ما الذي يجعلنا أذكياء
ما الذي يجعلنا أذكياء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
د.إيهاب عبد الرحيم محمد
هل نحن قريبون في الحياة الواقعية من بناء إنسان آلي (روبوت) يتمتع بذكاء حقيقي؟ وهل ندرك ماهية هذه الملكة أصلا؟... هذا ما سنحاول معرفته معا..
في الفيلم الأخير للمخرج الأمريكي الأشهر، ستيفن سبيلبيرج، وعنوانه «الذكاء الصناعي»(2)، ليس هناك ثمة فرق محسوس بين البطل، وهو روبوت ذكي شبيه بالبشر، وبين الشاب (المحتضر) الذي صمم ليحل محله (شكل رقم 2). ويعتبر ذلك بمثابة الصدمة إذا اعتدت التفكير بالروبوتات كآلات ذكية تقوم بتجميع السيارات، والتي قد تتمكن- في يوم ما- من إحضار زجاجة من مشروبك المفضل من الثلاجة.
وعلى وجه العموم، نحن نعلم أن الذكاء خاصية ينفرد بها البشر. حسنا... ربما كان الأمر كذلك. وفي الحقيقة، فنحن لا زلنا غير واثقين على وجه التحديد من ماهية الذكاء، ومن أفضل الطرق لقياسه، ناهيك عن الارتباط بين الذكاء وبين النجاح.
وقد يتجادل علماء النفس حول التعاريف، لكنه من المتفق عليه عموما أن الذكاء يتمثل في القدرة على التعلم، وحل المشكلات، وتدبر الأمر بنجاح في الحياة. كما أن الاكتشاف الذي تحقق مؤخرا لجين gene يوجد بتواتر أكبر بين الأشخاص الذين يحققون معدلات أعلى في اختبارات الذكاء، يطرح أسئلة جديدة، وكذلك تفعل معرفتنا الجديدة بالدور الذي تلعبه المشاعر في توازن التفكير. وعلى الصفحات التالية، سنناقش ما الذي يعنيه كون المرء ذكيا، ولماذا نعتقد أن جهاز الكمبيوتر الخاص بك سيبدأ في الرد عليك قريبا.
ما هو الذكاء؟
إن تعريف الملكة التي تجعل منا بشرا عملية محفوفة بالمخاطر، كما قد تكون لها مضامين خطيرة.
لم تمنع صعوبة تعريف الذكاء علماء النفس من محاولة قياسه. وقد لعبت قياسات الذكاء دورا مهما في زيادة فرص التعليم، وبصورة غير مباشرة، في خلق مجتمع يتمتع بالمزيد من المساواة عن ذي قبل. وعلى الجانب المقابل، تمتلك اختبارات الذكاء تاريخا مظلما كأداة لوصم stigmatize الناس على أساس قدراتهم العقلية.
يعد عالم الجغرافيا والأنثروبولوجيا(3) البريطاني فرانسيس جالتون (1822-1911) (شكل رقم 3) بمثابة والد اختبارات الذكاء؛ فقد كان أول من أجرى الأبحاث على الخصائص العقلية للبشر، واكتشف أن واحدا تقريبا بين كل 4000 شخص في بريطانيا حقق نتائج متميزة للغاية في اختبارات الذكاء. وعندما درس خلفيات تلك النخبة، وجد أن المواهب تنزع للتكرر في عائلات بعينها، مما دعا به إلى الاعتقاد بأن الذكاء قد ينتقل وراثيا. واقترح «تحسين» المجتمع عن طريق تحسين التركيبة الوراثية لهذا المجتمع، وبالتالي وضع نظريته الخاصة بذلك العلم سيئ السمعة- اليوجينيا-أو علم تحسين النسل(4).
وفي الوقت نفسه، أصبح التعليم العام منتشرا في جميع أنحاء أوروبا (شكل رقم 4)، مما دفع بعالم نفسي فرنسي، هو ألفريد بينيه Binet (1857-1911)، للبحث عن أفضل طريقة للتعرف على الأطفال الذين يمكنهم الدراسة في فصل عادي، وأولئك الذين يحتاجون لمساعدة إضافية في التعلم، فقد لاحظ أن بعض الأطفال يتعلمون بمعدلات أسرع من غيرهم، مما مكنه من إعداد أول اختبارات الذكاء، والذي يعرف حاليا باسم اختبار ستانفورد-بينيه.
