مرآة الحبر، بورخيس
مرآة الحبر، للكاتب الأرجنتيني خورخه لويز بورخيس.
يعرف التاريخ أن أشد حكام السودان قسوةً كان يعقوب العليل، الذي سلم بلاده لظلم جباة الضرائب المصريين، ومات في إحدى غرف القصر في اليوم الرابع عشر من شهر برمخات سنة 1842. يلمَح البعض إلى أن كاتب الرقي عبدالرحمان المصمودي أجهز عليه بخَنْجر أو دس له السم، بيد أن الموت الطبيعي هو ما يبدو محتملا – إذا كان الرجلُ يعرف بالعليل. ومع ذلك فقد تحدث النقيب ريتشارد فرانسيس بورتون إلى كاتب الرقى المذكور سنة 1853 وحكى بأنه روى له ما أنقله هنا: "حقيقة عانيت الأسر في قصر يعقوب اللعيل، بسبب المؤامرة التي دبرها أخي إبراهيم، والنجدة الخادعة الباطلة التي قدمها زعماء زنوج كردفان، الذين وشوا به. مات أخي ضرباً بالسيف، على جلد دم العدالة، بيد أني ارتميت عند قدمي العليل البغيضتين وقلت له بأني كاتب رقي وأنه لو أبقاني على قيد الحياة لأريته أشكالاً وأطيافاً أشد روعة من تلك التي تصدر عن فانوس الخيال السحري. طالبني ببرهان في الحين فالتمست قلماً من قصب، ومقصاً، وورقة كبيرة من ورق البندقية، وقَرْنَ مداد، ومجمرة وبذور كزبرة، وأوقية من لبان الجاوي. قطعت الورقة إلى ستة سيور مستطيلة، فكتبت طلاسم وأدعيةً في السيور الخمسة الأولى، وكتبت في السير الباقي هذه الكلمات التي وردت في القرآن الكريم: "وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد". بعد ذلك رسمتُ مربعا سحرياً في يمين يعقوب وطلبتُ منه أن يجوِّفها ثم صببت دائرة من الحبر في وسط المربع. سألته عما إذا كان يبصر رسمه في الدائرة بوضوح فأجاب مُنعماً. قلت له بألاَّ يرفع عينيه. أشعلت لبان الجاوي والكزبر ثم أحرقت الأدعية في المجمرة. طلبت منه أن يسمي الهيأة التي يريد رؤيتها ففكر ثم قال لي بأنه يريد رؤية فرس متوحش من أجمل ما يرعى في المراعي المتاخمة للصحراء. نظر فرأى الحقل الأخضر الساجي ثم أبصر فرسا يدنو، خفيف الحركة مثل فهد، وعلى غُرته نجمةٌ بيضاء. طلب مني رؤية قطيع أفراسٍ في كمال الفرس الأول فرأى في الأفق سحابة غبار مديدةً ثم القطيع. أدركت إذ ذاك أن حياتي أصبحت في مأمن. "بمجرد ما بزغ ضوء الفجر، دخل جنديان إلى زنزانتي وقاداني إلى غرفة العليل، حيث كان البخور والمجمرة والحبر في انتظاري. هكذا شرع يطالبني وأخذت أعرضُ عليه جميع أطياف العالم. لقد كان في يد هذا الرجل الفاني، المبغض إليَّ، كل ما رآه الرجال الأموات وكل ما يراه الأحياء: المدن، والمناخات، والممالك التي تنقسم الأرض إليها، والكنوز المخبأة في المركز، والسفن التي تعبر البحر، وعدة الحرب والموسيقى والتشريح، والنساءُ المليحات، والنجوم الثابتة والكواكب، والألوان التي يستعملها الكفار في رسم لوحاتهم الدنيئة، والمعادنُ والنباتات التي تنطوي على أسرار وفضائل، وملائكةُ الفضة الذين يقتاتون من مدح الله وتسبيحه، وتوزيع الجوائز في المدارس، وتماثيل الطيور والملوك الموجودة في قلب الأهرامات، والظلُّ الذي يصدر عن الثور الذي يحمل الأرض وظلُّ السمكة