ك.خ.ط.: مقدمات 67

مقدمات 67

كمال خلف الطويل

5/13/07


في مثل هذه الأيام من عام 67 جرت أحداث تلاحقت سراعا حتى وصلت في غضون أسابيع ثلاث من بدايتها إلى ذلك اليوم الحزين ... 5 حزيران. لماذا حدث ما حدث ؟ وكيف ؟ وما هي المعطيات والإرهاصات التي قادت لإنفلات أزمة هائلة من عقالها؟ لفهم ذلك يحتاج المرء لأن يعود سنوات ثلاث إلى الخلف أي إلى بداية عام 64 عندما دعا عبد الناصر لمؤتمر قمة عربي يناقش مسألة تحويل إسرائيل لنهر الأردن، وما يترتب عليها من استتباعات ونتائج. كان قرار انعقاد مؤتمر القمة يرمي إلى احتواء أي تفاعلات عنيفة -و بالسلاح -على الجبهة السورية بعد أن وصل إلى الحكم في سوريا عام 63 حزب البعث بكل فئاته المتناحرة داخل عباءته، وكلها تسعى إلى فتح الملف الإسرائيلي ليكون موطئها لانتزاع مركز الجاذبية العربي من قاهرة عبد الناصر. كان أيضا آخذا في الاعتبار أن إتمام إسرائيل لعملية تحويل الأردن مضافا إليه اقتراب وصولها من امتلاك القنبلة النووية سيمكنها من أن تقوى لدرجة تخل بميزان القوى الدقيق في المنطقة بشكل جذري ومحسوس. كان أيضا متأثرا بانشغال مصر الواسع في حرب اليمن بكل ما يحمله من انشغال عن ساحة الصراع الرئيسية أي إسرائيل. لذا كله كان تصور عبد الناصر أن جهدا عربيا مشتركا يعلو على الخلافات الجذرية مع البعث من جهة ومع الرجعية العربية من جهة أخرى، يستطيع -و لو بقدر- أن يهيئ لعوامل جبه هذه العناصر المشكلة للموقف الرجراج. من هنا مشروعه بالمضي في تحويل روافد الأردن لتعويق إسرائيل عن الاستفادة منها، وفي إنشاء القيادة العسكرية العربية الموحدة لتكون جهة تنسيق فاعلة سواء لمطالب الدفاع أم الهجوم ( إن جاء وقته ) وفي إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتكون صوت فلسطين ـ القضية الأم ـ بعد تغيب طال أمده، وفي إطار العمل العربي الجامع. كان يتطلع أيضا عبر القمة إلى احتواء عربي لمشكلة اليمن المتفاقمة وما تعبر عنه من حرب أهلية عربية بالسلاح تستنزف طاقات مصر بالتدريج.


ترافقت حركة عبد الناصر بجديدها الملفت مع غياب جون كيندي عن دفة السلطة في واشنطن ووصول رمز الحماقة الأمريكية الأبرز ليندون جونسون إلى سدة الحكم معبرا عن التحالف الصناعي ـ العسكري الحاكم وعن مشروعه القاري المهيمن. لم يكن جونسون مغمورا قبل رئاسته، فهو بما يحمل من نوازع كان التجسيد الأبرز عن جموح القوة بأقصى تعابيرها، وبما تبطنه من كراهية قاطعة لاستقلالية العالم الثالث وحركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ولحركة الوحدة العربية، وفي كل هذه الميادين وقف عبد الناصر رمزا بارزا لا بد من ترويضه، ومن ثم تقويضه. كان عام 64 مشهودا لجهة تنامي قامة عبد الناصر عربيا ودوليا، فبعد مؤتمر القمة العربي الأول في يناير لحق مؤتمر القمة الأفريقي في القاهرة في يوليو ، وبعده مؤتمر القمة العربي الثاني في الإسكندرية، وليكون ختام المسك مؤتمر قمة عدم الانحياز في القاهرة في نوفمبر. كان ذلك أمرا يفوق حدود الاحتمال لدى إدارة جونسون التي باشرت سياسة مجابهة متعددة المناحي:

  • أولها تسعير التدخل السعودي, و من خلفه المرتزقة الغربيون في اليمن، وذلك لتوريط الجيش المصري أكثر فأكثر في أوحال حرب لا تجد منها فكاكا.
  • ثانيها تضييق الخناق على الاقتصاد المصري بالتلويح بقطع المعونات الغذائية ثم القيام بذلك فعلا.
  • ثالثها استبدال الملك سعود بأخيه فيصل ليصبح قطبا عربيا وإسلاميا يقف لعبد الناصر بالمرصاد تحت رايات الإسلام- طبعا الأمريكي.
  • رابعها المؤامرات المتلاحقة لاختراق النظام, ومن ثم الانقلاب على عبد الناصر أو قتله. في هذا الإطار الأخير نفهم الدعم السعودي ـ أي الأمريكي ـ لمحاولات بقايا الإخوان المسلمين الفارين والباقين في التجمع، وإعادة التنظيم كما وضح للعيان عام 65.
  • خامسها- وأهمها- تعزيز القوة الإسرائيلية ولو بشكل مباشر كما رأينا بدءا من أوائل 65, و خرقا لسياسة أمريكية طال إتباعها بتجنب تسليح إسرائيل مباشرة، وإيكال ذلك لفرنسا وبريطانيا وألمانيا ( كانت تباشير خرق تلك السياسة تزويد إسرائيل بصواريخ هوك عام 62).

كانت الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل أداتها الأخيرة الحاسمة والأوثق في تدمير عبد الناصر إن عجزت عن ذلك سواها من الوسائل ، ووصلت الولايات المتحدة إلى تلك القناعة في منتصف عام 66 خصوصا بعد أن طور عبد الناصر سياسة النفس الطويل في اليمن، والتي انخفض بها حجم قوات الميدان إلى فرقتين ، و بعد أن رفض عبد الناصر الخضوع لابتزاز المعونة الغذائية، وبعد أن مضى قدما في عملية التطوير النووي- محددا عام 69 \ 70 تاريخا لامتلاك القنبلة النووية-، وفي عملية تطوير الصواريخ البعيدة المدى والتي كانت عملية تدقيق موجهاتها تتعثر، وفي عملية بناء مقاتلة متعددة الأغراض بالاشتراك مع الهند. وجهت الولايات المتحدة إنذارها لعبد الناصر في مارس 65 بفتح مفاعله في أنشاص, ومصانعه العسكرية للتفتيش وإلا ستباشر بتسليح إسرائيل بالطائرات و الدبابات ، ورفض عبد الناصر الإنذار. أوعزت الولايات المتحدة وقتها للملك الجديد فيصل بالدعوة للحلف " الإسلامي " بغرض التصدي لحركة القومية العربية، وعلى أرضية تبدو عقائدية ، فجمع تحت عباءته بهلوي و بورقيبة الصارخان في عدائهما للإسلام، وقرينهما الهاشمي الذي لا يعرف من الإسلام إلا قشوره، وكذلك العلوي أمير المؤمنين و الذي يعد من أفضل متذوقي الخمور في العالم. كل ذلك جرى ما بين عامي 64 و 65 ، و لذا ما إن هلَ عام 66 حتى كان الفصال قد أوشك، وذلك رغم محاولة أخيرة للإنقاذ تجلت في إيفاد أنور السادات- رئيس مجلس الشعب حينها- لواشنطن، وباءت بالفشل الذريع ( فبراير 66 ). هنا دخل على صورة الموقف العامة عامل جديد وهو وصول الجناح الراديكالي في حزب البعث إلى السلطة في سوريا، على أنقاض الجناح التقليدي و عبر انقلاب دموي تزعمه صلاح جديد. سلطة البعث الجديدة هذه راهنت أكثر فأكثر على لعب ورقة " العمل الفدائي " اتجاه إسرائيل معتبرة أن تلك الوسيلة الأنجع لتنال مكانها تحت الشمس ، مشرعنة وجودها و مضفية على نفسها مسحة الثورية غير المهادنة، وموفرة لنفسها عامل تأثير في السياسات الإقليمية، يجعل لها اعتبارا ملحوظا ، وفوق ذلك لاعبة ورقة البديل المطروح للزعيم المرهق عبد الناصر. هم ثلة من الشباب ذوي النزعة الطفولية اليسارية المغامرة ، كانت ترى لنفسها دورا يفوق بالقطع قدراتها حتى و لو حسنت النوايا. وجدت إسرائيل و من خلفها أمريكا في هذا النظام الجديد -على كل إزعاجاته- ضالتها لأنه يمكن من إبقاء سوريا خارج نطاق نفوذ عبد الناصر ، وتحت شعارات أين منها طرحه ، ومن ثم فهو عند اللزوم الفخ المطلوب لإيقاع عبد الناصر أرضا حين يحين أوان التحرك الإسرائيلي لضربه . كانوا يعرفون مدى حساسية أمن و مصير سوريا لديه بغض النظر عن السلطة القائمة فيها، ولذلك نلحظ كيف تصاعد العمل العسكري الإسرائيلي اتجاه الجبهة السورية خلال عام 66 بدءا من أيار بإشراك الطيران في قصف المواقع الحدودية ومشروع التحويل, وبتصعيد التهديدات اتجاهها لحد التلويح بالغزو. قد يتساءل المرء، لماذا لم تضرب إسرائيل في نوفمبر 66 سوريا بدلا من عملية السموع في الضفة الغربية للأردن؟ هناك سببين: الأول رسالة صريحة لحسين بأن الضفة الغربية غدت فوق صفيح ساخن, وعليه بالتالي أن يتهيأ لتبعات ذلك، والثاني لإظهار عبد الناصر عاجزا عن حماية أي جبهة عربية, وكنمر من ورق.