أما عالم النفس الأمريكي لويس تيرنان Tenan (1877-1956)، وهو من قام بتعديل اختبار بينيه للاستخدام في الولايات المتحدة، فقد كان أول من صاغ مصطلح «معامل الذكاء»(5)، والذي يتم الحصول عليه بقسمة العمر العقلي للفرد على عمره الزمني وضرب الناتج *100. وقد انتشرت اختبارات معامل الذكاء بصورة واسعة في الولايات المتحدة؛ فاعتبارا من العام 1910، كان المهاجرون الأوروبيون الذين يصلون إلى ميناء نيويورك- وكثير منهم كانوا يجهل اللغة الإنجليزية تماما- يخضعون للفحص من قبل فريق من علماء النفس. ومما لا يثير الدهشة أن العمر العقلي لثمانين بالمائة منهم لم يزد على 12 سنة، وفقا لتلك الاختبارات. وفي كتابه المعنون «القياس الخاطئ للبشر»(6)، يقترح جولد أن اختبارات القياس النفسي أدت إلى حدوث زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين الذين تم ترحيلهم من الولايات المتحدة بدعوى «القصور العقلي» ما بين عامي 1914 و1915 .
تحيزات وأوهام
بعد ذلك، حوّل باحثو معامل الذكاء اهتمامهم إلى الجيش الأمريكي؛ ووصل البرنامج إلى مداه بحلول العام 1918، وعند نهاية الحرب العالمية الأولى، كان ما يقرب من مليوني مجند قد خضعوا لاختبارات الذكاء! لكن الغريب في الأمر هو أن إدارة الجيش لم تستخدم مطلقا تلك البيانات في تكليف الجنود بالمهمات التي تناسب مستوى ذكائهم. وقد أظهرت التحليلات التي أجريت لاحقا أن متوسط العمر العقلي للجنود المفحوصين كان 13 سنة!
قيل إن الأمريكيين بالمولد كانوا يحرزون معدلات أعلى في اختبارات الذكاء عن أقرانهم من المهاجرين، وخصوصا أولئك القادمين من جنوب وشرق أوروبا. وقد اقترح أحد الباحثين القائمين على مشروع الجيش لاختبارات الذكاء أن استمرار الهجرة الجماعية ستهدد المستوى الوطني لمعامل الذكاء في الولايات المتحدة.
وفي ألمانيا خلال عقد الثلاثينات من القرن العشرين، أدت فكرة تفوق الجنس الآري الأشقر الشعر إلى كارثة. أما كتاب «منحنى الجرس» The Bell Curve لمؤلفيه تشارلز موراي Murray وريتشارد هيرنشتاين Hernstein ، والمنشور عام 1994، فقد استخدم الفروق المدعاة في معامل الذكاء بين الأمريكيين السود والبيض للمطالبة بالتفرقة الإيجابية positive discrimination ، على أساس أن الأمريكيين السود هم أدنى من البيض عقليا ووراثيا، كما طالبا بتقليص الفرص التعليمية للأقليات العرقية - وهي رؤية شجبتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس.
ولا تزال اختبارات الذكاء تستخدم على نطاق واسع في مجالي التعليم والأبحاث، كما أن الاختبارات العقلية شائعة أيضا في المؤسسات الكبرى، برغم أن تلك الأخيرة تحولت من تطبيق اختبار منفرد إلى اعتماد مجموعة من الاختبارات التي تتضمن التعليل المنطقي، والتفكير الإبداعي، وأية مواصفات أخرى ترى المؤسسة أنها مناسبة للوظيفة المطلوبة.
ويتضمن أكثر اختبارات الذكاء استخداما في التاريخ، وهو اختبار ستانفورد-بينيه، مهمات لفظية للأطفال، مثل التعرف على الأشياء وتسميتها بأسمائها. ويطلب من الأطفال أيضا أداء مهمات حيزية spatial تشتمل على تصميمات هندسية. ويمكن تعديل الاختبار لملائمة الكبار، حيث قد تتضمن المهام المطلوبة الإجابة على أسئلة متعلقة بقصة معينة، لكن تركيزه على المهارات اللفظية يعني أن المفحوصين الذين لغتهم الأولى ليست الإنجليزية قد يحرزون معدلات أدنى من أقرانهم الذين لغتهم الأم هي الإنجليزية.
أما ثاني أكثر اختبارات الذكاء شيوعا فهو مقياس وكسلر للذكاء Wechsler Intelligence Scale ، والذي يضم توازنا أكثر بين المهمات اللفظية وتلك الأدائية، وقد يكون أكثر عدلا عند تطبيقه على مجموعة أوسع من المفحوصين. وتتضمن المهمات اللفظية مهارات مثل تقرير التشابهات بين الكلمات، بينما تتضمن المهمات الأدائية النمطية ترتيب عدد من الصور بتسلسلها المنطقي.
