعليم في معظم المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ مما يرسخ في أذهانِ وعقولِ أبناءِ وبناتِ المجتمع أن "التقدمَ" "عمليةٌ إنسانيةٌ" بمعنى أن آلياتِ التقدمِ "إنسانيةٌ" وليست شرقية أو غربية – والدليل على ذلك أن قائمةَ الدولِ الأكثر تقدماً تضم دولاً غربية/مسيحية (كالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا) ودولاً أخرى تنتمي لخلفياتٍ يابانية أو صينية أو مسلمة (مثل ماليزيا). وفي الإنسانيات والعلوم الإجتماعية ، فإن الإنسلاخَ عن مسارِ الحضارةِ الإنسانيةِ يتفاقم.

لقد ذكرت في محاضرةٍ لي بإحدى الجامعات البريطانية خلال هذا الشهر (أكتوبر 2003) أنني طالعت (في الستينيات) معظم كلاسيكيات الإبداع الإنساني من هوميروس (قبل الميلاد) إلى "سارتر" (ومروراً بعشراتِ الأسماءِ واللغاتِ والخلفياتِ) .. طالعتُ كل ذلك (مثل آخرين من أبناء جيلي) باللغةِ العربيةِ .. وهو ما أثمر تواصلاً بيننا وبين الإنسانيةِ وإبداعاتها لا يتصور وجوده اليوم والساحة الثقافية في المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ شبه خالية مما كانت ذاخرةً به من ترجماتٍ فذةٍ لروائعِ الإبداعِ الإنساني. لقد ذهل جمهور المحاضرة عندما قلت لهم أنني (مثل آخرين من أبناء جيلي) قرأنا اسخيلوس وارستوفان ويوروبيدوس وسوفوكليس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وراسين وموليير وفولتير وجان جاك روسو وجل الأعمال الروائية الروسية وفلوبير وبلزاك وبرناردشو وبيرانديللو والبير كامو وستاينبيك وفوكنر وعشرات غيرهم وعيون الفلسفة الألمانية بالعربية في كتب كان مترجموها في الأساس من مصر وسوريا ولبنان وناشروها في الأساس لبنانيين أو مصريين. والرسالةُ هنا أن الفجوة بين "عقولِ" أبناءِ وبناتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ وبين روائع الإبداع الإنساني قد ازدادت إتساعاً كما أن هؤلاء أصبحوا "محليين" بدرجةٍ كبيرةٍ جداً ، وهو ما يدعم ثقافة التباعدِ عن الإنسانيةِ وهو ما يناسب للغاية "ذهنية العنف" و"ثقافتها".


ثانيآ: المسلمون .. وصراع الحضارات


وإذا كانت "ذهنيةُ العنفِ" في نظري هي ثمرةَ عواملٍ داخليةٍ ، فإن إقحامَها في موضوعِ "صراع الحضارات" هو (في إعتقادي) من قبيل "أدب الخيال" أكثر من كونه "تحليلاً فكرياً أو سياسياً"… ولا أستبعد من ذلك عمل ذائع الصيت مثل كتاب صموئيل هانتنجتون . ولابد هنا من كلمة عن هذا الكتاب لإرتباطه الوثيق بموضوع "ذهنية العنف" . لقد طالعت المقالَ الذي نشره هانتنجتون في أكتوبر 1992 بعنوان "صدام الحضارات؟" ثم جعله كتاباً أصدره في العامِ التالي (1993) بنفس العنوان ولكنه بدون علامة استفهام (والمعنى في غير ما حاجةٍ لشرحٍ) . وقد حقق الكتابُ من الانتشارِ وإثارةِ الجدلِ والحوارِ ما لم يحققه كتابٌ آخر خلال تلك الفترة (وأستثني بالطبع الأعمال الروائية ذائعة الصيت) . ورغم استحالة أن أُصدر أحكاماً مثل التي صدرت (على نطاقٍ واسعٍ في العالم الإسلامي والعربي) عن المؤلفِ ونواياه وأهدافِه ودوافعِه - رغم إستحالة إصداري لأحكامٍ كهذه – إلا أن ذلك لا يحول بيني وبين القول بأنني وجدتُ في الكتاب ما أعتقد أنها ثلاث غلطات كبرى:

¨ أما الأولى ، فهي أنه تكلم عن "الإسلامِ وفق الفهم الوهابي" وكأنه "الإسلام". والحقيقة أن الفهمَ الوهابي لم يكن تياراً أساسياً في الإسلامِ حتى إبرام الحلف الذي أُبرم بين محمد عبد الوهاب ومحمد بن سعود في النصف الثاني من القرن الثامن عشر . وقبل ذلك كانت هناك أفكار مماثلة للفهمِ الوهابي للإسلام ولكنها كانت هامشيةً بكل ما تعنيه الكلمةُ من معانٍ . أما التيارُ الأساسي في الإسلام (Main Stream Islam) فكان بعيداً كل البعدِ عن الفهم الوهابي للإسلام وثقافة هذا الفهم – وإذا كانت الدولةُ العثمانية قد مثلت الإسلامَ سياسياً (وكقوةٍ عظمى) لعدةِ قرون – فإن الدولةَ العثمانية والفهمَ الوهابي للإسلام لم تكن بينهما أية صلة أو علاقة إلا "العداء المطلق" . وقد كنت على إستعدادٍ لقبولِ معظمِ ما قاله هانتنجتون عن الصدام قوى الإحتمال بين "الغرب" و"الإسلام" لو أنه استعمل كلمة "الإسلام الوهابي" عوضاً عن "الإسلام" . وأميل للاعتقاد بأن هانتنجتون غيرُ ملمٍ بتاريخِ وعواملِ وظروفِ تعاظم النموذج الوهابي لفهمِ الإسلام .

¨ أما الثانية ، فهي أنه لم يقدم أية أدلة قوية عن الصراع المرتقب بين "الغرب" والمجتمعات المنتمية للكونفوشيوسية – وكان هنـا يكتب مـا هـو أقـرب للأدب (وأدب هـ . ج . ويلز بالتحديد) منـه للتحليـلِ والفكرِ السياسي . كما أنه هنا يشبه نعوم تشومسكي الذي يقيم نظريةً سياسيةً على فرضيةٍ لا يوجد دليل واحد على صحتها – فهو يقول (أي تشومسكي) أن الولاياتِ المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تعيش من غير عدوٍ واضحٍ تتعرف على نفِسها من خلالـه ومن خـلال العداء معه – ويضيف أن هذا العدو كان (ما بين 1945 و1990) الكتلة الشرقية (أو الشيوعية) وان الإسلامَ هو المرشح اليوم لهذا الدور (المسرحي!) . ولم يسأله أحد: وكيف نمت الولايات المتحدة الأمريكية نموها الأعظم ما بين 1500 و1900 دون أي انغماسٍ في الصراعاتِ الخارجيةِ ودون وجود أي عدو واضح لها خلال فترة تكوين واكتمال "الحـلم الأمريكـي"؟؟ وكيف وصل ونستون تشرشل لحافةِ اليأسِ وهو يحاول إقناع الولايات المتحدة (خلال السنتين من 1939 إلى 1941) بضرورةِ دخولِ الحربِ العالميةِ (في جانب الحلفاء) ولم يحقق له النجاح إلاِّ ضربة اليابانيين لبيرل هاربور في سنة 1941 – كيف لم تر الولاياتُ المتحدة العدو (وهو مجبولة حسب تنظير تشومسكي على الإستفادة من وجوده) إلاِّ بشق الأنفس؟!! ...: نحـن هنـا ببساطـة بصـدد "أدباء" لا "مفكرين" …

¨ وأما الثالثة ، فهو أنه لم يُفرد للحربِ العالميةِ الثانيةِ أيةَ مساحةٍ لائقةٍ في كتابه. رغم أن الحربَ العالمية الثانية (والتي هي أكبر حالة صدام في تاريخ الإنسانية) كانت بين أطرافٍ معظمهم من بوتقة حضارية واحدة (الحضارة الغربية) كما أنها كانت داخل "العالم المسيحي" ولم يذكر أحدٌ (قط) أن "الدين" (كما يعتقد هانتنجتون) كان عاملاً من عوامل هذا الصراع الكبير (والذي كان في الأساس صراعاً بين الفاشية الأوروبية والديمقراطيات الأوروبية).


