ك.خ.ط.: حاتم علي فاروقاً
حاتم علي ....فاروقـاً
10 / 22 / 2007
أحسن حاتم علي ولميس جابر- مخرج وكاتبة مسلسل الملك فاروق- صنيعاً ... بأن أطلا بفاروق كل مساء طيلة رمضان 2007.
للثناء جملة أسباب: 1. أن زيارة جادة لتاريخنا المعاصر أكثر من واجبة , سيما وقد باعد نصف قرن بين أوقاتنا الراهنة وبين حوادث مؤسسة في السردية التاريخية , من أهم شخوصها فاروق ذاته.
والحق أن تلك فسحة من الزمان كفيلة بأن تكون الزيارة أكثر هدوءاً , وأقل توتراً , وأوفر إنصافا.
2. أن منصة فاروق إفتتاحية جديرة بأن تليها وقفات وافية تطل علينا برجالات لعبت أدواراً حاسمة أو مؤثرة في هذا التاريخ المعاصر منها: عزيز علي المصري وساطع الحصري ومصالي الحاج وأمين الحسيني وشكيب أرسلان وعبد الحميد السراج وعبد السلام عارف وحسن البنا وعبد الكريم قاسم ومحمد خيضر وفيصل الأول و رشدي الكيخيا و فؤاد شهاب و المهدي بن بركة و عبد الكريم الخطابي .. فضلا عن جمال عبد الناصر.
3. أن المسلسل التلفزيوني هو الوسط الأمثل لإيفاء الملفات المحملة بأثقال التاريخ حقها في التناول المبرأ من شبهة العجلة أو الإبتسار, سيما وهو أمام كل أسرة , وفي كل بيت , صبح مساء , ولأيام ثلاثين أو ما ينوف عنها.
ان زيارة التاريخ ليست بقصد إستكناه ما جرى وكيف ولماذا , ولا للتلذذ بفك الأحاجي , وإنما لفهمه وهضم دلالاته واستقراء مؤشراته , ما خص منها الحاضر أم المستقبل.
من هنا فإن جدلا صحياً حول الماضي غير البعيد هو في حد ذاته علامة واسمة بالقدرة على التحول بالحاضر الذي لا يسر عدواً , إلى مستقبل أكثر إشراقا وأملاً.
في ضوء هذه المعطيات أين مقام مسلسل فاروق لجهة الأمانة التاريخية والإستدلال العقلاني؟
أبدأ ببعض الأخطاء التاريخية التي ارتكبت دون مبرر:
- خطأ القول أن أحمد عبد العزيز إستشهد في الفلوجة , وهو الذي قضى نحبه برصاص صديق في منطقة قواته ببيت لحم.
- خطأ القول أن الإخوان المسلمين حاولوا اغتيال مصطفى النحاس عام 48.
- خطأ نسبة مايو كلينيك لولاية نيويورك , وهو الذي في ولاية مينيسوتا.
- خطأ تصوير الأستاذ حسن البنا وكأنه تلميذ مطيع يجلس وعلى رأسه الطير في حضرة أستاذه مصطفى النحاس , ليقرعه الأخير وينهره عن دنايا أفعاله , ثم لا يفتح الله عليه إلا بكلمة.. حاضر يافندم.
كيف يصح ذلك والبنا , على كياسته ودهائه , قوي الشكيمة واسع الحيلة عريض الشعبية , لا يحتاج للخنوع أمام أحد , حتى وإن ساير مجادله فعدل عن الترشح للبرلمان إتقاءًً لصدام لم يكن يراه مبرراً بعد ؟.
- فداحة خطيئة أن تقتصر تغطية السنوات الأربع الأخيرة من حكم فاروق - وهي الأخطر والأشد حسما – على حلقات أربع , بينما توزع تسع وعشرون على باقي سنينه المصرية... وجلها من الجلوس/36 وحتى حرب فلسطين/48.
أدى ذلك لهنات مفجعة – بعضها مقصود بتعمد الإغفال - تنائيا عن الحرج والإحراج...
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما هي تلك الفواجع؟
- إغفال ذكر الحرس الحديدي الذي أسسه فاروق مع نهاية الحرب العالمية الثانية , تحت إشراف ياوره البحري الطبيب يوسف رشاد وزوجه ناهد , .. وكانت باكورة أعماله إغتيال وزير المالية الوفدي وقناة الإتصال بين الوفد والسفارة البريطانية أمين عثمان في يناير 46.
هذا الإغفال المتعمد يبتغي إظهار فاروق وكأنه ملاك رحمة لا يعرف للعنف سبيلاً .. قد يكون مراوغا في السياسة وخفيفا في الحياة لكنه مسالم وديع يكتفي بذاك القدر.
هذه الاشارة فيها من الزعم والزيف ما يفوق القناطير:
لقد أمر الرجل باغتيال الدكتور عزيز فهمي جمعة زعيم الطليعة الوفدية لخشية من يساريته وشعبيته بين جموع المثقفين , وأمر بتصفية الأستاذ حسن البنا انتقاما لاغتيال الإخوان المسلمين لرئيس حكومته محمود النقراشي , وأمر بقتل مصطفى النحاس ليس مرة واحدة فقط بل مرات ثلاث , نفذ إثنتين منهما بفشل باهر ... أنور السادات أحد رجالات الحرس الحديدي.
الإغفال هذا يصح فيه القول أنه تزوير للتاريخ... ومقصود. - إغفال أنور السادات هذا من الذكر بالمطلق .. لا علاقته بالمخابرات الألمانية عن طريق الراقصة حكمت فهمي , ولا مشاركته باغتيال أمين عثمان , ولا تنفيذه لمحاولتي إغتيال النحاس .. عجيب !! وكأن القصد هنا مزدوج , أى تبييض صفحتي فاروق وأنور معا .. ونعم الشراكة!
- اغفال دورالعامل الأمريكي في التأثير على السنوات الثمان الأخيرة من عهد فاروق , وبالأخص عبر كيرميت روزفلت - رجل المخابرات المركزية - منذ 1942 , ثم عبر السفير جيفرسون كافري مع نهاية الأربعينات.
كان المنطق أن تبرز في هذا السياق محطتان لذلك الدور: مارس 52 وزيارة كيرميت التي أوصلته لقدر من اليأس بإمكانية إصلاح فاروق المعطوب , ودور كافري في تيسير إجلائه عن مصر بسلام في يوليو.
لم غاب ذكر محاولات فاروق المتكررة توظيف إقترابه الأمريكي لموازنة الهيمنة البريطانية ؟... أين قمة فاروق مع فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة عام 45 ؟ أين قمة الفيوم بين روزفلت وتشرشل قبلها ؟ - إغفال التناول المعمق لسياسة فاروق العربية : نفوره العارم من الهاشميين في العراق كانوا أم في الأردن .. احتمال دور له في إغتيال عبد الله الأردن .. منحه اللجوء السياسي لأمين الحسيني بعد الحرب العالمية الثانية .. قمة إنشاص/46 .. تقاربه مع آل سعود في مواجهة الهاشميين .. سماحه بفتح مكتب تحرير المغرب العربي رغم أنف فرنسا .. ملابسات قراره بدخول حرب فلسطين.. ودور بريطانيا في تزيين القرار له لتوريطه.
- إغفال علاقته بكاميليا كوهين , عميلة الموساد والممثلة الصاعدة حينها, والتي اغتيلت في حادث طائرة سقطت غرب القاهرة أوائل الخمسينات.
- إغفال رشوة المليون جنيه التي قبضها فاروق من المليونير أحمد عبود ثمن إسقاط وزارة نجيب الهلالي في مايو 52.
- إغفال ذكر سبب الظهور المفاجئ لكريم ثابت رئيس تحرير المقطم في حياة فاروق بعيد إنذار 4 فبراير 1942 البريطاني , ألا وهو قرابته نسبا لوالتر سمارت المستشار الشرقي للسفارة.
- إغفال ذكر إسماعيل صدقي الذي أتى به فاروق رئيساً للوزراء نهاية شتاء 46 .. وهو من هو في حماسته للصهيونية , وتمثيله لبعض مصالحها المالية في مصر.
تلوا ..هناك إغفال لمشروع معاهدة صدقي – بيفن خريف 46 وإسقاط الشعب المصري له.
والأنكى أن عام 1947 كله أغفل من التناول, وهو الذي شهد شكوى حكومة النقراشي بشخصه لمجلس الأمن ضد بريطانيا بسبب استمرار إحتلالها للقنال, وشهد قرار تقسيم فلسطين , وقمة بلودان , وبدء الحرب الباردة.
- إغفال إغتيال اللورد موين الوزير البريطاني المقيم عام 45 على يد عصابة شتيرن الصهيونية.. وخلفيات ذلك الحدث.
- بل هناك إغفال مطلق لكيف كان النشاط الصهيوني في مصر علنيا وواسعا .. تسليحا وتدريبا وتمويلا وإعلاما وهجرة.
- وكيف كان إختراق الصهاينة للنخبة المصرية ملحوظا , ليس فقط عبر إسماعيل صدقي , وإنما أيضا عبر لطفي السيد الذي اشترك في إفتتاح الجامعة العبرية في القدس عام 1925 , وعبر طه حسين الذي رئس تحرير مجلة الكاتب المصري المملوكة من صهاينة مصر في الأربعينات.
- بل وصل الأمر بمصطفى النحاس – بجلالة قدره – أن تبرع لمشفى هداسا اليهودي بالقدس وللجامعة العبرية , عرفانا باعتناء الأول به عند مرضه ذات حين , واعترافا بريادة الأخيرة أكاديميا في كل حين.
- إغفال ما فعله محازبوا الوفد حين زار مايلز لامبسون النحاس في القصر الحكومي مهنئا إياه بتوليه رئاسة الحكومة بعد ساعات من إنذار 4 فبراير 1942 , وكيف رفعوه على الأعناق هاتفين بحياته وشاكرين لفضله الذي لولاه لما عاد النحاس للوزارة طالما فاروق في السراي.
تأخذنا تلك الحادثة إلى ملف التعامل السري بين النحاس ولامبسون عبر قناة أمين عثمان قبل مصرعه. الراجح أن إنذار4 فبراير الفارض للنحاس رئيسا للوزراء ما كان له أن يرى النور دون إخطار مسبق للنحاس بالتهيؤ للصدع. غير ذلك تخاريف لا تصمد أمام منطق سير الحوادث. لقد قرأ النحاس الجيوستراتيجيا القارية قراءة صحيحة بعد دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية في ديسمبر 41 , فقر رأيه على حتمية انتصارها وحلفائها على المحور , ومن ثم بنى علاقته مع لندن على قاعدة التحالف للمدى الأقصى. يتصل بذلك إستيحاء النحاس من أنتوني إيدن وزير الخارجية البريطاني فكرة الجامعة العربية خريف 1944 لتكون أداة ترويض لموضوعة الوحدة العربية , وواسطة تأثير في القرار العربي , فضلا عن جمع أصدقاء لندن في القاهرة وبغداد وعمان وبيروت بل ودمشق , في صحبة عامرة.
11. إغفال التحولات الكبرى التي ضربت "وفد" الأربعينات فتحولت به من حزب المثقفين والغلابة إلى حزب الإقطاعيين والملاك ..} طالما تمحور المسلسل ليس فقط حول فاروق , بل ومعه والنحاس.. الذي ارتقى به المخرج والكاتبة إلى مصاف الأولياء من أهل التقى والصلاح{. تلك التحولات صعدت بإقطاعي شبه عمدة مثل فؤاد سراج الدين ليضحي ميرابو الوفد وعرابه , وخليفة النحاس في حياته , بل وشريك عروسه الشابة زينب الوكيل وخدينها. لم يأت ذكر شقيقها أحمد , وهو من هو في استغلال نفوذ صهره للأغنياء والكسب , ولا ذكر إنهماكهما في تثمير ثروة عائلتهما عبرقناة نفوذ بعلها. 12. إغفال ذكر شخصية مميزة في تاريخ مصر ما قبل يوليو .. وهو الدكتور محمد صلاح الدين – مصدق مصر. كان أهم الناجين من نفوذ سراج الدين المتعاظم في الوفد , ومن استطاع أن يؤثر على النحاس _ وزيرا لخارجيته _ لدرجة الوصول به ومعه إلى قرار إلغاء المعاهدة في 8 أكتوبر 1951 .. بل ولعتبة رفض إندراج مصر في معاهدة الدفاع عن الشرق الأوسط.. أي النسخة الأولية من حلف بغداد والتي اشتغل على تمريرها ثنائي كيرميت – كافري. 13. إغفال التناول المعمق لأسباب سقوط خمس وزارات بين 26 يناير و 26 يوليو 52: مصطفى النحاس وعلي ماهر ونجيب الهلالي وحسين سري والهلالي ثانية , وتحضير فاروق لمرتضى المراغي رئيسا لوزارة أمن مع خريف 52 لو طال به الأمد في القصر .. وتربيطه مع الأمريكان في هذه المسألة. لقد كانت أزمة نظام يتهاوى وتنخلع أبوابه الواحد تلو الآخر بفعل عاصفة تتجمع خماسينها من كل صوب. 14. إظهار وكأن محمود النقراشي عقد العزم _ من حر رأسه _ على حل الإخوان في ديسمبر 48 مقاوما محاولة فاروق ثنيه عن قراره. لم يكن النقراشي ليجرؤ على هذا الإصرار بينما فاروقه يمانع. كلاهما خشي من إشتداد بأس الإخوان مع ظهور تجلياته في فلسطين , فأرادا التغذي بهم قبل أن يتعشوهم , سيما وانقلاب آل الوزير الإخواني في اليمن طازج في الخلفية. 15. إغفال تنامي مسألة الضباط الأحرار منذ تأسيس تنظيمهم أواخر 1949 وحتى اصطدامهم بالملك في ديسمبر 51 عبر انتخابات نادي الضباط , وفوزهم فيها على مرشحيه. يعود بنا ذلك لسكوت المسلسل عن مفاعيل حادث 4 فبراير 1942 بين أوساط الضباط الشبان , والذين صدموا أيما صدمة بخنوع فاروق أمام لامبسون صاحب الإنذار خشية على عرشه من السقوط. من لحظتها بدأ ذل فاروق في حت إعجاب الضباط به , ثم تمت التعرية مع أدائه الفاشل في حرب فلسطين إعدادا وخوضاً. كم حرص المسلسل على تجنب ذكر الضباط الأحرار.. وكأن أصحاب المسلسل قد أصابهم مس من التطير والرهاب .. ولا حول ولا قوة بالله. 16. إغفال المسلسل لما ألحقه تواطؤ النحاس – لامبسون في فبراير 42 بسمعة الوفد الوطنية من تلويث شديد ولسنوات تسع , أي لحين إلغاء الوفد للمعاهدة في أكتوبر 51 ثم رعايته للكفاح المسلح في القنال لشهور ثلاث بعدها. 17. إغفال المسلسل لعلاقة فاروق الطيبة بالإخوان المسلمين من الجلوس/36 ولحين الحل/48 , ثم عودة تلك العلاقة أواخر 50 وحتى تواطؤ الإخوان مع الضباط الأحرار ضده صيف 52. فترة الفتق في العلاقة استمرت لما ينوف عن عام , ولأسباب سلف تناولها أعلاه , لكنها كانت الإستثناء لا القاعدة. كان الإخوان له حليفا موازنا لخصمه الوفد.. وهذا صلب قيمتهم عنده. 18. إغفال المسلسل لما تدنت إليه سلوكيات كثير من أمراء وأميرات الأسرة المالكة من اقتراب حميم من الضباط البريطانيين والأمريكيين والأستراليين الذين خدموا في مصر سنوات الحرب العالمية الثانية , ومن تبذل مريع وصل حد السقوط في حالات عدة. في هذا السياق لمس المسلسل برقة غير أمينة , بل وزائفة , إضطراب حال فريدة العاطفي والذي أوصلها لأعتاب علاقة غير بريئة بضابط رسام بريطاني , فضلا عن إرتماء فاروق على قدمي الأميرة فاطمة طوسون في محاولة تطليقها من زوجها والإقتران بها , ومعاودته ذلك بعد ترملها , ورفضها في المرتين مفضلة عنه في الثانية كونت برتغالي.
ألم ينأى أصحاب المسلسل بأنفسهم عن تناول مسألة تنصر نازلي وفتحية ثم فائزة ؟ 19. إغفال المسلسل لذكر دار أخبار اليوم وخدمة أصحابها للقصر , بعد أن تأسست الدار بأموال المخابرات المركزية عام 44. لم نسمع إسم التوأمين في أي سياق .. وهما اللذان –الى ضفاف كريم ثابت – كانا بوقي القصر آناء الليل وأطراف النهار. على المقلب الآخر لم يأت ذكر إحسان عبد القدوس ودور مجلته في فضح مسألة الأسلحة الفاسدة , ومحورية دوره في التحريض على فاروق في عامه الأخير. 20. إغفال المسلسل تناول الدورين الأمريكي والبريطاني من السادسة صباحا وحتى السادسة مساءً من ذلك اليوم الطويل 23 يوليو 1952. ولشد ما أضحكني حمل فاروق للسلاح من شرفة قصره مطلقا النار على محاصريه في رأس التين/الإسكندرية. ذلك كذب صراح..لقد كان فاروق منهمكا في التوسل لكافري حتى يؤمن رحيله.. بسلام وأمان ومال ومجوهرات ومراسيم ويخت محروس.. ولم يكن في وارد لا أن يقاوم , ولا أن يستنجد بالإنجليز لعزوفه عن تكرار خيانة أحد أسلافه توفيق. عرف منذ الفجر أن الأمر قد قضي وفي القاهرة , وأنه لا نفع ولا فائدة إلا في طلب الستر والسفر.
نأتي الآن إلى مسائل اللباب:
1. كان فاروق وطنيا مصريا صميما وعربي الهوى والأفق...
"عروبته" تلك أسهم في وعيه بها وتمثلها جمع من خيرة رجال مصر أمثال عبد الرحمن عزام وصالح حرب ومحمد علي علوبة , الذين تحلقوا حوله مع مطالع الأربعينات , وأمدوه بزاد من المعرفة والتبيان مد به بصره عبر سيناء إلى الشرق والشمال , مجددا فهم أجداده الأوائل لأمن مصر الوطني.. وتخومه في الشمال من حلب.
فهمه السديد هذا هو ما قاده للصراع مع الهاشميين _ حلفاء الإنجليز ومنافسيه على الشام _ وإلى الإنتصار لقضايا العرب من المغرب إلى فلسطين.
والحق أن إهالة التراب على فاروق تمت على أيدي منافقي يوليو بأضعاف ما فعله أصحاب يوليو أنفسهم : هم مصطفى أمين ومحمد التابعي وأشباههم الذين أغرقوا سيرته بمداد من أفك جاوز كل حد. هو باختصار رجل لم تتسع همته لآمال أمته , بل ولا لشعبه. ما عنده قصر عن إدارة محافظة , فما بالك بدولة وبأهمية واحدة كمصر.
2. طريف أن يفوح أريج الملكية والليبرالية , مع المسلسل وإثره , حنينا عارما لفترة أصبحت عند البعض مثلا للإحتذاء. تلك المظاهر "الديمقراطية" التي شاهدناها هي تعبير عن ديمقراطية الأقلية , بل ديكورها , فيما الأغلبية الغاطسة من شعب مصر كانت في واد غير ذي ضرع تعيش بؤس القهر والفقر والحرمان , ودونما أدنى صلة بما يدور بين الباشوات والبكوات والأفندية.
ما هذه الديمقراطية و/أو الليبرالية التي يقيل فيها سفير حكومة البلد المقيم عنده , ويقيل ملك رئيس وزرائه مقابل رشوة , وآخر لأنه اعتذر عن تعيين أفاق من عسس الملك وزيرا للحربية , ويملك فيها رأس المال الأجنبي واليهودي والمتمصر ما يفوق ثلاثة أرباع الثروة الوطنية , وتدرب فيها الفيلق اليهودي إستعدادا لدور لاحق في اغتصاب فلسطين وعلى مرأى ومسمع من السلطات , وجثم فيها 80 ألف جندي بريطاني دون جهد مقاوم , فاعل وفعال , ما بين 19 – 51 ؟
3. لحاتم علي وافر الثناء على إدارته لعمل فني سعى للرقي بالجد كله: اختيار الممثلين/الممثلات .. الموسيقى التصويرية الأخاذة لطارق الناصر .. تيم حسن بالذات .. طريقة التصوير السينمائية .. الملابس والأزياء .. تحريك المجاميع داخل القصور (مع عباطتها في الخارج) ... كلها تضافرت لتصنع حدثا فنيا ذي ألق. والحق أنني لم أفاجأ بجودة صنع حاتم , وهو الذي أتحفنا بثلاثية الأندلس , والتغريبة الفلسطينية , وصلاح الدين , وعصي الدمع , وعلى طول الأيام , والفصول الأربعة , والزير سالم.
لكن الأهم من هذا وذاك ضرورة أن يضحي " فاروق " منصة إنطلاق لما هو أهم , وأعظم أثرا وتأثيرا.
في البال هنا تحديدا أن يتقدم حاتم علي – هو بالذات – ليخرج مسلسلا لرمضان المقبل عن جمال عبد الناصر .. وبالذات .
في البال معه جمال سليمان.. ناصرا.
أصل الآن إلى آل سعود وهم منتجوا العمل عبر إحدى قنواتهم – وما أكثرها – MBC.
لا يحتاج مخلوق للتنبؤ بحافز البيت السعودي لإنتاج عمل كفاروق.
عاش ذلك البيت, ولا زال , وشبح جمال عبد الناصر يحوم فوقه نذيرا ووعيدا .. ولا أظن ذاك العصاب مغادرهم , طالما هم على قيد الحياة.
ما يقض مضاجعهم ليس هو فقط شبح الماضي – والذي جاوز ثلث قرن من الغياب– وإنما رسالة المستقبل فيه , وهي التي تشي بكل ما يرتعدون منه.
هم لذا يحاولون بكل السبل أن يحاربوا عبد الناصر في لحده بأشد مما حاربوه في حياته.
قادهم هذا العصاب إلى تذكر فاروق .. ما الذي يسر لهم إستلهام فاروق نظيرا لناصر ؟
هو ما يدب في أوصال مصر من كره جلل لحاكم مصر الراهن , والذي يصبح فاروق أمامه – وبحق – حملا وديعا يترحم على ايامه المرء ثوابا ومرضاة لخالقه.
في هذا المناخ يستحضر فاروق.. لا لشيء إلا للتنفير ممن إنقلب عليه وثار. هم يعلمون علم اليقين أن السنوات الأربع الأخيرة من ملك فاروق كانت خمائر التغيير الثوري , والخروج من إهاب ملكية تندثر إلى فجر يوم جديد يلوح على الأفق.
لذا لاغرو أن يجد المرء نفسه وقد غيبت من أمامه شواهد ذلك التغيير وإرهاصاته , وإشارات ما اعتمل في أحشاء مصر والمنطقة حينها من مخاض كبير وفارق.
بإنتاج المسلسل إبتغى آل سعود لا إنصاف سيرة فاروق – وهو في جانب غير يسير يستحق الإنصاف فعلا كما سبق تبيانه أعلاه – وإنما الإقتصاص من رمز جمال عبد الناصر , والمزيد من محاولة تلطيخ سيرته , بأمل أن يفيد ذاك في الخلاص من الشبح ............. ولكن هيهات. إن ما بين الشبح و"الآل" حرب وجود لن تحسم إلا بخروح أحدهما من ذاكرة الأمة... مرة وإلى الأبد. والظن عندي أن جولة قادمة في هذا النزال الضاري ستكون مسلسلا عن عبد الناصر يحكي حكاية آل سعود كما هي على حبتها.. لا أكثر ولا أقل , و ضمن حكايات كفاح أقام الدنيا ولم يقعدها , فخرج إليه منازلا حلف المؤسسة الأمريكية الحاكمة- و "آلاتها" "العربية"- وصهيون... واستطاع إليه سبيلا: أولا في نكسة الإنفصال السوري/61 , وثانيا في هزيمة يونيو/67 , وثالثا في القتل المباشر/70 ...والإتيان بأنور السادات قائدا للثورة المضادة.
أربأ بحاتم علي أن يكون متورطا بوعي في إنفاذ مقاصد آل سعود , لكنني لا أعلم ما يكفي عن لميس جابر لأحكم. لحاتم أطيب التهاني بحرفية فنية قديرة رغم الهنات , وعامر الأمل في أن يتلافى خطايا التأريخ في مرات قادمة بحذر الحصيف , وخالص التمني في أن يتحفنا بعد عام بمسلسل ... "جمال عبد الناصر".
د. كمال خلف الطويل
10 / 22 / 2007