لنا أن نذكر أن المشير عبد الحكيم عامر حاول جاهدا إقناع عبد الناصر باتخاذ خطوات مضادة في ديسمبر 66، ورفض عبد الناصر حينها.

لماذا رفض في ديسمبر 66 وقبل في مايو 67 ؟

قبل الإجابة يثور سؤال آخر: لماذا طلب القمة العربية في يناير 64، واستمر مرورا لسبتمبر 65، ثم أوقف عملية القمة في يوليو 66 ؟

الجواب عن السؤال الأخير أنه لم يعد قادرا على التعامل مع فيصل ومجموعته بعد انخراطهم المحموم في عملية الحلف الإسلامي، وبعد أن عاد الفرز في المنطقة حادا وقاطعا.

عودة للسؤال الأول: ما الذي جرى في الشهور الستة ما بين السموع 66 وأحداث مايو 67؟ شيئان مهمان: الأول تصاعد التحدي الإسرائيلي المسلح اتجاه سوريا واصلا ذراه في الغارة الجوية فوق دمشق في 7 نيسان، والثاني تصاعد الحملة الإعلامية السعودية ـ الأردنية، متهمة عبد الناصر بالاختباء وراء البوليس الدولي في سيناء، وغزة، وراضيا بالملاحة الإسرائيلية الحرة عبر خليج العقبة، والأهم من ذلك وصول التهديد الإسرائيلي لسوريا إلى حد الإعلان يوم 11 مايو من إسحاق رابين رئيس الأركان عن نية إسرائيل في غزو دمشق مصحوبا بتهديد مشابه من رئيس الوزراء ليفي أشكول. كان أنور السادات حينها في موسكو عندما أبلغه كوسيجين رئيس الوزراء السوفيتي أن معلوماتهم تنص على تخطيط إسرائيل لعدوان شامل على سوريا يوم 17 أيار، وأنهم يحشدون لذلك قوة مجموعها 11 ـ 13 لواء، وأن مصر مطالبة بالتحرك الفعال نصرة لسوريا، وردعا لإسرائيل عن غزوها. لم يكن السوفييت بأي مقياس يبغون إيصال الأمور ودفعها إلى الحرب، وإنما كانوا يشعرون أن تحركا مصريا جادا بالحشد في سيناء يشبه ما تم في يناير 60 ، أثناء فترة الوحدة, كفيل بلجم إسرائيل عن المضي في خططها، وبإنقاذ نظام صديق كان يشبه في قسماته ما كان عبد الكريم قاسم يمثله لهم في العراق من تقدمية يسارية بعيدة نوعا عن عبد الناصر، رغم كل قناعتهم التي ثبتتها الأيام أن قيادته مسلم بها في التحليل الأخير. زار جروميكو عبد الناصر في مارس 67 أي قبل نشوب الأزمة بأسابيع، وكانت مطالبته –أي عبد الناصر- بالسلاح لا تجد ما يعتبره الاستجابة الكافية، بل وكان له عيب عليهم لمدهم حبال الود مع إيران وخصمه الشاه، وتساءل أمامهم هل أنتم جادون في الوقوف معنا إذا اتخذنا خطوات جذرية في المنطقة. كان جوابهم اطمئن فليس لنا إلا أن نكون مع حلفائنا من العرب إذا تأزمت الأمور. لكن ذلك أمر, وأنهم راضون عن كل تلك الخطوات أمر آخر تماما.


