ك.خ.ط.: حرب اليمن

حـرب اليمـن

د. كمال خلف الطويل

2004/5/12

في حياة الأمم محطات فارقة تتحدد عندها تخوم , وتتشكل عليها اصطفافات تظّهر صورة بانورامية لما يمور في أحشاءها من اضطرام بل و اصطراع , هو بين مشروع تغيير و توحيد وتحرر , وبين حال تبعية وهيمنة وتجزئة . والحال أن صراع اليمن 62-67 هو واحد من تلك المحطات في حياة العرب الحديثة التي جسّدت لحظة اجتماع " ثالوث " الاستعمار والرجعية "العربية" و اسرائيل على بغية الفتك بحركة القومية العربية في أعقاب نكستها الخطيرة التي أحاقها بها بالانفصال السوري – 61 . في مراجعة سجل ذاك الصراع , أجد أمامي جملة عناصر تتكامل لرسم لوحة تحليل أظنه يفيد :

1 – أن قرار عبد الناصر بإسناد ثورة اليمن عسكريا , المتخذ في أكتوبر 62 , كان قرارا صائبا بكل المقاييس : سواء لجهة الاقتراب من كنز النفط الجزيري كخطوة أولى نحو استعادته للأمة , أم لجهة تسديد ضربة مضادة للرجعية العربية حليفة – بل عميلة – الاستعمار بعد نجاح الأخيرين في فصل سوريا عن مصر عام 61 , أم لجهة إخراج اليمن الشمالي من وهدة التخلف المريع , أم – أخيرا وليس آخرا – تمكينا لليمن الجنوبي من الخلاص من الاستعمار البريطاني عبر عونه من قاعدة الشمال .

2 – أن إشكاليات قرار التدخل العسكري في اليمن نشأت من أسلوب إدارة الصراع المسلح , وليس في شنه والإنخراط فيه , خصوصا وأن الهدف من التدخل لم يكن قتال آل سعود بل حماية ثورة اليمن من تدخلهم ورعايتهم لغزو آت من حدودهم ضدها . ما أقصده أن الخطيئة الكبرى التي ارتكبها عبد الحكيم عامر , بدءا من يناير63 , كانت قراره في توسيع نطاق الحرب لتهدف إلى السيطرة على كامل جغرافية اليمن وصولا إلى الحدود مع السعودية ومع الجنوب . كان الأصوب والأجدى الاقتصار على تأمين مثلث صنعاء – الجديدة – تعز , ثم بناء جيش جمهوري تدريجيا يكفل مع الوقت تأمين الأطراف مع القبائل الجمهورية .

ولعلك تذكر أن انتباه عبد الناصر لهذه النقطة حصل مطالع 66 , عندما تبنى استراتيجية النفس الطويل التي مكنت من تخفيض حجم قوات اليمن من ذروة وصلها عام 65 بلغت 70 ألف جندي إلى نصف ذلك الحجم ربيع 66 , وبفعالية أكبر ومردود أكفأ.

3 – أن عبد الناصر بذل محاولات عدة لوقف حرب اليمن , ما ان خشي أنها تتحول إلى فيتنام عربية ... لكنها محاولات ما لاقت الا الصد وحده من رجل الولايات المتحدة الأول في العالمين العربي والإسلامي.. أي فيصل آل سعود : كانت المحاولة الأولى مع رالف بانش في فبراير 63 , ورفضت الرياض مقابلته لبحث مقترحاته . كانت المحاولة الثانية مع الزوورث بنكر مبعوث الرئيس الأميركي جون كينيدي في ربيع 63 , وحاول عبد الناصر مساعدتها بأن بدأ بسحب قواته بشكل جدي في مايو 63 . كانت المحاولة الثالثة عندما دعا عبد الناصر لأول مؤتمر قمة عربي في يناير 64 علّه يكون منصته لصلح معقول مع الرياض في وجه التهديد الإسرائيلي المتصاعد في الشمال العربي حينها . وبدلا من أن يأتي حاكم الرياض الفعلي ولي العهد فيصل , وصل الملك الرمزي سعود يجر نفسه جرا , وليقول بصريح العبارة لمستقبله إنني لا أملك من أمر نفسي شيئا . ومع ذلك وانتفاعا بأجواء انفراج العلاقات العربية بعد القمة الأولى , أوفد عبد الناصر عبد الحكيم عامر وزكريا محي الدين وأنور السادات معا إلى الرياض في فبراير 64 ليمدوا جسور الوصال مع فيصل , فما لبثوا أن عادوا خاووي الوفاض .

