مبسوط السرخسي - الجزء الرابع و العشرون
المبسوط السرخسي ج 24
[ 1 ] (الجزء الرابع والعشرون من) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الامة السرخسي (تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان
[ 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم * (كتاب الاشربة) * (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم ان الخمر حرام بالكتاب والسنة * أما الكتاب فقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر إلى أن قال فهل أنتم منتهون وسبب نزول هذه الآية سؤال عمر رضي الله عنه على ما روى انه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر مهلكه للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول اللهم بين لنا بيانا شافيا فنزل قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قيل فيهما إثم كبير ومنافع للناس فامتنع منها بعض الناس وقال بعضهم نصيب من منفاعها وندع المأثم فقال عمر رضى الله عنه اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فامتنع بعضهم وقالوا لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم بل نصيب منها في غير وقت الصلاة فقال عمر اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى انما الخمر والميسر الآية فقال عمر رضى الله عنه انتهينا ربنا والخمر هو النئ من ماء العنب المشتد بعد ما غلى وقذف بالزيد اتفق العلماء رحمهم الله على هذا ودل عليه قوله تعالى انى أرانى أعصر خمرا أي عنبا يصير خمرا بعد العصر والميسر القمار والانصاب ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم والازلام القداح واحدها زلم كقولك قلم وأقلام وهذا شئ كانوا يتعادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب على أحدهما أمرنى ربى والآخر نهانى ربى فجعلهما في واعاء ثم أخرج أحدهما فان خرج الامر وجب عليه مباشرة ذلك الامر وان خرج النهى حرم عليه مباشرته وبين الله تعالى ان كل ذلك رجس والرجس ما هو محرم العين وانه من عمل الشيطان يعنى أن من لا ينتهى عنه متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن وفى قوله عز وجل فاجتنبوه أمر بالاجتناب منه وهو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله عزوجل انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
[ 3 ] والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكان هذا اشارة إلى الاثم الذى بينه الله تعالى في الآية الاولى بقوله عزوجل واثمهما أكبر من نفعهما وفى قوله فهل انتم منتهون أبلغ ما يكون من الامر بالاجتناب عنه وقال تعالى قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم من أسماء الخمر قال القائل شربت الاثم حتى ضل عقلي * كذاك الاثم يذهب بالعقول وقيل هذا اشارة إلى قوله واثمهما أكبر من نفعهما * والسنة ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لعن الله من الخمر عشرا الحديث وذلك دليل نهاية التحريم وقال عليه الصلاة والسلام شارب الخمر كعابد الوثن وقال عليه الصلاة والسلام الخمر أم الخبائث وقال عليه الصلاة والسلام إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السموات والارض فان شربها لم تقبل صلاته أربيعن ليلة وان داوم عليها فهو كعابد الوثن وكان جعفر الطيار رحمه الله يتحرز عن هذا في الجاهلية والاسلام يقول العاقل يتكلف ليزيد في عقله فانا لا أكتسب شيأ يزيل عقلي والامة أجمعت على تحريهما وكفى بالاجماع حجة هذه حرمة قوية باتة حتى يكفر مستحلها ويفسق شاربها ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها وهى نجسة نجاسة غليظة لا يعفى عن اكثر من قدر الدرهم منها ولا يجوز بيعها بين المسليمن لقوله عليه الصلاة والسلام ان الذى حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها وتبض المعتزلة يفصلون بين القليل والكثير منها في حكم الحرمة ويقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العدواة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وذلك الكثير دون القليل وعند أهل السنة والجماعة القليل منها والكثير في الحرمة وجميع ما ذكرنا من الاحكام سواء لقوله عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر لعينها قليها وكثيرها والمسكر من كل شراب ثم في تناول القليل منها معنى العداوة والصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل ما من طعام وشراب الا ولذته في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء الا الخمر فان اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها ولهذا يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيأ فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون محرما كالكثير (ألا ترى) أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا وان المشى على قصد المعصية معصيه وأما السكر فهو النئ من ماء التمر المشتد وهو حرام عندنا وقال شريك بن عبد الله هو حلال لقوله تعالى ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا
[ 4 ] حسنا والرزق الحسن شرعا ما هو حلال وحكم المعطوف والمعطوف عليه سواء ولان هذه الاشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل (ألا ترى) أن في الآيات بيان حكم الخمر وما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة فانها كانت تحمل من الشام وانما كان شرابهم من التمر وفى ذلك ورد الحديث نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يؤمئذ منها شئ فلو كان تحريم سائر الاشربة مرادا بالآية لكان الاولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لان حاجتهم إلى معرفة ذلك * وحجتنا في ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الخمر من هاتين الشجرتين الكرم والنخل ولم يرد به بيان الاسم لغة لانه ما بعث مبينا لذلك وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتى من ماء العنب وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه وان كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفله الواضع والضرورة الداعيه إلى ذلك وذلك غير متوهم هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة ولما سئل ابن مسعود رضى الله عنه عن شرب المسكر لاجل الصفر قال ان الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم فاما قوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فقد قيل كان هذا قبل نزول آية التحريم وقيل في الآية اضمار وهو مذكور على سبيل التوبيخ أي تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا فان طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ثم اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام عندنا وقال حماد بن أبى سليمان رحمه الله إذا طبخ حتى نضج حل شربه وكان بشر المريسى يقول إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا إذا صبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد وهو قول أبى حنيفة رحمه الله وعن محمد رحمه الله انه كره الثلث أيضا وعنه انه توقف فيه وعنه انه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا وهو قول مالك والشافعي وطريق من توسع ففى هذه الاشربة ما ذكرنا ان قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر وما عرفنا هذه الحرمة الا بالنص فبقى سائر الاشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله ومن أثبت التحريم في الكل قال نص التحريم بصفة الخمرية والخمر ما خامر العقل وكل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل فيكون النص متناولا له ولكنا نقول الاسم للتى من ماء العنب حقيقة ولسائر الاشربة مجازا
[ 5 ] ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمي لمعنى مخامرة العقل فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا (ألا ترى) أن الفرس الذى يكون أحد شقيه أبيض والآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذى يجمتع فيه لون السواد والبياض لا يسمى بهذا الاسم وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا نجم أي ظهر ثم لا يدل ذلك على ان كل ما يظهر يسمى نجما وامامنا فيما ذكرناه من اباحة شرب المثلث عمر رضى الله عنه فقد روى عن جابر بن الحصين الاسدي رحمه الله ان عمار بن ياسر رضى الله عنه أتاه بكتاب عمر رضى الله عنه يأمره ان يتخذ الشرب المثلث لاستمراء الطعام وكان عمار بن ياسر رضى الله عنه يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت عمر رضى الله عنه يشربها ويسقيها الناس وقد كان عمر رضى الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقى الناس ما تناوله نص التحريم بوجه ولا يجوز أن يقال انما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه وهذا لانه انما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام وانما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو وقد دل على هذه الجملة الآثار التى بدأ محمد رحمه الله بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال سقاني ابن عمر رضى الله عنه شربة ما كدت أهتدى إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فاخبرته بذلك فقال ما زدناك على عجوة وزبيب وابن عمر رضى الله عنه كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضى الله عنهم فلا يظن به انه كان يسقى غيره ما لا يشربه ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم وقد ذكرنا ان ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله وانما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فان ذلك لا حيل وفى قوله ما زدناك على عجوة وزبيب دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب والتمر وان كان مشتدا وانه لا بأس بشرب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين وان كان حلوا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراب الخليطين وتأويل ذلك عندنا ان ذلك كان في زمان الجدب كره للاغنياء الجمع بين النعمتين وفى الحديث زيادة فانه قال وعن القران بين النعمتين وعن الجمع بين نعمتين والدليل على انه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث عائشة رضى الله عنها قالت كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا ولما جاز اتخاذ الشرب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر والفانيد
[ 6 ] وعن ابن عمر رضى الله عنه انه سئل عن المسكر فقال الخمر ليس لها كنية وفيه دليل تحريم السكر فان مراده من هذا الجواب ان السكر في الحرمة كالخمر وان كان اسمه غير اسم الخمر فكأنه أشار إلى قوله عليه الصلاة والسلام الخمر من هاتين الشجرتين قال وسئلل عن الفضيخ قال مراده بذلك الفضوج والفضيخ الشراب المتخذ من التمر أي يشدخ ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد وفيه دليل عن أن التى من شراب التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فان السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا وفى قوله بذلك الفضوح بيان انه يفضح شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم قال وسئل عن النبيذ والزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال الخمر اخبتها وفى رواية اجتنبها أي هي في الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روى عن أبى يوسف قال لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فان قوله الخمر اجتنبها اشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا انقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل ان يتزبب فكما ان لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ومراد ابن عمر رضى الله عنه تشبيهه التئ منه بالخمر في حكم الحرمة وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن قال انههم عن نبيذ السكر والمراد النئ من ماء التمر المشتد وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالامر النهى عنه وسماه نبيذ الحمرة في لونه وعن حصين بن عبد الرحمن قال كان لابي عبيدة كرم بزبالة كان يبيعه عنبا وإذا أدرك العصير باعه عصيرا وفى هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير والعنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب وأخذ أبو حنيفة رحمه الله بظاهره فقال لا بأس ببيع العصير والعنب ممن يتخذ خمرا وهو قول ابراهيم رحمه الله لانه لا فساد في قصد البائع فان قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكستاب الربح وانما المحرم قصد المشترى اتخاذ الخمر منه وهو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في غير المأتى وكبيع الغلام ممن يصنع به ما لا يحل وعن الضحاك قال قال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وفيه دليل انه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لان
[ 7 ] الحدود ثبتت شرعا جزاء على أفعال معلومة فتعديتها لى غير تلك الافعال يكون بالراى ولا مدخل للرأى في الحدود لا في اثبات أصلها ولا في تعدية أحكامها عن مواضعها وعن ابراهيم رحمه الله قال لا بأس إذا للمسلم خمر ان يجعلها خلا وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا تخليل الخمر جائز خلافا لما قاله الشافعي رحمه الله وهذا لان الآثار جاءت باباحة خل الخمر على ما قال عليه الصلاة والسلام خير خلكم خل خمركم وعن علي رضى الله عنه أنه كان يصطبغ الخبز بخل خمر ويأكله وإذا كان بالاتفاق يحل تناول خل الخمر فالتخليل بالعلاج يكون اصلاحا للجوهر الفاسد وذلك من الحكمة فلا يكون موجبا للحرمة ويأتى بيان المسألة في موضعه وعن محمد بن الزبير رضى الله عنه قال استشار الناس عمر رضى اللله عنه في شراب مرقق فقال رجل من نصارى انا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر رضى الله عنه إئتني بشئ منه قال فأتاه بشئ منه قال ما أشبه هذا بطلاء الابل كيف تصنعونه قال نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه وينقي ثلثه فصب عليه عمر رضى الله عنها ماء وشرب منه ثم ناوله عبادة بن الصامت رضى الله عنه وهو عن يمينه فقال عبادة ما أرى النار يحل شيأ فقال عمر يا أحمق أليس يكون خمرا ثم يصير خلا فنأكله كله وفى هذا دليل اباحة شرب المثلث وان كان مشتدا فان عمر رضى الله عنه استشارهم في المشتد دون الحلو وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وكان عمر رضى الله عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين وفيه دليل انه لا بأس باحضار بعض أهل الكتاب مجلس الشورى فان النصراني الذى قال ما قاله قد كان حضر مجلس عمر رضى الله عنه للشورى ولم ينكر عليه وفيه دليل ان خبر النصراني لا بأس بأن يعتمد عليه في المعاملات إذا وقع في قلب السامع انه صادق فيه وقد استوصفه عمر رضى الله عنه فوصفه له واعتمد خبره حتى شرب منه وفيه دليل أن دلالة الاذن من حيث العرف كالتصريح بالاذن وانه لا بأس بتناول طعامهم وشرابهم فان عمر رضى الله عنه لم يستأذنه في الشرب منه وانما كان أمره أن يأتي به لينظروا إليه ثم جوز الشرب منه بناء على الظاهر ومن يستقصى في هذا الباب يقول تأويله انه أخذه منه جزية لبيت المال ثم شرب منه وفيه دليل أن المثلث ان كان غليظا لا بأس بان يرقق بالماء ثم يشرب منه كما فعله عمر رضى الله عنه والاصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى العباس في حجة الوادع فاتاه بشراب فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ثم دعا بماء فصبه
[ 8 ] عليه ثم شربه وقال عليه الصلاة والسلام إذا رابكم شئ من هذه الاشربة فاكسروا متونها بالماء وعن عمر رضى الله أنه أتى بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ثم شرب وقال ان لنبيذ زبيب الطائف غراما وفى مناولته عبادة بن الصامت وكان عن يمينه دليل على أن من يكون من الجانب الايمن فهو أحق بالتقديم والاصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعس من لبن فشرب بعضه وكان عن يمينه اعرابي وعن يساره أبو بكر رضى الله عنه فقال للاعرابي أنت على يمينى وهاذ أبو بكر فقال الاعرابي ما أنا بالذى أوثر غيرى على سؤرك فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الا يمنون الا يمنون ومنه قول القائل ثلاثة يمنة تدور * الكاس والطست والبخور ثم أشكل على عبادة رضى الله عنه فقال ما أرى النار تحل شيأ يعنى أن المشتد من هذا الشرب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذا النار لا تحل الحرام فقال له عمر رضى الله عنه يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فنأكله يعني أن صفة الخمرية تزول بالتخليل فكذلك صفة الخمرية بالطبخ حتى يذهب منه الثلثان تزول ومعنى هذا الكلام ان النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون محللا ولكنه منهر للدم والمحرم هو المدم المسفوح بكون محللا لانعدام ما لاجله كان محرما وبهذا أخذنا وقلنا يجوز التخليل لانه اتلاف لصفة الخمرية واتلاف صفة الخمرية لا يكون محرما وعن ابن عباس رضي الله عنه قال كل نبيذ يفسد عند ابانه فهو نبيذ ولا بأس به وكل نبيذ يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وانما أراد به النئ من ماء الزبيب أو التمر انه ما دام حلوا ولم يصر معتقا فهو بحيث يفسد عند ابانه فلا بأس بشربه وإذا صار معتقا بان غلا واشتد وقذف بالزبد فهو يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله في الابتداء في المطبوخ من ماء الزبيب والتمر انه إذا صار معتقا لا يحل شربه وان كان بحيث يفسد إذا ترك عشرة فلا بأس بشربه ثم رجع عن ذلك فقال قول ابن عباس رضى الله عنه في النئ خاصة فهو النبيذ حقيقة مشتق من النبذ وهو الطرح أي ينبذ الزبيب والتمر الماء ليستخرج حلاوته فاما إذا طبخ فالطبخ يغيره عن حاله فلا يتناوله اسم النبيذ حقيقة وان كان قد يسمى به مجازا وعن ابن عباس رضى الله عنه قال حرمت
[ 9 ] الخمرة لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب وفيه دليل ان المحرم هو الاخير الذى يكون منه السكر كالمؤلم واسم لما يتولد الالم منه وان الخمر حرام لعينها والقليل والكثير في الحكم سواء وفي المثلث والمطبوخ من الزبيب والتمر يفصل بين القليل والكثير فلا بأس بشرب القليل منه وانما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الاخير قال ابن عباس رضى الله عنه الكأس المسكرة هي الحرام قال أبو يوسف رحمه الله وأما مثل ذلك دم في ثوب فلا بأس بالصلاة فيه ان كان قليلا فإذا كثر لم تحل الصلاة فيه ومثله رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا باس بذلك فإذا اسرف في النفقة لم يسلح له ذلك ولا ينبغى وكذلك النبيذ لا بأس بان يشربه على طعام ولا خير في المسكر منه لانه اسراف فإذا جاء السكر فليدع الشرب (الا ترى) أن اللبن وما أشبهه من الشراب حلال ولا ينبغى له أن كان يسكر أن يستكثر منه (ألا ترى) ان البنج لا بأس بان يتداوى به الانسان فإذا كان أن يذهب عقله منه فلا ينبغى أن يفعل ذلك وفي هذا كله بيان أن المحرم هو السكر الا أن في الخمر القليل يدعو إلى الكثير كما قررنا فيحرم شرب القليل منها لانها داعية إلى الكثير وذلك في المثلث لا يوجد فانه غليظ لا يدعو قليله إلى كثيره بل بالقيل يستمرئ طعامه ويتقوى على الطاعة والكثير يصدع رأسه (ألا ترى) أن الذى يعتاودن شرب المسكر لا يرغبون في المثلث أصلا ولا يقال القدح الاخير مسكر بما تقدمه لان المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فان تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوى بدنه حلال وما يتخمه وهو الاكل فوق الشبع حرام ثم المحرم منه المتخم وهو ما زاد على الشبع وان كان هذا لا يكون متخما الا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب وعن ابن مسعود رضى الله عنه ان انسانا أتاه وفى بطنه صفراء فقال وصف لى السكر فقال عبد الله ان الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وبه نأخذ فنقول كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي حتى روى عن محد أن رجلا اتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال ان كان في بطنك صفراء فعليك بماء السكر وان كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو انفع لك ففى هذا اشارة إلى انه لا تتحقق الضرورة في الاصابة من الحرام فان يوجود من جنسه ما يكون حلالا والمقصود يحصل به وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله لم يجعل في رجس شفاء ولم يرد به نفى الشفاء أصلا فقد يشاهد ذلك ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع عليه الصلاة والسلام ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون
[ 10 ] أقوى منه وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الاضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فامسكوه ما بدا لكم وتزودوا فانما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في كل ظرف فان الظرف لا يحل شيأ ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا وفى رواية ابن مسعود رضى الله عنه قال وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنه فقد أذن في هذه الاشياء الثلاثة بعد ما كان نهى عنها وبالاذن ينسخ حكم النهى وقيل المراد النهى عن زيارة قبول المشركين فانهم ما منعوا عن زيارة قبول المسلمين قط (ألا ترى) أنه عليه الصلاة والسلام قال قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكانت قد ماتت مشركة وروى انه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه وقيل انما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الاطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية انهم كانوا يندبون الموتى عن قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ولا تقولوا هجرا أي لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو فذلك موضع ينبغى للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينسخ الا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ومن العلماء من يقول الاذن للرجال دون النساء والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روى أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية لبعض الانصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك أتيت المقابر قالت لا فقال عليه الصلاة والسلام لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة أي كنت معها في النار والاصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا فقد روى أن عائشة رضى الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن رضى الله عنه وأنشدت عند القبر قول القائل وكنا كندمانى جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كانى ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا والنهى عن امساك لحوم الاضاحي فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله عليه الصلاة والسلام
[ 11 ] فامسكوا ما بدا لكم وتزودا فان القربة تنادى باراقة الدم والتدبير في اللحم بعد ذلك من الاكل والامساك والاطعام إلى صاحبه الا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الامساك على وجه النظر والشفقة ليتسع موسرهم على معسرهم ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في الامساك فأما النهى عن الشرب في الاواني فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في الاواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الروايا فلما تم انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب ففى الاواني وبين لهم أن المحرم شرب المسكر وان الظرف لا يحل شيأ ولا يحرمه وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر وهو الكأس الاخير وعن ابراهيم رحمه الله قال أتى عمر رضى الله عنه باعرابى سكران معه اداوة من نبيذ مثلث فاراد عمر رضى الله عنه أن يجعل له مخرجا فما أعياه الا ذهاب عقله فامر به فحبس حتى صحا ثم ضربه الحد ودعا باداوته وبها نبيذ فذاقه فقال أوه هذا فعل به هذا الفعل فصب منها في اناء ثم صب عليه الماء فشرب وسقى أصحابه وقال إذا رابكم شرابكم فاكسروه بالماء وفيه دليل انه ينبغى للامام أن يحتال الاسقاط الحد بشبهة يظهرها كما قال عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات وقد كانوا يفعلوان ذلك في الحدود كلها وفى حديث الشرب على الخصوص لضعف في سببه على ما روى عن على رضى الله عنه قال ما من أحذ أقيم عليه حدا فيموت فآخذ في نفسي في ذلك شيأ الا حد الخمر فانه يثبت بآرائنا فلهذا طلب عمر رضى الله عنه مخرجا له وفيه دليل على أن السكران يحبس حتى يصحو ثم يقام عليه الحد لان المقصود هو الزجر وذلك لا يتم بالاقامة عليه في حال سكره فانه لاختلاط عقله ربما يتوهم أن الضارب يمازحه بما يضربه والمقصود ايصال الالم إليه ولا يتم ذلك ما لم يصح تأخير اقامة الحد بعذر جائز كالمرأة إذا لزمها حد الزنا بالرجم وهى حبلى لا يقام عليها حتى تضع وفيه دليل انه لا بأس بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا وان كان مشتدا فان عمر رضى الله عنه قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء وسقى أصحابه ثم لم يبين أن الاعرابي أذن له في الشرب من اداوته ولكن الظاهر انه شرب ذلك باذنه حتى روي انه قال أتضربني فيما شربته فقال عمر رضى الله عنه انما حددتك لسكرك فهو دليل انه إذا سكر من النبيذ الذى يجوز شرب القليل منه يلزمه الحد وعن حماد رضى الله عنه قال دخلت على ابراهيم رحمه الله وهو يتغدى فدعا بنبيذ فشرب وسقاني فرأى في الكراهة فحدثني عن علقمه رحمه الله انه كان يدخل على عبد الله
[ 12 ] ابن مسعود رضى الله عنه فيتغدي عنده ويشرب عنده النبيذ يعنى نبيذ الحر وقد روي أن ابن مسعود رضى الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبى عبيدة انه أراهم الجر الاخضر الذى كان ينبذ فيه لابن مسعود رضى الله عنه وعن نعيم بن حماد رضى الله عنه قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان رحمه الله وكان يحدثنا بحرمة النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش رحمه الله فقال أسكت يا صبي حدثنا الاعمش عن ابراهيم عن علقمة رحمه الله انه شرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا وكذلك علي بن أبى طالب رضى الله عنه نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه وقد روى عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال سقاني على رضى الله عنه نبيذا فلما رأى ما بى من التغير بعث معى قنبرا يهدينى وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى أن عليا رضى الله عنه قال أن القوم ليجتمعون على الشراب وهو لهم حلال فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعنى إذا بلغوا حد السكر وكذلك عمر رضى الله عنه كان يشرب المثلث ويأمر باتخاذه للناس حتى روى عن داود بن أبى هند قال قلت لسعيد بن المسيب الطلاء الذى يأمر عمر رضى الله عنه باتخاذه للناس ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه والمراد انه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضى الله عنه قال انا ننحر جزورا للمسلمين والعنق منها لآل عمر ثم يشرب عليه من هذا النبيذ فيقطعه في بطوننا ولكثرة ما روى من الآثار في اباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة رحمه الله فيما عد من خصال مذهب أهل السنة وان لا يحرم نبيذ الجر وعن بعض السلف قال لان أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلى من أن أحرم نبيذ الجر وانما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة واساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وذلك لا يحل فاما مع الاباحة فقد لا يعجب المرء الاصابة من بعض المباحات للاحتياط أو لانه لا يوافق طبعه وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال شهدت تحريمه كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ذك ونسيتم فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة وعن ابراهيم رحمه الله قال انما كره التمر والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم والتمر وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين فاما اليوم فلا بأس به وهذا منه بيان تأويل النهى عن شراب الخليطين وانه لا بأس به اليوم وعن ابراهيم قال قول الناس ما أسكر كثيره
