ليوناردو دا ڤنشي
ليوناردو دافنشي (1452 - 1519)، رسام ايطالي.
((ظننت أنني أتعلم كيف أعيش .. ولكني كنت أتعلم كيف أموت)) ..
هذه كلمات المصور العبقري ليوناردو دافنشي في مغزى حياته حينما اقتربت به النهاية ..
وهذا الذي تعلم كيف يموت .. تعلم كيف يموت بجدارة من يستحقون الحياة .. وألا تكون حياته رخيصة وألا يكون موته بلا ثمن ..
وكان الثمن يليق بقمة من قمم العبقرية الإنسانية كمخترع ومكتشف وفنان مصور من طراز رفيع شكل بعبقريته دلالة هامة لتجسيد التجربة الكبرى لعصر النهة الإيطالية .. وقبل أن يتعلم ليوناردو كيف يموت الموتة الأخيرة كفارس كان قد أرسى القواعد التي أعبقت غياب عصر النهضة وحتى القرن التاسع عشر .
وهذا العبقري الفلورنسي عاش تحيطه هالة العباقرة .. هالة لرجل عاش بلا أسرة ينتمي إليها وتنتمي إليه .. حتى مجيئه للحياة كان زائفا .. فلم يكن مجيئا شرعيا .. وقضى حياته متنقلا بلا مدينة تخصه ويخصها .. ومات غريبا بعيدا عن موطنه وحيدا فوق الأرض الفرنسية .
... وإزوالدا شينجلر مؤلف ((تدهور الحضارة الغربية)) أحاط بعقلية ليوناردو ليصنفه كواحد من أعظم العقليات التأملية كمالا .. وعمق هذه الرؤية ملاحظات ليوناردو العلمية التي امتزجت بالفلسفة وانعكست عليها .. فالتشريح للجسد البشري تناوب وأنجز بشكل متعاقب مع ملاحظاته عن الفروسية أو حقائق ودفواع السلوك .. ومشروعاته لتصميم آلة حرب أعطته الطريق لوصف وتصوير شعري للزهور ..
.. ولنعد إلى الوراء .. إلى تلال توسكانيا بقرية فينشي بالقرب من فلورنسا في أواسط القرن الخامس عشر ..
.. الساعة الآن الثالثة مساء 15 إبريل 1452 .. الحياة تستقبل طفلا وليدا .. ولكن استقبالها له ليس كاستقبال باقي الأطفال فهو الإبن غير الشرعي لكاتيا الفلاحة ولبيرو انطونيو فينشي موثق العقود الفلورنسي ..
الطفل ليوناردو يقضي سنواته الأولى يحوطه إحساس وصمة عار الأبناء غير الشرعيين وسط إخوته من أبيه ..
ويبدو أن ذنب ميلاده أثر في مشاعره تجاه أمه .. وقد كتب سلفادور دالي في مذكراته ((يوميات عبقري)) : ((من معرفتنا بأفكار الجيوكندا كان واقعا في غرام أمه .. ودون أن يدرك رسم لوحة تمتلك كل صفات الأم المتسامية .ز أنثى ضخمة الصدر تنظر لكل من يتأملها بطريقة أمومية خالصة بينما في الوقت نفسه تبتسم بطريقة ملتبسة ذات معنيين .. وكل فرد يستطيع أن يرى اليوم ذلك العنصر الشهواني في ابتسامتها)) ..
وبتفسير سلفادور على ضوء أفكار فرويد لعلاقة ليوناردو بأمه ندرك أنها ظللت دائما ذات أثر خفي داخله لم يكن ملموسا .. ولكن اهتمامه المتواضع بالمرأة وانعدام دورها في حياته نراه واضحا جليا .. والمفارقة أنه حين صور المرأة في أعماله صورها كرمز للجمال المقدس الرفيع كما في ((عذراء الصخور)) .. وصورها أيضا كلغز سيكولوجي غامض كما في ((الجيوكندا)) و ((ليدا وطائر البجع)) .
وهذا الصغير عوضه القدر بعبقرية فائقة فكان مجال الفن والإبداع ملجأه ووسيلته لاعتراف الآخرين بوجوده في هذا العالم .. وظل ينشد الكمال لانتقص منه شيا مثلما انتقصت حياه من فكرة الكمال وإن لم يحقق الكمال في عمل كان يتركه ليبدأ فورا العمل في ميدان ابتكاري آخر .
.. وكان أول فعل إيجابي أثر على وضعه كإنسان قبل التحاقه بالمدرسة هو تعميد جده له في كنيسة القلب المقدس حينما بلغ الخامسة ودخل رسميا في عداد الأسرة .. ليأتي بعد ذلك ويكون فميا بعد أول عمل فني له بعد إنهاء دراسته وله نفس الفعل الإيجابي في حياته كفنان هو مشاركة أستاذه الرسم في لوحة ((تعميد المسيح)) أيضا .. وبها دخل رسميا في عداد الفنانين .. وكأنه في فكرة التعميد وجد مبرر وجوده كإنسان وفنان .
.. وفي سن السادسة في مدرسة ((أباكو)) تعلم الحساب واللاتينية والهندسة وأظهر قدرة عقلية متميزة . ورسم الحيوانات والوجوه البشرية والزهور باتقان العين الملاحظة .. ومن فوق التل المعلقة به قريته تعلمت عيناه الكثير في اجتيازه اليومي للمسالك الصخرية ذهابا وعودة محاطا بغابة من الظلال والأضواء تتشكل فوق قمم التلال ويتغير توزيعها اليومي في أشكال لا متناهية من جمال الظلال والضوء (ظهر أثره واضحا في لوحاته فيما بعد) .. ويوم ضل طريقه إلى كهف مظلم أصابه خوف وترقب شديدان كان من أثرهما إثارة حواسه وتنبهها طول حياته والتي كتب عنها في مذكراته : ((فجأة تولد لدى نوعان من المشاعر .. الخوف والرغبة .. نسختي عذراء الصخور والقديس جيروم) والرغبة لرؤية ما إذا كان هناك أي شيء غامض يمكن إدراكه (ابتسامة الموناليزا فيما بعد) .
.. وفي سن السابعة عشرة تحركت العائلة إلى فلورنسا ..
وحين قرر أن يكون فنانا لم يعد لروحه من استقرار .. ولم يهدأ .. ويبدأ يرسم داخل حجرته إلى أن ألحقه والده بالتدريب في ورشة الفنان فيروكيو (1435 - 1488) الذي تأثر به ليوناردو كثيرا في اهتمامه بالعلوم والمنظور في الفن ..
وفي ورشة فيروكيو وقد بلغ الثامنة عشرة مكث فيها إثنى عشر عاما يجد بصعوبة وقتا لدراساته العلمية وقراءته الفلسفية ..
وعن برنامج التدريب داخل الورش الفنية في عصر النهضة ذكر أرنولد هاوزر في كتابه ((الفن والمجتمع عبر التاريخ)) : ((يبدأ برنامج التدريب الذي كان لايزال يسير على نهج تراث العصور الوسطى بأنواع شتى من الأعمال الشاذة للمتدربين كإعداد الألوان وإصلاح الفرش ووضع الطبقة الأولى من الألوان ثم يمتد إلى نقل التكوينات الفردية من المسودة وتنفيذ مختلف أجزاء الملابس والأجزاء الأقل أهمية في الجسم وينتهي بإنجاز أعمال كاملة من مجرد تخطيطات .. وهكذا يتحول الصبي إلى مساعد مستقل إلى حد ما)) .
.. وأول أعمال ليوناردو المشارك في رسمها أوقفت أستاذه عن الرسم .. فقد أسند فيروكيو إلى ليوناردو مهمة إكمال لوحة ((تعميد المسيح)) الملكف بها أستاذه من دير سان سالفى بفلورنسا . وقد اعتدنا في سير حياة فناني عصر النهضة القراءة عن توقف الأستاذ عن الرسم إذا تفوق عليه أحد تلاميذه مثل توقف أستاذ جيوتو وأستاذ روفائيل والآن أستاذ ليوناردو .. ولوحة ((تعميد المسيح)) 1473 - 1478 بين فيروكيو وتلميذه ليوناردو كان ينقصها الملاك إلى أقصى اليسار الذي رسمه ليوناردو وتفوق به على ملاك فيروكيو إلى جواره الذي بدا أقل قداسة مقابل ملاك ليوناردو الذي بدا مثاليا في لفتة رأسه وسمات وجهه ونظرات عينيه .. ويذكر المؤرخ فازاري أن ليوناردو رسم الملاك وأيضا أجزاء من المنظر الطبيعي في الخلفية من مياه وجبال .. وم الواضح اختلاف ملاك ليوناردو عن باقي أجزاء اللوحة .. فنجد رسمه لشعر الملاك تكرر في لوحات عديدة لليوناردو .. كذلك الإمتداد الواسع من المياه مكونا للخلفية .