ثالثآ: "ذهنية العنف" .. ولعبة الأمم


إن إيماني بأن جذورَ "ذهنيةِ العنفِ" في الأساسِ "داخليةٌ" لا يمنعني من التطرقِ لعاملٍ مهمٍ في إستفحالِ أمرِ ذهنيةِ العنفِ ، وهو عامل خارجي وإن بقى "عامل إنتشار" لا "عامل وجود". وأعني الإستعمال السياسي قصير النظر للتياراتِ النابعةِ من ذهنيةِ العنفِ. فقد كان مكتبُ المخابرات البريطانية (MI 6) بالهند وراء الحلف الذي كان يسعى وقتئذ (أوائل القرن العشرين) لتوحيد الجزيرة العربية تحت نظامٍ سياسي يستمد شرعيته من الفهم الوهابي للإسلام. وقد كانت الحركةُ النجدية المعروفة بالأخوان خلال عشرينيات القرن الماضي نموذج واضح لغلاةِ هذا التيار – وهو ما حدا بالملك عبد العزيز بن سعود (مؤسس الحقبة السعودية الثالثة) للدخولِ في حربٍ معهم لا تهامهم إياه بالخروجِ عن صحيحِ الإسلامِ بسببِ قبولهِ لبعضِ مظاهرِ الحضارةِ الغربيةِ (الإذاعة .. السيارة … التليفون) وإئتلاف الإنجليز والقصر في مصر بهدفِ خلقِ كيانٍ سياسي (يستمد شعبيته من شعبية الدين في مصر) يحدث توازناً استراتيجياً مع "الوفد" الذي كان يمثل ويقود (بأغلبيةٍ كبيرةٍ) النضال المصري من أجل الدستور والحياة البرلمانية والإستقلال – هذا "الإئتلاف" هو أمرٌ معروفٌ لدارسي تاريخ مصرَ المعاصر. وهذه اللعبة (لعبة بعض الساسة بعفريت "ذهنية العنف") هي ما تكرر في مصرَ في سبعينيات القرن العشرين وما كررته الولاياتُ المتحدة الأمريكية في أفغانستان .. وكلها أمثلةٌ واضحةٌ على "عاملٍ خارجي" ساعد "ذهنية العنف" على أن تصل لدرجةٍ من النمو السياسي والعسكري ما كان بمقدورها أن تصل إليها لولا أن البعضَ قد ظن (تحت تأثير ظروفِ الحربِ الباردةِ) أن اللعبَ بهذه الورقةِ مربحٌ لا محالة .. فكما يقول المثل العربي "لا يفل الحديد إلاِّ الحديد". واليوم: فإن الصورةَ تبدو شبه مكتملة: إن نشوءَ ذهنيةِ العنفِ هو أمرٌ مرهونٌ بعواملٍ داخليةٍ هي الأوتوقراطية وشلل الحراك الإجتماعي وإختفاء الكفاءة وشيوع اليأس وتدعيم كل ذلك بأدواتِ نظمٍ تعليميةٍ وإعلاميةٍ منبتةِ الصلةِ بالعصرِ .. ثم جاء عاملٌ خارجي هو "أكبر غلطة حسابات في القرن العشرين" لتعطي ذهنيةَ العنفِ فرصةَ النمو السياسي والعسكري لحدود ما كان لها أن تبلغها لو لم يقرر البعضُ أن يستعملها في صراعاته إستعمالاً كان يفتقر للحكمةِ وبعد النظرِ ودقةِ الحسابِ في كلِ الحالاتِ.


رابعآ: دلالات صدام "القاهرة/الدرعية


خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر أرسل حاكمُ مصرَ محمد علي (والذي قدمها والمنطقة كلها للعصر الحديث) جيشاً كبيراً بقيادة إبنه طوسون ثم بقيادة ابنه إبراهيم بهدفٍ محددٍ هو القضاء على الدولةِ التي كانت قد تكونت في نجد (شرق الجزيرة العربية) وتحكم بناءً على الفهمِ الوهابي للإسلام وتمثل (وهذا هو الأهم) مُناخَ هذه المنطقة الثقافي بالتحديد. وفي سنة 1818 أنجز إبراهيم باشا مهمته إذ ألحق الهزيمة بالطرفِ المقابلِ وحطم عاصمتهم (الدرعية) وأخذ قائدَهم أسيراً (أُعدم بعد ذلك في استنبول) . وتجسد تلك الحربُ الصدامَ بين فهمِ المصريين والأتراك (وكان يُشاركهم في ذلك مسلمو الشام بالمعنى الكبير) من جانبٍ والفهمِ الوهابي للإسلام من جانب آخر. ولكن ظروفاً عديدة جعلت الفهمَ الأكثر شيوعاً بين المسلمين (The Main Stream) وهو الفهم الوسطي المعتدل المسالم القابل للتعايش مع الآخرين والذي لا يرفض في تشنج ثمارَ التقدمِ والحداثة – هذا الفهم تراجع وتقلص بسببِ عواملٍ داخليةٍ ذكرتها (الاستبداد/قتل الحراك الاجتماعي/شيوع عدم الكفاءة/اليأس/التعليم الرجعي/الفساد) .

أما الفهمُ الآخر فقد وجد من الوسائل اللازمةِ لنشرِه في شتى بقاع الدنيا ما لا نظير له. كما وجد ظروفاً دولية (وانعدام رؤية) تسببت في أن يصبح الفهمُ الاستثنائي المحدود والذي كان محصوراً بين كثبانِ رمالِ صحراء نجد هو الفهم الذي يفـرض نفسه على خشبةِ مسرح الدنيا ويقول: "أنا الإسلام" .. . وبين المشاهدين (في المسرح) من أمضى سنوات يتغاضى عن كلِ شيءٍ (عوامل الداخل والخارج) لأن الممثل الذي يحمل في يده السيف كان يؤدي الدور الذي كان مطلوباً أن يقوم به – وليحدث بعد ذلك ما يحدث من جراء عوامل الداخل والخارج وانطلاق المارد! .


خامسآ: ثمار شجرة عزلة الصحراء


لم يكن محمد عبد الوهاب الذي إليه ينسب المذهب الوهابي فقيهاً وإنما رجل دعوة. ولكنه ينتسب (فكرياً) لأكثرِ التياراتِ الإسلاميةِ تأسيساً لمذهبها على "النقل" وأقلها إتاحة مساحة "للعقل". فبشكلٍ ما يمكن نسبة محمد عبد الوهاب لإبن تيمية (ونسبة إستعمال "العقل" عنده قليلة ونسبة "النقل" مطلقة). يُضاف لذلك أثر البيئة الجغرافية. فبينما عرفت مصرُ وسوريا ولبنان والعراق واليمن حضاراتٍ قديمةٍ تركت أثرَها على التاريخ الإنساني .. وبينما عرفت أماكن مثل "دبي" و"الحجاز" تعاملات واسعة (بسبب التجارة) مع "العالم الخارجي" – فإن صحراء "نجد" في القسم الشرقي مما هو الآن "السعودية" لم تعرف (بحكم طبيعتها الصحراوية الموغلة في الشدةِ والجفافِ) أيةَ حضارةٍ قبل الإسلام ..

ولم تكن مركزاً لأية حضارةٍ بعد إنتشاره (مثلما كانت عواصمُ الخلافة: المدينة ودمشق وبغداد). ولا يعرف الدارسُ لنجدٍ أية مساهمات لهذه المنطقة في الفنون والآداب والموسيقى إلاِّ الشعر (والشعر هنا بموضوعات قبلية ضيقة للغايةِ بحكمِ البيئةِ). فإذا أضفنا "فكر محمد عبد الوهاب" الموغل في التشدد إلى أثر البيئة الصحراوية بالغ القسوة ، كنا إمام تفسيرٍ لشدةِ بل وقسوةِ آراء وتوجهات وتفسيرات مذهبه (وأؤكد على أن أثر "ذهنية المنطقة" كان أكبر من أثر "المذهب" ذاته). كذلك يمكنّا ذلك من أن نعرف لماذا حارب الملك عبد العزيز بن سعود حركة الإخوان الوهابية في عشرينيات القرن العشرين. فعندما عاد الملكُ عبد العزيز للرياض بعد أن ضم الحجاز لمملكته الشرقية ، قال "الإخوان" أن عبد العزيز غادر الرياض على "ناقةٍ" وعاد في "سيارةٍ أمريكيةٍ" ..