[ 13 ] فقليله حرام خطأ منهم انما أراد السكر حرام فأخطؤا وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا وعن على بن الحسين رضى الله عنه أن رسول الله صلى إليه عليه وسلم غزا غزوة تبوك فمر بقوم يزفتون فقال ما هؤلاء فقيل أصابوا من شراب لهم فنهاهم أن يشربوا في الدباء والحنتم والمزفت فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة فأذن لهم أن يشربوا منها ونهاهم عن المسكر وفيه دليل ان الرخصة كانت بعد النهى وانه عليه الصلاة والسلام نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا يبلغوا حد السكر والزبيب المعتق إذا لم يطبخ فلا بأس بشربه ما لم يغل فإذا غلا واشتد فلا خير فيه والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر وقد بينا وانما بقى الكلام فيه في فصل واحد وهو ان عند أبى حنيفة العصير وان اشتد فلا باس بشربه ما لم يغل ويقذف بالزبد فإذا غلا وقذف بالزبد فهو خمر حينئذ وقال أبو يوسف ومحمد رحمها الله إذا اشتد فهو خمر لان صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه ان حرمة الخمر لما في شربها من ايقاع العداوة والصد عن ذكر الله تعالى وذلك باعتبار اللذة المطربة والقوة المسكرة فيها فأما بالغليان والقذف بالزبد فيرق ويصفو ولا تأثير لذلك في احداث السكر فبعد ما صار مشتدا فهو خمر سواء غلا وقدف بالزبد أو لم يغل يوضحه انه قد يحتال بالقاء شئ عليه ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ولا قذف بالزبد أصلا ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا فعرفنا ان المعتبر فيه الشدة ولابي حنيفة رحمه الله ان المسكر صفه العصير وهو أصل لما يعصر من العنب وما بقى أثر من آثار الاصل فالحكم له (ألا ترى) أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان ثم حكم الصحة والحد لا يمكن اثباته بالرأى ولكن طريق معرفته النص والنص انما ورد بتحريم الخمر والخمر مغاير للعصير ولا تتم المغايرة مع بقاء شئ من آثار العصير وقد كان الحل ثابتا فيه وما عرف ثبوته بيقين لا يزال الا بيقين مثله وذلك بعد الغليان والقذف بالزبد والاصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنا والسرقة لا يجب الا بعد كمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم والحدود تندرئ بالشبهات فلهذا استقصي أبو حنيفة رحمه الله وقال لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشده الا بعد الغليان والقذف بالزبد فاما نبيذ التمر ونبيذ الزبيب فان لم يطبخ حتى غلا واشتد وقذف
[ 14 ] بالزبد فهو حرام لما روينا من الآثار فيه وبعد الطبخ يحل شربه وان اشتد واتفقت الروايات في التمر ان المعتبر فيه أدنى الطبخ وهو أن ينضج وفى الزبيب المعتق كذلك وهو أن يكسر بشئ ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر وأما إذا يقع في الماء فقد روى عن أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله انه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه كما في العصير والوجه فيه ما حكى عن السلف رحمهم الله ان ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء فحكم ما يعصر منه حكم العصير وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في الانتهاء فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بادنى الطبخ فكذلك في الانتهاء وما يسيل من العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه فكذلك في الانتهاء فاما في ظاهر المذهب فالزبيب والتمر سواء وإذا طبخ أدنى طبخه فانه يحل شرب القليل منه وان اشتد لان العصير الذى كان في العنب قد ذهب حين زبب والزبيب عين آخر سوى العنب (ألا ترى) ان غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة وعلى هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ثم التى من نبيذ التمر والزبيب وان كان لا يحل شربه فهو ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول ابى حنفية رحمه الله وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز بيعه ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر وإذا أصاب الثوب منه أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه وكذلك المنصف وهو الذى ذهب بالطبخ نصفه إذا غلا واشتد لا يحل شربه ولكن يجوز بيعه عند أبى حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه ما لم يسكر وتجوز الصلاه فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا وفي النادق وهو ما طبخ أدنى طبخه وكان دون النصف فاظهر الروايتين عن أبى حنيفة رحمه الله انه بمنزلة المنصف في حكم البيع والحد وعنه في رواية أخرى انه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه وأما حكم النجاسة فيه فلانه مختلف بين العلماء رحمهم الله في حرمته ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا وباعتبار هذين المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه وأما في حكم الحد فلان العلماء رحمهم الله لما اختلفوا في حرمته فالاختلاف المعتبر يورث شبهة والحد مما يندرئ بالشبهات وأما حكم البيع فهما يقولان ان عينه محرمة التناول فلا يجوز بيعه كالخمر وهذا لان البيع باعتبار صفة المالية والتقوم باعتبار كونه منتفعا به شرعا ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب وإذا كان محرم الشرب شرعا كان فاسدا لماليته والتقوم شرعا فلا يجوز بيعه كالخمر ولان صاحب الشرع صلى الله عليه
[ 15 ] وسلم سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها وهذا لان البيع يكون تسليطا للمشترى على الشرب عادة فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا وهذا المعنى موجود في هذه الاشربة وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا شراب مختلف في اباحة شربه بين العلماء رحمهم الله فيجوز بيعه كالمثلث وهذا لانه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع فان الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه وكذلك بيع السرقين جائز وان كان تناوله حراما والسرقين محرم العين ومع ذلك كان بيعه جائزا فكذلك المنصف وما أشبهه وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه وما عرف بالنص لا يلحق به الا ما يكون في معناه من كل وجه وهذه الاشربة ليس في معنى الخمر من وجه بدليل حكم الحد وحكم النجاسة فجاز بيعها باعتبار الاصل فاما المثلث على قول أبى حنفية وأبى يوسف رحمهما الله فلا بأس بشربه والمسكر منه حرام وهو رواية عن محمد رحمه الله أيضا وعنه انه كره شربه وعنه انه حرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله احتجوا في ذلك بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مسكر حرام وفي رواية قال ما أسكر كثيره فقليله حرام وفى روايه ما أسكرت الجرعة منه فالجرعة منه حرام وفى رواية فمل ء الكف منه حرام ولان المثلث بعد ما اشتد خمر لان الخمر انما يسمي بهذ الاسم لا لكونه ماء (ألا ترى) أن العصير الحلو لا يسمى خمرا وانما تسميته بالخمر لمعني مخامرته العقل وذلك موجود في سائر الاشربة المسكرة وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال كل مسكر خمر ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على اثبات هذا الاسم له فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام به وهو أفصح العرب أولى يوضحه ان الكثير من هذه الاشربة مساو للكثير من الخمر في حكم الحرمة ووجوب الحد فكذلك القليل وبهذا تبين أن القليل في الحرمة كالكثير لان شرب القلثل منه لو كان مباحا لما وجب الحد وان سكر منه لان السكر انما حصل بشرب الحلال والحرام جيمعا فباعتبار جانب الحلال يمنع وجود الحد عليه وإذا اجتمع الموجب للحد والمسقط له ترجح المسقط على الموجب وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضى الله عنهم وأقوى ما يستدل به قول الرسول عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر لعينها والمسكر من كل شراب وبهذا تبين أن اسم الخمر لا يتناول سائر الاشربة حقيقة لان عطف الشئ على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم
[ 16 ] وقد بينا انه كان يمسى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة وما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كل مسكر خمر لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين رحمه الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في جملتها كل مسكر خمر ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للاحكام دون الاسامي ونحن نقول ان المسكر وهو القدح الاخير مشبه للخمر في انه يجب الحد بشربه وعن أبى مسعود الانصاري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى يوم النحر عام حجة الوداع فاتى بنبيذ من السقاية فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ورده قال العباس رضى الله عنه أحرام هذا يا رسول الله فاخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بماء وصب عليه ثم شرب وقال انه إذا استلبث عليكم شئ من الاشربة فاكسروا متونها بالماء فقد كان مشتدا ولهذا قطب وجهه ورده ثم لما خاف أن يظن الناس انه حرام أخذه وشربه فدل أن المشتد من الثلث لا بأس بشربه ولا يقال انما قطب وجهه لحموضته لان شرب السقاية انما كان يتخذ لشرب الحاج ولا يسقى الخل العطشان فعرفنا انه قطب وجهه للشدة والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى وأنهار من خمر لذة للشاربين فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعمل بالاصابة منه تلك اللذة فيتم الترغيب فيه وما هو مباح في الدنيا يصير كالا نموذج لما هو موعود في دار الآخرة (ألا ترى) انه لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في الدنيا وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج والبلور وغير ذلك لهذا المعنى ولهذا الماء وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك وتقرر هذا الحرف من وجه آخر فنقول ان الشرع حرم الخمر ولا شك ان هذه الحرمة لمعنى الابتلاء وانما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذه ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس وتعاطيها للامر وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق والاصابة فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة فتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا وغيره الا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام لان قليله يدعو إلى كثيره فأما هذه الاشربة ففيها من الغلظ والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة والمسكر منها حرام وقد بينا أن
[ 17 ] المسكر هو الكاس الاخير وانه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه وهو كمن شرب أقداحا من ماء ثم شرب قدحا من الخمر فالمحرم عليه الخمر وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الاقداح فهذا مثله فان كان يسكر بشرب الكثير منه فذاك لا يدل على انه يحرم تناول القليل منه كالبنج ولبن الفرس وأما الحديث فنحن نقول به وكل مسكر عندنا حرام وذلك القدح الاخير وروى عن أبى يوسف انه قال في تأويله إذا كان يشرب على قصد السكر فان القليل والكثير على هذا القصد حرام فاما إذا گكان يشرب لاستمراء الطعام فلا فهو نظير المشى على قصد الزنا يكون حراما وعلى قصد الطاعه يكون طاعة وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ما أسكر كثيره فقليله حرام هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدح الاخير الذى هو مسكر قليله وكثيره حرام ثم هذا عند التحقيق دليلنا فبهذا يتبين ان ما هو الكثير منه يكون مسكرا فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير وانما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح الاخير فاما إذا جعلنا الكل محرما فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر الحديث ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه ومهما أمكن الجمع بين الآثار فذلك أولى من الاخذ ببعضها والاعراض عن بعضها ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا أو أحدهما واحده إذا طبخ لان البسر من نوع التمر فانه يابس العصب وقد بينا ان المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال والمسكر منه حرام وكذلك التمر والزبيب أو البسر والزبيب وهو شراب الخليطين وقد بينا الكلام فيه وبعد ما طبخ معتقه وغير معتقه سواء في اباحة الشرب يعنى المشتد منه وغير المشتد منه والمحرم المسكر منه وذلك بغير المشتد لا يحصل ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الاكل فوق الشبع ولا بأس بهذه الانبذة كلها من العسل والذرة والحنطة والشعير والزبيب والتمر وكل شئ من ذلك أو غيره من النبيذ عتق أو لم يعتق خلط بعضها ببعض أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر والزبيب فقد بيناه وأما في سائر الانبذة ففى ظاهر الجواب لا بأس بالشرب منه مطبوخا كان أو غير مطبوخ وفى النوادر روى هشام عن محمد رحمهما الله ان شرب النئ منه بعد ما اشتد لا يحل لقوله عليه الصلاة والسلام الخمر من خمسة من النخل والكرم والحنطه والشعير والذرة وليس المراد به أنه خمر حقيقة وانما المراد التشبيه بالخمر في انه لا يحل شربه وقد ثبت بالدليل ان النئ من نقيع الزبيب والتمر إذا كان مشتدا لا يحل شربه فكذلك من سائر الاشربة لان
[ 18 ] معنى الشدة يجمع الكل وجه ظاهر الرواية ان العسل والذرة والشعير حلان التناول متغيرا كان أو غير متغير فكذلك ما يتخذ منها من الاشربة لان هذا في معنى الطعام والتغير في الطعام لا يؤثر في الحرمة فكذلك نفس الشدة لا توجب الحرمة فقد يوجد ذلك في بعض الادوية كالبنج وفي بعض الاشربة كاللبن والحديث فيه شاذ والشاذ فيما تعم به البلوي لا يكون مقبولا وهو محمول على التحريم الذى كان قبل الرخصة لتحقق المبالغة في الزجر ولا حد على شارب ما يتخذ من العسل والحنطه والشعير والذرة وكذلك ما يتخذ من الفانيد والتوت والكمثرى وغير ذلك أسكر أو لم يسكر لان النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ثم الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعاء الطبع إلى هذه الاشربة لا يكون كدعاء الطبع إلى المتخذ من الزبيب والعنب والتمر فلا يشرع فيه الزجر أيضا وان اشتد عصير العنب وغلا وقذف بالزبد ثم طبخ بعد ذلك لم يحل بالطبخ لان الطبخ لاقى عينا حراما فلا يفيد الحل فيه كطبخ لحم الخنزير وهذا لانه ليس للنار تأثيره في الحل ولا في تغيير طبع الجوهر بخلاف العصير الحلوا إذا طبخ فالطبخ هناك حصل في عين حلال وللطبخ تأثير في منع ثبوت صفة الحرمة فيه كما بينا أن الخمر هي التى من ماء العنب إذا اشتد فإذا طبخ العصير ثم اشتد ما كان نيأ فلا يكون خمرا فاما الاول فحين اشتد كان نيأ وصار خمرا ثم الطبخ في الخمر لا يوجب تبديل عينه ولهذا يحد من شرب منه قليلا كان أو كثيرا ولا بأس بنبيذ الفضيخ يعنى إذا صب عليه الماء ثم طبخ وترك حتى اشتد فهذا لا بأس به لان الطبخ لاقى عينا حلالا ولانه ان رق فرقته باعترا ما فيه من اجزاء الماء والماء حلال الشرب وحده والفضيخ كذلك فكذلك بعد الجمع بينهما قلت فهل يرخص في شئ من المطبوخ على النصف أو أقل من ذلك وهو حلو قال لا أرخص في شئ من ذلك الا ما قد ذهب ثلثاه وبقى ثلثه قيل هذا غلط والصحيح هو غير حلو فالحلو حلال وان كان نيأ كيف لا يحل بعد الطبخ وقيل المراد به انه طبخ وهو حلو لم يتغير حين ذهب منه النصف أو أقل ثم ترك حتى اشتد فهذا هو المنصف والقاذف وقد بينا الكلام فيهما في حكم الشراء والبيع وإذا وقعت قطرة من خمر أو مسكر أو نقيع زبيب قد اشتد في قدح من ماء أمرت باراقته وكرهت شربه والتوضوء به لانه تنجس بما وقع فيه والتوضؤ بالماء النجس لا يجوز وإذا شربه فلابد أن يكون شاربا للقطرة الواقعة فيه وذلك حرام ولانه اجتمع فيه المعني الموجب للحل
[ 19 ] والموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل فان شرب رجل ماء فيه خمر فان كان الماء غالبا بحيث لا يوجد فيه طعم الخمر ولا ريحه ولا لونه لم يحد لان المغلوب مستهلك بالغالب والغالب ماء نجس ولان الحد للزجر والطباع السليمة لا تدعو إلى شرب مثله على قصد التلهى فاما إذا كان الخمر غالبا حتى كان يوجد فيه طعمه وريحه وتبين لونه حددته لان الحكم للغالب والغالب هو الخمر ولان الطباع تميل إلى شرب مثله للتلهي وقد يؤثر المرء الممزوج على الصرف وقد يشرب بنفسه صرفا ويمزج لجلسائه وهو وان مزجه بالماء لم يخرج من أن يكون خمرا اسما وحكما ومقصودا ولو لم يجد فيه ريحها ووجد طعمها حد لان الرغبة في شربها لطعمها لا لريحها (ألا ترى) انه تكلف لاذهاب ريحها ولزيادة القوة في طبعها ولو ملا فاه خمرا ثم مجه ولم يدخل جوفه منها شئ فلا حد عليه لانه ذاق الخمر وما شرب (ألا ترى) انه لا يحنث في اليمين المعقودة على الشرب بهذه وان الصائم لو فعله مع ذكره للصوم لا يفسد صومه وكذلك الطبع لا يميل إلى هذا الفعل فلا يشرع فيه الزجر بخلاف شرب القليل فانه من جنس الشرب والطبع مائل إلى شرب الخمر قلت والتمر المطبوخ يمرس فيه العنب فيغليان جميعا والعنب غير مطبوخ قال أكره ذلك وأنهى عنه ولا أحد من شرب منه الا أن يسكر والكلام في فصلين أحدهما في طبخ العنب قبل أن يعصر فان الحسن روى عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه بمنزلة الزبيب والتمر يكفى أدنى الطبخ فيه ولكن الحسن ابن أبى مالك رحمه الله أنكر هذه الرواية وقال سمعت أبا يوسف عن أبى حنيفة يقول انه لا يحل ما لم يذهب ثلثا ما فيه بالطبخ وهو الاصح لان الذى في العنب هو العصير والعصر مميز له عن الثفل والقشر وكما لا يحل العصير بالطبخ ما لم يذهب منه ثلثاه فكذلك العنب فان جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين الزبيب والتمر لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه بخلاف ما لو خلط عصير العنب بنقيع التمر والزبيب وهذا لان العصر لا يحل بالطبخ ما لم يذهب ثلثاه إذا كان وحده فكذلك إذا كان مع غيره لانه اجتمع فيه الموجب للحل والحرمة وفى مثله يغلب الموجب للحرمة احتياطا وذكر المعلى في نوادره أن نقيع التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخه ثم نقع فيه تمر أو زبيب فان كان ما نقع فيه شيأ يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله فهو معتبر ولا بأس بشربه وان كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل شربه ما لم يطبخ قبل أن يشتد لانه في معنى نقيع مطبوخ ولو صب في المطبوخ قدح من نقيع لم يحل شربه إذا اشتد ويغلب الموجب للحرمة
[ 20 ] على الموجب للحل فهذا مثله ولا يحد في شرب شئ من ذلك ما لم يسكر اما لاختلاف العلماء رحمهم الله في اباحة شربه أو لان ثبوت الحرمة للاحتياط وفى الحدود يحتال للدرء وللاسقاط فلا يجب به الحد ما لم يسكر وان خلط الخمر بالنبيذ وشربه رجل ولم يسكر فان كانت الخمر هي الغالبة حددته وان كان النببذ هو الغالب لم نحده لما بينا ان المغلوب يصير مستهلكا بالغالب ويكون الحكم للغالب وهذا في الجنسين مجمع عليه والنبيذ والخمر جنسان مختلفان فان أحكامهما مختلفة فان طبخ الزبيب وحده أو التمر ثم مرس العنب فيه فلا بأس به ما دام حلوا فإذا اشتد فلا خير فيه وكذلك ان مرس العنب في نبيذ العسل فهو بمنزلة عصير خلط بنبيذ واشتد فان طبخا جميعا حتى ذهب ثلثا العصير ثم اشتد فلا بأس به لان ما هو الشرط في العصير وهو ذهاب الثلثين بالطبخ قد وجد والعنب الابيض والاسود يعصران لا بأس بعصيرهما ما دام حلوا فإذا اشتد فهو خمر وانما أورد هذا لانه وقع عند بعض العوام ان الخمر من العنب الاسود دون الابيض هذا وان كان لا يشكل على الفقهاء فلرد ما وقع عند العوام كما ذكر في الاصطياد بالكلب الكردى في كتاب الصيد وقد بيناه وما طبخ من التمر والزبيب وعتق فلا بأس به وقال أبو يوسف رحمه الله أكره المعتق من الزبيب والتمر وأنهى عنه وهذا قوله الاول على ما ما بينا انه كان يقول أولا كل نبيذ يزداد جودة عند ابانه فلا خيار فيه وقد رجع عن هذا إلى قول ابى حنيفة وقد ذكر رجوعه في روايات أبى حفص رحمه الله وكذلك نبيذ التمر المعتق يجعل فيه الراذى وهو شئ يجعلونه في نبيذ التمر عند الطبخ لتقوى به شدته وينتقص من النفخ الذى هو فيه والشدة بعد الطبخ لا تمنع شربه فكذلك إذا جعل فيه ما تتقوى به الشدة فذلك يمنع شربه ويكره شرب دردى الخمر والانتفاع به لان الدردى من كل شئ بمنزلة صافيه والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديه وهذا لان في الدردى اجزاء الخمر ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به فالدردي أولى والذى روى أن سمرة ابن جندب رضى الله عنه كان يتدلك بدردى الخمر في الحمام فقد أنكر عليه عمر رضى الله عنه ذلك حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه وليس لاحد أن يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمر رضى الله عنه ولو شرب منه ولم يسكر فلا حد عليه عندنا وقال الشافعي رحمه الله يلزمه الحد لان الحد يجب بشرب قطرة من الخمر وفى الدردى قطرات من الخمر ولكنا نقول وجوب الحد للزجر وانما يشرع الرجر فيما تميل إليه الطباع السليمة والطباع لا تميل إلى شرب الدردى بل من
[ 21 ] يعتاد شرب الخمر يعاف الدردى فيكون شربه كشرب الدم والبول ثم الغالب على الدردى اجزاء ثفل العنب من القشر وغيره ولو كان الغالب هو الماء لم يجب الحد بشربه كما بينا فكذلك ا ذا كان الغالب ثفل العنب ولا بأس بان يجعل ذلك في خل لانه يصير خلا فان من طبع الخمر يصير خلا إذا ترك كذلك فإذا غلب عليه الخل أولى أن يصير خلا وخل الخمر حلال وإذا طبخ في الخمر ريحان يقال له سوسن حتى يأخذ ريحها ثم يباع لا يحل لاحد أن يدهن ان يتطيب له لانه عين الخمر وان تكلفوا لاذهاب رائحته برائحة شئ آخر غلب عليها والانتفاع بالخمر حرام قد لعن رسول الله صلى عليه وسلم في الخمر عشرا بقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله في الخمر عشرا وقال في الجمله من ينتفع بها ولا تمتشط المرأة بالخمر في الحمام لانها في خطاب تحريم الشرب كالرجل وكذلك في وجوب الحد عليها عند الشرب فكذلك في الانتفاع بها من حيث الامتشاط وذلك شئ يصنعه بعض النساء لانه يزيد في ترنيق الشعر وقد صح عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تنهى النساء عن ذلك أشد النهى وكذلك لا يحل أن يسقي الصبيان الخمر للدواء وغير ذلك والاثم على من يسقيهم لان الاثم ينبنى على الخطاب والصبي غير مخاطب ولكن من يسقيه مخاطب فهو الآثم والاصل فيه حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال أن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تداووهم بالخمر ولا تغذوهم بها فان الله تعالى لم يجعل في رجس شفاء وانما الاثم على من سقاهم ويكره للرجل أن يداوي بها جرحا في بدنه أو يداوى بها دابته لانه نوع انتفاع بالخمر والانتفاع بالخمر محرم شرعا من كل وجه ثم الضرورة لا تتحقق لما بينا انه لابد أن يوجد غير ذلك من الحلال ما يعمل عمله في المداواة وان غسل الظرف الذى كان فيه الخمر فلا بأس بالانتفاع به ولا بأس أن يجعل فيه النبيذ والمربى لان الظرف كان تنجس بما جعل فيه من الخمر فهو كما لو تنجس يجعل البول والدم فيه فيطهر بالغسل وإذا صار طاهرا بالغسل حل الانتفاع به والدليل على انه يطهر بالغسل قوله عليه الصلاة والسلام وانما يغسل الثوب من خمس وذكر فيها الخمر فعرفنا انه يطهر الثوب بعد ما يصيبه الخمر بالغسل فكذلك الظروف والذى روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بكسر الدنان وشق الروايا قد بينا انه كان في الابتداء للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة ثم قيل في تأويله المراد ما يشرب فيه الخمر حتى لا يمكن استخراجه بالغسل وتوجد رائحة الخمر من كل ما يجعل فيه فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فهو يطهر بالغسل فلا
[ 22 ] يحل كثيره لانه عين منتفع به بطريق حلال شرعا قلت فالخمر يطرح فيها السمك والملح فيصنع مربى قال لا بأس بذلك إذا تحولت عن حال الخمر وأصل المسألة أن تحليل الخمر بالعلاج جائز عندنا ويحل تناول الخل بعد التخليل وعند الشافعي التخليل حرام بالقاء شئ في الخمر من ملح أو خل ولا يحل ذلك الخل قولا واحدا والتخليل من غير القاء شئ فيه بالنقل من الظل إلى الشمس أو ايقاد النار بالقرب منه لا يحل عنده أيضا ولكن إذا تخلل فله قولان في اباحة تناول ذلك الخل واحتج في ذلك بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تخليل الخمر وفى رواية نهى أن تتخذ الخمر خلا وفى حديث أبى طلحة رضى الله عنه ان كان في حجره خمور ليتامى فلما نزل تحريم الخمر قال ماذا أصنع بها يارسول الله قال عليه الصلاة والسلام أرقها قال أفلا أخللها قال عليه الصلاة والسلام لا فقد أمره بالاراقة ولو كان التخلل جائزا لارشده إلى ذلك لما فيه من الاصلاح في حق اليتامى فلما سأله عن التخلل نهاه عن ذلك فلو كان جائزا لكان الاولى أن يرخص فيه في خمور اليتامى وإذا ثبت بهذه الاخبار ان التخليل حرام فالفعل المحرم شرعا لا يكون مؤثرا في الحل كذبح الشاة في غير مذبحها ولان الخمر عين محرم الانتفاع بها من كل وجه والتخليل تصرف فيها على قصد التمول فيكون حراما كالبيع والشراء وكما لو القى في الخمر شيأ حلوا كالسكر والفانيد حتى صار حلوا وهذا لان نجاسة العين توجب الاجتناب وفى التخليل اقتراب منه وذلك ضد المأمور به نصا في قوله عزوجل فاجتنبوه بخلاف الخمر للارقة فانه مبالغة في الاجتناب عنه ثم ما يلقى في الخمر نجس بملاقاة الخمر اياه وما يكون نجسا في نفسه لا يفيد الطهارة في غيره وعلى هذا الحرف تفصيل بين ما إذا ألقي فيه شئ وبين ما إذا لم يجعل فيه شئ وهذا بخلاف ما إذا تخلل بنفسه لانه لم يوجد هناك تنجيس شئ بالقائه فيه ولا مباشرة فعل حرام في الخمر فهو نظير الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه حل اصطياده ولو أخرجه انسان لم يحل ووجب رده إلى الحرم ومن قتل مورثه يحرم عن الميراث بمباشرته فعلا حراما بخلاف ما إذا مات بنفسه وحقيقة المعني فيه ان من طبع الخمر ان يتخلل بمضي الزمان فإذا تخللت فقد تحولت بطبعها وصارت في حكم شئ آخر فأما التخليل فليس بتقليب للعين لانه ليس للعباد تقليب الطباع وانما الذى إليهم احداث المجاورة بين الاشياء فيكون هذا تنجيسا لما يلقى في الخمر لا تقليبا لطبع الخمر وهو نظير الشاب يصير شيخا بمضي الزمان وبتكليفه لا يصير شيخا فإذا لم يتبدل طبعه