    كانت المحاولة الرابعة في سبتمبر 64 عشية تولي فيصل للعرش , وضمن أعمال القمة الثانية في الاسكندرية .
    تمخض عن تلك المبادرة مؤتمر أركويت في السودان بين الطرفين الجمهوري والملكي , وبحضور مصري – سعودي , لكنه – أي المؤتمر – تكسر على صخرة العناد السعودي المصر على إزالة النظام الجمهوري .
    مع صيف 65 كان صبر عبد الناصر قد أوشك على النفاذ تجاه الإصرار السعودي على إسناد التمرد الملكي في اليمن , فأطلق تهديده الشهير يوم 22 يوليو ملوحاّ بقصف قواعد العدوان السعودي في جيزان ونجران إن لم يصخ فيصل لصوت العقل الميسر لتسوية مشرّفة .
    إضطر فيصل هنا لإبداء المرونة مما يسّر لعبد الناصر اتخاذ مبادرته الخامسة في أغسطس 65 بالذهاب بنفسه إلى جدة , ثم في الإيغال بالتنازلات هناك لدرجة تعمية طبيعة النظام الجديد في اليمن المستهدف من الاتفاقية ( دولة اليمن ) .
    كان السبب الرئيسي وراء مشي عبد الناصر الميل الإضافي هو تعاظم نذر التهديد الإسرائيلي في الشمال , وحاجته بالتالي إلى سحب قوات اليمن , أوجلّها , لتكون جاهزة لاحتمالات مواجهة مفروضة من إسرائيل ومعها .
    .... فشلت المحاولة الجادة هذه كما سالفاتها .

4 – لماذا كان هذا الفشل المتكرر لمبادرات عبد الناصر للتسوية ؟

    لأن فيصل ما كان يريد لهذه الحرب أن تتوقف قبل أن تستنزف عبد الناصر لحد السقوط . 
    في البداية ذهب إلى كينيدي هلعا , خصوصا والطائرات المصرية تقوم بغارات وهمية فوق الرياض ردعا لها عن إسناد الملكيين المتجمعين في جيزان ونجران 
    طمأنه كينيدي بإرسال أسراب F-5 , تحت عنوان الغطاء الصلب , إلى الظهران في مظاهرة دعم واضحة . 
    كانت الولايات المتحدة طيلة الفترة من أكتوبر 62 وحتى نوفمبر 63 – أي مقتل كينيدي – تريد إجبار عبد الناصر على الانسحاب من اليمن مع أقل المكاسب , ومن هنا تأييدها لمبادرة بانش وتقديمها لمبادرة بنكر .
    مع مجيء جونسون للحكم واتخاذه قرار التحجيم تمهيدا للإسقاط – لجهة عبد الناصر – تغير القرار ليصبح احتجاز الجيش المصري في اليمن والإمعان في استنزافه هناك .
     هذا كله بالتوافق مع فيصل آل سعود وعصبته المباشرة , أي فهد وسلطان وكمال أدهم . 
    من هنا إفشال كل محاولات التسوية المنهالة من القاهرة .

5 – ماذا فعل حلف جونسون – فيصل ؟

     تولى روبرت كومر مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي إدارة حرب المرتزقة الأوروبيين – وهم بالألوف – من الأراضي السعودية وفي صفوف القبائل الملكية اليمنية . 
   يفيد هنا استذكار أمرين : الأول , هو أن هذه الحرب اشتركت فيها أجهزة المخابرات الأردنية والباكستانية والإيرانية والبريطانية , إضافة لسيدة القصر الأميركية , وذراعها السعودي .
    والثاني , هو أن مستوجبات هذه الحرب فتحت الطريق فسيحا , وإن بتكتم شديد , أمام اشتراك إسرائيل في هذه الحرب عبر استخدام طيرانها لإلقاء المؤن فوق تجمعات المرتزقة , وعبر الأجواء الأردنية والسعودية .
    من هنا اللقاء بين دافيد كمحي عن الموساد و عدنان خاشقجي ممثلا لكمال أدهم في باريس صيف 64 . 
    دعيت حرب المرتزقة هذه بحرب كومر دلالة على أهمية ومركزية الإشراف الأميركي على إدارتها .

