كتاب المغازي، ج2

كتاب المغازي، للواقدي، الجزء الثاني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب

كتاب المغازي للواقدي الجزء الثاني أقدم كتاب وصلنا في السيرة النبوية ، وخاصة في تاريخ الحياة النبوية في المدينة المنورة ، والغزوات التي وقعت يذكر الواقدي في " المغازي " السرايا والغزوات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسلها للجهاد ، وبدأ الكتاب بتاريخ الهجرة النبوية ، وتعداد الغزوات والسرايا ، ويتبع في أسلوبه المنهج العلمي بأن يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية ، ومطردة في جميع الكتاب ... .

بَابُ غَزْوَةِ بَنِى قُرَيْظَةَ سَارَ إلَيْهِمْ النّبِىّ ÷ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمّ انْصَرَفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. قَالُوا: لَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْخَنْدَقِ، وَخَافَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَقَالُوا: مُحَمّدٌ يَزْحَفُ إلَيْنَا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ حَتّى جَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلامُ -. وَكَانَتْ امْرَأَةُ نَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ قَدْ رَأَتْ وَالْمُسْلِمُونَ فِى حِصَارِ الْخَنْدَقِ، قَالَتْ أَرَى الْخَنْدَقَ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ، وَأَرَى النّاسَ تَحَوّلُوا إلَيْنَا وَنَحْنُ فِى حُصُونِنَا قَدْ ذُبِحْنَا ذَبْحَ الْغَنَمِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا، فَخَرَجَ زَوْجُهَا فَذَكَرَهَا لِلزّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، فَقَالَ الزّبَيْرُ: مَا لَهَا لا نَامَتْ عَيْنُهَا، تُوَلّى قُرَيْشٌ وَيَحْصُرُنَا مُحَمّدٌ وَالتّوْرَاةِ، وَلَمَا بَعْدَ الْحِصَارِ أَشَدّ مِنْهُ. قَالُوا: فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْخَنْدَقِ دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا فَغَسَلَ رَأْسَهُ وَاغْتَسَلَ وَدَعَا بِالْمِجْمَرَةِ لِيُجْمِرَ وَقَدْ صَلّى الظّهْرَ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ وَعَلَيْهَا قَطِيفَةٌ عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ فَوَقَفَ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ فَنَادَى: “عَذِيرَك مِنْ مُحَارِبٍ”، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَزِعًا، فَقَالَ: “أَلا أَرَاك وَضَعْت اللأْمَةَ وَلَمْ تَضَعْهَا الْمَلائِكَةُ بَعْدُ؟ لَقَدْ طَرَدْنَاهُمْ إلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ، إنّ اللّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَسِيرَ إلَى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَإِنّى عَامِدٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ حُصُونَهُمْ”. وَيُقَالُ: جَاءَهُ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ لِوَاءً وَكَانَ اللّوَاءُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُحَلّ مِنْ مَرْجِعِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِلالاً فَأَذّنَ فِى النّاسِ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَأْمُرُكُمْ أَلاّ تُصَلّوا الْعَصْرَ إلاّ بِبَنِى قُرَيْظَةَ، وَلَبِسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ السّلاحَ وَالْمِغْفَرَ وَالدّرْعَ وَالْبَيْضَةَ وَأَخَذَ قَنَاةً بِيَدِهِ وَتَقَلّدَ التّرْسَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَحَفّ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَلَبّسُوا السّلاحَ وَرَكِبُوا الْخَيْلَ وَكَانَتْ سِتّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - ÷ قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ وَرَكِبَ وَاحِدًا. يُقَالُ لَهُ: اللّحَيْفُ فَكَانَتْ ثَلاثَةُ أَفْرَاسٍ مَعَهُ. وَعَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَارِسٌ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِى مَرْثَدٍ. وَفِى بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَارِسٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَارِسٌ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. وَمِنْ بَنِى زُهْرَةَ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ. وَمِنْ بَنِى تَيْمٍ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ. وَمِنْ بَنِى عَدِىّ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. وَمِنْ بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَىّ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمِنْ بَنِى فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ. وَمِنْ الأَوْسِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو نَائِلَةَ وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ. وَمِنْ بَنِى ظَفَرٍ: قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وَمِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ وَمَعْنُ بْنُ عَدِىّ وَثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَمَةَ. وَمِنْ بَنِى سَلِمَةَ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ. وَمِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَىّ. وَفِى بَنِى زُرَيْقٍ رُقَادُ ابْنُ لَبِيدٍ وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو عَيّاشٍ وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ. وَمِنْ بَنِى سَاعِدَةَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ قَالَ: فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَصْحَابِهِ وَالْخَيْلُ وَالرّجّالَةُ حَوْلَهُ فَمَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِنَفَرٍ مِنْ بَنِى النّجّارِ بِالصّورَيْنِ فِيهِمْ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، قَدْ صَفّوا عَلَيْهِمْ السّلاحَ، فَقَالَ: “هَلْ مَرّ بِكُمْ أَحَدٌ”؟ قَالُوا: نَعَمْ دِحْيَةُ الْكَلْبِىّ مَرّ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ إسْتَبْرَقٍ فَأَمَرَنَا بِلُبْسِ السّلاحِ فَأَخَذْنَا سِلاحَنَا وَصَفَفْنَا، وَقَالَ لَنَا: هَذَا رَسُولُ اللّهِ يَطّلِعُ عَلَيْكُمْ الآنَ. قَالَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ: فَكُنّا صَفّيْنِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “ذَلِكَ جِبْرِيلُ” فَكَانَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ يَقُولُ: رَأَيْت جِبْرِيلَ مِنْ الدّهْرِ مَرّتَيْنِ - يَوْمَ الصّورَيْنِ وَيَوْمَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ حِينَ رَجَعْنَا مِنْ حُنَيْنٍ - وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَنِى قُرَيْظَةَ فَنَزَلَ عَلَى بِئْرٍ لَنَا أَسْفَلَ حَرّةِ بَنِى قُرَيْظَةَ، وَكَانَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ قَدْ سَبَقَ فِى نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ. فحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ، قَالَ: انْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ فَلَمّا رَأَوْنَا أَيْقَنُوا بِالشّرّ وَغَرَزَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ الرّايَةَ عِنْدَ أَصْلِ الْحِصْنِ فَاسْتَقْبَلُونَا فِى صَيَاصِيِهِمْ يَشْتُمُونَ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَأَزْوَاجَهُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَسَكَتْنَا وَقُلْنَا: السّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَطَلَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَمّا رَآهُ عَلِىّ، عَلَيْهِ السّلامُ، رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَمَرَنِى أَنْ أَلْزَمَ اللّوَاءَ فَلَزِمْته، وَكَرِهَ أَنْ يَسْمَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَذَاهُمْ وَشَتْمَهُمْ. فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ وَتَقَدّمَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللّهِ لا نَبْرَحُ حِصْنَكُمْ حَتّى تَمُوتُوا جُوعًا، إنّمَا أَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِى جُحْرٍ. قَالُوا: يَا ابْنَ الْحُضَيْرِ نَحْنُ مَوَالِيكُمْ دُونَ الْخَزْرَجِ وَخَارُوا، وَقَالَ: لا عَهْدَ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَلا إلّ. وَدَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهُمْ وَتَرّسْنَا عَنْهُ فَقَالَ: “يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَعَبَدَةَ الطّوَاغِيتِ أَتَشْتُمُونَنِى”؟ قَالَ: فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِالتّوْرَاةِ الّتِى أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى: مَا فَعَلْنَا، وَيَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْت جَهُولاً، ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الرّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَحَدّثَنِى فَرْوَةُ بْنُ زُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ لِى رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا سَعْدُ تَقَدّمَ فَارْمِهِمْ فَتَقَدّمْت حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلِى”، وَمَعِى نَيّفٌ عَلَى الْخَمْسِينَ فَرَمَيْنَاهُمْ سَاعَةً، وَكَأَنّ نَبْلَنَا مِثْلُ جَرَادٍ فَانْجَحَرُوا فَلَمْ يَطْلُعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَأَشْفَقْنَا عَلَى نَبْلِنَا أَنْ يَذْهَبَ فَجَعَلْنَا نَرْمِى بَعْضَهَا وَنُمْسِكُ الْبَعْضَ. فَكَانَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْمَازِنِىّ - وَكَانَ رَامِيًا - يَقُولُ: رَمَيْت يَوْمَئِذٍ بِمَا فِى كِنَانَتِى، حَتّى أَمْسَكْنَا عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ. قَالَ: وَقَدْ رَمَوْنَا وَرَسُولُ اللّهِ ÷ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ عَلَيْهِ السّلاحُ وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ حَوْلَهُ ثُمّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَانْصَرَفْنَا إلَى مَنْزِلِنَا وَعَسْكَرْنَا فَبِتْنَا، وَكَانَ طَعَامُنَا تَمْرًا بَعَثَ بِهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، أَحْمَالَ تَمْرٍ فَبِتْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا، وَلَقَدْ رُئِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ التّمْرِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “نِعْمَ الطّعَامُ التّمْرُ”، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ عِشَاءً فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَلّ حَتّى جَاءَ بَنِى قُرَيْظَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ صَلّى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَمَا عَابَ عَلَى أَحَدٍ صَلّى، وَلا عَلَى أَحَدٍ لَمْ يُصَلّ حَتّى بَلَغَ بَنِى قُرَيْظَةَ. ثُمّ غَدَوْنَا عَلَيْهِمْ بِسُحْرَةٍ، فَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الرّمَاةَ وَعَبّأَ أَصْحَابَهُ فَأَحَاطُوا بِحُصُونِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْتَقِبُونَ فَيُعْقِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُرَامِيهِمْ حَتّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ. فَحَدّثَنِى الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانُوا يُرَامُونَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ أَشَدّ الرّمْىِ وَكُنّا نَقُومُ حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلُنَا. فَحَدّثَنِى الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمّد بْنُ مَسْلَمَةَ: حَصَرْنَاهُمْ أَشَدّ الْحِصَارِ فَلَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ غَدَوْنَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَجَعَلْنَا نَدْنُو مِنْ الْحِصْنِ وَنَرْمِيهِمْ مِنْ كَثَبٍ وَلَزِمْنَا حُصُونَهُمْ فَلَمْ نُفَارِقْهَا حَتّى أَمْسَيْنَا، وَحَضّنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْجِهَادِ وَالصّبْرِ. ثُمّ بِتْنَا عَلَى حُصُونِهِمْ مَا رَجَعْنَا إلَى مُعَسْكَرِنَا حَتّى تَرَكُوا قِتَالَنَا وَأَمْسَكُوا عَنْهُ وَقَالُوا: نُكَلّمُك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”، فَأَنْزَلُوا نَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ ÷ سَاعَةً، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ نَنْزِلُ عَلَى مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النّضِيرِ، لَك الأَمْوَالُ وَالْحَلْقَةُ وَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلادِكُمْ بِالنّسَاءِ وَالذّرَارِىّ وَلَنَا مَا حَمَلَتْ الإِبِلُ إلاّ الْحَلْقَةَ، فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالُوا: فَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا وَتُسَلّمُ لَنَا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ وَلا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا حَمَلَتْ الإِبِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا، إلاّ أَنْ تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِى”. فَرَجَعَ نَبّاشٌ إلَى أَصْحَابِهِ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِى قُرَيْظَةَ، وَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ مُحَمّدًا نَبِىّ اللّهِ، وَمَا مَنَعَنَا مِنْ الدّخُولِ مَعَهُ إلاّ الْحَسَدُ لِلْعَرَبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّا مِنْ بَنِى إسْرَائِيلَ، فَهُوَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللّهُ، وَلَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ وَلَكِنّ الْبَلاءَ وَشُؤْمَ هَذَا الْجَالِسِ عَلَيْنَا وَعَلَى قَوْمِهِ وَقَوْمُهُ كَانُوا أَسْوَأَ مِنّا. لا يَسْتَبْقِى مُحَمّدٌ رَجُلاً وَاحِدًا إلاّ مَنْ تَبِعَهُ، أَتَذْكُرُونَ مَا قَالَ لَكُمْ ابْنُ خِرَاشٍ حِين قَدِمَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: تَرَكْت الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ وَالتّأْمِيرَ وَجِئْت إلَى السّقَاءِ وَالتّمْرِ وَالشّعِيرِ؟ قَالُوا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: يَخْرُج مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ نَبِىّ، فَإِنْ خَرَجَ وَأَنَا حَىّ اتّبَعْته وَنَصَرْته، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدِى فَإِيّاكُمْ أَنْ تُخْدَعُوا عَنْهُ فَاتّبِعُوهُ وَكُونُوا أَنْصَارَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَقَدْ آمَنْتُمْ بِالْكِتَابَيْنِ كِلَيْهِمَا الأَوّلِ وَالآخِرِ، قَالَ كَعْبٌ: فَتَعَالَوْا فَلْنُتَابِعْهُ وَلْنُصَدّقْهُ وَلْنُؤْمِنْ بِهِ فَنَأْمَنُ عَلَى دِمَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَنَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ، قَالُوا: لا نَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالنّبُوّةِ وَنَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا؟ فَجَعَلَ كَعْبٌ يَرُدّ عَلَيْهِمْ الْكَلامَ بِالنّصِيحَةِ لَهُمْ قَالُوا: لا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَلا نَدَعُ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ مُوسَى. قَالَ: فَهَلُمّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمّ نَخْرُجُ فِى أَيْدِينَا السّيُوفُ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنْ قَتَلَنَا قُتِلْنَا وَمَا وَرَاءَنَا أَمْرٌ نَهْتَمّ بِهِ وَإِنْ ظَفِرْنَا فَلَعَمْرِى لَنَتَخِذَنّ النّسَاءَ وَالأَبْنَاءَ، فَتَضَاحَكَ حُيَىّ بْنُ أَخْطَبَ، ثُمّ قَالَ: مَا ذَنْبُ هَؤُلاءِ الْمَسَاكِينِ؟ وَقَالَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ، الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا وَذَوُوهُ: مَا فِى الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَ هَؤُلاءِ، قَالَ: فَوَاحِدَةٌ قَدْ بَقِيَتْ مِنْ الرّأْىِ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا فَأَنْتُمْ بَنُو إِسْتِهَا، قَالُوا: مَا هِىَ؟ قَالَ: اللّيْلَةُ السّبْتُ وَبِالْحَرِىّ أَنْ يَكُونَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ آمِنِينَ لَنَا فِيهَا أَنْ نُقَاتِلَهُ، فَنَخْرُجُ فَلَعَلّنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْهُ غِرّةً، قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْت مَا أَصَابَنَا فِيهِ؟ قَالَ حُيَىّ: قَدْ دَعَوْتُك إلَى هَذَا وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ حُضُورٌ، فَأَبَيْت أَنْ نَكْسِرَ السّبْتَ فَإِنْ أَطَاعَتْنِى الْيَهُودُ فَعَلُوا، فَصَاحَتْ الْيَهُودُ: لا نَكْسِرُ السّبْتَ. قَالَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ: وَكَيْفَ نُصِيبُ مِنْهُمْ غِرّةً وَأَنْتَ تَرَى أَنّ أَمْرَهُمْ كُلّ يَوْمٍ يَشْتَدّ. كَانُوا أَوّلَ مَا يُحَاصِرُونَنَا إنّمَا يُقَاتِلُونَ بِالنّهَارِ وَيَرْجِعُونَ اللّيْلَ فَكَانَ هَذَا لَك قَوْلاً: لَوْ بَيّتْنَاهُمْ، فَهُمْ الآنَ يُبَيّتُونَ اللّيْلَ، وَيَظَلّونَ النّهَارَ فَأَىّ غِرّةً نُصِيبُ مِنْهُمْ؟ هِىَ مَلْحَمَةٌ وَبَلاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا، فَاخْتَلَفُوا وَسُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَرَقّوا عَلَى النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَذَلِكَ أَنّ النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ لَمّا رَأَوْا ضَعْفَ أَنْفُسِهِمْ هَلَكُوا، فَبَكَى النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ فَرَقّوا عَلَيْهِمْ. فَحَدّثَنِى صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِى مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ ثَعْلَبَةُ وأُسَيْدُ ابْنَا سَعِيّةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَمّهُمْ: يَا مَعْشَرَ بَنِى قُرَيْظَةَ، وَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، حَدّثَنَا بِهَا عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ بَنِى النّضِيرِ، هَذَا أَوّلُهُمْ - يَعْنِى حُيَىّ بْنَ أَخْطَبَ - مَعَ جُبَيْرِ بْنِ الْهَيّبَانِ أَصْدَقُ النّاسِ عِنْدَنَا، هُوَ خَبّرَنَا بِصِفَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. قَالُوا: لا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ فَلَمّا رَأَى هَؤُلاءِ النّفَرُ إبَاءَهُمْ نَزَلُوا فِى اللّيْلَةِ الّتِى فِى صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ، فَأَسْلَمُوا فَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. فَحَدّثَنِى الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى: وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إنّكُمْ قَدْ حَالَفْتُمْ مُحَمّدًا عَلَى مَا حَالَفْتُمُوهُ عَلَيْهِ أَلاّ تَنْصُرُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ تَنْصُرُوهُ مِمّنْ دَهَمَهُ فَنَقَضْتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ الّذِى كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فَلَمْ أَدْخُلْ فِيهِ، وَلَمْ أَشْرَكّمْ فِى غَدْرِكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا مَعَهُ فَاثْبُتُوا عَلَى الْيَهُودِيّةِ وَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِى يَقْبَلُهَا أَمْ لا. قَالُوا: نَحْنُ لا نُقِرّ لِلْعَرَبِ بِخَرْجٍ فِى رِقَابِنَا يَأْخُذُونَنَا بِهِ الْقَتْلُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَإِنّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ. وَخَرَجَ فِى تِلْكَ اللّيْلَةِ مَعَ بَنِى سَعِيّةَ فَمَرّ بِحَرَسِ النّبِىّ ÷ وَعَلَيْهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى: فَقَالَ مُحَمّدٌ: مُرّ، اللّهُمّ لا تَحْرِمْنِى إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، فَخَلّى سَبِيلَهُ وَخَرَجَ حَتّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَبَاتَ بِهِ حَتّى أَصْبَحَ فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ حَتّى السّاعَةِ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْهُ فَقَالَ: “ذَلِكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفَائِهِ”. وَيُقَالُ: إنّهُ لَمْ يَطْلُعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَادِرْ لِلْقِتَالِ فِى رِوَايَتِنَا. حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرّ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى الْحَرَسِ فَنَادَاهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى، قَالَ مُحَمّدٌ: قَدْ عَرَفْنَاك. ثُمّ قَالَ مُحَمّدٌ: اللّهُمّ لا تَحْرِمْنِى إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. حَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِىّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَنِى قُرَيْظَةَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ فَبَارَزَهُ. فَقَالَتْ صَفِيّةُ وَاجَدّى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيّهُمَا عَلا صَاحِبَهُ قَتَلَهُ”. فَعَلاهُ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَلَبَهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِى قِتَالِهِمْ وَأَرَاهُ وَهَلْ - هَذَا فِى خَيْبَرَ. حَدّثَنِى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ أَوّلَ شَىْءٍ عَتَبَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى أَبِى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَنّهُ خَاصَمَ يَتِيمًا لَهُ فِى عَذْقٍ، فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْعِذْقِ لأَبِى لُبَابَةَ فَصَيّحَ الْيَتِيمُ، وَاشْتَكَى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَبِى لُبَابَةَ: “هَبْ لِى الْعَذْقَ يَا أَبَا لُبَابَةَ” - لِكَىْ يَرُدّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْيَتِيمِ، فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يَهَبَهُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “يَا أَبَا لُبَابَةَ أَعْطِهِ الْيَتِيمَ وَلَك مِثْلُهُ فِى الْجَنّةِ”. فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ. قَالَ الزّهْرِىّ: فَحَدّثَنِى رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ، قَالَ: لَمّا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ، قَالَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ ابْتَعْت هَذَا الْعَذْقَ فَأَعْطَيْته هَذَا الْيَتِيمَ أَلِى مِثْلُهُ فِى الْجَنّةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”. فَانْطَلَقَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ حَتّى لَقِىَ أَبَا لُبَابَةَ، فَقَالَ: أَبْتَاعُ مِنْك عَذْقَك بِحَدِيقَتِى - وَكَانَتْ لَهُ حَدِيقَةُ نَخْلٍ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: نَعَمْ، فَابْتَاعَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ الْعَذْقَ بِحَدِيقَةٍ مِنْ نَخْلٍ، فَأَعْطَاهُ الْيَتِيمَ. فَلَمْ يَلْبَثْ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ أَنْ جَاءَ كُفّارُ قُرَيْشٍ إلَى أُحُدٍ، فَخَرَجَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ فَقُتِلَ شَهِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “رُبّ عَذْقٍ مُذَلّلٍ لابْن الدّحْدَاحَةِ فِى الْجَنّةِ”. قَالُوا: فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ أَرْسَلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ أَرْسِلْ إلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَحَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ السّائِبِ بْنِ أَبِى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُرْسِلَنِى إلَيْهِمْ دَعَانِى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “اذْهَبْ إلَى حُلَفَائِك، فَإِنّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْك مِنْ بَيْنِ الأَوْسِ”. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَيْهِمْ وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ فَبَهَشُوا إلَىّ، وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ نَحْنُ مَوَالِيك دُونَ النّاسِ كُلّهِمْ، فَقَامَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، فَقَالَ: أَبَا بَشِيرٍ قَدْ عَلِمْت مَا صَنَعْنَا فِى أَمْرِك وَأَمْرِ قَوْمِك يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَبُعَاثٍ، وَكُلّ حَرْبٍ كُنْتُمْ فِيهَا، وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْنَا الْحِصَارُ وَهَلَكْنَا، وَمُحَمّدٌ يَأْبَى يُفَارِقُ حِصْنَنَا حَتّى نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ، فَلَوْ زَالَ عَنّا لَحِقْنَا بِأَرْضِ الشّامِ أَوْ خَيْبَرَ، وَلَمْ نَطَأْ لَهُ حُرّا أَبَدًا، وَلَمْ نُكْثِرْ عَلَيْهِ جَمْعًا أَبَدًا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: أَمّا مَا كَانَ هَذَا مَعَكُمْ فَلا يَدَعُ هَلاكَكُمْ - وَأَشَرْت إلَى حُيَىّ بْنِ أَخْطَبَ، قَالَ كَعْبٌ: هُوَ وَاَللّهِ أَوْرَدَنِى ثُمّ لَمْ يُصْدِرْنِى، فَقَالَ حُيَىّ: فَمَا أَصْنَعُ؟ كُنْت أَطْمَعُ فِى أَمْرِهِ فَلَمّا أَخْطَأَنِى آسَيْتُك بِنَفْسِى، يُصِيبُنِى مَا أَصَابَك. قَالَ كَعْبٌ: وَمَا حَاجَتِى إلَى أَنْ أُقْتَلَ أَنَا وَأَنْتَ وَتُسْبَى ذَرَارِيّنَا؟ قَالَ حُيَىّ: مَلْحَمَةٌ وَبَلاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: مَا تَرَى، فَإِنّا قَدْ اخْتَرْنَاك عَلَى غَيْرِك؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلاّ أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ أَفَنَنْزِلُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَانْزِلُوا - وَأَوْمَأَ إلَى حَلْقِهِ هُوَ الذّبْحُ، قَالَ: فَنَدِمْت فَاسْتَرْجَعْت، فَقَالَ لِى كَعْبٌ: مَا لَك يَا أَبَا لُبَابَةَ؟ فَقُلْت: خُنْت اللّهَ وَرَسُولَهُ، فَنَزَلْت وَإِنّ لِحْيَتِى لَمُبْتَلّةٌ مِنْ الدّمُوعِ، وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ رُجُوعِى إلَيْهِمْ، حَتّى أَخَذْت مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ طَرِيقًا آخَرَ حَتّى جِئْت إلَى الْمَسْجِدِ فَارْتَبَطْت، فَكَانَ ارْتِبَاطِى إلَى الأُسْطُوَانَةِ الْمُخَلّقَةِ الّتِى تُقَالُ أُسْطُوَانَةُ التّوْبَةِ - وَيُقَالُ: لَيْسَ تِلْكَ إنّمَا ارْتَبَطَ إلَى أُسْطُوَانَةٍ كَانَتْ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷ وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ -. وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ - ÷ ذَهَابِى وَمَا صَنَعْت، فَقَالَ: “دَعُوهُ حَتّى يُحْدِثَ اللّهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، لَوْ كَانَ جَاءَنِى اسْتَغْفَرْت لَهُ، فَأَمّا إذْ لَمْ يَأْتِنِى وَذَهَبَ فَدَعُوهُ”، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَكُنْت فِى أَمْرٍ عَظِيمٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَذْكُرُ رُؤْيَا رَأَيْتهَا. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ خَالِدٍ: قَالَ قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: رَأَيْت فِى النّوْمِ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو بَنِى قُرَيْظَةَ كَأَنّى فِى حَمْأَةٍ آسِنَةٍ، فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْهَا حَتّى كِدْت أَمُوتَ مِنْ رِيحِهَا، ثُمّ أَرَى نَهَرًا جَارِيًا، فَأَرَانِى اغْتَسَلْت مِنْهُ حَتّى اسْتَنْقَيْتُ وَأَرَانِى أَجِدُ رِيحًا طَيّبَةً، فَاسْتَعْبَرَهَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: لَتَدْخُلَنّ فِى أَمْرٍ تَغْتَمّ لَهُ ثُمّ يُفَرّجُ عَنْك، فَكُنْت أَذْكُرُ قَوْلَ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَأَنَا مُرْتَبِطٌ فَأَرْجُو أَنْ تَنْزِلَ تَوْبَتِى. فَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ اسْتَعْمَلَ أَبَا لُبَابَةَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَلَمّا أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَارْتَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ سَبْعًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الّتِى عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ فِى حَرّ شَدِيدٍ لا يَأْكُلُ فِيهِنّ وَلا يَشْرَبُ، وَقَالَ: لا أَزَالُ هَكَذَا حَتّى أُفَارِقَ الدّنْيَا أَوْ يَتُوبَ اللّهُ عَلَىّ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى مَا يَسْمَعُ الصّوْتَ مِنْ الْجَهْدِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَنْظُرُ إلَيْهِ بُكْرَةً وَعَشِيّةً، ثُمّ تَابَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَنُودِىَ: إنّ اللّهَ قَدْ تَابَ عَلَيْك، وَأَرْسَلَ النّبِىّ ÷ إلَيْهِ لِيُطْلِقَ عَنْهُ رِبَاطَهُ فَأَبَى أَنْ يُطْلِقَهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِنَفْسِهِ فَأَطْلَقَهُ. قَالَ الزّهْرِىّ: فَحَدّثَتْنِى هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷، قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَحِلّ عَنْهُ رِبَاطَهُ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ لَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُكَلّمُهُ وَيُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ، وَمَا يَدْرِى كَثِيرًا مِمّا يَقُولُ مِنْ الْجَهْدِ وَالضّعْفِ. وَيُقَالُ: مَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْبُوطًا، وَكَانَتْ ابْنَتُهُ تَأْتِيهِ بِتَمَرَاتٍ لِفِطْرِهِ فَيَلُوكُ مِنْهُنّ وَيَتْرُكُ، وَيَقُولُ: وَاَللّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَسِيغَهَا فَرَقًا أَلاّ تَنْزِلَ تَوْبَتِى، وَتُطْلِقُهُ عِنْدَ وَقْتِ كُلّ صَلاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضّأَ، وَإِلاّ أَعَادَتْ الرّبَاطَ، وَلَقَدْ كَانَ الرّبَاطُ حَزّ فِى ذِرَاعَيْهِ وَكَانَ مِنْ شَعَرٍ وَكَانَ يُدَاوِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ يَبِينُ فِى ذِرَاعَيْهِ بَعْدَ مَا بَرِئَ، وَقَدْ سَمِعْنَا فِى تَوْبَتِهِ وَجْهًا آخَرَ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷ قَالَتْ: إنّ تَوْبَةَ أَبِى لُبَابَةَ نَزَلَتْ فِى بَيْتِى، قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَضْحَكُ فِى السّحَرِ، فَقُلْت: مِمّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَضْحَكَ اللّهُ سِنّك؟ قَالَ: “تِيبَ عَلَى أَبِى لُبَابَةَ”. قَالَتْ: قُلْت: أُوذِنُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “مَا شِئْت”. قَالَتْ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: يَا أَبَا لُبَابَةَ أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَيْك فَثَارَ النّاسُ إلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ. فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لا، حَتّى يَأْتِىَ رَسُولُ اللّهِ، فَيَكُونَ هُوَ الّذِى يُطْلِقُ عَنّى، فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الصّبْحِ أَطْلَقَهُ, وَنَزَلَتْ فِى أَبِى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: ×وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ% الآيَةَ. وَيُقَال: نَزَلَتْ ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرّسُولَ%. وَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: نَزَلَتْ فِيهِ ×يَا أَيّهَا الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ% الآيَةَ. وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا%. وَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: أَنَا أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِى الّتِى أَصَبْت فِيهَا هَذَا الذّنْبَ، فَأُخْرِجُ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “يُجْزِئُ عَنْك الثّلُثُ”. فَأَخْرَجَ الثّلُثَ وَهَجَرَ أَبُو لُبَابَةَ دَارَ قَوْمِهِ، ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبِنْ فِى الإِسْلامِ مِنْهُ إلاّ خَيْرٌ حَتّى فَارَقَ الدّنْيَا، قَالُوا: وَلَمّا جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ بِأَسْرَاهُمْ فَكُتّفُوا رِبَاطًا، وَجُعِلَ عَلَى كِتَافِهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَنُحّوا نَاحِيَةً وَأَخْرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ مِنْ الْحُصُونِ فَكَانُوا نَاحِيَةً. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَلامٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِجَمْعِ أَمْتِعَتِهِمْ وَمَا وُجِدَ فِى حُصُونِهِمْ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالأَثَاثِ وَالثّيَابِ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: وُجِدَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ سَيْفٍ وَثَلاثُمِائَةِ دِرْعٍ وَأَلْفَا رُمْحٍ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ تُرْسٍ وَحَجَفَةٍ، وَأَخْرَجُوا أَثَاثًا كَثِيرًا، وَآنِيَةً كَثِيرَةً وَوَجَدُوا خَمْرًا وَجِرَارَ سَكَرٍ فَهُرِيقَ ذَلِكَ كُلّهُ وَلَمْ يُخَمّسْ، وَوَجَدُوا مِنْ الْجِمَالِ النّوَاضِحِ عِدّةً وَمِنْ الْمَاشِيَةِ فَجُمِعَ هَذَا كُلّهُ. حَدّثَنِى عُمَرُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ كَسَرَ جِرَارَ السّكَرِ يَوْمَئِذٍ. حَدّثَنِى خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: وَتَنَحّى رَسُولُ اللّهِ ÷، فَجَلَسَ وَدَنَتْ الأَوْسُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ حُلَفَاؤُنَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ رَأَيْت مَا صَنَعْت بِبَنِى قَيْنُقَاعَ بِالأَمْسِ حُلَفَاءِ ابْنِ أُبَىّ، وَهَبْت لَهُ ثَلاثَمِائَةِ حَاسِرٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دَارِعٍ، وَقَدْ نَدِمَ حُلَفَاؤُنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ الْعَهْدَ فَهَبْهُمْ لَنَا، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ سَاكِتٌ لا يَتَكَلّمُ حَتّى أَكْثَرُوا عَلَيْهِ وَأَلَحّوا وَنَطَقَتْ الأَوْسُ كُلّهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمْ إلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ”؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: “فَذَلِكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ”، وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ فِى الْمَسْجِدِ فِى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ تُدَاوِى الْجَرْحَى، وَتَلُمّ الشّعَثَ وَتَقُومُ عَلَى الضّائِعِ وَاَلّذِى لا أَحَدَ لَهُ، وَكَانَ لَهَا خَيْمَةٌ فِى الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ جَعَلَ سَعْدًا فِيهَا. فَلَمّا جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحُكْمَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَرَجَتْ الأَوْسُ، حَتّى جَاءُوهُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ بِشَنَذَةٍ مِنْ لِيفٍ وَعَلَى الْحِمَارِ قَطِيفَةٌ فَوْقَ الشّنَذَةِ وَخِطَامُهُ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ. فَخَرَجُوا حَوْلَهُ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ وَلاّك أَمْرَ مَوَالِيك لِتُحْسِنَ فِيهِمْ، فَأَحْسِنْ، فَقَدْ رَأَيْت ابْنَ أُبَىّ وَمَا صَنَعَ فِى حُلَفَائِهِ، وَالضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَوَالِيَك، مَوَالِيَك قَدْ مَنَعُوك فِى الْمَوَاطِنِ كُلّهَا، وَاخْتَارُوك عَلَى مَنْ سِوَاك وَرَجَوْا عِيَاذَك، وَلَهُمْ جِمَالٌ وَعِدَدٌ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وَقْشٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِى مَوَالِيك وَحُلَفَائِك؛ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُحِبّ الْبَقِيّةَ نَصَرُوك يَوْمَ الْبُعَاثِ وَالْحَدَائِقِ وَالْمَوَاطِنِ، وَلا تَكُنْ شَرّا مِنْ ابْنِ أُبَىّ. قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَجَعَلَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، وَإِنّا وَاَللّهِ قَاتَلْنَا بِهِمْ فَقَتَلْنَا، وَعَازَزْنَا بِهِمْ فَعَزَزْنَا قَالُوا: وَسَعْدٌ لا يَتَكَلّمُ حَتّى إذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلاّ تَأْخُذَهُ فِى اللّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ. فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ: وَاقَوْمَاه ثُمّ رَجَعَ الضّحّاكُ إلَى الأَوْسِ فَنَعَى لَهُمْ بَنِى قُرَيْظَةَ، وَقَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: وَاسُوءَ صَبَاحَاهُ، وَقَالَ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ الظّفَرِىّ: ذَهَبَ قَوْمِى آخِرَ الدّهْرِ. وَأَقْبَلَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَالنّاسُ حَوْلَ رَسُولِ اللّهِ ÷ جُلُوسٌ، فَلَمّا طَلَعَ سَعْدٌ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ”، فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ يَقُولُونَ فَقُمْنَا لَهُ عَلَى أَرْجُلِنَا صَفّيْنِ، يُحَيّيهِ كُلّ رَجُلٍ مِنّا، حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّمَا عَنَى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَوْلِهِ: “قُومُوا إلَى سَيّدِكُم” يَعْنِى بِهِ الأَنْصَارَ دُونَ قُرَيْشٍ، قَالَتْ الأَوْسُ الّذِينَ بَقُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ وَلاّك الْحُكْمَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ وَاذْكُرْ بَلاءَهُمْ عِنْدَك. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَتَرْضَوْنَ بِحُكْمِى لِبَنِى قُرَيْظَةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ رَضِينَا بِحُكْمِك وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنّا، اخْتِيَارًا مِنّا لَك وَرَجَاءَ أَنْ تَمُنّ عَلَيْنَا كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُك فِى حُلَفَائِهِ مِنْ قَيْنُقَاعَ وَأَثَرُنَا عِنْدَك أَثَرُنَا، وَأَحْوَجُ مَا كُنّا الْيَوْمَ إلَى مُجَازَاتِك، فَقَالَ سَعْدٌ: لا آلُوكُمْ جَهْدًا، فَقَالُوا: مَا يَعْنِى بِقَوْلِهِ هَذَا؟ ثُمّ قَالَ: عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنّ الْحُكْمَ فِيكُمْ مَا حَكَمْت؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ سَعْدٌ: لِلنّاحِيَةِ الأُخْرَى الّتِى فِيهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهَا إجْلالاً لِرَسُولِ اللّهِ ÷، وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا مِثْلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَمَنْ مَعَهُ نَعَمْ”. قَالَ سَعْدٌ: فَإِنّى أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَتُسْبَى النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ وَتُقْسَمُ الأَمْوَالُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ”. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِى اللّيْلَةِ الّتِى فِى صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ دَعَا، فَقَالَ: “اللّهُمّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِى لَهَا، فَإِنّهُ لا قَوْمَ أَحَبّ إلَىّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَ اللّهِ، وَآذَوْهُ، وَأَخْرَجُوهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ وَضَعَتْ أَوْزَارَهَا عَنّا وَعَنْهُمْ، فَاجْعَلْهُ لِى شَهَادَةً وَلا تُمِتْنِى حَتّى تُقِرّ عَيْنِى مِنْ بَنِى قُرَيْظَةَ فَأَقَرّ اللّهُ عَيْنَهُ مِنْهُمْ”. فَأَمَرَ بِالسّبْىِ فَسِيقُوا إلَى دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ إلَى دَارِ ابْنَةِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِأَحْمَالِ التّمْرِ فَنُثِرَتْ عَلَيْهِمْ فَبَاتُوا يَكْدُمُونَهَا كَدْمَ الْحُمُرِ وَجَعَلُوا لَيْلَتَهُمْ يَدْرُسُونَ التّوْرَاةَ، وَأَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالثّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَلُزُومِ التّوْرَاةِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالسّلاحِ وَالأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ وَالثّيَابِ فَحُمِلَ إلَى دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ بِالإِبِلِ وَالْغَنَمِ فَتُرِكَتْ هُنَاكَ تَرْعَى فِى الشّجَرِ، قَالُوا: ثُمّ غَدَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى السّوقِ فَأَمَرَ بِخُدُودٍ فَخُدّتْ فِى السّوقِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ دَارِ أَبِى جَهْمٍ الْعَدَوِىّ إلَى أَحْجَارِ الزّيْتِ بِالسّوقِ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَحْفِرُونَ هُنَاكَ وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَمَعَهُ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ وَدَعَا بِرِجَالِ بَنِى قُرَيْظَةَ فَكَانُوا يَخْرُجُونَ رَسْلاً رَسْلاً، تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ. فَقَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ: مَا تَرَى مُحَمّدًا مَا يَصْنَعُ بِنَا؟ قَالَ: مَا يَسُوءُكُمْ وَمَا يَنُوءُكُمْ وَيْلَكُمْ عَلَى كُلّ حَالٍ لا تَعْقِلُونَ أَلا تَرَوْنَ أَنّ الدّاعِىَ لا يَنْزِعُ وَأَنّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُ؟ هُوَ وَاَللّهِ السّيْفُ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى غَيْرِ هَذَا فَأَبَيْتُمْ، قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ لَوْلا أَنّا كَرِهْنَا أَنْ نُزْرِىَ بِرَأْيِك مَا دَخَلْنَا فِى نَقْضِ الْعَهْدِ الّذِى كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. قَالَ حُيَىّ: اُتْرُكُوا مَا تَرَوْنَ مِنْ التّلاوُمِ فَإِنّهُ لا يَرُدّ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَاصْبِرُوا لِلسّيْفِ. فَلَمْ يَزَالُوا يُقْتَلُونَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَكَانَ الّذِينَ يَلُونَ قَتْلَهُمْ عَلِىّ وَالزّبَيْرُ، ثُمّ أُتِىَ بِحُيَىّ بْنِ أَخْطَبَ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ عَلَيْهِ حُلّةٌ شَقْحِيّةٌ قَدْ لَبِسَهَا لِلْقَتْلِ ثُمّ عَمَدَ إلَيْهَا فَشَقّهَا أُنْمُلَةً لِئَلاّ يَسْلُبَهُ إيّاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ طَلَعَ: “أَلَمْ يُمَكّنْ اللّهُ مِنْك يَا عَدُوّ اللّهِ”؟ قَالَ: بَلَى وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِى فِى عَدَاوَتِك، وَلَقَدْ الْتَمَسْت الْعِزّ فِى مَكَانِهِ وَأَبَى اللّهُ إلاّ أَنْ يُمَكّنَك مِنّى، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ مُقَلْقَلٍ وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهُ يُخْذَلْ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ لا بَأْسَ بِأَمْرِ اللّهِ قَدْرٌ وَكِتَابٌ مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِى إسْرَائِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، ثُمّ أُتِىَ بِغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ، فَقَالَ: “أَلَمْ يُمَكّنْ اللّهُ مِنْك”؟ قَالَ: بَلَى يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَمَرَ بِهِ النّبِىّ ÷ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ثُمّ أُتِىَ بِنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ جَابَذَ الّذِى جَاءَ بِهِ حَتّى قَاتَلَهُ فَدَقّ الّذِى جَاءَ بِهِ أَنْفَهُ فَأَرْعَفَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلّذِى جَاءَ بِهِ: “لِمَ صَنَعْت بِهِ هَذَا؟ أَمَا كَانَ فِى السّيْفِ كِفَايَةٌ”؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ جَابَذَنِى لأَنْ يَهْرُبَ، فَقَالَ: كَذَبَ وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْ خَلاّنِى مَا تَأَخّرْت عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ قَوْمِى حَتّى أَكُونَ كَأَحَدِهِمْ، قَالَ: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَحْسِنُوا إسَارَهُمْ وَقَيّلُوهُمْ وَأَسْقُوهُمْ حَتّى يُبْرِدُوا فَتَقْتُلُوا مَنْ بَقِىَ لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرّ الشّمْسِ وَحَرّ السّلاحِ - وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا - فَقَيّلُوهُمْ وَأَسْقَوْهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ”، فَلَمّا أَبْرَدُوا رَاحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقْتُلُ مَنْ بَقِىَ. وَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ إحْدَى خَالاتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ صَلّتْ الْقِبْلَتَيْنِ وَبَايَعَتْهُ، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ لَهُ انْقِطَاعٌ إلَيْهَا وَإِلَى أَخِيهَا سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَهْلِ الدّارِ وَكَانَ حِينَ حُبِسَ أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنْ كَلّمِى مُحَمّدًا فِى تَرْكِى، فَإِنّ لِى بِكُمْ حُرْمَةً وَأَنْتِ إحْدَى أُمّهَاتِهِ فَتَكُونَ لَكُمْ عِنْدِى يَدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا لَك يَا أُمّ الْمُنْذِرِ”؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ كَانَ يَغْشَانَا وَلَهُ بِنَا حُرْمَةٌ فَهَبْهُ لِى، وَقَدْ رَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَلُوذُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ هُوَ لَك”، ثُمّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ سَيُصَلّى وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ، فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷، ثُمّ قَالَ: “إنْ يُصَلّ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ يَثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَهُوَ شَرّ لَهُ”. قَالَتْ: فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مَوْلَى أُمّ الْمُنْذِرِ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاجْتَنَبَ الدّارَ حَتّى بَلَغَ أُمّ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إنّى وَاَللّهِ مَا أَنَا لَك بِمَوْلاةٍ وَلَكِنّى كَلّمْت رَسُولَ اللّهِ فَوَهَبَك لِى، فَحَقَنْت دَمَك وَأَنْتَ عَلَى نَسَبِك، فَكَانَ بَعْدُ يَغْشَاهَا، وَعَادَ إلَى الدّارِ. وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالا: يَا رَسُولِ اللّهِ إنّ الأَوْسَ كَرِهَتْ قَتْلَ بَنِى قُرَيْظَةَ لِمَكَانِ حِلْفِهِمْ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كَرِهَهُ مِنْ الأَوْسِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ فَمَنْ كَرِهَهُ مِنْ الأَوْسِ لا أَرْضَاهُ اللّهُ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لا تُبْقِيَنّ دَارًا مِنْ دُورِ الأَوْسِ إلاّ فَرّقْتهمْ فِيهَا، فَمَنْ سَخِطَ ذَلِكَ فَلا يُرْغِمُ اللّهُ إلاّ أَنْفَهُ فَابْعَثْ إلَى دَارِى أَوّلَ دُورِهِمْ. فَبَعَثَ إلَى بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ بِاثْنَيْنِ فَضَرَبَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَضَرَبَ أَبُو نَائِلَةَ الآخَرَ، وَبَعَثَ إلَى بَنِى حَارِثَةَ بِاثْنَيْنِ فَضَرَبَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ النّيَارِ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَذَفّفَ عَلَيْهِ مُحَيّصَةُ، وَضَرَبَ الآخَرُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ ذَفّفَ عَلَيْهِ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ. وَبَعَثَ إلَى بَنِى ظَفَرٍ بِأَسِيرَيْنِ. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: قَتَلَ أَحَدَهُمَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَقَتَلَ الآخَرَ نَضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ عَاصِمٌ: وَحَدّثَنِى أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُعَاوِىّ، قَالَ: أَرْسَلَ إلَيْنَا - بَنِى مُعَاوِيَةَ - بِأَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ، وَقَتَلَ الآخَرَ نُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ؛ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِىّ. قَالَ: وَأَرْسَلَ إلَى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِأَسِيرَيْنِ عُقْبَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَخِيهِ وَهْبِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالآخَرَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَأَرْسَلَ إلَى بَنِى أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأُتِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ”؟ قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: “وَمَا انْتَفَعْتُمْ بِنُصْحِ ابْنِ خِرَاشٍ وَكَانَ مُصَدّقًا بِى، أَمَا أَمَرَكُمْ بِاتّبَاعِى، وَإِنْ رَأَيْتُمُونِى تُقْرِئُونِى مِنْهُ السّلامَ”؟ قَالَ: بَلَى وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْلا أَنْ تُعَيّرَنِى الْيَهُودُ بِالْجَزَعِ مِنْ السّيْفِ لاتّبَعْتُك، وَلَكِنّى عَلَى دِينِ الْيَهُودِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ”، فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَحَدّثَنِى عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: لَمّا قَتَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حُيَىّ بْنَ أَخْطَبَ، وَنَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، وَغَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، وَكَعْبَ بْنَ أَسَدٍ وَقَامَ، قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: “عَلَيْك بِمَنْ بَقِىَ”. فَكَانَ سَعْدٌ يُخْرِجُهُمْ رَسْلاً رَسْلاً يَقْتُلُهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِى النّضِيرِ، يُقَالُ لَهَا: نُبَاتَةُ وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِى قُرَيْظَةَ، فَكَانَ يُحِبّهَا وَتُحِبّهُ فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ بَكَتْ إلَيْهِ، وَقَالَتْ: إنّك لَمُفَارِقِى، فَقَالَ: هُوَ وَالتّوْرَاةِ مَا تَرَيْنَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ فَدَلّى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الرّحَى، فَإِنّا لَمْ نَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا بَعْدُ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ، وَإِنْ يَظْهَرْ مُحَمّدٌ عَلَيْنَا لا يَقْتُلْ النّسَاءَ، وَإِنّمَا كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُسْبَى، فَأَحَبّ أَنْ تُقْتَلَ بِجُرْمِهَا، وَكَانَتْ فِى حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَدَلّتْ رَحًى فَوْق الْحِصْنِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ رُبّمَا جَلَسُوا تَحْتَ الْحِصْنِ يَسْتَظِلّونَ فِى فَيْنِهِ فَأَطْلَعَتْ الرّحَى، فَلَمّا رَآهَا الْقَوْمُ انْفَضّوا، وَتُدْرِكُ خَلاّدَ بْنَ سُوَيْدٍ فَتَشْدَخُ رَأْسَهُ فَحَذِرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحِصْنِ. فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِى أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُقْتَلُوا، دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، فَجَعَلَتْ تَضْحَكُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَهِىَ تَقُولُ: سَرَاةُ بَنِى قُرَيْظَةَ يُقْتَلُونَ إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ قَائِلٍ يَقُولُ: يَا نُبَاتَةُ، قَالَتْ: أَنَا وَاَللّهِ الّتِى أُدْعَى، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: قَتَلَنِى زَوْجِى - وَكَانَتْ جَارِيَةً حُلْوَةَ الْكَلامِ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَيْفَ قَتَلَك زَوْجُك؟ قَالَتْ: كُنْت فِى حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَأَمَرَنِى فَدَلّيْت رَحًى عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فَشَدَخَتْ رَأْسَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَمَاتَ، وَأَنَا أُقْتَلُ بِهِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِهَا، فَقُتِلَتْ بِخَلاّدِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لا أَنْسَى طَيّبَ نَفْسِ نُبَاتَةَ وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ يَوْمَهُمْ حَتّى قُتِلُوا بِاللّيْلِ عَلَى شُعَلِ السّعَفِ. حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ ثُمَامَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىّ، قَالَ: قُتِلُوا إلَى أَنْ غَابَ الشّفَقُ ثُمّ رُدّ عَلَيْهِمْ التّرَابُ فِى الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مَنْ شُكّ فِيهِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَلَغَ نُظِرَ إلَى مُؤْتَزَرِهِ إنْ كَانَ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْبِتْ طُرِحَ فِى السّبْىِ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: كَانُوا سِتّمِائَةٍ إلاّ عَمْرَو بْنَ السّعْدَى وُجِدَتْ رِمّتُهُ وَنَجَا، قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: خُرُوجُهُ مِنْ الْحِصْنِ أَثْبَتُ. وَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: كَانُوا مَا بَيْنَ سِتّمِائَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَحِمَهُ اللّهُ، يَقُولُ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، قَالُوا: وَكَانَ نِسَاءُ بَنِى قُرَيْظَةَ حِينَ تَحَوّلُوا فِى دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَفِى دَارِ أُسَامَةَ يَقُلْنَ: عَسَى مُحَمّدٌ أَنْ يَمُنّ عَلَى رِجَالِنَا أَوْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَلَمّا أَصْبَحْنَ وَعَلِمْنَ بِقَتْلِ رِجَالِهِنّ صِحْنَ وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ وَنَشَرْنَ الشّعُورَ وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ عَلَى رِجَالِهِنّ فَمَلأْنَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: يَقُولُ الزّبِيرُ بْن بَاطَا: اُسْكُتْنَ فَأَنْتُنّ أَوّلُ مَنْ سُبِىَ مِنْ نِسَاءِ بَنِى إسْرَائِيلَ مُنْذُ كَانَتْ الدّنْيَا؟ وَلا يُرْفَعُ السّبْىُ عَنْهُمْ حَتّى نَلْتَقِىَ نَحْنُ وَأَنْتُنّ، وَإِنْ كَانَ فِى رِجَالِكُنّ خَيْرٌ فَدُوكُنّ فَالْزَمْنَ دِينَ الْيَهُودِ فَعَلَيْهِ نَمُوتُ، وَعَلَيْهِ نَحْيَى. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، قَالا: كَانَ الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا مَنّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَأَتَى ثَابِتٌ الزّبِيرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ هَلْ تَعْرِفُنِى؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِى مِثْلَك؟ قَالَ ثَابِتٌ: إنّ لَك عِنْدِى يَدًا، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِهَا، قَالَ الزّبِيرُ: إنّ الْكَرِيمَ يَجْزِى الْكَرِيمَ وَأَحْوَجُ مَا كُنْت إلَيْهِ الْيَوْمَ.، فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ كَانَ لِلزّبِيرِ عِنْدِى يَدٌ جَزّ نَاصِيَتِى يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ: اُذْكُرْ هَذِهِ النّعْمَةَ عِنْدَك، وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا فَهَبْهُ لِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَهُوَ لَك”، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: “إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ وَهَبَك لِى”. قَالَ الزّبِيرُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لا أَهْلَ وَلا وَلَدَ وَلا مَالَ بِيَثْرِبَ مَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِى وَلَدَهُ، فَأَعْطَاهُ وَلَدَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِى مَالَهُ وَأَهْلَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَهْلَهُ فَرَجَعَ إلَى الزّبِيرِ، فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَعْطَانِى وَلَدَك وَأَهْلَك وَمَالَك. فَقَالَ الزّبِيرُ: يَا ثَابِتُ أَمّا أَنْتَ، فَقَدْ كَافَأْتنِى وَقَضَيْت بِاَلّذِى عَلَيْك، يَا ثَابِتُ مَا فَعَلَ الّذِى كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ تَتَرَاءَى عَذَارَى الْحَىّ فِى وَجْهِهِ - كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِى؛ سَيّدُ الْحَيّيْنِ كِلَيْهِمَا، يَحْمِلُهُمْ فِى الْحَرْبِ وَيُطْعِمُهُمْ فِى الْمَحَلّ - حُيَىّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ أَوّلُ غَادِيَةِ الْيَهُودِ إذَا حَمَلُوا، وَحَامِيَتُهُمْ إذَا وَلّوْا - غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْحُوّلُ الْقُلّبُ الّذِى لا يَؤُمّ جَمَاعَةً إلاّ فَضّهَا وَلا عُقْدَةً إلاّ حَلّهَا - نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ لِوَاءُ الْيَهُودِ فِى الزّحْفِ - وَهْبُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِى رِفَادَةِ الْيَهُودِ وَأَبُو الأَيْتَامِ وَالأَرَامِلِ مِنْ الْيَهُودِ - عُقْبَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْعَمْرَانِ اللّذَانِ كَانَا يَلْتَقِيَانِ بِدِرَاسَةِ التّوْرَاةِ؟ قَالَ: قُتِلا. قَالَ: يَا ثَابِتُ فَمَا خَيْرٌ فِى الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاءِ أَأَرْجِعُ إلَى دَارٍ كَانُوا فِيهَا حُلُولاً فَأَخْلُدَ فِيهَا بَعْدَهُمْ؟ لا حَاجَةَ لِى فِى ذَلِكَ، فَإِنّى أَسْأَلُك بِيَدِى عِنْدَك إلاّ قَدّمْتنِى إلَى هَذَا الْقَتّالِ الّذِى يَقْتُلُ سَرَاةَ بَنِى قُرَيْظَةَ، ثُمّ يُقَدّمُنِى إلَى مَصَارِعِ قَوْمِى، وَخُذْ سَيْفِى، فَإِنّهُ صَارِمٌ فَاضْرِبْنِى بِهِ ضَرْبَةً وَأَجْهِزْ وَارْفَعْ يَدَك، عَنْ الطّعَامِ وَأَلْصِقْ بِالرّأْسِ وَاخْفِضْ، عَنْ الدّمَاغِ، فَإِنّهُ أَحْسَنُ لِلْجَسَدِ أَنْ يَبْقَى فِيهِ الْعُنُقُ، يَا ثَابِتُ لا أَصْبِرُ إفْرَاغَ دَلْوٍ مِنْ نَضْحٍ حَتّى أَلْقَى الأَحِبّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ يَسْمَعُ قَوْلَهُ: وَيْحَك يَا ابْنَ بَاطَا، إنّهُ لَيْسَ إفْرَاغَ دَلْوٍ وَلَكِنّهُ عَذَابٌ أَبَدِىّ، قَالَ: يَا ثَابِتُ، قَدّمْنِى فَاقْتُلْنِى، قَالَ ثَابِتٌ: مَا كُنْت لأَقْتُلَنّك. قَالَ الزّبِيرُ: مَا كُنْت أُبَالِى مَنْ قَتَلَنِى، وَلَكِنْ يَا ثَابِتُ اُنْظُرْ إلَى امْرَأَتِى وَوَلَدِى فَإِنّهُمْ جَزِعُوا مِنْ الْمَوْتِ فَاطْلُبْ إلَى صَاحِبِك أَنْ يُطْلِقَهُمْ وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. وَأَدْنَاهُ إلَى الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ، فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَطَلَبَ ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ ÷ كُلّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ مِنْ السّبَا، وَرَدّ عَلَيْهِمْ الأَمْوَالَ مِنْ النّخْلِ وَالإِبِلِ وَالرّثّةِ إلاّ الْحَلْقَةَ، فَإِنّهُ لَمْ يَرُدّهَا عَلَيْهِمْ. فَكَانُوا مَعَ آلِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ. قَالُوا: وَكَانَتْ رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدٍ مِنْ بَنِى النّضِيرِ مُتَزَوّجَةً فِى بَنِى قُرَيْظَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ صَفِيّا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً فَعَرَضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ تُسْلِمَ فَأَبَتْ إلاّ الْيَهُودِيّةَ، فَعَزَلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَوَجَدَ فِى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ سَعِيّةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ سَعِيّةَ: فِدَاك أَبِى وَأُمّى، هِىَ تُسْلِمُ فَخَرَجَ حَتّى جَاءَهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: لا تَتّبِعِى قَوْمَك، فَقَدْ رَأَيْت مَا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ حُيَىّ بْنُ أَخْطَبَ، فَأَسْلِمِى يَصْطَفِيك رَسُولُ اللّهِ ÷ لِنَفْسِهِ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَصْحَابِهِ إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ، فَقَالَ: “إنّ هَاتَيْنِ لَنَعْلا ابْنِ سَعِيّةَ يُبَشّرُنِى بِإِسْلامِ رَيْحَانَةَ”، فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ فَسُرّ بِذَلِكَ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْمُعَاوِىّ، قَالَ: أَرْسَلَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَيْتِ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ أُمّ الْمُنْذِرِ، وَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى حَاضَتْ حَيْضَةً، ثُمّ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، فَجَاءَتْ أُمّ الْمُنْذِرِ، فَأَخْبَرَتْ النّبِىّ ÷ فَجَاءَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَنْزِلِ أُمّ الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ: “إنْ أَحْبَبْت أُعْتِقُك وَأَتَزَوّجُك فَعَلْتُ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ تَكُونِى فِى مِلْكِى أَطَؤُك بِالْمِلْكِ فَعَلْتُ”، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ أَخَفّ عَلَيْك، وَعَلَىّ أَنْ أَكُونَ فِى مِلْكِك، فَكَانَتْ فِى مِلْكِ النّبِىّ ÷ يَطَؤُهَا حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، قَالَ: سَأَلْت الزّهْرِىّ عَنْ رَيْحَانَةَ، فَقَالَ: كَانَتْ أَمَةً لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا، وَكَانَتْ تَحْتَجِبُ فِى أَهْلِهَا، وَتَقُولُ: لا يَرَانِى أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَهَذَا أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا. وَكَانَ زَوْجُ رَيْحَانَةَ قَبْلَ النّبِىّ ÷ الْحَكَمَ.