[ 23 ] بهذا التخليل بقي صفة الخمرية فيه وان كان لم يطهر كما إذا ألقى فيه شيأ من الحلاوة وهذا بخلاف جلد الميتة إذا دبغ فان نجاسة الجلد بما اتصل به من الدسومات النجسة والدبغ ازالة لتلك الدسومة والى العباد الفصل والتمييز بين الاشياء فكان فعله اصلاحا من حيث أنه يميز به الطاهر من النجس فأما نجاسة الخمر فلعينها لا لغير اتصل بها وانما تنعدم هذه الصفة بتحولها بطبعها ولا أثر للتخليل في ذلك * وحجتنا في ذلك ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال أيما اهاب دبغ فقد طهر كالخمر يخلل فيحل ولا يقال قد روى كالخمر تخلل فحل لان الروايتين كالخبرين فيعمل بهما ثم ما رويناه أقرب إلى الصحة لانه شبه دبغ الجلد به والدبغ يكون بصنع العباد لا بطبعه فعرفنا ان المراد التخليل الذى يكون بصنع العباد والمعنى فيه ان هذا صلاح لجوهر فاسد فيكون من الحكمة والشرع أن لا ينهى عما هو حكمة وبيان الوصف أن الخمر جوهر فاسد فاصلاحه بازالة صفة الخمرية عنه والتخليل ازالة لصفة الخمرية فعرفنا انه اصلاح له وهو كدبغ الجلد فان عين الجلد نجس ولهذا لا يجوز بيعه ولو كانت النجاسة بما اتصل به من الدسومات لجوز بيعه كالدسومات النجسة ولكن الدبغ اصلاح له من حيث انه يعصمه عن النتن والفساد فكان جائزا شرعا ولا معنى لما قال ان هذا فساد في الحال لما يلقى فيه لانه هذا موجود في دبغ الجلد فانه افساد لما يجعل فيه من الشب والقرظ وهذا اصلاح باعتبار مآله والعبرة للمآل لا للحال فان القاء البذر في الارض يكون اتلافا للبذر في الحال ولكنه اصلاح باعتبار مآله وبهذا يتبين أن التخليل ليس بتصرف في الخمر على قصد تمول الخمر بل هو اتلاف لصفة الخمرية وبين تمول الخمر واتلاف صفة الخمرية منافاة فما كان الاقتراب من العين لاتلاف صفة الخمرية الا نظير الاقتراب منها لاراقة العين وذلك جائز شرعا ونحن نسلم أن تقليب الطباع ليس الي العابد وانما إليهم احداث المجاورة ولكن احداث المجاورة بين الخل والخمر بهذه الصفة يقوى على اتلاف صفة الخمرية بتحولها إلى طبع الحل في أسرع الاوقات فكان هذا أقرب إلى الجواز من الامساك وإذا جاز الامساك إلى أن يتخلل فالتخليل أولى بالجواز وأما إذا ألقى فيه شيأ من الحلاوة فذلك ليس باتلاف لصفة الخمرية لانه ليس من طبع الخمر أن يصير حلوا فعرفنا أن معنى الشدة والمرارة قائم فيه وان كان لا يظهر لغلبة الحلاوة عليه فأما من طبع الخمر أن يصير خلا فيكون التخليل اتلافا لصفة الخمرية كما بينا * يوضحه أن من وجه فعليه أحداث المجاورة ومن وجه اتلاف لصفة
[ 24 ] الخمرية كما قلنا فيوفر حظه عليهما فيقول لاعتبار جانب احداث المجاورة لا يحل بالقاء شئ من الحلاوات فيه ولاعتبار جانب اتلاف صفة الخمرية يحل التخليل فاما ما روى من النهى عن التخليل فالمراد أن يستعمل الخمر استعمال الخل بان يؤتدم به ويصطبغ به وهو نظير ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال وان تتخذ الدواب كراسي والمراد الاستعمال ولما نزل قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال عدى ابن حاتم رضى الله عنه ما عبدناهم قط قال النبي صلى الله عليه وسلم أليس كانوا يأمرون وينهون فيطيعونهم قال نعم فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك قد فسر الاتخاذ بالاستعمال وفى حديث أبى طلحة ذكر بعض الرواة أفلا أخللها قال نعم وان صح ما روى فانما نهى عن التخليل في الابتداء للزجر عن العادة المألوفة فقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة في شرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باراقة الخمور ونهى عن التخليل لذلك كما أمر بقتل الكلاب للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة في اقتناء الكلاب ثم كان لا يأمن عليهم أن يعفوا في خمور اليتامى إذا لم يبق بايديهم شئ من الخمر فأمر في خمور اليتامى أيضا بالاراقة للزجر والواجب على الوصي المنع من افساد مال اليتيم لا اصلاح ما فسد منه (ألا ترى) ان شاة اليتيم إذا ماتت لا يجب على الوصي دبغ جلدها وان كان لو فعله جاز فكذلك لا يجب عليه التخليل وان كان لو فعله كان جائزا إذا ثبت جواز التخليل فكذلك جواز اتخاذ المربى من الخمر بالقاء الملح والسمك فيه لانه اتلاف لصفة الخمرية كما في التخليل والذى روى عن عمر رضي الله عنه انه نهى عن ذلك يعارضه ما روى ان ابن عباس رضى الله عنه سئل عن ذلك فقال لا بأس به ثم تأويل حديث عمر رضى الله عنه مثل ما بينا من تأويل الحديث المرفوع انه نهى عن ذلك على طريق السياسة للزجر ولا يحل للمسلم بيع الخمر ولا أكل ثمنها لان الله تعالى سماها رجسا فيقضى ذلك بنجاسة العين وفساد المالية والتقوم كما في الميتة والدم ولحم الخنزير وقد امر بالاجتناب عنها فاقتضى ذلك أن لا يجوز للمسلم الاقتراب منها على جهة التمول بحال وفى الحديث أن أبا عامر كان يهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر كل عام فأهدى له في العام التى حرمت فيه فقال عليه الصلاة والسلام ان الله قد حرم الخمر فلا حاجة لى في خمرك قال خذها وبعها وانتفع بثمنها في حاجتك فقال عليه الصلاة والسلام يا أبا عامر ان الذى حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها وسئل ابن عمر رضى الله عنه عن بيع الخمر وأكل ثمنها فقال قاتل الله اليهود
[ 25 ] حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلو ثمنها وان الذى حرم الشرب حرم بيعها وأكل ثمنها وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بائعها ومشتريها فان صنع الخمر في مرقه ثم طبخ لم يحل أكله ولا يحل هذا الصنع لان فيه استعمال الخمر كاستعمال الخل وقد بينا ان هذا منهى عنه ثم الطبخ في الخمر لا يحلها ولا يغير الحكم الثابت فيها كما لو طبخها لا في مرقه ولكن لا يحد من شرب تلك المرقة لان الغالب عليه غير الخمر وقد بينا ان المعتبر هو الغالب في حكم الحد ولان وجوب الحد بشرب الخمر والمرقة تؤكل مع الطعام والاكل غير الشرب ولهذا لا نوجب الحد في الدردى لانه إلى الاكل أقرب منه إلى الشرب ويكره الاحتقان بالخمر والاقطار منها في الاحليل ولاحد في ذلك أما الاستشفاء بعين الخمر فقد بينا انه لا يحل عندنا والشافعي يجوز ذلك إذا أخبره عدلان ان شفاءه في ذلك ولاحد عليه لشبهة اختلاف العلماء رحمهم في الله في اباحة هذا الفعل ولحاجته إلى التداوى ثم ما يقطر في احليله لا يصل إلى جوفه ولهذا لا يفطره عند أبى حنفية ومحمد رحمها الله والحقنة وان كانت مفطرة فالحد لا يلزمه فيما يصل إلى جوفه من أسافل البدن لان الحد للزجر والطبع لا يميل إلى ذلك والتمر يطبخ ويطبخ معه الكشوفا فنبذ فلا بأس به لان ما يطبخ معه يزيد في شدته وقد بينا ان الشدة لا توجب الحرمة في المطبوخ من التمر ولو عجن الدقيق بالخمر ثم خبز كرهت أكله لان الدقيق تنجس بالخمر والعجين النجس لا يطهر بالخبز فلا يحل أكله ولو صب الخمر في حنطة لم يؤكل حتى تغسل لانها تنجست بالخمر فان غسل الحنطة وطحنها ولم يوجد فيها طعم الخمر ولا ريحها فلا بأس بأكلها لان النجاسة كانت على ظاهرها وقد زالت بالغسل بحيث لم يبق شئ من آثارها فهو وما لو تنجست ببول أو دم سواء فان تشربت الخمر في الحنطة فقد ذكر في النوادر عن أبى يوسف تغسل ثلاث مرات وتجفف في كل مرة فتطهر وعند محمد رحمه الله لا تطهر بحال لان الغسل انما يزيل ما على طاهرها فاما ما تشرب فيها فلا يستخرج الا بالعصر والعصر في الحنطة لا يتأتى وهو إلى القياس أقرب وما قاله أبو يوسف أرفق بالناس لاجل البلوى والضرورة في جنس هذا فان هذا الخلاف في فصول منها التروي إذا تشرب البول فيه واللوح والآجر والخزف الجديد والنعل في الحمام وما أشبه ذلك فان للتجفيف أثرا في استخراج ما تشرب منه فيقام التجفيف في كل مرة مقام العصر فيما يتأى فيه العصر فيحكم بطهارته ويكره أن يسقى الدواب الخمر لانه نوع انتفاع بالخمر واقتراب
[ 26 ] منها على قصد التمول ولذلك يكره للمسلم أن يسقيها أو المسكر الذمي كما لا يحل له أن يشربها وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر ساقيها كما لعن شاربها وان كان لرجل دين على رجل فقضاه من ثمن خمرا أو حنزير لم يحل له أن يأخذه الا أن يكون الذى عليه الدين كافرا فلا بأس حينئذ أن يأخذها منه لانها مال متقوم في حق الكافر فيجوز بيعه ويستحق البائع ثمنه ثم المسلم ياخذ ملك مديونه بسبب صحيح وما يأخذه عوض عن دينه في حقه لا ثمن الخمر فاما بيع الخمر من المسلم فباطل والثمن غير مستحق له بل هو واجب الرد على من أخذ منه وصاحب الدين ليس يأخذ ملك مديونه بل ملك الغير الحاصل عند بسبب فاسد شرعا فيكون هو بهذا الاخذ مقررا الحرمة والفساد وذلك لا يحل ولا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا لان العصير مشروب طاهر حلال فيجوز بيعه وأكل ثمنه ولا فساد في قصد البائع انما الفساد في قصد المشترى ولا تزر وازرة وزر أخرى (ألا ترى) أن بيع الكرم ممن يتخذ الخمر من عينه جائز لا بأس به وكذلك بيع الارض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من عنبه الخمر وهذا قول أبى حنيفة وهو القياس وكره ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله استحسانا لان بيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا اعانة على المعصية وتمكين منها وذلك حرام وإذا امتنع البائع من البيع يتعذر على المشترى اتخاذ الخمر فكان في البيع منه تهييج الفتنة وفى الامتناع تسكينها ومن اهراق خمر مسلم فلا ضمان عليه لان الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم واتلاف ما ليس بمال متقوم لا يوجب الضمان كاتلاف الميتة وهذا لان الضمان انما يجب جبرا لما دخل على المتلف عليه من نقصان المالية وان كان سكر أو طلاء قد طبخ حتى ذهب ثلثه أو ربعه فأهراقه رجل فعليه قيمته عند أبى حنيفة ولا شئ عليه في قول أبى يوسف ومحمد وهذا بناء على اختلافهم في جواز البيع فان أبا حنيفة لما جوز البيع في هذه الاشربة كانت المالية والتقوم فيها ثابته فقال انها مضمونه على المتلف ولكن بالقيمة لا بالمثل لانه ممنوع من تمليك عينها وان كان لو فعل ذلك جاز وعندهما لا يجوز بيع هذه الاشربة كما لا يجوز بيع الخمر فلا يجب الضمان على متلفها أيضا وفى الكتاب قال قلت من أين اختلفا قال الخمر خرام وهذا ليس كالخمر انما هو شئ نكرهه نحن ومعنى هذا أن حرمة الخمر ثبتت بالنص فتعمل في اسقاط الماليه والتقوم وحرمة هذه الاشربة لم تكن بنص مقطوع به فلا تسقط المالية والتقوم به فان غصب من مسلم خمرا فصارت في يده خلا ثم وجدها صاحبها
[ 27 ] فهو أحق بها لان العين كانت مملوكة له والعين باقية بعد التخلل والكلام في هذا وفى جلد الميتة إذا دبغه الغاصب قد بيناه في كتاب الغصب ولا بأس بطعام المجوس وأهل الشرك ما خلا الذبائح فان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل ذبائح المشركين وكان يأكل ما سوى ذلك من طعامهم فانه كان يجيب دعوة بعضهم تأليفا لهم على الاسلام فاما ذبائح أهل الكتاب فلا بأس بها لقوله تعالى وطعام الذى أوتوا الكتاب حل لكم ولا بأس بالاكل في أواني المجوس ولكن غسلها أحب إلى وأنظف لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن طبخ المرقة في أواني المشركين فقال عليه الصلاة والسلام اغسلوها ثم اطبخوا فيها ولان الآنية تتخذ مما هو طاهر والاصل فيها الطهارة الا أن الظاهر انهم يجعلون فيها ما يصنعونه من ذبائحهم فيستحب غسلها لذلك وان ترك ذلك وتمسك بالاصل لم يضره وهو نظير الصلاة في سراويل المجوس وقد بيناه في كتاب الصلاة ولا بأس بالجبن وان كان من صنعة المجوس لما روى أن غلاما لسلمان رضى الله عنه أتاه يوم القادسية بسلة فيها جبن وخبز وسكين فجعل يقطع من ذلك الجبن لاصحابه فيأكلونه ويخبرهم كيف يصنع الجبن ولان الجبن بمنزلة اللبن ولا بأس بما يجلبه المجوس من اللبن انما لا يحل ما يشترط فيه الذكاة إذا كان المباشر له مجوسيا أو مشركا والزكاة ليست بشرط لتناول اللبن والجبن فهو نظير سائر الاطعمة والاشربة بخلاف الذبائح وهذا لان الذكاة انما تشترط فيما فيه الحياة ولا حياة في اللبن وقد بينا ذلك في النكاح وعلى هذا الاصل الشاة إذا ماتت وفي ضرعها لبن عند أبى حنيفة رحمه لا يتنجس اللبن بموتها وعلى قول الشافعي يتنجس لان اللبن عنده حياة وعند أبى يوسف ومحمد يتنجس بتنجس الوعاء بمنزلة لبن صب في قصعة نجسة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا فان ما أبين من الحى ميت فإذا جاز أن يحلب اللبن فيشرب عرفنا انه لا حياة فيه فلا يتنجس بالموت ولا بنجاسة وعائة لانه في معدنه ولا يعطى الشئ في معدنه حكم النجاسة (ألا ترى) ان في الاصل اللبن انما يخرج من موضع النجاسة قال الله تعالى من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وعلى هذا أنفحة الميتة عند أبى حنيفة رحمه لله طاهرة مائعة كانت أو جامدة بمنزلة اللبن وعند الشافعي نجسة العين وعند ابى يوسف ومحمد ان كانت مائعة فهى نجسة بنجاسة الوعاء كاللبن وان كانت جامدة فلا بأس بالانتفاع بها بعد الغسل لان بنجاسة الوعاء لا يتنجس باطنها وما على ظاهرها يزول بالغسل وأشار لابي حنيفة
[ 28 ] رحمه الله في الكتاب إلى حرف فقال لانها لم تكن أنفحة ولا لبنا وهى ميتة ولا يضرها موت الشاة يعنى ان اللبن والانفحة تنفصل من الشاة بصفة واحدة حية كانت الشاة أو ميتة ذبحت أو لم تذبح فلا يكون لموت الشاة تأثير في اللبن والانفحة وعلى هذا لو ماتت دجاجة فوجد في بطنها بيضة فلا بأس بأكل البيضة عندنا وعنده ان كانت صلبة فكذلك وان كانت لينة لم يجز الانتفاع بها كاللبن والانفحة على أصله ولو سقى شاة خمرا ثم ذبحت ساعتئذ فلا بأس بلحمها وكذلك لو حلب منها اللبن فلا بأس بشربه لان الخمر صارت مستهلكة بالوصول إلى جوفها ولم تؤثر في لحمها ولا في لبنها وهى على صفة الخمرية بحالها فلهذا لا بأس باكل لحمها وشرب لبنها ولو صب رجل خابية في خمر في نهر مثل الفرات أو أصغر منه ورجل أسفل منه فمرت به الخمر في الماء فلا بأس بان يشرب من ذلك الماء الا أن يكون يوجد فيه طعمها أو ربحها فلا يحل له حينئذ بخلاف ما لو وقعت قطرة من خمر في اناء فيه ماء لان ماء الاناء قد تنجس فلا يحل شربه وان كان لا يوجد فيه طعم الخمر وأما الفرات فلا يتنجس إذا لم يتغير طعمه ولا رائحته بما صب فيه لقوله عليه الصلاة والسلام خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ الا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه والمراد الماء الجارى ثم ما صب في الفرات يصير مغلوبا مستهلكا بالماء فما يشربه الرجل ماء الفرات ولا بأس بشرب ماء الفرات الا إذا كان يوجد فيه ريح الخمر أو طعمها فيستدل بذلك على وجود عنى الخمر فيما شربه والصحيح من المذهب في الجيفة الواقعة في نهر يجرى فيه الماء أنه ان كان جيمع الماء أو أكثره يجرى على الجيفة ذلك الماء نجس وان كان أكثره لا يجرى على الجيفة فهو طاهر لان الاقل يجعل تبعا للاكثر فيما تعم به البلوى وإذا خاف المضطر الموت من العطش فلا بأس من يشرب من الخمر ما يرد عطشه عندنا وقال الشافعي لا يحل شرب الخمر للعطش لان الخمر لاترد العطش بل تزيد في عطشه لما فيها من الحرارة ولكنا نقول لا بأس بذلك لقوله تعالى الا ما اضطررتم إليه الآية فان كانت في الميتة ففيها بيان ان موضع الضرورة مستثنى من الحرمة الثابتة بالشرع وحرمة الخمر ثابتة بالشرع كحرمة الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بالاصابة منها عند تحقق الضرروة بقدر ما يدفع الهلاك به عن نفسه وشرب الخمر يرد عطشه في الحال لان في الخمر رطوبة وحراره فالرطوبة التى فيها ترد عطشه في الحال ثم بالحرارة التى فيها يزداد العطش في الثاني والى أن يهيج ذلك به ربما يصل إلى الماء فعرفنا انه يدفع الهلاك به عن نفسه ولا يحل له أن يشرب
[ 29 ] منها إلى السكر لان الثابت للضرورة يتقدر بقدر الضرورة فان سكر نظرنا فان لم يزد على ما يسكن عطشه فلا حد عليه لان شرب هذا المقدار حلال وهو وان سكر من شرب الحلال لا يلزمه الحد كما لو سكر من اللبن أو البنج وان استكثر منه بعد ما سكن عطشه حتى سكر فعليه الحد لان بعد ما سكن عطشه وهو غير مضطر فالقليل والكثير منها سواء في حكمه فمقدار ما شرب بعد تسكين العطش حرام عليه وذلك يكفى في ايجاب الحد عليه وكذلك النبيذ إذا شرب منه فوق ما يجزئه حتى سكر لما بينا أن السكر من النبيذ موجب للحد كشرب الخمر ولا ضرورة له في شرب القدح المسكر فعليه الحد لذلك وإذا كان مع رقيق له ماء كثير فابى أن يسقيه حل له أن يقاتله عليه بما دون السلاح لان الماء محرز مملوك لصاحبه بمنزلة الطعام الا أن الماء في الاصل كان مباحا مشتركا وذلك الاصل بقي معتبرا بعد الاحراز حتى لا يتعلق القطع بسرقته فلا عتبار اباحه الاصل قلنا يقاتله بما دون السلاح ولكونه مالا مملوكا له في الحال له أن يقاتله عليه بالسلاح لقوله عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد فكيف يقاتل بالسلاح من إذا قتله كان شهيدا وفي الماء المباح إذا منعه منه قاتله بالسلاح وقد بينا ذلك في كتاب الشرب فاما في الطعام فلا يحل له أن يقاتله ولكنه يغصبه اياه ان استطاع فيأكله ثم يعطيه ثمنه بعد ذلك لانه ما كان للمضطر حق في هذا الطعام قط ولكن الطعام ملك لصاحبه فهو يمنع الغير من ملكه وذلك مطلق له شرعا فلا يجوز لاحد أن يقاتله على ذلك ولكن المضطر يخاف الهلاك على نفسه وذلك مبيح له التناول من طعام الغير بشرط الضمان وهو انما يتأتى بفعل مقصور على الطعام غير متعد إلى صاحبه والمقصور على الطعام الاخذ فاما القتال فيكون مع صاحب الطعام لا مع الطعام فلهذا لا يقاتله بالسلاح ولا بغيره فان كان الرقيق الذي معه الماء يخاف على نفسه الموت ان لم يحرز ماءه فانه يأخذ منه بعضه ويترك بعضه لان الشرع ينظر للكل وانما يحل للمضطر شرعا دفع الهلاك عن نفسه بطريق لا يكون فيه هلاك غيره وفى أخذ جيمع الماء منه هلاك صاحب الماء لقلته بحيث لا يدفع الهلاك الا عن أحدهما فليس له أن يأخذه من صاحب الماء لان حقه في ملكه مقدم على حق غيره ثم ذكر بعد هذا مسائل قد بينا أكثرها في الحدود فقال يضرب الشارب الحد بالسوط في ازار وسراويل ليس عليه غيرها لان جنايته مغلظة كجناية الزانى فينزع عنه ثيابه عند اقامة الحد عليه ليلخص الالم إلى بدنه والمرأة في حد الشرب كالرجل على قياس حد الزنا ويفرق الضرب على
[ 30 ] أعضائها كما في حق الرجل الا انها لا تجرد عن ثيابها لان بدنها عورة وكشف العورة حرام ولكن ينزع عنها الحشو والفر ولكى يخلص الالم إلى بدنها فان لم يكن عليها غير جبة محشوة لم ينزع ذلك عنها لان كشف العورة لا يحل بحال وكذلك لا يطرح عنها خمارها وتضرب قاعدة ليكون أستر لها هكذا قال على رضى الله عنه يضرب الرجال قياما والنساء قعودا والاصل في حد الشرب ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر وعنده أربعون رجلا فامرهم أن يضربوه فضربوه كل رجل منهم بنعليه فلما كان زمان عمر رضى الله عنه جعل ذلك ثمانين سوطا والخبر وان كان من أخبار الآحاد فهو مشهور وقد تأكد باتفاق الصحابة رضى الله عنهم انما العمل به في زمن عمر رضى الله عنه فانه جعل حد الشرب ثمانين سواطا من هذا الحديث لانه لما ضربه كل رجل منهما بنعليه كان الكل في معنى ثمانين جلدة والاجماع حجة موجبة للعمل فيجوز اثبات الحد به وفيما يجب عليه الحد بالسكر فحد السكر الذى يتعلق به الحد عن أبى حنيفة أن لا يعرف الارض من السماء ولا الانثى من الذكر ولا نفسه من حمار وعند أبى يوسف ومحمد ان يختلط كلامه فلا يستقر في خطاب ولا جواب واعتبرا العرف في ذلك فان من اختلط كلامه بالشرب يسمى سكران في الناس وتأيد ذلك بقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر النهاية فقال في الاسباب الموجبة للحد تعتبر النهاية كما في السرقة والزنا ونهاية السكر هذا أن يغلب السرور على عقله حتى لا يميز شيأ عن شئ وإذا كان يميز بين الاشياء عرفنا انه مستعمل لعقله مع ما به من السرور ولا يكون ذلك نهايه السكر وفى النقصان شبهة العدم والحدود تندرئ بالشبهات ولهذا وافقهما في السكر الذى يحرم عنده الشرب إذا المعتبر اختلاط الكلام لان اعتبار النهايه فيه يندرئ بالشبهات والحل والحرمة يوخذ فيهما بالاحتياط وأيد هذا ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال من بات سكران بات عروس الشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح وهذا اشارة إلى أن السكران من لا يحس بشئ مما يصنع به وأكثر مشايخنا رحمهم الله على قولهما وحكى ان أئمة بلخ رحمهم الله اتفقوا على انه يستقرأ سورة من القرآن فان أمكنه أن يقرأها فليس بسكران حتى حكى ان أميرا ببلخ أتاه بعض الشرط بسكران فأمره الامير أن يقرأ قل يا أيها الكافرون فقال السكران للامير اقر أنت سورة الفاتحة أولا فلما قال الامير الحمد لله رب العالمين فقال قف فقد أخطات من جهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية
[ 31 ] وهى آية من الفاتحة عند بعض الائمة والقراء فخجل الامير وجعل يضرب الشرطي الذى جاء به يقول له أمرتك أن تأتيني بسكران فجئتني بمقرئ بلخ وإذا شهد عليه الشهود بالشرب وهو سكران حبسه حتى يصحو لان ما هو المقصود لا يتم باقامة الحد عليه في حال سكره وقد بينا هذا والمملوك فيما يلزمه من الحد بالشرب كالحر الا أن على المملوك نصف ما على الحر لقوله تعالى فعلين نصف ما على المحصنات من العذاب ولاحد على الذمي في شئ من الشراب لانه يعتقد اباحة الشرب واعتقاد الحرمة شرط في السبب الموجب للحد وهذا لان الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه وبدون اعتقاد الحرمة لا يتحقق هذا ثم قد بينا ان الحكم الخطاب قاصر عنهم في أحكام الدينا لانا أمرنا أن نتركهم وما يعتقدون ولهذا بقى الخمر مالا متقوما في حقهم ولهذا قلنا المجوسى إذا تزوج أمة ودخل بها لم يلزمه الحد وان كان يقام عليه الحد بالزنا ولا يحد المسلم بوجود ريح الخمر منه حتى يشهد الشهود عليه بشربها أو يقر لان ربح الخمر شاهد زور فقد يوجد ريح الخمر من غير الخمر فان من استكثر من أكل السفرجل بوجد مه ريح الخمر ومنه قول القائل يقولون لى أنت شربت مدامة * فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا وقد توجد رائحة الخمر ممن شربها مكرها أو مضطرا لدفع العطش فلا يجوز أن يعتمد ربحها في اقامة الحد عليه ولو شهد عليه واحد انه شربها وآخر انه قاءها لم يحد لان من شربها مكرها أو مضطرا قد يقئ الخمر فسقط اعتبار شهادة الشاهد وانما بقى على الشرب شاهد واحد وكذلك لو شهد على الشرب والريح منه موجود فاختلفا في الوقت لان الشرب فعل فعند اختلافهما في الوقت يكون كل واحد منهما شاهدا بفعل آخر وكذلك لو شهد أحدهما انه شربها وشهد الآخر انه أقر بشربها فانه لا معتبر بالشهادة على الاقرار بالشرب لانه لو اقر ثم رجع لا يقام عليه الحد ولان الشهادة قد اختلفت فاحدهما يشهد بالفعل والآخر بالقول وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكران من الخمر وشهد الآخر انه سكران من السكر فانما شهد كل واحد منهما بفعل آخر ولا يقال ينبغى أن يقام عليه الحد لما يرى من سكره لانه قد يكون سكران من غير الشرب أو من الشرب بالايجار أو الاكراه على الشرب أو كان الشرب على قصد التداوى وقد بينا أن ذلك غير موجب للحد عليه ولا يحد باقراره في حال سكره من الخمر لان السكران لا يثبت على كلام واحد ولكنه يتكلم بالشئ وبضده والاصرار على
[ 32 ] الاقرار بالسبب لابد منه لايجاب حد الخمر ولو أقر عند القاضى انه شرب أمس خمرا لم يحد أيضا وانما يحد إذا أتاه ساعة شرب والريح يوجد منه في قول أبى حنيفة وأبى يوسف وفى قول محمد يوخذ باقراره متى جاء مثل حد الزنا وقد بينا هذه المسألة في كتاب الحدود بالبينة والاقرار جميعا وإذا أكره على شرب الخمر لا يحد لان الشرب في حال الاكراه مباح له على ما بيننا ان موضع الضرورة مستثنى من الحرمة ولان الحد مشروع للزجر وقد كان منزجرا حين لم يقدم على الشرب ما لم تتحقق الضرورة بالاكراه وإذا أسلم الحربى وجاء إلى دار الاسلام ثم شرب الخمر قبل أن يعلم انها محرمة عليه لم يحد لان الخطاب لم يبلغه فلا يثبت حكم الخطاب في حقه وهذا بخلاف المسلم المولود في دار الاسزم إذا شرب الخمر ثم قال لم أعلم انها حرام لان حرمة الخمر قد اشتهرت بين المسلين في دار الاسلام فالظاهر يكذب المولود في دار الاسلام فيما يقول والظاهر لا يكذب الذي جاء من دار الحرب فيما يقول فيعذر بحهله ولا يقام عليه الحد بخلاف ما إذا زنى أو شرب أو سرق فانه يقام عليه الحد ولا يعذر بقوله لم أعلم لان حرمة الزنا والسرقة في الاديان كلها فالظاهر يكذبه إذا قال لم أعلم بحرمتها ولان حد السرقة والزنا مما تجوز اقامته على الكافر في حال كفره وهو الذمي فبعد الاسلام أولى أن يقام بخلاف حد الخمر ولان حد الزنا والسرقة ثبت بنص يتلى وحد الخمر بخبر يروى فكان أقرب إلى الدرء من حد الزنا والسرقة ويستوى في حد الزنا ان طاوعته المرأة على ذلك في دار الاسلام أو اكرهها لان حرمة الزنا في حقهما جيمعا قد اشتهرت وإذا شرب قوم نبيذا فكر بعضهم دون بعض حد من سكر لان مشروب بعضهم غير مشورب البعض فيعتبر في حق كل واحد منهم حاله كانه ليس معه غيره (ألا ترى) أن القوم إذا سقوا خمرا على مائده فمن علم انه خمر لزمه الحد ومن لم يعلم ذلك منهم لم يلزمه الحد والمحرم في حد الخمر كالحلال لانه لا تأثير للمحرم والاحرام في اباحة الشرب ولا في المنع من اقامة هذا الحد وإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ويحبس حتى يخف عنه الضرب ثم يحد للسكر لان حد القذف في معنى حق العباد وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بقذفه لانه مع سكره مخاطب (ألا ترى) أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذ حد الشرب من القذف على ما روى عن على رضى الله عنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة وإذا شرب الخمر في نهار رمضان حد حد الخمر ثم يحبس حيت يخف عنه الضرب ثم يعزر
[ 33 ] لافطاره في شهر رمضان لان شرب الخمر ملزم للحد ومهتك حرمة الشهر والصوم يستوجب التعزير ولكن الحد أقوى من التعزير فببتدأ باقامة الحد عليه ثم لا يوالي بينه وبين التعزير لكى يؤدى إلى الاتلاف والاصل فيه حديث على رضى الله عنه انه أتى بالنجاشى الحارثى قد شرب الخمر فحده ثم حبسه حتى إذا كان الغد أخرجه فضربه عشرين سوطا وقال هذا لجراءتك على الله وافطارك في شهر رمضان * رجل ارتد عن الاسلام ثم أتى به الامام وقد شرب خمرا أو سكر من غير الخمر أو سرق أو زنا ثم ناب وأسلم فانه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر والسكر فانه لا يحد فيهما لان المرتد كافر وحد الخمر والسكر لا يقام على أحد من الكفار لما بينا انه يعتقد اباحة سببه فإذا كان ارتكابه سببه في حال يعتقد اباحته لا يقام ذلك عليه فاما حد الزنا والسرقة فيقام على الكافر لاعتقاده حرمة سببه فيقام على المرتد بعد اسلامه أيضا كالذمي إذا باشر ذلك ثم أسلم وان لم يتب فلا حد عليه في شئ من ذلك غير حد القذف لان حد الزنا والسرقة خالص في حق الله تعالى وقد صارت مستحقة لله تعالى فانه يقتل على ردته ومتى اجتمع في حق الله تعالى النفس وما دونها يقتل ويلغى ما سوى ذلك وأما حد السرقة ففيه معنى حق العبد فيقام عليه ويضمن السرقة لحق المسروق منه فان شرب وهو مسلم فلما وقع في يد الامام ارتد ثم تاب لم يجد وان كان زنا أو سرق أقيم عليه الحد لان ما اعترض من الرده يمنع وجوب حد الخمر والسكر عليه فيمنع بقاؤه ولا يمنع وجوب حد الزنا والسرقة فكذلك لا يمنع البقاء وقد قال في آخر الكتاب إذا ارتد عن الاسلام ثم سرق أو زنا أو شرب الخمر أو سكر من غير الخمر ثم تاب وأسلم لم يحد في شئ من ذلك الا في القذف فان لم يتب لم يقم عليه أيضا شئ من الحدود غير حد القذف ويقتل وان أخذته وهو مسلم شاربا خمرا أو زانيا أو سارقا فلما وقع في يدك ارتد عن الاسلام فاستتبته فتاب أقيم عليه الحدود الا حد الخمر وهذه الرواية تخالف الرواية الاولى في فصل واحد وهو انه إذا زنا أو سرق في حال ردته لا يقام عليه الحد بعد توبته كما لا يقام قبل توبته لا المرتد بمنزلة الحربى فانه اعتقد محاربته لو تمكن منها والحربي إذا ارتكب شيأ من الاسباب الموجبة للحد ثم أسلم لا يقام عليه الحد فكذلك المرتد وفرق على هذه الرواية بين هذا وبين ما إذا زنا أو سرق وهو مسلم ثم ارتد ثم أسلم فقال هناك حين ارتكب السبب ما كان حربيا للمسلمين فيكون مستوجبا للحد ولم يزل تمكن الامام من اقامته عليه بنفس الردة الا انه كان لا يشتغل به قبل توتبه لاستحقاق نفسه بالردة
