مزاج صاحب السعادة (قصة)

من معرفة المصادر

مزاج صاحب السعادة

قصة قصيرة بقلم : محمد همام فكري

نعم مزاج صاحب السعادة ، فهذا هو أهم ما يشغلني لاعتبارات سترد في حينها، حتى يعرف الذين يحسدونني على قربي الشديد من سعادته أنني في موقف لا أحسد عليه, فعلى الرغم مما يبدو عليّ من اتساق جميل في إطار طلعته البهية فإنني في الحقيقة غير ذلك البتة. فأقصى ما يمكن أن يعانيه المرء هو أن يشعر أنه جزء أصيل في إطار محكم من الذهب الخالص , له بريق يأخذ العيون ، لكنه واقع في الأسر الجميل ، أسر مزاج صاحب السعادة ، وهو رجل ذو شأن عظيم, ساقني قدري لكي أعمل تحت أمرته , وأن أكون قريباً جداً من يديه , وأن يغمرني الله من نعمه , وهذا ما جعل الناس يتبادلون النظرات والايماءات غير البريئة كلما اجتمعنا . هذا الفرق الشاسع بين رجل في مكانته, ورجل في مكانتي , مما جعلانا نتقاطع في أشياء كثيرة,هو أطول مني, وأرفع مني , وأكثر هنداماً , وخطواته تسبقني في الطريق , ويتحدث ويصمت ويغضب ويضحك كيفما يريد , بينما أنا غير ذلك إلى حد بعيد . لذلك تجمعنا المتناقضات لنقيم علاقة معقدة جداً , فعلى الرغم من أريحيته الطيبة التي تتجلى في بعض الأحيان أقول في بعض الأحيان ، إلاّ أنه يدخل عليّ كل يوم دخول الواثق من امره , فأميل تلقائياً برأسي أمام نظراته الثاقبة والثابتة التي يستقبلني بها في ثقة القادرعلى كسري، فعلى الرغم من انتفاضي من مكاني، واعتدالي في وقفتي وترتيبي السريع لملابسي ، والتزامي الواضح بموضع قدمي، عندما آخذ مكانًا متميزاً مع باقي الإطار الذهبي من رهط الرجال الذين سرعان ما يصطفون بجانبي تتداخل أكتافنا , يحتمي كل منا بالآخر وهي حركة تلقائية تجمعنا على الخير والشر ، فإذا بدر مني شيء يستحق أو لا يستحق لوم صاحب السعادة ، يواسيني بعدها رفاق الإطار الجميل بنظرات تقترب من التآزر العميق الذي لا يخلو من التحلي بنعمة الصبر ، وكل منهم يشعر أنه اقتسم معي جزءاً من ألمي العميق ، فأغمض لهم عيني مقدراً ذلك , فإذا أبديت موقفًا متحفظاً أو أبدو كذلك، تحول فجأة مزاج صاحب السعادة إلى الهدوء الطيب الذي يغلب طبعه أحياناً , أقول أحياناً , وأشعر وكأنه يحاول ان يمسك بزمام الإطار الذهبي , خشية أن تنفرط حبات العقد ، وهي مهارة لا يقدر عليها إلاّ ذوو الشأن العظيم من أمثال سيدي صاحب السعادة . أما رمانة الميزان في هذا الإطار الذهبي فهو عم عاشور رجل تجاوز الستين أو السبعين ولكنه يبدو في الثمانين , وله قدر من الفهم لا يتوافق مع صاحب السعادة إلى الدرجة التي تكفي رؤيته فقط إلى حدوث كارثة في المكان , لأنه يتميز بحماقات الفقراء , لذلك كنا نباعد بينه وبين صاحب السعادة حتى لا يتحول المكان إلى دراما متصاعدة , ولكي نحيل دون ذلك كنا نقدم أعذاراً واهية إذا سأل عنه سيدي , وكنت لا أفهم لماذا يبقي عليه صاحب السعادة .. أحياناً أشعر أن وجوده الكارثي يؤدي إلى تفجيرالأجواء من حولنا فيلبد كل منا في جلده...