  • * *

ذِكْرُ قَسْمِ الْمَغْنَمِ وَبَيْعِهِ قَالُوا: لَمّا اجْتَمَعَتْ الْمَغَانِمُ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْمَتَاعِ، فَبِيعَ فِيمَنْ يُرِيدُ وَبِيعَ السّبْىُ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَقُسِمَتْ النّخْلُ. فَكَانَ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَظَفَرٍ وَحَارِثَةَ وَبَنُو مُعَاوِيَةَ وَهَؤُلاءِ النّبِيتُ لَهُمْ سَهْمٌ. وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمَنْ بَقِىَ مِنْ الأَوْسِ سَهْمًا. وَكَانَتْ بَنُو النّجّارِ، وَمَازِنٍ وَمَالِكٍ وَذُبْيَانَ وَعَدِىّ سَهْمًا. وَكَانَتْ سَلِمَةُ وَزُرَيْقٌ وَبَلْحَارِثُ بْنُ الْخَزْرَجِ، سَهْمًا. وَكَانَتْ الْخَيْلُ سِتّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا؛ فَكَانَتْ أَوّلَ مَا أُعْلِمَتْ سُهْمَانُ الْخَيْلِ يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ، ثُمّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ أَيْضًا عُمِلَ فِيهَا مَا عُمِلَ فِى الْمُرَيْسِيعِ. أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ. وَأَسْهَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِخَلاّدِ بْنِ سُوَيْدٍ، قُتِلَ تَحْتَ الْحِصْنِ وَأَسْهَمَ لأَبِى سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ مَاتَ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ مُحَاصِرُهُمْ وَكَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَالْخَيْلُ سِتّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا، فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَلاثَةِ آلافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ. وَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ الْخَيْلُ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ سِتّا وَثَلاثِينَ فَرَسًا، وَقَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثَةَ أَفْرَاسٍ فَلَمْ يَضْرِبْ إلاّ سَهْمًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ السّهْمَانُ ثَلاثَةَ آلافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، وَأَسْهَمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الأَمْوَالِ فَجُزّئَتْ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ. وَكُتِبَ فِى سَهْمٍ مِنْهَا “لِلّهِ”، وَكَانَتْ السّهْمَانُ يَوْمَئِذٍ بَوَاءً فَخَرَجَتْ السّهْمَانُ وَكَذَلِك الرّثّةُ وَالإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالسّبْىُ. ثُمّ فُضّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى النّاسِ وَأَحْذَى النّسَاءَ يَوْمَئِذٍ اللاّتِى حَضَرْنَ الْقِتَالَ وَضَرَبَ لِرَجُلَيْنِ - وَاحِدٍ قُتِلَ وَآخَرَ مَاتَ. وَأَحْذَى رَسُولُ اللّهِ ÷ نِسَاءً شَهِدْنَ بَنِى قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ - صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ عُمَارَةَ وَأُمّ سَلِيطٍ وَأُمّ الْعَلاءِ وَالسّمَيْرَاءُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأُمّ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ. فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ نَجْرَةَ السّاعِدِىّ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: حَضَرْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَبِيعُ سَبْىَ بَنِى قُرَيْظَةَ فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ الْيَهُودِىّ امْرَأَتَيْنِ مَعَ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلاثَةُ أَطْفَالٍ غِلْمَانٍ وَجَوَارٍ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ دِينَارٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ أَلَسْتُمْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِ؟ فَتَقُولُ الْمَرْأَتَانِ: لا نُفَارِقُ دِينَ قَوْمِنَا حَتّى نَمُوتَ عَلَيْهِ وَهُنّ يَبْكِينَ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا سُبِىَ بَنُو قُرَيْظَةَ - النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ - بَاعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهُمْ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ طَائِفَةً وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى نَجْدٍ، وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى الشّامِ مَعَ سَعْدِ ابْنِ عُبَادَةَ، يَبِيعُهُمْ وَيَشْتَرِى بِهِمْ سِلاحًا وَخَيْلاً، وَيُقَالُ: بَاعَهُمْ بَيْعًا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاقْتَسَمَا فَسَهَمَهُ عُثْمَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ عَلَى كُلّ مَنْ جَاءَ مِنْ سَبْيِهِمْ شَيْئًا مُوفِيًا، فَكَانَ يُوجَدُ عِنْدَ الْعَجَائِزِ الْمَالُ وَلا يُوجَدُ عِنْدَ الشّوَابّ فَرَبِحَ عُثْمَانُ مَالاً كَثِيرًا - وَسَهَمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ - وَذَلِكَ أَنّ عُثْمَانَ صَارَ فِى سَهْمِهِ الْعَجَائِزُ. وَيُقَالُ: لَمّا قَسَمَ جَعَلَ الشّوَابّ عَلَى حِدَةٍ وَالْعَجَائِزَ عَلَى حِدَةٍ ثُمّ خَيّرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ عُثْمَانَ، فَأَخَذَ عُثْمَانُ الْعَجَائِزَ. حَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السّبْىُ أَلْفًا مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خُمُسَهُ قَبْلَ بَيْعِ الْمَغْنَمِ جَزّأَ السّبْىَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ فَأَخَذَ خُمُسًا، فَكَانَ يُعْتِقُ مِنْهُ وَيَهَبُ مِنْهُ وَيُخَدّمُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ، وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمَا أَصَابَ مِنْ رِثّتِهِمْ قُسِمَتْ قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ وَكَذَلِكَ النّخْلُ عَزَلَ خُمُسَهُ، وَكُلّ ذَلِكَ يُسْهِمُ عَلَيْهِ ÷ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ وَيَكْتُبُ فِى سَهْمٍ مِنْهَا “لِلّهِ”، ثُمّ يُخْرِجُ السّهْمَ فَحَيْثُ صَارَ سَهْمُهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَتَخَيّرْ. وَصَارَ الْخُمُسُ إلَى مَحْمِيّةِ ابْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِىّ وَهُوَ الّذِى قَسَمَ الْمَغْنَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ كَانَ يُسْهِمُ وَلا يَتَخَيّرُ. حَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ سَبْىِ بَنِى قُرَيْظَةَ فِى الْقَسْمِ وَالْبَيْعِ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ يَوْمَئِذٍ لا يُفَرّقُ بَيْنَ الأُمّ وَوَلَدِهَا حَتّى يَبْلُغُوا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا بُلُوغُهُمْ؟ قَالَ: “تَحِيضُ الْجَارِيَةُ وَيَحْتَلِمُ الْغُلامُ”. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ يُفَرّقُ بَيْن الأُخْتَيْنِ إذَا بَلَغَتَا، وَبَيْنَ الأُمّ وَابْنَتِهَا إذَا بَلَغَتْ وَكَانَتْ الأُمّ تُبَاعُ وَوَلَدُهَا الصّغَارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَمِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَتَيْمَاءَ وَخَيْبَرَ يَخْرُجُونَ بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيدُ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ أُمّ لَمْ يُبَعْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلا مِنْ الْيَهُودِ، إلاّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَحَدّثَنِى عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ: قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: ابْتَعْت يَوْمَئِذٍ مِنْ السّبْىِ ثَلاثَةً امْرَأَةً مَعَهَا ابْنَاهَا، بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَكَانَ ذَلِكَ حَقّى وَحَقّ فَرَسِى مِنْ السّبْىِ وَالأَرْضِ وَالرّثّةِ وَغَيْرِى كَهَيْئَتِى، وَكَانَ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ. وَحَدّثَنِى الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِىّ - وَكَانَ يُلَقّبُ قُصَيّا - عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: شَهِدْت بَنِى قُرَيْظَةَ فَارِسًا، فَضُرِبَ لِى سَهْمٌ وَلِفَرَسِى سَهْمٌ. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ الزّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ فَرَسَانِ فَأَسْهَمَ لَهُ النّبِىّ ÷ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ.