والحق أن السحب المنتشرة في سماء العلاقات المصرية الأمريكية كانت قد تكاثفت لدرجة انعدام الرؤية، اذ شعر عبد الناصر أن أمريكا تلعب الورقة الإسرائيلية في تهديده و تركيعه، وهو في المقابل أيقن أن لا خيار أمامه إلا بأن يرد وبنفس الورقة. الفيصل في هذه الرؤية للأمور كان مدى استعداد قواته المسلحة لحمل أعباء هذه المناورة. عاد السادات يوم 13 مايو مباشرة إلى منزل عبد الناصر ليجده مجتمعا بعبد الحكيم عامر يبحثان تطورات الوضع والتهديدات الإسرائيلية الفاقعة. كان عامر يجادل بحزم أن قواته قادرة على تبعات مهمة الردع بما تشمله من حشد كبير في سيناء وجاهزية لأعمال تعرضية فيما لو اجتاحت إسرائيل الجبهة السورية. أعاد السادات على مسامعهما معلومات السوفييت الطازجة ، وبين المعلومات و تأكيد الجاهزية تحرك عبد الناصر بحذر نسبي, إذ أمر برفع درجة الاستعداد للطوارئ ، وبنقل فرق خمس تدريجيا إلى سيناء وفق خطة قاهر الدفاعية, وبطلب إعادة إنتشار البوليس الدولي ليتجمع في قطاع غزة و شرم الشيخ ، وليخلي خط الحدود من العريش إلى ايلات. كان المراد إخراج قطاع غزة من نطاق التهديد في حال نشوب عمليات عسكرية، وإبقاء وضع خليج العقبة على حاله دون المساس راهنا بالملاحة الإسرائيلية.

كان هذا القرار على قدر من التذاكي والسذاجة في حين واحد, بما ثبت من رفض يوثانت سكرتير الأمم المتحدة لهذا الطلب وتخييره لعبد الناصر بأحد أمرين إما القبول بالوجود والانتشار الراهن للبوليس الدولي، أو إجلائه بالكامل عن سيناء وغزة وبما يعنيه ذلك من إحراج لمصر، وفرض خيار إغلاق الخليج عليه, وبما عناه ذلك أيضا من تبديل جوهري لخطة قاهر، بما يشمل نشر قوات إضافية داخل القطاع وحوله. أتى رد يوثانت في 18 مايو، وما كان على عبد الناصر إلا أن يأمر بإجلاء البوليس الدولي كله.