.. وفي العشرين من عمره .. في 1472 يظهر لأول مرة اسم ليوناردو في سجل اتحاد رسامي فلورنسا ((سان لوقا)) للحرف والفنون .. ومن ثم يترك عام 1476 مرسم فيروكيو ليبدأ العمل كمصور محترف لأعمال مبكرة فقدت في تلك الفترة ..
.. وبدأ ليوناردو مشواوره الفني والطبيعة أستاذه الأول .. فكان أول منظر طبيعي رسمه عام 1473 لنهر الأرنو وفيه كشف عن ميوله إلى رسم الصخور وطبقات الأرض وميله لدراسات توزيع الأضواء والظلال وتنسب إليه في نفس العام لوحة ((البشارة)) 1473 وفي هذه الفترة انكب على القراءة بنهم لفلاسفة اليونان والرومان .. وعلى الآداب الكلاسيكية فقرأ لأوفيد متأملا حكمته في ((مسخ الكائنات)) وقرأ أشعار دانهتي وبترارك .. وجذبته آراء هوارس عن حركة الأفلاك .. وعلم ليوناردو نفسه متحديا - لاشعوريا على ما أعتقد) - مولده غير الشرعي معتمدا على الطبيعة وقوة الملاحظة لظواهرها التي كان يسجلها فهو من عائلة من موثقي ومسجلي العقود فاهتم بتسجيل آلاف الأوراق من الدراسات .. ورغم هذا التكوين الجاد في شخصيته إلا أنه اتهم عام 1476 في سلوكه الأخلاقي ثم ثبتت براءته .
.. ولوحة ((البشارة)) التي رسمها عام 1473 والموجودة في متحف أوفينزي بفلورنسا قبل أن يغادر نهائيا مرسم فيروكيو قد نسبت إلى ليوناردو بعد أربعمائة عام من رسمه لها وذلك عام 1869 بعد التأكد من أنه راسمها وليس زميله في ورشة فيروكيو دومينيكو جيرلاندايو..
فالدراسات والاستكشافات المبدئية التي قام بها ليوناردو تثبت أنها من رسمه من البداية للنهاية دراساته لكم ثوب اليد اليمنى للملاك وأيضا من دراستين سابقتين بتفاصيلهما لزهرة الزنبق أو السوسن التي بيد ملاك اللوحة ودراسة أخرى لملابس ملتفة حول أرجل مماثلة لما ألبسه للعذراء في اللوحة .. واللوحة وضع فهيا ليوناردو مجمع القواعد التي تعلمها من أستاذه بالإضافة لمدقرته الخاصة في إحكام التكوين والمركزية للبناء رغم اعتماده على حدث اللوحة القائم على جزئين منفصلين بصريا وتشكيليا ومتصلين روحيا .. وقد وجد ليوناردو طريقتين في تقدير الفراغ والمنظور وقد وظف الحائط خلف العذراء لتحقيق غايته وجعله يتراجع في الفراغ .. وم المنظر الطبيعي بالخلفية نشعر بالمنظور الهوائي مستعملا في ذلك الأسلوب الضبابي ((السفوماتو)) الذي أوجده واشتهر به لإخفاء الجبال تدريجيا .
نرى في ((البشارة) السيدة العذراء جالسة في الجزء الأيمن من اللوحة تنظر باتجاه الملاك الهابط إلهيا في الجزء الأيسر ليبشرها بالأمومة المقدسة بينما تظهر الأشجار والطبيعة والعمارة والأزهار محيطة بهذا الحدث التاريخي .. ولإعطاء حيوية لهذا الحدث نراه وقد أسقط على الحدث كله طاقة خاصة حاول تجسيدها في تجعيدات شعر الملاك . وهذه التجعيدات المونحية عن الطاقة ظهرت في شعور نساء لوحاته التالية .. وهذا يتناسب وفكرة ليوناردو عن الطاقة الكامنة داخل الإنسان وفي الطبيعة حوله .. ونرى نتائج دراساته للطبيعة في اللوحة من أوراق النباتات القوية النابتة عند قدمي الملاك .. كذلك في ارتفاع أجنحة الملاك ورجوع الريش إلى مكانه عند المنبت دليل على وضع عدم الطيران .. فقد تواكب رسم ليوناردو للملاك ذي الأجنحة ببداية دراساته الخاصةب الطيور وطيرانها وبميكانيزم عمل الأجنحة الكامل .. والمدهش أنه في نفس العام رسم بالأحبار مشهدا لمدينة أرنو من أعلى أي من منظور عين الطائب كأنه رسمها وهو محلق في الجو .
وفي هذه الفترة .. مع بداية 1476 وهي فترة استقلاله كمصور محترف بدأت عناص رالظل والضوء في الظهرو في لوحاته .
ورسم في نفس العام لوحة ((جينيفرا دي بيتشي)) 1476 في مناسبة زفافها وكانت جينفرا بداية للخوض داخل عالم الشخصية الداخلي ودراساته كدراساته لعالم الطبيعة الخارجي .. وهذه الدراسات الشخصية أوحت إليه بفكرة الإخفاء وعدم الإفصاح التي وصل بذروتها في ((الموناليزا)) وابتسامتها الغامضة .
ةوقد ظهر بورتريه ((جنيفرا)) للنور بعد حوالي مائتين وخمسين عاما أي ظهر عام 1733 ضمن مجموعة أمير ليختينشتاين .
.. وفيما بين 1475 - 1477 رسم ((العذراء وزهرة القرنفل)) الموجودة في ميونيخ . ويعرض فيها معالجته المتميزة للحركة والضوء في منظر طبيعي للخلفية .. وإن نظرت للوحة قد تراها للوهلة الأولى ساكنة بل جامدة في تكوينها . لكن إن دققت في التفاصيل ستجد أن ليوناردو اهتم بالحركة الكامنة اهتماما كبيرا .. واللوحة تعرض لفكرته هذه فنجد طريقة تصفيف شعر العذراء مجدولا في سلاسل ملفوفة كمحتوى لحركة داخلية كامنة .. كما في اتجاه حركة جسد الطفل المسيح ضد اتجاه الأذرع والرأس .. وقد كانت تراود ليوناردو وتسيطر عليه فكرة أن لكل شكل طاقة كامنة .. وظهرت هذه الطاقة بوضوح خاصة في رسوماته الخطية السريعة المتتابعة في تلقائية وقصدية معا .. وفي لوحتنا هنا نجد باقة أزهار في الآنية إلى اليمين لتؤكد هي أيضا فكرة الطاقة الكامنة ..
.. في تكوين اللوحة اهتم ليوناردو باشكل المثلثي (شكل احتواء الطاقة) فجعل راس العذراء تمثل قمة المثلث المكون لهذا التكوين وارتكنت إلى يمين قاعدة المثلث آنية الزهور وإلى اليسار جسد الطفل بينشي)) حيث أبرز رأس العذراء من حائط مظلم .
.. وبعد انتهائه من ((العذراء وزهرة القرنفل)) رسم بالأحبار ((العذراء والطفل والقطة)) عام 1478 .. ومن هنا يظهر اهتمامه بتقديم العذراء والطفل لفي أكثر من وضع (قد يكون لسبب في نفسه قديم) .
.. وفي نفس العام رسم لوحة ((العذراء بينوا)) 1478 الموجودة في الأرميتاج والتي تعرضت للتلف مما استداعى عمل ترميم لها حول الفم والرقبة ويد العذراء وأيضا في الخلفية ورغم ذلك لازالت لوحة فاتنة .. نرى فيها العذراء تبتسم برضاء وفي جلستها مدت إحدى ساقيها وثنت الأخرى إلى الخلف وتسند الطفل العاري بينها وبوسادة .. ورغم بساطة وحيوية جلستها إلا أننا نجد المشهد يرتفع إلى مستوى الفخامة بوجود الهالتين فوق راسيهما وأيضا من خلال طلعة وجه المسيح الجادة .. المشهد داخل مكان مغلق لولا الضوء النافذ من اليمين عبر النافذة الصغيرة الذي أعطى إحساسا مباشرا بالحياة وأضاء الخلفية إلى اليمين لكن الشخصيتين أضيئتا من مصادر مختلفة أحدها ذلك الضوء المائل من جهة اليسار .