ويبلغ معدل الذكاء الوسطي نحو 100؛ أما من يحقق علامة تزيد على 130، فيعتبر «موهوبا عقليا»، بينما يصنف من ينخفض معدله عن 70 على أنه يعاني من مشكلات تعليمية. أما أعلى معدل تم تحقيقه في الولايات المتحدة فيعود للكاتبة الأمريكية مارلين فوس سافات vos Savant ، وهي كاتبة عمود «اسألوا مارلين» في إحدى الصحف الأسبوعية. وعندما بلغت العاشرة، كان عمرها العقلي مساويا لمن هم في الثالثة والعشرين، مما يمنحها معامل ذكاء قدره 228!
ذكاء ثلاثي
لكن السؤال الآن هو: ما الذي تقيسه اختبارات معامل الذكاء بالفعل؟ فعادة ما يقال إن معامل ذكائك يمثل قدرتك على الأداء في اختبارات الذكاء؛ فهذه الاختبارات تساعد على قياس قدرة شخص ما على التعليل المنطقي.
وبعد سنوات من دراسة معامل الذكاء، اقترح عالم النفس البريطاني تشارلز سبيرمان Spearman (1863-1945) أن هناك ملكة عقلية أسماها (g) أو الذكاء العام General intelligence، ولها العديد من المكونات المختلفة، والتي تتعلق كلها بالقدرة على التعليل المنطقي.
أما اليوم، وعلى أية حال، يجادل روبرت ستيرنبرج Sternberg من جامعة ييل، بأن مفهوم الذكاء (g) محدود للغاية، ولذلك فقد وضع نظرية ذات ثلاثة مكونات للذكاء: أكاديمي، وتجريبي، وعملي.
أما الذكاء الأكاديمي فهو قدرتك على معالجة المعلومات ضمن إطار التعليم الرسمي، ويعتمد بصورة أساسية على ما يسمى بالذكاء السائل fluid intelligence - وهو القدرة على التعليل والتفكير بسرعة. والذكاء التجريبي يعتمد على الإبداع، والبصيرة، والحدس- وهي جوانب كثيرا ما يخنقها التعليم الرسمي. وأخيرا، فالذكاء العملي هو الحس السليم commonsense ، ويعتمد بصورة أساسية على الذكاء المتبلور crystallized- وهو المهارات والمعارف المكتسبة. وعادة ما يبلغ الذكاء السائل أقصاه في أواخر العقد الثاني من العمر، وقد يبدأ في التدهور عند سن الخمسين تقريبا، حيث تبطئ سرعة المخ على معالجة المعلومات. لكن المفرح هو أن الذكاء المتبلور يزداد مع التقدم في العمر، مع تراكم معارفك وخبراتك.
ومن الصعب معرفة ما إن كان الذكاء- مهما كان تعريفك له- يتباين باختلاف الجنس، أو الثقافة، أو العِرق. لكن كانت هناك زيادة ظاهرية في معامل الذكاء الوسطي قدرها ثلاث نقاط لكل عقد من القرن الماضي. ولا يتغير المعين الجيني gene pool بهذه السرعة، لذلك فمن المرجح إن هذا التغير يعود إلى تحسن التغذية، وصغر حجم العائلات، وازدياد معدلات الانخراط في التعليم العام، بالإضافة إلى بيئة أفضل تجعل عملية التعلم أسهل على الأطفال.
منذ عدة سنوات، وجد عالم النفس البريطاني روبرت بلومين Plomin وفريقه أن الأطفال الذين يحرزون أفضل النتائج في امتحان اللياقة المدرسية (SATS)(7)، هم أقرب احتمالا ليكونوا حاملين لمتغاير معين لجين يسمى عامل النمو الإنسوليني من النمط الثاني(IGF-2) ، والذي يمكنه التأثير على قدرة المخ على معالجة المعلومات. وليس هذا هو «جين الذكاء» - لكنه، على أية حال، قد يكون واحدا من مجموعة من الجينات التي تعمل سوية للتأثير على الأداء الذهني.
الذكاء العاطفي: التعرف على مشاعرنا
لا يمكننا تجاهل الذكاء العاطفي- فالأبحاث تشير إلى أن ما نمتلكه منه الآن قد يكون أقل من أي وقت مضى!