السؤال يثور هنا ألم يكن رد يوثانت كفيلا بفتح الأعين على إمكانية فخ منصوب؟ ما الذي حدا بعبد الناصر إلى أن يواصل المسير إلى نقطة أبعد ؟ هل كان محتما إغلاق الخليج حينها حتى و لو خلت شرم الشيخ من البوليس الدولي؟ كان المنطقي بتحليل اليوم أن يقف عبد الناصر عند ذلك الحد، وأن يغطي حركته المحدودة بعمل سياسي بارع كان يمكن له أن يجد تعبيراته في مكاشفة للأمة بأن له وحده حق تقرير وقت معركة مع إسرائيل، وعندما يراه مناسبا, وبالدعوة لمؤتمر قمة يضم الدول المتحررة ( مصر ، العراق، سوريا، الجزائر، اليمن ) يجعل منه أداة لاستحصال دعم عسكري ملموس من العراق و الجزائر لسوريا حتى لو تجرع السوريون ذلك بمرارة كما عهدهم، وإبقاء حيز كبير من قواته في سيناء على مدى شهور لتصبح أكثر قابلية على التكيف مع مسرح عمليات مقبل ( نلحظ أنه منذ مارس 57 لم ترابط في سيناء إلا فرقة واحدة). لنا أن نذكر أن تقدير عبد الناصر لاحتمال الحرب يوم حشد قواته في 14 مايو كان 20% ثم ارتفع إلى 50% يوم 18 مايو عندما سحب البوليس الدولي. إذن حينها- وحتى لو توقف عند ذاك- لكان احتمال الحرب قائما 50%. الأهم هو أن إسرائيل و أمريكا كانتا تريدان الحرب, وبالتالي فهما كانا سيتفننان بإيجاد المعاذير لذلك حتى و لو بقي خليج العقبة مفتوحا. لم تكن حملة السعودية و الأردن لتهدأ لو توقف عبد الناصر. لربما أيضا بالغت إسرائيل في إبراز تحديها لعبد الناصر بتمرير سفن عسكرية إسرائيلية صراحة عبر الخليج ولتستفزه لإغلاقه، ولربما قامت إسرائيل بعدوان على سوريا واسع النطاق بهدف جر مصر لعمل تعرضي من سيناء يوفر لها الذريعة للهجوم الكاسح. كل هذه سيناريوهات كانت ممكنة التحقيق, و بالتالي فظني أن الرجل قدر هذه العوامل مجتمعة و اقتنع بأن المضي قدما يفوق في مزاياه الجمود عند نقطة سابقة. في كلا الحالتين فحركته كانت أساسا محكومة بثقته في قدرة قواته على إدارة معركة دفاعية بنجاح معقول في سيناء.. وهنا مربط الفرس . هل كان الأفضل أن يقف عند 18 مايو باحتمالاته البين بين أم أن يواصل؟ في تقديري أن وقوفه كان الأجدى، ولكان استطاع بماله من قدرة على إقناع الجماهير الحفاظ على مكتسباته وتبرير خطواته المتحركة منها والساكنة ، واستيعاب أي استفزازات مقبلة ... أرجح ذلك. هنا نعود إلى 41 مايو لنقول أن الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان الحرب ( الصوري ) أوفد إلى دمشق ليجد السوريين قلقين من تحرك عبد الناصر عندما جد الجد ، وهم يحلفون على الكتب السماوية أنه لا حشود هناك ولا من يحزنون. هل أثر ذلك في قرار عبد الناصر يومها؟ مطلقا .. والسبب هو أن حركته- بالحشود أم بدونها- كانت استباقية لما استشعره من تآمر أمريكي إسرائيلي عليه، ولأن مواجهة محسوبة مع الاثنين أمر آن أوانه، حتى وإن كان يضمر وقتا آخر للمعركة وهو عام 69 ـ 70.

السبب الرئيسي وراء قرار المواجهة هو قناعته منذ أوائل 66 أن إسرائيل أوشكت أن تتم بناء قنبلتها النووية الأولى، وأن تحريكا عنيفا للوضع في المنطقة كفيل بفتح ملفها من جديد ووفق قواعد لعبة جديدة يكون فيها أهم المتحكمين. و علما أن رغبته كانت تقتصر على الحشد وبنسبة احتمال حرب لا تتجاوز 20%، فهو كان قابلا لهكذا احتمال، وحتى عندما تطورت النسبة تصاعدا إلى 50% كان ذلك في نطاق الاحتمال. الآن ما الذي قاده إلى قبول ارتفاع النسبة إلى 80% بإغلاق خليج العقبة؟ هنا نصل إلى العامل الحاسم.


