ك.خ.ط.: أسباب عربية وراء اغتيال كنيدي
أسباب عربية... وراء اغتيال كنيدي
18 سبتمبر 2002
بادئ ذي بدء لا يقصد عند طرق باب أسباب اغتيال كنيدي العربية إغفال جملة من الأسباب الأخرى والتي تفوقها ربما أهمية ... وإنما تبيان مجموعة من الأسباب التي طال تجاهلها أو إغفالها أو ربما عدم التنبه لها من الأساس.
عرف عن جون فيتزجيرالد كنيدي تأثره الشديد بوالده جوزف كنيدي والذي خدم سفيرا في بريطانيا في عهد فرانكلين روزفلت وكان من أشد المحبذين لبقاء الولايات المتحدة على الحياد في الحرب العالمية الثانية (وهي فترة دامت من 1939-1941) ومن أشد المعارضين للانخراط بها ضد ألمانيا النازية وبضرة لبريطانيا (قبل بيرل هاربر) يفيد هنا تبيان أن جوزف كنيدي بنى قاعدة ثرائه من تجارة الكحول الممنوعة في الثلاثينات وتبنيه للقضية الأيرلندية ضد المحتل البريطاني ولا شك في أن انخراطه في تجارة كهذه ربطته خصومة وتوافقا مع المافيا الأمريكية مما ترتبت عليه آثار لاحقة في عهد ابنه.
أراد جوزف كنيدي أن يزاوج أمبراطورية المال بأمبراطورية السياسة عبر تعهده دخول أولاده حلبة الأخيرة رغم فجيعته بفقدان ابنه البكر ومن هنا وجدنا الابن الثاني جون يصل إلى معقد السناتور عن ولاية مساشوسيتس وهو في سن مبكرة مستمدا المشورة – سوى عن الوالد – من أخيه روبرت. في فترته كسناتور اشتهر جون كنيدي بنصرته لقضية استقلال الجزائر وضرورة جلاء المحتل الفرنسي عنها وكان في ذلك رائدا رغم أن التوجه العام للمؤسسة الحاكمة الأخيرة كان يتساوق – ولو صمتا – مع طرحه وفق رغبتها في الحلول محل الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. مثّل جون كنيدي جيل شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان يتطلع إلى ارتياد عالم جديد تقوده الولايات المتحدة بقوة المثل وقوة المثل بما يؤدي بالضرورة إلى هزيمة الخصم الأيديولوجي لليبرالية الغربية أي المعسكر الشيوعي بالنفط بتوفير البديل الأفضل والأكثر حيوية ووعدا. كان قريبا من المدرسة الكينزية التي نادت بإزالة شوائب النظام الرأسمالي عبر حقنه بجرعات قوية من مصل العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات ومن ثم استشراف آفاق دولة الرعاية التي تتيح لجموع العاملين فرصة الانتفاع بمنافعها ومن ثم التحصن ضد احتمال التلوث بالعقيدة الماركسية. قرر كنيدي الترشح للرئاسة خلال 1959 وهو يعلم أن كونه من الأقلية الكاثوليكية يضعه على مسافة ملحوظة من منافسه ريتشارد نيكسون خصوصا وأن الأخير هو نائب الرئيس القيم وذو الشعبية الجنرال آيزنهاور. إلا أن نداء الشباب والمستقبل إضافة للكاريزما الشخصية ثم الصفقات التي عقدها الوالد مع بعض المفاتيح الانتخابية (ديلي في شيكاغو) استطاعت أن تحقق شبه المستحيل وأن يمكن جون كنيدي من الفوز في انتخابات نوفمبر 1960 ولو بفارق زهيد من الأصوات.
يجدر هنا التذكير أن المؤسسة الحاكمة (وكانت أساسية شرقية التمركز) كانت قد ارتسمت ملامحها ما بين 1942-1960 بكونها ممثلة للمجمع العسكري – الصناعي وأجهزة الأمن القومي وحليفاته من الشركات الكبرى في حقول النفط والمال والإنتاج والإعلام ومن هنا قيمة التحذير الشديد – والتاريخي – والذي أطلقه الجنرال أيزنهاور عقب انتهاء رئاسته في يناير 61 محذرا من شرور ومخاطر هيمنة المجمع العسكري – الصناعي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة. كانت سياسة المؤسسة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها هي شن الحرب الباردة ضد المنظومة الشيوعية بما يشمل من خوض سباق تسلح متصاعد لا يعرف حدودا أو قيودا وكان من رموز المؤسسة في تلك الفترة آلان دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية وشقيقه جون فوستر دالاس وزير الخارجية (توني عام 59) وإدغار هوفر مدير وكالة المباحث الفيدرالية. في تلك الفترة كان التحدي المباشر للسياسة الأمريكية في حديقتها الخلفية (الأمريكيتين الوسطى والجنوبية) هو النظام الوليد في كوبا بقيادة فيديل كاسترو والذي ابتدأ وطنيا راديكاليا عندما اقتنص السلطة مطلع 1959 لكنه تحول شيئا فشيئا إلى اعتناق الشيوعية، وأزعم أن ذلك تم بحكم الاضطرار لأنه جُوبه بعداوة وكالة المخابرات المركزية منذ لحظاته الأولى إذ أرادته نظاما خاضعا ومحسنا عن سلفه باتيستا، وأراد أن يكون مستقل الإرادة، فانزاح رويدا إلى الشرق طلبا للحماية من الجار الكبير وملتحفا بخصمه الكبير.
في الشهور الأخيرة من إدارة آيزنهاور وبعد فشل العديد من محاولات التآمر والضغط قررت وكالة المخابرات المركزية اللجوء لأسلوب الغزو المسلح لكوبا ولم يكن لانتقال السلطة من إدارة جمهورية إلى إدارة ديمقراطية أن يؤثر على خطط الوكالة إذ سارعت إلى تطمين الرئيس الجديد بأن خططها لن ترى الفشل ونجاحها مضمون. مشى الرئيس الجديد مع خطط الوكالة ظنا منه بأن تأكيداتها الواثقة قاطعة ليكتشف في نيسان / أبريل 1961 أن خليج الخنازير كان فضيحة بكل المقاييس وأن الوكالة تسببت في هزيمة معنوية لهيبة الولايات المتحدة. ماذا فعل الرئيس كنيدي حينها؟ أقال مدير الوكالة آلان دالاس مما اعتبره مجمع الأمن القومي خطيئة لا تغتفر لما يمثله هذا الرجل من توجهات المؤسسة الحقيقية في الهيمنة الشاملة على العالم سواك عن الحديقة الخلفية. جرب كنيدي في ذات العام أن يمضي في طريق تخفيف سعار الحرب الباردة عبر اللقاء مع خروشوف في فيينا ولم يوفق لأن قيود المؤسسة كانت كابحة لكنه ارتكب خطيئة العمر في نظر المجمع – عندما رفض غزو كوبا واجتياحها في تشرين الأول / أكتوبر 1962 واكتفى بفرض الحصار البحري حولها ثم عقد صفقة رفع الحصار عنها مع خروشوف مقابل تفكيك الصواريخ البالستية من القواعد الأطلسية في تركيا. بعد هذه المواجهة اتجه تفكير الرئيس كنيدي إلى ضرورة تخفيض إقرار الحرب الباردة وتوجيهها وجهة سلمية تنافسية. عبر عن هذه النزعة بجلاء في خطابه في إحدى الجامعات في حزيران / يونيو 1963 عندما تحدث بقوة عن ضرورة السيطرة على سباق التسلح النووي قبل أن يشتط ليصبح مصدر استنزاف للجميع وبؤرة توتر قد ينفلت من عقاله ولو بأسلوب الحرب غير التقليدية. منذ أوائل الستينات بدأت المؤسسة في التدخل المباشر العسكري وشبه العسكري في فيتنام ولاوس بحجة جبه التغلغل الشيوعي في هذه البلدين ووصل حجم القوات الأمريكية في فيتنام الجنوبية مع عام 1963 إلى 16 ألف جندي. شعر كنيدي مع صيف ذلك العام أن فيتنام تتحول تدريجيا إلى مصيدة استنزاف للقوة الأمريكية وأن الانفكاك منها ضروري ومن هنا قراره بالانسحاب التدريجي ليكتمل قبل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني / نوفمبر 1964.
حملة السياسات هذه: توجيه الحرب الباردة وجهة سلمية تنافسية – قرار الانسحاب من فيتنام – رفضه غزو كوبا – 1962 – تبرؤه من خليج الخنازير وإقالته للمسؤول عنه شكلت جل أسباب قرار المجمع العسكري – الصناعي / مجمع الأمن القومي بتصفية جون كنيدي قبل أن يستفحل خطره عبر إرادة شعبية تعود به للبيت الأبيض في نوفمبر 1964 ويتمكن عبرها من تحويل دفة المؤسسة من وجهة الصراع إلى وجهة التنافس عبر قوة المثل.
يُضاف هنا سبب داخلي ذو قيمة وهو قرار كنيدي الرئيس وشقيقه روبرت كنيدي وزير العدل بتصفية شبكات المافيا مرة وإلى الأبد وبالتالي استئصال شأفة الجريمة المنظمة والتي جثمت عبئا على المجتمع المدني الأمريكي لعقود طويلة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأسباب العربية
لعل جون كنيدي هو الرئيس الأمريكي الأول والأخير الذي فتح ملف قضية اللاجئين الفلسطينيين وحاول – من منظوره – التوصل إلى حلول لها. طبيعي أن رغبته لم تكن تمكين مليوني لاجئ (حينها) من العودة إلى ديارهم لكنه فكر في حلول وسط تمكن بعضهم من ذلك (وبما لا يسر حكما إسرائيل وحلفاءهم الأشداء في واشنطن). عبر كنيدي عن رغباته في رسائله الشهيرة لجمال عبد الناصر في ربيع 1961 والتي استمرت حينا وعرفت برسائل كنيدي – ناصر في ملفات التاريخ. وئدت تلك المحاولة بأن قامت وكالة المخابرات المركزية بإضعاف عبد الناصر عربيا عبر رعايتها لانقلاب الانفصال السوري في أيلول / سبتمبر 1961 بتمويل سعودي وصل إلى 12 مليون دولار وبتنسيق لوجستي أردني وباعتراف تركي فوري.
في عام 1957 قام جي موليه رئيس وزراء فرنسا الاشتراكي وأحد المتواطئين الثلاثة في الحرب على مصر عام 1956 (حليفيه: إيدن وبن غوريون) بمنح إسرائيل مفاعلا ذريا عالي الطاقة يمكنها خلال أقل من عقد من امتلاك السلاح الذري. نال هذا القرار موافقة إدارة أيزنهاور والتي لم تمانع في ذلك طالما أن التسارع تحت سيطرتها وكذلك قرار الاستخدام من عدمه. مع تلك الخطوة مشت إسرائيل إلى طريق امتلاك السلاح الصاروخي بعيد المدى وكانت الباكورة صاروخ أريحا-1 عام 1961. في ذات الوقت كانت مصر عبد الناصر تلحق لاهثة بإسرائيل على نفس المحورين ولكن بإمكانيات أضعف ومردود أقل. حصلت مصر عام 1958 على مفاعل انشاص الصغير ثم بدأت تجاربها على الصواريخ بمساعدة العديد من العلماء الألمان. ردا على أريحا-1 أجرت مصر في تموز / يوليو 1962 تجربة على صاروخي القاهر والظافر. ورغم أنهما كانا يفتقدان أجهزة التوجيه (وهو وضع دام حتى حرب 1967) إلا أن إحساس إسرائيل بالخطر تنامى لدرجة الهلع ومن هنا قرار إدارة كنيدي في آب / أغسطس 1962 بتزويد إسرائيل صواريخ هوك للدفاع الجوي وهي خطوة كسرت خطر السلاح الأمريكي المفروض على إسرائيل ومصر وسوريا منذ البيان الثلاثي عام 1950. كان الهدف تطمين إسرائيل وضبط إيقاع حركتها. ترافقت تلك الخطوة مع قرار كنيدي وقف تصاعد سباق التسلح فوق التقليدي بين مصر وإسرائيل وذلك عبر طلب التفتيش على مفاعلي ديمونة وانشاص وعلى مصانع الصواريخ لديهما. مانعت إسرائيل كثيرا في الانصياع لهذا الطلب مؤيدة بمعظم طاقم المؤسسة الأمريكية ووصل الأمر في اللقاء الأخير بين بن غوريون (قبل استقالته) وبين كنيدي في حزيران / يونيو 1963 إلى إنذار الأخير للأول بحتمية الانصياع وإلا. في 26 أيلول / سبتمبر 1962 قامت ثورة اليمن وسرعان ما هبت السعودية بملكها سعود وولي عهده فيصل إلى محاولة إنجاد ملك اليمن المخلوع والفار البدر وأصبح مصير النظام الجمهوري الوليد معرضا لانتكاسة شبيهة بما حصل لانقلاب 1948. في مطلع تشرين الأول / أكتوبر 1962 استجاب عبد الناصر لطلب ثوار صنعاء الملح بإرسال قوات مصرية لإنقاذهم وكان الظن أن ذلك لن يحتاج لأكثر من كتيبة وفي أقصاها لواء. لكن مسار الحرب سرعان ما اتخذ شكلا آخر بحيث أن الحجم وصل إلى فرقة خلال شهور قليلة.