  • * *

ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: لَمّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ رَجَعَ إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ بِنْتِ سَعْدٍ الأَسْلَمِيّةِ وَكَانَ رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ - وَيُقَالُ: أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِىّ - فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ فَكَوَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالنّارِ، وَانْتَفَخَتْ يَدُهُ فَتَرَكَهُ فَسَالَ الدّمُ فَحَسَمَهُ أُخْرَى فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَالأَرَضِينَ السّبْعِ فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ فِى النّاسِ قَوْمٌ أَحَبّ إلَىّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَك، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنّى أَظُنّ أَنْ قَدْ وُضِعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَقِىَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِى أُقَاتِلُهُمْ فِيك وَإِنْ كُنْت قَدْ وَضَعْت الْحَرْبَ فَافْجُرْ هَذَا الْكَلْمَ وَاجَعَل مَوْتِى فِيهِ فَقَدْ أَقْرَرْت عَيْنَىّ مِنْ بَنِى قُرَيْظَةَ لِعَدَاوَتِهِمْ لَك وَلِنَبِيّك وَلأَوْلِيَائِك فَفَجَرَهُ اللّهُ وَإِنّهُ لَرَاقِدٌ بَيْن ظَهْرَىْ اللّيْلِ وَمَا يُدْرَى بِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَعُودُهُ فَأَتَاهُ وَهُوَ يَسُوقُ فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ سُجّىَ بِمُلاءَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ سَعْدٌ رَجُلاً أَبْيَضَ طَوِيلاً، فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَجَعَلَ رَأْسَهُ فِى حِجْرِهِ، ثُمّ قَالَ: “اللّهُمّ إنّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِك، وَصَدّقَ رَسُولَك، وَقَضَى الّذِى عَلَيْهِ فَاقْبِضْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقْبِضُ فِيهِ أَرْوَاحَ الْخَلْقِ”، فَفَتَحَ سَعْدٌ عَيْنَيْهِ حِينَ سَمِعَ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: السّلامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ أَشْهَدُ أَنّك قَدْ بَلّغْت رِسَالَتَهُ، وَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأْسَ سَعْدٍ مِنْ حِجْرِهِ، ثُمّ قَامَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ، وَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَمَكَثَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَمَاتَ خِلافَهُ. وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ حِينَ مَاتَ سَعْدٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الرّجُلُ الصّالِحُ الّذِى مَاتَ فِيكُمْ؟ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ وَاهْتَزّ لَهُ عَرْشُ الرّحْمَنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلامُ: عَهْدِى بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ يَمُوتُ”. ثُمّ خَرَجَ فَزِعًا إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ يَجُرّ ثَوْبَهُ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ سَعْدًا قَدْ مَاتَ، وَأَقْبَلَتْ رِجَالُ بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ فَاحْتَمَلُوهُ إلَى مَنْزِلِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَثَرِهِ فَيَنْقَطِعُ نَعْلُ أَحَدِهِمْ، فَلَمْ يُعَرّجْ عَلَيْهَا، وَيَسْقُطُ رِدَاؤُهُ فَلَمْ يَلْوِ عَلَيْهِ وَمَا يُعَرّجُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَتّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا أَنّ النّبِىّ حَضَرَهُ حِينَ تُوُفّىَ. وَأَخْبَرَنِى مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا انْفَجَرَتْ يَدُ سَعْدٍ بِالدّمِ قَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَاعْتَنَقَهُ وَالدّمُ يَنْفَحُ فِى وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَلِحْيَتِهِ لا يُرِيدُ أَحَدٌ أَنْ يَقِىَ رَسُولَ اللّهِ ÷ الدّمَ إلاّ ازْدَادَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قُرْبًا، حَتّى قَضَى. وَحَدّثَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ ابْنِ خَرِيشٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَنَحْنُ عَلَى الْبَابِ نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ عَلَى أَثَرِهِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ إلاّ سَعْدٌ مُسَجّى، قَالَ: فَرَأَيْته يَتَخَطّى، فَلَمّا رَأَيْته يَتَخَطّى وَقَفْت، وَأَوْمَأَ إلَىّ قِفْ فَوَقَفْت، وَرَدَدْت مَنْ وَرَائِى، وَجَلَسَ سَاعَةً ثُمّ خَرَجَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا وَقَدْ رَأَيْتُك تَتَخَطّى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا قَدَرْت عَلَى مَجْلِسٍ حَتّى قَبَضَ لِى مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ أَحَدَ جَنَاحَيْهِ فَجَلَسْت”. وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو”. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأُمّ سَعْدٍ تَبْكِى وَتَقُولُ: وَيْـــلُ أُمّ سَعْــــــدٍ سَعْـــــــدَا جَــــــــلادَةً وَحَـــــــــــــــدّا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: مَهْلاً يَا أُمّ سَعْدٍ لا تَذْكُرِى سَعْدًا، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “دَعْهَا يَا عُمَرُ فَكُلّ بَاكِيَةٍ مُكْثِرَةٌ إلاّ أُمّ سَعْدٍ، مَا قَالَتْ مِنْ خَيْرٍ فَلَمْ تَكْذِبْ”، وَأُمّ سَعْدٍ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الأَبْجَرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَأُخْتُهَا؛ الْفَارِعَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ، وَهِىَ أُمّ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ. قَالُوا: ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُغَسّلَ، فَغَسّلَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَصُبّ الْمَاءَ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ حَاضِرٌ، فَغُسّلَ بِالْمَاءِ الأُولَى، وَالثّانِيَةَ بِالْمَاءِ وَالسّدْرِ وَالثّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ، ثُمّ كُفّنَ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ صُحَارِيّةٍ، وَأُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا، وَأُتِىَ بِسَرِيرٍ كَانَ عِنْدَ آلِ سَبْطٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَوْتَى، فَوُضِعَ عَلَى السّرِيرِ، فَرُئِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَحْمِلُهُ بَيْنَ عَمُودَىْ سَرِيرِهِ حِينَ رُفِعَ مِنْ دَارِهِ إلَى أَنْ خَرَجَ. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَمْشِى أَمَامَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَحَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ أَبِى زَيْدٍ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَخَرَجَ بِالنّاسِ، فَلَمّا بَرَزَ إلَى الْبَقِيعِ قَالَ: “خُذُوا فِى جِهَازِ صَاحِبِكُمْ”. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكُنْت أَنَا مِمّنْ حَفَرَ لَهُ قَبْرَهُ وَكَانَ يَفُوحُ عَلَيْنَا الْمِسْكُ كُلّمَا حَفَرْنَا قَبْرَهُ مِنْ تُرَابٍ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى اللّحْدِ. قَالَ رُبَيْحٌ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِى مُحَمّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ، قَالَ: أَخَذَ إنْسَانٌ قَبْضَةً مِنْ قَبْرِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ فَذَهَبَ بِهَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا هِىَ مِسْكٌ. قَالُوا: ثُمّ اُحْتُمِلَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْت لَتَقْطَعُنَا فِى ذَهَابِك إلَى سَعْدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “خَشِينَا أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلائِكَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَتْنَا إلَى غُسْلِ حَنْظَلَةَ”. وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَ سَعْدٌ رَجُلاً جَسِيمًا، فَلَمْ نَرَ أَخَفّ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “رَأَيْت الْمَلائِكَةَ تَحْمِلُهُ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: إنّمَا خَفّ لأَنّهُ حَكَمَ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ. قَالَ: “كَذَبُوا، وَلَكِنّهُ خَفّ لِحَمْلِ الْمَلائِكَةِ”. فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ يَقُولُ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حُفْرَتِهِ وَوَضَعْنَا اللّبِنَ وَالْمَاءَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَحَفَرْنَا لَهُ عِنْدَ دَارِ عُقَيْلٍ الْيَوْمَ وَطَلَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْنَا، فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عِنْدَ قَبْرِهِ، ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ النّاسِ مَا مَلأَ الْبَقِيعَ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْتَهَوْا إلَى قَبْرِهِ نَزَلَ فِى قَبْرِهِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَأَبُو نَائِلَةَ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ وَاقِفٌ عَلَى قَدَمَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ فَلَمّا وُضِعَ فِى لَحْدِهِ تَغَيّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَسَبّحَ ثَلاثًا، فَسَبّحَ الْمُسْلِمُونَ ثَلاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ، ثُمّ كَبّرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثًا، وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ ثَلاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ بِتَكْبِيرِهِ. فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ رَأَيْنَا لِوَجْهِك تَغَيّرًا وَسَبّحْت ثَلاثًا، قَالَ: “تَضَايَقَ عَلَى صَاحِبِكُمْ قَبْرُهُ وَضُمّ ضَمّةً لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ ثُمّ فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ”. حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سَعْدٍ - وَهِىَ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدٍ - تَنْظُرُ إلَى سَعْدٍ فِى اللّحد، فَرَدّهَا النّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “دَعُوهَا”، فَأَقْبَلَتْ حَتّى نَظَرَتْ إلَيْهِ وَهُوَ فِى اللّحْدِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ اللّبِنُ وَالتّرَابُ، فَقَالَتْ: أَحْتَسِبُك عِنْدَ اللّهِ وَعَزّاهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى قَبْرِهِ، وَجَلَسَ نَاحِيَةً وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَرُدّونَ تُرَابَ الْقَبْرِ وَيُسَوّونَهُ وَتَنَحّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَجَلَسَ حَتّى سُوّىَ عَلَى قَبْرِهِ وَرُشّ عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءُ، ثُمّ أَقْبَلَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَدَعَا لَهُ ثُمّ انْصَرَفَ.

  • * *

ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِى حِصَارِ بَنِى قُرَيْظَةَ خَلاّدُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، دَلّتْ عَلَيْهِ نُبَاتَةُ رَحًى فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، وَقَتَلَهَا بِهِ”. وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، فَدَفَنَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ هُنَاكَ فَهُوَ فِى مَقْبَرَةِ بَنِى قُرَيْظَةَ الْيَوْمَ. حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَدِمَ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ الأَشْجَعِىّ خَيْبَرَ، قَدْ سَارَ يَوْمَيْنِ وَيَهُودُ بَنِى النّضِيرِ - سَلاّمُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ، وَيَهُودُ خَيْبَرَ جُلُوسٌ فِى نَادِيهِمْ يَتَحَسّبُونَ خَبَرَ قُرَيْظَةَ، قَدْ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ حَصَرَهُمْ وَهُمْ يَتَوَقّعُونَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: الشّرّ قُتِلَتْ مُقَاتِلَةُ قُرَيْظَةَ صَبْرًا بِالسّيْفِ، قَالَ كِنَانَةُ: مَا فَعَلَ حُيَىّ؟ قَالَ حُسَيْلٌ: حُيَىّ قَدْ طَاحَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا، وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ سَرَاتِهِمْ - كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ، وَنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ - أَنّهُ حَضَرَهُمْ قُتِلُوا بَيْنَ يَدَىْ مُحَمّدٍ. قَالَ سَلاّمُ بْن مِشْكَمٍ: هَذَا كُلّهُ عَمَلُ حُيَىّ بْنِ أَخْطَبَ، شَأَمَنَا أَوّلاً وَخَالَفَنَا فِى الرّأْىِ فَأَخْرَجَنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَشَرَفِنَا وَقَتَلَ إخْوَانَنَا، وَأَشَدّ مِنْ الْقَتْلِ سِبَاءُ الذّرّيّةِ لا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِالْحِجَازِ أَبَدًا، لَيْسَ لِلْيَهُودِ عَزْمٌ وَلا رَأْىٌ. قَالُوا: وَبَلَغَ النّسَاءَ فَصَيّحْنَ وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ، وَجَزَزْنَ الشّعُورَ، وَأَقَمْنَ الْمَآتِمَ، وَضَوَى إلَيْهِنّ نِسَاءُ الْعَرَبِ. وَفَزِعَتْ الْيَهُودُ إلَى سَلاّمِ بْنِ مِشْكَمٍ، فَقَالُوا: فَمَا الرّأْىُ أَبَا عَمْرٍو؟ وَيُقَالُ: أَبَا الْحَكَمِ، قَالَ: وَمَا تَصْنَعُونَ بِرَأْىٍ لا تَأْخُذُونَ مِنْهُ حَرْفًا؟ قَالَ كِنَانَةُ: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ قَدْ صَارَ الأَمْرُ إلَى مَا تَرَى، قَالَ مُحَمّدٌ: قَدْ فَرَغَ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَيْكُمْ فَنَازِلٌ بِسَاحَتِكُمْ وَصَانِعٌ بِكُمْ مَا صَنَعَ بِبَنِى قُرَيْظَةَ. قَالُوا: فَمَا الرّأْىُ؟ قَالَ: نَسِيرُ إلَيْهِ بِمَنْ مَعَنَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، فَلَهُمْ عَدَدٌ وَنَسْتَجْلِبُ يَهُودَ تَيْمَاءَ، وَفَدَكٍ، وَوَادِى الْقُرَى؛ وَلا نَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ فِى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مَا صَنَعَتْ بِكُمْ الْعَرَبُ بَعْدَ أَنْ شَرَطْتُمْ لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ نَقَضُوا ذَلِكَ وَخَذَلُوكُمْ وَطَلَبُوا مِنْ مُحَمّدٍ بَعْضَ تَمْرِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ مَعَ أَنّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الّذِى كَادَهُمْ بِمُحَمّدٍ، وَمَعْرُوفُهُمْ إلَيْهِ مَعْرُوفُهُمْ ثُمّ نَسِيرُ إلَيْهِ فِى عُقْرِ دَارِهِ فَنُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ حَدِيثٍ وَقَدِيمٍ. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: هَذَا الرّأْىُ، فَقَالَ كِنَانَةُ: إنّى قَدْ خَبَرْت الْعَرَبَ فَرَأَيْتهمْ أَشِدّاءَ عَلَيْهِ وَحُصُونُنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَا هُنَاكَ، وَمُحَمّدٌ لا يَسِيرُ إلَيْنَا أَبَدًا لِمَا يَعْرِفُ، قَالَ سَلاّمُ بْنُ مِشْكَمٍ: هَذَا رَجُلٌ لا يُقَاتِلُ حَتّى يُؤْخَذَ بِرَقَبَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاَللّهِ مَحْمُودًا، وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ: يَرْثِى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ [......].

  • * *







بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا، فَغِبْت اثْنَتَىْ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَدِمْت يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ الْمُحَرّمِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنّ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِىّ، ثُمّ اللّحْيَانِىّ، وَكَانَ نَزَلَ عُرَنَةَ وَمَا حَوْلَهَا فِى نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَجَمَعَ الْجُمُوعَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَضَوَى إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَفْنَاءِ النّاسِ. فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُنَيْسٍ، فَبَعَثَهُ سَرِيّةً وَحْدَهُ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ”، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَعْرِفُهُ فَصِفْهُ لِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّك إذَا رَأَيْته هِبْته وَفَرِقْت مِنْهُ، وَذَكَرْت الشّيْطَانَ”، وَكُنْت لا أَهَابُ الرّجَالَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَرِقْت مِنْ شَىْءٍ قَطّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلَى، آيَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَنْ تَجِدَ لَهُ قُشَعْرِيرَةً إذَا رَأَيْته”. وَاسْتَأْذَنْت النّبِىّ ÷ أَنْ أَقُولَ: فَقَالَ: “قُلْ مَا بَدَا لَك”. قَالَ: فَأَخَذْت سَيْفِى لَمْ أَزِدْ عَلَيْهِ وَخَرَجْت أَعْتَزِى إلَى خُزَاعَةَ، فَأَخَذْت عَلَى الطّرِيقِ حَتّى انْتَهَيْت إلَى قُدَيْدٍ، فَأَجِدُ بِهَا خُزَاعَةَ كَثِيرًا، فَعَرَضُوا عَلَىّ الْحُمْلانَ وَالصّحَابَةَ فَلَمْ أُرِدْ ذَلِكَ وَخَرَجْت حَتّى أَتَيْت بَطْنَ سَرِفَ، ثُمّ عَدَلْت حَتّى خَرَجْت عَلَى عُرَنَةَ، وَجَعَلْت أُخْبِرُ مَنْ لَقِيت أَنّى أُرِيدُ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدٍ لأَكُونَ مَعَهُ حَتّى إذَا كُنْت بِبَطْنِ عُرَنَةَ لَقِيته يَمْشِى، وَوَرَاءَهُ الأَحَابِيشُ وَمَنْ اسْتَجْلَبَ وَضَوَى إلَيْهِ. فَلَمّا رَأَيْته هِبْته، وَعَرَفْته بِالنّعْتِ الّذِى نَعَتَ لِى رَسُولُ اللّهِ ÷، وَرَأَيْتنِى أَقْطُرُ فَقُلْت: صَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ دَخَلْت فِى وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ رَأَيْته، فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِى أُومِئُ إيمَاءً بِرَأْسِى، فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقُلْت: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، سَمِعْت بِجَمْعِك لِمُحَمّدٍ فَجِئْتُك لأَكُونَ مَعَك، قَالَ: أَجَلْ إنّى لَفِى الْجَمْعِ لَهُ. فَمَشَيْت مَعَهُ وَحَدّثْته فَاسْتَحْلَى حَدِيثِى، وَأَنْشَدْته شِعْرًا، وَقُلْت: عَجَبًا لِمَا أَحْدَثَ مُحَمّدٌ مِنْ هَذَا الدّينِ الْمُحْدَثِ فَارَقَ الآبَاءَ وَسَفّهَ أَحْلامَهُمْ، قَالَ: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ أَحَدًا يُشْبِهُنِى، قَالَ: وَهُوَ يَتَوَكّأُ عَلَى عَصًا يَهُدّ الأَرْضَ حَتّى انْتَهَى إلَى خِبَائِهِ وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَى مَنَازِلَ قَرِيبَةٍ مِنْهُ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِ فَقَالَ: هَلُمّ يَا أَخَا خُزَاعَةَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اُحْلُبِى، فَحَلَبَتْ، ثُمّ نَاوَلَتْنِى، فَمَصَصْت ثُمّ دَفَعْته إلَيْهِ، فَعَبّ كَمَا يَعُبّ الْجَمْلُ، حَتّى غَابَ أَنْفُهُ فِى الرّغْوَةِ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسْت مَعَهُ حَتّى إذَا هَدَأَ النّاسُ وَنَامُوا وَهَدَأَ اغْتَرَرْته فَقَتَلْته وَأَخَذْت رَأْسَهُ، ثُمّ أَقْبَلْت وَتَرَكْت نِسَاءَهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ وَكَانَ النّجَاءُ مِنّى حَتّى صَعِدْت فِى جَبَلٍ فَدَخَلْت غَارًا. وَأَقْبَلَ الطّلَبُ مِنْ الْخَيْلِ، وَالرّجَالِ تَوَزّعُ فِى كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا مُخْتَفٍ فِى غَارِ الْجَبَلِ وَضَرَبَتْ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى الْغَارِ وَأَقْبَلَ رَجُلٌ وَمَعَهُ إدَاوَةٌ ضَخْمَةٌ وَنَعْلاهُ فِى يَدِهِ وَكُنْت حَافِيًا، وَكَانَ أَهَمّ أَمْرِى عِنْدِى الْعَطَشَ كُنْت أَذْكُرُ تِهَامَةَ وَحَرّهَا، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ عَلَى بَابِ الْغَارِ ثُمّ قَالَ لأَصْحَابِهِ لَيْسَ فِى الْغَارِ أَحَدٌ. فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَخَرَجْت إلَى الإِدَاوَةِ، فَشَرِبْت مِنْهَا، وَأَخَذْت النّعْلَيْنِ فَلَبِسْتهمَا، فَكُنْت أَسِيرُ اللّيْلَ، وَأَتَوَارَى النّهَارَ حَتّى جِئْت الْمَدِينَةَ فَوَجَدْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى الْمَسْجِدِ، فَلَمّا رَآنِى، قَالَ: “أَفْلَحَ الْوَجْهُ”، قُلْت: أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللّهِ، فَوَضَعْت رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرْته خَبَرِى، فَدَفَعَ إلَىّ عَصًا، فَقَالَ: “تَخَصّرْ بِهَذِهِ فِى الْجَنّةِ، فَإِنّ الْمُتَخَصّرِينَ فِى الْجَنّةِ قَلِيلٌ”. فَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ حَتّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِى كَفَنِهِ. وَكَانَ قَتْلُهُ فِى الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا.

  • * *











غَزْوَةُ الْقُرْطَاءِ حَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: خَرَجْت فِى عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، فَغِبْت تِسْعَ عَشْرَةَ وَقَدِمْت لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا. حَدّثَنِى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَنَسٍ الظّفَرِىّ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْحَدِيثِ، قَالا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِى ثَلاثِينَ رَجُلاً، فِيهِمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ إلَى بَنِى بَكْرِ بْنِ كِلابٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنَ النّهَارَ، وَأَنْ يَشُنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ. فَكَانَ مُحَمّدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، حَتّى إذَا كَانَ بِالشّرَبَةِ لَقِىَ ظُعُنًا، فَأَرْسَلَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُ مَنْ هُمْ، فَذَهَبَ الرّسُولُ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَوْمٌ مِنْ مُحَارِبٍ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ وَحَلّوا وَرَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ، فَأَمْهَلَهُمْ حَتّى إذَا ظَعَنُوا أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ وَهَرَبَ سَائِرُهُمْ فَلَمْ يَطْلُبْ مَنْ هَرَبَ وَاسْتَاقَ نَعَمًا وَشَاءً وَلَمْ يَعْرِضْ لِلظّعُنِ. ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ يُطْلِعُهُ عَلَى بَنِى بَكْرٍ بَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ إلَيْهِمْ فَأَوْفَى عَلَى الْحَاضِرِ، فَأَقَامَ فَلَمّا رَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ وَحَلَبُوا وَعَطّنُوا، جَاءَ إلَى مُحَمّدِ ابْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَخْبَرَهُ فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً وَاسْتَاقُوا النّعَمَ وَالشّاءَ ثُمّ انْحَدَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ حِينَ أَصْبَحَ إلاّ بِضَرِيّةَ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ. ثُمّ حَدَرْنَا النّعَمَ، وَخِفْنَا الطّلَبَ وَطَرَدْنَا الشّاءَ أَشَدّ الطّرْدِ فَكَانَتْ تَجْرِى مَعَنَا كَأَنّهَا الْخَيْلُ حَتّى بَلَغْنَا الْعَدَاسَةَ فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا الشّاءُ بِالرّبَذَةِ فَخَلّفْنَاهُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِى يَقْصِدُونَ بِهِ وَطُرِدَ النّعَمُ فَقُدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِىّ ÷. وَكَانَ مُحَمّدٌ يَقُولُ: خَرَجْت مِنْ ضَرِيّةَ، فَمَا رَكِبْت خُطْوَةً حَتّى وَرَدْت بَطْنَ نَخْلٍ، فَقُدِمَ بِالنّعَمِ خَمْسِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ وَالشّاءِ، وَهِىَ ثَلاثَةُ آلافِ شَاةٍ، فَلَمّا قَدِمْنَا خَمّسَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، ثُمّ فَضّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا بَقِىَ فَعَدَلُوا الْجَزُورَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ.

  • * *











غَزْوَةُ بَنِى لِحْيَانَ حَدّثَنِى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ أَبُو الْحَسَنِ الأَسْلَمِىّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِهِلالِ رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ سِتّ فَبَلَغَ غُرَانَ وَعُسْفَانَ، وَغَابَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنِى، وَقَدْ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. قَالُوا: وَجَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَصْحَابِهِ وَجْدًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ فِى مِائَتَىْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا فِى أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ بِمَضْرِبِ الْقُبّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجُرْفِ، فَعَسْكَرَ فِى أَوّلِ نَهَارِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ، ثُمّ رَاحَ مُبْرِدًا فَمَرّ عَلَى غُرَابَات، ثُمّ عَلَى بِينَ حَتّى خَرَجَ عَلَى صُخَيْرَاتِ الثّمَامِ فَلَقِىَ الطّرِيقَ هُنَاكَ. ثُمّ أَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَطْنِ غُرَانَ حَيْثُ كَانَ مُصَابُهُمْ فَتَرَحّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: هَنِيئًا لَكُمْ الشّهَادَةُ فَسَمِعَتْ بِهِ لِحْيَانُ، فَهَرَبُوا فِى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَلَمْ نَقْدِرْ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَبَعَثَ السّرَايَا فِى كُلّ نَاحِيَةٍ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدٍ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى عُسْفَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَبِى بَكْرٍ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهُمْ مَسِيرِى وَأَنّى قَدْ وَرَدْت عُسْفَانَ، وَهُمْ يَهَابُونَ أَنْ آتِيَهُمْ فَاخْرُجْ فِى عَشَرَةِ فَوَارِسَ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِمْ حَتّى أَتَوْا الْغَمِيمَ، ثُمّ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ هَذَا يَبْلُغُ قُرَيْشًا فَيَذْعَرُهُمْ وَيَخَافُونَ أَنْ نَكُونَ نُرِيدُهُمْ”، وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِىّ يَوْمَئِذٍ فِى أَيْدِيهِمْ، فَبَلَغَ قُرَيْشًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ بَلَغَ الْغَمِيمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَتَى مُحَمّدٌ الْغَمِيمَ إلاّ يُرِيدُ أَنْ يُخَلّصَ خُبَيْبًا. وَكَانَ خُبَيْبٌ وَصَاحِبَاهُ فِى حَدِيدٍ مُوثَقِينَ، فَجَعَلُوا فِى رِقَابِهِمْ الْجَوَامِعَ، وَقَالُوا: قَدْ بَلَغَ مُحَمّدٌ ضَجْنَانَ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْنَا فَدَخَلَتْ مَاوِيّةُ عَلَى خُبَيْبٍ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، وَقَالَتْ: هَذَا صَاحِبُك قَدْ بَلَغَ ضَجْنَانَ يُرِيدُكُمْ، فَقَالَ خُبَيْبٌ: وَهَلْ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ خُبَيْبٌ: يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ، قَالَتْ: وَاَللّهِ مَا يَنْتَظِرُونَ بِك إلاّ أَنْ يَخْرُجَ الشّهْرُ الْحَرَامُ وَيُخْرِجُوك فَيَقْتُلُوك، وَيَقُولُونَ: أَتَرَى مُحَمّدًا غَزَانَا فِى الشّهْرِ الْحَرَامِ، وَنَحْنُ لا نَسْتَحِلّ أَنْ نَقْتُلَ صَاحِبَهُ فِى الشّهْرِ الْحَرَامِ؟ وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُمْ وَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْهِمْ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقُولُ: “آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِى السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الأَهْلِ اللّهُمّ أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِى الأَهْلِ وَالْمَالِ اللّهُمّ بَلّغْنَا بَلاغًا صَالِحًا يَبْلُغُ إلَى خَيْرٍ مَغْفِرَةً مِنْك وَرِضْوَانًا”. وَغَابَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتّ فِى الْمُحَرّمِ، وَهَذَا أَوّلُ مَا قَالَ هَذَا الدّعَاءَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا كُلّهُمْ.

  • * *


غَزْوَةُ الْغَابَةِ حَدّثَنِى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَغَارَ عُيَيْنَةُ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لِثَلاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتّ وَغَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى طَلَبِهِ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فَغِبْنَا خَمْسَ لَيَالٍ وَرَجَعْنَا لَيْلَةَ الاثْنَيْنِ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، وَعَلِىّ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُمْ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى بِطَائِفَةٍ، قَالُوا: كَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللّهِ ÷ عِشْرِينَ لِقْحَةً، وَكَانَتْ مِنْ شَتّى، مِنْهَا مَا أَصَابَ فِى ذَاتِ الرّقَاعِ، وَمِنْهَا مَا قَدِمَ بِهِ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ نَجْدٍ، وَكَانَتْ تَرْعَى الْبَيْضَاءَ وَدُونَ الْبَيْضَاءِ، فَأَجْدَبَ مَا هُنَاكَ فَقَرّبُوهَا إلَى الْغَابَةِ، تُصِيبُ مِنْ أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا وَتَغْدُو فِى الشّجَرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: الْغَادِيَةُ تَغْدُو فِى الْعِضَاهِ أُمّ غَيْلانَ وَغَيْرِهَا، وَالْوَاضِعَةُ الإِبِلُ تَرْعَى الْحَمْضَ؛ وَالأَوَارِكُ الّتِى تَرْعَى الأَرَاكَ، فَكَانَ الرّاعِى يَئُوبُ بِلَبَنِهَا كُلّ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَغْرِبِ. وَكَانَ أَبُو ذَرّ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ ÷ إلَى لِقَاحِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى أَخَافُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الضّاحِيَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْك، وَنَحْنُ لا نَأْمَنُ مِنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَذَوِيهِ هِىَ فِى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِمْ”، فَأَلَحّ عَلَيْهِ أَبُو ذَرّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ائْذَنْ لِى، فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَكَأَنّى بِك، قَدْ قُتِلَ ابْنُك، وَأُخِذَتْ امْرَأَتُك، وَجِئْت تَتَوَكّأُ عَلَى عَصَاك”. فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: عَجَبًا لِى إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “لَكَأَنّى بِك”، وَأَنَا أُلِحّ عَلَيْهِ، فَكَانَ وَاَللّهِ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷. وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: لَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ السّرْحِ جَعَلَتْ فَرَسِى سَبْحَةً لا تَقِرّ ضَرْبًا بِأَيْدِيهَا وَصَهِيلاً، فَيَقُولُ أَبُو مَعْبَدٍ: وَاَللّهِ إنّ لَهَا شَأْنًا فَنَنْظُرُ آرِيّهَا فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ عَلَفًا، فَيَقُولُ: عَطْشَى فَيَعْرِضُ الْمَاءَ عَلَيْهَا فَلا تُرِيدُهُ فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَسْرَجَهَا وَلَبِسَ سِلاحَهُ. وَخَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَدَخَلَ النّبِىّ ÷ بَيْتَهُ وَرَجَعَ الْمِقْدَادُ إلَى بَيْتِهِ وَفَرَسُهُ لا تَقِرّ، فَوَضَعَ سَرْجَهَا وَسِلاحَهُ وَاضْطَجَعَ وَجَعَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إنّ الْخَيْلَ قَدْ صِيحَ بِهَا، فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: وَاَللّهِ إنّا لَفِى مَنْزِلِنَا، وَلِقَاحُ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ رُوّحَتْ وَعُطّنَتْ وَحُلِبَتْ عَتَمَتُهَا وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ فِى اللّيْلِ أَحْدَقَ بِنَا عُيَيْنَةُ فِى أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَصَاحُوا بِنَا وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى رُءُوسِنَا، فَأَشْرَفَ لَهُمْ ابْنِى فَقَتَلُوهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ وَثَلاثَةُ نَفَرٍ فَنَجَوْا، وَتَنَحّيْت عَنْهُمْ وَشَغَلَهُمْ عَنّى إطْلاقُ عُقُلِ اللّقَاحِ، ثُمّ صَاحُوا فِى أَدْبَارِهَا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَا. وَجِئْت إلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرْته، وَهُوَ يَتَبَسّمُ، فَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، يَقُولُ: غَدَوْت أُرِيدُ الْغَابَةَ لِلِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ ÷، لأَنْ أُبَلّغَهُ لَبَنَهَا، حَتّى أَلْقَى غُلامًا لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ فِى إبِلٍ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَأَخْطَئُوا مَكَانَهَا وَاهْتَدَوْا إلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَأَخْبَرَنِى أَنّ لِقَاحَ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ ابْنُ حِصْنٍ فِى أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَأَخْبَرَنِى أَنّهُمْ قَدْ رَأَوْا مَدَدًا بَعْدَ ذَلِكَ أُمِدّ بِهِ عُيَيْنَةُ. قَالَ سَلَمَةُ: فَأَحْضَرْت فَرَسِى رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى وَافَيْت عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ فَصَرَخْت بِأَعْلَى صَوْتِى: يَا صَبَاحَاهُ ثَلاثًا، أُسْمِعُ مَنْ بَيْنَ لابَتَيْهَا. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ نَادَى: الْفَزَعَ الْفَزَعَ ثَلاثًا، ثُمّ وَقَفَ وَاقِفًا عَلَى فَرَسِهِ حَتّى طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْحَدِيدِ مُقَنّعًا فَوَقَفَ وَاقِفًا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ أَقْبَلَ إلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِوَاءً فِى رُمْحِهِ، وَقَالَ: “امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ إنّا عَلَى أَثَرِك”. قَالَ الْمِقْدَادُ: فَخَرَجْت وَأَنَا أَسْأَلُ اللّهَ الشّهَادَةَ حَتّى أُدْرِكَ أُخْرَيَاتِ الْعَدُوّ وَقَدْ أَذَمّ بِهِمْ فَرَسٌ لَهُمْ فَاقْتَحَمَ فَارِسُهُ، وَرَدَفَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ فَآخُذُ الْفَرَسَ الْمُذِمّ، فَإِذَا هُوَ ضَرَعٌ أَشْقَرُ عَتِيقٌ لَمْ يَقْوَ عَلَى الْعَدْوِ، وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَقْصَى الْغَابَةِ، فَحَسِرَ فَأَرْبِطُ فِى عُنُقِهِ قِطْعَةَ وَتَرٍ وَأُخَلّيهِ، وَقُلْت: إنْ مَرّ بِهِ أَحَدٌ فَأَخَذَهُ جِئْته بِعَلامَتِى فِيهِ. فَأُدْرِكُ مَسْعَدَةَ فَأَطْعَنُهُ بِرُمْحٍ فِيهِ اللّوَاءُ، فَزَلّ الرّمْحُ وَعَطَفَ عَلَىّ بِوَجْهِهِ فَطَعَنَنِى وَآخُذُ الرّمْحَ بِعَضُدِى فَكَسَرْته، وَأَعْجَزَنِى هَرَبًا، وَأَنْصِبُ لِوَائِى فَقُلْت: يَرَاهُ أَصْحَابِى، وَيَلْحَقُنِى أَبُو قَتَادَةَ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَسَايَرْته سَاعَةً، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى دُبُرِ مَسْعَدَةَ، فَاسْتَحَثّ فَرَسَهُ فَتَقَدّمَ عَلَى فَرَسِى، فَبَانَ سَبْقُهُ فَكَانَ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِى حَتّى غَابَ عَنّى فَلا أَرَاهُ. ثُمّ أَلْحَقُهُ فَإِذَا هُوَ يَنْزِعُ بُرْدَتَهُ فَصِحْت: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: خَيْرًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعْت بِالْفَرَسِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ قَتَلَ مَسْعَدَةَ وَسَجّاهُ بِبُرْدَةٍ. وَرَجَعْنَا فَإِذَا فَرَسٌ فِى يَدِ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ الْحَارِثِىّ، فَقُلْت: فَرَسِى هَذَا وَعَلامَتِى فِيهِ فَقَالَ: تَعَالَ إلَى النّبِىّ فَجَعَلَهُ مَغْنَمًا. وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ عَلَى رِجْلَيْهِ يَعْدُو لِيَسْبِقَ الْخَيْلَ مِثْلَ السّبُعِ، قَالَ سَلَمَةُ: حَتّى لَحِقْت الْقَوْمَ فَجَعَلْت أَرْمِيهِمْ بِالنّبْلِ، وَأَقُولُ حِينَ أَرْمِى خُذْهَا مِنّى وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ فَتَكِرّ عَلَىّ خَيْلٌ مِنْ خَيْلِهِمْ، فَإِذَا وُجّهَتْ نَحْوِى انْطَلَقْت هَارِبًا فَأَسْبِقُهَا، وَأَعْمِدُ إلَى الْمَكَانِ الْمُعْوِرِ، فَأُشْرِفُ عَلَيْهِ وَأَرْمِى بِالنّبْلِ إذَا أَمْكَنَنِى الرّمْىُ وَأَقُولُ: وَالْيَــــوْمُ يَــــــوْمُ الرّضّــــعْ خُـــــذْهَا وَأَنَـــا ابْــنُ الأَكْــوَعِ