.. وفي 1481 وعلى أرض فلورنسا أخذ يتوسع في معارفه العلمية ويلاحظ الطبيعة ويكتب عن علاقة الفن بالعلم والرياضيات بالبصريات ويتوسع في دراسات التشريح وعتلوم النبات والفلك والماء .. لذلك فأية تفرقة بين رسوماته الفنية وغير الفنية عبث ولا مبرر له ذلك لأنه لم يتصور مثل هذه التفرقة فنشاطاته العلمية والفنية تنبع من معين واحد فالنتائج التي يتوصل إليها في أحد الجانبين تؤثر في الآخر .
.. وقد كانت الميكانيكا المحركة والمولدة للقوى عماد كل دراساته وابتكاراته ففي دفتر لومبارديا من 1493 - 1497 انكب في هذه الفترة بعزيمة على دراسة الجوانب النظرية والعملية من الميكانيكا وعمله النظري تركز في تعريف القوى المحركة للكون وهي الوزن والقوة والحركة والضغط فترى في لوحاته نوعا ، ميكانيكا الحركة مثل ((العشاء الأخير)) .. كذلك في ((عبادة المجوس)) سنجد الديناميكية الحركية إلى جانب توازن القوى التي أرساها في مشهد خيول اليمين واليسار محققا ذلك التوازن الميكانيكي ..
أما الأهم في ليوناردو فهو اكتشافه للدورة الدموية .. ولم يكن باستطاعة مايكل أنجلو أو روفائيل الوصول إلى مثل هذا الإكتشاف وذلك لأن علم تشريحهم التصويري يعالج فقط الشكل والوضع ولايتطلع إلى وظيفة الأجزاء ولاتحرى الحياة داخل الجسد .
ودراسات ليوناردو العلمية وطريقة رؤيته للعالم كانت تنمو باستمرار ووسع منها وأرساها عام 1481 .. وفي نفس العام والتالي له رسم رائعته ((عبادة المجوس)) وقد رسمها بتكليف من دير سان دوناتو لتوضع خلف مذبح الكنيسة في سكوبتو بالقرب من فلورنسا وتركها غير منتهية حينما غادر إلى ميلانو عام 1482 - ولم يعد إلى فلورنسا مرة أخرى إلا بعد 18 عاما - وقد سجل ليوناردو في عقد اتفاق العبادة أن ينهي اللوحة خلال أربعة أشهر لكنه لم يتمكن .
.. نعود للوحة عبادة المجوس (( التي كشفت عن عبقريته العقلية وصفاء روحه مثلها كلوحته ((القديس جيروم)) .
التحضير الأولى للوحة تم باللون الواحد ومازال هكذا حتى اليوم باقيا في أوفيتزي بتحضيراته الخطية الواضحة .. والعمل كله يغلقه سحر خاص لأنه يكشف عن أسلوب ليوناردو في إعداد لوحاته .. وبالفعل نرى في اللوحة أنهمن خلال توزيع الأشخاص قد شكل حركة ضمنية أخرى كامنة في إيماءات الوجوه بتعبيراتها المختلفة . وهذا يلقي صدى علاي يتردد في اندفاع أشخاص على درجات السلالم الخلفية وأيضا في المصادمات بين الخيول إلى أعلى الجانب الأيمن .. وحيوية هذه الخلفية تأتي كصدى للعلاقات المتشابكة في حيز مكاني واحد ارتباطا بالفكرة الرئيسية لمركز اللوحة الذي فيه استطاع ليوناردو وسط التشابك البشري بالعلاقات والإيماءات أن يرسم البصعوبة وبشكل غامض خلف العذراء . كذلك الأشخاص الواقفون في غموض إلى جانبي اللوحة عند حافتها السفلى والذي يؤكده تضاد تعبيرات الوجوه .. أما مركز اللوحة فيسوده هدوء ذا مغزى نفسي بين الأم والطفل .
.. اعتمد ليوناردو على البناء الهندسي للشكل الهرمي فجعل رأس العذراء يمثل قمة المثلث ويمثل قاعدته المجوسان الراكعان إلى اليمين واليسار .. وأقوى رابطة في هذا التكوين المثلثي أن ذراع المسيح اليسرى ممدودة إلى الخارج في حين كل الإيماءات والحركات متجهة إلى المركز ومنه تنتشر في اللوحة كلها حالة من العاطفة الرمزية الممثلة في الأعمدة إلى أعلى اليسار وأيضا إشارة إلى العمود الذي ربط إليه المسيح .. وعلى عكس الإمتداد للخارج نرى معنى الإحتواء الذي تمتد به العذراء وجزء من ثوبها حول الطفل .. وكثرة التفاصيل تظهر لنا كيف يبدأ ليوناردو لوحاته بخطوط اسكتشية . وفي هذه المرحلة الأولى من العمل يظهر توزيعه للتضاد بين الضوء والظل ليشير إلى حجم جسد الطفل ووجنة العذراء اليمنى وكذلك للرجل خلفها وهو الوحيد المنتهية توزيع ظلال وجهه في المجموعة .
.. وفي ((عبادة المجوس)) نراه معتمدا على الضوء الأكثر من طبيعي في مركز اللوحة وقد سقط حول المركز في كثافات مختلفة .. كما أن معركة الخيول الأسكتشية أكدت ديناميكية حركتها بالإضاءة ولمسات اللون الأبيض .. ويبدو أن ليوناردو كان سعيدا لعمل هذا الأسكتش داخل اللوحة ليكسر ملل محاولة إنهائها أو أنه شعر بالفعل بالملل فلم يكمل الجزء الأعلى ولم يلون اللوحة جميعها ولكن المدهش هو انهاؤه لأوراق الأشجار جميعها .
.. في هذه اللوحة يرتفع ليوناردو فوق القياسات البصرية ويندفع متحديا الفراغ في حين تقابل وجوهنا تماما مستوى أرض الحدث .. أما اخللفية فكأننا نراها من أسفل ونحن راكعون مثل الراكعين في المقدمة .. ولنشعر بأن كل ماهو جسدي يطفو كأنغام موسيقية ذات مغزى .. وأعتقد أنه ليس مصادفة أن ينجز كلا من العبادة ((والقديس جيروم)) في نفس العام وباللون البني ولم تكتملا ..
وقد بدأ في القديس في نفس العام وهي إحدى ثلاث لوحات رسمها ليوناردو في فترة إقامته الأولى بفلورنسا والأخريتان هما ((عذراء الصخور)) باللوفر ((وعبادة المجوس)) في أوفيتزي .. ونلاحظ أن الثلاث لوحات دينية وليست دنيوية .
.. ولوحة ((القديس جيروم)) 1481 والموجودة بالفاتيكان اكتشفت فقط في القرن التاسع عشر في قطعتين إحداهما استعملت كقرص منضدة .. وبالرغم من عدم انتهاء اللوحة وسنوات الإهمال فهي ((كعبادة المجوس)) تكشف عن أسلوب ليوناردو وأستاذيته . نرى في اللوحة رأس القديس العجوز كجمجمة ويظهر بوضوح تشريحية عضلات الرقبة وبنائية أعلى الصدر والأكتاف وهذا يشهد على إيمانه بالبنائية الهندسية أساس التكوين .. كذلك يعرض واحدة من نظريات ليوناردو للتعبير عن العواطف الكامنة كالطاقة تماما عن طريق الوضع الجالس للقديس بالطريقة التي يلوي بها جسده في الاتجاه المعاكس .. ونرى إلى أقصى يمين الأسفل اسدا راقدا ينظر للقديس ويشاركه نفس الدوران بالجسد ونكاد نسمع زئيره كصدى لتعبير القديس عن الألم المبرح الذي يكشف عنه وجهه بوضوح .. وقد أجد ليوناردو بإيجاده الأسد أن أضاف قيما بنائية وسيكولوجية هامة للعمل الذي تحقق توازنه البنائي بالصخور إلى لايسار كما أن التكوين المعماري نراه خلال الكهف المفتوح الذي يظهر العالم الخارجي غير واضح للعالم لأن القديس يزهده .. ونلاحظ أن اللون الأصفر الذي يسود اللوحة - رغم أن لونه أولى سريع - فيه تعبير كبير عن الألم النفسي ..
.. عاش ليوناردو فترة فلورنسا هذه وافر الإنتاج ونال شهرته غير أن المدينة لم تلائم مزاجه .