لابد أن الذكاء يمثل أكثر من مجرد اختبارات لتقدير معامل الذكاءIQ .. نعم، المؤهلات مهمة- وخصوصا في سوق العمل المتغيرة سريعا- لكن الكثير من الأشخاص الناجحين جدا لم يحققوا نتائج باهرة في الدراسة أصلا. فمنذ عدة سنوات، أجرت إحدى المجلات البريطانية استبيانا سألوا فيه الناس عمن يرونه أذكى الأشخاص في بريطانيا. أما صاحب أكبر الأصوات فكان السير ريتشارد برانسون Branson. وفي معرض تعليقه على هذا الشرف، أشار برانسون إلى أنه ترك المدرسة دون تحقيق نجاح يذكر.
أما الطريقة التي حولت بها إليانور روزفلت- زوجة الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت Roosevelt- نفسها من ربة منزل إلى «السيدة الأولى للعالم»، فقد فتنت مؤرخي سيرتها الذاتية لعقود طويلة؛ فحنانها، وفهمها للآخرين، وقدرتها على توجيه مشاعرها حيث تريد، جعلت منها واحدة من أعظم النساء في التاريخ الأمريكي. والواقع أنها، وبرانسون، يظهران مستويات مرتفعة من الذكاء العاطفي (EI).
حس بالدبلوماسية
ذاع صيت «الذكاء العاطفي» بفضل كتاب عالم النفس بجامعة هارفارد والكاتب بجريدة «نيويورك تايمز» بنفس الاسم، والذي صدر العام 1995(8)، وتكملته بعنوان «العمل مع الذكاء العاطفي»(9). لكن المصطلح قد تمت صياغته أصلا على يدي عالمي نفس أمريكيين آخرين، هما بيتر سالوفي Salovey، وجون ماير Mayer، وهو مبني على أبحاث أجريت منذ عشرين عاما على يدي أستاذ جولمان بجامعة هارفارد، ديفيد مكليلاند McClelland.
ففي العام 1973، نشر مكليلاند بحثا تاريخيا أشار فيه إلى أن معامل الذكاء والإنجاز الدراسي لا يمثلان ضمانا للنجاح في المراحل التالية من الحياة. وقد أتت بعض أفكار مكليلاند من الأبحاث التي أجراها على الدبلوماسيين الشبان لحساب وزارة الخارجية الأمريكية. ففي ذلك الوقت، كان التقدم للعمل في الخارجية الأمريكية مقصورا على الطلاب المتفوقين الذين كان عليهم أن يتخصصوا في تاريخ وثقافة الولايات المتحدة، والاقتصاد، بالإضافة إلى الطلاقة في تحدث اللغات. وعلى أية حال، فلم يجد مكليلاند أي ارتباط بين نتائج الدبلوماسيين الشبان في امتحان القبول بالخارجية، وبين أدائهم الوظيفي الفعلي.
وبعد ذلك، قام مكليلاند بمقابلة الناجحين الفعليين- وهم الذين تفوقوا على رؤسائهم لكونهم الألمع والأكثر فعالية في عملهم. وعند مقارنتهم بأقرانهم، وجد أن الاختلاف بينهم ليس في معامل الذكاء- ولكن في مجموعة من القدرات البشرية التي لا يمكن قياسها بأي اختبار نفسي معروف في ذلك الوقت.
ولذلك، فقد قام بإعداد اختباره الخاص لاختيار أولئك الذين سيصبحون أفضل دبلوماسيين. كان يطلب من المتقدمين مشاهدة فترات قصيرة من شريط فيديو يتحدث فيه أشخاص عن مواقف عاطفية. لم يكن بوسعهم سماع ما يقال - وبدلا من ذلك، كان عليهم «قراءة» مشاعر أولئك الأشخاص. أما المتقدمين الذين كانوا ينجحون في عمل ذلك- حتى لو كان الشخص الذي يظهر في الشريط يتحدث بلغة أخرى، أو كان لديه خلفية مختلفة- فقد كانوا يتقدمون حتى أعلى المناصب في السلك الدبلوماسي.
يقول جولمان إن للذكاء العاطفي أبعادا متعددة؛ ففي المركز، يقع الوعي بالذات- أي فهم ما يدور داخل رأسك (كيف تأمل في فهم الآخرين إن لم تكن تفهم ذاتك أولا؟). والشخص الذي يتمتع بذكاء عاطفي هو القادر أيضا على إدارة مشاعره والتحكم فيها؛ ويعني ذلك الوصول إلى التوازن بين الإغراق في المشاعر وبين تبلد الأحاسيس والانفصال عن الآخرين عاطفيا. والأهم من ذلك كله، أن تكون قادرا على تحفيز نفسك للقيام بعمل ما. فنحن جميعا نعرف أناسا لامعين، لكنهم لا يستمتعون بحياتهم مطلقا لأنهم لا يرغبون في أن يضايقهم أحد. وبالإضافة إلى ذلك، فالكيفية التي تتواصل بها مع الناس لها أهمية بالغة- أي التعاطف والقدرة على بناء علاقات إيجابية.