فَمَا زِلْت أَكَافِحُهُمْ وَأَقُولُ: قِفُوا قَلِيلاً، يَلْحَقْكُمْ أَرْبَابُكُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. فَيَزْدَادُونَ عَلَىّ حَنَقًا فَيَكِرّونَ عَلَىّ فَأُعْجِزُهُمْ هَرَبًا حَتّى انْتَهَيْت بِهِمْ إلَى ذِى قَرَدٍ. وَلَحِقَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَالْخُيُولُ عِشَاءً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ دُونَ أَحْسَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ بَعَثْتنِى فِى مِائَةِ رَجُلٍ اسْتَنْفَذْت مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ السّرْحِ وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَلَكْت فَأَسْجِحْ”، ثُمّ قَالَ النّبِىّ ÷: “إنّهُمْ لَيُقْرَوْنَ فِى غَطَفَانَ”. فَحَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى جَهْمٍ، قَالَ: تَوَافَتْ الْخَيْلُ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ - الْمِقْدَادُ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِىّ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ. حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلاثَةٌ: الْمِقْدَادُ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمِنْ الأَنْصَارِ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِىّ فَارِسُ جُلْوَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَأَبُو قَتَادَةَ. قَالَ أَبُو عَيّاشٍ: أَطْلُعُ عَلَى فَرَسٍ لِى، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَتَبِعَ الْخُيُولَ”، فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَفْرَسُ النّاسِ فَرَكَضْته، فَمَا جَرَى بِى خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى صَرَعَنِى الْفَرَسُ. فَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ يَقُولُ: فَعَجَبًا إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك هَذَا مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك” وَأَقُولُ: أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ. قَالُوا: وَذَهَبَ الصّرِيخُ إلَى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَتْ الأَمْدَادُ، فَلَمْ تَزَلْ الْخَيْلُ تَأْتِى، وَالرّجَالُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَالإِبِلِ، وَالْقَوْمُ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ وَالْحِمَارَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِذِى قَرَدٍ، فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لَقَائِحَ، وَأَفْلَتْ الْقَوْمُ بِمَا بَقِىَ وَهِىَ عَشْرٌ. وَكَانَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ حَلِيفًا فِى عَبْدِ الأَشْهَلِ فَلَمّا نَادَى الصّرِيخُ: “الْفَزَعَ الْفَزَعَ” كَانَ فَرَسٌ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، يُقَالُ لَهُ: ذُو اللّمّةِ مَرْبُوطًا فِى الْحَائِطِ، فَلَمّا سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ صَهَلَ وَجَالَ فِى الْحَائِطِ فِى شَطَنِهِ، فَقَالَ لَهُ النّسَاءُ: هَلْ لَك يَا مُحْرِزُ فِى هَذَا الْفَرَسِ، فَإِنّهُ كَمَا تَرَى صَنِيعٌ جَامّ تَرْكَبُهُ فَتَلْحَقُ اللّوَاءَ؟ وَهُوَ يَرَى رَايَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ مُرّ بِهَا الْعُقَابَ يَحْمِلُهَا سَعْدٌ. قَالُوا: فَخَرَجَ فَجَزِعَ وَقَطَعَ وَادِىَ قَنَاةَ فَسَبَقَ الْمِقْدَادَ، فَيُدْرِكُ الْقَوْمَ بِهَيْقَا فَاسْتَوْقَفَهُمْ فَوَقَفُوا، فَطَاعَنَهُمْ سَاعَةً بِالرّمْحِ وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ مَسْعَدَةُ فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَدَقّهُ فِى صُلْبِهِ وَتَنَاوَلَ رُمْحَ مُحْرِزٍ وَعَارَ فَرَسُهُ حَتّى رَجَعَ إلَى آرِيّهِ فَلَمّا رَآهُ النّسَاءُ وَأَهْلُ الدّارِ قَالُوا: قَدْ قُتِلَ. وَيُقَالُ: كَانَ مُحْرِزٌ عَلَى فَرَسٍ كَانَ لِعُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُدْعَى الْجَنَاحَ قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: الّذِى قَتَلَ مُحْرِزَ بْنَ نَضْلَةَ أَوْثَارٌ وَأَقْبَلَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَيُدْرِكُ أَوْثَارًا، فَتَوَاقَفَا فَتَطَاعَنَا حَتّى انْكَسَرَتْ رِمَاحُهُمَا، ثُمّ صَارَا إلَى السّيْفَيْنِ فَشَدّ عَلَيْهِ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَعَانَقَهُ ثُمّ طَعَنَهُ بِخَنْجَرٍ مَعَهُ فَمَاتَ. وَحَدّثَنِى عُمَرُ بْنُ أَبِى عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُمَا يُقَالُ لَهُ: الْفُرُطُ رَدِيفَيْنِ عَلَيْهِ قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَحَدّثَنِى زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمّ عَامِرِ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ، قَالَتْ: كُنْت مِمّنْ حَضّ مُحْرِزًا عَلَى اللّحُوقِ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَوَاَللّهِ إنّا لَفِى أُطُمِنَا نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْغُبَارِ إذْ أَقْبَلَ ذُو اللّمّةِ فَرَسُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، حَتّى انْتَهَى إلَى آرِيّهِ، فَقُلْت: أُصِيبَ وَاَللّهِ فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرَسِ رَجُلاً مِنْ الْحَىّ فَقُلْنَا: أَطْلِعْ لَنَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ أَصَابَهُ إلاّ خَيْرٌ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْنَا سَرِيعًا. قَالَ: فَخَرَجَ مُحْضِرًا حَتّى لَحِقَ رَسُولَ اللّهِ ÷ بِهَيْقَا فِى النّاسِ، ثُمّ رَجَعَ فَأَخْبَرَنَا بِسَلامَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَحَمِدْنَا اللّهَ تَعَالَى عَلَى سَلامَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: قَالَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ: قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِىَ الْقَوْمَ بِيَوْمٍ رَأَيْت السّمَاءَ فُرّجَتْ لِى، فَدَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا حَتّى انْتَهَيْت إلَى السّابِعَةِ وَانْتَهَيْت إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَقِيلَ لِى: هَذَا مَنْزِلُك. فَعَرَضْتهَا عَلَى أَبِى بَكْرٍ وَكَانَ مِنْ أَعْبَرِ النّاسِ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِالشّهَادَةِ، فَقُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ. وَحَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أُمّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إنّى لأَغْسِلُ رَأْسِى، قَدْ غَسَلْت أَحَدَ شِقّيْهِ إذْ سَمِعْت فَرَسِى جَرْوَةَ تَصْهَلُ وَتَبْحَثُ بِحَافِرِهَا، فَقُلْت: هَذِهِ حَرْبٌ قَدْ حَضَرَتْ فَقُمْت وَلَمْ أَغْسِلْ شِقّ رَأْسِى الآخَرَ فَرَكِبْت وَعَلَىّ بُرْدَةٌ لِى، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَصِيحُ الْفَزَعَ الْفَزَعَ، قَالَ: وَأُدْرِكُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو فَسَايَرْته سَاعَةً، ثُمّ تَقَدّمَهُ فَرَسِى وَكَانَتْ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَنِى الْمِقْدَادُ - وَكَانَ سَبَقَنِى - بِقَتْلِ مَسْعَدَةَ مُحْرِزًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ لِلْمِقْدَادِ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ أَنَا أَمَوْتُ، أَوْ أَقْتُلُ قَاتِلَ مُحْرِزٍ، فَضَرَبَ فَرَسَهُ فَلَحِقَهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَوَقَفَ لَهُ مَسْعَدَةُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو قَتَادَةَ بِالْقَنَاةِ فَدَقّ صُلْبَهُ وَيَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْخَزْرَجِىّ وَوَقَعَ مَسْعَدَةُ مَيّتًا، وَنَزَلَ أَبُو قَتَادَةَ فَسَجّاهُ بِبُرْدَتِهِ، وَجَنّبَ فَرَسَهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ يُحْضِرُ فِى أَثَرِ الْقَوْمِ حَتّى تَلاحَقَ النّاسُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا مَرّ النّاسُ وَنَظَرُوا إلَى بُرْدَةِ أَبِى قَتَادَةَ عَرَفُوهَا، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو قَتَادَةَ قَتِيلٌ وَاسْتَرْجَعَ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا، وَلَكِنّهُ قَتِيلُ أَبِى قَتَادَةَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ قَتِيلُهُ، فَخَلّوا بَيْنَ أَبِى قَتَادَةَ وَبَيْنَ قَتِيلِهِ وَسَلَبِهِ وَفَرَسِهِ”، فَأَخَذَهُ كُلّهُ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَخَذَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “لا وَاَللّهِ أَبُو قَتَادَةَ قَتَلَهُ ادْفَعْهُ إلَيْهِ”. فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِى قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا أَدْرَكَنِى النّبِىّ ÷ يَوْمَئِذٍ وَنَظَرَ إلَىّ، قَالَ: “اللّهُمّ بَارِكْ لَهُ فِى شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ”، وَقَالَ: “أَفْلَحَ وَجْهُك”، قُلْت: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: “قَتَلْت مَسْعَدَةَ”؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هَذَا الّذِى بِوَجْهِك؟ قُلْت: سَهْمٌ رُمِيت بِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “فَادْنُ مِنّى” فَدَنَوْت مِنْهُ فَبَصَقَ عَلَيْهِ فَمَا ضَرَبَ عَلَيْهِ قَطّ وَلا قَاحَ، فَمَاتَ أَبُو قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً وَكَأَنّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: وَأَعْطَانِى يَوْمَئِذٍ فَرَسَ مَسْعَدَةَ وَسِلاحَهُ، وَقَالَ: بَارَكَ اللّهُ لَك فِيهِ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِىّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ السّرْحِ أَتَانَا الصّرِيخُ فَأَنَا فِى بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَأَلْبَسُ دِرْعِى وَأَخَذْت سِلاحِى، وَأَسْتَوِى عَلَى فَرَسٍ لِى جَامّ حِصَانٍ يُقَالُ لَهُ: النّجْلُ فَأَنْتَهِى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ لا أَرَى إلاّ عَيْنَيْهِ وَالْخَيْلُ تَعْدُو قِبَلَ قَنَاةَ، فَالْتَفَتَ إلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا سَعْدُ امْضِ قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى الْخَيْلِ حَتّى أَلْحَقَك إنْ شَاءَ اللّهُ. فَقَرّبْت فَرَسِى سَاعَةً ثُمّ خَلّيْته فَمَرّ يُحْضِرُ فَأَمُرّ بِفَرَسٍ حَسِيرٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا؟ وَأَمُرّ بِمَسْعَدَةَ قَتِيلِ أَبِى قَتَادَةَ، وَأَمُرّ بِمُحْرِزٍ قَتِيلاً فَسَاءَنِى، وَأَلْحَقُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَمُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ فَأَحْضَرْنَا وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْقَوْمِ وَأَبُو قَتَادَةَ فِى أَثَرِهِمْ وَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ الأَكْوَعِ يَسْبِقُ الْخَيْلَ أَمَامَ الْقَوْمِ يَرْشُقُهُمْ بِالنّبْلِ فَوَقَفُوا وَقْفَةً وَنَلْحَقُ بِهِمْ فَتَنَاوَشْنَا سَاعَةً وَأَحْمِلُ عَلَى حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ بِالسّيْفِ فَأَقْطَعُ مَنْكِبَهُ الأَيْسَرَ وَخَلّى الْعِنَانَ وَتَتَايَعَ فَرَسُهُ فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ وَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَأَخَذْت فَرَسَهُ. وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ وَقَدْ سَمِعْنَا فِى قَتْلِ حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجْهًا آخَرَ. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا تَلاحَقُوا هُمْ وَالْعَدُوّ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَخَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ فِى وَجْهِهِ فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ مَسْعَدَةَ، وَقُتِلَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَإِنّ حُبَيْبَ بْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ هُوَ وَفَرَقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، قَتَلَهُمْ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، قَالُوا: وَتَلاحَقَ النّاسُ بِذِى قَرَدٍ، وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ صَلاةَ الْخَوْفِ. فَحَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى جَهْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْقِبْلَةِ وَصَفّ طَائِفَةً خَلْفَهُ وَطَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوّ فَصَلّى بِالطّائِفَةِ الّتِى خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ وَأَقْبَلَ الآخَرُونَ فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ رَكْعَتَانِ وَلِكُلّ رَجُلٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ. حَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَبِى الرّجَالِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَارَةَ ابْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِذِى قَرَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسّبُ الْخَبَرَ، وَقَسَمَ فِى كُلّ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا، وَكَانُوا خَمْسَمِائَةٍ وَيُقَالُ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ. قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَأَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِى ثَلاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ خَمْسَ لَيَالٍ، حَتّى رَجَعَ النّبِىّ ÷ وَبَعَثَ إلَى النّبِىّ ÷ بِأَحْمَالِ تَمْرٍ وَبِعَشَرَةِ جَزَائِرَ بِذِى قَرَدٍ. وَكَانَ فِى النّاسِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، وَكَانَ هُوَ الّذِى قَرّبَ الْجُزُرَ وَالتّمْرَ إلَى النّبِىّ ÷، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا قَيْسُ، بَعَثَك أَبُوك فَارِسًا، وَقَوّى الْمُجَاهِدِينَ وَحَرَسَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْعَدُوّ اللّهُمّ ارْحَمْ سَعْدًا وَآلَ سَعْدٍ”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نِعْمَ الْمَرْءُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ”، فَتَكَلّمَتْ الْخَزْرَجُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ بَيْتُنَا وَسَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا كَانُوا يُطْعِمُونَ فِى الْمَحْلِ، وَيَحْمِلُونَ الْكَلّ وَيَقْرُونَ الضّيْفَ، وَيُعْطُونَ فِى النّائِبَةِ، وَيَحْمِلُونَ عَنْ الْعَشِيرَةِ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “خِيَارُ النّاسِ فِى الإِسْلامِ خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيّةِ إذَا فَقُهُوا فِى الدّينِ”، وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بِئْرِ هَمّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا تُسَمّى بِئْرَ هَمّ؟ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “لا وَلَكِنْ يَشْتَرِيهَا بَعْضُكُمْ فَيَتَصَدّقُ بِهَا”، فَاشْتَرَاهَا طَلْحَةُ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فَتَصَدّقَ بِهَا. حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادَ حَتّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِذِى قَرَدٍ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبِيدِ اللّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِى مَالِكٍ قَالَ كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَمِيرَ الْقَوْمِ وَقَالَ لِحَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ: أَرَأَيْت حَيْثُ جَعَلْت الْمِقْدَادَ رَأْسَ السّرِيّةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ اسْتَعْمَلَنِى عَلَى السّرِيّةِ وَإِنّك لَتَعْلَمُ لَقَدْ نَادَى الصّرِيخُ الْفَزَعَ فَكَانَ الْمِقْدَادُ أَوّلَ مَنْ طَلَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ”، فَمَضَى أَوّلُ ثُمّ تَوَافَيْنَا بَعْدُ عِنْدَ النّبِىّ ÷ وَقَدْ مَضَى الْمِقْدَادُ أَوّلَنَا، فَاسْتَعْمَلَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى السّرِيّةِ. فَقَالَ حَسّانٌ: يَا ابْنَ عَمّ وَاَللّهِ مَا أَرَدْت إلاّ الْقَافِيَةَ حَيْثُ قُلْت: غَدَاةَ فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ... فَحَلَفَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَلاّ يُكَلّمَ حَسّانًا أَبَدًا. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ أَمِيرَهُمْ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِىّ. قَالَ: وَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ أَقْبَلَتْ امْرَأَةُ أَبِى ذَرّ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ الْقَصْوَاءِ وَكَانَتْ فِى السّرْحِ فَكَانَ فِيهَا جَمَلُ أَبِى جَهْلٍ فَكَانَ مِمّا تَخَلّصَهُ الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَتْهُ مِنْ أَخْبَارِ النّاسِ، ثُمّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى نَذَرْت إنْ نَجَانِى اللّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا فَآكُلَ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷ وَقَالَ: “بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللّهُ عَلَيْهَا وَنَجّاك ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لا نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلا فِيمَا لا تَمْلِكِينَ إنّمَا هِىَ نَاقَةٌ مِنْ إبِلِى فَارْجِعِى إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ”. حَدّثَنِى فَائِدٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَلِىّ، عَنْ جَدّتِهِ سَلْمَى، قَالَتْ: نَظَرْت إلَى لَقُوحٍ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ يُقَالُ لَهَا: السّمْرَاءُ فَعَرَفْتهَا فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقُلْت: هَذِهِ لِقْحَتُك السّمْرَاءُ عَلَى بَابِك، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُسْتَبْشِرًا، وَإِذَا رَأْسُهَا بِيَدِ ابْنِ أَخِى عُيَيْنَةَ، فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَرَفَهَا، ثُمّ قَالَ: “أَيْمَ بِك”؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَهْدَيْت لَك هَذِهِ اللّقْحَةَ، فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷ وَقَبَضَهَا مِنْهُ ثُمّ أَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَمَرَ لَهُ بِثَلاثِ أَوَاقٍ مِنْ فِضّةٍ فَجَعَلَ يَتَسَخّطُ، قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُثِيبُهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَىّ”، ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ، ثُمّ صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: إنّ الرّجُلَ لَيُهْدِى لِى النّاقَةَ مِنْ إبِلِى أَعْرِفُهَا كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِى، ثُمّ أُثِيبُهُ عَلَيْهَا فَيَظَلّ يَتَسَخّطُ عَلَىّ وَلَقَدْ هَمَمْت أَلاّ أَقْبَلَ هَدِيّةً إلاّ مِنْ قُرَشِىّ أَوْ أَنْصَارِىّ - وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ ثَقَفِىّ أَوْ دَوْسِىّ”.

  • * *

ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ: مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ قَتَلَهُ مَسْعَدَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: مَسْعَدَةُ بْنُ حَكَمَةَ قَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ؛ وَأَوْثَارٌ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَحُبَيْبُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَتَلَهُ الْمِقْدَادُ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ […....].

  • * *


سَرِيّةُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إلَى الْغَمْرِ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدِ ابْنِ خُزَيْمَةَ يُحَدّثُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عُكّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ فِى أَرْبَعِينَ رَجُلاً - مِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، فَخَرَجَ سَرِيعًا يُغِذّ السّيْرَ وَنَذَرَ الْقَوْمَ فَهَرَبُوا مِنْ مَائِهِمْ فَنَزَلُوا عَلْيَاءَ بِلادِهِمْ فَانْتَهَى إلَى الْمَاءِ فَوَجَدَ الدّارَ خُلُوفًا، فَبَعَثَ الطّلائِعَ يَطْلُبُونَ خَبَرًا أَوْ يَرَوْنَ أَثَرًا حَدِيثًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ رَأَى أَثَرَ نَعَمٍ قَرِيبًا، فَتَحَمّلُوا فَخَرَجُوا حَتّى يُصِيبُوا رَبِيئَةً لَهُمْ قَدْ نَظَرَ لَيْلَتَهُ يَسْمَعُ الصّوْتَ فَلَمّا أَصْبَحَ نَامَ فَأَخَذُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالُوا: الْخَبَرَ عَنْ النّاسِ، قَالَ: وَأَيْنَ النّاسُ؟ قَدْ لَحِقُوا بِعَلْيَاءِ بِلادِهِمْ قَالُوا: فَالنّعَمُ؟ قَالَ: مَعَهُمْ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَوْطٍ فِى يَدِهِ، قَالَ: تُؤَمّنُنِى عَلَى دَمِى وَأُطْلِعُك عَلَى نَعَمٍ لِبَنِى عَمّ لَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسِيرِكُمْ إلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَانْطَلَقُوا مَعَهُ فَخَرَجَ حَتّى أَمْعَنَ وَخَافُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ فِى غَدْرٍ فَقَرّبُوهُ فَقَالُوا: وَاَللّهِ لَتَصْدُقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك، قَالَ: تَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الظّرَيْبِ. قَالَ: فَأَوْفَوْا عَلَى الظّرَيْبِ فَإِذَا نَعَمٌ رَوَاتِعُ فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَأَصَابُوهُ وَهَرَبَتْ الأَعْرَابُ فِى كُلّ وَجْهٍ وَنَهَى عُكّاشَةُ عَنْ الطّلَبِ وَاسْتَاقُوا مِائَتَىْ بَعِيرٍ فَحَدَرُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلُوا الرّجُلَ وَقَدِمُوا عَلَى النّبِىّ ÷ وَلَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا.

  • * *





سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إلَى ذِى الْقَصّةِ إلَى بَنِى ثَعْلَبَةَ وَعُوَالٍ فِى رَبِيعٍ الآخِر حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النّبِىّ ÷ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِى عَشَرَةٍ فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً، فَكَمَنَ الْقَوْمُ حَتّى نَامَ وَنَامَ أَصْحَابُهُ فَأَحْدَقُوا بِهِ وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ فَمَا شَعَرَ الْقَوْمُ إلاّ بِالنّبْلِ قَدْ خَالَطَتْهُمْ. فَوَثَبَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَلَيْهِ الْقَوْسُ فَصَاحَ بِأَصْحَابِهِ السّلاحَ فَوَثَبَ فَتَرَامَوْا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ ثُمّ حَمَلَتْ الأَعْرَابُ بِالرّمَاحِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلاثَةً ثُمّ انْحَازَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ إلَيْهِ فَقَتَلُوا مِنْ الْقَوْمِ رَجُلاً، ثُمّ حَمَلَ الْقَوْمُ فَقَتَلُوا مَنْ بَقِىَ. وَوَقَعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَرِيحًا، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلا يَتَحَرّكُ وَجَرّدُوهُمْ مِنْ الثّيَابِ وَانْطَلَقُوا، فَمَرّ رَجُلٌ عَلَى الْقَتْلَى فَاسْتَرْجَعَ فَلَمّا سَمِعَهُ مُحَمّدٌ تَحَرّكَ لَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَعَرَضَ عَلَى مُحَمّدٍ طَعَامًا وَشَرَابًا وَحَمَلَهُ حَتّى وَرَدَ بِهِ الْمَدِينَةَ. فَبَعَثَ النّبِىّ ÷ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِى أَرْبَعِينَ رَجُلاً إلَى مَصَارِعِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَاسْتَاقَ نَعَمًا ثُمّ رَجَعَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: فَذَكَرْت هَذِهِ السّرِيّةَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِى أَبِى أَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ خَرَجَ فِى عَشَرَةِ نَفَرٍ أَبُو نَائِلَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ وَنُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ، وَمُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُوَيّصَةُ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَرَجُلانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقُتِلَ الْمُزَنِيّانِ وَالْغَطَفَانِىّ، وَارْتُثّ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ الْقَتْلَى، قَالَ مُحَمّدٌ: فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى أَحَدِ النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا وَلُوا ضَرْبِى يَوْمَ ذِى الْقَصّةِ فَلَمّا رَآنِى قَالَ: أَسْلَمْت وَجْهِى لِلّهِ فَقُلْت: أَوْلَى.

  • * *



سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى ذِى الْقَصّةِ فِى رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتّ لَيْلَةَ السّبْتِ وَغَابَ لَيْلَتَيْنِ حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الأَشْجَعِىّ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالا: أَجْدَبَتْ بِلادُ بَنِى ثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ، وَوَقَعَتْ سَحَابَةٌ بِالْمَرَاضِ إلَى تَغْلَمَيْنِ، فَصَارَتْ بَنُو مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ إلَى تِلْكَ السّحَابَةِ وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَسَرْحُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَرْعَى بِبَطْنِ هَيْقَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِى أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَلّوْا صَلاةَ الْمَغْرِبِ فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَمْشُونَ حَتّى وَافَوْا ذِى الْقَصّةِ مَعَ عَمَايَةِ الصّبْحِ فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ فَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا فِى الْجِبَالِ وَأَخَذَ رَجُلاً مِنْهُمْ وَوَجَدَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ فَاسْتَاقَهُ وَرِثّةً مِنْ مَتَاعٍ فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ الرّجُلُ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ خَمّسَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَسّمَ مَا بَقِىَ عَلَيْهِمْ.

  • * *






سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ فِى جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ غَزْوَةِ الْغَابَةِ بَلَغَهُ أَنّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ أَقْبَلَتْ مِنْ الشّامِ، فَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِى سَبْعِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ فَأَخَذُوهَا وَمَا فِيهَا. وَأَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِضّةً كَثِيرَةً لِصَفْوَانَ وَأَسَرُوا نَاسًا مِمّنْ كَانَ فِى الْعِيرِ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ. فَأَمّا أَبُو الْعَاصِ فَلَمْ يَغْدُ أَنْ جَاءَ الْمَدِينَةَ، ثُمّ دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ ÷ سَحَرًا، وَهِىَ امْرَأَتُهُ فَاسْتَجَارَهَا فَأَجَارَتْهُ. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الْفَجْرَ قَامَتْ زَيْنَبُ عَلَى بَابِهَا فَنَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ إنّى قَدْ أَجَرْت أَبَا الْعَاصِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيّهَا النّاسُ هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْت”؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: “فَوَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا عَلِمْت بِشَيْءٍ مِمّا كَانَ حَتّى سَمِعْت الّذِى سَمِعْتُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَارَتْ”. فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِىّ ÷ إلَى مَنْزِلِهِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدّ إلَى أَبِى الْعَاصِ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْمَالِ فَفَعَلَ وَأَمَرَهَا أَلاّ يَقْرَبَهَا، فَإِنّهَا لا تَحِلّ لَهُ مَا دَامَ مُشْرِكًا. ثُمّ كَلّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ وَكَانَتْ مَعَهُ بَضَائِعُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَدّوْا إلَيْهِ كُلّ شَيْءٍ حَتّى إنّهُمْ لَيَرُدّونَ الإِدَاوَةَ وَالْحَبْلَ حَتّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ. وَرَجَعَ أَبُو الْعَاصِ إلَى مَكّةَ فَأَدّى إلَى كُلّ ذِى حَقّ حَقّهُ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِىَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لا وَاَللّهِ، قَالَ: فَإِنّى أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت بِالْمَدِينَةِ وَمَا مَنَعَنِى أَنْ أُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ إلاّ أَنْ خَشِيت أَنْ تَظُنّوا أَنّى أَسْلَمْت، لأَنْ أَذْهَبَ بِاَلّذِى لَكُمْ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ فَرَدّ عَلَيْهِ زَيْنَبَ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَيُقَالُ: إنّ هَذِهِ الْعِيرَ كَانَتْ أَخَذَتْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَدَلِيلُهَا فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِىّ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: وَأَمّا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَأَفْلَتْ فَتَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَكّةَ فَأَخَذَ الطّرِيقَ نَفْسَهَا، فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ قَافِلاً فِى سَبْعَةِ نَفَرٍ وَكَانَ الّذِى أَسَرَ الْمُغِيرَةَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَأَقْبَلَ بِهِ حَتّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُمْ مُبْرِدُونَ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: فَأَخْبَرَنِى ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، أَنّ النّبِىّ ÷ قَالَ لَهَا: “احْتَفِظِى بِهَذَا الأَسِيرِ”، وَخَرَجَ النّبِىّ ÷، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَهَوْت مَعَ امْرَأَةٍ أَتَحَدّثُ مَعَهَا، فَخَرَجَ وَمَا شَعَرْت بِهِ فَدَخَلَ النّبِىّ ÷ وَلَمْ يَرَهُ فَقَالَ: “أَيْنَ الأَسِيرُ”؟ فَقُلْت: وَاَللّهِ مَا أَدْرِى، غَفَلْت عَنْهُ وَكَانَ هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: “قَطَعَ اللّهُ يَدَك”، قَالَتْ: ثُمّ خَرَجَ فَصَاحَ بِالنّاسِ فَخَرَجُوا فِى طَلَبِهِ فَأَخَذُوهُ بِالصّوْرَيْنِ فَأُتِىَ بِهِ إلَى النّبِىّ ÷. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَىّ النّبِىّ ÷ وَأَنَا أُقَلّبُ بِيَدِى، فَقَالَ: “مَا لَكِ”؟ فَقُلْت: أَنْظُرُ كَيْفَ تُقْطَعُ يَدِى؛ قَدْ دَعَوْت عَلَىّ بِدَعْوَتِكُمْ، قَالَتْ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمّ قَالَ: “اللّهُمّ إنّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ وَآسَفُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْت عَلَيْهِ بِدَعْوَةٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ رَحْمَةً”.

  • * *







سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ فِى جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى أَسَامّةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِىّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مَنّاحٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ إلَى بَنِى ثَعْلَبَةَ فَخَرَجَ فِى خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، حَتّى إذَا كَانُوا بِالطّرَفِ أَصَابَ نَعَمًا وَشَاءً. وَهَرَبَتْ الأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ سَارَ إلَيْهِمْ فَانْحَدَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى صَبّحَ الْمَدِينَةَ بِالنّعَمِ وَخَرَجُوا فِى طَلَبِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ فَقَدِمَ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا. وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ فِيهَا، وَإِنّمَا غَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أَبِى رُشْدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَنْ حَضَرَ السّرِيّةَ قَالَ: أَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ أَوْ حِسَابُهُمَا مِنْ الْغَنَمِ فَكَانَ كُلّ بَعِيرٍ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ.

  • * *


سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى حِسْمَى فِى جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ دِحْيَةُ الْكَلْبِىّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ قَدْ أَجَازَ دِحْيَةَ بِمَالٍ وَكَسَاهُ كُسًى. فَأَقْبَلَ حَتّى كَانَ بِحِسْمَى، فَلَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ جُذَامٍ فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطّرِيقَ وَأَصَابُوا كُلّ شَيْءٍ مَعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمَدِينَةِ إلاّ بِسَمَلٍ فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَقّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ هَذَا”؟ فَقَالَ: دِحْيَةُ الْكَلْبِىّ، قَالَ: “اُدْخُلْ”، فَدَخَلَ فَاسْتَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَمّا كَانَ مِنْ هِرَقْلَ حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِ ذَلِكَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَقْبَلْت مِنْ عِنْدِهِ حَتّى كُنْت بِحِسْمَى فَأَغَارَ عَلَىّ قَوْمٌ مِنْ جُذَامٍ، فَمَا تَرَكُوا مَعِى شَيْئًا حَتّى أَقْبَلْت بِسَمَلِى، هَذَا الثّوْبَ. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: سَمِعْت شَيْخًا مِنْ سَعْدِ هُذَيْمٍ كَانَ قَدِيمًا يُخْبِرُ، عَنْ أَبِيهِ يَقُولُ إنّ دِحْيَةَ لَمّا أُصِيبَ - أَصَابَهُ الْهُنَيْدُ بْنُ عَارِضٍ وَابْنُهُ عَارِضُ بْنُ الْهُنَيْدِ: وَكَانَا وَاَللّهِ نَكِدَيْنِ مَشْئُومَيْنِ فَلَمْ يُبْقُوا مَعَهُ شَيْئًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِى الضّبَيْبِ فَنَفَرُوا إلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ. فَكَانَ فِيمَنْ نَفَرَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ بْنُ أَبِى جُعَالٍ فِى عَشَرَةِ نَفَرٍ وَكَانَ نُعْمَانُ رَجُلَ الْوَادِى ذَا الْجَلَدِ وَالرّمَايَةِ. فَارْتَمَى النّعْمَانُ وَقُرّةُ بْنُ أَبِى أَصْفَرَ الصّلعِىّ، فَرَمَاهُ قُرّةُ فَأَصَابَ كَعْبَهُ فَأَقْعَدَهُ إلَى الأَرْضِ. ثُمّ انْتَهَضَ النّعْمَانُ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ عَرِيضِ السّرْوَةِ فَقَالَ: خُذْهَا مِنْ الْفَتَى فَخَلّ السّهْمُ فِى رُكْبَتِهِ فَشَنّجَهُ، وَقَعَدَ فَخَلّصُوا لِدِحْيَةَ مَتَاعَهُ فَرَجَعَ بِهِ سَالِمًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ مُوسَى: فَسَمِعْت شَيْخًا آخَرَ يَقُولُ: إنّمَا خَلّصَ مَتَاعَ دِحْيَةَ رَجُلٌ كَانَ صَحِبَهُ مِنْ قُضَاعَةَ، هُوَ الّذِى كَانَ اسْتَنْقَذَ لَهُ كُلّ شَيْءٍ أُخِذَ مِنْهُ رَدّهُ عَلَى دِحْيَةَ، ثُمّ إنّ دِحْيَةَ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِىّ ÷ فَاسْتَسْعَى النّبِىّ ÷ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ فَأَمَرَ النّبِىّ ÷ بِالْمَسِيرِ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَعَهُ. وَقَدْ كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِىّ قَدِمَ عَلَى النّبِىّ ÷ وَافِدًا، فَأَجَازَهُ النّبِىّ ÷ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمّ سَأَلَ النّبِىّ ÷ أَنْ يَكْتُبَ مَعَهُ كِتَابًا، فَكَتَبَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ وَمَنْ ارْتَدّ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ. فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ بِكِتَابِ النّبِىّ ÷ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ وَأَسْرَعُوا، وَنَفَذُوا إلَى مُصَابِ دِحْيَةَ الْكَلْبِىّ فَوَجَدُوا أَصْحَابَهُ قَدْ تَفَرّقُوا. وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ خِلافَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ وَرَدّ مَعَهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِىّ. وَكَانَ زَيْدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ. وَقَدْ اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ كُلّهَا وَوَائِلٌ وَمَنْ كَانَ مِنْ سَلامَات وَبَهْرَاءَ حِينَ جَاءَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكِتَابِ النّبِىّ ÷ حَتّى نَزَلُوا - الرّجَالُ وَرِفَاعَةُ - بِكُرَاعِ رُؤَيّةَ لَمْ يُعْلَمْ. وَأَقْبَلَ الدّلِيلُ الْعُذْرِىّ بِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حَتّى هَجَمَ بِهِمْ فَأَغَارُوا مَعَ الصّبْحِ عَلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ وَمَنْ كَانَ فِى مَحَلّتِهِمْ فَأَصَابُوا مَا وَجَدُوا، وَقَتَلُوا فِيهِمْ فَأَوْجَعُوا، وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَأَخَذُوا مِنْ النّعَمِ أَلْفَ بَعِيرٍ وَمِنْ الشّاءِ خَمْسَةَ آلافِ شَاةٍ وَمِنْ السّبْىِ مِائَةً مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَكَانَ الدّلِيلُ إنّمَا جَاءَ بِهِمْ مِنْ قِبَلِ الأَوْلاجِ، فَلَمّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ الضّبَيْبُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَكِبُوا، فَكَانَ فِيمَنْ رَكِبَ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ وَابْنُهُ فَدَنَوْا مِنْ الْجَيْشِ وَتَوَاصَوْا لا يَتَكَلّمُ أَحَدٌ إلاّ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلامَةٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ قَالَ: قَوَدِى، فَلَمّا طَلَعُوا عَلَى الْعَسْكَرِ طَلَعُوا عَلَى الدّهْمِ مِنْ السّبْىِ وَالنّعَمِ وَالنّسَاءِ وَالأُسَارَى أَقْبَلُوا جَمِيعًا، وَاَلّذِى يَتَكَلّمُ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ يَقُولُ: إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ عَارِضٌ رُمْحَهُ فَأَقْبَلَ يَسُوقُهُمْـ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: قَوَدِى، فَقَالَ حِبّانُ: مَهْلاً فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى زَيْدِ ابْنِ حَارِثَةَ قَالَ لَهُ حِبّانُ: إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. قَالَ لَهُ زَيْدٌ: اقْرَأْ أُمّ الْكِتَابِ وَكَانَ زَيْدٌ إنّمَا يَمْتَحِنُ أَحَدَهُمْ بِأُمّ الْكِتَابِ لا يَزِيدُهُ. فَقَرَأَ حِبّانُ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: نَادُوا فِى الْجَيْشِ إنّهُ قَدْ حَرُمَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُمْ بِقِرَاءَةِ أُمّ الْكِتَابِ. فَرَجَعَ الْقَوْمُ وَنَهَاهُمْ زَيْدٌ أَنْ يَهْبِطُوا وَادِيَهُمْ الّذِى جَاءُوا مِنْهُ فَأَمْسَوْا فِى أَهْلِيهِمْ وَهُمْ فِى رَصَدٍ لِزَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ فَاسْتَمَعُوا حَتّى نَامَ أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَلَمّا هَدَءُوا وَنَامُوا رَكِبُوا إلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَكَانَ فِى الرّكْبِ فِى تِلْكَ اللّيْلَةِ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو أَسَمَاءَ بْنُ عَمْرٍو، وَسُوَيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ وَبَرْذَعُ بْنُ زَيْدٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ عَدِىّ - حَتّى صَبّحُوا رِفَاعَةَ بِكُرَاعِ رُؤَيّةَ بِحَرّةِ لَيْلَى، فَقَالَ حِبّانُ: إنّك لَجَالِسٌ تَحْلُبُ الْمِعْزَى وَنِسَاءُ جُذَامٍ أُسَارَى. فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ حَتّى قَدِمُوا عَلَى النّبِىّ ÷ الْمَدِينَةَ - سَارُوا ثَلاثًا - فَابْتَدَاهُمْ رِفَاعَةُ فَدَفَعَ إلَى النّبِىّ ÷ كِتَابَهُ الّذِى كَتَبَ مَعَهُ فَلَمّا قَرَأَ كِتَابَهُ اسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟ فَقَالَ رِفَاعَةُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْتَ أَعْلَمُ لا تُحَرّمُ عَلَيْنَا حَلالاً وَلا تُحِلّ لَنَا حَرَامًا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ كَانَ حَيّا، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَىّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ النّبِىّ ÷: “صَدَقَ أَبُو زَيْدٍ”، قَالَ الْقَوْمُ: فَابْعَثْ مَعَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ رَجُلاً إلَى زَيْدِ ابْنِ حَارِثَةَ، يُخَلّى بَيْنَنَا وَبَيْنَ حَرَمِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “انْطَلِقْ مَعَهُمْ يَا عَلِىّ” فَقَالَ عَلِىّ: يَا رَسُولَ اللّهِ لا يُطِيعُنِى زَيْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا سَيْفِى فَخُذْهُ”، فَأَخَذَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ مَعِى بَعِيرٌ أَرْكَبُهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا بَعِيرٌ فَرَكِبَ بَعِيرَ أَحَدِهِمْ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ حَتّى لَقُوا رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ بَشِيرَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِ الْقَوْمِ فَرَدّهَا عَلِىّ عَلَى الْقَوْمِ، وَرَجَعَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ رَدِيفًا حَتّى لَقُوا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِالْفَحْلَتَيْنِ فَلَقِيَهُ عَلِىّ، وَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ يَأْمُرُك أَنْ تَرُدّ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ مَا كَانَ بِيَدِك مِنْ أَسِيرٍ أَوْ سَبْىٍ أَوْ مَالٍ. فَقَالَ زَيْدٌ: عَلامَةً مِنْ رَسُولِ اللّهِ، فَقَالَ عَلِىّ: هَذَا سَيْفُهُ فَعَرَفَ زَيْدٌ السّيْفَ فَنَزَلَ فَصَاحَ بِالنّاسِ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ سَبْىٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَرُدّهُ فَهَذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ. فَرَدّ إلَى النّاسِ كُلّ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ حَتّى إنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَ الْمَرْأَةَ مِنْ تَحْتِ فَخِذِ الرّجُلِ. حَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ يُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ الدّيلِىّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت فِى تِلْكَ السّرِيّةِ فَصَارَ لِكُلّ رَجُلٍ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ وَسَبْعُونَ شَاةً وَيَصِيرُ لَهُ مِنْ السّبْىِ الْمَرْأَةُ وَالْمَرْأَتَانِ فَوَطِئُوا بِالْمِلْكِ بَعْدَ الاسْتِبْرَاءِ حَتّى رَدّ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذَلِكَ كُلّهُ إلَى أَهْلِهِ وَكَانَ قَدْ فَرّقَ وَبَاعَ مِنْهُ.