وهو أمر قد يكون مقصوداً من صاحب السعادة . أما فيما يتعلق بي فإن مشكلتي الرئيسة أن أكون في موقع الفعل، فأجدني في حيرة أقوم بالفعل أو لا أقوم . فإذا جاء صوت الهاتف مثلاً - في حضرته - أجدني في موقف «إقدام .. إحجام» أي أقدّم خطوة وأرجع أخرى في دائرة منبعجة قطرها خطوتين , لأنني لا أستطيع أن أجيب ولا أملك أن أمتنع ، فإذا أجبت، فقد يكون ذلك على غير ما يهوى صاحب السعادة، وإذا تثاقلت لبعض الوقت ونظراتي تحاول التقاط الخيط من عيني صاحب السعادة ، يحجم سعادته أن يمنحني طرف الخيط ، فيسقط في يدي حتى يخرج صوته أمراً . - ألم تسمع هذا الرنين يا ..... ؟ فألتقط بيد مرتعشة سماعة الهاتف، وبلسان يلوك الكلمات , وأنا لا أعرف ماذا أقول ، وإذا تباطأت يأخذ صاحب السعادة سماعة الهاتف من يدي المرتعشة بيد قادرة ، فأنصرف مسرعاً لأحاذي بظهري جدار الحائط , بعد أن أكون قد تسلمت نظرة تأنيب ليس لها مثيل، وهكذا أجدني دائماً في موقف لا أُحسد عليه ، كما هو أيضاً موقف كل الذين ينتظمون معي في الإطار الذهبي الذي يحيط بصاحب السعادة ومن خلفنا عاشور يتوارى في عمد . أما ما سأخبركم به أيها الناس الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني , فقد حدث وأتمنى ألاّ يكون ذلك مدعاة لسخرية عابثة من أحدكم أو ليكون ، فلا مانع من أن تفعلوا ، فأنا أيضاً أتندربأفعالكم أحياناً , فقد جاءني صوت سعادته في مقتبل ليلة من الليالي المتشابهة, في المكان نفسه الذي ألفني , أقول جاءني صوت سيدي عبر الهاتف يأمرني أن آتي إليه لأمرهام ، فأجبت بسرعة الذي يعرف معنى أن يمرالوقت من بين يدي صاحب السعادة ، وكان صوته قاطعاً , وقال كلمات متسارعة ومتداخلة , لم أستبن منها غير العشاء , معي , أدعوك , ربما كما فهمت فيما أنها دعوة للعشاء أو رفقة عشاء , أي أجلس معه على طاولة العشاء , فليس من اللائق أن يجلس سيدي في مكان عام بمفرده , بسرعة حاولت أن أستوعب الكلام ولم أفهم جيدًا ولكني قلت من باب الاحتياط حاضر سعادتك . لأنني يجب أن أقول حاضر وهل لي أن أقول غير حاضر , حاضر هذه جميلة وأحيانا تكون مصيبة المهم قلت له حاضر والحقيقة أنني كنت منتهياً لتويّ من تناول عشاء عائلي لا يحفل بأكثر مما يرضى به الفقراء ، لكنني لا أجرؤ أن أقول لسعادته أنني أكلت ، كيف أرد طلباً لسعادته فيه امتلاء معدتي، هذا شرف عظيم حسدني عليه الرفاق ومعهم عم عاشور عندما قلت لهم في ثقة المقرب من صاحب السعادة  : ـ سأذهب لأتناول العشاء مع صاحب السعادة ، دعاني .. بل وأصر على قدومي ربما يريدني في أمر خاص .. أراكم لاحقاً . قلتها على عجل كما يفعل المهمين من الناس , ولم أنتظر لأتأمل الدهشة في عيونهم ، تركتهم فاغري الأفواه يتأملون المسافة التي تفصل بيننا ، وكدت أطير حتى لا أتأخر على سيدي , وأخذت أركض خلف جسدي المترهل، ونظاراتي تتقافز فوق أنفي اللزجة , وعندما مُثلت بين يديه الكريمتين ، كان قلبي قد سبقني إليه ، وصدري يصعد ويهبط .. وسعادته يبتسم ابتسامته الجميلة .. وعند المائدة انحنيت لسعادته في احترام واضح واستبقت كل شييء لأقول: . طاب مساؤك يا سيدي ... ـ اجلس قالها في ود جميل ، لكنني شعرت أنه يرجىْ لي مفاجأة أخشى من هولها ، فقال لي وهو يضحك ضحكة العظماء وهي ضحكة محددة لها إطار محسوبة , ليست كضحكتنا الفوضوية , وأحيانا المزعجة , التي تخرج من البطن وتتصاعد في الأجواء , وقال لي في هدوء : ـ لم أجد غيرك يشاركني العشاء ، فكرت كثيراً ولم أجد بداً من أن تكون أنت أنيسي في هذه الليلة وهي فرصة للتحدث إليك . - هذا شرف كبير لي ياسيدي ..ياه ه ... هذا شرف كبير حقاً .. - لا أريد المزايدة , لا تزيد في الحديث , هذا شغل, انك تمتلك زوائد في الكلام لا تفيد .. - حاضر. - لقد سافر فلان - يقصد الرجل البدين - وفلان لديه ظروف - يقصد الرجل الثقيل - ولم أجد فلان - يقصد الرجل القصير السمج المتعالي - وهكذا لم أجد سواك ، تعال اجلس هنا أمامي .. فجلست على طرف المقعد، وتركت ساعديي يتدليان إلى جواري , وعلى الرغم من أن الكرسي فخماً ومعداً لأن يكون مريحاً إلا أن جلستي لم تجعلني أتمتع بهذه الخاصية . - ماذا تريد أن تأكل ؟. - ما تأمر به سعادتك . - بدون سعادتك الناس إلى جوارنا وحولنا, ولا أريدك تبدو مهزوزاً أنت محسوب علي الآن .. - حاضر - ماذا تريد أن تأكل ؟ - أنا لا أعرف أصناف الأكل هنا , مسميات الأطعمة معقدة جداً , مش عارف إيه بمش عارف إيه , أنا معرفش إلا كلمة سلاط يعني سلطة وأحيانا يقولون جرين سلاط وأحيانا ... يقولون المقبلات .. أنا تكفيني المقبلات يا سيدي . - باختصار ماذا تأكل ؟ - ما تأمر به سيدي , أنا لا أجيد اختيار الطعام لكنني أجيد تناوله , نحن نأكل اي شيء يا سيدي . - أحسنت . سأطلب لك ما أحب أن أتناوله أنا في العادة .. - شرف لي سيدي , نحن الفقراْ نهفو لنأكل من طعام الأغنياء , وسبحان الله أظن الأغنياء يحبون طعام الفقراء شيْ غريب حقاً . قلت ذلك محاولاً اضفاء جو من التبسط , وتداخلت بعض الشيْء في المقعد , وبدأت أقاوم اهتزاز رُكبتي تحت الطاولة متظاهراً بالثقة في النفس، وتذكرت أشياء تعينني على رباطة الجأش , الأجواء من حولنا تستدعي ذلك ، ومرّ بعض الوقت وضوء الشموع والدخان الأبيض يتصاعد من الشموع المكتنظة, وصوت الموسيقى يسري في صدري ورئتي, والمضيفات تمرقن في رشاقة بالغة من بين المقاعد المتراصة في