وهو ما اعتبروه إنحرافاً عن "صحيح الدين". وكان ذلك مجرد مثال لصدامات أخرى معه دارت كلها حول كون الإذاعة "حرام" أو كون "التليفون" من عمل الشيطان .. إلى آخر مواقفِ الصدامِ الأصيلِ في تفكيرهم مع ثمارِ الحداثةِ أو التقدمِ. وهذا التوجه لا يفهم إلاِّ بدراسة ما يُعرف بالفرق السرية في الإسلام (وهي روافد جانبية لم تكن أبداً بمثابة التيار الرئيسي Main Stream) وثانياً بدراسةِ دعوةِ محمد بن عبد الوهاب التي هي إبنة أشياءٍ عديدة منها سوسيولوجياً وجيوبوليتيكياً صحراء نجد .. وهي عوامل جعلتهم عندما نجحوا في غزو غرب الجزيرة العربية أي الحجاز يوغلون في فرض فهمهم للدين والذي تمثل في أشياءٍ مثل تسوية القبور بالأرض ومحاربة الفرق الصوفية في مكة وغيرها (بإعتبارها بدعة ضالة من المنظور الوهابي) وتكلل ذلك بالصدامِ المسلحِ مع "المحملِ المصري" فقد كان المصريون يهدون "الكعبة" كسوتها كل سنة ويقومون بنقل الكسوة الجديدة في احتفال (فيه الكثير من ميل المصريين للموسيقى والرقص والمرح) وهو ما اعتبره النجديون عملاً من أعمال الشيطان.

وما أُريد تسليط الضوء عليه هنا ، أن الصحراءَ الداخلية للجزءِ الشرقي من الجزيرةِ العربية قد عانت تاريخياً من جغرافيتها معاناةً شديدةً .. فلما جاءت الثروةُ البترولية العظمى (ومن صحراءِها الداخليةِ تحديداً) فقد كان من الصعبِ تصوّر قيام هذا الجزء من العالم بشيءٍ أقل من "تسويق تفكيره" .. وهو ما حدث بالفعل خلال النصف الثاني من القرنَ العشرين .. وكانت الدراما تكتمل بأن "الإسلامَ غير الوهابي" إبان تلك الفترة شهد تراجعاً كبيراً أمام النموذج المدعوم بأموالٍ لا حد لها: ففي الداخل تراكمت المعضلاتُ بسببِ الإستبداد السياسي وإنعدام الحراك الإجتماعي وترك معظم المؤسسات تدار بغيرِ كفاءةٍ مع تدهورٍ مشهودٍ في نظمِ التعليمِ .. ومن الخارج تهب أفكارُ الفهمِ الوهابي المدعوم بطوفانٍ من الإمكانيات .. فكيف لا يتراجع ما كان بمثابة التيار العام Main Stream (وأعني الإسلام غير الوهابي)؟ وكيف لا يبدو الفهم النجدي للإسلام وكأنه هو الإسلام الوحيد رغم أنه كان غيرَ موجودٍ خارج "صحراء نجد" قبل بداية القرن العشرين؟

وبإختصارٍ شديدٍ ، فبينما كان الإسلامُ غير الوهابي يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ تعيش عصرها في مصر وسوريا ولبنان وتركيا ويتفاعل فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود ومستحدثات العصر ، فإن الفهمَ الوهابي للإسلام لا يتصور أن يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ مثل الإسكندرية والقاهرة واسطنبول وبيروت ودمشق وحلب كما كانت تلك المدن في سنة 1900 على سبيل المثال. وعلى النقيض ، فإن هذا الفهم النجدي للإسلام يجعل المسلمين (من أتباعه) في "حالة تصادمٍ دائمةٍ" مع الآخرين والعصرِ والحداثةِ .. ولا يُفهم لكلمةِ "الجهاد" معناً إلاِّ حمل السيف في كلِ وقتٍ – رغم أن المسلمين غير الوهابيين كانوا عبر قرون عديدة يفهمون أن مصطلحَ "الجهاد" يعني إستعمال القوة لدرءِ عدوانٍ عليهم. ناهيك عن أن المصدرَ اللغوي للكلمةِ لا علاقة له بالعنفِ المسلح. كذلك ، فإن تصورَ إندماج المسلمين في الإنسانية وارد عند الفهم غير الوهابي للإسلام (لاسيما قبيل الذيوع الواسع للثقافة الوهابية خلال القرن الأخير) .. أما حسب الفهم الوهابي (وثقافته) فإن هذا الإندماج "مستحيل" و"مرفوض" ومرادف لمصطلحِ "التبعيةِ" الذي يروجه كلُ من سيطرت الثقافة الوهابية على تفكيرهِ. وإذا كان لنظريةِ نعوم تشومسكي أن تكون صائبةً ، فإنها تكون كذلك بالنظرِ لأصحابِ الفهمِ الوهابي للإسلام – فهم لا يستطيعون الوجود بمعزلٍ عن "عدوٍ كبيرٍ" يكون وجودُهم مرهوناً بوجوده!


سادسآ: سقوط الطغاة وظهور السيف


خضعت مجتمعاتٌ إسلاميةٌ خلال العقودِ الأخيرةِ لأشكالٍ مختلفةٍ من "الطغاةِ" الذين حكموا بلدانهم بيدٍ من حديدٍ وفي ظلِ أتوقراطيةٍ واسعةٍ أدت في كثيرٍ من الأحوال إلى "مسلسل التداعي" الذي وصفته من قبل وهو: إستبداد يلغي الحراك الإجتماعي .. إنعدام الحراك الإجتماعي يشيع عدم الكفاءة في كل المجالات .. ظاهرة عدم الكفاءة عامة تؤدي لإنهيار في كلِ المستوياتِ يولد شعوراً باليأس والغضب ومنهما تنبت "ذهنيةُ العنفِ" لاسيما وأن غير الإكفاء (The non-competent) يجعلون منظومةَ التعليم عاملَ تدهور إضافي لكافة المستويات. وفي كل تلك المجتمعات ما أن تحدث متغيرات تجعل الطاغية يسقط (سوهارتو في إندونيسيا .. صدام حسين في العراق) حتى يبرز على سطحِ الحياةِ العامةِ فجأة رموزُ الفهمِ الوهابي للإسلام وهم يطرحون أنفسهم بمثابة "المخلص"!

وينخدع البعض ويقولون: أن هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة التي تفرزها هذه المجتمعات. والخطأ هنا مركب: فالذي أفرز هؤلاء هم "الطغاة" و"طرائق حكمهم الأتوقراطية" التي قتلت الحراك الإجتماعي ومنعت نمو المجتمع المدني وعممت "عدم الكفاءة" وجعلت دنيا السياسة مكونةً من أفقين: أفق فوق الأرض (وعليه الطغاة وأركان نظمهم فقط) وأفق تحت الأرض (وفيه رموز الفهم الوهابي والذين أصبحوا متدربين أفضل تدريب على النمو تحت الأرض في ظل السرية والمطاردة) .. وما أن ينزاح الطغاة حتى تبرز القوى السياسية الوحيدة التي كانت قائمة (تحت الأرض) وفي ظل إنعدام المجتمع المدني وإختفاء الحراك الإجتماعي وشيوع عدم الكفاءة ، فإن المسرح يكون معداً لفريق جديد من الطغاة سيكونون طغاةً وغيرَ أكفاءٍ في آنٍ واحدٍ .. وسيأخذون مجتمعاتهم لدرجاتٍ أشد إنحداراً من التأخرِ والتخلفِ والبعدِ عن معادلةِ التقدم والحداثة والإستغراق في مشكلاتٍ إجتماعيةٍ لا حصر لها.