  • * *











سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنُ قَمّادِينَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: وَتَجَهّزْ فَإِنّى بَاعِثُك فِى سَرِيّةٍ مِنْ يَوْمِك هَذَا، أَوْ مِنْ غَدٍ إنْ شَاءَ اللّهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْت ذَلِكَ فَقُلْت: لأَدْخُلَنّ فَلأُصَلّيَنّ مَعَ النّبِىّ الْغَدَاةَ فَلأَسْمَعَنّ وَصِيّتَهُ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: فَغَدَوْت فَصَلّيْت فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَنَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ مِنْ اللّيْلِ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَيَدْعُوَهُمْ إلَى الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لِعَبْدِ الرّحْمَنِ مَا خَلّفَك عَنْ أَصْحَابِك”؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَدْ مَضَى أَصْحَابُهُ فِى السّحَرِ فَهُمْ مُعَسْكِرُونَ بِالْجُرْفِ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِى بِك، وَعَلَىّ ثِيَابُ سَفَرِى، قَالَ: وَعَلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عِمَامَةٌ قَدْ لَفّهَا عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَدَعَاهُ النّبِىّ ÷ فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَقَضَ عِمَامَتَهُ بِيَدِهِ، ثُمّ عَمّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ فَأَرْخَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: “هَكَذَا فَاعْتَمّ يَا ابْنَ عَوْفٍ”، قَالَ: وَعَلَى ابْنِ عَوْفٍ السّيْفُ مُتَوَشّحَهُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُغْزُ بِاسْمِ اللّهِ وَفِى سَبِيلِ اللّهِ فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ لا تَغُلّ وَلا تَغْدِرْ وَلا تَقْتُلْ وَلِيدًا”. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمّ بَسَطَ يَدَهُ، فَقَالَ: “يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا خَمْسًا قَبْلَ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ مَا نُقِضَ مِكْيَالُ قَوْمٍ إلاّ أَخَذَهُمْ اللّهُ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ وَمَا نَكَثَ قَوْمٌ عَهْدَهُمْ إلاّ سَلّطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّهُمْ وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزّكَاةَ إلاّ أَمْسَكَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَطْرَ السّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُسْقَوْا، وَمَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ إلاّ سَلّطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ الطّاعُونَ وَمَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ آىِ الْقُرْآنِ إلاّ أَلْبَسَهُمْ اللّهُ شِيَعًا، وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ”. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى لَحِقَ أَصْحَابَهُ فَسَارَ حَتّى قَدِمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَلَمّا حَلّ بِهَا دَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَمَكَثَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيّامٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلامِ. وَقَدْ كَانُوا أَبَوْا أَوّلَ مَا قَدِمَ يُعْطُونَهُ إلاّ السّيْفَ فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ أَسْلَمَ الأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِىّ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَكَانَ رَأْسَهُمْ. فَكَتَبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ إلَى النّبِىّ ÷ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وَبَعَثَ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَال لَهُ: رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ وَكَتَبَ يُخْبِرُ النّبِىّ ÷ أَنّهُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوّجَ فِيهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ النّبِىّ ÷ أَنْ يَتَزَوّجَ بِنْتَ الأَصْبَغِ تُمَاضِرَ. فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ وَبَنَى بِهَا، ثُمّ أَقْبَلَ بِهَا؛ وَهِىَ أُمّ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِى عَوْفٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنّ النّبِىّ ÷ بَعَثَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ إلَى كَلْبٍ، وَقَالَ: “إنْ اسْتَجَابُوا لَك فَتَزَوّجْ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ أَوْ ابْنَةَ سَيّدِهِمْ”، فَلَمّا قَدِمَ دَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَاسْتَجَابُوا وَأَقَامَ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَتَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تُمَاضِرَ بِنْتَ الأَصْبَغِ بْنِ عَمْرٍو مَلِكِهِمْ ثُمّ قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، وَهِىَ أُمّ أَبِى سَلَمَةَ.

  • * *







سَرِيّةُ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى بَنِى سَعْدٍ، بِفَدَكٍ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ فِى مِائَةِ رَجُلٍ إلَى حَىّ سَعْدٍ بِفَدَكٍ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدّوا يَهُودَ خَيْبَرَ، فَسَارَ اللّيْلَ وَكَمَنَ النّهَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْهَمَجِ فَأَصَابَ عَيْنًا فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ هَلْ لَك عِلْمٌ بِمَا وَرَاءَك مِنْ جَمْعِ بَنِى سَعْدٍ؟ قَالَ: لا عِلْمَ لِى بِهِ، فَشَدّوا عَلَيْهِ فَأَقَرّ أَنّهُ عَيْنٌ لَهُمْ بَعَثُوهُ إلَى خَيْبَرَ، يَعْرِضُ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ مِنْ تَمْرِهِمْ كَمَا جَعَلُوا لِغَيْرِهِمْ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: فَأَيْنَ الْقَوْمُ؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ وَقَدْ تَجَمّعَ مِنْهُمْ مِائَتَا رَجُلٍ وَرَاسُهُمْ وَبَرُ بْنُ عُلَيْمٍ. قَالُوا: فَسِرْ بِنَا حَتّى تَدُلّنَا، قَالَ: عَلَى أَنْ تُؤَمّنُونِى، قَالُوا: إنْ دَلَلْتنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَرْحِهِمْ أَمّنّاك، وَإِلاّ فَلا أَمَانَ لَك. قَالَ: فَذَاكَ فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلاً لَهُمْ حَتّى سَاءَ ظَنّهُمْ بِهِ وَأَوْفَى بِهِمْ عَلَى فَدَافِدَ وَآكَامٍ ثُمّ أَفْضَى بِهِمْ إلَى سُهُولَةٍ فَإِذَا نَعَمٌ كَثِيرٌ وَشَاءٌ فَقَالَ: هَذَا نَعَمُهُمْ وَشَاؤُهُمْ. فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَضَمّوا النّعَمَ وَالشّاءَ. قَالَ: أَرْسِلُونِى، قَالُوا: لا حَتّى نَأْمَنَ الطّلَبَ وَنَذَرَ بِهِمْ الرّاعِىَ رِعَاءَ الْغَنَمِ وَالشّاءِ فَهَرَبُوا إلَى جَمْعِهِمْ فَحَذّرُوهُمْ فَتَفَرّقُوا وَهَرَبُوا، فَقَالَ: الدّلِيلُ عَلامَ تَحْبِسُنِى؟ قَدْ تَفَرّقَتْ الأَعْرَابُ وَأَنْذَرَهُمْ الرّعَاءُ. قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: لَمْ نَبْلُغْ مُعَسْكَرَهُمْ، فَانْتَهَى بِهِمْ إلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَأَرْسَلُوهُ وَسَاقُوا النّعَمَ وَالشّاءَ النّعَمُ خَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ وَأَلْفَا شَاةٍ. حَدّثَنِى أُبَيْرُ بْنُ الْعَلاءِ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَلِيلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ: إنّى لَبِوَادِى الْهَمَجِ إلَى بَدِيعٍ مَا شَعَرْت إلاّ بِبَنِى سَعْدٍ يَحْمِلُونَ الظّعُنَ وَهُمْ هَارِبُونَ فَقُلْت: مَا دَهَاهُمْ الْيَوْمَ؟ فَدَنَوْت إلَيْهِمْ فَلَقِيت رَأْسَهُمْ وَبَرَ بْنَ عُلَيْمٍ فَقُلْت: مَا هَذَا الْمَسِيرُ؟ قَالَ: الشّرّ، سَارَتْ إلَيْنَا جُمُوعُ مُحَمّدٍ وَمَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَ لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا؛ وَقَدْ أَخَذُوا رَسُولاً لَنَا بَعَثْنَاهُ إلَى خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَنَا وَهُوَ صَنَعَ بِنَا مَا صَنَعَ. قُلْت: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِى، وَمَا كُنّا نَعُدّ فِى الْعَرَبِ فَتًى وَاحِدًا أَجْمَعَ قَلْبٍ مِنْهُ. فَقُلْت: إنّى أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا قَدْ أَمِنَ وَغَلُظَ أَوْقَعَ بِقُرَيْشٍ فَصَنَعَ بِهِمْ مَا صَنَعَ ثُمّ أَوْقَعَ بِأَهْلِ الْحُصُونِ بِيَثْرِبَ، قَيْنُقَاعَ وَبَنِى النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَى هَؤُلاءِ بِخَيْبَرَ. فَقَالَ لِى وَبَرٌ: لا تَخْشَ ذَلِكَ إنّ بِهَا رِجَالاً، وَحُصُونًا مَنِيعَةً وَمَاءً وَاتِنًا، لا دَنَا مِنْهُمْ مُحَمّدٌ أَبَدًا، وَمَا أَحْرَاهُمْ أَنْ يَغْزُوهُ فِى عُقْرِ دَارِهِ. قُلْت: وَتَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ هُوَ الرّأْىُ لَهُمْ. فَمَكَثَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ ثَلاثًا ثُمّ قَسّمَ الْغَنَائِمَ وَعَزَلَ الْخُمُسَ وَصَفِىّ النّبِىّ ÷ لَقُوحًا تُدْعَى الْحَفِدَةَ قَدِمَ بِهَا.

  • * *









سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ حَدّثَنِى أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِى تِجَارَةٍ إلَى الشّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لأَصْحَابِ النّبِىّ ÷ فَأَخَذَ خُصْيَتَىْ تَيْسٍ فَدَبَغَهُمَا ثُمّ جَعَلَ بَضَائِعَهُمْ فِيهِمَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ دُونَ وَادِى الْقُرَى وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِى فَزَارَةَ مِنْ بَنِى بَدْرٍ، فَضَرَبُوهُ وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ حَتّى ظَنّوا أَنْ قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ ثُمّ اسْتُبِلّ زَيْدٌ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِىّ ÷ فَبَعَثَهُ فِى سَرِيّةٍ، فَقَالَ لَهُمْ: اُكْمُنُوا النّهَارَ وَسِيرُوا اللّيْلَ. فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلٌ لَهُمْ وَنَذَرَتْ بِهِمْ بَنُو بَدْرٍ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ نَاطُورًا لَهُمْ حِينَ يُصْبِحُونَ فَيَنْظُرُ عَلَى جَبَلٍ لَهُمْ مُشْرِفٍ وَجْهَ الطّرِيقِ الّذِى يَرَوْنَ أَنّهُمْ يَأْتُونَ مِنْهُ فَيَنْظُرُ قَدْرَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيَقُولُ اسْرَحُوا فَلا بَأْسَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ لَيْلَتَكُمْ، فَلَمّا كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَأَ بِهِمْ دَلِيلُهُمْ الطّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقًا أُخْرَى حَتّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى خَطَأٍ فَعَرَفُوا خَطَأَهُمْ ثُمّ صَمَدُوا لَهُمْ فِى اللّيْلِ حَتّى صَبّحُوهُمْ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَهَاهُمْ حَيْثُ انْتَهَوْا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ: ثُمّ وَعَزَ إلَيْهِمْ أَلاّ يَفْتَرِقُوا، وَقَالَ: إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَأَحَاطُوا بِالْحَاضِرِ ثُمّ كَبّرَ وَكَبّرُوا، فَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ فَطَلَبَ رَجُلاً مِنْهُمْ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ أَمْعَنَ فِى طَلَبِهِ وَأَخَذَ جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَجَدَهَا فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَأُمّهَا أُمّ قِرْفَةَ وَأُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَغَنِمُوا، وَأَقْبَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ بِالْجَارِيَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِىّ ÷ فَذَكَرَ لَهُ جَمَالَهَا، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ قَالَ جَارِيَةٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ رَجَوْت أَنْ أَفْتَدِىَ بِهَا امْرَأَةً مِنّا مِنْ بَنِى فَزَارَةَ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا يَسْأَلُهُ مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ حَتّى عَرَفَ سَلَمَةُ أَنّهُ يُرِيدُهَا فَوَهَبَهَا لَهُ فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ لِحَزْنِ بْنِ أَبِى وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ غَيْرُهَا. فَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ فِى بَيْتِى، فَأَتَى زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَجُرّ ثَوْبَهُ عُرْيَانًا، مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهَا، حَتّى اعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ ثُمّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفّرَهُ اللّهُ.

  • * *

ذِكْرُ مَنْ قَتَلَ أُمّ قِرْفَةَ قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلاً عَنِيفًا؛ رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلاً ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَهِىَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ ابْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ.

  • * *







سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إلَى أُسَيْرِ بْن زَارِمَ فِى شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْت عُرْوَةَ ابْنَ الزّبَيْرِ، قَالَ: غَزَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ خَيْبَرَ مَرّتَيْنِ بَعَثَهُ النّبِىّ ÷ الْبَعْثَةَ الأُولَى إلَى خَيْبَرَ فِى رَمَضَانَ فِى ثَلاثَةِ نَفَرٍ يَنْظُرُ إلَى خَيْبَرَ، وَحَالِ أَهْلِهَا وَمَا يُرِيدُونَ وَمَا يَتَكَلّمُونَ بِهِ فَأَقْبَلَ حَتّى أَتَى نَاحِيَةَ خَيْبَرَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ الْحَوَائِطَ وَفَرّقَ أَصْحَابَهُ فِى النّطَاةِ، وَالشّقّ، وَالْكَتِيبَةِ، وَوَعَوْا مَا سَمِعُوا مِنْ أُسَيْرٍ وَغَيْرِهِ. ثُمّ خَرَجُوا بَعْدَ إقَامَةِ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فَرَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَبّرَ النّبِىّ ÷ بِكُلّ مَا رَأَى وَسَمِعَ ثُمّ خَرَجَ إلَى أُسَيْرٍ فِى شَوّالٍ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كَانَ أُسَيْرٌ رَجُلاً شُجَاعًا، فَلَمّا قُتِلَ أَبُو رَافِعٍ أَمّرَتْ الْيَهُودُ أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ فَقَامَ فِى الْيَهُودِ، فَقَالَ: إنّهُ وَاَللّهِ مَا سَارَ مُحَمّدٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْيَهُودِ إلاّ بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَصَابَ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ وَلَكِنّى أَصْنَعُ مَا لا يَصْنَعُ أَصْحَابِى. فَقَالُوا: وَمَا عَسَيْت أَنْ تَصْنَعَ مَا لَمْ يَصْنَعْ أَصْحَابُك؟ قَالَ: أَسِيرُ فِى غَطَفَانَ فَأَجْمَعُهُمْ، فَسَارَ فِى غَطَفَانَ فَجَمَعَهَا، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، نَسِيرُ إلَى مُحَمّدٍ فِى عُقْرِ دَارِهِ فَإِنّهُ لَمْ يُغْزَ أَحَدٌ فِى دَارِهِ إلاّ أَدْرَكَ مِنْهُ عَدُوّهُ بَعْضَ مَا يُرِيدُ. قَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْت. فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِىّ ÷، قَالَ: وَقَدِمَ عَلَيْهِ خَارِجَةُ بْنُ حُسَيْلٍ الأَشْجَعِىّ، فَاسْتَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا وَرَاءَهُ، فَقَالَ: تَرَكْت أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ يَسِيرُ إلَيْك فِى كَتَائِبِ الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ فَانْتُدِبَ لَهُ ثَلاثُونَ رَجُلاً. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَكُنْت فِيهِمْ فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَأَرْسَلْنَا إلَى أُسَيْرٍ إنّا آمِنُونَ حَتّى نَأْتِيَك فَنَعْرِضَ عَلَيْك مَا جِئْنَا لَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلِى مِثْلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: إنّ رَسُولَ اللّهِ بَعَثَنَا إلَيْك أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ فَيَسْتَعْمِلَك عَلَى خَيْبَرَ وَيُحْسِنَ إلَيْك، فَطَمِعَ فِى ذَلِكَ وَشَاوَرَ الْيَهُودَ فَخَالَفُوهُ فِى الْخُرُوجِ، وَقَالُوا: مَا كَانَ مُحَمّدٌ يَسْتَعْمِلُ رَجُلاً مِنْ بَنِى إسْرَائِيلَ، فَقَالَ: بَلَى، قَدْ مَلِلْنَا الْحَرْبَ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ ثَلاثُونَ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ مَعَ كُلّ رَجُلٍ رَدِيفٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقَرْقَرَةِ ثِبَارٍ نَدِمَ أُسَيْرٌ حَتّى عَرَفْنَا النّدَامَةَ فِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: وَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى سَيْفِى فَفَطِنْت لَهُ، قَالَ: فَدَفَعْت بَعِيرِى، فَقُلْت: غَدْرًا أَىْ عَدُوّ اللّهِ، ثُمّ تَنَاوَمْت فَدَنَوْت مِنْهُ لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَتَنَاوَلَ سَيْفِى، فَغَمَزْت بَعِيرِى وَقُلْت: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْزِلُ فَيَسُوقُ بِنَا؟ فَلَمْ يَنْزِلْ أَحَدٌ، فَنَزَلْت عَنْ بَعِيرِى فَسُقْت بِالْقَوْمِ حَتّى انْفَرَدَ أُسَيْرٌ فَضَرَبْته بِالسّيْفِ فَقَطَعْت مُؤَخّرَةَ الرّجْلِ وَأَنْدَرْت عَامّةَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ وَسَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ وَفِى يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ شَوْحَطٍ فَضَرَبَنِى فَشَجّنِى مَأْمُومَةً وَمِلْنَا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَتَلْنَاهُمْ كُلّهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَعْجَزَنَا شَدّا، وَلَمْ يُصَبْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، ثُمّ أَقْبَلْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يُحَدّثُ أَصْحَابَهُ إذْ قَالَ لَهُمْ: “تَمَشّوْا بِنَا إلَى الثّنِيّةِ نَتَحَسّبُ مِنْ أَصْحَابِنَا خَبَرًا”، فَخَرَجُوا مَعَهُ فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَى الثّنِيّةِ فَإِذَا هُمْ بِسَرَعَانِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَانْتَهَيْنَا إلَيْهِ فَحَدّثْنَاهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: “نَجّاكُمْ اللّهُ مِنْ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ”. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَدَنَوْت إلَى النّبِىّ ÷ فَنَفَثَ فِى شَجّتِى، فَلَمْ تَقِحْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ تُؤْذِنِى، وَقَدْ كَانَ الْعَظْمُ فُلّ وَمَسَحَ عَلَى وَجْهِى وَدَعَا لِى، وَقَطَعَ قِطْعَةً مِنْ عَصَاهُ، فَقَالَ: “أَمْسِكْ هَذَا مَعَك عَلامَةً بَيْنِى وَبَيْنَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرِفُك بِهَا، فَإِنّك تَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَصّرًا”، فَلَمّا دُفِنَ جُعِلَتْ مَعَهُ تَلِى جَسَدَهُ دُونَ ثِيَابِهِ. فَحَدّثَنِى خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت أُصْلِحُ قَوْسِى. قَالَ: فَجِئْت فَوَجَدْت أَصْحَابِى قَدْ وُجّهُوا إلَى أُسَيْرِ بْنِ زَارِمَ. قَالَ النّبِىّ ÷: “لا أَرَى أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ أَىْ اُقْتُلْهُ”.

  • * *












سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ لَمّا أُغِيرَ عَلَى لِقَاحِ النّبِىّ ÷ بِذِى الْجَدْرِ فِى شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ، وَهِىَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ. حَدّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ ثَمَانِيَةٌ عَلَى النّبِىّ ÷ فَأَسْلَمُوا، فَاسْتَوْبَأُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ بِهِمْ النّبِىّ ÷ إلَى لِقَاحِهِ وَكَانَ سَرْحُ الْمُسْلِمِينَ بِذِى الْجَدْرِ فَكَانُوا بِهَا حَتّى صَحّوا وَسَمِنُوا، وَكَانُوا اسْتَأْذَنُوهُ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فَغَدَوْا عَلَى اللّقَاحِ فَاسْتَاقُوهَا، فَيُدْرِكُهُمْ مَوْلَى النّبِىّ ÷ وَمَعَهُ نَفَرٌ فَقَاتَلَهُمْ فَأَخَذُوهُ فَقَطَعُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَغَرَزُوا الشّوْكَ فِى لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتّى مَاتَ. وَانْطَلَقُوا بِالسّرْحِ فَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى حِمَارٍ لَهَا حَتّى تَمُرّ بِيَسَارٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَمّا رَأَتْهُ وَمَا بِهِ - وَقَدْ مَاتَ - رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا وَخَبّرَتْهُمْ الْخَبَرَ، فَخَرَجُوا نَحْوَ يَسَارٍ حَتّى جَاءُوا بِهِ إلَى قُبَاءَ مَيّتًا. فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِىّ، فَخَرَجُوا فِى طَلَبِهِمْ حَتّى أَدْرَكَهُمْ اللّيْلُ فَبَاتُوا بِالْحَرّةِ وَأَصْبَحُوا فَاغْتَدَوْا لا يَدْرُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ فَإِذَا هُمْ بِامْرَأَةٍ تَحْمِلُ كَتِفَ بَعِيرٍ فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَتْ: مَرَرْت بِقَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا بَعِيرًا فَأَعْطَوْنِى، قَالُوا: أَيْنَ هُمْ؟ قَالَتْ: هُمْ بِتِلْكَ الْقِفَارِ مِنْ الْحَرّةِ، إذَا وَافَيْتُمْ عَلَيْهَا رَأَيْتُمْ دُخَانَهُمْ، فَسَارُوا حَتّى أَتَوْهُمْ حِينَ فَرَغُوا مِنْ طَعَامِهِمْ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَسْتَأْسِرُوا، فَاسْتَأْسَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إنْسَانٌ فَرَبَطُوهُمْ وَأَرْدَفُوهُمْ عَلَى الْخَيْلِ حَتّى قَدِمُوا بِهِمْ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ بِالْغَابَةِ، فَخَرَجُوا نَحْوَهُ. قَالَ خَارِجَةُ: فَحَدّثَنِى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، قَالَ: حَدّثَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَخَرَجْت أَسْعَى فِى آثَارِهِمْ مَعَ الْغِلْمَانِ، حَتّى لَقِىَ بِهِمْ النّبِىّ ÷ بِالزّغَابَةِ بِمَجْمَعِ السّيُولِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَصُلِبُوا هُنَاكَ. قَالَ أَنَسٌ: إنّى لَوَاقِفٌ أَنْظُرُ إلَيْهِمْ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوَمَه، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمّا قَطَعَ النّبِىّ ÷ أَيْدِى أَصْحَابِ اللّقَاحِ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ×إِنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ% الآيَةَ. قَالَ: فَلَمْ تُسْمَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنٌ. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: مَا بَعَثَ النّبِىّ ÷ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْثًا إلاّ نَهَاهُمْ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَحَدّثَنِى ابْنُ بِلالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمْ يَقْطَعْ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِسَانًا قَطّ، وَلَمْ يَسْمُلْ عَيْنًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرّجْلِ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: أَمِيرُ السّرِيّةِ ابْنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِىّ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى، قَالَ: لَمّا ظَفِرُوا بِاللّقَاحِ خَلّفُوا عَلَيْهَا سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ، وَمَعَهُ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ، وَكَانَتْ اللّقَاحُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً غِزَارًا. فَلَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الزّغَابَةِ وَجَلَسَ فِى الْمَسْجِدِ إذَا اللّقَاحُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَتَفَقّدَ مِنْهَا لِقْحَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا: الْحِنّاءُ، فَقَالَ: “أَىْ سَلَمَةُ أَيْنَ الْحِنّاءُ”؟ قَالَ: نَحَرَهَا الْقَوْمُ وَلَمْ يَنْحَرُوا غَيْرَهَا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُنْظُرْ مَكَانًا تَرْعَاهَا فِيهِ”. قَالَ: مَا كَانَ أَمْثَلَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ بِذِى الْجَدْرِ، قَالَ: فَرَدّهَا إلَى ذِى الْجَدْرِ، فَكَانَتْ هُنَاكَ وَكَانَ لَبَنُهَا يُرَاحُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ كُلّ لَيْلَةٍ وَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ. قَالَ ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ أَخْبَرَهُ بِعِدّةِ الْعِشْرِينَ فَارِسًا، فَقَالَ: أَنَا، وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ، وَأَبُو ذَرّ وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْخُصَيْبِ، وَرَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ، وَجُنْدُبُ بْنُ مَكِيثٍ، وَبِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِىّ، وَجُعَالُ ابْنُ سُرَاقَةَ، وَصَفْوَانُ بْنُ مُعَطّلٍ، وَأَبُو رَوْعَةَ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ بَدْرٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو ضُبَيْسٍ الْجُهَنِيّ.