[ 34 ] وقد انعدم بالاسلام فلهذا يقام عليه وتزويج السكران ولده الصغير وهبته وما أشبه ذلك من تصرفاته قولا أو فعلا صحيح لانه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله انما يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء كان شرب مكرها أو طائعا فاما إذا شرب البنج أو شيأ حلوا فذهب عقله لم يقع طلاقه في تلك الحالة لانه بمنزلة المعتوه في التصرفات وان شهد رجلان على شهادة سكران أو شهد السكران على شهادة رجلين لم يصح ذلك من قبل انه رجل فاسق وانه سكران لا يستقر على شئ واحد فيما يخبر به لهذا لو ارتد في حال سكره لا تبين منه امراته استحسانا قال لا أظن سكرانا ينفلت من هذا واشباهه وقد بينا هذا في السير وإذا أتى الامام برجل شرب خمرا وشهد به عليه شاهدان فقال انما أكرهت عليه أو قال شربتها ولم أعرفها أقيم عليه الحد لان السبب الموجب للحد قد ظهر وهو يدعى عذرا مسقطا فلا يصدق على ذلك ببينة إذ لو صدق عليه من غير بينة لانسد باب اقامة حد الخمر أصلا وهذا بخلاف الزانى إذا ادعى النكاح لانه هناك ينكر السبب الموجب للحد فبالنكاح يخرج الفعل من أن يكون زنا محصنا وهنا بعد الاكراه والجهل لا ينعدم السبب وهو حقيقة شرب الخمر انما هذا عذر مسقط فلا يثبت الا ببينة يقيمها على ذلك ويكره للرجل أن يأكل على مائدة يشرب عليها الخمر هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه نهى أن يأكل المسلم على مائدة يشرب عليها الخمر ولان في ذلك تكثير جمع الفسقة واظهار الرضا بصنيعهم وذلك لا يحل للمسلم في عشر دواريق عصير عنب في قدر ثم يطبخ فيغلى فيقذف بالزبد فجعل يأخذ ذلك الزبد حتى جمع قدر دورق فانه يطبخ حتى يبقي ثلاثة دواريق ثلث الباقي لان ما أخذه من الزبد انتقص من أصل العصير فيسقط اعتباره في الحساب فظهر ان الباقي من العصير تسعة دواريق فانما يصير مثلثا إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثلاثة دواريق وان نقص منه دورق آخر في ذلك الغليان فكذلك الجواب لان ما نقص بالغليان في معني الداخل فيما بقى فلا يصير ذلك كان لم يكن وانما يلزمه الطبخ إلى أن يذهب ثلثا العصير * ولو صب رجل في قدر عشر دواريق عصير وعشرين دورقا ماء فان كان الماء يذهب بالطبخ قبل العصير فانه يطبخه حتى يذهب ثمانية اتساعه ويبقى التسع لانه إذا ذهب ثلثاه بالغليان فالذاهب هو الماء فقط فعليه أن يطبخه بعد ذلك حتى يذهب ثلثا العصير ويبقى ثلثه وهو سبع الجملة وان كانا يذهبان بالغليان معا طبخه حتى يذهب ثلثاه لانه ذهب بالغليان ثلثا
[ 35 ] العصير وثلثا الماء والباقى ثلث العصير وثلث الماء فهو وما لو صب الماء في العصير بعد ما طبخه على الثلث والثلثين سواء وإذا طبخ عصير حتى ذهب ثلثه ثم صنع منه مليقا فان كان ذلك قبل أن يتغير عن حاله فلا بأس به وان صنعه بعد ما غلى فتغير عن حال العصير فلا خير فيه لانه لما غلى واشتد صار محرما والمليق المتخذ من عين المحرم لا يكون حلالا كالمتخذ من الخمر فأما قبل أن يشتد فهو حلال الشرب فأما صنيع المليق من عصير فحلال وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلثه ثم تركه حتى برد ثم أعاد عليه الطبخ حتى ذهب نصف ما بقى فان كان أعاد عليه الطبخ قبل أن يغلى أو يتغير عن حال العصير فلا بأس به لان الطبخ في دفعتين إلى ذهاب الثلثين منه وفى دفعة سواء وان صنعه بعد ما غلي وتغير عن حال العصير فلا خير فيه لان الطبخ في المرة الثانية لا قى شيأ محرما فهو بمنزلة خمر طبخ حتى ذهب ثلثاه به وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلاثة اخماسه ثم قطع عنه النار فلم يزل حتى ذهب منه تمام الثلثين فلا بأس به لانه صار مثلثا بقوة النار فان الذى بقى منه من الحرارة بعد ما قطع عن النار أثر تلك النار فهو وما لو صار مثلثا والنار تحته سواء وهذا بخلاف مالو برد قبل أن يصير مثلثا لان الغليان بعد ما انقطع عنه أثر النار لا يكون الا بعد الشدة وحين اشتد فقد صار محرما بنفسه ولان الغليان بقوة لا ينقص منه شيأ بل يزيد في رقته بخلاف الغليان بقوة النار فان شرب الطلاء الذى قد طبخ حتى ذهب عشره فلا حد عليه أن يسكر لما بينا أنه ذهب بالطبخ شئ فيخرج من أن يكون خمرا وفى غير الخمر من الاشربة لا يجب الحد الا بالسكر وإذا استعط الرجل بالخمر أو اكتحل بها أو اقتطرها في اذنه أو داوى بها جائفة أو آمة فوصل إلى دماغه فلا حد عليه لان وجوب الحد يعتمد شرب الخمر وهو بهذه الافعال لا يصير شاربا وليس في طبعه ما يدعوه إلى هذه الافعال لتقع الحاجة إلى شرع الزاجر عنه ولو عجن دواء بخمر ولته أو جعلها أحد اخلاط الدواء ثم شربها والدواء هو الغالب فلا حد عليه وان كانت الخمر هي الغالبة فانه يحد لان المغلوب يصير مستهلكا بالغالب إذا كان من خلاف جنسه والحكم للغالب والله أعلم بالصواب (باب التعزير) (قال رحمه الله) ذكر عن الشعبي رحمه الله قال لا يبلغ بالتعزير أربعون سوطا وبه أخذ
[ 36 ] أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لان الاربعين سوطا أدنى ما يكون من الحد وهو حد العبيد في القذف والشرب وقال عليه الصلاة والسلام من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وهذا قول أبى يوسف الاول ثم رجع وقال يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا لان أدنى الحد ثمانون سوطا وحد العبد نصف الحر وليس بحد كامل وهذا مروى عن محمد أيضا وعن أبى يوسف انه يجوز أن يبلغ بالتعزير تسعة وسبعين سوطا وهذا ظاهر على الاصل الذى بينا وأما تقدير النقصان بالخمسة على الرواية الاولى فهو بناء على ما كان من عادته انه كان يجمع في اقامة الحد والتعزير بين خمسة أسواط ويضرب دفعة فانما نقص في التعزير ضربة واحدة وذلك خمسة أسواط وإذا أخذ الرجل مع المراة وقد أصاب منها كل محرم غير الجماع عزر بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا في كتاب الحدود أن كل من ارتكب محرما ليس فيه حد مقدر فانه يعزر ثم الرأى في مقدار ذلك إلى الامام ويبنى ذلك على قدر جريمته وهذه جريمة متكاملة فلهذا قدر التعزير فيها بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا أن الضرب في التعزير أشد منه في الحدود لانه دخله تخفيف من حيث نقصان العدد وانه ينزع ثيابه عند الضرر ويضرب على ظهره ولا يفرق على أعضائه انما ذلك في الحدود وإذا نقب السارق النقب وأخذ المتاع فأخذ في البيت أو أخذ وقد خرج بمتاع لا يساوى عشرة دراهم فانه يعزر لارتكابه محرما والمرأة في التعزير كالرجل لانها تشاركه في السبب الموجب للتعزير وإذا كان الرجل فاسقا متهما بالشر كله فاخذ عزر لفسقه وحبس حتى يحدث توبة لانه متهم وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في تهمة والذى يزنى في شهر رمضان نهارا فيدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه يعزر لافطاره لانه مرتكب للحرام بافطاره وان خرج من أن يكون زانيا بما ادعي من الشبهة ولا يحبس هنا لان الحبس للتهمة فاما جزاء الفعل الذى باشره فالتعزير وقد أقيم عليه والمسلم الذى يأكل الربا أو يبيع الخمر ولا ينزع عن ذلك إذا رفع إلى الامام يعزره وكذلك المخنث والنائحة والمغنية فان هؤلاء يعزرون بما ارتكبوا من المحرم ويحبسون حتى يحدثوا التوبة لانهم بعد اقامة التعزير عليهم مصرون على سوء صنيعهم وذلك فوق التهمة في ايجاب حبسهم إلى أن يحدثوا التوبة وإذا شتم المسلم امرأة ذمية أو قذفها بالزنا عزر لان الذمية غير محصنة فلا يجب الحد على على قاذفها ولكن قاذفها مرتكب ما هو محرم فيعزر وكذلك إذا قذف مسلمة قد زنت أو مسلما قد زنا أو أمة مسلمة لان المقذوف من هؤلاء غير محصن ولكن القاذف
[ 37 ] مرتكب ما هو حرام وهو اشاعة الفاحشة وهتك للستر على المسلم من غير حاجة وذلك موجب للتعزير عليه وإذا قطع اللصوص الطريق على قوم فلهم أن يقاتلوهم دفعا عن أنفسهم وأموالهم قال عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد وإذا استعانوا بقوم من المسلمين لم يحل لهم أن يعينوهم ويقاتلوهم معهم وان اتوا على أنفسهم لان النهى عن المنكر فرض وبذلك وصف الله تعالى هذه الامة بانهم خير أمة فلا يحل لهم أن يتركوا ذلك إذا قدروا عليه * قلت والرجل يخترط السيف على الرجل ويريد أن يضربه ولم يفعل أو شد عليه بسكين أو عصا ثم لم يضربه بشئ من ذلك هل يعزر قال نعم لانه ارتكب ما لا يحل من تخويف المسلم والقصد إلى قتله * قلت والرجل يوجد في بيته الخمر بالكوفة وهو فاسق أو يوجد القوم مجمتعين عليها ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها هل يعزرون قال نعم لان الظاهر ان الفاسق يستعد الخمر للشرب وان القوم يجتمعون عليه لارادة الشرب ولكن بمجرد الظاهر لا يتقرر السبب على وجه لا شبهة فيه فلا يمكن اقامة الحد عليهم والتعزير مما يثبت مع الشبهات فلهذا يعزرون وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من الخمر بالكوفة أو قال ركوة وقد كان بعض العلماء في عهد أبي حنيفة رحمه الله يقول يقام عليه الحد كما يقام على الشارب لان الذى يسبق إلى وهم كل أحد انه يشرب بعضها ويقصد الشرب فيما بقى معه منها الا أنه حكى أن أبا حنيفة رحمه الله قال لهذا القائل لم تحده قال لان معه آلة الشرب والفساد قال رحمه الله فارجمه إذا فان معه آلة الزنا فهذا بيان انه لا يجوز اقامة الحد بمثل هذا الظاهر والتهمة والله أعلم (باب من طبخ العصير) (قال رحمه الله) رجل طبخ عشرة أرطال عصير حتى ذهب منه رطل ثم اهراق ثلاثة أرطال منه ثم أراد ان يطبخ البقية حتى يذهب ثلثاها كم يطبخها قال يطبخها حتى يبقى منها رطلان وتسعا رطل لان الرطل الذاهب بالغليان في المعنى داخل فيما بقي وكان الباقي قبل أن ينصب منه شئ تسعة أرطال فعرفنا أن كل رطل من ذلك في معنى رطل وتسع لان الذاهب بالغليان اقتسم على ما بقى أتساعا فان انصب منه ثلاثة ارطال وثلاثة أتساع رطل يكون الباقي ستة أرطال وستة اتساع رطل فيطبخه حتى يبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل ولو كان ذهب بالغليان رطلان ثم اهراق منه رطلان قال يطبخه حتى يبقى منه رطلان ونصف لانه لما
[ 38 ] ذهب بالغليان رطلان فالباقي ثمانية أرطال كل رطل في معنى رطل وربع فلما انصب منه رطلان فالذي انصب في المعنى رطلان ونصف والباقى من العصير سبعة أرطال ونصف وان ذهب بالغليان خمسة أرطال ثم انصب رطل واحد منه أو أخذ رجل منه رطلا قال يطبخ الباقي حتى يبقى منه رطلان وثلثا رطل لانه لما ذهب بالغليان خمسة أرطال فما ذهب في المعنى داخل فيما بقي وصار كل رطل بمعنى رطلين فلما انصب من الباقي رطل كان الباقي بعده من العصير ثمانية أرطال فيطبخه إلى أن يبقى ثلث ثمانية أرطال وذلك رطلان وثلثا رطل وفى الكتاب أشار إلى طريق آخر في تخريج جنس هذه المسائل فقال السبيل أن يأخذ ثلث الجميع فيضربه فيما بقى بعد ما انصب منه ثم يقسمه على ما بقى بعد ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شئ فما خرج بالقسمة فهو حلال ما بقي منه وبيان هذا أما في المسألة الاولى فتأخذ ثلث العصير ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد ما انصب منه وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقى بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شئ وذلك تسعة وإذا قسمت عشرين على تسعة فكل جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفنا ان حلال ما بقى رطلان وتسعا رطل * وفى المسألة الثانية تأخذ أيضا ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقى بعد الانصباب وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم ذلك على ما بقى بعد الطبخ قبل الانصباب وهو ثمانية فكل قسم من ذلك اثنان ونصف فعرفنا ان حلال ما بقى منه رطلان ونصف * وفى المسألة الثالثة تأخذ ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقى بعد الانصباب وهو أربعة فيكون ثلاثة عشر وثلثا ثم تقسمه على ما بقى قبل الانصباب بعد الطبخ وذلك خمسة فيكون كل قسم اثنين وثلثين فلهذا قلنا يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل وفى الاصل قال حتى يبقى رطلان وثلاثة أخماس وثلث خمس وذلك عبارة عن ثلثى رطل إذا تأملت وربما يتكلف بعض مشايخنا رحمهم الله لتخريج هذه المسائل عن طريق الحساب من الجبر والمقابلة وغير ذلك ولكن ليس في الاشتغال بها كثير فائدة هنا والله أعلم (كتاب الاكراه) (قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله تعالى إملاء الاكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفى به رضاه أو يفسد به اختياره من غير ان تنعدم به الاهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب لان المكره
[ 39 ] مبتلى والابتلاء يقرر الخطاب ولا شك أنه مخاطب في غير ما أكره عليه وذلك فيما أكره عليه حتى يتنوع الامر عليه فتارة يلزمه الاقدام على ما طلب منه وتارة يباح له ذلك وتارة يرخص له في ذلك وتارة يحرم عليه ذلك فذلك آية الخطاب ولذلك لا ينعدم أصل القصد والاختيار بالاكراه كيف ينعدم ذلك وانما طلب منه أن يختار أهون الامرين عليه وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن أثر الاكراه التام في الافعال في نقل الفعل من المكره إلى المكره وهذا ليس بصحيح فانه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره والمسائل تشهدد بخلاف هذا أيضا فان البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر ولكن الاصح أن تأثير الاكراه في جعل المكره آلة للمكره فيصير الفعل منسوبا إلى المكره بهذا الطريق وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالاكراه ينعدم الاختيار منه أصلا ولكن لانه يفسد اختياره به لتحقق الالجاء فالمرء مجبول على حب حياته وذا يحمله على الاقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة للمكره لانعدام اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح ولهذا اقتصر على ما يصلح أن يكون آلة له فيه دون ما لا يصلح كالتصرفات قولا فانه لا يتصور تكلم المرء بلسان غيره وتأثير الاكراه في هذه التصرفات في انعدام الرضا من المكره بحكم الشبه وشبهه بعض أصحابنا رحمهم الله بالهزل فان الهزل عدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب فالاكراه كذلك الا أن الهازل غير محمول على التكلم والمكره محمول على ذلك وبذلك لا ينعدم اختياره كما بينا وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فان شرط الخيار يعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب ثم في الاكراه يعتبر معني في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به فالمعتبر في المكره تمكنه من ايقاع ما هدده به فانه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فاكراهه هذيان وفى المكره المعتبر أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في ايقاع ما هدده به عاجلا لانه لا يصير ملجأ محمولا طبعا الا بذلك وفيما أكره به بان يكون متلفا أو مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الاكراه اما لحقه أو لحق آدمى آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الاحوال
[ 40 ] يختلف الحكم فالكتاب لتفصيل هذه الجملة وقد ابتلى محمد رحمه الله بسبب تصنيف هذا الكتاب على ما حكى عن ابن سماعة رحمه الله قال لما صنف محمد رحمه الله هذا الكتاب سعى به بعض حساده إلى الخليفة فقال انه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاعتاظ لذلك وأمر باحضاره وأتاه الشخص وأنا معه فأدخله على الوزير أولا في حجرته فجعل الوزير يعاتبه على ذلك فأنكره محمد أصلا فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره وتسورت حائط بعض الجيران لانهم كانوا سمروا على بابه فدخلت داره وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب الاكراه فالقيته في جب في الدار لان الشرط أحاطوا بالدار قبل خروجي منها فلم يمكني أن أخرج واختفيت في موضع حتى دخلوا وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بامر الوزير وفتشوها فلم يجدوا شيأ مما ذكره الساعي لهم فندم الخليفة على ما صنع به واعتذر إليه ورده بجميل فلما كان بعد أيام أراد محمد رحمه الله أن يعيد تصنيف الكتاب فلم يجبه خاطره إلى مراده فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي البئر لان ماءها قد تغير فلما نزل العامل في البئر وجد الكتاب في آجرة أو حجر بناء من طى البئر لم يبتل فسر محمد رحمه الله بذلك وكان يخفى الكتاب زمانا ثم أظهره فعد هذا من مناقب محمد وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن ابراهيم رحمه الله قال في الرجل يجبره السلطان على الطلاق والعتاق فيطلق أو يعتق وهو كاره انه جائز واقع ولو شاء الله لابتلاه باشد من هذا وهو يقع كيفما كان وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا أو غيره أكرهه بوعيد متلف أو غير متلف والخلاف في هذا الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين رحمهم الله ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول ابراهيم وفى قوله ولو شاء الله لابتلاه باشد من هذا اشارة إلى ما ذكرنا من بقاء الاهلية والخطاب مع الاكراه وانه غير راض في ذلك ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الايقاع ومع الهزل من الموقع وان كان معلوما وكانه أخذ هذا اللفظ مما ذكره علي رضي الله عنه في امرأة المفقود انها ابتليت فلتصبر ولو شاء الله لابتلاها باشد من هذا وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله انه أجاز طلاق المكره وعن سعيد بن المسيب رضى الله عنه انه ذكر له أن رجلا ضرب غلامه حتى طلق امرأته فقال بئس ما صنع وانما فهموا منه بهذ الفتوى بوقوع الطلاق حتى
[ 41 ] قال يحيى بن سعيد راوي الحديث أي هو جائر عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق بينه وبين امرأته بغير رضاه وانما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ومن قال لا يقع طلاق المكره يقول مراد سعيد رضي الله عنه بئس ما صنع في اكتسابه بالاكراه وتضييعه وقت نفسه وقد رد عليه الشرع قصده وجعل طلاق المكره لغوا ولكن الاول أظهر وأصل هذا فيما إذا باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ثم أخبر المالك به فقال بئس ما صنعت وهذا اللفظ في رواية هشام عن محمد لا يكون اجازة للبيع بخلاف قوله نعم ما صنعت أو أحسنت أو أصبت فان في اللفظ الاول اظهار الكراهة لصنعه وفى اللفظ الثاني اظهار الرضا به وروى ابن سماعة رحمه الله على عكس هذا ان قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في العادة فيكون ردا لا اجازة وقوله بئس ما صنعت يكون اجازة لانه اظهار للتأسف على ما فاته وذلك انما يتحقق إذا نفذ البيع وزال ملكه فجعلناه اجازة لذلك وعن صفوان بن عمرو الطائى أن رجلا كان مع امرأته نائما فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت لتطلقني ثلاثا ألبتة أو لاذبحنك فناشدها الله فابت عليه فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق وفيه دليل وقوع طلاق المكره لان لقوله عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق تأويلين أحدهما انها بمعنى الاقالة والفسخ أي لا يحتمل الطلاق في الفسخ بعد وقوعه وانما لا يلزمه عند الاكراه ما يحتمل الاقالة أو يعتمد تمام الرضا والثانى ان المراد انما ابتليت بهذا لاجل يوم القيلولة وذلك لا يمنع وقوع الطلاق وبطريق آخر يروى هذا الحديث أن رجلا خرج مع امراته إلى الجبل ليمتار العسل فلما تدلى من الجبل بحبل وضعت السكين على الحبل فقالت لتطلقني ثلاثا أو لاقطعنه فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستفتى فقال عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق وأمضى طلاقه وذكر نظير هذا عن عمرو بن شرحبيل رضى الله عنه أن أمرأة كانت مبغضة لزوجها فراودته على الطلاق فأبى فلما رأته نائما قامت إلى سيفه فأخذته ثم وضعته على بطنه ثم حركته برجلها فلما استيقظ قالت له والله لانفذنك به أو لتطلقني ثلاثا فطلقها فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستغاث به فشتمها وقال ويحك ما حملك على ما صنعت فقالت بغضى اياه فامضى طلاقه وهو دليل لنا على أن طلاق المكره واقع ولا يقال في هذا كله ان هذا الاكراه كان من غير السلطان لان الاكراه بهذه
[ 42 ] الصفة يتحقق بالاتفاق فانه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من ايقاع ما خوفته به وان كان ذلك يعارض قوله فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة والصحبة والى الظلم كما يليق بفعلها لا أن يكون ذلك ما ليس بموجود فيها لان ذلك بهتان لا يظن به وعن أبى قلابة قال طلاق المكره جائز وعن عمر رضى الله عنه قال أربع واجبات على من تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر يعنى النذر المرسل إذ اليمين بالنذر يمين وبه نأخذ فنقول هذا كله جائز لازم ان كان جادا فيه أو هازلا أكره عليه أو لم يكره لانه لا يعتمد تمام الرضا ولا يحتمل الفسخ بعد وقوعه وعن علي رضى الله عنه قال ثلاث لا لعب فيه الطلاق والعتاق والصدقة يعنى النذر بالصدقة ومراده أن الهزل والجد في هذه الثلاثة سواء فالهازل لاعب من حيث انه يريد بالكلام غير ما وضع له الكلام وذكر نظيره عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال ثلاث لا لعب بهن واللعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق وعن ابن المسيب رضى الله عنه قال ثلاث ليس فيهن لعب الطلاق والنكاح والعتاق وأيد هذا كله حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والرجعة والنكاح انما أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره فللوقوع حكم الجد من الكلام والهزل ضد الجد ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد فلان لا يمتنع الوقوع بسبب الاكراه أولى لان الاكراه لا يضاد الجد فانه أكره على الجد وأجاب إلى ذلك وانما ضد الاكراه الرضا فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الاكراه لانه لما لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد فلان لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن اكراه أولى وعن عمر رضى الله عنه أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يدى الطلاق والعتاق والنكاح والنذر وقوله مبهمات أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال فرس بهيم إذا كان على لون واحد وقوله مقفلات أي لازمات لا تحتمل الرد بسبب العذر وقد بين ذلك بقوله ليس فيهن رد يدى وعن الشعبي رضى الله عنه قال إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو جائز وان كان لصا فلا شئ وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله قال الاكراه يتحقق من السلطان ولا يتحقق من غيره ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على انه كان من مذهب الشعبي أن المكره على الطلاق إذا كان سلطانا يقع ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا ولكنا نقول مراده بيان الوقوع بطريق التشبيه يعنى أن المكره على الطلاق وان كان سلطانا فالطلاق واقع جائز
[ 43 ] فإذا كان لصا أولى أن يكون واقعا لان اكراه اللص ليس بشئ وعن على وابن عباس رضى الله عنهم قالا كل طلاق جائز الا طلاق الصبي والمعتوه وانما استدل بقولهما على وقوع طلاق المكره لانهما حكما بلزوم كل طلاق الا طلاق الصبي والمعتوه والمكره ليس بصبى ولا معتوه ولا هو في معناهما لبقاء الاهلية والخطاب مع الاكراه وعن الزهري رحمه الله ان فتى أسود كان مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه وكان يقرأ القرآن فبعث أبو بكر رضى الله عنه رجلا يسعى على الصدقة وقال له اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ويعنك فتعطيه من سهمك فذهب بالفتى فرجع وقد قطعت يده فقال ويحك ما لك قال زعموا أنى سرقت فريضة من فرائض الابل فقطعني قال أبو بكر رضي الله عنه والله لئن وجدته قطعك بغير حق لاقيدنك منه قال فلبثوا ما لبثوا ثم ان متاعا لامرأة أبى بكر سرق وذلك الاسود قائم يصلى فرفع يده إلى السماء وقال اللهم أظهر على السارق اللهم اظهر على السارق فوجدوا ذلك المتاع عنده فقال أبو بكر رضى الله عنه ويحك ما أجهلك بالله ثم أمر به فقطع رجله فكان أول من قطعت رجله وقد بينا فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة واختلاف الروايات أنه ذكر هناك أن الفتى كان أقطع اليد والرجل فقطعت يده اليسرى وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضى الله عنه رجله وانما أورد الحديث هنا لحرف وهو قوله والله لئن وجدته قطعك بغير حق لاقيدنك منه وبه نأخذ فنقول إذا بعث الخليفة عاملا فأمر رجلا بقطع يد غيره أو قتله بغير حق فعله أن القصاص على العامل الذى أمر به لان أمر مثله اكراه فان من عادة العمال أنهم يأمرون بشئ ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل وغيره والفعل يصير منسوبا إليه بمثل هذا الامر قال الله تعالى يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين واللعين ما كان يباشر حقيقته ولكنه كان مطاعا بامره والامر من مثله اكراه والكلام في الاكراه على القتل يأتي في موضعه وعن أبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال أخذ المشركون عمار بن ياسر رضى الله عنه فلم يتركوه حتى سب الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام ما وراءك قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال عليه الصلاة والسلام فيكف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالايمان قال عليه الصلاة والسلام ان عادوا فعد ففيه دليل انه لا بأس للمسلم أن يجرى كلمة الشرك على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن
[ 44 ] القلب بالايمان وان ذلك لا يخرجه من الايمان لانه لم يترك اعتقاده بما أجراه على لسانه (ألا ترى) أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمار بن ياسر رضى الله عنه عن حال قلبه فلما أخبر أنه مطمئن بالايمان لم يعاتبه على ما كان منه وبعض العلماء رحمهم الله يحملون قوله عليه الصلاة والسلام فان عادوا فعد على ظاهره يعنى ان عادوا إلى الاكراه فعد إلى ما كان منك من النيل منى وذكر آلهتهم بخير وهو غلط فانه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك ولكن مراده عليه الصلاة والسلام فان عادوا إلى الاكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالايمان وهذا لان التكلم وان كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل (ألا ترى) أن حبيب بن عدى رضى الله لما أمتنع حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء وقال هو رفيقي في الجنة (وقصته) أن المشركين أخذوه وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يسب آلهتهم ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير فأجمعوا على قتله فلما أيقن انهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلى ركعتين فأوجز صلاته ثم قال انما أوجزت لكيلا تظنوا انى أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجه ليكون هو ساجدا لله حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم أنى لا أري هنا الا وجه عدو فاقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام اللهم احص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشا يقول ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي جنب كان لله مصرعي فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئه سلام حبيب رضى الله عنه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقال هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة فبهذا تبين أن الامتناع أفضل وعن أبى عبيدة أيضا في قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه) قال ذلك عمار بن ياسر رضى الله عنه (ولكن من شرح بالكفر صدرا) عبيد الله بن أبى سرح فانه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخذه المشركون وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر رضى الله عنه أجابهم إلى ذلك معتقدا فأكرموه وكان معهم إلى أن فتح رسول الله صلى الله وسلم مكة فجاء به عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يبايعه وفيه قصة وهو المراد بقوله تعالى ولكن من شرح بالكفر صدرا فعرفنا انه إذا بدل الاعتقاد يحكم بكفره مكرها كان أو طائعا وهذا