حركة دؤوبة وسعادته يسرح ببصره بعيداً من خلال النافذة المطلة على البحر من هذا الأفق الليلي , ويرتد ببصره فجأة ليراقب صمت الدهشة في عيني , فينظر إليّ فأنظر إلى انعكاسات الضوء المنسكب على الصحون المنبسطة أمامي والملاعق اللامعة تارة وإلى حركة المضيفات الرشيقات وهن يحملن صحون المقبلات وكاسات العصائر، وبدون قصد أمسكت بيدي صحناً أتأمله، حتى أبدو وكأنني أقرأ فيه شيئاً، كنت أحاول أن أخفي حقيقتي في الصحن ويعلم الله أنني لم أكن أفكر في شيء , حاولت أن أقول له نكتة فتذكرت أنني قلتها له من قبل , وأخذت أتذكر نكتة مناسبة ولكني لم أفلح في استدعائها تبخرت ذاكرتي الهذلية في هذه الأجواء الصارمة , فاجأني صوته الفخم قائلاً. ـ يا ... يا عباس .. وأنا اسمي ليس عباساً ولكني أدركت أنه يقصدني , هو هكذا يتعمد ان يناديني باسم اخر وكلها اسماء لا تمت لاسمي بصلة , برعي , عوني , مرسي , حنفي , نفس الوزن , لكنه هذه المرة فاجأني بعباس . فهممت منتفضاً من مكاني قائلاً بصوت حازم : ـ نعم سعادتك نعم ، وفي حركة تلقائية بلهاء, لم أستكملها كاد أن ينزلق الصحن من أمامي عندما ازحته بيدي بتلقائية الذي يتخلص من الأشياء الصغيرة ليلبي أمراً جللا .. نعم سعادتك . فأخذ يضحك الضحكة نفسها التي تخرج من الحلق وتحبسها الشفاة , يريد من داخله أن يتبسط معي ولكنه لا يريد : ـ أنا هنا أجلس أمامك ، نحن هنا في المطعم .. ــ عفوك سيدي ، تخيلت أنني هناك في الشغل ، وسعادتك هنا في مكتبك ، أقصد أنني هنا وسعادتك هناك عفوك , أنا ... . ـ ماذا تقول ... أنا أنت هنا هناك .. لماذا تبدو هكذا مهتزاً . ـ أبداً سيدي لا أعرف ، أنا هكذا . ـ ألم تعرض نفسك على طبيب نفساني . ـ طبيب نفساني لماذا سيدي وماذا أقول له , ومع ذلك سأفعل ، لو أردت. - ألا تشعر أنك تفتقد إلى الثقة في نفسك , وتبدو طول الوقت مرتبكاً مشوشاً مهزوزاً .... - لا أشعر بذلك سيدي , كل الناس هكذا في حضرة الكبار , ومع ذلك سأفكر .. حاضر . - إذن علاجك عليّ ، على نفقتي , شرط أن تصارحني , ما هو شعورك وأنت تتعامل معي . - أبداً أنا طبيعي مثل كل الناس .. ولكن فرط احترامي لسعادتك هو الذي يجعلني أبدو كذلك ... - لا أنت لا تقول الحقيقة وهذا يعني أنك مريض بالفعل وهذا الجدل المتأصل فيك , هو الذي يجعلني أجزم بأنك مريض, أنا لا أقول لك هذا إلا لإنني استشعرأنك قابل للشفاء من جلسة أو جلستين , أنت تهمني ومحسوب علي , بدليل أنني لم أقل لعاشور أن يعرض نفسه على الطبيب لأن عاشور حالة متأخرة جداً. فرحت أنني أفضل من عاشور وقلت له : - آسف ياسيدي لا أقصد , ولكني مستعد للذهاب إلى الطبيب النفساني .. إذا كان هذا رأيك ياسيدي أنا في خدمتك .. ولكنني أخشى أن أدخل في دوائر مغلقة تؤدي للجنون, يقولون إن المرض