  • * *












غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: حَدّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْهَرَمِ وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ اللّهِ ابْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِىّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى سَبْرَةَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَأُسَامَةُ ابْنُ زَيْدٍ اللّيْثِىّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، وَمُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِى زَيْدٍ الزّرَقِىّ، وَعَابِدُ بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِى، أَهْلُ الثّقَةِ وَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِى. قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ رَأَى فِى النّوْمِ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ وَحَلّقَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ، وَعَرّفَ مَعَ الْمُعَرّفِينَ فَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ إلَى الْعُمْرَةِ فَأَسْرَعُوا وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِىّ فِى لَيَالٍ بَقِيَتْ مِنْ شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ فَقَدِمَ مُسْلِمًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ زَائِرًا لَهُ وَهُوَ عَلَى الرّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا بُسْرُ لا تَبْرَحْ حَتّى تَخْرُجَ مَعَنَا، فَإِنّا إنْ شَاءَ اللّهُ مُعْتَمِرُونَ”. فَأَقَامَ بُسْرٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ يَبْتَاعُ لَهُ بُدْنًا، فَكَانَ بُسْرٌ يَبْتَاعُ الْبُدْنَ وَيَبْعَثُ بِهَا إلَى ذِى الْجَدْرِ حَتّى حَضَرَ خُرُوجُهُ فَأَمَرَ بِهَا فَجُلِبَتْ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمّ أَمَرَ بِهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِىّ أَنْ يُقَدّمَهَا إلَى ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ. وَخَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَعَهُ لا يَشُكّونَ فِى الْفَتْحِ لِلرّؤْيَا الّتِى رَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷، فَخَرَجُوا بِغَيْرِ سِلاحٍ إلاّ السّيُوفَ فِى الْقُرُبِ وَسَاقَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْهَدْىَ أَهْلُ قُوّةٍ - أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ - سَاقُوا هَدْيًا حَتّى وَقَفَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بُدْنًا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: أَتَخْشَى يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَيْنَا مِنْ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَمْ نَأْخُذْ لِلْحَرْبِ عُدّتَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا أَدْرِى، وَلَسْت أُحِبّ أَحْمِلُ السّلاحَ مُعْتَمِرًا”. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ حَمَلْنَا السّلاحَ مَعَنَا، فَإِنْ رَأَيْنَا مِنْ الْقَوْمِ رَيْبًا كُنّا مُعِدّينَ لَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَسْت أَحْمِلُ السّلاحَ إنّمَا خَرَجْت مُعْتَمِرًا”. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِهِلالِ ذِى الْقَعْدَةِ فَاغْتَسَلَ فِى بَيْتِهِ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ مِنْ نَسْجِ صُحَارٍ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ مِنْ عِنْدِ بَابِهِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمّ دَعَا بِالْبُدْنِ فَجُلّلَتْ، ثُمّ أَشْعَرَ بِنَفْسِهِ مِنْهَا عِدّةً وَهُنّ مُوَجّهَاتٌ إلَى الْقِبْلَةِ فِى الشّقّ الأَيْمَنِ. وَيُقَالُ: دَعَا بِبَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ، ثُمّ أَمَرَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ بِإِشْعَارِ مَا بَقِىَ وَقَلّدَهَا نَعْلاً نَعْلاً، وَهِىَ سَبْعُونَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلُ أَبِى جَهْلٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ غَنِمَهُ بِبَدْرٍ وَكَانَ يَكُونُ فِى لِقَاحِهِ بِذِى الْجَدْرِ. وَأَشْعَرَ الْمُسْلِمُونَ بُدْنَهُمْ وَقَلّدُوا النّعَالَ فِى رِقَابِ الْبُدْنِ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ فَأَرْسَلَهُ عَيْنًا لَهُ، وَقَالَ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهَا أَنّى أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَخَبّرْ لِى خَبَرَهُمْ ثُمّ الْقَنِى بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ. فَتَقَدّمَ بُسْرٌ أَمَامَهُ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَقَدّمَهُ أَمَامَهُ طَلِيعَةً فِى خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَكَانَ فِيهَا رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ - الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِىّ فَارِسًا، وَكَانَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَارِسًا، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَارِسًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسًا، وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَارِسًا، فِى عِدّةٍ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ: أَمِيرُهُمْ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِىّ. ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَسْجِدَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ خَرَجَ وَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَلَمّا انْبَعَثَتْ بِهِ مُسْتَقْبِلَةً الْقِبْلَةَ أَحْرَمَ وَلَبّى بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ لا شَرِيكَ لَك، لَبّيْكَ إنّ الْحَمْدَ وَالنّعْمَةَ لَك، وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَك وَأَحْرَمَ عَامّةُ الْمُسْلِمِينَ بِإِحْرَامِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ إلاّ مِنْ الْجُحْفَةِ. وَسَلَكَ طَرِيقَ الْبَيْدَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً وَيُقَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَيُقَالُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلاً؛ خَرَجَ مَعَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ وَيُقَال سَبْعُونَ رَجُلاً؛ وَخَرَجَ مَعَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِىّ ÷ وَأُمّ عُمَارَةَ، وَأُمّ مَنِيعٍ، وَأُمّ عَامِرٍ الأَشْهَلِيّةُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَمُرّ بِالأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَيَسْتَنْفِرُهُمْ فَيَتَشَاغَلُونَ لَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ - وَهُمْ بَنُو بَكْرٍ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ - فَيَقُولُونَ: فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيُرِيدُ مُحَمّدٌ يَغْزُو بِنَا إلَى قَوْمٍ مُعِدّينَ مُؤَيّدِينَ فِى الْكُرَاعِ وَالسّلاحِ؟ وَإِنّمَا مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ لَنْ يَرْجِعَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا أَبَدًا قَوْمٌ لا سِلاحَ مَعَهُمْ وَلا عُدَدٌ وَإِنّمَا يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ حَدِيثٍ عَهْدُهُمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُقَدّمُ الْخَيْلَ ثُمّ يُقَدّمُ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْىِ، وَكَانَ مَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدّمَ الْمُسْلِمُونَ هَدْيَهُمْ مَعَ صَاحِبِ هَدْىِ رَسُولِ اللّهِ ÷ نَاجِيَةِ بْنِ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْىِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ أَصْبَحَ يَوْمَ الثّلاثَاءِ بِمَلَلٍ فَرَاحَ مِنْ مَلَلٍ وَتَعَشّى بِالسّيّالَةِ، ثُمّ أَصْبَحَ بِالرّوْحَاءِ، فَلَقِىَ بِهَا أَصْرَامًا مِنْ بَنِى نَهْدٍ، مَعَهُمْ نَعَمٌ وَشَاءٌ فَدَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَانْقَطَعُوا مِنْ الإِسْلامِ فَأَرْسَلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِلَبَنٍ مَعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ. فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ، وَقَالَ: “لا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ”. فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُبْتَاعَ مِنْهُمْ فَابْتَاعُوهُ مِنْ الأَعْرَابِ فَسُرّ الْقَوْمُ وَجَاءُوا بِثَلاثَةِ أَضُبّ أَحْيَاءٍ يَعْرِضُونَهَا، فَاشْتَرَاهَا قَوْمٌ أَحِلّةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ فَأَكَلُوا وَعَرَضُوا عَلَى الْمُحْرِمِينَ فَأَبَوْا حَتّى سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: “كُلُوا فَكُلّ صَيْدٍ لَيْسَ لَكُمْ حَلالاً فِى الإِحْرَامِ تَأْكُلُونَهُ إلاّ مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ فَوَاَللّهِ مَا صِدْنَا وَلا صَادَتْهُ إلاّ هَؤُلاءِ الأَعْرَابُ، أَهْدَوْا لَنَا وَمَا يَدْرُونَ أَنْ يَلْقَوْنَا، إنّمَا هُمْ قَوْمٌ سَيّارَةٌ يُصْبِحُونَ الْيَوْمَ بِأَرْضٍ وَهُمْ الْغَدَ بِأَرْضٍ أُخْرَى يَتْبَعُونَ الْغَيْثَ وَهُمْ يُرِيدُونَ سَحَابَةً وَقَعَتْ مِنْ الْخَرِيفِ بِفَرْشِ مَلَلٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَسَأَلَهُ أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ ذُكِرَتْ لَنَا سَحَابَةٌ وَقَعَتْ بِفَرْشِ مَلَلٍ مُنْذُ شَهْرٍ فَأَرْسَلْنَا رَجُلاً مِنّا يَرْتَادُ الْبِلادَ فَرَجَعَ إلَيْنَا فَخَبّرَنَا أَنّ الشّاةَ قَدْ شَبِعَتْ وَأَنّ الْبَعِيرَ يَمْشِى ثَقِيلاً مِمّا جَمَعَ مِنْ الْحَوْضِ وَأَنّ الْغُدُرَ كَثِيرَةٌ مَرْوِيّةٌ فَأَرَدْنَا أَنْ نَلْحَقَ بِهِ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمِنّا الْمُحِلّ وَالْمُحْرِمُ، حَتّى إذَا كُنّا بِالأَبْوَاءِ، وَأَنَا مُحِلّ، رَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا، فَأَسْرَجْت فَرَسِى فَرَكِبْت فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ نَاوِلْنِى سَوْطِى فَأَبَى أَنْ يُنَاوِلَنِى فَقُلْت: نَاوِلْنِى رُمْحِى فَأَبَى، فَنَزَلْت فَأَخَذْت سَوْطِى وَرُمْحِى ثُمّ رَكِبْت فَرَسِى، فَحَمَلْت عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلْته، فَجِئْت بِهِ أَصْحَابِى الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلّينَ فَشَكّ الْمُحْرِمُونَ فِى أَكْلِهِ حَتّى أَدْرَكْنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ وَقَدْ كَانَ تَقَدّمَنَا بِقَلِيلٍ فَأَدْرَكْنَاهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: “أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَىْءٌ”؟ قَالَ: فَأَعْطَيْته الذّرَاعَ فَأَكَلَهَا حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقِيلَ لأَبِى قَتَادَةَ: وَمَا خَلّفَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷؟ قَالَ: طَبَخْنَا الْحِمَارَ فَلَمّا نَضِجَ لَحِقْنَاهُ وَأَدْرَكْنَاهُ. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ، أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّهُ جَاءَ رَسُولَ اللّهِ ÷ بِالأَبْوَاءِ يَوْمَئِذٍ بِحِمَارٍ وَحْشِىّ فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، قَالَ الصّعْبُ: فَلَمّا رَآنِى وَمَا بِوَجْهِى مِنْ كَرَاهِيَةِ رَدّ هَدِيّتِى، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا لَمْ نَرُدّهُ إلاّ أَنّا حُرُمٌ”. قَالَ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا نُصَبّحُ الْعَدُوّ وَالْغَارَةَ فِى غَلَسِ الصّبْحِ فَنُصِيبُ الْوِلْدَانَ تَحْتَ بُطُونِ الْخَيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هُمْ مَعَ الآبَاءِ”. وَقَالَ: سَمِعْته يَوْمَئِذٍ يَقُولُ: “لا حِمَى إلاّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ”، وَيُقَالُ: إنّ الْحِمَارَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حَيّا. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ أَبِى رُهْمٍ الْغِفَارِىّ، قَالَ: لَمّا نَزَلُوا الأَبْوَاءَ أَهْدَى إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ جُزُرًا وَمِائَةَ شَاةٍ وَبَعَثَ بِهَا مَعَ ابْنِهِ خُفَافِ بْنِ إيمَاءَ وَبَعِيرَيْنِ يَحْمِلانِ لَبَنًا، فَانْتَهَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: إنّ أَبِى أَرْسَلَنِى بِهَذِهِ الْجُزُرِ وَاللّبَنِ إلَيْك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَتَى حَلَلْتُمْ هَاهُنَا”؟ قَالَ: قَرِيبًا، كَانَ مَاءٌ عِنْدَنَا قَدْ أَجْدَبَ فَسُقْنَا مَاشِيَتَنَا إلَى مَاءٍ هَاهُنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَكَيْفَ الْبِلادُ هَاهُنَا”؟ قَالَ: يُتَغَذّى بَعِيرُهَا، وَأَمّا الشّاةُ فَلا تُذْكَرُ. فَقَبِلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ هَدِيّتَهُ وَأَمَرَ بِالْغَنَمِ فَفُرّقَ فِى أَصْحَابِهِ وَشَرِبَ اللّبَنَ عُسّا عُسّا حَتّى ذَهَبَ اللّبَنُ وَقَالَ: “بَارَكَ اللّهُ فِيكُمْ”. فَحَدّثَنِى أَبُو جَعْفَرٍ الْغِفَارِىّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ قَالَ: أُهْدِىَ يَوْمَئِذٍ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ وَدّانَ ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ مُعِيشًا، وَعِتْرًا، وَضَغَابِيسَ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْكُلُ مِنْ الضّغَابِيسِ وَالْعِتْرِ وَأَعْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُعْجِبُهُ هَذِهِ الْهَدِيّةُ وَيُرِى صَاحِبَهَا أَنّهَا طَرِيفَةٌ. وَحَدّثَنِى سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالأَبْوَاءِ وَقَفَ عَلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِى وَرَأْسِى يَتَهَافَتُ قَمْلاً وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقَالَ: “هَلْ يُؤْذِيك هَوَامّك يَا كَعْبُ”؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “فَاحْلِقْ رَأْسَك”. قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ ×فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَأَمَرَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً أَوْ أَصُومَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ أَوْ أُطْعِمَ سِتّةَ مَسَاكِينَ كُلّ مِسْكِينٍ مُدّيْنِ% أَىّ ذَلِكَ فَعَلْت أَجْزَأَك وَيُقَالُ إنّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَهْدَى بَقَرَةً قَلّدَهَا وَأَشْعَرَهَا. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: عَطِبَ لِى بَعِيرٌ مِنْ الْهَدْىِ حِينَ نَظَرْت إلَى الأَبْوَاءِ، فَجِئْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِالأَبْوَاءِ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: “انْحَرْهَا وَاصْبُغْ قَلائِدَهَا فِى دَمِهَا، وَلا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك مِنْهَا شَيْئًا، وَخَلّ بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَهَا”. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْجُحْفَةَ لَمْ يَجِدْ بِهَا مَاءً فَبَعَثَ رَجُلاً فِى الرّوَايَا إلَى الْخَرّارِ، فَخَرَجَ الرّجُلُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِالرّوَايَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِىَ قَدَمًا رُعْبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اجْلِسْ”، وَبَعَثَ رَجُلاً آخَرَ فَخَرَجَ بِالرّوَايَا، حَتّى إذَا كَانَ بِالْمَكَانِ الّذِى أَصَابَ الأَوّلَ الرّعْبُ فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا لَك”؟ فَقَالَ: لا وَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِىَ رُعْبًا، قَالَ: “اجْلِسْ”، ثُمّ بَعَثَ رَجُلاً آخَرَ فَلَمّا جَاوَزَ الْمَكَانَ الّذِى رَجَعَ مِنْهُ الرّجُلانِ قَلِيلاً وَجَدَ مِثْلَ ذَلِكَ الرّعْبِ فَرَجَعَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَرْسَلَهُ بِالرّوَايَا وَخَرَجَ السّقّاءُ مَعَهُ، وَهُمْ لا يَشُكّونَ فِى الرّجُوعِ لِمَا رَأَوْا مِنْ رُجُوعِ النّفَرِ فَوَرَدُوا الْخَرّارَ فَاسْتَقَوْا ثُمّ أَقْبَلُوا بِالْمَاءِ ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِشَجَرَةٍ فَقُمّ مَا تَحْتَهَا، فَخَطَبَ النّاسَ، فَقَالَ: “أَيّهَا النّاسُ إنّى كَائِنٌ لَكُمْ فَرَطًا، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلّوا؛ كِتَابُ اللّهِ وَسُنّتُهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُقَالُ قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ”. وَلَمّا بَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجُ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى مَكّةَ رَاعَهُمْ ذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا لَهُ وَشَاوَرُوا فِيهِ ذَوِى رَأْيِهِمْ فَقَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا فِى جُنُودِهِ مُعْتَمِرًا، فَتَسْمَعَ بِهِ الْعَرَبُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَةً وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْحَرْبِ مَا بَيْنَنَا وَاَللّهِ لا كَانَ هَذَا أَبَدًا وَمِنّا عَيْنٌ تَطْرِفُ فَارْتَئُوا رَأْيَكُمْ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَجَعَلُوهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ ذَوِى رَأْيِهِمْ - صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسَهْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ - فَقَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنّا لِنَقْطَعَ أَمْرًا حَتّى نُشَاوِرَكُمْ نَرَى أَنْ نُقَدّمَ مِائَتَىْ فَارِسٍ إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَنَسْتَعْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلاً جَلْدًا. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نِعْمَ مَا رَأَيْت فَقَدّمُوا عَلَى خَيْلِهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِى جَهْلٍ - وَيُقَالُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَاسْتَنْفَرَتْ قُرَيْشٌ مَنْ أَطَاعَهَا مِنْ الأَحَابِيشِ، وَأَجْلَبَتْ سَقِيفٌ مَعَهُمْ وَقَدّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِى الْخَيْلِ وَوَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: وَزَرٌ وَزَعٌ كَانَتْ عُيُونُهُمْ عَشَرَةَ رِجَالٍ قَامَ عَلَيْهِمْ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ يُوحِى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الصّوْتَ الْخَفِىّ فَعَلَ مُحَمّدٌ كَذَا وَكَذَا حَتّى يَنْتَهِىَ ذَلِكَ إلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحٍ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا بِهَا الْقِبَابَ وَالأَبْنِيَةَ وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ فَعَسْكَرُوا هُنَاكَ وَدَخَلَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ مَكّةَ فَسَمِعَ مِنْ كَلامِهِمْ وَرَأَى مِنْهُمْ مَا رَأَى، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَلَقِيَهُ بِغَدِيرِ ذَاتِ الأَشْطَاطِ مِنْ وَرَاءِ عُسْفَانَ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: يَا بُسْرُ مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَرَكْت قَوْمَك، كَعْبَ بْنَ لُؤَىّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىّ، قَدْ سَمِعُوا بِمَسِيرِك فَفَزِعُوا، وَهَابُوا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً وَقَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك الأَحَابِيشَ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ قَدْ لَبِسُوا لَك جِلْدَ النّمُورِ لِيَصُدّوك عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ وَضَرَبُوا بِهَا الأَبْنِيَةَ وَتَرَكْت عُمّادَهُمْ يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ فِى دُورِهِمْ وَقَدّمُوا الْخَيْلَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مِائَتَىْ فَرَسٍ، وَهَذِهِ خَيْلُهُمْ بِالْغَمِيمِ وَقَدْ وَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ وَوَضَعُوا الأَرْصَادَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلنّاسِ: “هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْغَمِيمِ”. ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ: “أَمّا بَعْدُ فَكَيْفَ تَرَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ فِى هَؤُلاءِ الّذِينَ اسْتَنْفَرُوا إلَىّ مَنْ أَطَاعَهُمْ لِيَصُدّونَا عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمْضِىَ لِوَجْهِنَا إلَى الْبَيْتِ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نُخَلّفَ هَؤُلاءِ الّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا لَنَا إلَى أَهْلِيهِمْ فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ اتّبَعُونَا اتّبَعْنَا مِنْهُمْ عُنُقٌ يَقْطَعُهَا اللّهُ وَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَحْزُونِينَ مَوْتُورِينَ”. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ نَرَى يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ نَمْضِىَ لِوَجْهِنَا فَمَنْ صَدّنَا عَنْ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَإِنّ خَيْلَ قُرَيْشٍ فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ”. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمْ أَرَ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَكَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ فِى الْحَرْبِ فَقَطْ. قَالَ: فَقَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلا إنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلا إنّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ سِرْت إلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك مَا بَقِىَ مِنّا رَجُلٌ. وَتَكَلّمَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَرَى أَنْ نَصْمُدَ لِمَا خَرَجْنَا لَهُ فَمَنْ صَدّنَا قَاتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا لَمْ نَخْرُجْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا”. وَلَقِيَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ لَقَدْ اغْتَرَرْت بِقِتَالِ قَوْمِك جَلابِيبِ الْعَرَبِ، وَاَللّهِ مَا أَرَى مَعَك أَحَدًا لَهُ وَجْهٌ مَعَ أَنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا لا سِلاحَ مَعَكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: عَضَضْتَ بَظْرَ اللاّتِ، قَالَ بُدَيْلٌ: أَمَا وَاَللّهِ لَوْلا يَدٌ لَك عِنْدِى لأَجَبْتُك، فَوَاَللّهِ مَا أُتّهَمُ أَنَا وَلا قَوْمِى أَلاّ أَكُونَ أُحِبّ أَنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ إنّى رَأَيْت قُرَيْشًا مُقَاتِلَتَك عَنْ ذَرَارِيّهَا وَأَمْوَالِهَا، قَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَرَادَفُوا عَلَى الطّعَامِ يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ مَنْ جَاءَهُمْ يَتَقَوّوْنَ بِهِمْ عَلَى حَرْبِكُمْ فَرَ رَأْيَك. حَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمّادِينَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ تَوَافَدُوا وَجَمَعُوا الأَمْوَالَ يُطْعِمُونَ بِهَا مَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الأَحَابِيشِ، فَكَانَ يُطْعِمُ فِى أَرْبَعَةِ أَمْكِنَةٍ فِى دَارِ النّدْوَةِ لِجَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُطْعِمُ فِى دَارِهِ، وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يُطْعِمُ فِى دَارِهِ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ يُطْعِمُ فِى دَارِهِ، وَكَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يُطْعِمُ فِى دَارِهِ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَدَنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِى خَيْلِهِ حَتّى نَظَرَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَصَفّ خَيْلَهُ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَهِىَ فِى مِائَتَىْ فَرَسٍ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَتَقَدّمَ فِى خَيْلِهِ فَقَامَ بِإِزَائِهِ فَصَفّ أَصْحَابَهُ. قَالَ دَاوُدُ: فَحَدّثَنِى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَحَانَتْ صَلاةُ الظّهْرِ فَأَذّنَ بِلالٌ، وَأَقَامَ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْقِبْلَةَ وَصَفّ النّاسَ خَلْفَهُ يَرْكَعُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ، ثُمّ سَلّمَ فَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التّعْبِيَةِ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَدْ كَانُوا عَلَى غِرّةٍ، لَوْ كُنّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ لأَصَبْنَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ تَأْتِى السّاعَةَ صَلاةٌ هِىَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ بِهَذِهِ الآيَةِ: ×وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ% الآيَةَ، قَالَ: فَحَانَتْ الْعَصْرُ فَأَذّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُوَاجِهًا الْقِبْلَةَ وَالْعَدُوّ أَمَامَهُ، وَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَكَبّرَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ وَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ فَسَجَدَ الصّفّ الّذِى يَلِيهِ وَقَامَ الآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ السّجُودَ بِالصّفّ الأَوّلِ، وَقَامُوا مَعَهُ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ الصّفّ الّذِى يَلُونَهُ، وَتَقَدّمَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ فَكَانُوا يَلُونَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَامُوا جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَسَجَدَ الصّفّ الّذِى يَلُونَهُ، وَقَامَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ يَحْرُسُونَهُ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ فَلَمّا رَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأْسَهُ مِنْ السّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ اللّتَيْنِ بَقِيَتَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَوَى رَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسًا، فَتَشَهّدَ ثُمّ سَلّمَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: هَذِهِ أَوّلُ صَلاةٍ صَلاّهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْخَوْفِ. حَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَيّاشٍ الزّرَقِىّ أَنّهُ كَانَ مَعَ النّبِىّ ÷ يَوْمَئِذٍ، فَذَكَرَ أَنّ النّبِىّ ÷ صَلّى هَكَذَا، وَذَكَرَ أَبُو عَيّاشٍ أَنّهُ أَوّلُ مَا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ صَلاةَ الْخَوْفِ. حَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَوّلَ صَلاةِ الْخَوْفِ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ، ثُمّ صَلاّهَا بَعْدُ بِعُسْفَانَ، بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا. قَالُوا: فَلَمّا أَمْسَى قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “تَيَامَنُوا فِى هَذَا الْعَصَلِ فَإِنّ عُيُونَ قُرَيْشٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ أَوْ بِضَجْنَانَ، فَأَيّكُمْ يَعْرِفُ ثَنِيّةَ ذَاتِ الْحَنْظَلِ”؟ فَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِىّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ عَالِمٌ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُسْلُكْ أَمَامَنَا”، فَأَخَذَ بِهِ بُرَيْدَةُ فِى الْعَصَلِ قِبَلَ جِبَالِ سُرَاوِعَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ فَسَارَ قَلِيلاً تُنَكّبُهُ الْحِجَارَةُ وَتُعَلّقُهُ الشّجَرُ وَحَارَ حَتّى كَأَنّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا قَطّ. قَالَ: فَوَاَللّهِ إنْ كُنْت لأَسْلُكُهَا فِى الْجُمُعَةِ مِرَارًا، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ لا يَتَوَجّهُ قَالَ: “ارْكَبْ”، فَرَكِبْت فَقَالَ ÷: “مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ”؟ فَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَسْلَمِىّ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَدُلّك، فَسَارَ قَلِيلاً، ثُمّ سَقَطَ فِى خَمَرِ الشّجَرِ، فَلا يَدْرِى أَيْنَ يَتَوَجّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ارْكَبْ”، ثُمّ قَالَ: “مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ”؟ فَنَزَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ الأَسْلَمِىّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَدُلّك، فَقَالَ: “انْطَلِقْ أَمَامَنَا”، فَانْطَلَقَ عَمْرٌو أَمَامَهُمْ حَتّى نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الثّنِيّةِ، فَقَالَ: “هَذِهِ ثَنِيّةُ ذَاتِ الْحَنْظَلِ”؟ فَقَالَ عَمْرٌو: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا تَحَدّرَ بِهِ. قَالَ عَمْرٌو: وَاَللّهِ إنْ كَانَ لَيَهُمّنِى نَفْسِى وَجَدّى، إنّمَا كَانَتْ مِثْلَ الشّرَاكِ فَاتّسَعَتْ لِى حَتّى بَرَزَتْ وَكَانَتْ مَحَجّةً لاحِبَةً، وَلَقَدْ كَانَ النّفَرُ يَسِيرُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ جَمِيعًا مُعْطِفِينَ مِنْ سَعَتِهَا يَتَحَدّثُونَ وَأَضَاءَتْ تِلْكَ اللّيْلَةُ حَتّى كَأَنّا فِى قَمَرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَوَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِثْلُ هَذِهِ الثّنِيّةِ اللّيْلَةَ إلاّ مِثْلُ الْبَابِ الّذِى قَالَ اللّهُ لِبَنِى إسْرَائِيلَ: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا وَقُولُوا حِطّةٌ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الْكَلِمَةُ الّتِى عُرِضَتْ عَلَى بَنِى إسْرَائِيلَ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا، قَالَ: بَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبّةٌ فِى شَعِيرَةٍ”. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الْكَلِمَةُ الّتِى عُرِضَتْ عَلَى بَنِى إسْرَائِيلَ أَنْ يَقُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ”. فَكِلا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ رُوِىَ. قَالُوا: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلاّ غَفَرَ اللّهُ لَهُ”. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ: وَكَانَ أَخِى لأُمّى قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فِى آخِرِ النّاسِ قَالَ: فَوَقَفْت عَلَى الثّنِيّةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لِلنّاسِ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: “لا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلاّ غُفِرَ لَهُ”. فَجَعَلَ النّاسُ يُسْرِعُونَ حَتّى جَازَ أَخِى فِى آخِرِ النّاسِ وَفَرِقْت أَنْ يُصْبِحَ قَبْلَ أَنْ نَجُوزَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ نَزَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَقَلٌ: “فَلْيَصْطَنِعْ”. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَإِنّمَا مَعَهُ ÷ ثَقَلٌ - الثّقَلُ الدّقِيقُ - وَإِنّمَا كَانَ عَامّةُ زَادِنَا التّمْرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا نَخَافُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَرَانَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهُمْ لَنْ يَرَوْكُمْ إنّ اللّهَ سَيُعِينُكُمْ عَلَيْهِمْ. فَأَوْقِدُوا النّيرَانَ وَاصْطَنَعَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَنِعَ. فَلَقَدْ أَوْقَدُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةِ نَارٍ”. فَلَمّا أَصْبَحْنَا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّبْحَ ثُمّ قَالَ: “وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ غَفَرَ اللّهُ لِلرّكْبِ أَجْمَعِينَ إلاّ رُوَيْكِبًا وَاحِدًا عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ الْتَقَتْ عَلَيْهِ رِجَالُ الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ”. فَطُلِبَ فِى الْعَسْكَرِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِذَا بِهِ نَاحِيَةً إلَى ذَرَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْ بَنِى ضَمْرَةَ مِنْ أَهْلِ سَيْفِ الْبَحْرِ، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعِيدٌ: وَيْحَك اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَسْتَغْفِرُ لَك قَالَ: بَعِيرِى وَاَللّهِ أَهَمّ إلَىّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِى - وَإِذَا هُوَ قَدْ أَضَلّ بَعِيرًا لَهُ يَتْبَعُ الْعَسْكَرَ يَتَوَصّلُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ بَعِيرَهُ - وَإِنّهُ لَفِى عَسْكَرِكُمْ فَأَدّوا إلَىّ بَعِيرِى، فَقَالَ سَعِيدٌ: تَحَوّلْ عَنّى لا حَيّاك اللّهُ أَلا لا أَرَى قُرْبِى إلاّ دَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ بِهِ فَانْطَلَقَ الأَعْرَابِىّ يَطْلُبُ بَعِيرَهُ بَعْدَ أَنْ اسْتَبْرَأَ الْعَسْكَرَ فَبَيْنَا هُوَ فِى جِبَالِ سُرَاوِعَ إذْ زَلِقَتْ نَعْلُهُ فَتَرَدّى فَمَاتَ فَمَا عُلِمَ بِهِ حَتّى أَكَلَتْهُ السّبَاعُ. وَحَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهُ سَيَأْتِى قَوْمٌ تَحْقِرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ”. فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ قُرَيْشٌ؟ قَالَ: “لا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَإِنّهُمْ أَرَقّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا”. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ هُمْ خَيْرٌ مِنّا؟ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَيَصِفُ هِشَامٌ فِى الصّفَةِ كَأَنّهُ يَقُولُ سَوَاءً - “أَلا إنّ فَضْلَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ لا يَسْتَوِى مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: “أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ كَأَنّهُمْ قِطَعُ السّحَابِ هُمْ خَيْرُ مَنْ عَلَى الأَرْضِ”، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: وَلا نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثًا، ثُمّ الرّابِعَةَ قَالَ قَوْلاً ضَعِيفًا: “إلاّ أَنْتُمْ”. حَدّثَنِى مَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَمّا دَنَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَعَتْ يَدُ رَاحِلَتِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ تُهْبِطُهُ عَلَى غَائِطِ الْقَوْمِ فَبَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: حَلْ حَلْ فَأَبَتْ أَنْ تَنْبَعِثَ، فَقَالُوا: خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهَا مَا خَلأَتْ، وَلا هُوَ لَهَا بِعَادَةٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، أَمَا وَاَللّهِ لا يَسْأَلُونَنِى الْيَوْمَ خُطّةً فِى تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اللّهِ إلاّ أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا”، ثُمّ زَجَرْنَاهَا فَقَامَتْ فَوَلّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ حَتّى نَزَلَ بِالنّاسِ عَلَى ثَمَدٍ مِنْ ثِمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ ظَنُونٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يُتَبَرّضُ مَاؤُهُ تَبَرّضًا، فَاشْتَكَى النّاسُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قِلّةَ الْمَاءِ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُرِزَ فِى الثّمَدِ فَجَاشَتْ لَهُمْ بِالرّوَاءِ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ بِعَطَنٍ. قَالَ: وَإِنّهُمْ لَيَغْرِفُونَ بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ، وَاَلّذِى نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ الأَعْجَمِ مِنْ أَسْلَمَ. وَقَدْ رُوِىَ أَنّ جَارِيَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِنَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَهُوَ فِى الْقَلِيبِ: إنّــــــى رَأَيْت النّاسَ يَحْمَدُونَكَا يَا أَيّهَا الْمَاتِــــحُ دَلـــْوِى دُونَكَا