وتتمتع حركة الذكاء العاطفي في الولايات المتحدة حاليا بشعبية طاغية، ففي العام 1997، كشف بحث أجرته الجمعية الأمريكية للتدريب والتطوير(ASTD) أن أربعة من بين كل خمسة من كبرى الشركات الأمريكية تشجع تطوير الذكاء العاطفي لدى موظفيها من خلال التدريب، وتقييم الأداء، وكذلك في الممارسات المتعلقة بتعيين الموظفين الجدد.
ويزداد الاهتمام بالذكاء العاطفي في أوروبا كذلك، فقد بدأ مؤخرا أول بحث أوروبي عن الذكاء العاطفي على مجموعة من المديرين البريطانيين، على يدي عالمين بريطانيين قسّما كفاءات الذكاء العاطفي إلى ثلاثة أنماط: المخولات enablers، والموجهات drivers، والمقيدات constrainers. وتتمثل المخولات الرئيسية في الوعي بالذات، والحساسية بين الأشخاص، وتأثير الأفراد على بعضهم البعض. وتتباين هذه الصفات بصورة كبيرة بين الأفراد، لكن من الممكن تدريب الأشخاص على تحسين هذه الكفاءات لديهم، من خلال تعزيز ما يمتلكونه بالفعل. وتشير الأبحاث إلى أن الوعي بالذات هو أسهل الصفات في إمكانية التدريب عليها. لكن الباحثون يرون أن أيا من هذه الكفاءات لا يمكن تطويرها على عجل، فإذا أردت دورة مدتها يومين في الذكاء العاطفي، فستشعر للأسف بالإحباط إذ لن تحقق هدفك!
ما الذي يوجهك إذن؟
يمكن تحديد موجهات الذكاء العاطفي في التحفيز motivation، والحدس، والحسم؛ أما المقيدات فتتمثل في سهولة التكيف resilience ، والضمير الحي. أما الموجهات والمقيدات فتطويرها أصعب من تطوير المخولات- فإما أنك تمتلكها أو لا.
وليس الذكاء العاطفي، كما يفترض في كثير من الأحيان، هو ميدان تفوق النساء، فتشير الأبحاث التي أجراها علماء النفس إلى أنه في حين تكون النساء أكثر وعيا بمشاعرهن، ويظهرن تعاطفا أكثر، ويكن أفضل في العلاقات الشخصية، إلا أن الرجال يسيطرون بصورة أفضل على المواقف التي يشوبها التوتر، كما أنهم أكثر ثقة وتكيفا من النساء. وعند الحديث عن الذكاء العاطفي الإجمالي، ليست هناك فروق حقيقية بين الجنسين- فجميعنا لدينا نقاط للقوة وأخرى للضعف.
ويمكنك حتى أن تقيس المقابل «العاطفي» لمعامل الذكاء- والمعروف باسم المعامل العاطفي Emotional Quotient: EQ ، وليس هناك علاقة واضحة بين الاثنين. والمهم أنهما ليسا على علاقة عكسية، ولكن المعامل العاطفي- على عكس معامل الذكاء- من الممكن أن يزداد بالفعل طوال الحياة- لأن كل مكوناته يمكن تحسينها إذا كنت راغبا في الاستفادة من تجاربك وتجارب الآخرين والاستفادة منها. وهذا أمر مهم، لأن الدراسات التي أجريت على الأطفال الأمريكيين أشارت إلى أنه في حين ارتفع معامل الذكاء منذ بداية تطبيق اختباراته، فقد تدهورت معدلات المعامل العاطفي لديهم. وعندما تنظر في سلوك الأشخاص المحيطين بك (المشاجرات المرورية، على سبيل المثال ) قد تنفع إلى التفكير بأن هذا المبدأ ينطبق في كل مكان آخر. وبالفعل، نحن بحاجة إلى المزيد من الذكاء العاطفي، والذي يمثل فكرة حان وقتها الآن!
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هل تتمتع الحيوانات بالذكاء؟
تتعلم الجرذان الجري حول المتاهات، ويبدو أن القطط تستشعر مشاعرك نحوها، وتعلم الكلاب متي يعود أصحابها إلى المنزل، كما يمكن لأي إنسان جرب السباحة مع الدلافين أن يخبرك بأن هذه الحيوانات ذكية للغاية. من الواضح أن الحيوانات قابلة للتعلم، ويمكنها أن تتذكر، لكن دون لغة ودون إدراك للذات، لا يمكن اعتبارها ذكية بالمعنى المعتاد. فالكثير من حركاتها غريزية حتى ولو بدت لنا حركات إرادية ذات مغزى.