وبإختصارٍ: فإن طغاةَ ما فوق الأرض وطغاة تنظيمات تحت الأرض على السواء من ثمار المعادلة التي أعود في هذا المقال لها المرة تلو المرة: نظام سياسي أتوقراطي (إستبدادي) يشل الحراك الإجتماعي ، فيسود غير الإكفاء في كل المجالات ، فتنخفض كل المستويات ، فيشيع اليأسُ وتنبثق وتستفحل ذهنيةُ العنفِ ولا يكون بوسع مؤسستي "التعليم" و"الإعلام" إصلاح تلك التراجيديا ، لأن هاتين المؤسستين قد فسدتا أيضاً على يدِ غير الإكفاء . وإذا قال قائلٌ: لماذا لا ينتشر إلاِّ هذا النموذج كلما سقط طاغية في مجتمع إسلامي أو عربي .. كان الجدير بنا أن نقول له "إن الذي إنتشر هو اليأس الذي هو الثمرة الطبيعية لنظمِ حكمٍ أتوقراطيةٍ لم تبق أحداً فوق الأرض – ولم يعش في ظلها إلاِّ لك المارد "تحت الأرض" .. والعلاج الوحيد يبدأ من بداية السلسلة لا من نهايتها.

Salma 24-01-05, 09:23 PM سابعًا: المجتمعات الإسلامية منذ 100 سنة


أوضح دليل على خطأ الزعم بأن التيارات والجماعات العنيفة (المخاصمة للعصر والحداثة والداعية لعودة درامية للقرون الوسطى) هي"الإسلام" – أوضح دليل على خطأ هذا الزعم هو صورة عدد من المجتمعات الإسلامية الأساسية في مستهلِ القرنِ العشرين مثل مصر وسوريا الكبرى (وكانت تشمل وقتئذ لبنان) وتركيا. كانت تلك المجتمعات "مسلمةً" إلى حدٍ بعيدٍ ولكنها كانت أيضاً من أكثرِ المجتمعاتِ قبولاً للأقلياتِ ، وكان بعضها يذخر بعدد لا مثيل له من الأقليات (الإسكندرية وبيروت والقاهرة مثلاً). وكان "قبول الآخر" وقبول "الحداثة" والإقبال على ثمارِ الإبداعاتِ الإنسانيةِ الكبرى واضحاً. في هذه البلدان (يومذاك) كان المثقفون يترجمون هوميروس وروائع المسرح اليوناني القديم وروائع الآداب الأوروبية الحديثة وعيون الفكر الإنساني (مثل ديكارت وجان جلك روسو وفولتير وديدرو ولوك وهوبز وكانط وهيجل وشونبهور ونيتشة .. وغيرهم) وكان الإنسجامُ مع موجةِ الحضارةِ العظمى التي بدأت بعصر النهضةِ (الرينيسانس) كاملاً. ومع ذلك ، كان مصريو وأتراك وسوريو تلك الفترة المسلمون لا يشعرون بأي تناقضٍ بين كونهم مسلمين وشغفهم بالحداثةِ وإبداعاتِ الحضارةِ الغربيةِ الماديةِ والثقافيةِ على السواء.

وفي هذا الدليل القاطع (المستمد من واقع كان موجوداً وحياً) على أن الإسلامَ ليس هو جماعات العنف وحملة السيف (الذين يرجعون لنقطةِ إنطلاقٍ جيوبوليتيكية شرحتها من قبل) بل وفي هذا الدليل الواضح على أنه التيار الذي كان بمثابة التيار الأساسي في الإسلام Main Stream كان أَبعد ما يكون عن "الإسلام المحارب" Militant Islam الذي يعود عقلياً للفهمِ الوهابي للإسلام وإنتشاراً لظروفِ التدهورِ في عددٍ من المجتمعات الإسلامية (نظريتنا التي أوضحناها: "نظام سياسي أوتوقراطي" يؤدي لشلل كلي للحراك الإجتماعي .. بما يؤدي لشيوع "عدم الكفاءة" .. بما يؤدي لإنخفاض كل المستويات .. بما يؤدي لليأس والذي في ظلِ نظمٍ تعليمٍ وإعلامٍ متخلفةٍ ينتج "ذهنية العنف" ومناخ ثقافي عام يقبلها هو ما سميته "ثقافة ذهنية العنف".

وفي كل هذا ما يدحض أن "المنظومة الإسلامية" تؤدي حتماً للعنفِ والصدامِ مع الآخرين – فتلك (من جهةٍ) خاصية "فصيل واحد" لم يكن له وجود يذكر (خارج صحراء نجد) منذ قرنٍ واحدٍ من الزمان ، وتلك من جهة أخرى ليست من نسيج تيار الإسلام غير الوهابي الذي كان هو التيار الأساسي Main Stream في المجتمعات الإسلامية قبل حدوث الزلزالين: زلزال إنتشار النموذج العنيف .. وزلزال تدهور مستويات الحياة في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية بالكيفية التي جعلت المناخ العام مناسباً لفكر النموذج العنيف للإنتشار.

لا توجد ظواهرٌ إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الإجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفاً جوهره إحتمال إنزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الإنهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مروراً بعدم الكفاءة وإنهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن إتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي ستؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاِّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكاً لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الإنتشار الكبير.

إن عدم إنشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحاً – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جداً من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.


ثامنًا: محنة الإسلام غير الوهابي


لا توجد ظواهرٌ إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الإجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفاً جوهره إحتمال إنزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الإنهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مروراً بعدم الكفاءة وإنهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن إتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي ستؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاِّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكاً لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الإنتشار الكبير. إن عدم إنشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحاً – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جداً من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.


تاسعًا: المجتمعات الإسلامية ومشكلة معنى "التقدم" و"الحداثة".


ساهمت نظم الحكم الأوتوقراطية المغلقة مع نظم التعليم منبتة الصلة بالعصر وكذلك وسائل الإعلام الموجهة ومناخ ثقافة الفهم المتزمت (وأحياناً المتطرف) للدين لنشوء حالة تحفز بين عقول أعداد كبيرة من المسلمين والعرب وكلمات مثل "التقدم" و"الحداثة". بل يمكن القول أن العوامل التي ذكرتها (وهي عوامل داخلية) مع عوامل أخرى خارجية (مثل مرض "الطفولة الثقافية" في بعض الدول بالغة التقدم) قد أدت بالعقل المسلم والعربي للإعتقاد بأن الدعوة للتقدم والحداثة هي دعوة للتبعية وفقدان الخصوصية الثقافية. ويزيد من تفاقم الحالة ، ما يشعر به مسلمون وعرب كثيرون من أن قيم الحضارة الغربية السامية هي للداخل لا للكل. وقد بذلت جهوداً هائلة لأوضح لقرائي في مصر ومنطقة الشرق الأوسط أن "التقدم" ظاهرة إنسانية في المقام الأول. وإن "روشتة التقدم" لا جنسية أو دين لها: وكان دليلي الأول دائماً أن الولايات المتحدة واليابان وماليزيا وتايوان وكوريا الجنوبية هي مجتمعات متقدمة ، وبعضها غربي بحت وبعضها صيني وبعضها مسلم وبعضها ياباني. وقد أفردت كتاباً من كتبي (عنوانه: "قيم التقدم") لأوضح لأبناء وبنات مجتمعي أن الزعم بأن التقدم والحداثة هما مقابل حتمي لضياع الهوية والخصوصية الثقافية هو خلط مروع للأوراق. وما أكثر ما رددت: "إنني كرجل مارس تقنيات الإدارة الحديثة على نطاق واسع أعلم يقيناً أن هناك "إدارة ناجحة" و"إدارة فاشلة" ولكنني لا علم لي بإدارة عربية أو صينية أو إفريقية أو فرنسية". لقد تقدمت اليابان تقدماً مذهلاً خلال خمسين سنة ، ولا يزال المجتمع الياباني (لاسيما خارج العاصمة "طوكيو") يابانية صرفاً. والذي ينكر أن التقدم ظاهرة إنسانية وأن آلياتها أيضاً إنسانية هو إنسان لم تر عيناه "آليات التقدم على أرض الواقع" (وربما يكون ذلك تفسير عدم إهتمام معظم الأكاديميين بهذه الجزئية).