.. وفي سن الثلاثين دخل في خدمة دوق ميلانو بعد ماكتب إليه خطابا يستعرض فيه كفاءته كفنان ومهندس .. والخطاب محفوظ في مخطوطة أطلانتيكس .. وفيه كشف بثقة عن قدراته على صنع المقاليع الضخمة والقنابل والمدافع الرشاشة والذاتية الدفع والدبابات وسلالم الحصار المتحركة وختم خطابه متحديا تفوقه على جميع الفنانين في مجالات العمرة والتصوير والنحت وللدوق أن يضع قدراته موضع الإختيار .. وبالفعل عهد إليه الدوق بمهمة إقامة نصب تذكاري لأبيه وخلع عليه لقب مهندس الدوق ..ويتعهد ليوناردو بتنفيذ تمثال هائل لوالد لودفيكو يمثل فروسية اسفورتزا .. وفي 1483 بدأ دراساته التشريحية لحركات الخيل ودراسات حول التثبيت ومناطق التدعيم والاتزان . وكما هي عادته تأخذه الدراسات بعيدا عن السبب الأول الذي انطلقت منه .. وبعد عشرة أعوام في 1493 يزاح الستار عن النموذج الطيني للتمثال وأصبح حلم المدينة هو صبه بالبرونز الذي لم يتم أبدا فقد تطلب لصبه كميات هائلة من البرونز بينما كانت ميلانو في حرب مع فرنسا وكل احتياطي المعدن بالمدينة تم صهره لعمل سلاح وذخيرة .. وحين احتلت قوات فرنسا ميلانو فيما بعد أصبح تمثال ليوناردو الرائع هدفا لمنافسات سهام الرماة .
.. وفي ميلانو رسم لوحتيه الخالدتين ((عذراء الصخور)) و((العشاء الأخير)) .. ومن داخل القصر رسم بالقلم دراسة عن ((خمسة وجوه جرتسك)) والجرتسك هو فن زخرفي على نحو بشع أو مضحك أظهر فيه قوة ملاحظة حادة لوجوه المنافقين داخل القصر .
وفي نفس هذه الفترة وعلى النقيض قام بدراسات واسعة حول نسب جسم الإنسان المثالية .
.. ((وعذراء الصخور)) التي رسمها عام 1483 أثناء إقامته في ميلانو قدم فيها بحثه وفكرته عن الكون وأظهر كل شيء من صخور وزهور وأشخاص وشجيرات منبعثة من داخل نفس الحياة الواحدة وقد أوجد الأنيميزم في كل شيء (والأنيميزم هو مذهب حيوية المادة وهي الإعتقاد بأن لكل ما في الكون وحتى للكون ذاته روحا أو نفسا) . لذلك جاءت ((عذراء الصخور)) أثناء أو كنتيجة دراسته لقوانين الطبيعة ولدراسات الضوء والظل .. فنرى الصخور المكونة للمغارة لتظهر الضوء في المركز الخارجي وينفذ منه القليل للداخل وعبر الفجوات يظهر الضوء تحيطه ظلال دون أن يكون له نفاذ كامل ثم تفاجأ بضوء ساطع ينعكس على الوجوه والأيدي وسط العتمة ليؤكد فنيا ونفسيا التفاعل بين الأيدي والنظرات والخط الروحي الرابط بينهما والرابط بين الضوء والإنسان داخل حيوية التركيب الهرمي للمجموعة والذي يوحي بدورة الحياة من خلال نظرة العين غير المرئية إلى يد العذراء إلى اليمين ثم لرأس الملاك وأسفل إلى الطفل المسيح ثم عبر التقاطع إلى اليسار حيث الطفل القديس يوحنا .. وهذه الشخوص هي المغمورة بالضوء الناعم داخل الأبعاد الثلاثة المعتمة أحدث ليوناردو بها تضادا يؤكده توهج ثلجي قادم من السماء خلف فتحة الكهف بما ينسجم وألوان المجموعة الباردة لولا ثوب الملاك الأجمر الذي أوحى بدفء نفسي وطاقة كامنة .. ونرى المياة والصخور المتباعدة غير واضحة في هذا لاجو الضبابي الغامض .. لكن الغموض الأساسي يكمن فيما يلفت نظر الملاك ليشير بإصبعه إلى لاقديس يوحنا وليس المسيح؟ في حين يتجه بصره إلى الخارج تجاهنا فإلام ينظر ؟ .. أما جمال وجه الملاك الأنثوي وابتسامته وإشارة يده فهي تظهر في عدد من أجواء فنية لليوناردو وتسيطر عليه هذه الصورة كنموذج محبب إليه . كذلك محبب إليه أن يجعل اتجاهات الأجساد متضادة مع الحركات واتجاه الرأس ونرى هذه التركيبة الفريدة في الطريقة التي يتجه وينظر بها الملاك بوجهه عكس اتجاه جسده بينما يشير بأصبعه إلى جهة أخرى ..وهذا يذكرنا بأعماله الأولى وهي طريقة ليوناردو في عمل التضاد بين وضعية التصوير والإيماءات كمشهد الشاب إلى اليسار صاحب الدرع في ((عبادة المجوس)) وفي وضعية جسد ((القديس جيروم)) وفي وضع القديسة والطفل في ((العذراء والقديسة آنا والطفل)) وفي وضعية ((القديس يوحنا)) ووضعية ((ليدا وطائر البجع)) وفي وضعية جسد الطفل في ((العذراء وزهرة القرنفل)) وفي ملاك ليوناردو في ((تعميد المسيح)) ويلفت النظر في هذه اللوحة ما يوحي بجلسة العذراء الحذرة وخشونة الخلفية وتضادها مع تعبير وجهها الناعم ورقة ألوانه .. وتلك النباتات النامية في رقة من داخل تربة صخرية .. ونرى نفس افهتمام بوصف المشهد الكوني في كيفية تحديد الضوء وإضاءته لشعر العذراء مظهرا الصخور فوق راسها والنباتات الكثيفة إلى جانبيها كأن الضوء والإنسان والنبات يكونون معا مشهدا متوحدا وهذا يتفق وإيمان ليوناردو بوحدة الأشياء بين الحي والجماد (كروح الكون) والرسم بوضوح هذه الفكرة مع التأكيد المعنوي للكهف كمقر حماية لهذه المجموعة مثلما العذراء هي حماية لإبنها .. وفنيا فإن عذراء الصخور لها رقة وجمال الفن الفلورنسي في القرن الخامس عشر ..
وقد حدث بعد قرابة ثلاثة وعشرين عاما أن رسم ليوناردو عام 1506 نسخة ثانية للوحته ((عذراء الصخور)) وهي موجودة بالناشيونال جاليري بلندن .. وقد أدخل ليوناردو عليها لاكثير من التعديلات فلم نعد نرى الملاك مشيرا بأصبعه إلى الطفل يوحنا لكن ينظر إليه مبشارة .. كما أن كثرة التفاصيل التي ميزت الصخور والنباتات والملابس الفضفاضة قد مالت إلى التلخيص عن الصورة التي كانت عليها في 1483 .. وقد ظهر بوضوح في النسخة الثانية أسلوب ليوناردو العلمي بشكل أبرز خاصة في استخدام الظلال والأضواء وربطه بين المجموعة باستغلالهما للتجسيم إضافة إلى حركات الأيدي . أما تعبير وجوه اللوحة ففيه كثير من الرقي والضعف الشاحب رغم العيون اللامعة أسفل جفون ثقيلة .. ولقد لونت الملابس بما يتفق وهذا لاشحوب باللونين البني ووالأزرق الخفيف كأنها درجات لونية تظهر من أسفل الماء كخضرة الأعشاب المائية وكخضرة ماء البحيرة في نهاية اللوحة مع مدخل الكهف .. ولكن هذه اللوحة رغم أسلوب ليوناردو المدروس تفتقر إلى الغموض والإثارة كرسمته الولى وقد يكون سبب البعد عن الغموض تجسيم الشخوص المحدد للغاية والموحي بالوضوح الواقعي .. وليس الإختلاف هنا في التكنيك فقط لكن في إضافته للهالات المقدسة فوق رؤوس العذراء والطفل والقديس وإضافته الصليب .. وأيضا شده لجناحي الملاك وتجسيمه البصري للعذراء ليتناسب ودورها المضاعف كحامية غير عباءتها الفضفاضة فوق ذراعها اليمنى التي تحيط بالطفل القديس ويدها اليسرى فوق رأس الطفل المسيح .. مع اختفاء الإيماءات الغامضة من الملاك ..