[ 45 ] لانه لا ضرورة إلى تبديل الاعتقاد فانه لا اطلاع لاحد من العباد على اعتقاده وهو المراد أيضا من قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه فأما قوله تعالى الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان فهو عمار بن ياسر رضى الله عنه وقد ذكرنا قصته وعن جابر الجعفي انه سأل الشعبي رحمه الله عن الرجل يأمر عبده أن يقتل رجلا قال فيها ثلاثة أقاويل قائل يقتل العبد وآخر قال يقتل المولى والعبد وآخر قال يقتل المولى والمراد بيان حكم القصاص عند القتل مكرها انه على من يجب فان أمر المولى عبده بمنزلة الاكراه لانه يخاف على نفسه ان خالف أمره كأمر السلطان في حق رعيته ثم لم يذكر القول الرابع وهو الذى ذهب إليه أبو يوسف انه لا يقتل واحد منهما وكان هذا القول لم يكن في السلف وانما سبق به أبو يوسف رحمه الله واستحسنه وبيان المسألة يأتي في موضعه وفى الحديث دليل ان المفتى لا يقطع الجواب على شئ ولكن يذكر أقاويل العلماء في الحادثة كما فعلها الشعبي رحمه الله ولكن هذا إذا كان المستفتى ممن يمكنه التمييز بين الاقاويل ويرجح بعضها على البعض فان كان بحيث لا يمكنه ذلك فلا يحصل مقصوده ببيان أقاويل العلماء رحمهم الله فلا بد للمفتي من أن يبين له أصح الاقاويل عنده للاخذ به وعن الحسن البصري رحمه الله التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة الا انه كان لا يجعل في القتل تقية وبه نأخذ والتقية ان يقى نفسه من العقوبة بما ظهره وان كان يضمر خلافه وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول انه من النفاق والصحيح ان ذلك جائز لقوله تعالى الا أن تتقوا منهم تقاة واجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه لعمار بن ياسر رضى الله عنه الا أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجميعن فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق وقد جوزه بعض الروافض لعنهم الله ولكن تجويز ذلك محال لانه يؤدى إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة لاحتمال أن يكون قال ذلك أو فعله تقية والقول بهذا محال وقوله الا أنه كان لا يجعل في القتل تقية يعنى إذا أكره على قتل مسلم ليس له أن يقتله لما فيه من طاعة المخلوق في معصية الخالق وايثار روحه على روح من هو مثله في الحرمة وذلك لا يجوز وبهذا يتبين عظم حرمة المؤمن لان الشرك بالله أعظم الاشياء وزرا وأشدها تحريما قال الله تعالى تكاد السموات يتفطرن منه إلى قوله عزوجل أن دعوا للرحمن ولدا ثم يباح له اجراء كلمة الكفر في حالة الاكراه
[ 46 ] ولا يباح الاقدام على القتل في حالة الاكراه فيه يتبين عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى وهو مراد ابن عباس رضى الله عنه انما التقية باللسان ليس باليد يعنى القتل والتقية باللسان هو اجراء كلمة الكفر مكرها وعن حذيفة رضى الله عنه قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف قالوا له وكيف ذلك قال ان الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشب يعنى الذى يراد صلبه يضرب بالسوط حتى يصعد السلم وان كان يعلم ما يراد به إذا صعد وفيه دليل ان الاكراه كما يتحقق بالتهديد بالقتل يتحقق بالتهديد بالضرب الذى يخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله تعالى ذوقوا فتنتكم وقال الله تعالى ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي عذبوهم فمعناه عذاب السوط أشد من عذاب السيف لان الالم في القتل بالسيف يكون في ساعته وتوالى الالم في الضرب بالسوط إلى أن يكون آخر الموت وقد كان حذيفة رضى الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روى أنه يدارى رجلا فقيل له انك منافق فقال لا ولكني أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وقد ابتلى ببعض ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى أن المشركين أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوه فلما تخلص منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم وذكر عن مسروق رحمه الله قال بعث معاوية رضى الله عنه بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق رحمه الله قال والله لو أنى أعلم أنه يقتلنى لغرقتها ولكني أخاف أن يعذبنى فيفتننى والله لا أدرى أي الرجلين معاوية رجل قد زين له سوء عمله أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا وقيل هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة فأمر معاوية رضى الله عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الاسلحة والكراع للغزاة فيكون دليلا لابي حنفية رحمه الله في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله كما هو طريق الاستحسان الذى ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك ومسروق من علماء التابعين وكان يزاحم الصحابة رضى الله عنهم في الفتوى وقد رجع ابن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد ولكن مع هذا قول معاوية رضى الله عنه مقدم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض كما قال على رضى الله عنه من أراد ان يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد يعنى بقول زيد رضى الله عنه وانما قلنا هذا لانه لا يظن بمسروق رحمه الله انه قال في
[ 47 ] معاوية رضى الله عنه ما قال عن اعتقاد وقد كان هو من كبار الصحابة رضى الله عنهم وكان كاتب الوحى وكان أمير المؤمنين وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملك بعده فقال له عليه السلام يوما إذا ملكت أمر أمتى فاحسن إليهم الا أن نوبته كانت بعد انتهاء توبة على رضى الله عنه ومضي مدة الخلافة فكان هو مخطئأ في مزاحمة على رضى الله عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه الله كان ينال منه في الابتداء فرأى في منامه كان شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ويقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلك فقال انك تنال من واحد من كبار الصحابة رضى الله عنه فاياك ثم اياك وقد قيل في تأويل الحديث أيضا ان تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روى انه وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضى الله عنه كان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبى هريرة ذبابتان فعرفها انه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك ولكن مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط فلا يجوز اتخاذ شئ من ذلك ولا بيعه ثم كان تغريق ذلك من الامر بالمعروف عنده وقد ترك ذلك مخافة على نفسه وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية وانه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ومقصوده من ايراد الحديث ان يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الاكراه كما يتحقق في القتل لانه قال لو علمت انه يقتلنى لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبنى فيفتننى فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال لا جناح على في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها وانما أراد بيان جواز التقية في اجراء كلمة الكفر إذا أكرهه المشرك عليها فالظالم هو الكافر قال الله تعالى والكافرون هم الظالمون ولم يرد به طاعة الظالم في القتل لان الاثم على المكره في القتل لا يندفع بعذر الاكراه بل إذا قدم على القتل كان آثما اثم القتل على ما بينه والله أعلم (باب ما يكره عليه اللصوص غير المتأولين) (قال رحمه الله) ولو أن لصوصا من المسلمين غير المتأولين أو من أهل الذمة تجمعوا فغلبوا على مصر من أمصار المسلمين وأمروا عليهم أميرا فأخذوا رجلا فقالوا لنقتلنك
[ 48 ] أو لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لحم هذا الخنزير ففعل شيأ من ذلك كان عندنا في سعة لان حرمة هذه الاشياء ثابتة بالشرع وهى مفسدة بحالة الاختيار فان الله تعالى استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله عزوجل الا ما اضطررتم إليه والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فظهر أن التحريم مخصوص بحالة الاختيار وقد تحققت الضرورة هنا لخوف التلف على نفسه بسبب الاكراه فالتحقت هذه الاعيان في حالة الضرورة بسائر الاطعمة والاشربة فكان في سعة من التناول منها وان لم يفعل ذلك حتى يقتل كان آثما وعن أبى يوسف رحمه الله انه لا يكون آثما وكذلك هذا فيمن أصابته مخمصة فلم يتناول من الميتة حتى مات فعلى ظاهر الرواية يكون آثما وعلى رواية أبى يوسف لا يكون آثما فالاصل عند أبى يوسف أن الاثم ينتفى عن المضطر ولا تنكشف الحرمة بالضرورة قال الله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه وقال تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فان الله غفور رحيم وهذا لان الحرمة بصفة انها ميتة أو خمر وبالضرورة لا ينعدم ذلك فإذا امتنع كان امتناعه من الحرام فلا يكون آثما فيه وجه ظاهر الرواية ان الحرمة لا تتناول حالة الضرورة لانها مستثناة بقوله الله تعالى الا ما اضطررتم إليه فاما أن يقال يصير الكلام عبارة عما وارء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقى على ما كان في حالة الضرورة أو يقال الاستثناء من التحريم اباحة وإذا ثبتت الاباحة في حالة الضرورة فامتناعه من التناول حتى تلف كامتناعه من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه فيكون آثما في ذلك وصفة الخمرية توجب الحرمة لمعنى الرفق بالمتناول وهو أن يمنعه من استعمال عقله ويصده عن ذكر الله وعن الصلاة وكذلك لحم الخنزير لما في طبخ الخنزير من الانتهاب وللغذاء أثر في الخلق والرفق هنا في الاباحة عند الضرورة لان اتلاف البعض أهون من اتلاف الكل وفى الامتناع من التناول هلاك الكل فتثبت الاباحة في هذه الحالة لهذا المعنى وكذلك لو أوعد بقطع عضو أو بضرب مائة سوط أو أقل منها مما يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه لان حرمة الاعضاء كحرمة النفس (ألا ترى) أن المضطر كما لا يباح له قتل الانسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو من أعضائه والضرب الذى يخاف منه التلف بمنزلة القتل على ما بينا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف والاعضاء في هذا سواء حتى لو أوعده بقطع أصبع أو أنملة يتحقق به الالجاء فكل ذلك محرم باحترام النفس تبعا لها ولو أوعده بضرب سوط أو سوطين لم يسعه
[ 49 ] تناول ذلك لانه لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه بما هدده به انما يغمه ذلك أو يؤلمه ألما يسيرا والالجاء لا يتحقق به (ألا ترى) أن بالاكراه بالحبس والقيد لا يتحقق الالجاء حتى لا يباح له تناول هذه الاشياء والغم الذى يصيبه بالحبس ربما يزيد على ما يصيبه بضرب سوط أو سوطين (ألا ترى) أن الجهال يتهازلون فيما بينهم بهذا المقدار وكذلك كل ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو ذهاب عضو في أكثر الرأى وما يقع في القلب لان غالب الرأى يقام مقام الحقيقة فيما لا طريق إلى معرفته حقيقة قال وقد وقت بعضهم في ذلك أدنى الحدود أربعين سوطا فان هدد باقل منها لم يسعه الاقدام على ذلك لان ما دون الاربعين مشروع بطريق التعزير والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنا نقول نصب المقدار بالرأى لا يكون ولا نص في التقدير هنا وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه فان وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ وان خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ وان كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا نقول في التعزير للامام أن يبلغ بالتعزير تسعة وثلاثين سوطا إذا كان في أكثر رأيه انه لا يتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه وكذلك ان تغلب هؤلاء اللصوص على بلد ولكنهم أخذوا رجلا في طريق أو مصر لا يقدر فيها على غوث لان المعتبر خوفه التلف على نفسه وذلك بتمكنهم من ايقاع ما هددوه به قبل أن يحضر الغوث ولو توعوده على شئ من ذلك بحبس سنة أو بقيد ذلك من غير أن يمنعوه طعاما ولا شرابا لم يسعه الاقدام على شئ من ذلك لان الحبس والقيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على نفس ولا عضو ولدفع الحزن لا يسعه تناول الحرام (ألا ترى) ان شارب الخمر في العادة انما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الالجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو نحوه وذلك بعيد وان قالوا لنجيعنك أو لتفعلن بعض ما ذكرنا لم ينبغ له أن يفعل ذلك حتى يجئ من الجوع ما يخاف منه التلف لان الجوع شئ يهيج من طبعه وبادى الجوع لا يخاف منه التلف انما يخاف التلف عند نهاية الجوع بان تخلو المعدة عن مواد الطعام فتحترق وشئ منه لا يوجد عند أدنى الجوع (ألا ترى) ان الاكراه في هذا معتبر بالضرورة والمضطر الذى يخاف على نفسه من العطش والجوع يباح له تناول الميتة وشرب الخمر ولا يباح له ذلك عند أدنى الجوع ما لم يخف التلف على نفسه وهذا بخلاف ما تقدم إذا هددوه بضرب سوط
[ 50 ] فان هناك يباح له التناول ولا يلزمه أن يصبر إلى أن يبلغ الضرب حدا يخاف منه التلف على نفسه لان الضرب فعل الغير به فينظر إلى ما هدده به فإذا كان يخاف منه التلف يباح الاقدام عليه باعتبار ان تمكنه من ايقاع ما هدده به يجعل كحقيقة الايقاع والجوع هنا يهيج من طبعه وليس هو فعل الغير به فانما يعتبر القدر الموجود منه وقد قيل انما يعتبر إذا كان يعلم أن الجوع صار بحيث يخاف منه التلف وأراد أن يتناول مكنوه من ذلك فاما إذا كان يعلم انه لو صبر إلى تلك الحالة ثم أراد أن يتناول لم يمكنوه من ذلك فليس له أن يتناول الا إذا كان بحيث يلحقه الغوث إلى أن يتنهى حاله إلى ذلك فحينئذ لا يسعه الاقدام عليه بادني الجوع قال وكل شئ جاز له فيه تناول هذه المحرمات من الاكراه فكذلك يجوز عندنا الكفر بالله إذا أكره عليه وقلبه مطمئن بالايمان وهذا يجوز في العبادة فان حرمة الكفر حرمة ثابتة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن مراده انه يجوز له اجراء كلمة الشرك على اللسان مع طمأنينة القلب بالايمان لان الالجاء قد تحقق والرخصة في اجراء كلمة الشرك ثابتة في حق الملجأ بشرط طمأنينة القلب بالايمان الا أن هنا ان امتنع كان مثابا على ذلك لان الحرمة باقية فهو في الامتناع متمسك بالعزيمة والمتمسك بالعزيمة أفضل من المترخص بالرخصة قال وقد بلغنا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ما من كلام أتكلم به يدرأ عنى ضربتين بسوط غير ذى سلطان الا كنت متكلما به وانما نضع هذا على الرخصة فيما فيه الالم الشديد وان كان سوطين فاما أن نقول السوطان اللذان لا يخاف منهما تلف يوجبان الرخصة له في اجراء كلمة الشرك فهذا مما لا يجوز أن يظن بعبد الله رضى الله عنه وأما تصرف هذا اللفظ منه على سبيل المثل فلبيان الرخصة عند خوف التلف وقيل السوطان في حقه كان يخاف منهما التلف لضعف نفسه فقد كان بهذه الصفة على ما روى انه صعد شجرة يوما فضحكت الصحابة رضى الله عنهم من دقة ساقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تضحكوا فهما ثقيلان في الميزان ولو أن هولاء اللصوص قالوا شيأ من ذلك للرجل والرجل لا يرى أنهم يقدمون عليه لم يسعه الاقدام على المحرم لان المعتبر خوف التلف ولا يصير خائفا التلف إذا كان يعلم انهم لا يقدمون عليه وان هددوه به وقد بينا ان ما لا طريق إلى معرفته حقيقة يعتبر فيه غالب الرأى فان كان لا يخاف أن يقدموا عليه في أول مرة حتى يعاودوه لم ينبغ له أن يقدم على ذلك حتى يعاودوه وهذا على ما يقع القلب (ألا ترى) انك لو رأيت رجلا ينقب عليك دارك من
[ 51 ] خارج أو دخل عليك ليلا من الثقب بالسيف وخفت أن أنذرته يضربك وكان على أكثر رأيك ذلك وسعك أن تقتله قبل أن تعلمه إذا خفت أن يسبقك ان أعلمته وفى هذا اتلاف نفس ثم أجاز الاعتماد على غالب الرأى لتعذر الوقوع على حقيقته فكذلك فيما سبق ولو هددوه بقتل أو اتلاف عضو أو بحبس أو قيد ليقر لهذا الرجل بالف درهم فاقر له به فالاقرار باطل اما إذا هدوده بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الاقرار محمول عليه والاقرار خبر متميل بين الصدق والكذب فانما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك ينعدم بالالجاء وكذلك ان هددوه بحبس أو قيد لان الرضا ينعدم بالحبس والقيد بما يلحقه من الهم والحزن به وانعدام الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في اقراره ثم قد بينا أن الاكراه نظير الهزل ومن هزل باقراره لغيره وتصادقا على انه هزل بذلك لم يلزمه شئ فكذلك إذا أكره عليه * فان قيل لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار يمنع صحة الاقرار * قلنا لا كذلك بل متى صح شرط الخيار مع الاقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال كفلت لفلان عن فلان بألف درهم على انى بالخيار لا يلزمه المال فاما إذا أطلق الاقرار بالمال وهو خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار والاكراه هنا متحقق فانما يعتبر بموضع يصح فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام لان المؤثر هناك الالجاء وذلك ما يخاف منه التلف وهنا المانع من وجوب المال انعدام الرضا بالالتزام وقد انعدم الرضا بالاكراه وان كان بحبس أو قيد قال شريح رحمه الله القيد كره والوعيد كره والضرب كره والسجن كره وقال عمر رضى الله عنه ليس الرجل على نفسه بامين إذا ضربت أو بغت أو جوعت أي هو ليس بطائع عند خوف هذه الاشياء وإذا لم يكن طائعا كان مكرها ولو توعدوه بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الاقرار بألف فأقر به كان الاقرار جائزا لانه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد فالجهال قد يتهازلون به فيما بينهم فيحبس الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم أو يقيد من غير أن يغمه ذلك وقد يفعل المرء ذلك بنفسه فيجعل القيد في رجله ثم يمشى تشبيها بالمقيد أرأيت لو قالوا له لنطرقنك طرقة أو لنسمنك أو لتقرن به أما كان اقراره جائز والحد في الحبس الذى هو اكراه في هذا ما يجئ منه الاغتمام البين وفى الضرب الذى هو اكراه ما يجد منه الالم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لان نصب المقادير بالرأى لا يكون ذلك على قدر
[ 52 ] ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى انه اكراه أبطل الاقرار به لان ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس فالوجيه الذى يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم نقدر فيه بشئ وجعلناه موكولا إلى رأى القاضى ليبنى ذلك على حال من ابتلى به ولو أكرهوه على أن يقر لرجل بألف درهم فأقر له بخمسمائة كان باطلا لانهم حين أكرهوه على ألف فقد أكرهوه على أقل منها فالخمسمائة بعض الالف ومن ضرورة امتناع صحة الاقرار بالالف إذا كان مكرها امتناع صحة اقراره بما هو دونه ولان هذا من عادات الظلمة أنهم يكرهون المرء على الاقرار وبدل الحط بألف ويقنعون منه ببعضه فبهذا الطريق جعل مكرها على ما دون الالف ولو أقر بالفين لزمه ألف درهم لانه طائع في الاقرار في احد الالفين وليس من عادات الظلمة أن يتحكموا على المرء بمال ومرادهم أكثر من ذلك وفرق أبو حنيفة بين هذا وبين ما إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين فان هناك لا تقبل الشهادة على شئ وقال هناك لا يصح اقراره بقدر ألف وتصح الزيادة لان في الشهادة تعتبر الموافقة من الشاهدين لفظا ومعنى وقد انعدمت الموافقة لفظا فالالف غير الالفين وهنا المكره مضار متعنت فانما يعتبر في حقه المعنى دون اللفظ وقد قصد الاضرار به بالزام الالف اياه باقراه فيرد عليه قصده ولا يلزمه الالف بما أقر به ويلزمه ما زاد عليه ولو أقر بالف دينار لزمته لان الدراهم والدنانير جنسان حقيقة فيكون هو طائعا في جميع ما أقر به من الجنس الآخر ولا يقال الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد في الاحكام لان هذا في الانشاآت فاما في الاخبارات فهما جنسان كما في الدعوى والشهادة فانه إذا ادعى الدراهم وشهد له الشهود بالدنانير لا تقبل والاقرار اخبار هنا فالدراهم والدنانير فيه جنسان وكذلك ان أقر له بنصف غير ما أكرهوه عليه من المكيل أو الموزون فهو طائع متى أقر به ولو أكرهوه على أنه يقر له بألف فأقر له ولفلان الغائب بألف فالاقرار كله باطل في قول أبى حنيفة وأبى يوسف سواء أقر الغائب الشركة أو أنكرها وقال محمد أن صدقه الغائب فيما أقر به بطل الاقرار كله وان قال لى عليه نصف هذا المال ولا شركة بينى وبين هذا الذى أكرهوه على الاقرار له جاز الاقرار للغائب بنصف المال وأصل المسألة ما بيناه في الاقرار ان المريض إذا أقر لوارثه ولاجبنى بدين عند أبى حنيفة وابى يوسف الاقرار باطل على كل حال لانه أقر بأن المال مشترك بينهما ولا وجه لاثبات الشركة للوارث فيبطل الاقرار
[ 53 ] كله وهنا أقر بالمال مشتركا بينهما ولا وجه لاثبات الشركة لمن أكره على الاقرار له فكان الاقرار باطلا وكذلك عند محمد ان صدقه الاجنبي بالشركة وان كذبه فله نصف المال لانه أقر له بنصف المال وادعي عليه شركة الوارث معه وهنا أيضا أقر للغائب بنصف المال طائعا وادعي عليه شركة الحاضر معه فكان اقراره للغائب بنصف المال صحيحا ودعواه الشركة باطلة ولو أكرهوه على هبة جاريته لعبد الله فوهبها لعبد الله وزيد وقبضاها بامره جازت في حصة زيد لانه ملكه نصف الجارية طائعا والشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع صحة الهبة وبطلت في حصة عبد الله بالاكراه ثم الهبة انشاء التصرف فبطلانه في نصيب من أكره عليه لا يمنع من صحته في نصيب الآخر كالوصية فان من اوصى لوارثه ولاجبني جازت الوصية في نصيب الاجنبي بخلاف الاقرار ولو كان ذلك في ألف درهم بطلت الهبة كلها أما عند أبى حنيفة فلانه لا يجوز هبة ما يحتمل القسمة من رجلين إذا كان طائعا في حقهما فإذا كان مكرها في حق أحدهما كان أولى وأما عند أبى يوسف ومحمد فانما لا يجوز هنا لان الهبة بطلت في نصيب عبد الله من الاصل فلو صحت في نصيب زيد كانت في مشاع يحتمل القسمة وذلك يمنع صحة الهبة (ألا ترى) أنه لو وهب داره من رجل فاستحق نصفها بطلت الهبة في الثاني واستشهد لهذا بما لو اشترى دارا وهو شفيعها مع رجل غائب فقبضها ووهبها وسلمها ثم حضر الغائب فاخذ نصفها بالشفعة بطلت الهبة في النصف الآخر لان في النصف المأخوذ بالشفعة الهبة تبطل من الاصل وكذلك لو وهب لرجل دارا على أن يعوضه من نصفها خمرا فالهبة تبطل في النصف الباقي لبطلانها في النصف الذى شرط فيه الخمر عوضا وهذا بخلاف المريض إذا وهب دراه من انسان ولا مال له غيرها ثم مات فان الهبة تنتقض في الثلثين لحق الورثة وتبقى في الثلث صحيحة لان الهبة في الكل صحيحة في الابتداء وانما تنتقض في الثلثين لحق الورثة بعد موت الواهب فكان الشيوع في الثلث طارئا وذلك لا يبطل الهبة كما لو وهب داره من انسان ثم رجع في نصفها وفيما تقدم من المسائل المبطل للهبة في النصف مقترن بالسبب فبطلت الهبة في ذلك النصف من الاصل فالشيوع في النصف الباقي يكون مقارنا لا طارئا ولو أكرهوه على هبة جاريته لرجل ودفعها إليه فوهب ودفع فاعتقها الموهوب له جاز عتقه وغرم المعتق قيمتها أما قوله ولو دفعها إليه فهو فصل من الكلام فان الاكراه على الهبة يكون اكراها على الدفع بخلاف الاكراه على البيع فانه لا يكون اكراها
[ 54 ] على التسليم والفرق أن المكره مضار متعنت والهبة لا توجب الملك بنفسها ما لم يتصل بها القبض فإذا كان الضرر الذى قصده المكره وهو ازالة ملكه لا يحصل الا بالقبض تعدى الاكراه إليه وان لم ينص عليه فأما البيع فموجب الملك بنفسه والاضرار به يتحقق متى صح فلا يتعدى الاكراه عن البيع إلى شئ آخر وإذا سلم بعد ذلك بغير أمره كان طائعا في التسليم * يوضحه أن القبض في باب البيع يوجب ملك التصرف وذلك حكم آخر غير ما هو الموجب الاصلى بالبيع وهو ملك الغير فلا يتعدى الاكراه إليه بدون التنصيص عليه وأما القبض في باب الهبة فيوجب الملك الذى هو حكم الهبة وهو ملك الغير فلهذا كان الاكراه على الهبة اكراها على التسليم ثم بسبب الاكراه تفسد الهبة ولكن الهبة الفاسدة توجب الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على اصلنا أن فساد السبب لا يمنع وقوع الملك بالقبض فإذا أعتقها أو دبرها أو استولدها فقد لاقى هذه التصرفات منه ملك نفسه فكانت نافذة وعليه ضمان قيمتها لان رد العين كان مستحقا عليه وقد تعذر بنفوذ تصرفه فيه فعليه قيمتها كالمشتراة شراء فاسدا وإذا شاء المكره في هذا كله رجع إلى الذين أكرهوه بقيمتها لانهم أتلفوا عليه ملكه فان الاكراه بوعيد متلف يجعل المكره ملجأ وذلك يوجب كون المكره آلة للمكره ونسبة الفعل إليه فيما يصلح أن يكون آلة وهو في التسليم والاتلاف الحاصل به يصلح أن يكون آلة للمكره فإذا صار الاتلاف منسوبا إلى المكره كان ضامنا للقيمة فان ضمنهم القيمة رجعوا بها على الموهوب له لانهم قاموا في الرجوع عليه مقام من صحبهم ولانهم ملكوها بالصحبة ولو كانت قائمة من هذا الموهوب له كان لهم أن يأخذوها منه وإذا أتلفوها بالاعتاق كان لهم أن يضمنوه قيمتها * فان قيل لماذا لا تنفذ الهبة من جهتهم * قلنا لانهم ما وهبوها له وانما قصدوا الاضرار بالمكره لا التبرع من جهتهم بخلاف الغاصب إذا وهب المغصوب ثم ضمن القيمة فان هناك قصد تنفيذ الهبة من جهته فإذا ملكه بالضمان نفذت الهبة من جهته كما قصدها ولذلك لو أكرهوه على البيع والتسيلم ففعل فأعتقه المشترى أو دبره أو كانت أمة فاستولدها نفذ ذلك كله عندنا وقال زفر لا ينفذ شئ من ذلك وأصل المسألة أن المشترى من المكره بالقبض يصير مالكا عندنا خلافا لزفر رحمه الله وحجته في ذلك أن بيع المكره دون البيع بشرط الخيار للبائع فالبائع هناك راض بأصل السبب والبيع هناك يتم بموت البائع وهنا لا يتم ثم هناك المشترى لا يملكه بالقبض فهنا أولى إذ بيع المكره كبيع الهازل