ولا شك أن نظم الحكم الإستبدادية يلائمها المواطن المحلي الصرف والمنبت الصلة بالعالم الخارجي والذي يعتقد أن "الحداثة" هي الوجه الآخر "للتبعية" : فمواطن كهذا لن يؤمن أيضاً أن "الديمقراطية" ثمرة الإنسانية وأنها "منتج إنساني" و"حق إنساني" وليست بضاعة غربية "للغربيين" – كما أنه سيدرك (وهو أمر غير مرغوب فيه) أن القول بأن لكل مجتمع "نوع خاص من الديمقراطية يناسبه" هو "كلام مغرض إلى أبعد حد" : فمن المؤكد أن هناك صوراً عديدة للديمقراطية .. ولكن من المؤكد أيضاً أنها كلها تتضمن آليات محاسبة تهبط بالحكام من "أفق السادة" إلى "أفق خدمة المجتمع".

وهكذا يكون السؤال حول "مستقبل العقل المسلم" هو ذات السؤال حول "مستقبل المجتمعات المسلمة" – هل هو مستقبل في ظل الحريات والديمقراطية والإزدهار والتقدم .. أم مستقبل سيشهد نقيض كل ذلك؟ .. والإجابة عن هذا السؤال تحدد الإجابة عن السؤال حول مستقبل العقل المسلم : أهو طريق الإسلام الوسطي أم طريق الإسلام الوهابي؟

K A R A M 06-06-05, 02:49 AM فقط أود أن أنوّه إلى أن كاتب المقال هو الدكتور طارق حجّي ،،،

وإليكم سيرته الذَّاتيّة ،،،

cv_arabic_image.jpg

- معيد/مدرس

- مساعد/مدرس بكلية العلوم القانونية والإقتصادية والإدارية بجامعة فاس المغربية (8 سنوات – حتى 1979) .

- خبير إتفاقيات بترول دولية بشركة شل العالمية للبترول (1979/1988) .

- رئيس شركات شل العالمية للبترول بمصر (1988/1996).

- مستشار رئيس شل العالمية للشرق الأوسط (1996/1998).

- رئيس مجلس الأمناء و المدير التنفيذى للمركز القومى لدراسات الشرق الأوسط (1/1/2005).

- عضو إتحاد كتاب مصر ومؤلف 14 كتاب باللغة العربية وعدد من الكتب بالإنجليزية والفرنسية عن المشكلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتعليمية والإدارية لمصر.

- أُختير كعضوٍ بمجالس إدارات ومجالس أمناء أكثر من ثلاثين جمعية وكلية وجامعة ومؤسسة من بينها عضويته بلجنة العلوم الإدارية بالمجلس الأعلى للثقافة ومجلس أمناء الجمعية العربية للإدارة (نائب الرئيس) ومجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ومجلس أمناء جامعة العلوم الحديثة والآداب (MSA) ومجلس إدارة الجمعية المصرية للتنمية الثقافية والإجتماعية ومجلس إدارة جمعية النهضة بالتعليم ومجلس كلية الإقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة … وغيرها .

- دُعى كمحاضرٍ بعددٍ كبيرٍ من الجامعات ومراكز البحوث الأمريكية مثل جامعة oxford و جامعة لندن وجامعة Princeton وجامعة Columbia وجامعة California Berkeley ومعظم كبريات مراكز بحوث الشرق الأوسط الأمريكية .

- أحدث مؤلفاته كتاب (Culture, Civilization & Humanity) صدر في يونيه 2003 عن دار نشر Frank Cass البريطانية/الأمريكية "400 صفحة بالإنجليزية" (لندن/بورتلاند).


تحياتي ،،،

كتب السيد الفاضل ما هو مكتوب أعلاه و لكن أختلف معه في نقاط الذي يرد عليها هو ما هو مكتوب أدناه :

بسم الله الرحمن الرحيم فتنة الوهابية ترجمة المؤلف هو أحمد بن زين بن أحمد دحلان المكي، الشافعي، فقيه، مؤرخ، شارك في أنواع من العلوم، مفتي السادة الشافعية بمكة المعظمة، وشيخ الإسلام. ولد بمكة سنة 1231هـ وتوفي بالمدينة في المحرم سنة 1304هـ. له مؤلفات كثيرة مطبوعة متداولة منها: الأزهار الزينية في شرح متن الألفية، وتاريخ الدول الإسلامية بالجداول المرضية، وفتح الجواد المنان على العقيدة المسماة بفيض الرحمن، والدرر السنيّة في الرد على الوهابية، ونهل العطشان على فتح الرحمن، في تجويد القرءان، وخلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام، والفتوحات الإسلامية، إلى غير ذلك. ومنها هذا الكتيب الذي بين يدي القارىء، ءاملين أن يستفيد القراء منه والله من وراء القصد.

فتنة الوهابية اعلم أن السلطان سليم الثالث (1204- 1222هـ) حدث في مدة سلطنته فتن كثيرة منها ما تقدم ذكره، ومنها فتنة الوهابية التي كانت في الحجاز حتى استولوا على الحرمين ومنعوا وصول الحج الشامي والمصري، ومنها فتنة الفرنسيس لما استولوا على مصر من سنة ثلاث عشرة (1213) إلى سنة ست عشرة (1216) ولنذكر ما يتعلق بهاتين الفتنتين على سبيل الاختصار لأن كلاً منهما مذكور تفصيلاً في التواريخ وأفرد كل منهما بتأليف رسائل مخصوصة، أما فتنة الوهابية فكان ابتداء القتال فيها بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد وهو نائب من جهة السلطنة العليَّة على الأقطار الحجازية وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى الثالث بن أحمد (وأما ابتداء أول ظهور الوهابية) فكان قبل ذلك بسنين كثيرة وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم أولاً، ثم كثر شرهم وتزايد ضررهم واتسع ملكهم وقتلوا من الخلائق ما لا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهاب وأصله من المشرق من بني تميم وكان من المعمرين فكاد يعد من المنظرين لأنه عاش قريب مائة سنة حتى انتشر عنه ضلالهم، كانت ولادته سنة ألف ومائة وإحدى عشرة وهلك سنة ألف ومائتين، وأرخه بعضهم بقوله:

(بدا هلاك الخبيث) 1206 وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان أبوه رجلاً صالحًا من أهل العلم وكذا أخوه الشيخ سليمان، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه فحقق الله فراستهم فيه لما ابتدع من الزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين وتوصل بذلك إلى تكفير المؤمنين فزعم أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به وبالأنبياء والأولياء والصالحين وزيارة قبورهم شرك، وأن نداء النبي صلى الله عليه وسلم عند التوسل بهم شرك، وكذا نداء غيره من الأنبياء والأولياء الصالحين عند التوسل بهم شرك، وأن من أسند شيئًا لغير الله ولو على سبيل المجاز العقلي يكون مشركًا نحو نفعني هذا الدواء، وهذا الولي الفلاني عند التوسل به في شىء. وتمسك بأدلة لا تنتج له شيئًا من مرامه، وأتى بعبارات مزورة زخرفها ولبَّسَ بها على العوام حتى تبعوه، وألف لهم في ذلك رسائل حتى اعتقدوا كفر أكثر أهل التوحيد، واتصل بأمراء المشرق أهل الدرعية ومكث عندهم حتى نصروه وقاموا بدعوته وجعلوا ذلك وسيلة إلى تقوية ملكهم واتساعه، وتسلطوا على الأعراب وأهل البوادي حتى تبعوهم وصاروا جندًا لهم بلا عوض وصاروا يعتقدون أن من لم يعتقد ما قاله ابن عبد الوهاب فهو كافر مشرك مهدر الدم والمال، وكان ابتداء ظهور أمره سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين، وابتداء انتشاره من بعد الخمسين ومائة وألف. وألّف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية وكان من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، ولما مات محمد بن سعود قام بها ولده عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهاب بالمدينة يقولون سيضل هذا أو يضل الله به من أبعده وأشقاه فكان الأمر كذلك، وزعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة وأنه جدد للناس دينهم وحمل الآيات القرءانية التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد كقوله تعالى: {ومن أضلّ ممن يدعو من دونِ اللهِ من لا يستجيبُ لهُ إلى يومِ القيامةِ وهم عن دُعائهم غافلون} وكقوله تعالى {ولا تدعُ من دونِ اللهِ ما لا ينفعكَ ولا يضرُّك} وكقوله تعالى {والذينَ يدعونَ من لا يستجيبُ لهم إلى يومِ القيامة} وأمثال هذه الآيات في القرءان كثيرة، فقال محمد بن عبد الوهاب من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه مثل هؤلاء المشركين ويدخل في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين مثل ذلك، وقال في قوله تعالى حكاية عن المشركين في عبادة الأصنام {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} إن المتوسلين مثل هؤلاء المشركين الذين يقولون {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال:"فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئًا بل يعتقدون أن الخالق هو الله تعالى بدليل قوله تعالى: {ولئنْ سألتهم من خلقهُم ليقولنَّ الله} و {ولئنْ سألتهم من خلقَ السمواتِ والأرضَ ليقولنَّ الله} فما حكم الله عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم ليقربونا إلى الله زلفى فهؤلاء مثلهم". وما ردوا به عليه في الرسائل المؤلفة للرد عليه أن هذا استدلال باطل فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء ءالهة وجعلوهم شركاء لله بل إنهم يعتقدون أنهم عبيد الله مخلوقون ولا يعتقدون أنهم مستحقون العبادة. وأما المشركون الذين نزلت فيهم هذه الآيات فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية ويعظمونها تعظيم الربوبية وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئًا، وأما المؤمنون فلا يعتقدون في الأنبياء والأولياء استحقاق العبادة والألوهية ولا يعظمونهم تعظيم الربوبية، بل يعتقدون أنهم عباد الله وأحباؤه الذين اصطفاهم واجتباهم وببركتهم يرحم عباده فيقصدون بالتبرك بهم رحمة الله تعالى، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة. فاعتقاد المسلمين أن الخالق الضار والنافع المستحقّ العبادة هو الله وحده ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه، وأن الأنبياء والأولياء لا يخلقون شيئًَا ولا يملكون ضرًّا ولا نفعًا وإنما يرحم اللهُ العبادَ ببركتهم. فاعتقاد المشركين استحقاق أصنامهم العبادة والألوهية هو الذي أوقعهم في الشركِ لا مجرد قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله)، لأنهم لما أقيمت عليهم الحجة بأنها لا تستحق العبادة وهم يعتقدون استحقاقها العبادة قالوا معتذرين (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فكيف يجوز لابن عبد الوهاب ومن تبعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون ألوهية الأصنام؟! فجميع الآيات المتقدمة وما كان مثلها خاصّ بالكفار والمشركين ولا يدخل فيه أحد من المؤمنين. روى البخاريّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى ءايات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين، وفي رواية عن ابن عمر أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال :"أخوَفُ ما أخاف على أمّتي رجل يتأوّل القرءان بصنعه في غير موضعه" فهو وما قبله صادق على هذه الطائفة. ولو كان شىء مما صنعه المؤمنون من التوسل وغيره شركًا ما كان يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها. ففي الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه :"اللهمّ إني أسألك بحقّ السائلين عليك" وهذا توسّل لا شكّ فيهِ وكان يُعلّم هذا الدّعاء أصحابَه ويأمرهم بالإتيانِ به، وبسط ذلكَ طويل مذكور في الكتب وفي الرسائل التي في الردّ على ابن عبد الوهاب. وصحّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما ماتت فاطمة بنت أسد أمّ عليّ رضي الله عنها ألحدها صلى الله عليه وسلم في القبر بيده الشريفة وقال :"اللهمَّ اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسّعْ عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين" وصح أنّه صلى الله عليه وسلم سأله أعمى أن يردّ اللهُ بصرَه بدعائِه فأمره بالطهارةِ وصلاة ركعتين ثم يقول :"اللهمَّ إني أسألُك وأتوجّه إليكَ بنبيّك محمد نبيّ الرحمةِ يا محمّد إنّي أتوجه بكَ إلى ربي في حاجتي لتُقضى اللهمَّ شفّعه فيَّ" ففعل فرد اللهُ عليه بصره، وصحّ أن ءادمَ عليه السلام توسّل بنبيّنا صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرةِ لأنّه لما رأى اسمَه صلى الله عليه وسلم مكتوبًا على العرشِ وعلى غرف الجنة وعلى جباه الملائكة سأل عنه فقال الله له: هذا ولد من أولادك. فقال اللهمّ بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فنودي يا ءادمُ لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماء والأرض لشفعناك. وتوسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنه لما استسقى الناس وغير ذلك مما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطالة بذكره والتوسل الذي في حديث الأعمى قد استعمله الصحابة السلف بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وفيه لفظ "يا محمَّد"، وذلك نداء عند المتوسل. ومن تتبع كلام الصحابةِ والتابعين يجد شيئًا كثيرًا من ذلكَ كقول بلال بن الحارث الصحابي رضي الله عنهُ عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم :"يا رسول الله استسق لأمّتك" كالنداء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور. وممن ألف في الرد على ابن عبد الوهاب أكبر مشايخه وهو الشيخ محمد ابن سليمان الكردي مؤلف حواشي شرح ابن حجر على متن بافضل فقال من جملة كلامه: يا ابن عبد الوهاب إني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين فإن سمعتَ من شخص أنه يعتقد تأثير ذلكَ المستغاث به من دون الله فعرفه الصواب وأبِنْ له الأدلة على أنه لا تأثير لغير الله فإن أبى فكفره حينئذ بخصوصه ولا سبيل لك إلى تكفير السواد الأعظم من المسلمين، وأنت شاذ عن السواد الأعظم فنسبة الكفر إلى من شذ عن السواد الأعظم أقرب لأنه اتبع غير سبيل المؤمنين. قال تعالى :{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصلِه جهنّم وساءت مصيرًا} وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.اهـ. وأما زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد فعلها الصحابةُ رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف والخلف وجاء في فضلها أحاديث أفردت بالتأليف، ومما جاء في النداء لغير الله تعالى من غائب وميت وجماد قوله صلى الله عليه وسلم :"إذا أفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله أحبسوا فإن لله عبادًا يجيبونه" وفي حديث ءاخر :"إذا أضلّ أحدكم شيئًا أو أراد عونًا وهو بأرضٍ ليس فيها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني" وفي رواية "أغيثوني"، "فإن لله عبادًا لا ترونهم". وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال :"يا أرض، ربي وربك الله" وكان صلى الله عليه وسلم إذا زار قال :"السلام عليكم يا أهل القبور" وفي التشهد الذي يأتي به كل مسلم في كل صلاة صورة النداء في قوله :"السلام عليك أيها النبيّ". والحاصل أن النداء والتوسل ليس في شىء منهما ضرر إلا إذا اعتقدَ التأثير لمن ناداه أو توسل به، ومتى كان معتقدًا أن التأثير لله لا لغير الله فلا ضرر في ذلك، وكذلكَ إسناد فعل من الأفعال لغير الله لا يضرّ إلا إذا اعتقدَ التأثير، ومتى لم يعتقد التأثير فإنه يُحمل على المجاز العقليّ كقوله: نفعني هذا الدواء أو فلان الوليّ، فهو مثل قوله: أشبعني هذا الطعام، وأرواني هذا الماء، وشفاني هذا الدواء. فمتى صدر ذلك من مسلم فإنه يحمل على الإسناد المجازي والإسلام قرينة كافية في ذلكَ فلا سبيل إلى تكفير أحد بشىء من ذلكَ، ويكفي هذا الذي ذكرناه إجمالاً في الرد على ابن عبد الوهاب ومن أراد بسط الكلام فليرجع إلى الرسائل المؤلفة في ذلكَ وقد لخصت ما فيها في رسالة مختصرة فلينظرها من أرادها.