.. وبعد رسمه ((عذراء الصخور)) الأولى .. رسم لوحة ((شيشيليا جاليراني وابن عرس)) 1485 .. ويحتمل أنها زوجة راعية دوق ميلانو الذي اتخذ ((ابن عرس)) شعارا وعلامة له .. وجاء ذكره كرمز للطهارة والتقاء في القرن الثالث بعد الميلاد في مؤلف يوناني .. وقد أبرز ليوناردو عضلات ساق ومخالب الحيوان في مقابل أصابع السيدة الرفيعة الطويلة مما أضفى حيوية على الشكل الخارجي .. وايضا أضفت التفاتة شيشيليا تجاه كتفها الأيسر في وضع مريح حيوية وجمالا وقد وقفت في سكينة تشعرنا برقة مظهرها وبراءة وجهها الطفولي .. كذلك في طريقة تمشيط شعرها الذي التف حول ذقنها كطية قبعة وبساطة ترتيبها لشعرها ليؤكد مغزى تصويرها حاملة لابن عرس .. كما نرى إيقاع انحنائتين مزدوجتين عن طريق عقد العنق الملتوي مرتين حول الرقبة . وبعد عشر سنوات في 1495 رسم بورتريها آخر لزوجة لودفيكوسفورتزا مرتدية الأحمر والشرائط البنية وقد التف عقد حول رقبتها أربع لفات أحدثت صدى طاقة مع عقد رفيع للغاية فوق جبهتها وشعرها الذي لازال على تصفيفته الأولى وقد قسم في اتجاهين .
وفي 1485 رسم موسيقار البلاط فرانكينو جانوريو وقد اهتم بإبراز عضلات وعظمات الوجه من الوجنتين والأنف بشكل مجسم .. ويعتبر هذا هو الرورتريه الوحيد لرجل رسمه ليوناردو وهو بورتريه غير منتهية أجزاء منه مثل لوحتيه ((عبادة المجوس)) ((والقديس جيروم)) .
.. وبعد لوحة الموسيقار ولمدة عشرة أعوام تقريبا انشغل من جديد بأبحاثه ورسومات الآلات وبدراسات فنية عديدة قبل أن يصل إلى رائعته ((العشاء الأخير)) 1495 ..
وكلوحاته التي لم تكتمل كذلك دراساته وابتكاراته لم ينفذ منها للاستخدام الميكانيكي إلا أقل القليل .. وقد ترك رسومات لآلات دقيقة وأخرى ضخمة .. وقبل اختراع الهليكوبتر بأربعة قرون نرى رسما لليوناردو يمثل آلة ضخمة ترتفع عن الأرض وكتب إلى جواره : ((إذا أحسن صنع هذه الآلة وإذا سيرت بسرعة فإن المسمار المحوري يجعلها تدور حلزونيا في الهواء وترتفع كثيرا)) .. وكذلك رسومه الحمراء الأثيرية التي رسمها بالطباشير للجبال في مخطوطات مدريد والتي تعد من روائعه في تصويرها الشفاف للممنظر الطبيعي .
.. وقبل أن نصل معا إلى لوحته ((العشاء الأخير)) نستعرض بعضا من دراساته الفنية التي قام بها وأدت للعشاء .. فمع انشغاله في إعداد العروض المسرحية والمهرجانات وتمثال سفورتزا الهائل وعودته للدراسات المتعلقة بالخيول نجده يتفرغ شهورا لكتابة عدد كبير من الدراسات حول المنظور والظل والضوء خلال عام 1488 الذي بدأ فيه أيضا يضع ملاحظاته لكتابه ((نظرية التصوير)) الذي تضمن دراساته وتجاربه مع الظل والضوء .
ورؤية ليوناردو تتركز في دراسة جميع الإنكسارات والإنعكاسات للإضاءة المحيطة ودراسة الظلال الملونة الأساسية التي تكون حقيقة الألوان . وهذا المفهوم يعطي لوجوه ليوناردو تشابها وثيقا بينها (أنظر المقارنة بالصور بين ابتسامة الموناليزا وابتسامة القديسة آن وابتسامة القديس يوحنا وابتسامة ملاك عذراء الصخور) .. فنرى في عيون شخوصه قوة الرسم وعمق النظرة متحدين معا حيث تظهر العيون بعد تكبيرها في درجات ذات مستويات تتدرج إلى القتام بتداخل الظل في سلاسة وهذا هو سر التعبير الرشيق عنده .
.. اقتربنا من رائعته ((العشاء الأخير)) والتي قبل بدء العمل بها بعام مباشرة في 1494 قام بدراساته في الحفريات في مناجم الحديد في ((بريشا)) مدعمة برسومات موجودة بالمكتبة الملكية بقلعة وندسور .. وقبل العشاء الأخير يكون أصبح صاحب مدرسة في فن التصوير وذا شهرة كبيرة ونقود قليلة فراعيه لودفيكو لم يدفع له أجرا على مدى ثلاث سنوات وكتب إليه ليوناردو يذكره بأجره المتأخر . وهذا التذكير بالأجر جعل سفورتزا يخجل ويكلف ليوناردو بمهمة جديدة وهذه المهمة خلدت اسم ليوناردو إذ كلفه بأكثر أعمال الفن الإنساني سموا وهو ((العشاء الأخير)) .. أما نظام تقاضي أجور الفنانين فقد ظل العلم بالأجر هو القاعدة العامة حتى نهاية القرن الخامس عشر وكان ليوناردو يتقاضى مرتبا سنويا مقداره ألفا ((دوكا)) في ميلانو وفي فرنسا كان يتقاضى خمسة وثلاثين ألف فرنك سنويا ومع مطلع القرن الجديد وازدياد دور السلطات الكنسية في سوق الفن ودخولها منافسا للجمهور ارتفعت أجور الفنانين .
وننعود إلى الوراء .. إلى تكليف لودفيكو لليوناردو ليرسم عشاء المسيح مع تلاميذه على جدار حجرة الطعام في الدير الدومينيكي وقد عكف ليوناردو ليل نهار على رسوم وتخطيطات لشخوص لوحته الجدارية والتي رسم موضوعها كثير من الفنانين مثل أندريا دل سارتو في 1527 وجيرلاندايوني في 1480 وأندريا دل جستانيو في 1450 .. وقد عبروا جميعا عن الموضوع بشكل متشابه .. أ/ا ليوناردو ، فلم يصور كغيره ذلك اللقاء حزينا يسبق الصلب بل رسمه في اللحظة التي نطق فيها لامسيح بكلماته : ((إن واحدا منكم سوف يخونني)) وقد أحدثت هذه الكلمات نوعا من الفوضى والتساؤل بين الإثنى عشر تلميذا بينما ظل المسيح ساكنا باسطا يدين مسترخيتين وانعزل عن انفعالاتهم .. ولأن ليوناردو لا تهدأ نزعته العلمية أراد أن يجرب نوعا جديدا من الجبس مصنوعا من طبقات ثلاث منفصلة في جداريته . فلما انتهى منها وحضر أهل ميلانو إلى حجرة الطعام بالدير ليروا رائعته التي اكتملت أدرك ليوناردو حينها أن طبقات الجبس لن تستطيع مقاومة رطوبة الداخل .. وهذا معناه أن لوحته العظمى لن تعمر طويلا .. وبالفعل لم تكد تمضي خمسون عاما على رسمها حتى تلفت ورغم هذا فإن هذه اللوحة تعد من أجمل اللوحات في الفن الإيطالي كله . وحين تسلمت الكنيسة عام 1498 الجدارية منتهية كتب عنها عالم الرياضيات لوقا باتشولي : ((لقد طبق ليوناردوم في العشاء الأفكار التي وصفها في كتابه نظرية التصوير)) .
والعشاء تبلغ من العرض ثمانية أمتار وثمانين سنتيمترا وارتفاعها أربعة أمتار وستون سنتيمترا . وقد صممت بطريقة ليوناردو الهندسية كفلسفة أفلاطون التي أسست على تمثال حسابي .