وقد استمر الجدل طويلا حول الطريقة التي تتواصل بها الرئيسيات primates فيما بينها، وتشير الدراسات التي أجريت على الشمبانزي واشو والشمبانزي كانزي، والغوريلا كوكو (الشكل رقم 8)، إلى أن هذه الحيوانات قادرة على تعلم الرموز والأصوات - بل وأن تكبس أزرارا على لوحة مفاتيح الكمبيوتر تدل على استجابات "ذكية"، ولكن السؤال هو: هل تتواصل فعلا باستخدام لغة ما؟ - أو أنها تستخدم التفكير المجرد والتخطيط للمستقبل؟... لا أحد يدري!
في أواخر الستينات من القرن العشرين، حاول عالم سلوك الحيوان جوردون جالوب Gallup اكتشاف ما إن كان عدد من الأنواع الحيوانية يتمتع بالوعي بالذات. وقام برسم نقطة حمراء على وجوهها، ثم وضعها أمام مرآة. وقد رأي جالوب أن الحيوان الذي بدأ يتلمس النقطة الحمراء واع بأنه ينظر لصورته هو في المرآة، أي أنه مدرك لذاته. ولم ينجح في هذا الاختبار سوى البشر، والشمبانزي والأورانج-أوتان.
روبوتات ذات مشاعر؟
يبدو من الممكن بناء آلة لديها بعض جوانب الذكاء البشري، أو حتى تحرز معدات مرتفعة في اختبارات الذكاء، لكن من المؤكد أنها لن تمتلك ذكاء عاطفيا في يوم من الأيام.
ظـل الروبــوت الشــبيه بالإنســان humanoid robot، أي ذلك المصنوع على شكل الإنسان، من الملامح المميزة لأدب الخيال العلمي منذ نشأته .
ومن المثير للعجب أن «كائنات» كهذه يفترض أنها تفتقر للمشاعر الإنسانية، تتباين خصائص تلك الروبوتات في الأجزاء المختلفة من العالم؛ ففي اليابان، تكون هذه شخصيات ودودة مستوحاة من شخصية للرسوم المتحركة لها عينين واسعتين وشعر شبيه بشعر القنفذ، أما في الغرب، فهي شبيهة بشخصية أرنولد شوارزينجر في فيلم المدمر Terminator، ذات ولع ببنادق الكلاشينكوف الروسية- رغم امتلاكها لأسلحة القرن الحادي والعشرين.
لكن خلال العقدين القادمين، سيصبح الخلاف حول الصفات المزاجية المختلفة للروبوتات، أكثر أهمية بكثير، إذ أنها ستنتقل من عالم الخيال العلمي إلى أرض الواقع.
وكلمةrobot مشتقة من لفظة تشيكية بمعنى «العمل القسري»، والتي تبدو ملائمة بصورة خاصة عند تطبيقها على الروبوتات الصناعية التي تجدها في خطوط التجميع في مصانع السيارات، لكن عددا متزايدا من الروبوتات التي تنتجها مختبرات عديدة في جميع أنحاء العالم غير مخصصة للأغراض الصناعية.
والروبوتات التي تستحوذ على أكبر قدر من الاهتمام هي تلك الشبيهة بالإنسان، ليس فقط لأنها تزود العلماء بالتحدي الأكبر؛ فمن أجل محاكاة الصفات البشرية، يتوجب على العلماء أن يتساءلوا، ومن ثم القيام بمحاولة إعادة تعريف الطبيعة الدقيقة لكينونتنا البشرية. وعلى سبيل المثال، ماذا نعني بالوعي ؟
وتتنافس العديد من المختبرات في جميع أنحاء العالم على إنتاج مثل هذه الروبوتات وتحسين صفاتها؛ فقد أنتج عدد من الأيدي متعددة الاستعمالات المزودة بأصابع متعددة، كما أن مجسات اللمس في تحسن مستمر. ويعتقد الباحثون أننا بحاجة لسنوات من العمل الشاق للوصول إلى الآليات المثالية للروبوت الشبيه بالإنسان، وسنوات أخرى لبناء دماغ يمكنه التحكم بجميع أجزاء الجسم الصناعية. وفي حقيقة الأمر، إن الجزء الحركي من الدماغ، والذي يتحكم في جميع الحركات هو ذلك الجزء الذي نفهمه جيدا، وتتمثل المشكلة الحقيقية في فهم بقية الوظائف الدماغية. ولمساعدة الباحثين في هذه المهمة، يستفيد العلماء من خبرة 50 سنة من الدراسة في مجال الذكاء الاصطناعي AI.
