لن يرحل النيل
(لن يرحل النيل) هي آخر قصيدة كتبها الأستاذ الراحل / الهادي آدم، وقد ألقيت في حفل تكريم أقيم له بالقاهرة عندما كرمته وزارة الثقافة المصرية ، بمهرجان الإبداع الإعلامي بمدينة الإنتاج الإعلامي ، وقد أحتفت بها الأوساط المصرية الثقافية وقتها. وكان ذلك أواخر العام 2005م ، فإلي القصيدة :
أهذه (مصر) بعد البين قدامي أم أنها في الكرى أضغاث أحلامِ
هفا الفؤاد للقياها تعاوده ذكرى ليالٍ خلت فيها وأيامِ
فكم رشفت رحيقاً من معارفها وكم بآدابها أترعت من جامِ
وكيف لا وهي معطاءُ فرعت بها شرخ الصبا بين أشياخ وأعلامِ
وكان في (روضة المقياس) لي سكن في رفقة لي عمرناه لأعوامِ
جئناه من موطن النيلين في شغف بالعلم ننهل من ينبوعه السامي
حتى إذا اقتضت الدنيا بفرقتهم رمى ففرقهم أيدى سبا رامِ
والآن من بعد أيام لنا سلفت وفي الجوانح جرح غير ملتامِ
أتيت أحبس أنفاسي على لهَفِ وأنثني بين إقدام وإحجامِ
وأصعد الدرج الممتد أبحث عن دارُ تركت لديها بيض أيامي
فأجهشت لي جدران لها عرفت برغم بعد الليالي وقع أقدامي
وكان بالدار ناس ربما عرفوا هويتي إذ هداهم صدق إلهامِ
فأوسعوا نزلي في الحال بينهم وأكرموا ذات قربي أي إكرامِ
كذاك أبناء مصر أينما وجدوا فهم أشقاء تاريخ وأرحامِ
أحبتي في الصبا هل تسمعون صدى صوتي فقد طال بي وجدي وتهيامي
لولا اشتداد الهوى بي ما أتيتكمو أجرّ ساقي في ضعف وأسقامِ
فرُبًّ وقفة محزون على طللٍ بالٍ تداويه من حزن وآلامِ
- * *
يا نيل كم غرست كفاك من نضرٍ ومن حدائق غلب ذات أكمامِ
وكم تغنيت بالأشعار رائعة على روائع أوتار وأنغامِ
وكم صنعت من الأحجار معجزة أسرارها أُخفيت فيها بإحكامِ
وكم نقشت على جدرانها صوراً تمضي القرون وتبقى لغز أفهامِ
كأن ألوانها رغم البِلى رُسمت بريشةٍ لم تزل في كفِّ رسامِ
يا نيل أنت رجائي في مخاطبتي فكن رسولي إلي أهلي وأقوامي
وصِل أواصر قربى أنت رائدها ومد حبل وصال بينها نامِ
وكن على حذرٍ من كيد مضطغنِ بادي العداوة والأحقاد ظلّامِ
له على الماء عين غير مغمضة فيما يخطط من جرم وآثامِ
لا يخدعنك إذا استسقاك من ظمأ فذاك للدم لا المستقى ظامي
وقل لمن يحسبون النيل منتجعا لهم وليس له من أهله حامِ
ومن إذا قدروا سدوا منابعه لدى هضاب جرى منها وآكامِ
ومن إذا كانت الأنواء في يدهم كفوا هدير سحاب فوقه هامِ
وقل لمن جهل التاريخ عن سَرَفٍ ومن تعلق عن جهل بأوهامِ
لن يرحل النيل عن شطي عمالقة يوماً ليجري على شطآن أقزامِ