نشاهد في مقدمة اللوحة المنضدة الطويلة بغطائها الأبيض المطرز بالأزرق كوشاح المسيح والموضوعة أمام ثلاث نوافذ في جدار خلفي .. وعبر النافذة الوسطى في عمق اللوحة يتدفق الضوء فوق رأس المسيح الجالس مع الإثنى عشر حواريا .. كل ستة منهم يجلسون إلى جانب في مجموعتين في كل منهما ثلاثة حواريين . وقد عبروا بوجوههم وحركات أيديهم وأجسادهم عن ردة فعلهم تجاه قول المسيح عن الخيانة .. وطبقا لنظرية ليوناردو نراه اعتمد على تعبير إيماءات الروح من خلال أوضاعهم وحركات أيديهم التي وحدت كل مجموعة معا وربطتها بالمجموعة المجاورة .. نرى إلى يسار المسيح الحواري الأكبر مدهوشا ناظرا لأسفل فاغرا فاه كأنه يكرر كلمات المسيح .. وإلى الخلف بينه وبين المسيح نرى ((توما)) يرفع إصبع السبابة في إيماءة مبهمة .. ونرى ((فيليب)) واقفا بردائه الأحمر الذي ينعكس لونه على إحدى الآنية من القصدير الرخيص كالذي يستعمله الرهبان في الدير ونرى ذراعيه متقاطعتين فوق صدره محتجا .. وإلى يمين المسيح نرى ((يوحنا)) وقد تشابكت أصابعه بقوة في حالة عجز .. و((بطرس)) قافزا من مقعده قابضا بسكين في يده .. أما ((يهوذا)) فقد ارتكن بيده على المنضدة في الظل وقد جعله ليوناردو ضمن المجموعة كلها ولكنه وضعه في الظلال ليبدو في نفس الوقت بعيدا روحيا عنالمجموعة بينما هو موجود بينهم وهذا ابتكار فني درامي .. أما ((ماتا)) فمد ذراعاه كأنه يقول للآخرين يجب ألا ندع هذا يحدث .
.. نجح ليوناردو في التعبير بحركات الأجساد والأيدي عن حالة الاضطراب الذي استطاع بفنه أن يسيطر عليه في نظام .. فجعل المجموعة كلها ترتبط معا بالإشارات دون أن يهمل الواقعية والدقة .. وما كانت تخرج هذه التعبيرات البانورامية لو لم يجعل ليوناردو المائدة بعرض اللوحة ليظهر الجميع في ذلك الوضع الدرامي كأنهم على خشبة مسرح مع ملاحظة أنه جعل المجموعتين على كلا طرفي المائدة في حالة سكون كأنه يحصر بينهم انفعالات اللوحة في المجموعتين المحيطتين بالمسيح .. ولكن المفارقة في اللوحة هي جعل يهوذا إلى يمين المسيح ضمن المجموعة التي تضم يوحنا . ومقدرة ليوناردو على الغوص بذكاء داخل النفس البشرية أظهرت اللوحة كمشهد لردود الأفعال الفورية مع توزيع الأدوار التي ركزت على المسيح كبؤرة رئيسية تستأثر بمصدر الضوء القادم من أعلى الرأس إلى الخلف .. وفنيا الضوء هو البطل كبطولة التكوين الهندسي الذي أدى للإحساس بالدوران والإنتشار حول مركز المجموعة.
وقد ابتكر ليوناردو في لوحته فكرا جديدا بوضع الحواريين في مجموعات .. وهذا لاتكوين جعل المنضدة تغلق مقدمة اللوحة لنشعر بأننا أمام عمل عظيم للفراغ المتجه للداخل إلىنقطة تلاقي منظورية وكل التصميم والتخطيط تراجع للوراء إلى خلف رأس المسيح الذي تتشعب منه كل الخطوط ليشكل التوازن والتماثل على جانبيه .. وخلال هذا لاتماثل مابين الجانبين والسقف والمنضدة والفراغ نجد الأشخاص أقيموا بفخامة بصيغة حسابية من عقلية عصر النهضة .. وفي هذه الدراما وظف الضوء من مصدره الطبيعي من نفاذة مجودة أعلى يسار حجرة الرهبان والذي جعله كمصدر وحيد ينير اللوحة ليضيء الجدارية إضاءة طبيعية تظهر درجات اللون المتفاوتة .. ونرى ضوء اللوحة يغمر غطاء المائدة والرؤوس كأنه أتى بالفعل من تلك النافذة ليخدم التأثير الفني والنفسي ودليل ذلك التأثير النفسي هو وضع ليوناردو ليهوذا جالسا عكس مصدر الضوء الطبيعي وهو الوحيد الجالس عكس اتجاه الضوء .
نرى خلف رأس المسيح ثلاث نوافذ مستطيلة يظهر عبرها ضوء ومنظر طبيعي وإلى أعلى النافذة الوسطى ابتكر ليوناردو ((آرش)) نصف دائرة لتحل محل الهالة أعلى رأس المسيح ومن خلال هذه النافذة أكمل الضوء رمز الهالة النفسي ..
ولتتأملوا التقسيم الهندسي للسقف انقسم لمستطيلات متوازية ضيقة داخل شبه منحرف يظلل رأس المسيح وتتجه القاعدة الكبرى تجاهنا نحن المشاهدين لتربطنا بالشخصية المحورية وتفتح اللوحة لنا للدخول لنصبح جزءا منها نفسيا وزمنيا .. ومثلما اللوحة هندسية الإيقاع هي درامية اللحظة أيضا لعدة حالات نفسية لترتفع بليوناردو إلى مرتبة الفلاسفة فبينما شغل الآخرون بتصوير الرؤوس نراه هو الأول الذي جعل الأيدي وسيلة تعبير .
((والعشاء الأخير)) واجهته مشاكل فنية كثيرة بسبب إعداد ليوناردو المسطح الجداري الذي لم يحتمل التعديلات الكثيرة ..
ولكن الأخطر من هذا هو التدمير الذي ألحقه الرهبان باللوحة حينما قاموا بفتح باب في الجدار المرسومة عليه العشاء ليسهل عليهم المرور إلى الغرفة المجاورة . فانتهى الجزء الأسفل من وسط اللوحة واختفت أقدام الحواريين والمسيح وجزء من الأرضية ..
.. في 1499 غادر ليوناردو ميلانو وبدأ سنوات التجوال فذهب إلى مانتوا في بلاط إيزابيلا دي است ورسم لها بروفيل جانبيا كخطوط فقط عام 1500 .. ثم توقف في فينيسيا ثم فلورنسا في إقامة قصيرة مع رهبان دير البشارة |لنه كان قد وعدهم برسم لوحة للقديسة آنا والعذراء للمذبح الكبير وقد رسم لوحته التخطيطة على ورق بني اللون عام 1505 وهو رسم طباشيري في دراسة بديعة تبدو وكأنها لوحة مدخنة على طريقة السفوماتو الضبابية ودرجات اللون الواهية .. وهذا التخطيط موجود بالناشيونال جاليري بلندن وكان البداية للوحته الشهيرة باللوفر والتي تحمل نفس ا|لإسم والأشخاص .. ولجمال هذا الدراسة التخطيطية فإن كثيرا من النقاد يفضلونها على تلك اللوحة الزيتية باللوفر التي رسمها عام 1508 . وقد تناول ليوناردو في دراسته مشهدا حميما بين الإبنة وأمها حيث تجلس العذراء فوق ساقي أمها وقد تلاصق جسداهما .. وقد رسمهما متشابهتين في الملامح بما لايمكن التفرقة بينهما رغم فارق السن . أما المسيح الطفل فهو يجلس على ساق القديسة وقد أمسكت به العذراء ومد هو يده إلى رأس يوحنا بينما ترفع القديسة سبابتها اليسرى مشيرة للسماء .. وقد قيل أن ليوناردو لم يكن راضيا عن هذه الدراسة .
لذلك في نسخته الثانية المعدلة 1508 لجأ إلى تكنيك مختلف .. فالتكوين جديد ومثير فهو ملتو ومنثن بقوة وكأنه بشخوصه جعلهم في حالة تضفير مجدول فليس من السهولة معرفة ما يخص كل شخصية من أيد وأرجل ومفاصل ولكن الجميع داخل شكل هرمي مركب غ ير أن توازن العذراء فوق ركبتي أمها غير مستقر وهذا غير متوافر في دراسته التخطيطية .. وأن عباءة العذراء (جزء من الأجزاء العديدة غير المنتهية في اللوحة) تلتف حولها في غير انتظام مع تموجات ثوبها .. ونرى الطفل المسيح ممسكا بحمل من أذنه مما يدفع بالحمل لأسفل . ونلاحظ أن العلاقات المتقاطعة في عدم انتظام حولهم وجدت صدى متقطعا في الانتقال البصري فيما بين الأمامي والخلفية الجليدية المرتفعة خلفهم .. وفي هذه اللوحة خص ليوناردو الغموض المعتاد عليه في نظرة القديسة آنا لأسفل مع ابتسامة تحمل سرها . وفنيا نرى في تقاطع رأسي القديسة وابنتها يشكل اكتمالا للخط الخارجي من كتف القديسة الأيسر برأس العذراء .. وبينما الخلفية تبدو متنافرة نجد استمرارا للطاقة التي يوحد بها ليوناردو بين عناصر الطبيعة .. فالصخور العمودية وثنياتها على شكل مروحي من النتوءات يتردد صداها مع طريقة لفافة غطاء الرأس . كما يشكل كم العذراء صدى آخر لسلاسل الجبال وثنياتها .. ويمكننا إدراكنا لإحاطته مجملا بعلم الصخور وطبقاتها من شكل الصخر والحصى الغريب بين قدمي القديسة .. وندرك أيضا المنظور الفراغي كما شاهدناه في ((العشاء الأخير)) ونلاحظ أنه ترك أجزاء من لوحته لم تكتمل ولا نعرف إن كان عن قصد أم لا .. فنرى عباءة العذراء وقد تركها باهتة وكأنها ملونة بالألوان المائية ولم ينته منها .