وقد حاولت الجهود الأولى في هذا المجال بناء الروبـوتات من أعلى لأسـفل (Top - down)، عن طريق برمجة حاسوب مسبقا بالتعليمات اللازمة. وكان يؤمل في أن الآلات ستكون قادرة عندئذ على محاكاة قدرة البشر على اتخاذ القرارات المعقدة. لكن هذا يعني أن تتم تغذية الآلات ببرامج حاسوبية بالغة الطول تحاول محاكاة العمليات المنطقية وتغطية جميع الاحتمالات الممكنة، مهما كانت ضئيلة. ومثال ذلك البرنامج الذي بنته شركة IBM للشطرنج وأسمته «Deep Blue»، والذي تمكن من منازلة، بل وهزيمة، بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف في عام 1997 .
ومع هذا النوع من البرمجيات، يحتاج المبرمجون للتحديد المسبق لكل ملامح المشكلات المحتملة، مما يجعل الكمبيوتر غير فعال وغير مرن. ولاحتواء برامج مثل هذه، ستحتاج الروبوتات إلى رؤوس بحجم رأس كينج كونج.
وفي منتصف الثمانينات من القرن العشرين، حدثت ثورة في علم الروبوتيات، بانتهاج الأسلوب الجديد كليا - من اسفل لأعلى(Bottom - up) ، فالكمبيوتر من هذا النوع يتعلم من الصفر عن طريق التفاعل مع البيئة المحيطة به، مثل الطفل الحديث الولادة. ومن خلال عمليات المحاولة والخطأ (على سبيل المثال، الارتطام بالأشياء إذا كان يحاول تعلم المشي)، بدأت الآلات تتعلم من تجاربها هي.
ويستخدم كوج Cog، وهو روبوت شبيه بالإنسان تم تطويره في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا(MIT) هذه الطريقة للتعلم - فبدلا من البرنامج الحاسوبي، يتمثل التجهيز الأساسي لوجوده في «أمه»، والتي يتعلم معها التواصل البصري لأول مرة. ومن خلال آلة التصوير التي هي «عينه»، يقوم بمحاكاة أفعال الأم، متقدما من خلال المحاولة والخطأ، وتعلم مهارات متزايدة الصعوبة. لكن هذه العملية لاتزال في مهدها - فحتى الآن لا يمتلك كوج حتى الإمكانيات التي يتمتع بها طفل بشري في الثانية من عمره.
وقد استمد هذا الأسلوب البديل للذكاء الاصطناعي أصوله من أبحاث عالم الكمبيوتر الأمريكي جون هولاند في ستينيات القرن العشرين، لكن دراسته ظلت طي النسيان لمدة عقدين كاملين من الزمان قبل أن يعود الاهتمام بها من جديد. وقد استلهم هولند بدوره نظرية داوروين للتطور فقام بأعداد برنامج حاسوبي يحاكي عملية التطور الطبيعي؛ فباستخدام معادلات تسمى اللوغاريتمات الجينية، يأخذ برنامج هولند شفرتين حاسوبيتين شبيهتين بكروموسومات، تقومان بأداء عملهما على اكمل وجه، ثم يقوم بدمجهما لإنتاج شفرة ثالثة ربما تقوم بالمهمة بشكل افضل. ويستخدم هذا «النسل» بعد ذلك لصنع جيل تال، حسب لياقتها لأداء المهمة المنوطة بها. فكلما زادت ليقاتها، زادت فرصتها «للتكاثر»، مما ينتج عنه توريث محتويتها للجيل التالي. وتتكرر هذه العملية حتى يتم إنتاج عدد هائل من الشفرات، تعمل جميعها على أداء نفس المهمة على التوازي. والدماغ البشري شبيه بهذا المعالج الذي يعمل على التوازي، فهو يتعلم عن طريق تعزيز السبل Pathways التي تنتج عنها استجابات صحيحة، وإلغاء السبل التي تنتج عنها الأخطاء. لكن صنع برنامج حاسوبي يقوم بهذا النوع من «الذكاء» لا يجعله «بشريا»؛ فهناك أشياء أخرى أكثر تعقيدا يقوم بها الدماغ البشري، وهي التي تميزنا عن بقية المخلوقات، مثل «الوعي»، و«التفكير المجرد» abstract thinking، و«الفطرة السليمة» common sense.