النفسي هو المرحلة الأولى من الجنون ولكني في خدمتك يا سيدي . - دعك من خدمتنا الآن .. قلت لك هذا أسلوب لا أحبه , سيدي سعادتك أوامرك , حضرتك, كلها زوائد قميئة , حركات معروفة أشبه بالقناع الذي تخفي به خطاياك , أنا أريد أن أعرف لماذا تهتز وترتبك وتتلعثم , وتفعل أشياء ليست مطلوبة منك بحجة إنك اعتقدت أن ذلك سوف يرضيني .. لم أجد إجابة وسكت , أسلم للمرء أن يصمت , وأنا أعرف سيدي جيداً , أكسبه بالسكوت , والثمن ابتلاع بعض عبارات التوبيخ . ذهب ظني إلى أن سيدي يختلق موقفاً للتندر به , يحكيه لفلان وفلان وفلان، وعلي أن أبادله حبْك الموقف بردود فعل طريفة , ولكنه بدا جاداً بالفعل فهو دائماً يقف في الحالة التي يريدها هو ، فنظرت ثانية إلى الصحون المتراصة أمامي وقد امتلأت بالخيرات وتظاهرت بالتفكير وأنا أقول له : - لكني أشعر أنني طبيعي .. أنا طبيعي واقسمت . - وأنا أقول لك أنت غير طبيعي بدليل أنك تشعر أنك طبيعي . - ربما لأنني أتعامل مع سعادتك بحذر الحصيف المتأني فأبدو متردداً بعض الشيْء فقط وهذا بالفعل طبيعي , فأنا أعمل لديكم , وأنت ولي النعم , بارك الله في خيرك يا سيدي .. - لا ... أكمل أنك بدأت تصل إلى الحقيقة أو تقترب منها , تكلم بصراحة ولن أحاسبك على أي كلام تقوله المهم الصراحة , وطبعا أنت تعرف أنني أعرفك من عينيك حين تكذب , هل نسيت يوم قلت لي .. ويوم ذهبت لفلان لتقول له أنني .. وحين سألتك أنكرت .. . - نعم ... ياسيدي هذا كان من حسن التصرف - حسن التصرف أن تكذب - الصراحة أنت الذي يجعلني هكذا . قلتها كمن ألقى بنفسه في البحر وهو لا يعرف كيف يسبح فابتسم ... وانتشى .. ونظراته لا تخلو من الدهشة .. وأكملت ـ لأنني في كل الحالات لا أعرف ما هو الذي أفعله ، وما هو الذي أقوله , بل ومتأكد أنني سأفعل ما لا يرضيك سيدي ، وزدت متفلسفاً : - القضية ، أقصد ، الموضوع أنني أخشى أن أقع في خطأ صغير فأقع في خطأ أفدح ، وأنت ياسيدي .... آسف ، سعادتك ، تنتظر دائما أن يقع ذلك ، بل وتعرف كيف تدفعني للوقوف في المنطقة الخطأ .. آسف حضرتك هذه هي الحقيقة وأنت وعدتني... - لا عليك ، أكمل بصراحة فهذا وقت مفتوح لك ، تكلم . قالها وعيناه كانتا تزداد اتساعاً .. فلجمت نفسي في تراجع فطن ، فقد شعرت أنني اقتربت من الخطوط الصفراء بل وتجاوزتها , فصمت ونظرت في عبي .. بعد أن فقدت الصحون بما فيها تأثيرها علي وفي أدب شديد عدت لأقول: - سيدي يبدو أنني لم أحسن التعبير. - بالعكس أنت تتقدم أكمل ولا تبرر لي ما تقول ... قالها ، حادة ....