التي أسفل الثور، وصحارى الإله الرحيم. رأى أموراً يعجز عنها الوصف، مثل الشوارع التي تضاء بالغاز ومثل الحوت الذي يلقى حتفه إذا سمع صراخ الإنسان. ذات مرة أمرني بأن أريه المدينة التي تدعى أوروبا فأريته الرئيسي من شوارعها وأظن أنه في خضم نهر الرجال ذاك، وكلهم تزين بالسواد وبعضهم حمل منظاراً، أبصر وجه المقنَّع للمرة الأولى. "منذ ذلك الحين، تسربت تلك الصورة إلى المرئيات، تارةً في زي سوداني، وتارة في بدلة موحدة، وفي جميع الأحوال كانت تتدلى على الوجه قطعة ثوب. لم يكن يتخلفُ، ولم نخمن من يكون. ومع ذلك فأطياف مرآة الحبر، التي كانت موقوتةً وثابتة في البداية، غدت الآن أكثر تعقيداً. لم تكن تتأخر في تنفيذ أوامري وكان المستبد يتتبعها بوضوح. من المؤكد أننا كلانا تعودنا على الإرهاق الذي يعقب ذلك، وكانت الخاصية الفظيعة للمشاهد منبعاً آخر للتعب فلم تكن غير عقوبات، وحبال، وعمليات بتر، ملذات للجلاد والقاسي. "هكذا نصل إلى فجر اليوم الرابع عشر من شهر برمخات. لقد رُسمت دائرة الحبر في الكف، وألقي لبان الحاوي في المجمرة، وأحرقت الأدعية. كنا بمفردنا. وأمرني العليل بأن أعرض عليه عقاباً عادلاً متعذر الاستئناف، لأن قلبه كان، في ذلك اليوم، يتشهى رؤية موت. أريته الجنود بطبولهم، وجلد عجل ممطوطاً، والأشخاص الذين يسعدهم النظر، والجلاد بيده سيف العدالة. تعجب عند رؤيته وقال لي: "إنه أبوقير منفذُ حكم الإعدام في أخيك، وخاتم مصيرك عندما يُوهب لي علم استدعاء هذه الهيآت دون معونتك". طلب مني استقدام المحكوم عليه، وعندما أحضروه بهت، إذ كان عين الرجل المتعذر الشرح ذي الثوب الأبيض. أمرني أن يُنزع قناعه قبل قتله فألقيت نفسي عند قدميه وقلت: "آه يا ملك الزمان وجماع العصر وجوهره. ليس هذا الوجه مثل بقية الوجوه، فلا نعلم اسمه ولا اسم أبويه ولا اسم المدينة التي هي وطنه، لذلك لا أجرؤ على مسه حتى لا أرتكب جريرة يجب أن أحسب حسابها".ضحك العليل ثم أقسم، بحق السيف والقرآن، أنه سيحتمل تبعات الإثم، إن كان هنالك من إثم. عندئذ أمرت بأن ينُضى المتهم من ملابسه ويربط إلى جلدالعجل الممطوط وينزع قناعه. نفذت هذه الأوامر فتمكنت عينا يعقوب المرتعبتان من رؤية ذلك الوجه أخيرا – فكان وجهه هو. تلبسه الخوف والجنون، فأمسكت يمينه المرتعشة بيميني التي كانت ثابتة، وأمرته أن يواصل التحديق إلى طقس موته. كان قد أصابه مس من المرآة، فلم يحاول حتى رفع عينيه أو بعثرة المداد. وعندما انهال السيفُ في المشهد على رأس الجاني، انتحب بصوت لم يُثِر شفقتي ثم تدحرج على الأرض، ميتا. "فسبحان الحي الذي لا يموت، من بيده مفاتيح الغفران اللامحدود والعقاب اللامتناهي".
من مجموعة " الدنو من المعتصم " لبورخيس " ترجمة ابراهيم الخطيب منشورات نجمة 1992م طبعة اولى
جدير بالذكر أن " مرآة الحبر " هي ايضا عنوان لمجموعة قصص لبورخيس ترجمها محمد عيد ابراهيم.وصدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر 1996م
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .