ك.خ.ط.:القذافي : من البداية الى الانصياع

من معرفة المصادر

القذافي : من البداية الى الانصياع د . كمال خلف الطويل: ( كلنا شركاء ) 24/3/2009

لعل الدور الذي لعبه الجيش الليبي في مضمار السياسة يتميز بفرادة مميزة , وهي أنه اقتصر على طور واحد لازال معنا منذ الأول من أيلول / سبتمبر 1969 , وتم على يد عصبة الضباط الوحدويين الأحرار بزعامة ملازم أول اسمه معمر القذافي . لكن القسمات الأساسية لهذا الدور تجد شبها كبيرا لها بما سبقها من تجارب عراقية ويمنية وسورية وسودانية . التشابه الأساسي كان في أن نداء عبد الناصر القومـي كان ملهما لضباط الجيش وبالأخص الصغار منهم .. والساحة الشعبية كانت في مجملها معبأة بمشاعر ناصرية , تتخللها منازع بؤرية - بعثية و"حركية" . ورغم أن الأخيرة كانت لها مواطئ أقدام في الجيش تسعى بها مع الوقت إلى الوثوب إلى السلطة , إلا أن السواد الأعظم من الضباط صغار الرتبة كان ناصري الهوى .

قام هؤلاء بتجميع أنفسهم بعد تخرجهم من الكلية العسكرية , وبالأخص بعد خطاب عبد الناصر في عيد الوحدة السادس في 22 شباط / فبراير 64 والذي دعا فيه ليبيا إلى طرد القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية من أراضيها . كان هذا الخطاب نداءً بالتجمع استمع إليه بإنصات وتقبل كل من الشارع الشعبي والجيش النظامي . تمخض مفعول هذا النداء عن تأسيس تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار أواسط الستينات , والذي تسارعت خطوات تفعيله بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967 , وبعد ما كان قد روي عن دور لقاعدة هويلس الأمريكية عشية الحرب في إمداد إسرائيل بالسلاح والذخيرة . لا بد هنا من ذكر أن الجيش في ليبيا لم يكن القوة الأقوى والأفعل ضمن تنظيمات النظام الملكي المسلحة , بل كانت قوة الأمن الداخلي والمجهزة بالآليات المصفحة , والتي كان يقودها عليها ضابط موثوق من الملك هو عبد العزيز الشلحي . لكن كلا القوتين – الجيش والأمن الداخلي – كانتا , حتى بمقاييس تلك الأيام , قوتين صغيرتين نسبيا , مما يفسح المجال أمام مجموعة منظمة ومصممة في أيهما إلى اقتناص السلطة في غفلة عن الأخرى .

ولربما يلفت النظر أن انقلاب الأول من أيلول / سبتمبر 1969 تم بواسطة زمرة صغيرة من الجنود وبسهولة كبيرة . من هنا ثارت تساؤلات عن علم أمريكي مسبق بالانقلاب مارس سكوت الرضا عن مجيئه , خصوصاّ وأن قاعدة هويلس الأمريكية وقاعدة العضم البريطانية كان فيهما ما يكفي لقمع أي حركة غير مرغوب فيها ... بيسر . لكن الثابت أن مسارعة الانقلابين إلى الاتصال بالقاهرة وطلب إسنادهم باستقدام قوات مصرية إلى حدود ليبيا الشرقية عوقت تعرض الأمريكان للانقلاب وإنجاد النظام الملكي .

ولعل سببا خفيا لإمتناع الأمريكان عن التدخل كان في أنهم أرادوا اجتذاب عبد الناصر إلى الغرب والجنوب ( انقلاب النميري في السودان والصديق للقاهرة سبق بـ 3 شهور) , لترييحه بالغواية وإبعاده – عبرها – عن الشرق , أي لك الماء وبعض النفط ودع لنا إسرائيل وعلاقتها بالشام والرافدين . تألف مجلس قيادة الثورة من 12 عضوا يتراوحون ما بين الملازم إلى الرائد في الرتبة , رددوا خطابا ناصريا مع لمسات إسلامية بارزة , وكانوا في المجمل خليطا من البراءة والرومانسية وقلة الخبرة , لكنهم ماشوا خط عبد الناصر بإخلاص لحد شراء الميراج الفرنسية له , وإيواء الكلية البحرية وبعض قطع الأسطول , واستقدام مئات الألوف من المصريين قوة عمالة . هم أيضا حاكوا نظام عبد الناصر لجهة تأسيس اتحاد اشتراكي كتنظيم سياسي لقاعدة الانقلاب الشعبية , وتعاونوا مع عناصر ناصرية مدنية , ونفروا من الحزبية والأحزاب لدرجة الاصطدام المبكر مع البعث وحركة القوميين العرب ( إعفاء محمود المغربي من رئاسة الحكومة واعتقال موسى أحمـد وزير الداخلية وآدم حواز وزير الدفاع قبل انتهاء 1969 ) .

نمت خلافات أعضاء المجلس بينهم منذ مطالع الانقلاب , لكنها كانت تحت الرماد في حياة عبد الناصر (السنة الأولى) , ثم سرعان ما تفشت وتفلتت بعد صدمتهم بوفاته . ولعل أول مظاهرها كان الخروج المتوالي لعمر المحيشي وبشير الهوادي ومحمد نجم وعوض حمزة ومختار القروي ثم عبد المنعم الهوني , بحيث لم يبق حول القذافي , منذ أواسط السبعينات , إلا أربعة من رفاق البداية . ترافق مع تشققات جدران النظام انخراطه في تقلصات حادة شملت نسيجه الفكري والتنظيمي . كانت إرهاصات ذلك في نيسان / أبريل 73 عندما أعلن العقيد القذافي الثورة الثقافية , وأمر بدوس القوانين والأدبيات السارية , وابتداع منظومة فكرية جديدة تمسك بأعنتها اللجان الشعبية . هذا في الداخل , أما في الجوار الإقليمي فلقد لعب النظام – العسكري الطابع – دورا في التوصل إلى معاهدة كونفدرالية / تعاقدية مع مصر وسوريا في نيسان / أبريل 1971 معبراّ بها عن شديد توقه لتحقيق حلم الوحدة العربية بأي شكل كان , ثم لعب دورا مؤثرا في إجهاض الانقلاب الشيوعي في السودان في تموز / يوليو 1971 عبر إجباره طائرة شركة الخطوط البريطانية على الهبوط واعتقال رئيس مجلس الانقلاب بابكر النور ووزير داخليته فاروق حمد الله ثم تسليمهما للإعدام بعد عودة النميري للسلطة , ثم لعب دورا في الإسناد التسليحي واللوجستي لمصر عشية تحضيرها لحرب أكتوبر, بل ووصل لحد التشاجر مع رئيسها السادات لإجباره على تطوير العلاقة إلى وحدة اندماجية وما كان من رفض الأخير لهذا الخيار .

تملكت النزعة الوحدوية رجال الانقلاب لدرجة العصاب , مما تبدى في محاولتهم إقناع الحبيب بورقيبة بوحدة مع تونس في مطلع 1974 – بعد خيبة أملهم بمصر السادات – , وتمنع الأخير بعد موافقة أولية عن المضي في هكذا مشروع .

والشاهد أن تقلصات الداخل وصلت مع مطلع 77 إلى درجة استيلاد منظومة فكرية – تنظيمة جديدة من رحم الثورة الشعبية / الثقافية لربيع 73 , وهي إعلان الجماهيرية العظمى والكتاب الأخضر في 2 آذار / مارس 77 . لابد أن طول فترة ابتعاد معمر القذافي عن تأثير مثله الأعلى جمال عبد الناصر سمح بنشوء أعراض وعوارض من تقديس الذات والشعور بالرسولية , ممزوجة بعدم ارتياح شديد لقلة مواطني بلده عددا , ولبعده النسبي عن قلب المنطقة العربية مما يحد من هذه الرسولية ومن القدرة على الإشعاع والتأثير . تجاوز القذافي هذه المشاعر المتضاربة بأن مضى قدما في مسار الابتكار / الابتداع والفرادة والتمايز , فنجده تارة ينبري لدور المصلح الديني والمجتهد كامل الشرائط ( ويخوض فيما لا يتجانس مع أعراف الحكم ) , وطورا يناقض دعوته للوحدة العربية بمساعدته للمتمردين الأكراد في شمال العراق , وبعونه لأثيوبيا في حربها ضد الصومال عام 77 , ثم اسناده في الثمانينات لحركة التمرد الجنوبي في السودان ضد السلطة المركزية , وقبلها رعايت البوليساريو على اجتزاء دويلـة من التراب المغربي .. حيث هنا نرى الشيء ونقيضه .

ذات الأمر عبّر عنه طرد الرعايا المصريين والتونسيين عام 85 , والفلسطينيين عامي 79 و 95 , بينما في المقابل عرضت الجنسية الليبية على كل العرب في السبعينات .

ثم وصل الأمر إلى أن تعدى الداخل والجوار العربي ليصل إلى الاندخال في صراع استنزافي دام في تشاد كلف ليبيا الكثير ولم تخرج منه إلا بالظفل والخسارة . في السبعينات غدا العقيد القذافي مهجوسا برسولية دوره وبأن الناس لم تعرف حق قدره , فمضى في استقتاله كي يبرهنه لهم برهانا .. وجدناه يندخل في التركيبة السياسية الفلسطينية عبر التبني شبه التام لتنظيم أبو نضال , ثم التراوح بين التصالح والتصادم مع التنظيمات الرئيسة الأخرى , ثم اعتماد تنظيم القيادة العامة وكيلا , ثم في تصفية موسى الصدر, واستجلاب كوادر مسلحة لبنانية وفلسطينية للقتال معه في تشاد... وبالعملة الصعبة . مع وصولنا لشطآن الثمانينات , كان هاجس الرسولية قد استبد بالعقيد القذافي لدرجة الإدمان – كما سبق التعريف بتجلياته – وبما سمح للولايات المتحدة المتضايقة من أدواره "المتمادية" من أن تعلل لنفسها الاشتباك معه بالسلاح , وبالأخص عبر غارتها الجوية الضخمة على مقره في نيسان / أبريل 1986 . في تلك الفترة لم تبق بقعة من العالم لم يمد إليها العقيد بصره . وإذا قصرنا النظر على الجوار فلنا رعايته لمحاولة انقلاب تموز / يوليو 1976 في السودان , ومحاولة الانقلاب في تونس/ 1980 , وتأييده لانقلاب الصخيرات / أوفقير في المغرب/ 1971 ، سواك عن أشكال وألوان من الأدوار شملت عمليات للعمل الخفي لا زالت آثار بعضها معنا لليوم. في أزمة الخليج كان أحد الساعين لحل عربي للدخول العراقي إلى الكويت , لكنه ما إن بدأت الحرب حتى أصبح مسلكه لغزا, اذ وجدناه يتظاهر في الشارع احتجاجا أبطل الفوارق بين مسؤولية الحاكم ودور المحكوم .

ثم نراه عبر التسعينات حين وقع تحت قبضة الحصار الجزئي – منذ نيسان /أبريل 1992 – كيف انكفأ وانكمش عربيا , وبدأ يرتاد بازدياد الفضاء الأفريقي معتقدا أن ما صنعه عند العرب لا بد ملاقيه عند الأفارقة ( طبعا أي تواصل عربي – أفريقي جهد ممدوح لما فيه بالضرورة من عزل وحصر للتغلغل الإسرائيلي فيها , لكن الغلو في الشعار , ومزاوجته بنزع عروبة ليبيا , فيه من الخطل ما يفوق محاسن هذا التواصل , فوق أنه ليس في وسع فرد مهما بلغ شأنه أن يغير هوية شعبه وانتماءه ) . من تجليات هذا التنائي عن العرب عزوف العقيد المطلق عن دعم وإسناد الانتفاضة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال , ( ثم ابتداعه لمبادرة "إسراطين" والتي دشنت عهد إعادة اكتشاف البارود), ثم أخيرا وجدنا العقيد وهو يوافق الولايات المتحدة ويبرر لها الرد على هجمات أيلول 2001 بأي شكل تراه "طالما هي تدافع عن نفسها بعد الاعتداء عليها" .

لقد بدأ العقيد في نيسان / أبريل 86 عملية الاكتشاف, ثم ترسخت وتعمقت في ذهنه عملية الهضم لقناعة ملكت ولا زالت عليه ألبابه, وهي أنه لا سبيل أمامه إلا طلب الصفح من الولايات المتحدة متبوعا بطلب المشايعة .. وهو استباقا لما يتوقعه من دور مسموح به حرف وجهته شطر الجنوب الأسود امتدادا وملاذا .

عودة إلى الداخل .. ما الذي حصل هذا الجيش الصغير الذي أفرز القذافي وصحبه ؟ في البداية جرى توسيعه و تدجيجه بـ 20 بليون دولار اسلحة سوفييتية عام 1975 , ثم جرت محاولات لاستكشاف سبل استحواذ السلاح فوق التقليدي , ثم مع إشهار الجماهيرية العظمى تمت عملية تقليصه وتدجينه ونزع أظافره وتحويله شيئا فشيئا إلى قوة محبوسة توازيها منعة ميليشيات اللجان الثورية / الشعبية .

كان لهذه السياسة أن لاقت – ولا تزال – نجاحا ملحوظا في الإمساك بناصية الجيش , خصوصا وأن أجهزة الأمن استشرت سرطانيا وتربعت فوق وعبر جسم المؤسسة العسكرية , مؤمّنة استمرارية مستدامة للنظام , ومتقاطعة مع استقطابات قبلية القسمات شكلت بؤرا ارتكازية حامية له . عرف مثلا أن خلاف القذافي وجلود } الرجل الثاني الى عام 93 { ًحمل قسمات قبلية , وأن بعض محاولات الانقلاب الفاشلة - مثل التي جرت في أكتوبر 93 -بتدبير جبهة الإنقاذ / د. محمد المقريف المرعية أمريكيا اصطبغت بلون قبلي .

ملاحظ هنا اتساق العقيد مع نفسه , منذ إعلان الجماهيرية , في تحوله إلى عدو لدود للإسلام السياسي , سواء كان جسمهم الأساسي الإخوان المسلمين أم إفرازاتهم العنفية / الجهادية المتعددة . ظني أن السبب هو قناعته أنهم وحدهم من لديهم القدرة – إن تُركوا بلا اعتراض – على تقويض نظامه , خصوصا وأن القوى الوطنية – القومية جرى تقويضها وإجهاضها عبر ممارسات نظام رفع لمدة لواءاتها ثم قاتلها بشعار "من تحزب خان" . تلك السياسة , مصحوبة بالملكية العامة لمعظم الممتلكات , وملحوقة بجهاز قمع شديد الوطأة , تسببت كلها في محق المجتمع السياسي والمدني عبر العقود الثلاث الأخيرة , وتسوية الأرض به لدرجة انعدام قدرته على التكافؤ – ولو بأبسط الدرجات – مع سلطة الدولة . هنا نعود لنتبين أوجه التشابه الشديد مع أنظمة الجوار العربي , والتي منها مثلا ظاهرة تهيئة الأنجال للخلافة . في الحالة الليبية نجد أن المسألة تتجاوز نجلا أو نجلين إلى أربعة بينهم فتاة .. هذه من طبائع الفرادة !

يجدر هنا التنويه إلى أن ليبيا بلد غني بالنفط , وفيه تواجد كثيف لشركات غربية – وبالأخص منها أوكسيدنتال الأمريكية – والتي في جلها لم تمس مصالحها الاستكشافية والتجارية مثقال ذرة , وهذا يدل على قدرة النظام على البراغماتية الذرائعية إذا احتاج لخوض مسالكها . إن نظام العقيد القذافي هو أحد تلك التي ولدت من رحم هزيمة حزيران 1967 , ثم توطدت وترسخت بعد غياب جمال عبد الناصر , واستطاعت أن تؤمن ديمومتها عبر استخدام آلة قمع رازحة , معطوفة على موارد فوائض فورة النفط , وتقاطعاتها مع قوى دولية وإقليمية.

.. ولعل ثلث قرن من عمره دلالة على منعة هذا النسيج من الأنظمة ومناعتها لتاريخه .