ظن عبد الناصر أن ردع آل سعود عبر وصول الطيران المصري إلى سماء الرياض في غارات وهمية أو شـبه حقيقية كفيل بوقف إمدادهم لملكيي اليمن. رد كنيدي على ذلك بخطوتين: 1- فرض نقل السلطة الحقيقية في السعودية إلى فيصل ولي العهد ورئيس الوزراء وهو المعروف بتصلبه وكراهيته الشديدة لناصر.
2- إرسال طائرات ف-5 إلى قاعدة الظهران في مظاهرة تأييد علنية تحت اسم الجدار الصلب. تصاعدت العمليات العسكرية في اليمن وتواصلت الغارات الجوية المصرية على قواعد انطلاق الملكيين في جيزان ونجران داخل السعودية. شمل التأييد الأمريكي للسعودية السماح لإيران وباكستان بتزويد الملكيين بالسلاح والخبراء وفي إشراك لطيران الأردني في العمليات. في ذات الوقت خطا كنيدي خطوة لافتة في نوفمبر 1962 عندما قرر اعتراف الولايات المتحدة الرسمي بالنظام الجمهوري في اليمن. مع هذا القرار بدأ كنيدي في الترتيب لفرض فض اشتباك عسكري في اليمن يضمن خروج الجيش المصري منه وكف يد السعودية عن دعم الملكيين وإبقاء النظام الجمهوري مع السماح للملكيين (عدا أسرة حميد الدين) من الإنضواء في تشكيلاته الحاكمة. أوفد كنيدي مطلع 1963 مبعوثه الشخصي الزوورث بنكر للوساطة بين الأطراف وفق التصورات السالفة. في نيسان / إبريل 1963 وافق عبد الناصر على الصفقة الأمريكية كما هي وبدأ من جانبه في سحب قواته من اليمن كما تم مع جزء منها في الشهر الذي يليه. ماذا حصل بعد ذلك؟ كان قرار كنيدي بفض الاشتباك وإخراج الجيش المصري سالما إلى بلاده معاكسا لرغبة المؤسسة في استبقائه هناك ومن ثم استنزافه في حرب طويل تلهيه عن ساحته الأساسية أمام إسرائيل. هذا يفسر انهيار صفقة بنكر عبر تصليب المقاومة السعودية للانصياع واستمرار السعودية في خط التشدد بل وتوسيع نطاق الحرب تحت إشراف روبرت كومر مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي حتى سميت الحرب بحرب كومر. شمل ذلك استجلاب ألوف المرتزقة الأوروبيين (الفرقة الأجنبية) وانفتاح أبواب التنسيق السعودي – الإسرائيلي عام 64 عبر الوسيط عدنان خاشقجي بل وتدخل الطيران الإسرائيلي بشكل مباشر في العمليات.
كانت هذه أسباب وجيهة إضافية لكل ما سلف أوصلت دولة الأمن القومي للقناعة الحاسمة بأن جون كنيدي خطر محق على كل توجهاتها القارية فهو مساوم مع الخطر الأكبر المعسكر الشيوعي لدرجة التسليم بضرورة سلمية الصراع وتخفيض وتيرته .. ومسالم مع حركة التحرر الوطني في العالم الثالث لدرجة التعايش والتحمل وكلاهما هرطقة لا يمكن القبول بها بحال من الأحوال.
نفذ قرار الإعدام في 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 في دالاس وأشرف على التنفيذ نائب الرئيس ليندون جونسون الذي قام خلال شهور فقط بمسح آثار كنيدي في السياسة الخارجية مئة بالمئة واختفت ومضة في التاريخ الأمريكي المعاصر كان يمكن لها أن تغير وجهه.
كل ما ينطبق على جون كنيدي يمكن نسخه حرفيا على روبرت كنيدي!