ولما قام ابن عبد الوهاب ومن أعانه بدعوتهم الخبيثة التي كفروا بسببها المسلمين ملكوا قبائل الشرق قبيلة بعد قبيلة، ثم اتسع ملكهم فملكوا اليمن والحرمين وقبائل الحجاز وبلغ ملكهم قريبًا من الشام، فإن ملكهم وصل إلى المزيريب وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلما وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به، رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة، كحمر مستنفرة، فرَّت من قسورة ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات، فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم، فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومائة ألف، وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفرَّ بعضهم إلى الدرعية فأخبرهم بما شاهدوا فازدادوا عتوًّا واستكبارًا وصار أمراء مكة بعد ذلك يمنعون وصولهم للحج فصاروا يغيرون على بعض القبائل الداخلين تحت طاعة أمير مكة، ثم انتشب القتال بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد، وكان ابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة قتل فيها خلائق كثيرون ولم يزل أمرهم يقوى وبدعتهم تنتشر إلى أن دخل تحت طاعتهم أكثر القبائل والعربان الذين كانوا تحت طاعة أمير مكة. وفي سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف ساروا بجيوش كثيرة حتى نازلوا الطائف وحاصروا أهله في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، ثم تملكوهُ وقتلوا أهله رجالاً ونساءً وأطفالاً ولا نجا منهم إلا القليل، ونهبوا جميع أموالهم ثم أرادوا المسير إلى مكة، فعلموا أن مكة في ذلك الوقت فيها كثير من الحجاج، ويقدم إليها الحاج الشامي والمصري فيخرج الجميع لقتالهم فمكثوا في الطائف إلى أن انقضى شهر الحج، وتوجه الحجاج إلى بلادهم وساروا بجيوشهم يريدون مكة ولم يكن للشريف غالب قدرة على قتال جيوشهم، فنزل إلى جدة فخاف أهل مكة أن يفعل الوهابية معهم مثل ما فعلوا مع أهل الطائف فأرسلوا إليهم وطلبوا منهم الأمان لأهل مكة، فأعطوهم الأمان ودخلوا مكة ثامن محرم من السنة الثامنة عشرة بعد المائتين والألف ومكثوا أربعة عشر يومًا يستتيبون الناس ويجددون لهم الإسلام على زعمهم، ويمنعونهم من فعل ما يعتقدون أنه شرك كالتوسل وزيارة القبور، ثم ساروا بجيوشهم إلى جدة لقتال الشريف غالب، فلما أحاطوا بجدة رمى عليهم بالمدافع والقلل فقتل كثيرًا منهم ولم يقدروا على تملك جدة فارتحلوا بعد ثمانية أيام، ورجعوا إلى بلادهم وجعلوا لهم عسكرًا بمكة وأقاموا لهم أميرًا فيها وهو الشريف عبد المعين أخو الشريف غالب، وإنما قبل أمرهم ليرفق بأهل مكة ويدفع ضرر أولئك الأشرار عنهم، وفي شهر ربيع الأول من السنة المذكورة سار الشريف غالب من جدة ومعه وإلى جدة من طرف السلطنة العلية وهو شريف باشا ومعهما العساكر فوصلوا إلى مكة وأخرجوا من كان بها من عساكر الوهابية ورجعت إمارة مكة للشريف غالب ثم بعد ذلك تركوا مكة واشتغلوا بقتال كثير من القبائل، وصار الطائف بأيديهم وجعلوا عليه أميرًا (عثمان المضايفي) فصار هو وبعض جنودهم يقاتلون القبائل التي في أطراف مكة والمدينة ويدخلونهم في طاعتهم حتى استولوا عليهم وعلى جميع الممالك التي كانت تحت طاعة أمير مكة، فتوجه قصدهم بعد ذلك للاستيلاء على مكة فساروا بجيوشهم سنة عشرين وحاصروا مكة وأحاطوا بها من جميع الجهات وشددوا الحصار عليها وقطعوا الطرق ومنعوا الميرة عن مكة، فاشتد الحصار على أهل مكة حتى أكلوا الكلاب لشدة الغلاء وعدم وجود القوت، فاضطر الشريف غالب إلى الصلح معهم وتأمين أهل مكة فوسط أناسًا بينه وبينهم فعقدوا الصلح على شروط فيها رفق بأهل مكة، فمن تلك الشروط أن إمارة مكة تكون له فتم الصلح ودخلوا مكة في أواخر ذي القعدة سنة عشرين وتملكوا المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وانتهبوا الحجرة وأخذوا ما فيها من الأموال، وفعلوا أفعالاً شنيعة، وجعلوا على المدينة أميرًا منهم "مبارك بن مضيان"، واستمر حكمهم في الحرمين سبع سنين ومنعوا دخول الحج الشامي والمصري مع المحامل مكة، وصاروا يصنعون للكعبة المعظمة ثوبًا من العباء القيلان الأسود، وأكرهوا الناس على الدخول في دينهم ومنعوهم من شرب التنباك ومن فعل ذلك وأطّلعوا عليه عزروه بأقبح التعزير، وهدموا القبب التي على قبور الأولياء. وكانت الدولة العثمانية في تلك السنين في ارتباك كثير وشدة قتال مع النصارى، وفي اختلاف في خلع السلاطين وقتلهم كما سنقف عليه إن شاء الله تعالى، ثم صدر الأمر السلطاني (من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلطان محمود خان ثاني بن عبد الحميد خان أول سلطان أحمد) لصاحب مصر محمد علي باشا بالتجهيز لقتال الوهابية وكان ذلك في سنة 1226 فجهز محمد علي باشا جيشًا فيه عساكر كثيرة جعل عليهم بفرمان سلطان ولده طوسون باشا فخرجوا من مصر في رمضان من السنة المذكورة ولم يزالوا سائرين برًا وبحرًا حتى وصلوا إلى ينبع فملكوه من الوهابية، ثم لما وصلت العساكر إلى الصفرا والحديدة وقع بينهم وبين العرب الذين في الحربية قتال شديد بين الصفرا والحديدة وكانت تلك القبائل كلها في طاعة الوهابي وانضم إليها قبائل كثيرة فهزموا ذلك الجيش وقتلوا كثيرًا منهم وانتهبوا جميع ما كان معهم وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 26، ولم يرجع من ذلك الجيش إلى مصر إلا القليل فجهز جيشًا غيره سنة سبع وعشرين وعزم محمد علي باشا على التوجه إلى الحجاز بنفسه، وتوجهت العساكر قبله في شعبان في غاية القوة والاستعداد وكان معهم من المدافع ثمانية عشر مدفعًا وثلاثة قنابل فاستولت العساكر على ما كان بيد الوهابية وملكوا الصفراء والحديدة وغيرهما في رمضان بلا قتال، بل بالمخادعة ومصانعة العرب بإعطاء الدراهم الكثيرة حتى أنهم أعطوا شيخ مشايخ حرب مائة ألف ريال، وأعطوا شيخًا من صغار المشايخ حرب أيضًا ثمانية عشر ألف ريال ورتبوا لهم علائف تصرف لهم كل شهر، وكان ذلك كله بتدبير شريف مكة الشريف غالب وهو في الظاهر تحت طاعة الوهابي، وأما المرة الأولى التي هزموا فيها فلم يكونوا كاتبوا الشريف غالب في ذلك حتى يكون الأمر بتدبيره، ودخلت العساكر المدينة المنورة في أواخر ذي القعدة، ولما جاءت الأخبار إلى مصر صنعوا زينة ثلاثة أيام وأكثروا من الشنك وضرب المدافع وأرسلوا بشائر لجميع ملوك الروم واستولت العساكر السائرة من طريق البحر على جدة في أوائل المحرم سنة ثمان وعشرين، ثم طلعوا إلى مكة واستولوا عليها أيضًا، وكل ذلك بلا قتال بتدبير الشريف سرًّا، ولما وصلت العساكر إلى جدة فرَّ من كان بمكة من عساكر الوهابية وأمرائهم، وكان سعود أمير الوهابية حج في سنة سبع وعشرين ثم ارتحل إلى الطائف، ثم إلى الدرعية ولم يعلم باستيلاء العساكر السلطانية على المدينة إلا بعد ذلك، ثم لما وصل إلى الدرعية علم باستيلائهم على مكة ثم الطائف ولما وصلت العساكر إلى جدة ومكة فر من الطائف أميرها عثمان المضايفي، وفر من كان بها من عساكر الوهابية وأمرائهم.

وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين أرسل محمد علي باشا مبشرين إلى دار السلطنة ومعهم المفاتيح وكتبوا إليهم أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف فدخلوا بها دار السلطنة بموكب حافل ووضعوا المفاتيح على صفائح الذهب والفضة وأمامهم البخورات في مجامر الذهب والفضة وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك زينة وشنكًا ومدافع وخلعوا على من جاء بالمفاتيح وزادوا في رتبة محمد علي باشا، وبعثوا له أطواخًا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده، وفي شهر شوال سنة ثمان وعشرين توجه محمد علي باشا بنفسه إلى الحجاز وقبل توجهه من مصر قبض الشريف غالب على عثمان المضايفي الذي كان أميرًا على الطائف للوهابية، وكان من أهل أكبر أعوانهم وأمرائهم فزنجره بالحديد وبعثه إلى مصر فوصل في ذي القعدة بعد توجه الباشا إلى الحجاز، ثم أرسل إلى دار السلطنة فقتلوه ووصل محمد علي باشا في ذي القعدة إلى مكة وقبض على الشريف غالب بن مساعد وبعثه إلى دار السلطنة وأقام لشرافة مكة ابن أخيه الشريف يحيي بن سرور بن مساعد، وفي شهر محرم من سنة 29 بعثوا إلى السلطنة مبارك بن مضيان الذي كان أميرًا على المدينة المنورة للوهابية، فطافوا به في القسطنطينية في موكب ليراه الناس ثم قتلوه وعلقوا رأسه على باب السرايا، وفعل مثل ذلك بعثمان المضايفي، وأما الشريف غالب فأرسلوه إلى سلانيك وبقي بها مكرمًا إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين ودفن بها وبني عليه قبة تزار، ومدة إمارته على مكة ست وعشرون سنة. ثم إن محمد علي باشا وجه كثيرًا من العساكر إلى تربة وبيشة وبلاد غامد وزهران وبلاد عسير لقتال طوائف الوهابية وقطع دابرهم، ثم سار بنفسه في أثرهم في شعبان سنة تسع وعشرين ووصل إلى تلك الديار وقتل كثيرًا منهم وأسر كثيرًا وخرب ديارهم، وفي شهر جمادى الأولى سنة تسع وعشرين هلك سعود أمير الوهابية وقام بالمُلْك بعده ولده عبد الله ورجع محمد علي باشا من تلك الديار التي وصلها من ديار الوهابية عند إقبال الحج، وحج ومكث بمكة إلى رجب سنة ثلاثين ثم توجه إلى مصر وترك بمكة حسن باشا، ووصل الباشا إلى مصر في منتصف رجب سنة ثلاثين ومائتين وألف، فتكون إقامته بالحجاز سنة وسبعة أشهر، وما رجع إلى مصر إلا بعد أن مهد أمور الحجاز، وأباد طوائف الوهابية التي كانت منتشرة في جميع قبائل الحجاز والشرق وبقي منهم بقية بالدرعية أميرهم عبد الله بن سعود فجهز محمد علي باشا لقتاله جيشًا وأرسله تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، وكان عبد الله بن سعود قبل ذلك يكاتب مع طوسون باشا بن محمد علي باشا حين كان بالمدينة وعقد معه صلحًا على بقاء إمارته ودخوله تحت طاعة محمد علي باشا، فلم يرض محمد علي باشا بهذا الصلح فجهز ولده إبراهيم باشا وجعل أمر العساكر إليه، وكان ابتداء ذلك في أواخر سنة إحدى وثلاثين فوصل إلى الدرعية سنة اثنتين وثلاثين ونازل بجيوشه عبد الله بن سعود في ذي القعدة سنة 33، ولما جاءت الأخبار إلى مصر ضربوا لذلك ألف مدفع وفعلوا شنكًا وزينوا مصر وقراها سبعة أيام، وكان محمد علي باشا له اهتمام كبير في قتال الوهابية وأنفق في ذلك خزائن من الأموال حتى أخبر بعض من كان يباشر خدمته أنهم دفعوا في دفعة من الدفعات لأجرة تحميل بعض الذخائر خمسة وأربعين ألف ريال، هذا في مرة من المرات كان ذلك الحمل من الينبع إلى المدينة عن أجرة كل بعير ست ريالات دفع نصفها أمير ينبع والنصف الآخر أمير المدينة، وعند وصول الحمل من المدينة إلى الدرعية كان أجر تلك الحملة فقط مائة وأربعين ألف ريال، وقبض إبراهيم باشا على عبد الله بن سعود وبعث به وكثير من أمرائهم إلى مصر فوصل في سابع عشر محرم سنة أربع وثلاثين وصنعوا له موكبًا حافلاً يراه الناس وأركبوه على هجين وازدحم الناس للتفرج عليه، ولما دخل على محمد علي باشا قام له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه، وقال له الباشا ما هذه المطاولة؟ فقال الحرب سجال قال، وكيف رأيت ابني إبراهيم باشا قال: ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتى كان ما قدره الله تعالى فقال له الباشا أنا أترجى فيك عند مولانا السلطان، فقال المقدّر يكون ثم ألبسه خلعة وانصرف إلى بيت إسماعيل باشا ببولاق، وكان بصحبة عبد الله بن سعود صندوق صغير مصفح فقال الباشا له. ما هذا؟ فقال هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان، فأمر الباشا بفتحه فوجدوا فيه ثلاثة مصاحف من خزائن الملوك لم ير الراؤون أحسن منها ومعها ثلاثمائة حبة من اللؤلؤ الكبار وحبة زمرد كبيرة وشريط من الذهب، فقال له الباشا الذي أخذتموه من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا، فقال: هذا الذي وجدته عند أبي فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه بل أخذه العرب وأهل المدينة وأغاوات الحرم وشريف مكة، فقال الباشا صحيح وجدنا عند الشريف أشياء من ذلك. ثم أرسلوا عبد الله بن سعود إلى دار السلطنة ورجع إبراهيم باشا من الحجاز إلى مصر في شهر المحرم من سنة 35 بعد أن أخرب الدرعية خرابًا كليًا حتى تركوا سكناها. ولما وصل عبد الله بن سعود إلى دار السلطنة في شهر ربيع الأول طافوا به البلد ليراه الناس ثم قتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه أيضًا في نواح متفرقة. هذا حاصل ما كان في قصة الوهابي بغاية الاختصار ولو بسط الكلام في كل قضية لطال، وكانت فتنهم من المصائب التي أصيب بها أهل الإسلام فإنهم سفكوا كثيرًا من الدماء، وانتهبوا كثيرًا من الأموال، وعمَّ ضررهم، وتطاير شررهم فلا حول ولا قوة إلا بالله، وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة كقوله صلى الله عليه وسلم :"يخرج أناس من قبل الشرق يقرأون القرءان لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق" وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري وبعضها في غيره لا حاجة لنا إلى الإطالة بنقل تلك الروايات ولا لذكر من خرجها لأنها صحيحة مشهورة ففي قوله "سيماهم التحليق" تصريح بهذه الطائفة لأنهم كانوا يأمرون كل من اتبعهم أن يحلق رأسه، ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول: لا حاجة إلى التأليف في الرد على الوهابية بل يكفي في الرد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم "سيماهم التحليق" فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم. واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة على ابن الوهاب لما أكرهوها على اتباعهم ففعلت، أمرها ابن عبد الوهاب أن تحلق رأسها فقالت له حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته لأن شعر رأس المرأة زينتها وشعر لحية الرجل زينته فلم يجد لها جوابًا. ومما كان منهم أنهم يمنعون الناس من طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم مع أن أحاديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كثيرة ومتواترة، وأكثر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وكانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذكرها كثير من أوصافه الكاملة ويقولون إن ذلك شرك ويمنعون من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على المنابر بعد الأذان، حتى أن رجلاً صالحًا كان أعمى، وكان مؤذنًا وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع منهم، فأتوا به إلى ابن عبد الوهاب فأمر به أن يقتل فقتل، ولو تتبعت لك ما كانوا يفعلونه من أمثال ذلك لملأت الدفاتر والأوراق، وفي هذا القدر كفاية والله سبحانه وتعالى أعلم.