كانت القيادة العسكرية المصرية ممثلة بالمشير عبد الحكيم عامر تدفع و بقوة في اتجاه التصعيد مع إسرائيل. إن دل ذلك على شيء إنما يدل على أن ما قيل و كتب حول حرب اليمن و تأثيراتها على حرب 67 لم يكن دقيقا. كان العسكر يعرفون أن فرقتين لهم بعيدتين عن مسرح العمليات المقبل، ومع ذلك فهم كانوا مقبلين لا مدبرين على المواجهة, بل ما كانوا إلا راغبين في مواجهة فعلية, وليس مجرد حشد و استعراض، ودليل ذلك عمليتي فهد وأسد اللتين خطط لهما المشير عامر للانطلاق يوم 27 مايو بغرض احتلال إيلات والعوجة.

إذن لم تكن المسألة لهم مجرد تهويش بل رغبة في الصدام ... والآن وليس غداً.

كان المشير يصدق أنه قادر على المواجهة و بجدارة، في سياق سعيه لتعزيز أوراقه في صراعه المفتوح والصامت مع عبد الناصر. لنا أن نتصور أداء عسكريا ناجحا في سيناء وما ترتبه ذلك من تعزيز حاسم لوضع المشير حتى ولو تزاوج بارتفاع أكبر لقامة عبد الناصر. كان المشير يظن أيضا أن حربا في سيناء هي الوحيدة الكفيلة بإغلاق ملف حرب اليمن ... وبانتصار. إذن مشى المشير واثق الخطوة في اتجاه التصعيد راميا ثقله كله لإقناع عبد الناصر. كان المشهد يوم 21 مايو في منزل عبد الناصر: التأم عقد اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي ليلتها, وكان البند الوحيد على جدول الأعمال هو إغلاق / عدم إغلاق خليج العقبة. كان الحشد في سيناء قد اكتمل يوم 20 مايو ، وعاد المشير من سيناء بعد أن أقال العديد من قادة الفرق والألوية لفشلهم في إتمام مهام الحشود على الوجه المطلوب و استبدلهم بآخرين ثبت بعدها أن جلهم لم يكن حالهم بأفضل . بدأ عبد الناصر بالكلام محددا محور الحديث في نقطة واحدة: نغلق الخليج إذا كانت القوات المسلحة قادرة على خوض معركة دفاعية في سيناء بنجاح, ونمتنع عن إغلاقه إذا صارحتنا بعدم قدرتها في الوقت الراهن. كان رد المشير فوريا و جاهزا : نحن جاهزون.. فلنغلق الخليج. عندها تتابع الأعضاء الآخرون زكريا محيي الدين، حسين الشافعي، أنور السادات، علي صبري، مؤكدين أفضلية إغلاق الخليج طالما القوات المسلحة جاهزة. كان المعترض الوحيد هو صدقي سليمان رئيس الوزراء, ومنطوقه أن أولوية خطة التنمية يجب أن ترجح في هذا الوقت، ولذا فهو ينصح بتأجيل المواجهة مع قناعته بوجاهة المعطيات المذكورة. لماذا كان التوقيت لهذا القرار مساء 21 مايو ؟ لسببين: عودة المشير من سيناء بعد إتمام الحشد, ووصول يوثانت في اليوم التالي في جهد وساطة كان عبد الناصر يشعر أنه يكون أقوى في التعامل معها لو تمت وإغلاق الخليج قد سبقها.