كالسيف . - أنا خادمكم، ومصيبتي أنني كلما حاولت أن أفعل ما يرضيك آتي بالنقيض ... أحضر مبكراً تقول ما الذي أتى بك مبكراً , أتي متأخراً تلومني على التأخير , أتحدث , تقول اصمت , اسكت , تقول ... قلتها بسرعة متتابعة .. وسكتُ - أكمل . - هذا ما عندي .. - بل لديك أكثر .. أنت لا تعي مقدار الفرصة ،... قل ما شئت ولن أحاسبك على شيء .. لا تخف تحدث وأنت تأكل ، سأستمع إليك وسأقدر صراحتك ، أنت الآن آمن ، فلتنس تماماً أنني أنا أنا، وأنك أنت أنت ، تحدث إليّ حديث النفس ، وسأغفر لك كل شيء ، أي شيء ، هذه لحظات أريدها، لن أحاسبك على أي شيء ، بالعكس . سأحاسبك إذا لم تتحدث بصراحة وأنت تعرف أنني أعرف من تعابير وجهك متي تبدو صادقاً ومتى تبدو غير ذلك ، وإياك أن تخفي ما أقرؤه في عينيك . - سأفعل ، يا سيدي ، فالذي كنت لا أستطيع أن أقوله هو بصراحة أن مشكلتي الوحيدة في الحياة هو أنت يا صاحب السعادة .. نعم أنت ياصاحب السعادة ، لأنني عندما أقف بين يديك الكريمتين أهتز من داخلي ، عندما يسري في جسدي تيار كهربائي مضاد للدورة الدموية ، خاصة عندما يتعكر مزاجكم الكريم ، فتنبعث زوبعة عاصفة من التوتر ، تخيم على المكان كله فأجدني لا أعرف ماذا أفعل وكيف ، لأن عقلي يتوقف تماماً وأبدو كلوح الخشب الزان ، ولهذا أجد نفسي يا سيدي دائماً في وضع الخطأ ، وأنا لست كذلك ، هكذا يقول لي أصدقائي ويعتقدون أنني طبيعي جداً . هم مخطئون بالطبع .. نعم مخطئون ربما يحتاجون بدورهم للعرض على الطبيب ...... قلتها وأنا أحاول أن أبسط الأمر على سعادته . لكنه الصمت ثانية .. سيدي يجيد امتشاق سيف الصمت ، استمع إلي وهو يظهر شيئاً من الرضى ، لكنني لا أعرف إلى أي حد سيتقبل سيدي أبعاد اللعبة التي أرادها ، وبابتسامة الذي يتقبل شيئاً لايمكن قبوله ، نظر إلى عيني قاصداً ، وسرعان ما حول الموضوع إلى المائدة العامرة التي هي دائماً عامرة وهو يقول في جد : ـ لتأكل العشاء الآن . هذه هي الوجبة الرئيسة .. ونستكمل في مرة قادمة . ـ مرة قادمة ياسيدي ، لكنك قلت لي إنها لحظة تأتي لمرة واحدة ولننس الموضوع . ـ لنأكل الآن ... كل .. وأخذت آكل على معدة ممتلئة مرارة وأنا لا أعرف ماذا يدور برأس سيدي ، لكنه وبلطفه الشديد أخذ يختار بين الحين والآخر قطعة من لحم ليعطيها لي بسخاء الذي يسعده أن يرى كيف يأكِل الفقراء , هو يعرف أنني أحب أكل اللحوم , وأنا بدوري لا أرد يديه الكريمتين وأخذت آكل بشراهة المنتقم من ذاته, ولكنه أكل بغير طعم ، حتى شعرت أن بطني تتسع وصدري يضيق ، وبدأت أنفاسي تلاحق بعضها حتى شعرت أنني تحولت إلى برميل من الطعام ، امتلأت تماماً حتى جحظت عيناي ، وأخذت أتصبب عرقاً..... بينما كانت يديه الكريمتان تمتدان إلي بقطعة من لحم شهي القطعة تلو الأخرى . - - فلنجرب هذه يا بطل .. كل ... فأمسكت بالقطعة وأنا غير قادر على التنفس فكيف لي أن أدخلها إلى فمي، وقبل أن تلتقي عيني بعينيه ، كان قد هم واقفاً في كبرياء ليتركني مستغرقاً في عجزي ...