وقبل ((القديسة آنا والعذراء والطفل)) وفي حوالي 1502 ذهب ليوناردو لمقاطعة رومانا بمنتصف الشمال الإيطالي ليعمل كمهندس حربي .. ليعود في العام التالي إلى فلورنسا ليستقر بها حتى 1506 وخلالها تم تكليفه عام 1503 من مدينة فلورنسا برسم جدارية فرسكو لمعركة (انجياري) التي وقعت في 29 يونيو 1440 بين فلورنسا وميلانو .. وليتم أيضا تكليف مايكل أنجلو بعمل مشهد لمعركة ((بيزا)) على الجدار المقابل لليوناردو ..
وعلى جدار قصر ((فيكيو)) في فبراير 1504 بدأ ليوناردو العمل في ((معركة انجياري)) وكان في نفس الوقت عاكفا بين حين وآخر على رسم امرأة جميلة مكتئبة بعض الشيء اسمها جيوكندا .
ومن أجل المعركة أمضى ليوناردو ثلاثة أعوام مجربا لتكنيك جديد .. لكن اللوحة لم تنته أبدا وحتى الأجزماء التي اكتملت سرعان ماتلفت لتنمحي تماما خلال أعوام قليلة .. ومن المفارقة أيضا فشل الرسم التمهيدي لمايكل على الجدار المقابل . والسبب في تلف لوحة ليوناردو - كما ذكر بعض مؤرخي الفن - هو اعتماده على وصفة لنوع خاص من الجبس استعمله الرومان القدامى يسمى (ألانكوستك) وكان قد عثر في كتاب للمؤرخ اللاتيني يليني على وصفة هذه العجينة .. وكان ليوناردو رسم في جداريته قبل تلف أشد لحظة ضراوة في المعركة مبتعدا عن رشاقة الفن الفلورنسي معتمدا على ديناميكية الحركة القوية .
وبعد تلف (معركة انجياري) عاش ليوناردو في أزمة نفسية جعلته يبتعد عن التصوير وعن فلورنسا وازداد اهتمامه بحركة الطيور وآليات الطيران وديناميكية الهواء .
وبدأ في رسم لوحته (ليدا وطائر البجع)) .. و((ليدا)) مأخوذة عن أسطورة يونانية وهي أميرة إينوليا التي عشقها الإله زيوس فتنكر على هيئة بجع والذي أسفر عشقه لها عن إنجاب توأمين .. وفي الاسكتش واللوحة أحاط ليوناردو ليدا بالحشائش المائية والزهور ومشهد لمدينة خرافية .
.. ومثلما رسم لوحة لعيشقة الأمير جوليانو واختفت .. اختفت ايضا ((ليدا وطائر البجع)) ولكن هناك رسم لروفائيل منقول عن لوحة ليوناردو ويوجد مستنسخ من اللوحة المختفية محتفظ بها متحف فيللا بورجيزا بروما .
أما لوحة الموناليزا التي بدأها في فلورنسا حوالي 1503 وأيضا أنهاها هناك .. فهي أشهر اللوحات في تاريخ الفن وإن لم تكن أجملها .. واكتسبت الموناليزا مزيدا من الحيوية والإبداع وغموض الألوان المعتمة مما سببت إثارة وتساؤلا حول إيحاءاتها الغامضة .. ويتفق هذا ومنهج ليوناردو في إظهار الغموض .. وولع ليوناردو للغموض يجعله من خلال الوجه يجسد الحالة النفسية والروحية لنموذجه .. وقد عمل في الموناليزا غائصا في تلك الحالة ومنفصلا عنها في آنواحد بشكل متقطع لمدة ثلاثة أعوام (بعض المؤرخين يقولون إنه عمل في الموناليزا بشكل متقطع من 1505 حتى 1513) . وقد لجأ لرسمها عند الغروب مرتدية غطاء للرأس عنوان الحشمة وهي جالسة في موقع مفتوح وفي الخلفية صف من الأشجار .. وقد استدار بخفة ملتفتا إلينا الجزء الأعلى من جسدها في مشهد شبه كامل للوجه . وقد عمد ليوناردو ذلك ليؤكد أن البورتريه كما في فلسفته الخاصة يظهر حركة الروح . وأيضا موضوعه المألوف وهو السيطرة بشكل مادي على ابتسامة خفية وبالكاد يمكن أن توحي بها عن طريق الظلال الجانبية التي ترفرف على ركني فمها . تلك الابتسامة التي توحي بكل تأويل وعكسه في نفس الوقت مثل تعبيرها عن الرغبة والفضيلة والتهكم والرقة في انعكاس جداري يؤكده المشهد الموحي بالاستعراض أكثر من عرضه للمشاعر الحقيقية .
ونرى معا التضارب في المشاعر بما يؤكد رؤية الفنان .. فذراعها اليسرى يتكئ على ذراع المقعد في راحة بينما ذراعها اليمنى والكف يرتخي بحذر فوقه وهذا يعطي انطباعا عاما عن تاريوالإختراع .. ومثل غموض الوجوه في مقابل وضوح الطبيعة وانبساطها) .
.. وفي بحث لليوناردو التصويري نجده خص لهذا البورتريه قيمة كبيرة لكيفية تناول الموضوع في الضوء المعتم .. وتبعا لهذه الرؤية فإن الضوء هنا مساعد بشكل مستقل وليس للخدمة التفسيرية لتفاصيل الوجه .. فالجبال والمنظر الطبيعي داخل محيط ضبابي كامل للأفق ليتوافق وحالة الشخصية السيكولوجية . وقد لجأ لهذا في أعماله منذ بداية النصف الثاني من حياته .. فنرى المنظر الطبيعي كنمط يتوافق وعواطف المرأة الجالسة .. فالطرق الضيقة خلال صخور خشنة يوحي كأنه طريق للحقيقة . (وهو محب للفلسفة) وهو تمثيل رمزي للفضيلة التي تبدو بصعوبة مؤيدة لفكرة أن السيدة ذات غطاء راس مع رمز الطريق الصعب في امرأة فاضلة .. وعلى الجانب الآخر من شخصية ليوناردو الباحثة نقرأ ماذكره مارتين كمب : ((إن ليوناردو لجأ لعرض منظر طبيعي للخلفية ليوضح تقريرا منه في تاريخ الطبيعة متصلا غير منفصل بنفس التكوين الجيولوجي)) .. فمن المعروف أن ليوناردو قد قام بدراسات مختلفة عن معالم موسكانيا الجغرافية وبخرائط لينظم قنوات نهر الأرنو .. وقبل كتابات كمب أكد جيوفاني فيلاني (1276 - 1348) في تسجيلاته التاريخية أن الأرنو قد يكون بنى كسد عن طريق استخدام كمية هائلة من سياج الصخور إلى جانب تأكيده على وجود بحيرتين .. وطبقا لما ذكره كمب قبلا نجد أن البحيرتين تظهرا في المنظر الطبيعي إلى جانب الموناليزا .. وبذلك فإن اهتمامات ليوناردو بوقائع الطبيعة الجغرافية للمكان يسجلها في خلفية الموناليزا وليطوعها ليجعل منها صدى نفسيا وتماثلا لتفاصيل نفسية المرأة ووجهها وملابسها . كما نرى الكوبري الصخري جوار كتف الموناليزا إلى اليسار مباشرة .. وهو من اهتمامات ليوناردو المحببة خاصة في ارتباطه بكباري روما القديمة .