[ 55 ] ولو تصادقا انه كان البيع بينهما هزلا لم يملك المشترى المبيع بالقبض فكذلك إذا كان البائع مكرها وكلامه في الاكراه بالقتل أوضح لان الفعل ينعدم في جانب المكره بالالجاء فيصير كان المكره باشر ذلك بنفسه فلا يملكه المشترى بالقبض وان كان لو أجازه المالك طوعا صح * وحجتنا في ذلك أن بيع المكره فاسد والمشترى بالقبض بحكم البيع الفاسد يصير مالكا وبيان الوصف ان ما هو ركن العقد لم ينعدم بالاكراه وهو الايجاب والقبول في محله وانما انعدم ما هو شرط الجواز وهو الرضى قال الله تعالى الا أن تكون تجارة عن تراض منكم وتأثير انعدام شرط الجواز في افساد العقد كما هو في الربا فان المساواة في أموال الربا شرط جواز العقد فإذا انعدمت المساواة كان العقد فاسدا وكان الملك ثابتا للمشترى بالقبض فهذا مثله بخلاف البيع بشرط الخيار فان شرط الخيار يجعل العقد في حق حكمه كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وهذا لان قوله على أنى بالخيار شرط ولكن لا يمكن ادخاله على أصل السبب لان البيع لا يحتمل التعليق بالشرط فيكون داخلا على حكم السبب لان الحكم يحتمل التأخر عن السبب وبهذا تبين أن البائع هناك غير راض بالسبب في الحال لانه علقه بالشرط فلا يتم رضاه به قبل الشرط فكان أضعف من بيع المكره لان المكره راض بالسبب لدفع الشر عن نفسه غير راض بحكم السبب والخيار الثابت للمكره من طريق الحكم فيكون نظير خيار الرؤية وخيار العيب وذلك لا يمنع انعقاد السبب في الحكم مقيدا لحكمه فكذلك بيع المكره وكذلك الهازل فانه غير راض باصل البيع لان البيع اسم للجد الذى له في الشرع حكم والهزل ضد الجد فإذا تصادقا على أنهما لم يباشرا ما هو سبب الملك لا ينعقد البيع بينهما موجبا للملك وهنا المكره دعي إلى الجد وقد أجاب إلى ذلك لانه لو أتى بغيره كان طائعا فكان بيع المكره أقوى من بيع الهازل من هذا الوجه وانما ينعدم الفعل في جانب المكره إذا صار منسوبا إلى المكره وذلك يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره فيه آلة المكره وفى البيع لا يصلح أن يكون هو آلة للمكره لان التكلم بلسان الغير لا يتحقق فيه المكره مباشرا للبيع فان قيل هو في التسليم يصلح أن يكون آلة للمكره فينتقل ذلك إلى المكره ويصير كأنه سلم بنفسه فلا يملكه المشترى * قلت هو في التسليم متمم للعقد فلا يصلح أن يكون آلة للمكره وانما يصلح أن يكون آلة للمكره في تسليم ابتداء غصب وثبوت الملك في البيع الفاسد لا ينبني على ذلك وانما ينبني على تسليم هو حكم العقد وذلك متصور على المكره
[ 56 ] أيضا يوضحه انه لا تأثير للاكراه في تبديل محل الفعل ولو أخرجنا هذا التسليم من أن يكون متمما للعقد جعلناه غصبا ابتداء بنسبته إلى المكره فيتبدل بسبب الاكراه ذات الفعل وإذا كان لا يجوز أن يتبدل محل الفعل بسبب الاكراه فكيف يجوز أن تتبدل ذاته ومن أصحابنا رحمهم الله من علل لتنفيذ عتق المشترى من غير تعرض للملك فنقول ايجاب البيع مطلقا تسليط للمشترى على العتق والاكراه لا يمنع صحة التسليط على العتق ونفوذ العتق بحكمه كما لا يمنع الاكراه صحة الاعتاق (ألا ترى) أنه لو أكره على أن يوكل في عتق عبده ففعل وأعتقه الوكيل نفذ عتقه فهذا مثله وإذا ثبت نفوذ العتق والتدبير والاستيلاد فقد تعذر على المشترى رد عينها فيضمن قيمتها للبائع فان شاء البائع ضمن الذين أكرهوه لان العقد وما يتممه وان لم يصر مضافا إليهم فلاتلاف الحاصل به يصير مضافا إليهم في حق البائع لان المكره يصلح أن يكون آلة لهم في الاتلاف فكان له أن يضمنهم قيمتها ثم يرجعون بها على المشترى لانهم قاموا مقام البائع أو لانهم ملكوها بالضمان ولا يمكن تنفيذ البيع من جهتهم فيرجعون على المشترى بقيمتها لانه أتلفها عليهم طوعا بالاعتاق ولو أن المشترى أتلفها والموهوب له لم يفعل بها ذلك ولكنه باعها أو وهبها وسلمها أو كاتبها كان لمولاها المكره أن ينقض جميع ذلك لان هذه التصرفات تحتمل النقض فينقض لحق المكره بخلاف العتق (ألا ترى) أن العتق لا ينتقض لحق المرتهن والبيع والهبة والكتابة تنقض لحقه * فان قيل فأين ذهب قولكم ان بيع المكره فاسد والمشترى شراء فاسدا لا ينقض منه هذه التصرفات بعد القبض لحق البائع * قلنا لان هناك البائع سلم المبيع راضيا به فيصير بالتسليم مسلطا للمشترى على هذه التصرفات وهنا المكره غير راض بالتسليم ولو رضى بالتسليم تم البيع فوزانه المشترى شراء فاسدا إذا أكره البائع على التسليم فسلمه مكرها وهذا لان الفاسد معتبر بالصحيح وفى البيع الصحيح إذا قبضه المشترى بغير اذن البائع وتصرف فيه ينقض من تصرفاته ما يحتمل النقض لابقاء حق البائع في الحبس دون ما لا يحتمل النقض قال وليس في شئ يكره عليه الانسان الا وهو يرد الا ما جرى فيه عتق أو تدبير أو ولادة أو طلاق أو نكاح أو نذر أو رجعة في العدة أو في الايلاء ممن لا يقدر على الجماع فان هذه الاشياء تجوز في الاكراه ولا ترد وأصل المسألة أن تصرفات المكره قولا منعقد عندنا الا أن ما يحتمل الفسخ منه كالبيع والاجارة يفسخ وما لا يحتمل الفسخ منه كالطلاق والنكاح والعتاق وجميع ما سمينا فهو لازم وقال الشافعي تصرفات المكره قولا
[ 57 ] يكون لغوا إذا كان الاكراه بغير حق بمنزلة تصرفات الصبى والمجنون ويستوى ان كان الاكراه بحبس أو قتل * وحجته في ذلك قوله تعالى لا اكراه في الدين والمراد نفى الحكم لما يكره عليه المرء في الدين قال عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فهذا يدل على ان ما يكره عليه يكون مرفوعا عنه حكمه واثمه وعينه الا بدليل والمعنى فيه ان هذا قول موجب للحرمة فالاكراه الباطل عليه يمنع حصول الفرقة كالردة وتأثيره ان انعقاد التصرفات شرعا بكلام يصدر عن قصد واختيار معتبر شرعا ولهذا لا ينعقد شئ من ذلك بكلام الصبي والمجنون والنائم وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلم به بل هو مكره عليه والاكراه يضاد الاختيار فوجب اعتبار هذه الاكراه في انعدام اختياره به لكونه اكراها بالباطل ولكنه معذورا في ذلك فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون بخلاف العنين إذا أكرهه القاضى على الفرقة بعد مضى المدة أو المولى بعدها لان ذلك اكراه بحق لانعدام اختياره شرعا (ألا ترى) أن المديون إذا أكرهه القاضى على بيع ماله نفذ بيعه والذمى إذا أسلم عبده فاجبر على بيعه نفذ بيعه بخلاف ما إذا أكرهه على البيع بغير حق قال وعلى هذا قلت وإذا أكره الحربى على الاسلام صح اسلامه ولو أكره المستأمن أو الذمي على الاسلام لا يصح اسلامه لانه اكراه بالباطل ولا يدخل فيه السكران فانه غير معذور شرعا فهو في المعنى كالمكره بحق فيكون قصده واختياره معتبرا شرعا ولهذا نفذ منه جيمع التصرفات ولهذا صح اقراره بالطلاق هناك ولا يصح هنا اقراره بالطلاق بالاتفاق فكذلك انشاؤه وهذا بخلاف الهازل لانه قاصدا إلى التكلم بالطلاق مختار له فان باب الهزل واسع فلما اختار عند الهزل التكلم بالطلاق من سائر الكلمات عرفنا انه مختار للفظ وان لم يكن مريدا لحكمه فأما المكره فغير مختار في التكلم بالطلاق هنا لانه لا يحصل له النجاة إذا تكلم بشئ آخر وهذا بخلاف ما إذا أكره على أن يجامع امرأة وهى أم امرأته فانها تحرم عليه لانا ادعينا هذا في الاقوال التى يكون ثبوتها شرعا بناء على اختيار صحيح فأما الافعال فتحققها بوجودها حسا (ألا ترى) انه إذا تحقق ذلك من المجنون كان موجبا للفرقة أيضا فكذلك من المكره بخلاف ما نحن فيه ولان سبب الاكراه محافظة قدر الملك على المكره حتى قلتم في الاكراه على العتق المكره يضمن القيمة وكما تجب محافظة قدر ملكه عليه تجب محافظة عين ملكه عليه ولا طريق لذلك سوى أن يجعل الفعل عدما في جانب المكره ويجعل هو آلة
[ 58 ] للمكره وإذا صار آلة له امتنع وقوع الطلاق والعتاق ولا معنى لقولكم انه في التكلم لا يصلح آلة فانكم جعلتموه آلة حيث أوجبتم ضمان القيمة على المكره في العتاق وضمان نصف الصداق على المكره في الطلاق قبل الدخول ثم ان لم يمكن أن يجعل آلة حتى يصير الفعل موجودا من المكره يجعل آلة حتى ينعدم الفعل في جانب المكره فيلغو طلاقه وعتاقه * وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار في أول الكتاب والمعنى فيه أنه تصرف من أهله في محله فلا يلغى كما لو كان طائعا وبيانه ان هذا التصرف كلام والاهلية للكلام يكون مميزا ومخاطبا وبالاكراه لا ينعدم ذلك وقد بينا انه مخاطب في غير ما أكره عليه وكذلك فيما أكره عليه حتى ينوع عليه الامر كما قررنا وهذا لان الخطاب ينبنى على اعتدال الحال وذلك لا يختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام اعتدال الحال في توجه الخطاب واعتبار كلامه شرعا تيسيرا للامر على الناس وبسبب الاكراه لا ينعدم هذا المعنى والسبب الظاهر متى قام مقام المعنى الخفى دار الحكم معه وجودا وعدما وبيان المحلية أنه ملكه ولو لم يكن مكرها لكان تصرفه مصادفا محله وليس للطواعية تأثير في جعل ما ليس بمحل محلا فعرفنا ان التصرف صادف محله الا أن بسبب الاكراه ينعدم الرضا منه بحكم السبب ولا ينعدم أصل القصد والاختيار لان المكره عرف الشرين فاختار أهونهما وهذا دليل حسن اختياره فكيف يكون مفسدا لاختياره وهو قاصد إليه أيضا لانه قصد دفع الشر عن نفسه ولا يتوصل إليه الا بايقاع الطلاق وما لا يتوصل إلى المقصود الا به يكون مقصودا فعرفنا أنه قاصد مختار ولكن لا لعينه بل لدفع الشر عنه فيكون بمنزلة الهازل من حيث انه قاصد إلى التكلم مختار له لا لحكمه بل لغيره وهو الهزل ثم طلاق الهازل واقع فبه يتبين ان الرضا بالحكم بعد القصد إلى السبب والاختيار له غير معتبر وقد بينا ان حال المكره في اعتبار كلامه فوق حال الهازل لان الحكم للجد من الكلام والهزل ضد الجد والمكره يتكلم بالجد لانه يجيب إلى ما دعى إليه ولكنه غير راض بحكمه وهذا بخلاف الردة فانها تنبنى على الاعتقاد وهو التكلم بخبر عن اعتقاده وقيام السيف على رأسه دليل ظاهر على انه غير معتقد وانه في إخباره كاذب وكذلك الاقرار بالطلاق والاقرار متميل بين الصدق والكذب وانما يصح من الطائع لترجح جانب الصدق فان دينه وعقله يدعوانه إلى ذلك وفى حق المكره قيام السيف على رأسه دليل على أنه كذب والمخبر عنه إذا كان كاذبا فالاخبار به لا يصير صدقا فان أقر به
[ 59 ] المقر باختياره لا يصير كائنا حقيقة وهذا بخلاف ما إذا هزل بالردة ولان هناك انما يحكم بكفره لاستخفافه بالدين فان الهازل مستخف لا محالة إذ الاستخفاف بالدين كفر فاما المكره فغير مستخف ولا معتقد لما يخبر به مكرها ثم ان وجب محافظة قدر الملك على المكره فذلك لا يدل على انه يجب محافظة عين الملك عليه كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو موسر فانه يجب محافظة قدر الملك على الساكت بايجاب الضمان له على المعتق ولا يجب محافظة عين ملكه بابطال عتق المعتق وهذا لانه مكره على شيئين التكلم بالعتاق أو الاتلاف وهو في التكلم لا يصلح آلة للمكره لان تكلمه بلسان الغير لا يتحقق وفى الاتلاف يصلح آلة له فجعلنا الاتلاف مضافا إلى المكره فأوجبنا الضمان عليه وجعلنا التكلم بالطلاق والعتاق مقصورا على المكره فحكمنا بنفوذ قوله بان المكره ينبغى أن يجعل آلة حتى ينعدم التكلم في جانبه حكما * قلنا هذا شئ لا يمكن تحقيقه هنا فان الخلاف في الاكراه بالقتل والاكراه بالحبس سواء وعند الاكراه بالحبس لا ينعدم الفعل في جانب المكره بحال ثم نقول ليس للاكراه تأثير في الاهدار والالغاء (ألا ترى) أن المكره على اتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل التهمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فعرفنا ان تأثير الاكراه في تبديل النسبة حتى يكون الفعل منسوبا إلى المكره وهذا يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره آلة للمكره فلو أعتبرنا ذلك لاعدم الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره كان تأثير الاكراه في الالغاء وذلك لا يجوز والمراد بالآية الحديث نفى الاثم لا رفع الحكم وبه نقول أن الاثم يرتفع بالاكراه حتى لو أكرهه على ايقاع الطلاق الثلاث أو الطلاق حالة الحيض لا يكون آثما إذا ثبت ان تصرفاته تنعقد شرعا فما لا يكون محتملا للفسخ بعد وقوعه يلزم من المكره وما لا يعتمد تمام الرضا يكون لازما منه والطلاق والعتاق لا يعتمد تمام الرضا حتى ان شرط الخيار لا يمنع وقوعهما وما يحتمل الفسخ ويعتمد لزومه تمام الرضا قلنا لا يكون لازما إذا صدر من المكره الا أن يرضى به بعد زوال الاكراه صريحا أو دلالة فحينئذ يلزم لوجود الرضا منه به فان باع المشترى من المكره العبد من غيره وأعتقه المشترى الآخر نفذ عتقه لان المشترى من المكره ملك بالشراء وان كان للمكره حق الفسخ كما كان المشترى منه مالكا بالشراء وان كان له حق الفسخ الا أن عتق المشترى من المكره قبل القبض لا ينفذ وعتق المشترى من المشترى من المكره نافذ قبضه أو لم يقبضه
[ 60 ] لان بيع المكره فاسد فالمشترى منه لا يصير مالكا الا بالقبض فأما بيع المشترى منه فصحيح وان كان للمكره حق الفسخ كالمشترى إذا قبض المبيع بغير اذن البائع وباعه صح بيعه وان كان للبائع حق الفسخ فإذا صح البيع ملكه بنفس العقد وينفذ عتقه فيه ويصير بالعتق قابضا له * يوضحه أن المشترى بايجاب البيع لغيره يصير مسلطا له على العتق وهو لو أعتق بنفسه نفذ عتقه فينفذ عتق المشترى منه بتسليطه ايضا ثم كان للمولى الخيار ان شاء ضمن المكره قيمته إذا كان الوعيد بقتل لان الاتلاف صار منسوبا إليه وان شاء ضمن الذى أخذه منه لانه قبضه بشراء فاسد وقد تعذر رده وان شاء ضمن الذى أعتقه لانه أتلف المالية فيه بالاعتاق والعتق ينفذ من جهته حتى يثبت الولاء له فان ضمن المكره رجع المكره بالقيمة ان شاء على المشترى الاول وان شاء على المشترى الثاني لانه قام مقام المكره بعد ما ضمن له ولانه ملكه بالضمان وكل واحد منهما متعد في حقه فيضمن ايهما شاء فان ضمن المشترى الآخر المكره أو المكره رجع على المشترى الاول لان استرداد قيمته منه كاسترداد عينه وذلك مبطل للبيعين جميعا فيرجع هو بالثمن على المشترى الاول ويرجع المشترى الاول بالثمن على مولاه وان ضمن المكره المشترى الاول أو ضمنه المكره نفذ البيع بين المشترى الاول والمشترى الآخر وكان الثمن له لانه كان باع ملك نفسه وكان البيع صحيحا فيما بينهما الا أنه كان للمكره حق الفسخ فإذا سقط حقه بوصول القيمة إليه وقد تقرر الملك للمشترى الاول نفذ البيع بينه وبين المشترى الآخر ولو كان الاكراه بقيد أو حبس أو قتل على أن يبيعها منه بالف درهم وقيمتها عشرة آلاف فباعها منه باقل من ألف درهم ففى القياس هذا البيع جائز لانه أتى بعقد آخر سوى ما أكره عليه فالبيع بخمسمائة غير البيع بالف بدليل الدعوى والشهادة وإذا أتى بعقد آخر كان طائعا فيه كما لو أكره على البيع فوهب له وفى الاستحسان البيع باطل لانه إذا أكرهه على البيع بالف فقد أكرهه على البيع بأقل من ألف لان قصد المكره الاضرار بالمكره وفى معنى الاضرار هذا البيع فوق البيع بألف فكان هو محصلا مقصود المكره فلهذا كان مكرها (ألا ترى) أن الوكيل بالبيع بألف إذا باع بألفين ينفذ على الموكل والوكيل بشراء عين بألف إذا اشتراها بخمسمائة ينفذ على الموكل لان في هذا تحصيل مقصود الموكل فوق ما أمره به فلا يعد خلافا ولو باعه بأكثر من ألف كان البيع جائزا لان هذا في معنى الاضرار دون ما أمره به المكره فلم يكن
[ 61 ] هو محصلا مقصود المكره فيما باشره وهذا لان الممتنع من البيع بألف لا يكون ممتنعا من البيع بألفين والممتنع من البيع بالف يكون ممتنعا من البيع بخمسمائة ولو أكرهوه على البيع فوهبه نفذ ذلك لان الممتنع من البيع قد لا يكون ممتنعا من الهبة للقصد إلى الانعام ثم هو مخالف للمكره في جنس ما أمره به فلا يكون محصلا مقصود المكره بل يكون طائعا مخالفا له كالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار بخلاف البيع بخمسمائة فهناك ما خالف المكره في جنس ما أمره به وتحصيل مقصود المكره فيما باشره أتم فكان مكرها وكذلك لو أكرهوه على أن يقر له بألف درهم فوهب له ألف درهم جاز لان الهبة غير الاقرار الاقرار من التجارة والهبة تبرع والمتنع من الاقرار قد لا يكون ممتنعا من الهبة فكان هو في الهبة طائعا ولو أكرهوه على بيع جاريته ولم يسموا أحدا فباعها من انسان كان البيع باطلا لان قصد المكره الاضرار بالمكره لا منفعة المشترى وان لم يبين المشترى لا يتمكن الخلل في مقصود المكره فكان هو مكرها في البيع ممن باعه ولو أخذوه بمال ليؤديه وذلك المال أصله باطل فاكرهوه على أدائه ولم يذكروا له بيع جاريته فباعها ليؤد ذلك المال فالبيع جائز لانه طائع في البيع وانما أكره على اداء المال ووجهه أن بيع الجارية غير متعين لاداء المال فقد يتحقق اداء المال بطريق الاستقراض والاستيهاب من غير بيع الجارية وهذا هو عادة الظلمة إذا أرادوا أن يصادروا رجلا يحكمون عليه بالمال ولا يذكرون له بيع شئ من ملكه حتى إذا باعه ينفذ بيعه فالحيلة لمن ابتلى بذلك أن يقول من أين أؤدي ولا مال لى فإذا قال له الظالم بع جاريتك فالآن يصير مكرها على بيعها فلا ينفذ بيعها ولو أكرهوه على أن يبيع جاريته من فلان بألف درهم فباعها منه بقيمة ألف درهم دنانير جاز البيع في القياس لان الدراهم والدنانير جنسان حقيقة وهو في الاستحسان باطل لانهما في المعنى والمقصود جنس واحد وقد بينا فيما تقدم ان في الانشاآت جعلا كجنس واحد كما في شراء ما باع باقل مما باع وفى شراء المضارب باحد النقدين ورأس المال من النقد الآخر وفى الاخبارات هما جنسان مختلفان وبهذا يتضح الفرق بين هذا وبين الاقرار الذى سبق فالاقرار اخبار والدراهم والدنانير في ذلك جنسان مختلفان وهنا أنما أكره على انشاء البيع والدراهم والدنانير في ذلك جنس واحد فكان البيع باطلا ولو أكرهوه على أن يبيعها بألف درهم فباعها بعرض أو حنطة أو شعير جاز البيع بكل حال لان البيع يختلف باختلاف العرض وهو آت بعقد آخر سوى
[ 62 ] ما أكره عليه حقيقة وحكما وقد يمتنع الانسان من البيع بالنقد ولا يمتنع من البيع بالعرض لماله من الغرض في ذلك العرض وقد يمتنع من البيع بالعرض ولا يمتنع من البيع بالنقد فالمكره على أحد النوعين يكون طائعا في العقد الآخر إذا باشره والله أعلم بالصواب (باب الاكراه على العتق والطلاق والنكاح) (قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكره بوعيد قتل على عتق عبده فأعتقه نفذ العتق عندنا لما بينا أنه في التكلم بالعتق لا يمكن أن يجعل آلة للمكره فيبقى تكلمه مقصورا عليه ويصير به معتقا لان الاكراه وان كان يفسد اختياره لكن لا يخرجه من أن يكون مخاطبا وفيما يمكن نسبته إلى المكره يجعل المكره آلة له فرجح الاختيار الصحيح على الاخيتار الفاسد وفيما لا يمكن نسبته إلى المكره يبقى مضافا إلى المكره بماله من الاختيار الفاسد وعلى المكره ضمان قيمته لان في حكم الاتلاف المكره يصلح ألة للمكرة فيصير الاتلاف مضافا إلى المكره ترجيحا للاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد ويستوى ان كان المكره موسرا أو معسرا لان وجوب هذا الضمان باعتبار مباشرة الاتلاف فيكون جبرانا لحق المتلف عليه وذلك لا يختلف باليسارة والعسرة ولا سعاية على العبد لانه نفذ العتق فيه من جهة مالكه ولا حق لاحد في ماله بخلاف المريض يعتق عبده وعليه دين فهناك يجب السعاية لحق الغرماء وكذلك إذا أعتق المرهون وهو معسر فانه يجب السعاية على العبد لحق المرتهن والمحجور عليه للسفه إذا أعتق عبده تجب السعاية على العبد في قول محمد وهو قول ابى يوسف الاول رحمه الله لان بالحجر صار هو في حكم التصرف ناقص الملك لوجوب النظر له شرعا وهنا بعذر الاكراه لم يصر ناقص الملك ومعنى النظر يتم بايجاب الضمان على المكره ثم الولاء يكون للمكره لانه هو المعتق والولاء لمن أعتق وثبوت الولاء له يبطل حقه في تضمين المكره كما لو شهد شاهدان على رجل أنه أتق عبده ثم رجعا بعد القضاء ضمنا قيمته والولاء ثابت للمولى وهذا لان الولاء كالنسب ليس بمال متقوم وليس بمال متقوم وليس للمكره أن يرجع على العبد بشئ لانه قام مقام المولى ولا سبيل للمولى على العبد في الاستسعاء ولان المكره لم يصر مالكا للعبد بالضمان (ألا ترى) أن الولاء للمكره فان كان العبد بين رجلين فأكره أحدهما حتى أعتقه جاز عتقه ثم على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله العتق لا يتجزأ فيعتق العبد
[ 63 ] كله والولاء للمعتق وعلى المكره ان كان موسرا ضمان جيمع القيمة بينهما نصفين ولانه صار متلفا الملك عليهما وان كان معسرا ضمن نصيب المكره لانه باشر اتلاف نصيبه ويستسعى العبد في قيمة نصيب الشريك الآخر لانه لم يوجد من المكره اتلاف نصيب الشريك قصدا ولكنه تعدى إليه التلف حكما فيكون هو بمنزلة شريك المعتق والمعتق إذا كان معسرا لا يجب عليه ضمان نصيب شريكه ولكن يجب على العبد السعاية في نصيب شريكه لانه قد سلم له ذلك القدر من رقبته ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشئ اما على العبد فلانه سعى في بدل ما سلم له وأما المكره فلانه ضمن بمباشرة الاتلاف وأما في قياس قول ابى حنيفة رحمه الله فالمكره ضامن لنصيب المكره موسرا كان أو معسرا وفى نصيب الساكت ان كان المكره موسرا فالساكت بالخيار ان شاء أعتق نصيه وان شاء استسعاه في نصيبه وان شاء ضمن المكره قيمة نصيبه فان ضمنه يرجع المكره بهذ النصف من القيمة على العبد فاستسعاه فيه لانه قام مقام الساكت في ذلك وصار متملكا لنصيبه باداء الضمان والولاء بين المكره والمكره نصفان وان كان المكره معسرا فللساكت حق الاستسعاء والاعتاق والولاء بينه وبين المكره نصفان لانه عتق نصيب كل واحد منهما على ملكه * ولو أكره بوعيد تلف على أن يطلق امرأته ثلاثا ففعل ولم يدخل بها بانت منه لما قلنا وعلي الزوج نصف الصداق ان كان سمى لها مهرا والمتعة ان لم يكن سمى لها مهرا ويرجع بذلك على المكره لانه هو الذى ألزمه ذلك المال حكما فان وقوع الفرقة قبل الدخول في حال الحياة مسقط لجميع الصداق الا إذا كان بسب مضاف إلى الزوج فحينئذ يجب نصف الصداق بالنص والمكره هو الذى جعل الفرقة مضافة إلى الزوج باكراهه فكأنه ألزم الزوج ذلك المال أو فوت يده من ذلك المال فليزمه ضمانه كالغاصب وبهذا الطريق يضمن شاهدا الطلاق قبل الدخول ولو كان الزوج قد دخل بها لم يرجع على المكره بشئ لان الصداق كله تقرر على الزوج بالدخول والمكره انما أتلف عليه ملك النكاح وملك النكاح لا يتقوم بالاتلاف على الزوج عندنا ولهذا لا نوجب على شاهدى الطلاق بعد الدخول ضمانا عند الرجوع ولا على المرأة ان ارتدت بعد الدخول ولا على القاتل لمنكوحة الغير خلافا للشافعي رحمه الله فانه يجعل البضع مضمونا بمهر المثل عند الاتلاف على الزوج كما هو مضمون بمهر المثل عند دخوله في ملك الزوج ولكنا نقول البضع ليس بمال متقوم فلا يجوز أن يكون مضمونا
[ 64 ] بالمال لانه لا مماثلة بين ما هو مال وبين ما ليس بمال وتقومه عند النكاح لاظهار خطر المملوك وهذا الخطر للمملوك لا للملك الوارد عليه (ألا ترى) أن ازالة الملك بغير شهود وبغير ولى صحيح فلا حاجة إلى اظهار الخطر عند الاتلاف فلهذا لا يضمن المتلف شيأ ولو أن رجلا أكره أمرأة أبيه فجامعها يريد به الفساد على ابيه ولم يدخل بها أبوه كان لها على الزوج نصف المهر لان الفرقة وقعت بسب مضاف إلى الاب وهو حرمة المصاهرة ويرجع بذلك على ابنه لانه هو الذى ألزمه ذلك حكما وان كان الاب قد دخل بها لم يرجع على الابن بشئ لما قلنا وهذا الفصل أورده لايضاح ما سبق وقوله يريد به الفساد أي يكون قصده افساد النكاح فأما الزنا فلا يكون افسادا ولو أكره بوعيد قتل أو حبس حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز النكاح لما بينا أن الجد والهزل في النكاح والطلاق والعتاق سواء فكذلك الاكراه والطواعية وللمرأة مقدار مهر مثلها لان التزام المال يعتمد تمام الرضا ويختلف بالجد والهزل فيختلف أيضا بالاكراه والطوع فلا يصح من الزوج التزام المال مكرها الا أن مقدار مهر المثل يجب لصحة النكاح لا محالة (ألا ترى) أن بدون التسمية يجب فعند قبول التمسية فيه مكرها أولى أن يجب وما زاد على ذلك يبطل لانعدام الرضا من الزوج بالتزامه ولو أن المرأة هي التى أكرهت ببعض ما ذكرنا على أن تزوج نفسها منه بألف ومهر مثلها عشرة آلاف فزوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره فيه لان البضع ليس بمال متقوم وتقومه على المتملك باعتبار ثبوت الملك فيما هو مصون عن الابتذال وهذ المعنى لا يوجد في حق المكره ثم يقول القاضى للزوج ان شئت فأتمم لها مهر مثلها وهى امرأتك ان كان كفؤا لها فان أبى فرق بينهما ولا شئ لها والحاصل أن الزوج ان كان كفؤا لها ثبت لها الخيار لما يلحقها من الضرر بنقصان حقها عن صداق مثلها والزوج متمكن من ازالة هذا الضرر بان يلتزم لها كمال مهر مثلها فان التزم ذلك فالنكاح بينهما لازم وان أبى فرق بينهما ولا شئ لها ان لم يكن دخل بها وان كان دخل بها مكرهة فلها تمام مهر مثلها لانعدام الرضا منها بالنقصان ولا خيار لها بعد ذلك لان الضرر اندفع حين استحقت كمال مهر مثلها وان دخل بها وهى طائعة أو رضيت بما سمى لها فعند أبى حنيفة للاولياء حق الاعتراض وعندهما ليس لهم ذلك وأصله فيما إذا زوجت المرأة نفسها من كفؤ بدون صداق مثلها وقد بيناه في كتاب النكاح وان لم يكن الزوج كفؤا لها فلها
[ 65 ] أن لا ترضي بالمقام معه سواء التزم الزوج لها كمال مهر المثل أو لم يلتزم دخل بها أو لم يدخل بها لما يلحقها من الضرر من استفراش من لا يكافئها فان دخل بها وهى طائعة أو رضيت فللاولياء أن يفرقوا بينهما لان للاولياء حق طلب الكفاءة (ألا ترى) أنها لو زوجت نفسها طائعة من غير كفوء كان للاولياء حق الاعتراض فهنا أيضا لم يوجد من الاولياء الرضا بسقوط حقهم في الكفاءة والزوج لا يتمكن من ازالة عدم الكفاءة فيكون للاولياء أن يفرقوا بينهما سواء رضى بأن يتم لها مهر مثلها أو لم يرض بذلك ولو ان رجلا وجب له على رجل قصاص في نفس أو فيما دونها فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى عفا فالعفو جائز لان العفو عن القصاص نظير الطلاق في أن الهزل والجد فيه سواء فانه ابطال ملك الاستيفاء وليس فيه من معنى الملك شئ ولا ضمان له على الجاني لان الجاني لم يلتزم له عوضا ولم يتملك عليه شيأ وتقوم النفس بالمال عند الخطأ لصيانة النفس عن الاهدار وهذا لا يوجد عند الاسقاط بالعفو لانه مندوب إليه في الشرع والبدل فيه صحيح ولا ضمان على المكره لانه لم يستهلك عليه مالا متقوما فان التمكن من استفياء القصاص ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن شهود العفو إذا رجعوا ومن عليه القصاص إذا قتله انسان لا يضمن لمن له القصاص شيأ وكذلك إذا مات من عليه القصاص لا يكون ضامنا لمن له القصاص شيأ فكذلك المكره ولو وجب لرجل على رجل حق من مال أو كفالة بنفس أو غير ذلك فاكره بوعيد قتل أو حبس حتى ابرأ من ذلك الحق كان باطلا لان صحة الابراء تعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه ينعدم الرضا وهذا لان الابراء عن الدين وان كان اسقاطا ولكن فيه معنى التمليك ولهذا يرتد برد المديون وابراء الكفيل فرع لابراء الاصيل والكفالة بالنفس من حقوق المال لان صحتها باعتبار دعوى المال فلهذا لا تصح البراءة في هذه الفصول مع الاكراه كما لا تصح مع الهزل وكذلك لو أكره على تسليم الشفعة بعد ما طلبها لان تسليم الشفعة من باب التجارة كالاخذ بالشفعة ولهذا ملكه الاب والوصى في قول أبى حنفية وأبى يوسف رحمهما الله والتجارة تعمتد تمام الرضا وذلك يعتمد بالاكراه ولو كان الشفيع حين علم بها أراد أن يتكلم بطلبها فأكره حتى سد فمه ولم يتركه ينطق يوما أو أكثر من ذلك كان على شفعته إذا خلى عنه فان طلب عند ذلك والا بطلت شفعته لان المسقط للشفعة ترك الطلب بعد التمكن منه (ألا ترى) أن ترك الطلب قبل العلم بالبيع لا يبطل الشفعة لانعدام تمكنه من الطلب