كيف كان تصور عبد الناصر لشكل المعركة التي ارتفعت احتمالاتها ل 80% ؟ توقي الضربة الإسرائيلية البادئة، ثم إدارة معركة دفاعية على الأنساق الثلاثة وصولا للمضائق وتدمير قوات الهجوم الإسرائيلي، وإجبارها على الانسحاب, بعد أن يفتح ملف الوضع الإسرائيلي في المنطقة على مصراعيه وبما يشمله من حقوق شعب فلسطين المجسدة في قرارات الأمم المتحدة 181و 194 . كان تصوره أن الجيش السوري- على ضعفه- كفيل بالاحتفاظ بهضبة الجولان دفاعا، وأن إسرائيل ستتورع عن غزو الضفة الغربية واحتلالها لما يحيقه ذلك من أخطار على وجود نظامها الحليف في عمان، وأنه حتى لو راودت إسرائيل فكرة احتلال الضفة فإن النجاح النسبي في سيناء و الثبات في الجولان سيرغمها على الانسحاب من الضفة لاحقا. ضمن هذا التصور أمر عبد الناصر القيادة العسكرية بتعديل خطة قاهر لتكفل حماية قطاع غزة من الاجتياح ( بعد خلوه من البوليس الدولي ), وبنشر قوات من شرم الشيخ تمنع الملاحة الإسرائيلية في الخليج. ترتب على هاتين الخطوتين إعادة انتشار لقوات سيناء، كان يحتاج لقيادة جديرة على إحكام مستوجباته.

كيف اقتنع عبد الناصر بتأكيدات المشير عامر حول جاهزية القوات المسلحة، وهو قبلها بشهور ثلاثة وقع مرسوم تسفيره مطرودا إلى يوغسلافيا بعد انكشاف أمر زواجه السري من برلنتي عبد الحميد ( والذي أجل تنفيذه )؟ ذلك لأنه كان معزولا تماما عن مجريات الأوضاع الحقيقية في القوات المسلحة منذ الانفصال السوري، ولأنه يعلم حجم التسليح الذي ابتاعه من السوفييت، وحجم البعثات التي أوفدت إلى فرونزي للتعلم والتدريب، وما كان يخطر في باله أن هشاشة الوضع بلغت مبلغا يفوق التصور. أيبرر هذا له تلك الخطيئة ؟ على العكس, فالمسؤول الأول عن هزيمة 67 وبالتحديد لجهة هولها وجسامتها ( غير المبررة ) هو عبد الناصر، والسبب الأوحد هو إبقاؤه عبد الحكيم عامر على رأس القيادة العسكرية ... مهما كانت مخاطر التغيير. مثال واحد وساطع على العزلة المشار إليها كان أنه علم من السوفييت فجر يوم 27 مايو برسالة جونسون التي تحذر مصر من المضي قدما في خطتي فهد و أسد المقرر انطلاقهما ذات اليوم, و هو كان أخر العارفين. عندها أمر المشير تلفونيا بالتوقف على الفور، ثم دعا لاجتماع القيادة العسكرية في اليوم التالي 28 مايو، يلزمهم فيه بتجنب أية حماقات، وبأن ينتظروا الخطوة الأولى من إسرائيل. أكثر من ذلك عاد إليهم في 2 يونيو, وبعد تعيين موشي دايان وزيرا للدفاع يوم 1 يونيو، ليقول أن الضربة آتية خلال يومين أو ثلاثة، بل الأرجح الاثنين 5 يونيو موعدا لها، وطالبهم بالتيقظ والاستعداد.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخلاصة

كانت توقعات عبد الناصر في معظمها صائبة, والاستثناء الوحيد كان رد يوثانت يوم 18 مايو. أما قراراته فكانت في معظمها خاطئة وبالأخص منها قرار 21 مايو. بالمقابل ماذا كان يمكنه أن يفعل و هو يسمع رابين يهدد بالوصول إلى دمشق يوم 11 مايو؟ الحشد في سيناء، وبدون سحب ( أو إعادة انتشار ) للبوليس الدولي ـ وكما فعل بنجاح في يناير 60 ـ ثم الدعوة لمؤتمر خماسي يلزم فيه السوريين بقبول تواجد عسكري عراقي ـ جزائري عندهم، ثم مكاشفة الأمة العربية بأن البوليس الدولي وخليج العقبة مسألتان لهما وقتهما، وهو الذي يحدده وفق المصلحة العليا, ثم إجبار السوريين على وقف العمل الفدائي, ثم تسعير العمليات السرية في الخليج وليبيا، ثم المضي قدما وبعد وقت قصير في إزالة .... عبد الحكيم عامر .