6 – نأتي الآن الى أوجه القصور المصري في إدارة الحرب : بدءّ أقول إن واحدة من خطايا عبد الناصر الرئيسية كانت استنسابه أنور السادات ممثلا سياسيا للرئيس في الملف اليمني .

    ظني أن أسباب ذلك متعددة شملت : قربه الشديد من عبد الحكيم عامر – المسؤول العسكري – لدرجة اعتباره من حاشيته المباشرة , ثم تماسه المبكر مع عناصر يمنية ساعية للتغيير في اليمن , وبالتحديد عبد الرحمن البيضاني , مما جعل منه أول من زكى التدخل العسكري المباشر في اليمن في مجلس الرئاسة المصري مطالع أكتوبر 62 ... ثم أخيرا احتسابه صلة وصل مع حكام الخليج والجزيرة منذ أيام المؤتمر الإسلامي في الخمسينات .
    القصة الفارقة هي أن أنور السادات هذا تجند على يد كمال أدهم عميلا نائما للمخابرات المركزية الأميركية عام 62 . 
    الأهم من أنور السادات ألف مرة في مسألة اليمن هو عبد الحكيم عامر.
    هنا نصل قصور 56 بانفصال 61 بتخبط اليمن لنصل إلى هزيمة 67.
    

7 – أما البعد اليمني – الجمهوري للحرب فقد حفل بالكثير من التعرجات والصراعات والتقلبات مما جعل عبد الناصر يحاذر في منح ثقته لأحد من رجالاته .

    والثابت أن أحمد النعمان كان يغزل خيوطه مع فيصل منذ توليه العرش في نوفمبر 64 وكان راضيا عن مؤتمر الطائف , ولو عن بعد , وكان نافرا أشد النفور من عبد الناصر ومنحازا , ولو بالإيماء , لفيصل .
    من هنا " إقالة " عبد الناصر لوزارته صيف 65 , ثم تقريعه العلني لقيادات اليمن الجمهوري حينها .
    كانت هناك حرب تدور بين مصر عبد الناصر – على علات كوادرها المحلية – وبين الاستعمار والرجعية على أرض اليمن , ولم يكن من مجال أمام أحد للعب اللامسؤول , بل والمغرض.
    أما لجهة البعث , فمعلوم كم كان بعث دمشق 63-65 أسوأ منغص للجهد المصري في اليمن وهو في عز معركته مع الاستعمار والرجعية . 
 

8 – والحق أن يمن الشمال الجمهوري , بالوجود المصري فيه , كان قاعدة الارتكاز لثورة تحرير الجنوب المسلحة بدءا من أكتوبر 63 .

    بل وصل الأمر بعبد الناصر في زيارته اليتيمة لليمن في أبريل 64 أن تعهد بإخراج الإنجليز من عدن وذنبهم بين رجليهم .
    ما إن دخل عام 66 حتى أعلن هارولد ويلسون رئيس الوزراء البريطاني عن استراتيجية شرق السويس الجديدة , وفيها الانسحاب من جنوب اليمن مع مطلع 68 .
    ولولا هزيمة 67 لكان حكام الجنوب المحرر هم كوادر عبد الناصر في جبهة تحرير الجنوب المحتل , ولكانت وحدة اليمنين قد تحققت بعد الاستقلال مباشرة , بما يعنيه ذلك من سيطرة كاملة على مضيق باب المندب ضمن مكاسب أخرى .

كانت " حرب " اليمن - بمقياس جيواستراتيجي قومي - حربا مشروعة وخادمة للمشروع القومي التوحيدي النهضوي , لو أحسنت إدارتها التكتيكية على الأرض بما يجعل خسائرها أقل بكثير من مكاسبها الجمة حتى مايو 67 .

حرب اليمن لم تكن هي السبب في هزيمة 67 , إذ كان حجم القوات هناك عشيتها في حدود 7 ألوية فقط . 

سبب الهزيمة – كحجم ووقع – هو قيادة عبد الحكيم عامر العسكرية , مصحوبا بانحراف حسابات عند عبد الناصر سبّبه أيضا تصديق تطمينات عبد الحكيم عامر حول قدرات قواته وتأهبها .

لاحقت جمال عبد الناصر لعنتان : الأولى منذ 56 اسمها عبد الحكيم عامر , والثانية منذ 62 اسمها أنور السادات .............

فكان ما كان .                                                

د. كمال خلف الطويل