[ 66 ] وهو لم يكن متمكنا من الطلب هنا حين سد فمه أو قيل له لئن تكلمت بطلب شفعتك لنقتلنك أو لنحبسنك فهذا لا يبطل شفعته فأما بعد زوال الاكراه إذا لم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب بعد التمكن فان قيل أليس أن الاكراه بمنزلة الهزل والهازل بتسليم الشفعة تبطل شفعته فكذلك المكره على تسليم الشفعة قلنا إذا هزل بتسليم الشفعة قبل الطلب بطلت شفعته لترك الطلب مع الامكان الا بالهزل بالتسليم فأما إذا طلب الشفعة ثم سلمها هازلا واتفقا أنه كان هازلا في التسليم لم تبطل شفعته لما بينا أنه بمنزلة التجارة يعتمد تمام الرضا فان قال المشتري انه لم يكف عن الطلب للاكراه ولكنه لم يرد أخذها بالشفعة وقال الشفيع ما كففت الا للاكراه فالقول قول الشفيع لان قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على انه انما كف عن الطلب للاكراه ولكنه يحلف بالله ما منعه من طلب الشفعة الا الاكراه لان المشترى ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا انكره استحلف عليه ولو أن رجلا أكرهه أهل الشرك على أن يكفر بالله وله امرأة مسلمة ففعل ثم خلى سبيله فقالت قد كفرت بالله تعالى وبنت منك وقال الرجل انما أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالايمان ففى القياس القول قولها ويفرق بينهما لانه لا طريق لنا إلى معرفة سره فوجب بناء الحكم على ظاهر ما نسمعه منه وهذا لان الشرع أقام الظاهر الذى يوقف عليه مقام الخفى الذى لا يمكن الوقوف عليه للتيسير على الناس فباعتبار الظاهر قد سمع منه كلمة الردة فتبين منه امرأته ولكنه استحسن فقال القول قوله مع يمينه لان النبي عليه الصلاة والسلام قبل قول عمار رضى الله عنه ولم يجدد النكاح بينه وبين امراته ولان الظاهر شاهد له فان امتناعه من اجراء كلمة الشرك حتى تحقق الاكراه دليل على انه مطمئن القلب بالايمان وانه ما قصد بالتكلم الا دفع الشر عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا أكره على الاسلام فانه يحكم باسلامه لان الاسلام مما يجب اعتقاده فذلك دليل على انه قال ما قال معتقدا وهو معارض للاكراه فعند تعارض الدليلين يصار إلى ظاهر ما سمع منه فاما الشرك مما لا يجوز اعتقاده والاكراه فدليل على انه معتقد فلهذا لا يحكم بردته إذا أجرى كلمة الشرك مكرها والله أعلم (باب ما يكره أن يفعله بنفسه أو ماله) (قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكرهه لص بالقتل على قطع يد نفسه فهو ان شاء الله
[ 67 ] في سعة من ذلك لانه ابتلى ببليتين فله أن يختار أهونهما عليه لحديث عائشة رضى الله عنها قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين الا اختار أيسرهما ثم حرمة الطرف تابعة لحرمة النفس والتابع لا يعارض الاصل ولكن يترجح جانب الاصل ففى اقدامه على قطع اليد مراعاة حرمة نفسه وفى امتناعه من ذلك تعريض النفس وتلف النفس يوجب تلف الاطراف لا محالة ولا شك ان اتلاف البعض لابقاء الكل يكون أولى من اتلاف الكل (ألا ترى) أن من وقعت في يده أكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه وقد فعله عروة بن الزبير رضى الله عنه فهذا المكره في معنى ذلك من وجه لانه يدفع الهلاك عن نفسه بقطع طرفه الا انه قيده بالمشيئة هنا لان هذا ليس في معنى الاكلة من كل وجه وحرمة الطرف كحرمة النفس من وجه فلهذا تحرز عن الاثبات في الجواب وقال ان شاء الله في سعة من ذلك فان قطع يد نفسه ثم خاصم المكره فيه قضى القاضى له على المكره بالقود لان القطع صار منسوبا إلى المكره لما تحقق الاكراه على ما بينه في مسألة المكره على القتل فكان المكره باشر قطع يده وهذا ظاهر على قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وانما الاشكال على قول ابى يوسف رحمه الله فانه لا يوجب القود على المكره فقيل في هذا الفصل لا قود عليه عند أبى يوسف أيضا وليكن يلزمه ارش اليد في ماله وقيل هنا يجب القود عنده لانه انما يجعل المكره آلة في قتل الغير لكونه آثما لا يحل له الاقدام على القتل وهنا يحل للمكره الاقدام على قطع يده فكان هو آلة بمنزلة المكره على اتلاف المال فيجب القود على المكره ولو أكرهه على أن يطرح نفسه في النار بوعيد قتل فهو ان شاء الله في سعة من ذلك اما ان كان يرجو النجاة من النار فانه يلقى نفسه على قصد النجاة وان كان لا يرجو النجاة فكذلك الجواب لان من الناس من يختار ألم النار على ألم السيف ومنهم من يختار ألم السيف وربما يكون في النار بعض الراحة له وان كان يأتي على نفسه وقيل على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يسعه أن يلقى نفسه إذا كان لا يرجوا النجاة فيه لانه لو ألقى نفسه صار مقتولا بفعل نفسه ولو امتنع من ذلك صار مقتولا بفعل المكره وحيث يسعه الالقاء فلوليه القود على المكره وهذا لا يشكل عند أبى حنيفة ومحمد وكذلك عند أبى يوسف في الصحيح من الجواب لانه لما ابيح له الاقدام صار آلة للمكره وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه من فوق بيت الا أن في هذا الموضع عند أبى حنيفة لا يجب القود كما لو ألقاه المكره بنفسه وعندهما إذا كان
[ 68 ] ذلك مما يقتل غالبا فهو والقاء النفس في النار سواء وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه في ماء وهنا القود لا يجب على المكره عند أبى حنيفة كما لو ألقاه بنفسه وكذلك عندهما إذا كان يرجى النجاة منه وان كان مما يقتل غالبا يجب القود على المكره واستدل بحديث زيد بن وهب قال استعمل عمر بن الخطاب رجلا على جيش فخرج نحو الجبل فانتهى إلى نهر ليس عليه جسر في يوم بارد فقال أمير ذلك الجيش لرجل انزل فابغ لنا مخاضة نجوز فيها فقال الرجل انى اخاف ان دخلت الماء ان أموت قال فاكرهه فدخل الماء قال يا عمراه يا عمراه ثم لم يلبث ان هلك فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه وهو في سوق المدينة قال ياليتكاه ياليتكاه فبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال لولا أن يكون سنة لاقدته منك ثم غرمه الدية وقال لا تعمل لى عملا أبدا قال وانما أمره الامير بهذا على غير ارادة قتله بل ليدخل الماء فينظر لهم مخاضة الماء فضمنه عمر رضى الله عنه ديته فكيف بمن أمره وهو يريد قتله بذلك وفيه دليل على انه يجب القود على المكره وانه يجب بغير السلاح ومعنى قوله أن يكون سنة يعنى في حق من لا يقصد القتل ويكون مخطئا في ذلك فهو تنصيص على انه إذا كان قاصدا إلى قتله بما لا يلجئه فانه يستوجب القود وأبو حنيفة يقول انما قال عمر رضى الله عنه ذلك على سبيل التهديد وقد يهدد الامام بما لا يتحقق ويتحرز فيه عن الكذب ببعض معاريض الكلام ولو قال لتقطعن يد نفسك أو لاقطعنها انه لم يسعه قطعها لانه ليس بمكره فالمكره من ينجو عما هدد به بالاقدام على ما طلب منه وهنا في الجانبين عليه ضرر قطع اليد وإذا امتنع صارت يده مقطوعة بفعل المكره وإذا أقدم عليه صارت مقطوعة بفعل نفسه وهو يتيقن بما يفعله بنفسه ولا يتيقن بما هدده به المكره فربما يخوفه بما لا يحققه فلهذا لا يسعه قطعها ولو قطعها لم يكن على الذى اكرهه شئ لان نسبة الفعل إلى المكره عند تحقق الاكراه والاكراه أن يدفع عن نفسه ما هو أعظم مما يقدم عليه وذلك لا يوجد هنا فإذا لم يكن مكرها اقتصر حكم فعله عليه وكذلك لو قال له لتقتلن نفسك بهذا السيف أو لاقتلنك به لم يكن هذا اكراها لما قلنا ولو قال له لنقتلنك بالسياط أو لتقتلن نفسك بهذا السيف أو ذكر له نوعا من القتل هو أشد عليه مما أمره أن يفعل بنفسه فقتل نفسه قتل به الذى أكرهه لان الاكراه هنا تحقق فان قصد بالاقدام على ما طلب منه دفع ما هو أشد عليه فالقتل بالسياط أفحش وأشد على البدن من القتل بالسيف لان القتل بالسيف يكون في لحظة وبالسياط يطول ويتوالى الالم واليه
[ 69 ] أشار حذيفة رضى الله عنه حيث قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف وكذلك ما دون النفس لو قيل له لتحرقن يدك بالنار أو لتقطعنها بهذا الحديد فقطعها قطعت يد الذى أكرهه ان كان واحد لتحقق الاكراه منه وان كان عددا لم يكن عليهم في يده قود وعليهم دية اليد في أموالهم بخلاف النفس وأصل هذا الفرق في المباشرة حقيقة فانه لو قطع جماعة يد رجل لم يلزمهم القود عندنا ولو قتلوا رجلا كان عليهم القود ويأتى هذا الفرق في كتاب الديات ان شاء الله تعالى ولو أكره بوعيد قتل على أن يطرح ماله في البحر أو على ان يحرق ثيابه أو يكسر متاعه ففعل ذلك فالمكره ضامن لذلك كله لان اتلاف المال مما يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فعند تحقق الالجاء يصير الفعل منسوبا للمكره فكأنه باشر الاتلاف بيده والشافعي في هذا لا يخالفنا لان المكره يباح له الاقدام على اتلاف المال سواء كان له أو لغيره وإذا صار الاقدام مباحا له كان هو آلة للمكره فالضمان على المكره خاصة وأصحابه خرجوا له قولين سوى هذا أحدهما أن الضمان يجب على المكره لصاحب المال لانه هو المتلف حقيقة ثم يرجع هو على المكره لانه هو الذى أوقعه في هذه الورطة والثانى أن الضمان عليهم نصفان لان حقيقة الاتلاف وجد من المكره والقصد إلى الاضرار وجد من المكره فكانا بمنزلة الشريكين في الاتلاف ولكن الاولى أصح لما قلنا وان أكرهه على ذلك بحبس أو قيد ففعله لم يكن على المكره ضمان ولا قود لان المكره انما يصير كالآلة عند تمام الالجاء وهو ما إذا خاف التلف على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى الخوف التلف على نفسه فيبقى الفعل مقصورا على المكره فيؤاخذ بحكمه وهذا لانه ليس في الحبس والقيد الاهم يلحقه ومن يتلف مال الغير اختيارا فانما يقصد بذلك دفع الغم الذى يلحقه بحسده اياه على ما آتاه الله تعالى من المال فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للضمان عنه ولو أكرهه بتلف على أن يأكل طعاما له أو يلبس ثوبا له فلبسه مكرها حتى تخرق لم يضمن المكره شيأ لانه ليس بفساد بل أمره أن يصرف مال نفسه إلى حاجته وذلك لا يكون فسادا (ألا ترى) أن الاب والوصى يفعلان ذلك للصبي ولا يكون فسادا منهما ثم هذا من وجه أمر بالمعروف فان التقتير وترك الانفاق على نفسه بعد وجود السعة منهى عنه وفى الامر بالمعروف دفع الفساد فعرفنا ان ما أمره به ليس بفساد فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المكره بخلاف احراق المال بالنار أو طرحه في الماء فان ذلك فساد لا انتفاع بالمال ولو أكرهه بوعيد قتل على أن يقتل عبده بالسيف أو
[ 70 ] على أن يقطع يده لم يسعه ان يفعل ذلك لان العبد في حكم نفسه باق على أصل الحرية على ما بينا ان ذمته لا تدخل تحت القهر والملك فكما لا يسعه الاقدام على أن يفعل شيأ من ذلك بحر لو أكره عليه فكذلك العبد بخلاف سائر الاموال (ألا ترى) أن عند ضرورة المخمصة يجوز له أن يصرف ماله إلى حاجته وليس له أن يقتل عبده ليأكل من لحمه فان فعله كان له أن يأخذ الذى أكرهه بقتله قودا بعبده ان كان مثله ويأخذ دية يده ان كان قطع يده بمنزلة ما لو باشر المكره ذلك بنفسه بناء على أصلنا أن القود يجرى بين الاحرار والمماليك في النفس ولا يجرى فيما دون النفس وان كان الاكراه بحبس لم يكن على المكره شئ وانما عليه الادب بالضرب والحبس والالجاء لم يتحقق فكان فعل القتل مقصورا على المولى فلا يرجع على المكره بشئ وليس على المولى سوى الاثم لان الحق في بدل نفس العبد للمولى ولا يستوجب هو على نفسه عقوبة ولا مالا فاما الاثم فهو حق الشرع فكما يصير آثما بالاقدام على قتل الحر مكرها لانه يؤثر روحه على روح من هو مثله في الحرمة ويطيع المخلوق في معصية الخالق وقد نهاه الشرع عن ذلك فكذلك المولى يكون آثما بهذا الطريق ولو ان قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب أو حبس أو قيد حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان الاقرار باطلا لان الاقرار متمثل بين الصدق والكذب وانما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بامير إذا ضربت أو أوثقت ولم ينقل عن أحد من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الاقرار مع التهديد بالضرب والحبس في حق السارق وغيره الا شئ روى عن الحسن بن زياد رضى الله عنه ان بعض الامراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الامير ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال فلما رأى المال موضوعا بين يدى الامير قال ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا فان خلى سبيله بعد ما أقر مكرها ثم أخذ بعد ذلك فجئ به فاقر بما كان تهدد عليه بغير اكراه مستقل أخذ بذلك كله لان اقراره الاول كان باطلا ولما خلى سبيله فقد انتهى حكم ذلك الاخذ والتهديد فصار كان لم يوجد أصلا حتى أخذ الآن فاقر بغير اكراه وان كان لم يخل سبيله ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر انى لا أؤاخذك باقرارك الذى اقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض
[ 71 ] لك فان شئت فأقر وان شئت فلا تقر وهو في يد القاضى على حاله لم يجز هذا الاقرار لان كينونته في يده حبس منه له وانما كان هدده بالحبس فما دام حابسا له كان أثر ذلك الاكراه باقيا وقوله لا أحبسك نوع غرور وخداع منه فلا ينعدم به أثر ذلك الاكراه ولان الظاهر انه انما أقر لاجل اقراره المتقدم فانه علم أنه لا ينفعه الانكار وانه إذا تناقض كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الاول فهناك قد خلى سبيله وصار بحيث يتمكن من الذهاب ان شاء فينقطع به أثر ذلك الاكراه وان خلى سبيله ولم يتوار عن بصر القاضي حتى بعث من أخذه ورده إليه فأقر بالذى اقر به أول مرة من غير أكراه جديد فان هذا ليس بشئ لانه ما لم يتوار عن بصره فهو متمكن من أخذه وحبسه فيجعل ذلك بمنزلة ما لو كان في يده على حاله وان كان حين رده أول مرة لم يحبسه ولكنه هدده فلما أقر قال انى لست أصنع بك شيأ فان شئت فأقر وان شئت فدع فاقر لم يأخذه بشئ من ذلك لانه ما دام في يده فكأنه محبوس في سجنه فكان أثر التهديد الاول قائما أرأيت لو خلى سبيله ثم بعث معه من يحفظه ثم رده إليه بعد ذلك فأقر أكان يؤخذ بشئ من ذلك أو لا يؤخذ بهد لان يد من يحفظه له كيده في ذلك ولو أكرهه قاض بضرب أو حبس حتى يقر بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو قتل فأقر بذلك فاقامه عليه فان كان رجلا معروفا بما أقر به الا أنه لا بينة عليه فالقياس أن يقتص من المكره فيما أمكن القصاص فيه ويضمن من ماله ما لا يستطاع القصاص فيه لان اقراره كان باطلا والاقرار الباطل وجوده كعدمه فبقى هو مباشرا للجناية بغير حق فليزمه القصاص فيما يستطاع فيه القصاص ولكن يستحسن أن يلزمه ضمان جميع ذلك في ماله ويدرأ القصاص لان الرجل إذا كان معروفا بما أقر به على نفسه فالذي يقع في قلب كل سامع انه صادق في اقراره لما أقر به وذلك يورث شبهة والقصاص مما يندرئ بالشبهات ولان على قول أهل المدينة رحمهم الله للامام أن يجبر المعروف بذلك الفعل على الاقرار بالضرب والحبس فان مرتكب الكبيرة قل ما يقر على نفسه طائعا وإذا أقر به مكرها عندهم يصح اقراره وتقام عليه العقوبة فيصير اختلاف العلماء رحمهم شبهة والقاضى مجتهد في ما صنع فهذا اجتهاد في موضعه من وجه فيكون مسقطا للقود عنه ولكن يلزمه المال لان المال مما يثبت مع الشبهات وبالاقرار الباطل لم تسقط حرمة نفسه وأطرافه فيصير ضامنا له مراعاه لحرمة نفسه وطرفه وان كان المكره غير معروف بشئ مما رمى به أخذت فيه بالقياس
[ 72 ] وأوجبت القصاص على القاضى في ما يستطاع فيه القصاص لانه إذا كان معروفا بالصلاح فالذي يسبق إليه أوهام الناس أنه برئ الساحة مما رمى به وانما أقر على نفسه كاذبا بسبب الاكراه ونظير هذا ما قيل فيمن دخل على انسان بيته شاهرا سيفه مادا رمحه فقتله صاحب البيت ثم اختصم أولياؤه مع صاحب البيت فقال أولياؤه كان هاربا من اللصوص ملتجئا اليك وقال صاحب البيت بل كان لصا قصد قتلى فان كان المقتول رجلا معروفا بالصلاح فالقول قول الاولياء ويجب القصاص على صاحب البيت وان كان متهما بالذعارة ففى القياس كذلك وفى الاستحسان القول قول صاحب البيت ولا قصاص ولكن عليه الدية في ماله وفى رواية الحسن عن أبى حنيفة لا شئ عليه لان الظاهر شاهد عليه انه كان دخل عليه مكابرا وانه قد أهدر دمه عليه بذلك ولكن في ظاهر الرواية يقول مجرد الظاهر لا يسقط حرمة النفوس المحترمة ولا يجوز اهدار الدماء المحقونة ولكن يصير الظاهر شبهة في اسقاط القود عنه فيجب عليه الدية في ماله صيانة لدم المقتول عن الهدر فكذلك ما سبق والله أعلم (باب تعدى العامل) (قال رحمه الله) وإذا بعث الخليفة عاملا على كورة فقال لرجل لتقتلن هذا الرجل عمدا بالسيف أو لاقتلنك فقتله المأمور فالقود على الآمر المكره في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا قود على المكره وقال زفر رحمه الله القود على المكره دون المكره وقال الشافعي رحمه الله يجب القود على المكره قولا واحد وله في ايجاب القود على المكره قولان وقال أهل المدينة رحمهم الله عليهما القود وزادوا على هذا فأوجبوا القود على الممسك حتى إذا امسك رجلا فقتله عدوه قالوا يجب القود على الممسك وقال أبو يوسف أستحسن أن لا يجب القود على واحد منهما ولكن تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين أما زفر رحمه الله فاستدل بقوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا والمراد سلطان استيفاء القود من القاتل والقاتل هو المكره حقيقة والمعنى فيه ان من قتل من يكافئه لاحياء نفسه يعتمد بحق مضمون فليزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل انسانا وأكل من لحمه والدليل على ان القاتل هو المكره أن القتل فعل محسوس وهو يتحقق من المكره والطائع بصفة واحدة فيعرف به انه قاتل حقيقة ومن حيث الحكم انه يأثم أثم القاتل واثم القتل على من
[ 73 ] باشر القتل والدليل عليه ان المقصود بالقتل إذا قدر على قتل المكره كان له أن يقتله كما لو كان طائعا وبه نعلل فنقول كل حكم يتعلق بالقتل فانه لا يسقط عن المكره بالاكراه كالاثم والتفسيق ورد الشهادة واباحة قتله للمقصود بالقتل بل أولى لان تأثير الضرورة في اسقاط الاثم دون الحكم حتى ان من أصابته مخمصة يباح له تناول مال الغير ويكون ضامنا ثم هنا لا يسقط اثم الفعل عن المكره فلان لا يسقط عنه حكم القتل أولى ولما جعل هذه نظير الاكراه بالحبس في اثم الفعل فكذلك في حكمه ولا يقال انما يأثم أثم سوء الاختيار أو اثم جعل المخلوق في معصية الخالق لانه مكره على هذا كله كما هو مكره على القتل والشافعي يستدل بهذا أيضا الا أنه يوجب القود على المكره ايضا للسبب القوى لان القصد إلى القتل بهذا الطريق ظاهر من المتخيرين والقصاص مشروع بطريق الزجر فيقام السبب القوى مقام المباشرة في حق المكره لتغليظ أمر الدم وتحقيق معنى الزجر كما قال في شهود القصاص يلزمهم القود قال وعلى أصلكم حد قطاع الطريق يجب على الردى بالسبب القوى والدليل عليه ان الجماعة يقتلون بالواحد قصاصا لتحقيق معنى الزجر ومن أوجب القود على الممسك يستدل بها أيضا فنقول الممسك قاصدا إلى قتله مسبب له فإذا كان التسبب يقام مقام المباشرة في أخذ بدل الدم وهو الدية يعنى حافر البئر في الطريق فكذلك في حكم القصاص الا أن المتسبب إذا قصد شخصا بعينه يكون عامدا فليزمه القود وإذا لم يقصد بتسببه شخصا بعينه فهو بمنزلة المخطئ فتلزمه الدية وللشافعي رحمه لله طريق آخر ان المكره مع المكره بمنزلة الشريكين في القتل لان القصد وجد من المكره وما هو المقصود به وهو الانتقام يحصل له والمباشرة وجدت من المكره فكان بمنزلة الشريكين ثم وجب القود على احدهما وهو المكره فكذلك على الآخر والدليل على أنهما كشريكين أنهما مشتركان في اثم الفعل وان المقصود بالقتل ان يقتلهما جميعا وحجة أبى حنيفة ومحمد أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والالجاء بأبلغ الجهات ويجعل الملجأ آلة للملجئ فلا يصلح أن يكون آلة له كما في اتلاف المال فان الضمان يجب على المكره ويصير المكره آلة له حتى لا يكون عليه شئ من حكم الاتلاف ومعلوم أن المباشر والمتسبب إذا اجتمعا في الاتلاف فالضمان على المباشر دون المتسبب ولما وجب ضمان المال على المكره علم أن الاتلاف منسوب إلى المكره ولا طريق للنسبة إليه سوى جعل المكره آلة للمكره فكذلك في القتل لان المكره يصلح أن يكون آلة للمكره فيه بأن يأخذ بيده
[ 74 ] مع السكين فيقتل به غيره وتفسير الالجاء انه صار محمولا على ذلك الفعل بالتهديد بالقتل فالانسان مجبول على حب الحياة ولا يتوصل إلى ذلك الا بالاقدام على القتل فيفسد اختياره بهذا الطريق ثم يصير محمولا على هذا الفعل وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التى لا اختيار لها فيكون الفعل منسوبا إلى من فسد اخيتاره وحمله على هذا الفعل لا على الآلة فلا يكون على المكره شئ من حكم القتل من قصاص ولا دية ولا كفارة (ألا ترى) ان شيأ من المقصود لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة فأما الآثم فبقاء الاثم عليه لا يدل على بقاء اللحكم كما إذا قال لغيره اقطع يدى فقطعها كان آثما ولا شئ عليه من حكم القطع بل في الحكم يجعل كان الآمر فعله بنفسه وقد بينا أنه مع فساد الاختيار يبقى مخاطبا فلبقائه مخاطبا كان عليه اثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شئ من حكم القتل ثم حقيقة المعني في العذر عن فعل الاثم من وجهين أحدهما أن تأثير الالجاء في تبديل النسبة لا في تبديل محل الجناية ولو جعلنا المكره هو الفاعل في حكم الضمان لم يتبدل به محل الجناية ولو أخر جناية المكره من أن يكون فاعلا في حق الآثم تبدل به محل الجناية لان الاثم من حيث انه جناية علي حد الدين وإذا جعلنا المكره في هذا آلة كانت الجناية على حد دين المكره دون المكره وإذا قلنا المكره آثم ويكون الفعل منسوبا إليه في حق الآثم كانت جناية على دينه بارتكاب ما هو حرام محض وبسبب الاكراه لا يتبدل محل الجناية فأما في حق الضمان فمحل الجناية نفس المقتول سواء كان الفعل منسوبا إلى المكره أو إلى المكره وبهذا تبين أن في حق الاثم لا يصلح أن يكون آلة لان الانسان في الجناية على حد دين نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره والثاني انا لو جعلنا المكره آلة في حق الاثم كان ذلك اهدار وليس تأثير الالجاء في الاهدار (ألا ترى) ان في المال لا يجعل فعل المكره كفعل بهيمة ليس لها اختيار صحيح والمكره آثم باكراهه فإذا لم يجعل المكره آثما كان هذا اهدارا للآثم في حقه أصلا ولا تأثير للاجاء في ذلك بخلاف حكم الفعل فانه إذا جعل المكره آلة فيه كان المكره مؤاخذا به الا أن يكون هدرا ولا يقال الحربى إذا أكره مسلما على قتل مسلم فان الفعل يصير منسوبا إلى المكره عندكم وفى هذا اهدار لانه ليس على المكره شئ من الضمان وهذا لانه ليس باهدار بل هو بمنزلة ما لو باشر الحربى قتله فيكون المقتول شهيدا ولا يكون قتل الحربى اياه هدرا وان كان لا يؤاخذ بشئ من الضمان إذا أسلم وبه فارق المضطر لانه غير ملجأ إلى ذلك الفعل من جهة غيره ليصير
[ 75 ] هو آلة للملجئ (ألا ترى) أن في المال الضمان واجب عليه فعرفنا به أن حكم الفعل مقصور عليه والدليل على أن الفاعل هو المكره أن القصاص يلزمه عند الشافعي رحمه الله والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيعتمد المساواة حتى ان بدون المساواة لا يجب القصاص كما بين المسلم والمستأمن وكما في كسر العظام ولا مساواة بين المباشرة والتسبب ولا طريق لجعل المكره شريكا الا بنسبة بعض الفعل إليه وإذا كان للالجاء تأثير في نسبة بعض الفعل إلى اللمجئ فكذلك في نسبة جميع الفعل إليه ولا معنى لايجاب القود على الممسك لان القصاص جزاء مباشرة الفعل فانه عقوبة تندرئ بالشبهات وفى التسبب نقصان فيجوز أن يثبت به ما يثبت مع الشبهات وهو المال ولا يجوز أن يثبت ما يندرئ بالشبهات بخلاف حد قطاع الطريق فان ذلك جزاء المحاربة والردء مباشر للمحاربة كالقاتل وقد بينا هذا في السرقة والاصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام يصبر الصابر ويقتل القاتل أي يحبس الممسك ويقتل القاتل فاما أبو يوسف رحمه الله فقال استحسن أن لا يجب القود على واحد منهما لان بقاء الاثم في حق المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب الا بمباشرة تامة وقد انعدم ذلك من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود وان كان هو المؤاخذ بحكم القتل فيما يثبت مع الشبهات والدليل عليه ان وجوب القصاص يعتمد المساواة ولا مساواة بين المباشرة والاكراه فلا يمكن ايجاب القود على المكره الا بطريق المساواة ولكنا نقول المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الاحكام سوى القصاص نحو حرمان الميراث والكفارة في الموضع الذى يجب والدية يختص بها المكره فكذلك القود والاصل فيه قوله تعالى يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم فقد نسب الله الفعل إلى المعين وهو ما كان يباشر صورة ولكنه كان مطاعا فأمر به وأمره اكراه إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره بالغا عاقلا أو كان معتوها أو غلاما غير يافع فالقود على المكره لان المكره صار كالآلة والبلوغ والعقل لا معتبر به في حق الآلة وانما المعتبر تحقق الالجاء لخوف التلف على نفسه وكذلك حرمان الميراث فانه يثبت في حق المكره دون المكره وان كان الآمر غير بالغ ولكنه مطاع بتحقق الاكراه منه أو كان رجلا مختلط العقل ولكن يتحقق الاكراه منه فان الفعل يصير منسوبا إليه وذلك يكون بمنزلة جنايته بيده في أحكام القتل واستدل بقول الحسن البصري رحمه الله في أربعة شهدوا على رجل بالزنا ورجمه الناس فقتلوه ثم رجع بعض الشهود ان على الراجع
[ 76 ] القتل وهذا شئ لا يؤاخذ به ولكن قصد بهذا الاستشهاد دفع النسبة عمن تمسك بالصورة ويقول كيف أوجبتم القتل على المكره ولم يباشر القتل حسا واستدل عليه بقول أهل المدينة في الممسك ويقتل الردئ في قطع الطريق وان لم يباشروا قتل أحد حسا وكذلك لو قال العامل له لتقطعن يده أو لاقتلنك لم ينبغ له أن يفعل ذلك لان لاطراف المؤمن من الحرمة مثل ما لنفسه (ألا ترى) ان المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله وكذلك لو أمره بقطع أصبع أو نحوه فان حرمة هذا الجزء بمنزلة حرمة النفس فان القتل من المظالم والمكره مظلوم فليس له أن يظلم أحدا ولو ظلم وان أقدم على القتل فليس عليه الا الاثم فاما الفعل في حق الحكم فقد صار منسوبا إلى المكره لوجود الالجاء بالتهديد بالقتل وان رأى الخليفة أن يعزر المكره ويحبسه فعل لاقدامه على ما لا يحل له الاقدام عليه وأن أمره ان يضربه سوطا واحدا أو أمره أن يحلق رأسه أو لحيته أو أن يحبسه أو أن يقيده وهدده على ذلك بالقتل رجوت أن لا يكون آثما في فعله ولا في تركه أما في تركه فلانه من المظالم والكف عن المظالم هو العزيمة والمتمسك بالعزيمة لا يكون آثما وأما إذا قدم عليه فلانه يدفع القتل عن نفسه بهم وحزن يدخل على غيره فان بالحبس والقيد وبحلق اللحية وضرب سوط يدخله هم وحزن ولا يخاف على نفسه وعلى شئ من أعضائه ولدفع الهلاك عن نفسه قد رخص له الشرع في ادخال الهم والحزن على غيره (ألا ترى) أن المضطر يأخذ طعام الغير بغير رضاه ولا شك ان صاحب الطعام يلحقه حزن بذلك الا انه علق الجواب بالالجاء لانه لم يجد في هذا بعينه نصا والفتوى بالرخصة فيما هو من مظالم العباد بالرأى لا يجوز مطلقا فلهذا قال رجوت وان كان يهدده على ذلك بحبس أو قيد أو ضرب سوط أو حلق رأسه ولحيته لم ينبغ له أن يقدم على شئ من الظلم قل ذلك أو كثر لان الرخصة عند تحقق الضرورة وذلك إذا خاف التلف على نفسه وهو بما هدده هنا لا يخاف التلف على نفسه ولو أكرهه بالحبس على أن يقتل رجلا فقتله كان القود فيه على القاتل لان بالتهديد بالحبس لا يتحقق الالجاء ولهذا كان الضمان في المال عند الاكراه بالحبس على المكره دون المكره ولو أمره بقتله ولم يكرهه على ذلك الا أنه يخاف ان لم يفعل أن يقتله ففعل ما أمر به كان ذلك بمنزلة الاكراه لان الالجاء باعتبار خوفه التلف على نفسه أن لو امتنع من الاقدام على الفعل وقد تحقق ذلك هنا ومن عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون
[ 77 ] ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم الا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الامر من مثله بمنزلة التهديد بالقتل ولو أكرهه بوعيد تلف حتى يفترى على مسلم رجوت أن يكون في سعة منه (ألا ترى) أنه لو أكرهه بذلك على الكفر بالله تعالى كان في سعة من اجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالايمان فكذلك إذا أكرهه بالافتراء على مسلم لان الافتراء على الله تعالى والشتم له يكون أعظم من شتم المخلوق الا أنه علقه بالرجاء لان هذا من مظالم العباد وليس هذا في معنى الافتراء على الله تعالى من كل وجه فان الله تعالى مطلع على ما في ضميره ولا اطلاع للمقذوف على ما في ضميره ولان الله تعالى أن يدخله نقصان بافتراء المفترين وفى الافتراء على هذ المسلم هتك عرضه وذلك ينقص من جاهه ويلحق الحزن به فلهذا علق الجواب بالرجاء قال (ألا ترى) أنه لو أكرهه على شتم محمد صلى الله عليه وسلم بقتل كان في سعة أن شاء الله فهذا أعظم في قذف امرئ مسلم ولو تهدده بقتل حتى يشتم محمدا صلى الله عليه وسلم أو يقذف مسلما فلم يفعل حتى قتل كان ذلك أفضل له لما بينا أن في الامتناع تمسك بما هو العزيمة ولما امتنع حبيب رضى الله عنه حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء ولو تهدده بقتل حتى يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت أن يكون آثما وقد بينا هذا الفصل الا أنه ذكره هنا بلفظ يستدل به على أنه كان من مذهبه أن الاصل في الاشياء الاباحة وان الحرمة بالنهي عنها شرعا فانه قال لان شرب الخمر وأكل الميتة لم يحرم الا بالنهي عنهما وبين أهل الاصول في هذا كلام ليس هذا موضع بيانه ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إليه رجوت أن يكون في سعة من أخذه ودفعه إليه لانه بمنزلة المضطر وقد بينا أن يباح للمضطر أخذ مال الغير ليدفع به الضرورة عن نفسه ولكنه علق الجواب بالرجاء لان هذا ليس في معنى المضطر من وجه فالعذر هناك وهو الجوع ما كان بصنع مضاف إلى العباد والخوف هنا باعتبار صنع مضاف إلى العبد وبينهما فرق (ألا ترى) أن المقيد إذا صلى قاعدا يلزمه الاعادة إذا أطلق عنه القيد بخلاف المريض قال والضمان فيه على الآمر لان الالجاء قد تحقق فيصير الاخذ والدفع كله منسوبا إلى الآمر والمكره بمنزلة الآلة له وانما يسعه هذا ما دام حاضرا عند الآمر فان كان أرسله ليفعل فخاف أن يقتله ان ظفر به ولم يقل أن لم يفعل ما هدد به لم يحل الاقدام على ذلك لان الالجاء انما يتحقق ما دام في يد المكره بحيث يقدر على ايقاع
[ 78 ] ما هدده به عاجلا وقد انعدم ذلك حين بعد عنه ولا يدرى أيقدر عليه بعد ذلك أو لا يقدر وبهذا الفصل تبين أنه لا عذر لاعوان الظلمة في أخذ الاموال من الناس فان الظالم يبعث عاملا إلى موضع ليأخذ مالا فيتعلل العامل بأمره وانه يخاف العقوبة من جهته ان لم يفعل وليس ذلك بعذر له الا أن يكون بمحضر من الآمر فاما بعد ما بعد من الظالم فلا الا أن يكون رسول الآمر معه على أن يرده عليه ان لم يفعل فيكون هذا بمنزلة الذى كان حاضرا عنده لان كونه تحت يد رسوله ككونه يده ويتمكن الرسول من رده إليه ليعاقبه بتحقق الالجاء ولو لم يفعل ذلك حتى قتله كان في سعة ان شاء الله لانه تحرز عما هو من مظالم العباد وذلك عزيمة (ألا ترى) أن للمضطر أن يأخذ طعام صاحبه بقدر ما تندفع عنه الضرورة به ولو لم يأخذه حتى تلف لم يكن مؤاخذا به فهذا مثله ولو كان المكره هدده بالحبس أو القيد لم يسعه الاقدام على ذلك لان الالجاء والضرورة بهذا التهديد لا يتحقق ولو أكره رجلا على قتل أبيه أو أخيه بوعيد قتل فقتله فقد بينا حكم المسألة أن الفعل يصير منسوبا إلى المكره فيما هو من أحكام القتل فكأنه هو المباشر بيده وعلى هذا الحرف ينبنى ما بعده من المسائل حتى قالوا لو أن لصين أكرها رجلا بوعيد تلف على أن يقطع يد رجل عمدا كان ذلك كقطعهما بايديهما فعليهما ارش اليد في مالهما في سنتين ولا قود عليهما لان اليدين لا يقطعان بيد واحدة وان مات فيهما فعلى المكرهين القود لان القطع إذا اتصلت به السراية كان قتل من أصله ولو باشرا قتله لزمهما القود ولو كان الآمر واحدا والمأمور اثنين كان على الآمر القصاص في اليد ان عاش وفى البدن ان مات من ذلك لان الفعل منسوب إلى المكره وهو واحد لو باشر قطع يده أو قتله يجب القود عليه فكذلك إذا أكرهه على ذلك رجلان والله أعلم بالصواب (باب الاكراه على دفع المال وآخذه) (قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف حتى أعطى رجلا ماله وأكره الآخر بمثل ذلك حتى قبضه منه ودفعه فهلك المال عنده فالضمان على الذى أكرههما دون القابض لان الدافع والقابض كل واحد منهما ملجأ من جهة المكره فيصير الفعل في الدفع والقبض منسوبا إلى المكره والقابض مكره على قبضه بوعيد تلف فلا يبقى في جانبه فعل موجب للضمان عليه ولانه قبضه ليرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يوجب
[ 79 ] الضمان على القابض وان كان قبضه بغير أمر صاحبه كمن أخذ آبقا أو وجد لقطة وأشهد انه أخذه ليرده على صاحبه لم يكن عليه ضمان ان هلك عنده وكذلك لو كان أكره القابض على قبضه ليدفعه إلى الذى أكرهه فقبضه وضاع عنده قبل أن يدفعه إليه فلا ضمان على القابض إذا حلف بالله ما أخذ الا ليدفعه إليه طائعا وما أخذه الا ليرده على صاحبه الا أن يكره على دفعه لان الظاهر يشهد له في ذلك فان فعل المسلم محمول على ما يحل ويحل له الاخذ مكرها على قصد الرد على صاحبه ولا يحل له الاخذ على قصد الدفع إلى المكره طائعا ودينه وعقله يدعوانه إلى ما يحل دون ما لا يحل الا أن في اللقطة لا يقبل قوله على هذا إذا لم يشهد في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله لانه متمكن من الاشهاد على ذلك وهنا هو غير متمكن من الاشهاد على ما في ضميره من قصد الرد على المالك لانه ان أظهر ذلك عاقبه المكره فلهذا قبلنا قوله في ذلك مع اليمين ولو كان أكره صاحب المال على أن يهبه لصاحبه وأكره الآخر على أن يقبل الهبة منه ويقبضها بوعيد تلف فقبضها فضاعت عنده فان قال القابض أخذتها على أن تكون في يدى مثل الوديعة حتى أردها على صاحبها فالقول قوله مع يمنيه لان الاكراه شاهد له على انه غير راغب في تمليكها فيكون الضمان على المكره خاصة وان قال أخذتها على وجه الهبة لتسلم لى كان لرب المال أن يضمنه ان شاء وان شاء المكره لان الموهوب له قبض مال الغير على وجه التملك بغير رضا صاحبه وهو طائع في ذلك القبض على هذا القصد فيكون ضامنا للمال وأما المكره فلان الدافع ملجأ من جهته فيجعل كانه قبضه بنفسه ودفعه إليه فان ضمن المكره رجع على الموهوب له لانه قائم مقام من ضمنه لان المكره ما قصد مباشرة الهبة من جهته فلا يمكن تنفيذ الهبة من جهته بملكه اياه وفى الاصل أشار إلى حرف آخر فقال لانه انما ضمن المال بقبض الموهوب له وقد كانت الهبة قبل القبض فلا يجعل الذى أكرههما بمنزلة الواهب وما قلناه أوضح لانا إذا جعلنا القابض مكرها وكان المكره ضامنا باعتبار نسبة القبض إليه لا يبقى في جانب القابض سبب موجب للضمان عليه والدليل عليه انه قال فان ضمن الموهوب له لم يكن على الذى أكرهه شئ لانه أخذه على انه له ولو كان القبض منسوبا إلى المكره كان للقابض أن يرجع على المكره بما يلحقه من الضمان بسببه فان كان الموهوب له بحيث يتمكن من الاشهاد عند الهبة أن يقبضه للرد فلم يفعل كان ضامنا بترك الاشهاد لان القبض بحكم الهبة عمل منه لنفسه فلا يقبل قوله بخلاف ما صرح به الا عند
[ 80 ] الضرورة وهو ما إذا لم يكن متمكنا من الاشهاد لانا رأينا ان في موضع الضرورة يجعل القول قوله فيما في ضميره كالمكره على الكفر إذا قال بعد ما تكلم بالكفر كنت مطمئن القلب بالايمان قبل قوله ولم تبن منه امرأته فاما عند تمكنه من الاشهاد بلا ضرورة فلا يقبل قوله بمنزلة من وجد عبد آبقا لرجل في يد غيره فلم يقدر على استرداده منه الا بشراء أو هبة فطلب ذلك منه حتى وهب له أو اشتراه كان ضامنا له الا أن يشهد عند ذلك انه يأخذه ليرده على مولاه فإذا أشهد لم يضمن وكذلك ان لم يكن متمكنا من الاشهاد يقبل قوله في ذلك ولو أكرهه على بيع عبده وأكره المشترى على شرائه وأكرههما على التقابض فهلك الثمن والعبد ثم اختصموا فضمان العبد للبائع وضمان الثمن للمشترى على الذى أكرههما لان كل واحد منهما ملجأ على دفع ماله إلى الآخر من جهته فان أراد أحدهما ان يضمن صاحبه سئل كل واحد منهما عما قبضه على وجه قبضه فان قال قبضته على البيع الذى أكرهنا عليه ليكون لى وقالا ذلك جميعا فالبيع جائز ولا ضمان على المكره فيه لان قبض كل واحد منهما على هذا القصد دليل الرضا منه بالبيع ودليل الرضا كصريح الرضا (ألا ترى) أنهما لو أكرها على البيع ثم تقابضا بغير اكراه تم البيع بينهما فكذلك إذا أقر كل واحد منهما انه قبضه على وجه التمليك وان قال قبضته مكرها لارده على صاحبه وآخذه منه ما أعطيت وحلف كل واحد منهما لصاحبه على ذلك لم يكن لواحد منهما على صاحبه ضمان لان الاكراه دليل ظاهر لكل واحد منهما على ما يخبر به عن ضميره الا أن صاحبه يدعى عليه ما لو أقر به لزمه الضمان فإذا أنكر يحلف على ذلك فان حلف أحدهما وأبى الآخر ان يحلف لم يضمن الذى حلف لان بيمينه قد انتفى عنه بسبب الضمان الا أن يثبته صاحبه بالحجة ويضمن الذى لم يحلف ما قبض لان نكوله كاقراره وذلك يثبت عليه سببب الضمان عند قضاء القاضى فان كان الذى أبى اليمين هو الذى قبض العبد ضمن البائع قيمة العبد أيهما شاء لان فعله بالدفع صار منسوبا إلى المكره والقابض كان طائعا حين قبضه لنفسه على وجه التملك فان ضمنها المكره رجع بها على المشترى لانه ملك بالضمان وما قصد تنفيذ البيع من جهته ولانه انما ضمنها بالاكراه على القبض وقد كان البيع قبل ذلك فلا يكون بمنزلة البائع وقد بينا أن الوجه الاول أصبح وان ضمنها المشترى لم يرجع بها على المكره لانه أقر أنه لم يقبضه على وجه الاكراه وانما قبضه على وجه الشراء ولم يرجع على البائع بالثمن أيضا لان البائع قد حلف أنه قبض الثمن للرد
[ 81 ] عليه وقد هلك في يده فلا يضمن له شيأ من ذلك ولا يرجع بالثمن على المكره أيضا لانه أقر انه دفع الثمن طوعا وانه كان راضيا بالبيع وان كان المشترى حلف وأبى البائع اليمين فلا ضمان في العبد على من أخذه وأما الثمن فان شاء المشترى ضمنه المكره وان شاء ضمنه البائع لان البائع بنكوله أقر أنه قبض الثمن لنفسه طائعا وفعل الدافع منسوب إلى المكره للالجاء فان ضمن البائع لم يرجع به على المكره لانه ضمن بفعل كان عاملا فيه لنفسه طائعا وان ضمنه المكره رجع به على البائع لانه قام مقام من ضمنه ولانه ملكه بالضمان والقابض كان طائعا في قبضه لنفسه فيضمن له ذلك ولو أكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبض فلما تبايعا لم يتقابضا حتى فارقا الذى أكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضا منهما بالبيع واجازة له لان البيع مع الاكراه كان منعقدا ولم يكن نافذا جائزا لانعدام الرضا منهما فإذا وجد دليل الرضا نزل ذلك منزلة التصريح بالرضا بالاجارة طوعا وقد بينا الفرق بين الهبة وبين البيع لان الاكراه على البيع لا يكون اكراها على التسليم والاكراه على الهبة يكون اكراها على التسليم ولو كان الاكراه في الوجه الاول على البيع والقبض بغير تلف بل بحبس أو قيد وتقابضا على ذلك مكرهين لم يجز البيع لان نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا وبالتهديد بالحبس ينعدم تمام الرضا فان ضاع ذلك عندهما فلا ضمان لواحد منهما على المكره لان فعلهما لم يصر منسوبا إلى المكره فان نسبة الفعل إليه بالالجاء والتهديد بالحبس لا يتحقق الالجاء ولكن كل واحد منهما ضامن لما قبض من مال صاحبه لانه قبضه بحكم عقد فاسد وفعل كل واحد منهما في القبض مقصور عليه وقد قبضه بغير رضا صاحبه ولو قبضه بحكم العقد الفاسد برضا صاحبه كان مضمونا عليه فهنا أولى أن يكون مضمونا عليه ولو أكرهه بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل وأكره الآخر بالحبس على قبوله وديعة فقبله وضاع عنده فلا ضمان على المكره ولا على القابض أما على المكره فلانعدام الالجاء من جهته واما على القابض فلانه ما قبض لنفسه وانما قبضه ليحفظه وديعة ويرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يكون موجبا للضمان عليه وان انعدام الرضا من صاحبه كما لو هبت الريح بثوب انسان وألقته في حجر غيره فأخذه ليرده على صاحبه فهلك لم يكن ضامنا شيأ ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا أو يدفعه إليه وأكره الآخر بالحبس على قبوله وقبضه فهلك فالضمان على القابض لانه قبضه على وجه التملك وفعله في القبض مقصور عليه
[ 82 ] فانه غير ملجأ من جهة المكره فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ولا المكره شيأ أما القابض فلانه ملجأ إلى القبض وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه وأما المكره فلان الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه لانه كان مكرها بالحبس فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قال أبو حازم رحمه الله وهذا غلط لان فعل الدافع ان لم يكن منسوبا إلى المكره ففعل القابض صار منسوبا إليه وانما قبضه بغير رضا المالك فكأن المكره قبضه بنفسه فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه وما قاله في الكتاب أصح لان هذا القبض متمم للهبة وفى مثله لا يصلح المكره آلة للمكره (ألا ترى) أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم لهبة به ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك وذلك بالدفع والاخراج من يدهما لا بالقبض لان الاموال محفوظة بالايدي وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره ولو أكره الواهب بتلف وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن ان شاء المكره وان شاء القابض لان فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته فيكون المكره ضامنا له وفعل القابض مقصور عليه لانه كان مكرها على القبض بالحبس وقد قبضه على وجه التملك فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء فان ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا وكذلك في البيع إذا أكره بالبائع بوعيد تلف على البيع والتقابض وأكره المشترى على ذلك بالحبس فتقابضا وضاع المال فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد ان يحلف ما قبضه الا ليرده على صاحبه لانه ملجأ قبل القبض فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده لانه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ثم يرجع بها المكره على المشترى لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره وقد ملكه بالضمان فان شاء البائع ضمنها المشترى لان فعله في القبض مقصور عليه وقد قبضه على وجه التملك وان لم يكن راضيا بسببه ثم لا يرجع المشترى على المكره بالقيمة ولا بالثمن أما القيمة فلانه انما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه واما الثمن فلانه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان وفى هذا طعن أبى حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة ولو كان أكره البائع بالحبس وأكره المشترى بالقتل فلا ضمان للبائع في العبد على المشترى ولا على المكره لان المشترى ملجأ إلى القبض فلا يكون ضامنا شيأ والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره فيقتصر
[ 83 ] حكم الدفع عليه فلهذا لا ضمان على المكره وللمشترى أن يضمن الثمن ان شاء البائع وان شاء المكره لان كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه وللمشترى الخيار فان ضمن المكره رجع به على البائع لانه قام مقام من ضمنه ولانه ملك المضمون بالضمان ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن فرجع على البائع بالثمن والله أعلم بالصواب (باب من الاكراه على الاقرار) (قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق أو طلاق أو نكاح وهو يقول لم أفعله فاقر به مكرها فاقراره باطل والعبد عبده كما كان والمرأة زوجته كما كانت لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والاكراه الظاهر دليل على انه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالاخبار لا يصير صدقا (ألا ترى) أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا باخبارهم به والدليل عليه انه لو أقر به طائعا وهو يعلم انه كاذب في ذلك فانه يسعه امساكها فيما بينه وبين الله تعالى الا أن القاضى لا يصدقه على ذلك لانه مأمور باتباع الظاهر والظاهر ان الانسان لا يكذب فيما يلحق الضرر به فإذا كان مكرها وجب تصديقه في ذلك لوجود الاكراه فلهذا لا يقع به شئ والاكراه بالحبس والقتل في هذا سواء لان الاقرار تصرف من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه بالحبس ينعدم ذلك وكذلك الاقرار بالرجعة أو الفئ في الايلاء أو العفو عن دم العمد فانه لا يصح مع الاكراه لما قلنا وكذلك الاقرار في عبده انه ابنه أو جاريته انها أم ولده لان هذا اخبار عن أمر سابق خفى فالاكراه دليل على انه كاذب فيما يخبر به * فان قيل أليس عند أبى حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الاقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينبغى أن ينفذ هنا بطريق الاولى قلنا أبو حنيفة رحمه الله يجعل ذلك الكلام مجازا عن الاقرار بالعتق كانه قال عتق على من حين ملكته وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في اقراره فاما عند الاكراه فأكثر ما فيه ان يجعل هذا مجازا عن الاقرار بالعتق ولكن الاكراه يمنع صحة الاقرار بالعتق كما يمنع صحة الاقرار
[ 84 ] بالنسب ولو أكره نصراني على الاسلام فاسلم كان مسلما لوجود حقيقة الاسلام مع الاكراه فان ذلك بالتصديق بالقلب والاقرار باللسان وقد سمعنا اقراره بلسانه وانما يعبر عما في قبله لسانه فلهذا يحكم باسلامه والاصل فيه قوله تعالى وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها وقال عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله وقد قبل من المنافقين ما أظهروا من الاسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفا من السيف وهذا في أحكام الدنيا فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد فيما يقول لا يكون مسلما والذمى في هذا والحربي سواء عندنا والشافعي رحمه الله يفرق بينهما باعتبار أن اكراه الحربى على الاسلام اكراه بحق وقد قررناه فيما سبق وفرق بين الاكراه على الاسلام وبين الاكراه على الردة وقال الردة انما تحصل بتبديل الاعتقاد والاكراه دليل ظاهر على انه غير مبدل لاعتقاده فأما الاسلام في أحكام الدنيا فانما يثبت بالاقرار باللسان مع التصديق بالقلب ولا طريق لنا إلى الوقوف على ما في قلبه وقد سمعنا اقراره مع الاكراه فلذلك حكمنا باسلامه فان رجع عنه إلى النصرانية اجبر على الاسلام ولم يقتل استحسانا وفى القياس يقتل لانه بدل الدين وقد قال عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه وهذا لان الاكراه لما لم يمنع صحة الاسلام كان المكره كالطائع فيه ولكنه استحسن اسقاط القتل عنه للشبهة التى فعلت لانا لا نعلم سره حقيقة والادلة قد تعارضت فكون الاسلام مما يجب اعتقاده دليل على انه معتقد والاكراه دليل على أنه غير معتقد بما يقول وتعارض الادلة شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وهذا نظير القياس والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على الاسلام ولا يقتل استحسانا والذى أسلم بنفسه في صغره إذا بلغ مرتدا يجبر على الاسلام ولا يقتل للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف العلماء رحمهم الله ولو كان اكرهه على الاقرار باسلام ماض منه فالاقرار باطل لان الاكراه دليل على انه كاذب فيما أخبر به من الاقرار بالاسلام ماضيا وكذلك لو أكره بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بانه لا قود له قبل هذا الرجل ولا بينة له عليه به فالاقرار باطل لان الاكراه دليل على انه كاذب فيما يقر به بخلاف ما إذا أكره على انشاء العفو فان اعاده بعد ذلك وأقام البينة عليه به حكم له بالقود لان ما سبق منه من الاقرار بالعفو قد بطل فكان وجوده كعدمه وكذلك لو أكرهه على أن يقر بانه لم يتزوج هذه المرأة وانه لا بينة له عليها بذلك أو على أن هذا ليس بعبده وانه حر
[ 85 ] الاصل فاقراره بذلك باطل لان الاكراه على انه كاذب فيما أقر به فلا يمنع ذلك قبول بينته على ما يدعيه من النكاح والرق بعد ذلك (ألا ترى) انه لو أقر بشئ من هذا هازلا لا يلزمه شئ فيما بينه وبين ربه ولو اقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب فيما قال وسعه امساك المرأة والعبد فيما بينه وبين ربه بخلاف الانشاء فمن هذا الوجه يقع الفرق بين هذه الفصول والله أعلم بالصواب (باب من الاكراه على النكاح والخلع والعتق والصلح عن دم العمد) (قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكره بوعيد تلف حتى خلع امرأته على ألف درهم ومهرها الذى تزوجها عليه أربعة آلاف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع لان الخلع من جانب الزوج طلاق والاكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل فكذلك بالجعل وللزوج على امرأته ألف درهم لانها قد التزمت الالف طائعة بازاء ما سلم لها من البينونة ولا شئ على المكره للزوج لانه أتلف عليه ملك النكاح وقد بينا أنه لا قيمة لملك النكاح عند الخروج من ملك الزوج وانه ليس بمال فلا يكون مضمونا بالمال أصلا بل عند الحاجة إلى الصيانة والمضمون المحل المملوك لا الملك الوارد عليه ولهذا جاز ازالة الملك بغير شهود ولا عوض وكذلك لو أكره ولى العمد على أن يصالح منه على ألف درهم فالاكراه لا يمنع اسقاط القود بالعفو فكذلك لا يمنع اسقاطه بالصلح ولا شئ له سوى الالف على الذى كان قبله الدم ولا شئ لصاحب الدم على الذى أكرهه لان القاتل ما التزم الزيادة على الالف والمكره أتلف عليه ما ليس بمال متقوم وهو ملك استيفاء القود وهذا ملك غير مضمون بالعفو مندوب إليه شرعا وبه فارق النفس فانها مضمونة بالمال عند الاتلاف خطأ صيانة لها عن الاهدار ولو أكره على أن يعتق عبده على مائة درهم وقبله العبد وقيمته ألف والعبد غير مكره فالعتق جائز على المائة لان الاكراه لا يمنع صحة اسقاط الرق بالعتق والعبد التزم المائة طوعا ثم يتخير مولى العبد فان شاء ضمن الذى أكرهه قيمة العبد لانه أتلف عليه ملكه في العبد بالاكراه الملجئ وملكه في العبد ملك مال متقوم فيكون مضمونا على المتلف بخلاف ما سبق ثم يرجع المكره على العبد بمائة لان المولى أقامه مقام نفسه حين ضمنه القيمة في الرجوع على العبد بالمسمي وان شاء المولى أخذ العبد بالمائة ورجع على المكره
[ 86 ] بتسعمائة تمام القيمة لان ما زاد على قدر المسمى من المالية أتلفه المكره عليه بغير عوض فان قيل لماذا كان له أن يرجع بجميع الالف على المكره وقد اتلف عليه مقدار المائة بعوض قلنا لان هذا العوض في ذمة مفلسة فان العبد يخرج من ملك المولى ولا شئ له فهو كالتاوى فان قيل لماذا لم يجعل اختياره للمسمى ابراء منه للمكره * قلنا في مقدار المائة يجعل هكذا لان له أن يرجع بها على أيهما شاء فاما في الزيادة على ذلك فحقه متعين في ذمة المكره ولو كان أكرهه على العتق بألفى درهم إلى سنة وقيمته ألف فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمة عبده لانه أتلف عليه ماليته ببدل لا يصل إليه الا بعد مضى الاجل وان شاء اتبع العبد بالالفين بعد مضى السنة لانه التزم ذلك طوعا فان اختار تضمين المكره قام المكره مقام المولى في الرجوع على العبد بالمسمى عند حلول الاجل فإذا أخذ ذلك منه امسك ألفا مقدار ما غرم وتصدق بالفضل لانه حصل له بكسب خبيث وان اختار اتباع العبد فلا شئ له على المكره بعد ذلك لانه صار راضيا بما صنع حين اختار اتباع العبد فان كان الالفان نجوما فحل نجم منها فطلب المولى العبد بذلك النجم بغير اكراه فهذا منه اختيار لاتباع العبد ولا ضمان له على المكره بعد ذلك لان مطالبته اياه بذلك النجم دليل الرضا منه بما سبق فيكون كالتصريح بالرضا وذلك يسقط حقه في تضمين المكره ولو أكرهت امرأة بوعيد تلف أو حبس حتى تقبل من زوجها تطليقة على ألف درهم فقبلت ذلك منه وقد دخل بها ومهرها الذى تزوجها عليه أربعة آلاف أو خمسمائة فالطلاق رجعى ولا شئ عليه من المال لان التزام البدل يعتمد تمام الرضا وبالاكراه ينعدم الرضا سواء كان الاكراه بحبس أو بقتل ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود للقبول (ألا ترى) أنه لو طلق امرأته الصغيرة على مال فقبلت وقع الطلاق ولم يجب المال وبسبب الاكراه لا ينعدم القبول فلهذا كان الطلاق واقعا ثم الواقع بصريح اللفظ يكون رجعيا إذا لم يجب العوض بمقابلته وهنا لا عوض عليه فكان الطلاق رجعيا وقد ذكر في الجامع الصغير إذا شرطت الخيار لنفسها ثلاثة ايام في الطلاق بمال عند أبى حنفية لا يقع الطلاق ما لم يسقط الخيار وعندهما الطلاق واقع والمال لازم وكذلك لو هزلت بقبول الطلاق بمال واتفقا على ذلك عند أبى حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يرض بالتزام المال وعندهما الطلاق واقع والمال واجب فبالكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الاكراه ومسألة الخيار والهزل فاما أبو حنيفة رحمه الله فقال الاكراه لا يعدم
[ 87 ] الاخيتار في السبب والحكم وانما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق ولانعدام الرضا لا يجب المال فكان المال لم يذكر أصلا فأما خيار الشرط فلانعدام الاختيار والرضا بالسبب وبعدم الاختيار والرضا بالحكم يتوقف الحكم وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضا به وكذلك الهزل لا ينافى الاختيار والرضا بالسبب وانما يعدم الرضا والاختيار بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار في حقه وصح التزام المال به موقوفا على ان يلزمه عند تمام الرضا به وهما يقولان الاكراه يعدم الرضا بالحكم ولا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا يجب المال لانعدام الرضا به فكأنه لم يذكر فأما الهزل وشرط الخيار فلا يعدم الرضا بالسبب والحكم لا ينفصل عن السبب فالرضا بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب المال لان المال صار تبعا للطلاق في الحكم وفى الاكراه انعدم الرضا بالسبب فلا يثبت ما يعتمد ثبوته الرضا وهو المال ويثبت من المال ما لا يعتمد ثبوته الرضا وهو الطلاق فان قالت بعد ذلك قد رضيت بتلك التطليقة بذلك المال جاز ولزمها المال وتكون التطليقة بائنة في قول أبى حنيفة وقال محمد اجازتها باطلة وهى تطليقة رجعية ولم يذكر قول أبى يوسف فقيل قوله كقول محمد رحمهما الله والاصح ان قوله كقول أبى حنيفة رحمه الله فمن جعل قوله كقول محمد قال المسألة فرع لما بينا في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته أنت طالق كيف شئت عند أبى حنيفة تقع تطليقة رجعية ولها الخيار في جعلها بائنة وعندهما لا يقع عليها شئ ما لم تشأ فمن أصله انه يقع أصل الطلاق ويبقى لها المشيئة في الصفة فهنا أيضا وقع أصل الطلاق بقبولها وبقي لها المشيئة في صفته فإذا التزمت المال طوعا صارت تطليقة بائنة وعندهما لا يجوز أن يبقى لها مشيئة بعد وقوع أصل الطلاق بقبولها فلا رأى لها بعد ذلك في التزام المال لتغير صفة تك التطليقة ومن قال ان قول أبى يوسف كقول أبى حنيفة جعل المسألة فرعا لما بيناه في كتاب الدعوى ان من طلق امرأته تطليقة رجعية ثم قال جعلتها بائنة عند أبى حنيفة وأبى يوسف تصير بائنا وعند محمد لا تصير بائنا فلما كان من اصلها أن للزوج أن يجعل الواقع بصفة الرجعية بائنا فكذلك للمرأة ذلك بالتزام المال وعند محمد لما لم يكن للزوج ولاية جعل التطليقة الرجعية بائنة فكذلك لا يكون لها ذلك بالتزام المال ولو كان مكان التطليقة خلع بألف درهم كان الطلاق بائنا ولا شئ عليها لان الواقع بلفظ الخلع بائن من غير اعتبار وجوب المال فان الخلع مشتق من الخلع والانتزاع