ومثلما في ((العشاء الأخير)) نرى القيم الهندسية والتكنين اللوني كذلك هنا في خلفية الموناليزا نرى المهندس المعماري ونرى هندسة الجسور وهنةدسة شق مجاري المياه .. ونرى أيضا إبداع الفنان فلا يمكن فصل المهندس عن الفنان مثلما نرى الكوبري والطريق كليهما يتقطعان عن كل نهاية وهذا يتفق ووضع يديها وابتسامتها فيما بين أقصى المشاعر ونقيضها .. ورغم طبقات الورنيش المتتالية فوق اللوحة إلا أن جوهر أسلوب ليوناردو لازال واضحا في مزج رقيق للألوان أذاب الإنحناءات في وجنتي الموناليزا وكذلك الإنتفاخ حول عينيها وطيات اللحم في ركني الفم .. كذلك في معالجته للضوء القمري الناعم وسط الضباب (السفوماتو) بتأثير التفاصيل الناعمة الموحية بالعمق الأسطوري .
وكغموضها .. نجد أنه ليست هناك أدلة مؤكدة على تاريخ بدء العمل فبعض المؤرخين يشيرون إلى عام 1502 والبعض إلى 1505 إلا أن معظم النقاد يرون أن الفترة مابين 1501 - 1503 هي الأقرب إلى الصحة رجوعا إلى تحركات الفنان وسجلاته .
وينهي ليوناردو ((القديس يوحنا)) 1509 باللوفر وكان آخر عمل أتمه في تلك الفترة غير أن القيمة الفنية في هذه اللوحة أقل كثيرا من مستوى عماله السابقة من حيث قوة التشكيل والتشريح المظهر لرخاوة أعضاء الجسم علاوة على البسمة المتكلفة وانتشار الظلال .
.. وفي العام التالي على القديس يوحنا أي في 1510 انكب ليوناردو من جديد على دراساته وأبحاثه وبدأ في كتابة مسودات عن علم التشريح كعلم منفصل عن علم التصوير .. وقد شرح ليوناردو في المستشفى حوالي ثلاثين جثة .. وكان هو أول من رسم الجنين .. وفي مقابل هذا لقى كثيرا من المشاكل والاتهامات بسبب تشريحه للجثث حتى أن الفاتيكان أصدر أمرا يمنع دخوله مستشفى فيلا ريتي بميلانو .. وإلى جانب تأثره بالإنسان الجسد والروح نجد تأثره بالطبيعة وبكل مظاهرها ومنها الحركات ذات الدوامات حتى أنه شبه دوامات المياه بخصلات الشعر .. وهذه الحركة الكامنة نراها وقد ارتبطت عنده بآرائه البارعة في فلسفة الموسيقى وانتشار الأمواج الصوتية واختلافها عن الأمواج الضوئية .. وقد عالج هذا الموضوع بابتكار مايسمى منظور الصوت بما يتمشى مع قواعد المنور المرئي والتصويري وهي القواعد التي تهمه جدا باعتباره مصورا ما بين انكسار الضوء عبر وخلال جبال خلفيات لوحاته وأيضا في الإيحاء الضوئي لحركة سطوح بحيراه التي كثرت في لوحاته ..
وإن نظرنا إلى دراساته العلمية هذه وقدر ظهورها في لوحاته الفنية نجد مثلا أنه في ((العشاء الأخير)) تنتشر عبر الوحة أمواج بصرية عن طريق حركات الشخوص وكأنه موج يتحرك إلى اليمين أو اليسار واتجاه الموجة عادة من نقطة لأخرى .. فإلى يمين أو يسار المسيح مجموعة حركات موجية تتحرك وتتماوج لكن حين تصل المسيح الثابت لاترتطم به فهو منطقة سكونية منعدمة الحركة .. وعلى العكس من هذه الحركة البصرية ورغم ضوضائها نرى الشخوص يتحركون ويتكلمون مصدرون همهمات صوتية إلا أن ليوناردو ومن مركز المسيح حتى أعلى اللوحة أوجد منطقة سكونية مماثلة لليمين واليسار وكان هناك بندولا رتيبا يقسم اللوحة إلى نصفين وحركته إلى اليمين واليسار مارا عبر الشخوص ويؤكد هذا تلك المستطيلات المتماثلة على جانبي اللوحة وقد أجرى ليوناردو اكتشافات ودراسات في حركة البندول وإيقاعها .. كذلك في لوحة ((القديس جيروم)) نجد زئير الأسد داخل الكهف يصدر عنه صدى صوت وقد يصطدم زئيره بجسد القديس متجها إلى عمق عباءته في مقابل الأسد تماما كأنها كهف .. مما جعل رجع الصدى أكثر خفوتاليتردد في الكهف أكثر حدة .
كذلك في الموناليزا .. فرغم الصمت المطبق في اللوحة إلا أننا نشعر بصوت خرير الماء منسابا بين عيون الكوبري وتردداته الهامسة في البحيرات مابين الخافت والمسموع مثلما المنظور المرئي يتفق وإيقاع وسط ضبابية أثيرية هامسة كمياه البحيرة .. وفي ((عذراء الصخور)) بلندن هناك منظور صوتي قادم من الفراغ يتردد بين جنيات الجبال حتى يصل إلى مدخل الكهف ينكسر بين صخور المدخل المدلاة .. وداخل الكهف تتردد بقايا الصوت ونرى أن إضاءات وجوه الأشخاص الأربعة هي رنين مرتفع وكان أمواجا صوتية اصطدمت بها وأصدرت رنينا نحاسيا رقيقا .. وتشكيليا .. نجد أن هناك ترددا إيقاعيا كإيقاع الصوت داخل تضاريس الكهف الصخرية التي فميا بينها تنبت نباتات رفيقة كنغمة رفيعة أو كالزهور تحت قدم القديس إلى اليسار بما يشكل ترديدا ناعما خافتا لتلك الأوراق الزهرية التي إلى أعلى الكهف إلى اليسار .. وقد بدأ اهتمام ليوناردو بالأمواج الصوتية لاشتغاله كثيرا بالموسيقى كعازف واهتمامه بالسمعيات .
.. واستمر حتى 1513 عاكفا على أبحاثه العلمية .
وفي نفس العام رسم لوحته (باخوس)) .. ثم لوحة لعشيقة جوليانو دي ميتشي .
وجاءت محطة روما عام 1513 بعد تجوله من مدينة لأخرى .
ثم أخيرا فيما بين 15 - 1516 انتقل إلى فرنسا بدعوة من الملك . ويبدأ الآن ذلك الغروب البطيء الطويل في حياة ليوناردو دافنشي فقد شرع الفنان العبقري بمساعدة تلميذه الوفي فرانشيسكو ميلتزي في إعادة تنظيم كتاباته ورسومه تمهيدا لجمع كل أبحاثه في مجموعة واحدة تضم المعارف القديمة والوسيطة والحديثة كأنه كان يستعد لكتابة دائرة معارفة للمعرفة البشرية .
.. وفي ربوع امبواز الفرنسية الهادئة عاش ليوناردو في عزلة وكتب في يومياته : (( إن الحياة التي أحسن إنفاقها حياة طويلة)) .
ثم نراه يرسم بورتريه لنفسه عام 1516 وقد بلغ الرابعة والستين وهو البورتريه الوحيد له ورسمه باللون الواحد وقدم قدم نفسه للعالم من خلال صورته التي رسمها بلحية طويلة وتعبير مكتئب وقد كان هذا في عصر النهضة يشير إلى الشخصية ذات الذكاء العميق .
وقد كتب في سنواته الأخيرة : ((نحن غالبا ما نأمل للمستقبل لكن المستقبل يدخر لنا شيئا واحدا مؤكدا وهو الموت لكل الآمال)) .
.. وفي 1518 يشتد المرض على ليوناردو بعد ما ظل يعمل إلى أن أصيبت يده اليمنى بالعجز فكان يقوم باسكتشاته والكتابة بيده اليسرى ومن قبل كتب مخطوطاته كلها بيده اليسرى لأنه أشول .
.. وفي مايو 1519 مات ليوناردو دافنشي في فرنسا عن عمر سبعة وستين عاما مشيعا إياه حفنة ضئيلة من خدمه وتلميذه ميلتزي .
وفيث 12 أغسطس أشرف ميلتزي على نقل جثمان أستاذه إلى إيطاليا وفقا لوصيته .
.. ورحل ليوناردو حاملا معه مجده العظيم .. ومأساته العظيمة كأكثر مثل متكامل للرجل في القرن الخامس عشر .. وحتى العشرين .
.. لقد عاش أحلاما بلا حدود بقدرات البشر المحدودة .. وكان هذا مجده العظيم .. ولم تكتمل كثير من أعماله وضاع البعض منها .. وكانت هذه مأساته العظيمة .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- موسوعة الفن الحديث، أخبار اليوم.