وفي عام 1984، بدأ دوجلاس لينات Lenat في إعداد موسوعته للفطرة السليمة، والمعروفة اختصارا باسم Cyc.، كان الهدف منها هو كتابة قائمة كاملة بجميع قواعد الفطرة السليمة لتزويد الآلات بها، ومن ثم تحليل تلك القواعد إلى مكوناتها المنطقية. وتشمل هذه القواعد حقائق مثل «لا يمكن لأي شيء أن يوجد في مكانين مختلفين في نفس الوقت»، و«عندما تمطر السماء، يصاب الناس بالبلل». وبعد ذلك بعشرة سنوات، كان لينات قد جمّع 10 ملايين من هذه «القواعد»، أي ما حجمه مليون بايت من المعلومات. وفي النهاية، يأمل لينات في أن يتمكن من تجميع 100 مليون من هذه التوكيدات «الواضحة».
لكن مهما بلغت درجة طموح هذه المشاريع، فلا تزال محدودة - حيث أنها تعتمد على تعليمات مكتوبة مسبقا على أقراص ورقائق حاسوبية. لكن هل يمكن حوسبة الفهم؟... ولمعرفة الإجابة على هذا السؤال المهم، لازال العلماء يحاولون سبر أغوار تلك الكتلة التي لا يزيد وزنها عن 3.5 رطل من العصبونات التي نحملها فوق كتفينا؛ فالدماغ البشري يحمل ما بين 100-200 بليون عصبون، مع ما يقدر بنحو 1000 اتصال بين كل عصبون وبين العصبونات المحيطة به، وبالتالي فالدماغ يضم نحو 100 تريليون اتصال عصبي، يمكن لكل منها أن يقوم بحسابات مختلفة في نفس الوقت.
وبالمعدل التالي لتسارع قوة أجهزة الكمبيوتر، فإن حاسوبا يمتلك العدد الكافي من الوحدات المتوازية وبرامجيات الشبكة العصبية لمحاكاة طريقة المعالجة التي يقوم بها الدماغ البشري، سيكون قادرا على إجراء نحو 20 مليون بليون عملية حسابية في الثانية بحلول عام 2020. وسيكون هذا مساويا لسرعة المعالجة الخاصة بالدماغ البشري.
ومع ظهور أجهزة الكمبيوتر التي تنافس بحق، أو تتفوق على، الدماغ البشري من حيث التعقيد، ستظهر قدرة مناظرة للآلات لفهم الأفكار التجريدية والاستجابة لها.
نحن البشر نبدو معقدين جزئيا بسبب أهدافنا الداخلية المتنافسة، كما يقول راي كوزفيل Kuzweil، مؤلف كتاب «عصر الآلات الروحانية» The Age of Spiritual Machines؛ فالقيم والمشاعر تمثل أهدافا تتعارض مع بعضها البعض في كثير من الأحيان، وهي منتجات ثانوية by-products لا يمكن اجتنابها لمستويات التجريد التي نتعامل بها كبشر.
فإذا حققت أجهزة الكمبيوتر مستوى مشابها من التعقيد، وإذا كانت مستوحاة بصورة متزايدة من نماذج للذكاء البشري، فستطور هي أيضا تلك النواتج الثانوية. وعلى أية حال، فليس من الضروري أن تكون هذه النواتج هي نفس القيم والمشاعر التي يظهرها البشر.
الهوامش
(2) A.I. Artificial Intelligence.
(3) Anthropology الأنثروبولوجيا: علم الإنسان، علم يبحث في أصل الجنس البشري وتكوره وأعراقه ومعتقداته.
(4) Eugenics؛ اليوجينيا أو علم تحسين النسل، ويقوم على فكرة استيلاد أجناس متفوقة وراثيا؛ فالآباء ذوي الجينات المتفوقة- سواء كانوا من النباتات أو الحيوانات أو البشر- يتم توالدهم لإنتاج ذرية متفوقة، بينما أولئك ذوي الجينات «الفقيرة» فيمنعوا من التوالد، ومن خلال هذه العملية، يتحسن المجتمع من الناحية الوراثية!
(5) Intelligence Quotient: IQ.
(6) Steven Jay Gould: The Mismeasure of Man.
(7) Scholastic Aptitude Test: SATS.
(8) Emotional Intelligence, By Daniel Goleman (Bantam Books, 1995)، وصدرت الترجمة العربية للكتاب باسم «الذكاء العاطفي»، ترجمة ليلى الجبالي، ومراجعة محمد يونس، ضمن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت (العدد 262- أكتوبر 2000).
(9) Working with Emotional Intelligence (Bloomsbury, 1999).