يُثْنُـــونَ خَيْـــرًا وَيُمَجّدُونَكَــا فَقَالَ نَاجِيَةُ وَهُوَ فِى الْقَلِيبِ: قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ وَطَعْنَـــــةٍ مِنّـــــى رَشَاشٍ وَاهِيَهْ أَنّى أَنَا الْمَاتِحُ وَاسْمِى نَاجِيَهْ طَعَنْتهَا تَحْتَ صُـــدُورِ الْعَالِيَــــهْ أَنْشَدَنِيهَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ بْنِ الأَعْجَمِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الأَسْلَمِىّ. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الّذِى نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ. وَحَدّثَنِى الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدّثَنِى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ أَنّ نَاجِيَةَ بْنَ الأَعْجَمِ - وَكَانَ نَاجِيَةُ بْنُ الأَعْجَمِ يُحَدّثُ - يَقُولُ: دَعَانِى رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ شُكِىَ إلَيْهِ قِلّةُ الْمَاءِ فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَدَفَعَهُ إلَىّ وَدَعَانِى بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَجِئْته بِهِ فَتَوَضّأَ، فَقَالَ: مَضْمَضَ فَاهُ ثُمّ مَجّ فِى الدّلْوِ وَالنّاسُ فِى حَرّ شَدِيدٍ، وَإِنّمَا هِىَ بِئْرٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ سَبَقَ الْمُشْرِكُونَ إلَى بَلْدَحٍ فَغَلَبُوا عَلَى مِيَاهِهِ فَقَالَ: “انْزِلْ بِالْمَاءِ فَصُبّهُ فِى الْبِئْرِ”، وَأَثِرْ مَاءَهَا بِالسّهْمِ. فَفَعَلْت، فَوَاَلّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا كُنْت أَخْرُجُ حَتّى كَادَ يَغْمُرُنِى، وَفَارَتْ كَمَا تَفُورُ الْقِدْرُ حَتّى طَمّتْ وَاسْتَوَتْ بِشَفِيرِهَا يَغْتَرِفُونَ مَاءَ جَانِبِهَا حَتّى نَهِلُوا مِنْ آخِرِهِمْ. قَالَ: وَعَلَى الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، وَأَوْسٌ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَىّ، وَهُمْ جُلُوسٌ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَاءِ وَالْبِئْرُ تَجِيشُ بِالرّوَاءِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفِيرِهَا. فَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِىّ: وَيْحَك يَا أَبَا الْحُبَابِ أَمَا آنَ لَك أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ أَبَعْدَ هَذَا شَىْءٌ؟ وَرَدْنَا بِئْرًا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا - يُتَبَرّضُ يَخْرُجُ فِى الْقَعْبِ جَرْعَةُ مَاءٍ - فَتَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الدّلْوِ وَمَضْمَضَ فَاهُ فِى الدّلْوِ، ثُمّ أَفْرَغَ الدّلْوَ فِيهَا وَنَزَلَ بِالسّهْمِ فَحَثْحَثَهَا فَجَاشَتْ بِالرّوَاءِ. قَالَ: يَقُولُ ابْنُ أُبَىّ: قَدْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ أَوْسٌ: قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ رَأْيَك فَيُقْبِلُ ابْنُ أُبَىّ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَىْ أَبَا الْحُبَابِ أَيْنَ رَأَيْت مِثْلَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ”؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْت مِثْلَهُ قَطّ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَلِمَ قُلْت مَا قُلْت”؟ قَالَ ابْنُ أُبَىّ: أَسَتَغْفِرُ اللّهَ، قَالَ ابْنُهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لَهُ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جَدّهِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ عَبّادٍ الْغِفَارِىّ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ يَوْمَئِذٍ فِى الْبِئْرِ. حَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِى إسْحَاقَ الْهَمْدَانِىّ قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ. قَالُوا: وَمُطِرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِرَارًا فَكَثُرَتْ الْمِيَاهُ. حَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ، عَنْ أَبِى الْمُلَيْحِ الْهُذَلِىّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مُطِرْنَا بِالْحُدَيْبِيَةِ مَطَرًا فَمَا ابْتَلّتْ مِنْهُ أَسْفَلُ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: “إنّ الصّلاةَ فِى الرّحَالِ”. حَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَيْدِ ابْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىّ، قَالَ: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّبْحَ فِى الْحُدَيْبِيَةِ فِى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللّيْلِ فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: “هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ”؟ قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ ÷: “أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ، فَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْت بِفَضْلِ اللّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِى مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ الْحَضْرَمِىّ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ أُبَىّ يَقُولُ - وَنَحْنُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَمُطِرْنَا بِهَا - فَقَالَ ابْنُ أُبَىّ: هَذَا نَوْءُ الْخَرِيفِ مُطِرْنَا بِالشّعْرَى. وَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ الْحِجَازِىّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا نَزَلْنَا عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْمَاءُ قَلِيلٌ سَمِعْت الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ خُرُوجُنَا إلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ نَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ عَنْ آخِرِنَا، فَقُلْت: لا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ فَلِمَ خَرَجْت؟ قَالَ: خَرَجْت مَعَ قَوْمِى، قُلْت: فَلَمْ تَخْرُجْ مُعْتَمِرًا؟ قَالَ: لا وَاَللّهِ مَا أَحْرَمْت، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَلا نَوَيْت الْعُمْرَةَ؟ قَالَ: لا فَلَمّا دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الرّجُلَ فَنَزَلَ بِالسّهْمِ وَتَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الدّلْوِ وَمَجّ فَاهُ فِيهِ ثُمّ رَدّهُ فِى الْبِئْرِ فَجَاشَتْ الْبِئْرُ بِالرّوَاءِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَرَأَيْت الْجَدّ مَادّا رِجْلَيْهِ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فِى الْمَاءِ، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ اللّهِ أَيْنَ مَا قُلْت؟ قَالَ: إنّمَا كُنْت أَمْزَحُ مَعَك، لا تَذْكُرْ لِمُحَمّدٍ مِمّا قُلْت شَيْئًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَقَدْ كُنْت ذَكَرْته قَبْلَ ذَلِكَ لِلنّبِىّ ÷ قَالَ: “فَغَضِبَ الْجَدّ”، وَقَالَ: بَقِينَا مَعَ صِبْيَانٍ مِنْ قَوْمِنَا لا يَعْرِفُونَ لَنَا شَرَفًا وَلا سِنّا، لَبَطْنُ الأَرْضِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَقَدْ كُنْت ذَكَرْت قَوْلَهُ لِلنّبِىّ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ابْنُهُ خَيْرٌ مِنْهُ”، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَقِيَنِى نَفَرٌ مِنْ قَوْمِى فَجَعَلُوا يُؤَنّبُونَنِى وَيَلُومُونَنِى حِينَ رَفَعْت مَقَالَتَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقُلْت لَهُمْ: بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ وَيْحَكُمْ عَنْ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ تَذُبّونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ كَبِيرُنَا وَسَيّدُنَا. فَقُلْت: قَدْ وَاَللّهِ طَرَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ سُؤْدَدَهُ عَنْ بَنِى سَلِمَةَ، وَسَوّدَ عَلَيْنَا بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهَدَمْنَا الْمَنَامَاتِ الّتِى كَانَتْ عَلَى بَابِ الْجَدّ وَبَنَيْنَاهَا عَلَى بَابِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَهُوَ سَيّدُنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْبَيْعَةِ فَرّ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ فَدَخَلَ تَحْتَ بَطْنِ الْبَعِيرِ فَخَرَجْت أَعْدُو وَأَخَذْت بِيَدِ رَجُلٍ كَانَ يُكَلّمُنِى فَأَخْرَجْنَاهُ مِنْ تَحْتِ بَطْنِ الْبَعِيرِ، فَقُلْت: وَيْحَك مَا أَدْخَلَك هَاهُنَا؟ أَفِرَارًا مِمّا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنّى رُعِبْت وَسَمِعْت الْهَيْعَةَ، قَالَ الرّجُلُ: لا نَضَحْت عَنْك أَبَدًا، وَمَا فِيك خَيْرٌ، فَلَمّا مَرِضَ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، وَنَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَزِمَ أَبُو قَتَادَةَ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى مَاتَ وَدُفِنَ فَقِيلَ لَهُ فِى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللّهِ مَا كُنْت لأُصَلّىَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَمِعْته يَقُولُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ: كَذَا وَكَذَا، وَاسْتَحْيَيْت مِنْ قَوْمِى يَرَوْنَنِى خَارِجًا وَلا أَشْهَدُهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ إلَى مَالِهِ بِالْوَادِيَيْنِ فَكَانَ فِيهِ حَتّى دُفِنَ وَمَاتَ الْجَدّ فِى خِلافَةِ عُثْمَانَ. وَقَالُوا: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحُدَيْبِيَةَ أَهْدَى لَهُ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ وَبُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّانِ غَنَمًا وَجَزُورًا وَأَهْدَى عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ جُزُرًا، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِالْغَنَمِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ أَنّ عَمْرًا أَهْدَاهَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَعَمْرٌو قَدْ أَهْدَى لَنَا مَا تَرَى، فَبَارَكَ اللّهُ فِى عَمْرٍو”، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْجُزُرِ تُنْحَرُ، وَتُقْسَمُ فِى أَصْحَابِهِ، وَفَرّقَ الْغَنَمَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ آخِرِهَا. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِىّ ÷: وَكَانَتْ مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ لَحْمِ الْجُزُرِ كَنَحْوٍ مِمّا دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، وَشَرِكْنَا فِى شَاةٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا بَعْضُهَا، وَكَانَ الّذِى جَاءَنَا بِالْهَدِيّةِ غُلامٌ مِنْهُمْ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْغُلامُ فِى بُرْدَةٍ لَهُ بَلِيّةٍ فَقَالَ: “يَا غُلامُ أَيْنَ تَرَكْت أَهْلَك”؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ قَرِيبًا بِضَجْنَانَ وَمَا وَالاهُ، فَقَالَ: “كَيْفَ تَرَكْت الْبِلادَ”؟ فَقَالَ: الْغُلامُ تَرَكْتهَا وَقَدْ تَيَسّرَتْ قَدْ أَمْشَرَ عِضَاهُهَا، وَأَعْذَقَ إذْخِرُهَا، وَأَسْلَبَ ثُمَامُهَا، وَأَبْقَلَ حَمْضُهَا، وَانْبَلّتْ الأَرْضُ فَتَشَبّعَتْ شَاتُهَا إلَى اللّيْلِ وَشَبِعَ بَعِيرُهَا إلَى اللّيْلِ مِمّا جَمَعَ مِنْ خَوْصٍ وَضَمْدِ الأَرْضِ وَبَقْلٍ وَتَرَكْت مِيَاهَهُمْ كَثِيرَةً تَشْرَعُ فِيهَا الْمَاشِيَةُ وَحَاجَةُ الْمَاشِيَةِ إلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ لِرُطُوبَةِ الأَرْضِ، فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَأَصْحَابَهُ لِسَانُهُ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِكُسْوَةٍ فَكُسِىَ الْغُلامُ، وَقَالَ الْغُلامُ: إنّى أُرِيدُ أَنْ أَمَسّ يَدَك أَطْلُبُ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُدْنُ” فَدَنَا، فَأَخَذَ يَدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَبّلَهَا، وَمَسَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: “بَارَكَ اللّهُ فِيك”، فَكَانَ قَدْ بَلَغَ سِنّا، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَحَالٌ فِى قَوْمِهِ حَتّى تُوُفّىَ زَمَنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. قَالُوا: فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْحُدَيْبِيَةِ جَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَرَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ ÷ بِتِهَامَةَ، مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ، وَمِنْهُمْ الْمُوَادِعُ لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ بِتِهَامَةَ شَيْئًا، فَأَنَاخُوا رَوَاحِلَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷، ثُمّ جَاءُوا فَسَلّمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: بُدَيْلٌ جِئْنَاك مِنْ عِنْدِ قَوْمِك، كَعْبِ بْنِ لُؤَىّ وَعَامِرِ بْنِ لُؤَىّ، قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك الأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ - النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ - يُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَبِيدَ خَضْرَاؤُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا جِئْنَا لِنَطُوفَ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، وَقُرَيْشٌ قَوْمٌ قَدْ أَضَرّتْ بِهِمْ الْحَرْبُ وَنَهَكَتْهُمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ مُدّةً يَأْمَنُونَ فِيهَا، وَيُخَلّونَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ وَالنّاسُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ أَمْرِى عَلَى النّاسِ كَانُوا بَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ، أَوْ يُقَاتِلُوا وَقَدْ جَمَعُوا وَاَللّهِ لأَجْهَدَنّ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى، أَوْ يُنْفِذَ اللّهُ أَمْرَهُ فَوَعَى بُدَيْلٌ مَقَالَتَهُ وَرَكِبَ ثُمّ رَكِبُوا إلَى قُرَيْشٍ، وَكَانَ فِى الرّكْبِ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَاَللّهِ لا تُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يَعْرِضُ هَذَا أَبَدًا”، حَتّى هَبَطُوا عَلَى كُفّارِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ نَاسٌ، مِنْهُمْ هَذَا بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ: إنّمَا جَاءُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوكُمْ فَلا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ فَلَمّا رَأَى بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ أَنّهُمْ لا يَسْتَخْبِرُونَهُمْ، قَالَ بُدَيْلٌ: إنّا جِئْنَا مِنْ عِنْدِ مُحَمّدٍ، أَتُحِبّونَ أَنْ نُخْبِرَكُمْ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ وَالْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ: لا وَاَللّهِ مَا لَنَا حَاجَةٌ بِأَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ وَلَكِنْ أَخْبِرُوهُ عَنّا أَنّهُ لا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَامَهُ هَذَا أَبَدًا حَتّى لا يَبْقَى مِنّا رَجُلٌ. فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللّهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَأْيًا أَعْجَبَ وَمَا تَكْرَهُونَ أَنْ تَسْمَعُوا مِنْ بُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ؟ فَإِنْ أَعْجَبَكُمْ أَمْرٌ قَبِلْتُمُوهُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ شَيْئًا تَرَكْتُمُوهُ لا يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا أَبَدًا، وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِى رَأْيِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَخْبِرُونَا بِاَلّذِى رَأَيْتُمْ وَاَلّذِى سَمِعْتُمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَقَالَةِ النّبِىّ ÷ الّتِى قَالَ: وَمَا عَرَضَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ الْمُدّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ تَتّهِمُونَنِى؟ أَلَسْتُمْ الْوَالِدَ وَأَنَا الْوَلَدُ؟ وَقَدْ اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ لِنَصْرِكُمْ، فَلَمّا بَلّحُوا عَلَىّ نَفَرْت إلَيْكُمْ بِنَفْسِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى، فَقَالُوا: قَدْ فَعَلْت، فَقَالَ: وَإِنّى نَاصِحٌ لَكُمْ شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ لا أَدّخِرُ عَنْكُمْ نُصْحًا، وَإِنّ بُدَيْلاً قَدْ جَاءَكُمْ بِخُطّةِ رُشْدٍ لا يَرُدّهَا أَحَدٌ أَبَدًا إلاّ أَخَذَ شَرّا مِنْهَا، فَاقْبَلُوهَا مِنْهُ، وَابْعَثُونِى حَتّى آتِيَكُمْ بِمِصْدَاقِهَا مِنْ عِنْدِهِ وَأَنْظُرَ إلَى مَنْ مَعَهُ وَأَكُونَ لَكُمْ عَيْنًا آتِيكُمْ بِخَبَرِهِ، فَبَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَقْبَلَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷، ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى جَاءَهُ، ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ إنّى تَرَكْت قَوْمَك، كَعْبَ بْنَ لُؤَىّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىّ عَلَى أَعْدَادِ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك أَحَابِيشَهُمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَهُمْ يُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَجْتَاحَهُمْ، وَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ أَنْ تَجْتَاحَ قَوْمَك، وَلَمْ نَسْمَعْ بِرَجُلٍ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك؛ أَوْ بَيْنَ أَنْ يَخْذُلَك مَنْ نَرَى مَعَك، فَإِنّى لا أَرَى مَعَك إلاّ أَوْبَاشًا مِنْ النّاسِ لا أَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَلا أَنْسَابَهُمْ. فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: اُمْصُصْ بَظْرَ اللاّتِ أَنَحْنُ نَخْذُلُهُ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَا وَاَللّهِ لَوْلا يَدٌ لَك عِنْدِى لَمْ أَجْزِك بِهَا بَعْدُ لأَجَبْتُك وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اسْتَعَانَ فِى حَمْلِ دِيَةٍ فَأَعَانَهُ الرّجُلُ بِالْفَرِيضَتَيْنِ وَالثّلاثِ وَأَعَانَهُ أَبُو بَكْرٍ بِعَشْرِ فَرَائِضَ، فَكَانَتْ هَذِهِ يَدَ أَبِى بَكْرٍ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَطَفِقَ عُرْوَةُ وَهُوَ يُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَمَسّ لِحْيَتَهُ - وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ ÷ بِالسّيْفِ عَلَى وَجْهِهِ الْمِغْفَرُ - فَطَفِقَ الْمُغِيرَةُ كُلّمَا مَسّ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَرَعَ يَدَهُ، وَيَقُولُ: اُكْفُفْ يَدَك عَنْ مَسّ لِحْيَةِ رَسُولِ اللّهِ قَبْلَ أَلاّ تَصِلَ إلَيْك، فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ عُرْوَةُ، فَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِى مَنْ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الّذِى أَرَى مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ”، قَالَ: وَأَنْتَ بِذَلِكَ يَا غُدَرُ؟ وَاَللّهِ مَا غَسَلْت عَنْك عَذِرَتَك إلاّ بِعُلابِطَ أَمْسِ لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَةَ مِنْ ثَقِيفٍ إلَى آخِرِ الدّهْرِ يَا مُحَمّدُ أَتَدْرِى كَيْفَ صَنَعَ هَذَا؟ إنّهُ خَرَجَ فِى رَكْبٍ مِنْ قَوْمِهِ فَلَمّا كَانُوا بَيْنَنَا وَنَامُوا فَطَرَقَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ حَرَائِبَهُمْ وَفَرّ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ خَرَجَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِىّ - وَالْمُغِيرَةُ أَحَدُ الأَحْلامِ - وَمَعَ الْمُغِيرَةِ حَلِيفَانِ لَهُ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا: دَمّونُ - رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ - وَالآخَرُ: الشّرِيدُ وَإِنّمَا كَانَ اسْمَهُ عَمْرٌو، فَلَمّا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِأَصْحَابِهِ مَا صَنَعَ شَرّدَهُ فَسُمّىَ بِالشّرِيدِ. وَخَرَجُوا إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ الإِسْكَنْدَرِيّةِ، فَجَاءَ بَنِى مَالِكٍ وَآثَرَهُمْ عَلَى الْمُغِيرَةِ فَأَقْبَلُوا رَاجِعِينَ حَتّى إذَا كَانُوا بِبَيْسَانَ شَرِبُوا خَمْرًا، فَكَفّ الْمُغِيرَةُ عَنْ بَعْضِ الشّرَابِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ وَشَرِبَتْ بَنُو مَالِكٍ حَتّى سَكِرُوا، فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ الْمُغِيرَةُ فَقَتَلَهُمْ وَكَانُوا ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً. فَلَمّا قَتَلَهُمْ وَنَظَرَ إلَيْهِمْ دَمّونُ تَغَيّبَ عَنْهُمْ وَظَنّ أَنّ الْمُغِيرَةَ إنّمَا حَمَلَهُ عَلَى قَتْلِهِمْ السّكْرُ فَجَعَلَ الْمُغِيرَةُ يَطْلُبُ دَمّونَ وَيَصِيحُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ وَيُقَلّبُ الْقَتْلَى فَلا يَرَاهُ فَبَكَى، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دَمّونُ خَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَا غَيّبَك؟ قَالَ: خَشِيت أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْت الْقَوْمَ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: إنّمَا قَتَلْت بَنِى مَالِكٍ بِمَا صَنَعَ بِهِمْ الْمُقَوْقَسُ، قَالَ: وَأَخَذَ الْمُغِيرَةُ أَمْتِعَتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَحِقَ بِالنّبِىّ ÷ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “لا أُخَمّسُهُ هَذَا غَدْرٌ” وَذَلِكَ حِينَ أُخْبِرَ النّبِىّ ÷ خَبَرَهُمْ. وَأَسْلَمَ الْمُغِيرَةُ، وَأَقْبَلَ الشّرِيدُ فَقَدِمَ مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِمَا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِبَنِى مَالِكٍ فَبَعَثَ أَبُو سُفْيَانَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ إلَى عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ - وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ - فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: خَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت بِنَعْمَانَ قُلْت فِى نَفْسِى: أَيْنَ أَسْلُكُ؟ إنْ سَلَكْت ذَا غِفَارٍ فَهِىَ أَبْعَدُ وَأَسْهَلُ وَإِنْ سَلَكْت ذَا الْعَلَقِ فَهِىَ أَغْلَظُ وَأَقْرَبُ. فَسَلَكْت ذَا غِفَارٍ فَطَرَقْت عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الْمَالِكِىّ، فَوَاَللّهِ مَا كَلّمْته مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَاللّيْلَةَ أُكَلّمُهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا إلَى مَسْعُودٍ فَنَادَاهُ عُرْوَةُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: فَأَقْبَلَ مَسْعُودٌ إلَيْنَا وَهُوَ يَقُولُ: أَطَرَقْت عَرَاهِيَةً أَمْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ؟ بَلْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ أَقَتَلَ رَكْبُهُمْ رَكْبَنَا أَمْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ؟ لَوْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ مَا طَرَقَنِى عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَصَبْت، قَتَلَ رَكْبِى رَكْبَك يَا مَسْعُودُ اُنْظُرْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ فَقَالَ مَسْعُودٌ: إنّى عَالِمٌ بِحِدَةِ بَنِى مَالِكٍ وَسُرْعَتِهِمْ إلَى الْحَرْبِ فَهَبْنِى صَمْتًا. قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا مَسْعُودٌ، فَقَالَ بَنِى مَالِكٍ: إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنّهُ قَتَلَ إخْوَانَكُمْ بَنِى مَالِكٍ فَأَطِيعُونِى وَخُذُوا الدّيَةَ اقْبَلُوهَا مِنْ بَنِى عَمّكُمْ وَقَوْمِكُمْ. قَالُوا: لا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَاَللّهِ لا تُقِرّك الأَحْلافُ أَبَدًا حِينَ تَقْبَلُهَا. قَالَ: أَطِيعُونِى وَاقْبَلُوا مَا قُلْت لَكُمْ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّى بِكِنَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَالَيْل قَدْ أَقْبَلَ تَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَىْ رِجْلَيْهِ لا يُعَانِقُ رَجُلاً إلاّ صَرَعَهُ وَاَللّهِ لَكَأَنّى بِجُنْدُبِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ أَقْبَلَ كَالسّيّدِ عَاضّا عَلَى سَهْمٍ مُفَوّقٍ بِآخَرَ لا يَسِيرُ إلَى أَحَدٍ بِسَهْمِهِ إلاّ وَضَعَهُ حَيْثُ يُرِيدُ، فَلَمّا غَلَبُوهُ أَعَدّ لِلْقِتَالِ وَاصْطَفّوا، أَقْبَلَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالَيْل يَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَىْ رِجْلَيْهِ يَقُولُ: مَنْ مُصَارِعٌ؟ ثُمّ أَقْبَلَ جُنْدُبُ بْنُ عَمْرٍو عَاضّا سَهْمًا مُفَوّقًا بِآخَرَ، قَالَ مَسْعُودٌ: يَا بَنِى مَالِكٍ أَطِيعُونِى، قَالُوا: الأَمْرُ إلَيْك، قَالَ: فَبَرَزَ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا عُرْوَةُ بْنَ مَسْعُودٍ اُخْرُجْ إلَىّ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا الْتَقَيَا بَيْنَ الصّفّيْنِ، قَالَ: عَلَيْك ثَلاثَ عَشْرَةَ دِيَةً فَإِنّ الْمُغِيرَةَ قَدْ قَتَلَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاحْمِلْ بِدِيَاتِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ: حَمَلْت بِهَا، هِىَ عَلَىّ، قَالَ: فَاصْطَلَحَ النّاسُ. قَالَ الأَعْشَى أَخُو بَنِى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: تَحَمّلَ عُرْوَةُ الأَحْلافِ لَمّا ثـــــَلاثَ مِئِيـــنَ عَادِيَةً وَأَلْفًـــا رَأَى أَمْرًا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلَـــدُ الصّبُـــــورُ قَالَ الْوَاقِدِىّ: فَلَمّا فَرَغَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ كَلامِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَرَدّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا قَالَ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابِهِ وَكَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُدّةِ رَكِبَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إنّى قَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وَهِرَقْلَ وَالنّجَاشِىّ، وَإِنّى وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا قَطّ أَطْوَعَ فِيمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ مِنْ مُحَمّدٍ فِى أَصْحَابِهِ وَاَللّهِ مَا يُشِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَمَا يَرْفَعُونَ عِنْدَهُ الصّوْتَ وَمَا يَكْفِيهِ إلاّ أَنْ يُشِيرَ إلَى أَمْرٍ فَيُفْعَلَ، وَمَا يَتَنَخّمُ وَمَا يَبْصُقُ إلاّ وَقَعَتْ فِى يَدَىْ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَمْسَحُ بِهَا جِلْدَهُ، وَمَا يَتَوَضّأُ إلاّ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ أَيّهُمْ يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَقَدْ حَزَرْت الْقَوْمَ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ السّيْفَ بَذَلُوهُ لَكُمْ، وَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا مَا يُبَالُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ إذَا مَنَعُوا صَاحِبَهُمْ، وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْت نُسَيّاتٍ مَعَهُ إنْ كُنّ لَيُسْلِمُنّهُ أَبَدًا عَلَى حَالٍ فَرُوا رَأْيَكُمْ وَإِيّاكُمْ، وَإِضْجَاعَ الرّأْىِ وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةً فَمَادّوهُ يَا قَوْمِ اقْبَلُوا مَا عَرَضَ، فَإِنّى لَكُمْ نَاصِحٌ مَعَ أَنّى أَخَافُ أَلاّ تُنْصَرُوا عَلَيْهِ رَجُلٌ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ مُعَظّمًا لَهُ مَعَهُ الْهَدْىُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لا تَكَلّمْ بِهَذَا يَا أَبَا يَعْفُورٍ لَوْ غَيْرُك تَكَلّمَ بِهَذَا لَلُمْنَاهُ وَلَكِنْ نَرُدّهُ عَنْ الْبَيْتِ فِى عَامِنَا هَذَا وَيَرْجِعُ إلَى قَابِلٍ. قَالُوا: ثُمّ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ فَلَمّا طَلَعَ وَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: “إنّ هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ” فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِىّ ÷ كَلّمَهُ بِنَحْوٍ مِمّا كَلّمَهُ أَصْحَابُهُ فَلَمّا انْتَهَى إلَى قُرَيْشٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَدّ عَلَيْهِ، فَبَعَثُوا الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الأَحَابِيشِ - فَلَمّا طَلَعَ الْحُلَيْسُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظّمُونَ الْهَدْىَ وَيَتَأَلّهُونَ ابْعَثُوا الْهَدْىَ فِى وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ”، فَبَعَثُوا الْهَدْىَ فَلَمّا نَظَرَ إلَى الْهَدْىِ يَسِيلُ فِى الْوَادِى عَلَيْهِ الْقَلائِدُ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ يُرَجّعُ الْحَنِينَ، وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ فِى وَجْهِهِ يُلَبّونَ قَدْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ قَدْ تَفِلُوا وَشَعِثُوا، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى النّبِىّ ÷ إعْظَامًا لِمَا رَأَى، حَتّى رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: إنّى قَدْ رَأَيْت مَا لا يَحِلّ صَدّهُ رَأَيْت الْهَدْىَ فِى قَلائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ مَعْكُوفًا عَنْ مَحِلّهِ وَالرّجَالَ قَدْ تَفِلُوا وَقَمِلُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ، أَمَا وَاَللّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ وَلا عَاقَدْنَاكُمْ عَلَى أَنْ تَصُدّوا عَنْ بَيْتِ اللّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ مُؤَدّيًا لِحَقّهِ وَسَاقَ الْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ، وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ، أَوْ لأَنْفِرَنّ بِالأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: إنّمَا كُلّ مَا رَأَيْت مَكِيدَةٌ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَاكْفُفْ عَنّا حَتّى نَأْخُذَ لأَنْفُسِنَا بَعْضَ مَا نَرْضَى بِهِ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى قُرَيْشٍ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ الْكَعْبِىّ عَلَى جَمَلٍ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ يُقَالُ لَهُ: الثّعْلَبُ لِيُبَلّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَا جَاءَ لَهُ، وَيَقُولَ: إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَنَا الْهَدْىُ مَعْكُوفًا، فَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنُحِلّ وَنَنْصَرِفُ. فَعَقَرُوا جَمَلَ النّبِىّ ÷ وَاَلّذِى وَلِىَ عَقْرَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى خَلّوا سَبِيلَ خِرَاشٍ، فَرَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ وَلَمْ يَكَدْ فَأَخْبَرَ النّبِىّ ÷ بِمَا لَقِىَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ابْعَثْ رَجُلاً أَمْنَعَ مِنّى فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِى، قَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِى لَهَا، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِى عَدِىّ مَنْ يَمْنَعُنِى، وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللّهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللّهِ ÷ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: وَلَكِنْ أَدُلّك يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِمَكّةَ مِنّى، وَأَكْثَرَ عَشِيرَةً وَأَمْنَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عُثْمَانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: “اذْهَبْ إلَى قُرَيْشٍ، فَخَبّرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنّمَا جِئْنَا زَوّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ مُعَظّمِينَ لِحُرْمَتِهِ مَعَنَا الْهَدْىُ نَنْحَرُهُ وَنَنْصَرِفُ”، فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى بَلْدَحَ، فَيَجِدُ قُرَيْشًا هُنَالِكَ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ يَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى الإِسْلامِ تَدْخُلُونَ فِى الدّينِ كَافّةً فَإِنّ اللّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ وَأُخْرَى تَكُفّونَ وَيَلِى هَذَا مِنْهُ غَيْرُكُمْ فَإِنْ ظَفَرُوا بِمُحَمّدٍ، فَذَلِكَ مَا أَرَدْتُمْ وَإِنْ ظَفِرَ مُحَمّدٌ كُنْتُمْ بِالْخِيَارِ أَنْ تَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ، أَوْ تُقَاتِلُوا، وَأَنْتُمْ وَافِرُونَ جَامّونَ إنّ الْحَرْبَ قَدْ نَهَكَتْكُمْ وَأَذْهَبَتْ بِالأَمَاثِلِ مِنْكُمْ وَأُخْرَى، إنّ رَسُولَ اللّهِ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا جَاءَ كُلّ مُعْتَمِرًا، مَعَهُ الْهَدْىُ عَلَيْهِ الْقَلائِدُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ. فَجَعَلَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يُكَلّمُهُمْ فَيَأْتِيهِمْ بِمَا لا يُرِيدُونَ، وَيَقُولُونَ قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ، وَلا كَانَ هَذَا أَبَدًا، وَلا دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِك فَأَخْبِرْهُ أَنّهُ لا يَصِلُ إلَيْنَا. فَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَرَحّبَ بَهْ وَأَجَازَهُ، وَقَالَ: لا تُقَصّرْ عَنْ حَاجَتِك، ثُمّ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ كَانَ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى السّرْجِ وَرَدَفَهُ وَرَاءَهُ فَدَخَلَ عُثْمَانُ مَكّةَ، فَأَتَى أَشْرَافَهُمْ رَجُلاً رَجُلاً، أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ لَقِىَ بِبَلْدَحٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَقِىَ بِمَكّةَ، فَجَعَلُوا يَرُدّونَ عَلَيْهِ إنّ مُحَمّدًا لا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا أَبَدًا قَالَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: ثُمّ كُنْت أَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُسْتَضْعَفِينَ فَأَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ يُبَشّرُكُمْ بِالْفَتْحِ وَيَقُولُ: أُظِلّكُمْ حَتّى لا يَسْتَخْفِى بِمَكّةَ الإِيمَانُ، فَقَدْ كُنْت أَرَى الرّجُلَ مِنْهُمْ وَالْمَرْأَةَ تَنْتَحِبُ حَتّى أَظُنّ أَنّهُ يَمُوتُ فَرَحًا بِمَا خَبّرْته، فَيَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَيُخْفِى الْمَسْأَلَةَ وَيَشْتَدّ ذَلِك عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ مِنّا السّلامَ إنّ الّذِى أَنَزَلَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَقَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بَطْنَ مَكّةَ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَصَلَ عُثْمَانُ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا أَظُنّ عُثْمَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا يَمْنَعُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “ظَنّى بَهْ أَلاّ يَطُوفَ حَتّى نَطُوفَ”، فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى النّبِىّ ÷ قَالُوا: اشْتَفَيْت مِنْ الْبَيْتِ يَا عَبْدَ اللّهِ، قَالَ عُثْمَانُ: بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِى لَوْ كُنْت بِهَا سَنَةً وَالنّبِىّ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْت، وَلَقَدْ دَعَتْنِى قُرَيْشٌ إلَى أَنْ أَطُوفَ فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لِرَسُولِ اللّهِ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنِنَا ظَنّا. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ يَتَحَارَسُونَ اللّيْلَ، وَكَانَ الرّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَبِيتُ عَلَى الْحَرَسِ حَتّى يُصْبِحَ يُطِيفُ بِالْعَسْكَرِ، فَكَانَ ثَلاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِىّ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى فَرَسِ النّبِىّ ÷ لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِى وَعُثْمَانُ بِمَكّةَ بَعْدُ وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ لَيْلاً خَمْسِينَ رَجُلاً، عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِالنّبِىّ ÷ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ غِرّةً، فَأَخَذَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابُهُ فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَكَانَ عُثْمَانُ بِمَكّةَ قَدْ أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا يَدْعُو قُرَيْشًا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلُوا مَكّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنّ عُثْمَانَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ قُتِلُوا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا إلَى الْبَيْعَةِ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا حَبْسُ أَصْحَابِهِمْ فَجَاءَ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى النّبِىّ ÷ وَأَصْحَابِهِ حَتّى تَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَأَسَرُوا أَيْضًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ أَسْرَى. ثُمّ إنّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى، وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ يَؤُمّ مَنَازِلَ بَنِى مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَقَدْ نَزَلَتْ فِى نَاحِيَةٍ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ جَمِيعًا. قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: وَالرّسْلُ تَخْتَلِفُ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَمَرّ بِنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمًا فِى مَنْزِلِنَا. قَالَتْ: فَظَنَنْت أَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ فَجَلَسَ فِى رِحَالِنَا ثُمّ قَالَ: “إنّ اللّهَ أَمَرَنِى بِالْبَيْعَةِ”. قَالَتْ: فَأَقْبَلَ النّاسُ يُبَايِعُونَهُ فِى رِحَالِنَا حَتّى تَدَارَكَ النّاسُ، فَمَا بَقِىَ لَنَا مَتَاعٌ إلاّ وَطِئَ وَزَوْجُهَا غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَتْ/ فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ يَوْمئِذٍ، قَالَتْ: فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَلَبّسُوا السّلاحَ وَهُوَ مَعَنَا قَلِيلٌ إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا، فَأَنَا أَنْظُرُ إلَى غَزِيّةَ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ تَوَشّحَ بِالسّيْفِ فَقُمْت إلَى عَمُودٍ كُنّا نَسْتَظِلّ بَهْ فَأَخَذْته فِى يَدِى، وَمَعِى سِكّينٌ قَدْ شَدَدْته فِى وَسَطِى، فَقُلْت: إنْ دَنَا مِنّى أَحَدٌ رَجَوْت أَنْ أَقْتُلَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ يُبَايِعُ النّاسَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ آخِذٌ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُمْ عَلَى أَلاّ يَفِرّوا. وَقَالَ قَائِلٌ: بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ. وَيُقَالُ: أَوّلُ النّاسِ بَايَعَ سِنَانُ بْنُ أَبِى سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُبَايِعُك عَلَى مَا فِى نَفْسِك. فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُبَايِعُ النّاسَ عَلَى بَيْعَةِ سِنَانِ بْنِ أَبِى سِنَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ دَخَلُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ عَشَرَةً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِى بَلْتَعَةَ، وَأَبُو حَاطِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الشّمْسِ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفُ سُهَيْلٍ فِى بَنِى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى. فَلَمّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النّبِىّ ÷: “سَهْلٌ أَمَرَهُمْ”، قَالَ: مَنْ قَاتَلَك لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْىٍ ذَوِى رَأْيِنَا وَلا ذَوِى الأَحْلامِ مِنّا، بَلْ كُنّا لَهُ كَارِهِينَ حِينَ بَلَغَنَا، وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ وَكَانَ مِنْ سُفَهَائِنَا فَابْعَثْ إلَيْنَا بِأَصْحَابِنَا الّذِينَ أَسَرْت أَوّلَ مَرّةٍ وَاَلّذِينَ أَسَرْت آخِرَ مَرّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى غَيْرُ مُرْسِلِهِمْ حَتّى تُرْسِلَ أَصْحَابِى”، قَالَ سُهَيْلٌ: أَنْصَفْتنَا فَبَعَثَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ إلَى قُرَيْشٍ الشّتِيمَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ التّيْمِىّ: إنّكُمْ حَبَسْتُمْ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَقَدْ كُنّا لِذَلِكَ كَارِهِينَ وَقَدْ أَبَى مُحَمّدٌ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا أَصْحَابَهُ وَقَدْ أَنْصَفَنَا، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا يَطْلِقُ لَكُمْ أَصْحَابَكُمْ. فَبَعَثُوا إلَيْهِ بِمَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ أُسِرُوا أَوّلَ مَرّةٍ، وَآخِرَ مَرّةٍ، فَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ أَوّلَ مَرّةٍ عَمْرُو بْنُ أَبِى سُفْيَانَ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُبَايِعُ النّاسَ يَوْمئِذٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَقَدْ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: “إنّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى الرّسُولِ وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ فَأَخْرِجُوا عَلَى اسْمِ اللّهِ فَبَايِعُوا”. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَخَرَجْت مَعَ أَبِى وَهُوَ يُنَادِى لِلْبَيْعَةِ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ النّدَاءِ أَرْسَلَنِى أَبِى إلَى النّبِىّ ÷ أُخْبِرَهُ أَنّى قَدْ أَذّنْت النّاسَ، قَالَ عَبْدُ اللّهِ: فَأَرْجِعُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُبَايِعُ النّاسَ فَبَايَعْته الثّانِيَةَ، قَالَ عَبْدُ اللّهِ لِعُمَرَ: أَنْ يَرْجِعَ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَذِنَ لَهُ فَرَجَعَ، وَكَانَ يَمْسِكُ بِيَدِ النّبِىّ ÷ وَهُوَ يُبَايِعُ، فَلَمّا نَظَرَتْ قُرَيْشٌ - سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى وَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَعُيُونُ قُرَيْشٍ - إلَى مَا رَأَتْ مِنْ سُرْعَةِ النّاسِ إلَى الْبَيْعَةِ وَتَشْمِيرِهِمْ إلَى الْحَرْبِ اشْتَدّ رُعْبُهُمْ وَخَوْفُهُمْ وَأَسْرَعُوا إلَى الْقَضِيّةِ، فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ ÷ إلَى الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَايَعَ النّاسَ، قَالَ: إنّ عُثْمَانَ ذَهَبَ فِى حَاجَةِ اللّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ فَضَرَبَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: فَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَرْسَلَتْ إلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَىّ: إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَدْخُلَ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَافْعَلْ، وَابْنُهُ جَالِسٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَت، أُذَكّرُك اللّهَ أَنْ تَفْضَحَنَا فِى كُلّ مَوْطِنٍ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ رَسُولُ اللّهِ؟ فَأَبَى ابْنُ أُبَىّ، وَقَالَ: لا أَطُوفُ حَتّى يَطُوفَ رَسُولُ اللّهِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ كَلامُهُ ذَلِكَ فَسُرّ بِهِ، وَرَجَعَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ سُرْعَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى الْبَيْعَةِ، وَمَا جَعَلُوا لَهُ، فَقَالَ أَهْلُ الرّأْىِ مِنْهُمْ: لَيْسَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ نُصَالِحَ مُحَمّدًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنّا عَامَهُ هَذَا وَيَرْجِعَ قَابِلاً، فَيُقِيمُ ثَلاثًا وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفُ وَيُقِيمُ بِبَلَدِنَا وَلا يَدْخُلُ عَلَيْنَا، فَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمّا أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَمَعَهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ وَلْيَكُنْ فِى صُلْحِك لا يَدْخُلُ فِى عَامِهِ هَذَا، فَوَاَللّهِ لا يَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّك دَخَلْت عَلَيْنَا عَنْوَةً، فَأَتَى سُهَيْلٌ لِلنّبِىّ ÷، فَلَمّا رَآهُ النّبِىّ ÷ حِينَ طَلَعَ، قَالَ: أَرَادَ الْقَوْمَ الصّلْحَ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَطَالَ الْكَلامَ وَتَرَاجَعُوا، وَتَرَافَعَتْ الأَصْوَاتُ وَانْخَفَضَتْ. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْت أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: إنّى لأَنْظُرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ جَالِسًا يَوْمئِذٍ مُتَرَبّعًا، وَإِنّ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، وَسَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ مُقَنّعَانِ بِالْحَدِيدِ قَائِمَانِ عَلَى رَأْسِ النّبِىّ ÷ إذْ رَفَعَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو صَوْتَهُ، قَالا: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِك عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ وَسُهَيْلٌ بَارِكٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعٌ صَوْتَهُ كَأَنّى أَنْظُرُ إلَى عَلَمٍ فِى شَفَتِهِ وَإِلَى أَنْيَابِهِ وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَحَوْلَ رَسُولِ اللّهِ ÷ جُلُوسٌ. قَالُوا: فَلَمّا اصْطَلَحُوا فَلَمْ يَبْقَ إلاّ الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلَى”، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِى الدّنِيّةَ فِى دِينِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيّعَنِى”، فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: فَلِمَ نُعْطِى الدّنِيّةَ فِى دِينِنَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْزَمْ غَرْزَهُ، فَإِنّى أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ، وَأَنّ الْحَقّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَلَنْ نُخَالِفَ أَمْرَ اللّهِ، وَلَنْ يُضَيّعَهُ اللّهُ، وَلَقِىَ عُمَرُ مِنْ الْقَضِيّةِ أَمْرًا كَبِيرًا، وَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ الْكَلامَ وَيَقُولُ: عَلامَ نُعْطِى الدّنِيّةَ فِى دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “أَنَا رَسُولُ اللّهِ وَلَنْ يُضَيّعَنِى”، قَالَ: فَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى النّبِىّ ÷ الْكَلامَ، قَالَ: يَقُولُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ: أَلاّ تَسْمَعَ يَا ابْنَ الْخَطّابِ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ مَا يَقُولُ؟ تَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ، وَاتّهِمْ رَأْيَك، قَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: فَجَعَلْت أَتَعَوّذُ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ حِيَاءً فَمَا أَصَابَنِى قَطّ شَىْءٌ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا زِلْت أَصُومُ وَأَتَصَدّقُ مِنْ الّذِى صَنَعْت مَخَافَةَ كَلامِى الّذِى تَكَلّمْت يَوْمئِذٍ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ لِى عُمَرُ فِى خِلافَتِهِ وَذَكَرَ الْقَضِيّةَ: ارْتَبْت ارْتِيَابًا لَمْ أَرْتَبْهُ مُنْذُ أَسْلَمْت إلاّ يَوْمئِذٍ وَلَوْ وَجَدْت ذَلِكَ الْيَوْمَ شِيعَةً تَخْرُجُ عَنْهُمْ رَغْبَةً عَنْ الْقَضِيّةِ لَخَرَجْت، ثُمّ جَعَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقِبَتَهَا خَيْرًا وَرُشْدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَعْلَمَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ: جَلَسْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمًا، فَذَكَرَ الْقَضِيّةَ، فَقَالَ: لَقَدْ دَخَلَنِى يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ، وَرَاجَعْت النّبِىّ ÷ يَوْمئِذٍ مُرَاجَعَةً مَا رَاجَعْته مِثْلَهَا قَطّ، وَلَقَدْ عَتَقْت فِيمَا دَخَلَنِى يَوْمئِذٍ رِقَابًا، وَصُمْت دَهْرًا، وَإِنّى لأَذْكُرُ مَا صَنَعْت خَالِيًا فَيَكُونُ أَكْبَرَ هَمّى، ثُمّ جَعَلَ اللّهُ عَاقِبَةَ الْقَضِيّةِ خَيْرًا، فَيَنْبَغِى لِلْعِبَادِ أَنْ يَتّهِمُوا الرّأْىَ وَاَللّهِ لَقَدْ دَخَلَنِى يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ، حَتّى قُلْت فِى نَفْسِى: لَوْ كُنّا مِائَةَ رَجُلٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِى مَا دَخَلْنَا فِيهِ أَبَدًا فَلَمّا وَقَعَتْ الْقَضِيّةُ أَسْلَمَ فِى الْهُدْنَةِ أَكْثَرَ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ يَوْمِ دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا كَانَ فِى الإِسْلامِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ يَكْرَهُونَ الصّلْحَ لأَنّهُمْ خَرَجُوا لا يَشُكّونَ فِى الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَعَرَفَ مَعَ الْمُعْرِفِينَ فَلَمّا رَأَوْا الصّلْحَ دَخَلَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ اصْطَلَحُوا وَالْكِتَابُ لَمْ يُكْتَبْ أَقْبَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، قَدْ أَفْلَتْ يَرْسُفُ فِى الْقَيْدِ مُتَوَشّحَ السّيْفِ خَلا لَهُ أَسْفَلُ مَكّةَ؛ فَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا حَتّى أَتَى رَسُولُ اللّهِ ÷، وَهُوَ يُكَاتِبُ سُهَيْلاً، فَرَفَعَ سُهَيْلٌ رَأْسَهُ فَإِذَا بِابْنِهِ أَبِى جَنْدَلٍ، فَقَامَ إلَيْهِ سُهَيْلٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِغُصْنِ شَوْكٍ، وَأَخَذَ بِلَبّتِهِ وَصَاحَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِى فِى دِينِى؟ فَزَادَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ شَرّا إلَى مَا بِهِمْ وَجَعَلُوا يَبْكُونَ لِكَلامِ أَبِى جَنْدَلٍ، قَالَ: يَقُولُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى لِمُكَرّزِ بْنِ حَفْصٍ: ما رَأَيْت قَوْمًا قَطّ أَشَدّ حُبّا لِمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لِمُحَمّدٍ وَبَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَمّا إنّى أَقُولُ لَك لا تَأْخُذْ مِنْ مُحَمّدٍ نَصَفًا أَبَدًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ حَتّى يَدْخُلَهَا عَنْوَةً، فَقَالَ مِكْرَزُ: أَنَا أَرَى ذَلِكَ، وَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوّلُ مَا قَاضَيْتُك عَلَيْهِ رَدّوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ”، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاَللّهِ لا أُكَاتِبُك عَلَى شَىْءٍ حَتّى تَرُدّهُ إلَىّ، فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ سُهَيْلاً أَنْ يَتْرُكَهُ فَأَبَى سُهَيْلٌ، فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَحُوَيْطِبٌ: يَا مُحَمّدُ نَحْنُ نُجِيرُهُ لَك، فَأَدْخَلاهُ فُسْطَاطًا فَأَجَارَاهُ وَكَفّ أَبُوهُ عَنْهُ، ثُمّ رَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ صَوْتَهُ، فَقَالَ: “يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ وَأَعْطَوْنَا عَلَى ذَلِكَ عَهْدًا، وَإِنّا لا نَغْدِرُ” وَعَادَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْت بِرَسُولِ اللّهِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: أَلَيْسَ عَدُوّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: فَلِمَ نُعْطِى الدّنِيّةَ فِى دِينِنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ: “إنّى رَسُولُ اللّهِ وَلَنْ أَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَنِى”، فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتّى جَاءَ إلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنّبِىّ ÷، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَلَنْ يَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَهُ، وَدَعْ عَنْك مَا تَرَى يَا عُمَرُ، قَالَ عُمَرُ: فَوَثَبْت إلَى أَبِى جَنْدَلٍ أَمْشِى إلَى جَنْبِهِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَدْفَعُهُ وَعُمَرُ يَقُولُ: اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، وَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ وَأَنْتَ رَجُلٌ، وَمَعَك السّيْفُ فَرَجَوْت أَنْ يَأْخُذَ السّيْفَ وَيَضْرِبُ أَبَاهُ فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ إنّ الرّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ فِى اللّهِ، وَاَللّهِ لَوْ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا لَقَتَلْنَاهُمْ فِى اللّهِ فَرَجُلٌ بِرَجُلٍ. قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو جَنْدَلٍ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا لَك لا تَقْتُلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ عُمَرُ: نَهَانِى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ غَيْرِهِ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: مَا أَنْتَ بِأَحَقّ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللّهِ مِنّى، وَقَالَ عُمَرُ، وَرِجَالٌ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَمْ تَكُنْ حَدّثْتنَا أَنّك سَتَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَتَأْخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ؟ وَهَدْيُنَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ، وَلا نَحْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قُلْت لَكُمْ: فِى سَفَرِكُمْ هَذَا”؟ قَالَ عُمَرُ: لا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمَا إنّكُمْ سَتَدْخُلُونَهُ وَآخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَأَحْلِقُ رَأْسِى وَرُءُوسَكُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ، وَأُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ”، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: “أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُذَكّرُهُمْ أُمُورًا - أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا”؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، يَا نَبِىّ اللّهِ مَا فَكّرْنَا فِيمَا فَكّرْت فِيهِ لأَنْتَ أَعْلَمُ بِاَللّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنّا، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَامَ الْقَضِيّةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، قَالَ: “هَذَا الّذِى وَعَدْتُكُمْ”. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ، فَقَالَ: اُدْعُوا لِى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ، فَقَالَ: “هَذَا الّذِى قُلْت لَكُمْ” فَلَمّا كَانَ فِى حَجّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: “أَىْ عُمَرُ هَذَا الّذِى قُلْت لَكُمْ”، قَالَ: أَىْ رَسُولَ اللّهِ مَا كَانَ فَتْحٌ فِى الإِسْلامِ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: “مَا كَانَ فَتْحٌ فِى الإِسْلامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَكِنّ النّاسَ يَوْمئِذٍ قَصَرَ رَأْيُهُمْ عَمّا كَانَ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَرَبّهِ وَالْعِبَادُ يَعْجَلُونَ، وَاَللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يَعْجَلُ كَعَجَلَةِ الْعِبَادِ حَتّى تَبْلُغَ الأُمُورُ مَا أَرَادَ اللّهُ”. لَقَدْ نَظَرْت إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِى حَجّهِ قَائِمًا عِنْدَ الْمَنْحَرِ يُقَرّبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بُدْنَهُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَنْحَرُهَا بِيَدِهِ وَدَعَا الْحَلاّقَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَنْظُرُ إلَى سُهَيْلٍ يَلْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ وَأَرَاهُ يَضَعُهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَذْكُرُ إبَاءَهُ أَنْ يُقِرّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنْ يَكْتُبَ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَيَأْبَى أَنْ يَكْتُبَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ، فَحَمِدْت اللّهَ الّذِى هَدَاهُ لِلإِسْلامِ وَصَلَوَاتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى نَبِىّ الرّحْمَةِ الّذِى هَدَانَا بِهِ وَأَنْقَذَنَا بِهِ مِنْ الْهَلَكَةِ. فَلَمّا حُضِرَتْ الدّوَاةُ وَالصّحِيفَةُ بَعْدَ طُولِ الْكَلامِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمّا الْتَأَمَ الأَمْرُ وَتَقَارَبَ دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ رَجُلاً يَكْتُبُ الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ وَدَعَا أَوْسَ بْنَ خَوْلِىّ يَكْتُبُ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لا يَكْتُبُ إلاّ أَحَدُ الرّجُلَيْنِ ابْنُ عَمّك عَلِىّ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فَأَمَرَ النّبِىّ ÷ عَلِيّا يَكْتُبُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ”. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لا أَعْرِفُ الرّحْمَنَ اُكْتُبْ كَمَا نَكْتُبُ: بِاسْمِك اللّهُمّ، فَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: هُوَ الرّحْمَنُ، وَقَالُوا: لا تَكْتُبْ إلاّ الرّحْمَنَ، قَالَ سُهَيْلٌ: إذًا لا أُقَاضِيهِ عَلَى شَىْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ”. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ أَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ مَا خَالَفْتُك، وَاتّبَعْتُك، أَفَتَرْغَبُ عَنْ اسْمِك، وَاسْمِ أَبِيك مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ؟ فَضَجّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا ضَجّةً هِىَ أَشَدّ مِنْ الأُولَى، حَتّى ارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ وَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ يَقُولُونَ: لا نَكْتُب إلاّ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ. فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِى مَنْ نَظَرَ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخَذَا بِيَدِ الْكَاتِبِ فَأَمْسَكَاهَا، وَقَالا: لا تَكْتُبْ إلاّ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ، وَإِلاّ فَالسّيْفُ بَيْنَنَا عَلامَ نُعْطِى هَذِهِ الدّنِيّةَ فِى دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَخْفِضُهُمْ وَيُومِئُ بِيَدِهِ إلَيْهِمْ اُسْكُتُوا وَجَعَلَ حُوَيْطِبُ يَتَعَجّبُ مِمّا يَصْنَعُونَ وَيُقْبِلُ عَلَى مِكْرَزِ بْنِ حَفْصٍ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَحْوَطَ لِدِينِهِمْ مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ”، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى سُهَيْلٍ حِينَ أَبَى أَنْ يُقِرّ بِالرّحْمَنِ: ×قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى% فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَاكْتُبْ”، فَكَتَبَ بِاسْمِك اللّهُمّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النّاسُ وَيَكْفِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى أَنّهُ لا إسْلالَ، وَلا إغْلالَ، وَأَنّ بَيْننَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِى عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِى عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهَا فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ إلَيْهِ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لَمْ تَرُدّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا يَرْجِعُ عَنّا عَامَهُ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلٌ فِى أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلاثًا، لا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلاحٍ إلاّ سِلاحَ الْمُسَافِرِ السّيُوفُ فِى الْقُرُبِ، شَهِدَ أَبُو بَكْرِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَحُوَيْطِبُ ابْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَمّا كَتَبَ الْكِتَابَ قَالَ سُهَيْلٌ: يَكُونُ عِنْدِى، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلْ عِنْدِى”، فَاخْتَلَفَا فَكَتَبَ لَهُ نُسْخَةً، فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْكِتَابَ الأَوّلَ، وَأَخَذَ سُهَيْلٌ نُسْخَتَهُ وَكَانَ عِنْدَهُ. وَوَثَبَتْ مِنْ هُنَاكَ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِى عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَوَثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ قُرَيْشٌ فِى عَهْدِهَا وَعَقْدِهَا، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ حُوَيْطِبُ لِسُهَيْلٍ: بَادَأْنَا أَخْوَالَك بِالْعَدَاوَةِ وَقَدْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنّا، قَدْ دَخَلُوا فِى عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ، قَالَ سُهَيْلٌ: مَا هُمْ إلاّ كَغَيْرِهِمْ هَؤُلاءِ أَقَارِبُنَا وَلَحْمُنَا قَدْ دَخَلُوا مَعَ مُحَمّدٍ قَوْمٌ اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ أَمْرًا فَمَا نَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ حُوَيْطِبُ: نَصْنَعُ بِهِمْ أَنْ نَنْصُرَ عَلَيْهِمْ حَلْفَاءَنَا بَنِى بَكْرٍ. قَالَ سُهَيْلٌ: إيّاكَ أَنْ تَسْمَعَ هَذَا مِنْك بَنُو بَكْرٍ فَإِنّهُمْ أَهْلُ شُؤْمٍ فَيَقَعُوا بِخُزَاعَةَ فَيَغْضَبُ مُحَمّدٌ لِحُلَفَائِهِ فَيَنْقُضُ الْعَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. قَالَ حُوَيْطِبٌ: حَظَوْت وَاَللّهِ أَخْوَالَك بِكُلّ وَجْهٍ فَقَالَ سُهَيْلٌ: تَرَى أَخْوَالِى أَعَزّ عَلَىّ مِنْ بَنِى بَكْرٍ؟ وَلَكِنْ وَاَللّهِ لا تَفْعَلُ قُرَيْشٌ شَيْئًا إلاّ فَعَلْته، فَإِذَا أَعَانَتْ بَنِى بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَإِنّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَنُو بَكْرٍ أَقْرَبُ إلَىّ فِى قِدَمِ النّسَبِ وَإِنْ كَانَ لِهَؤُلاءِ لَخَئُولَةٌ وَبَنُو بَكْرٍ مَنْ قَدْ عَرَفْت، لَنَا مِنْهُمْ مَوَاطِنُ كُلّهَا لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ مِنْهَا يَوْمُ عُكَاظٍ. قَالَ: فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْكِتَابِ، وَانْطَلَقَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَصْحَابِهِ: “قُومُوا فَانْحَرُوا وَاحْلِقُوا”، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَى ذَلِكَ فَقَالَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثَ مَرّاتٍ كُلّ ذَلِكَ يَأْمُرُهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ مُغْضَبًا شَدِيدَ الْغَضَبِ، وَكَانَتْ مَعَهُ فِى سَفَرِهِ ذَلِكَ فَاضْطَجَعَ، فَقَالَتْ: مَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ مِرَارًا لا تُجِيبُنِى، ثُمّ قَالَ: “عَجَبًا يَا أُمّ سَلَمَةَ إنّى قُلْت لِلنّاسِ انْحَرُوا وَاحْلُقُوا وَحِلّوا مِرَارًا، فَلَمْ يُجِبْنِى أَحَدٌ مِنْ النّاسِ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامِى وَيَنْظُرُونَ فِى وَجْهِى”، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ انْطَلِقْ أَنْتَ إلَى هَدْيِك فَانْحَرْهُ، فَإِنّهُمْ سَيَقْتَدُونَ بِك، قَالَتْ: فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِثَوْبِهِ، ثُمّ خَرَجَ وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ يَنْهِمُ هَدْيَهُ، قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يَهْوِى بِالْحَرْبَةِ إلَى الْبَدَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ: “بِسْمِ اللّهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ”، قَالَتْ: فَمَا هَذَا إلاّ أَنْ رَأَوْهُ نَحْرَ فَتَوَاثَبُوا إلَى الْهَدْىِ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ حَتّى خَشِيت أَنْ يَغُمّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مُضْطَبِعًا بِثَوْبِهِ وَالْحَرْبَةُ فِى يَدَيْهِ يَنْحَرُ بِهَا. حَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِى الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَأَشْرَكَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِى الْهَدْىِ فَنَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَكَانَ الْهَدْىُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ جَمَلُ أَبِى جَهْلٍ قَدْ غَنِمَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ عَلَيْهِ الْمَغَازِىَ، وَكَانَ قَدْ ضُرِبَ فِى لِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ ÷ الّتِى اسْتَاقَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَلِقَاحِهِ الّتِى كَانَتْ بِذِى الْجَدْرِ الّتِى كَانَ سَاقَهَا الْعُرَنِيّونَ، وَكَانَ جَمَلُ أَبِى جَهْلٍ نَجِيبًا مَهْرِيّا كَانَ يُرْعَى مَعَ الْهَدْىِ فَشَرَدَ قَبْلَ الْقَضِيّةِ فَلَمْ يَقِفْ، حَتّى انْتَهَى إلَى دَارِ أَبِى جَهْلٍ، وَعَرَفُوهُ وَخَرَجَ فِى أَثَرِهِ عَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ السّلَمِىّ، فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ لَهُ سُفَهَاءُ مِنْ سُفَهَاءِ مَكّةَ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: ادْفَعُوهُ إلَيْهِ، فَأَعْطَوْا بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: لَوْلا أَنّا سَمّيْنَاهُ فِى الْهَدْىِ فَعَلْنَا، فَنَحَرَ الْجَمَلَ عَنْ سَبْعَةٍ أَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: كَانَ الْهَدْىُ سَبْعِينَ وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ وَكَانَ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ. وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّهُ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: وَقَامَ طَلْحَةُ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ يَنْحَرُ بَدَنَاتٍ لَهُ سَاقَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَيْضًا، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُضْطَرِبًا فِى الْحِلّ وَكَانَ يُصَلّى فِى الْحَرَمِ، وَحَضَرَهُ يَوْمئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ مُعَتّرًا غَيْرَ كَبِيرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُعْطِيهِمْ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ وَجُلُودِهَا قَالَتْ أُمّ كُرْزٍ الْكَعْبِيّةُ: جِئْت أَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ ÷ مِنْ لُحُومِ الْهَدْىِ حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَسَمِعْته يَقُولُ عَنْ الْغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَالْجَارِيَةُ شَاةٌ وَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَدْيِهِمْ الّذِى نَحَرُوا يَوْمئِذٍ وَأَطْعَمُوا الْمَسَاكِينَ مِمّنْ حَضَرَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ بَعَثَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً لِتُنْحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَنَحَرَهَا عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَقَسَمَ لَحْمَهَا. وَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَأَنَا أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ حِينَ فَرَغَ مِنْ نَحْرِ الْبُدْنِ فَدَخَلَ قُبّةً لَهُ مِنْ أَدَمٍ حَمْرَاءَ، فِيهَا الْحَلاّقُ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَدْ أَخَرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبّتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: “رَحِمَ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَالْمُقَصّرِينَ؟ قَالَ: “رَحِمَ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ” - ثَلاثًا. ثُمّ قَالَ: “وَالْمُقَصّرِينَ”. فَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِى الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرَمَى بِشَعَرِهِ عَلَى شَجَرَةٍ كَانَتْ إلَى جَنْبِهِ مِنْ سَمُرَةٍ خَضْرَاءَ، قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ فَجَعَلَ النّاسُ يَأْخُذُونَ الشّعَرَ مِنْ فَوْقِ الشّجَرَةِ فَيَتَحَاصّونَ فِيهِ وَجَعَلْت أُزَاحِمُ حَتّى أَخَذْت طَاقَاتٍ مِنْ شَعَرٍ، فَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى مَاتَتْ تَغْسِلُ لِلْمَرِيضِ، قَالَ: وَحَلَقَ يَوْمئِذٍ نَاسٌ وَقَصّرَ آخَرُونَ، قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: زَوْجُ النّبِىّ ÷ وَقَصّرْت يَوْمئِذٍ أَطْرَافَ شَعَرِى، وَكَانَتْ أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: قَصّرْت يَوْمئِذٍ - بِمِقَصّ مَعِى - الشّعَرَ وَمَا شَدّ. حَدّثَنِى خِرَاشُ بْنُ هُنَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الّذِى حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ. قَالُوا: قَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْحُدَيْبِيَةِ بَضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: عِشْرِينَ لَيْلَةً فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ نَزَلَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، ثُمّ نَزَلَ عُسْفَانَ، فَأَرْمَلُوا مِنْ الزّادِ فَشَكَا النّاسُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنّهُمْ قَدْ بَلَغُوا مِنْ الْجُوعِ - وَفِى النّاسِ ظَهْرٌ - وَقَالُوا: فَنَنْحَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَنَدْهُنُ مِنْ شُحُومِهِ وَنَتّخِذُ مِنْ جُلُودِهِ حِذَاءً فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، لا تَفْعَلْ فَإِنْ يَكُ فِى النّاسِ بَقِيّةُ ظَهْرٍ يَكُنْ أَمْثَلَ وَلَكِنْ اُدْعُهُمْ بِأَزْوَادِهِمْ ثُمّ اُدْعُ اللّهَ فِيهَا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِ: “مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيّةٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَنْثُرْهُ عَلَى الأَنْطَاعِ”. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِىّ: فَلَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَأْتِى بِالتّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَأْتِى بِشَيْءٍ وَيَأْتِى بِالْكَفّ مِنْ الدّقِيقِ وَالْكَفّ مِنْ السّوِيقِ، وَذَلِكَ كُلّهُ قَلِيلٌ. فَلَمّا اجْتَمَعَتْ أَزْوَادُهُمْ وَانْقَطَعَتْ مَوَادّهُمْ مَشَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهَا فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ ثُمّ قَالَ: قُرّبُوا أَوْعِيَتَكُمْ فَجَاءُوا بِأَوْعِيَتِهِمْ. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: فَأَنَا حَاضِرٌ فَيَأْتِى الرّجُلُ فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ الزّادِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْخُذَ مَا لا يَجِدُ لَهُ مَحْمَلاً، ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالرّحِيلِ فَلَمّا ارْتَحَلُوا مُطِرُوا مَا شَاءُوا وَهُمْ صَائِفُونَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَنَزَلُوا مَعَهُ فَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَخَطَبَهُمْ فَجَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ فَجَلَسَ اثْنَانِ مَعَ النّبِىّ ÷ وَذَهَبَ وَاحِدٌ مُعْرِضًا، فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللّهُ مِنْهُ، وَأَمّا الآخَرُ فَتَابَ، فَتَابَ اللّهُ عَلَيْهِ، وَأَمّا الثّالِثُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللّهُ عَنْهُ. فَحَدّثَنِى مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: سَمِعْت شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: كُنْت أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى مُنْصَرَفِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فَلَمْ يُجِبْنِى، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِى، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِى. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْت: ثَكِلَتْك أُمّك يَا عُمَرُ نَذَرْت رَسُولَ اللّهِ ثَلاثًا، كُلّ ذَلِكَ لا يُجِيبنِى، قَالَ: فَحَرّكْت بَعِيرِى حَتّى تَقَدّمْت النّاسَ وَخَشِيت أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِىّ قُرْآنٌ فَأَخَذَنِى مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ وَلَمّا كُنْت رَاجَعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَرَاهَتِى الْقَضِيّةَ، فَإِنّى لأَسِيرُ مَهْمُومًا مُتَقَدّمًا لِلنّاسِ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِى: يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطّابِ فَوَقَعَ فِى نَفْسِى مَا اللّهُ بِهِ أَعْلَمُ، ثُمّ أَقْبَلْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَسَلّمْت فَرَدّ عَلَىّ السّلامَ وَهُوَ مَسْرُورٌ، ثُمّ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَىّ سُورَةٌ هِىَ أَحَبّ إلَىّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ: ×إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا% فَبَشّرَهُ بِمَغْفِرَتِهِـ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ وَنَصْرِهِ وَطَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ اللّهَ تَعَالَى، وَنِفَاقِ مَنْ نَافَقَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَ آيَاتٍ. وَحَدّثَنِى مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِضَجْنَانَ رَاجِعِينَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ رَأَيْت النّاسَ يُرْكَضُونَ فَإِذَا هُمْ يَقُولُونَ أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قُرْآنٌ، فَرَكَضْت مَعَ النّاسِ حَتّى تُوَافَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ: ×إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا% فَلَمّا نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ، قَالَ: “يَهْنِيكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمّا هَنّأَهُ جِبْرِيلُ هَنّأَهُ الْمُسْلِمُونَ”. وَكَانَ مِمّا نَزَلَ فِى الْحُدَيْبِيَةِ: ×إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا% قَالَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا، فَالْفَتْحُ قُرَيْشٌ وَمُوَادَعَتُهُمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ ×لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ% قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ النّبُوّةِ وَمَا تَأَخّرَ، قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَى أَنْ تُوُفّىَ ÷. ×وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك% بِصُلْحِ قُرَيْشٍ، ×وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا% قَالَ: الْحَقّ، ×وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا% حَتّى تَظْهَرَ فَلا يَكُونُ شِرْكٌ. ×هُوَ الّذِى أَنْزَلَ السّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ% قَالَ: الطّمَأْنِينَةُ ×لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ% قَالَ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا، ×وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ% قَالَ عَزّ وَجَلّ: ×لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ% قَالَ: مَا اجْتَرَحُوا، ×وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزًا عَظِيمًا% يَقُولُ: فَوْزًا لَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ×وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ% يَعْنِى الّذِينَ مَرّ عَلَيْهِمْ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَنِى بَكْرٍ، وَاسْتَنْفَرَهُمْ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَاعْتَلَوْا وَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. يَقُولُ: عَلَيْهِمْ مَا تَمَنّوْا وَظَنّوا، وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَالُوا: إنّمَا خَرَجَ مُحَمّدٌ فِى أَكَلَةِ رَأْسٍ يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ. ×إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا% قَالَ: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ وَمُبَشّرًا لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَنَذِيرًا لَهُمْ مِنْ النّارِ، ×وَتُعَزّرُوهُ% قَالَ: تَنْصُرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُعَظّمُوهُ ×وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً% قَالَ: تُصَلّوا لِلّهِ بُكْرَةً وَعَشِيّا. ×إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ% حِينَ دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَيْعَةِ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَبَايَعُوهُ يَوْمئِذٍ عَلَى أَلاّ يَفِرّوا، وَيُقَالُ عَلَى الْمَوْتِ ×فَمَنْ نَكَثَ فَإِنّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ% يَقُولُ مَنْ بَدّلَ أَوْ غَيّرَ مَا بَايَعَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَإِنّمَا ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى فَإِنّ لَهُ الْجَنّةَ، ×سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ% قَالَ: هُمْ الّذِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَاسْتَنْفَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِى بِدَايَتِهِ فَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمّا سَلّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَجَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءُوهُ يَقُولُونَ: اسْتَغْفِرْ لَنَا إبَاءَنَا أَنْ نَسِيرَ مَعَك. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ% يَقُولُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ×بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا% إلَى قَوْله عَزّ وَجَلّ: ×وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا% قَالَ: قَوْلُهُمْ حِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَإِنّمَا مُحَمّدًا فِى أَكَلَةِ رَأْسٍ يَخْرُجُ إلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ مُعِدّينَ وَمُحَمّدٌ لا سِلاحٌ مَعَهُ وَلا عِدّةٌ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا، ×وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ% قَالَ: كَانَ يَقِينًا فِى قُلُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا% يَقُولُ: هَلْكَى. وَقَوْلُهُ: ×سَيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ إلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا% إلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ: هُمْ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ هَؤُلاءِ الْعَرَبُ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَكْرٍ، لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ التّوَجّهَ إلَى خَيْبَرَ قَالُوا: نَحْنُ نَتْبَعُكُمْ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ% قَالَ: الّذِى قَضَى اللّهُ قَضَى أَلاّ تَتْبَعُونَا، وَهُوَ كَلامُ اللّهِ يُقَال قَضَاءَهُ. يَقُولُ: ×قُلْ لِلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ% يَعْنِى هَؤُلاءِ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْك فِى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. ×سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ% قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرّومُ، وَيُقَالُ هَوَازِنُ، وَيُقَالُ: بَنِى حَنِيفَةَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، ×تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلّوْا كَمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا% قَالَ: إنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا كَمَا أَبَيْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. ×لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ% قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ الْعَوْرَاتُ الثّلاثُ. ×لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ% أَخْرِجُوا الْعُمْيَانَ وَالْمَرْضَى وَالْعُرْجَانَ مِنْ بُيُوتِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ% وَيُقَالُ: هَذَا فِى الْغَزْوِ. وَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا نَفَرُوا لِلْغَزْوِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ الزّمْنَى مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى ذَلِكَ رُخْصَةً لَهُمْ بِالإِذْنِ فِى كُلّ ×لَقَدْ رَضِىَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ% قَالَ: وَهِىَ سَمُرَةٌ خَضْرَاءُ ×فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ%، قَالَ: صِدْقَ نِيّاتِهِمْ. ×فَأَنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ% يَعْنِى الطّمَأْنِينَةَ، وَهُوَ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ ×فَتْحًا قَرِيبًا% قَالَ: صُلْحُ قُرَيْشٍ وَمَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِى قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: ×فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ% قَالَ: فَتْحَ خَيْبَرَ، ×وَكَفّ أَيْدِىَ النّاسِ عَنْكُمْ% قَالَ: الّذِينَ كَانُوا طَافُوا بِالنّبِىّ ÷ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرّةً، فَأَسَرَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَسْرًا، ×وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ% قَالَ: عِبْرَةً صُلْحُ قُرَيْشٍ وَحُكْمٌ [ لَمْ ] يَكُنْ فِيهِ سَيْفٌ وَكَانَ فَتْحًا عَظِيمًا ×وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا% قَالَ: فَارِس ُ وَالرّومُ، وَيُقَالُ: مَكّةُ. ×وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوَلّوُا الأَدْبَارَ ثُمّ لا يَجِدُونَ وَلِيّا وَلا نَصِيرًا% يَقُولُ: لَوْ قَاتَلَتْكُمْ قُرَيْشٌ انْهَزَمُوا ثُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ اللّهِ وَلِىّ، يَعْنِى حَافِظًا، وَلا نَصِيرَ مِنْ الْعَرَبِ. ×سُنّةُ اللّهِ الّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً% قَالَ: قَضَاءُ اللّهِ الّذِى قَضَى وَلا تَبْدِيلَ أَنّ رُسُلَهُ يَظْهَرُونَ وَيَغْلِبُونَ. ×وَهُوَ الّذِى كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ% قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ أَسَرُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَسْرَى، فَكَفّ اللّهُ أَيْدِى الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ ×وَأَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ% مَنْ كَانُوا حُبِسُوا بِمَكّةَ، فَذَلِكَ الظّفَرُ. ×هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ% يَقُولُ: حَيْثُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَحُبِسَ بِالْحُدَيْبِيَةِ؛ ×وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا% يَقُولُ: لَوْلا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْتَضْعَفُونَ بِمَكّةَ، ×أَنْ تَطَئُوهُمْ% يَقُولُ: أَنْ تَقْتُلُوهُمْ وَلا تَعْرِفُوهُمْ فَيُصِيبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ بَلاءٌ عَظِيمٌ حَيْثُ قَتَلْتُمْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ×لَوْ تَزَيّلُوا% يَقُولُ لَوْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ ×لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا%، يَقُولُ سَلّطْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ بِالسّيْفِ. ×إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ% حَيْثُ أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ: مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ، وَحَيْثُ أَبَى أَنْ يَكْتُبَ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، ×فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ% يَقُولُ: بَيْنَهُمْ ×وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا%، يَقُولُ: لا إلَهِ إلاّ اللّهُ هُمْ أَحَقّ بِهَا، وَأَوْلَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ، ×لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ% إلَى قَوْلِهِ: ×فَجَعَلَ مِنْ دُون ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا%، وَالْفَتْحُ الْقَرِيبُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ فَحَلَقَ وَحَلَقَ مَعَهُ قَوْمٌ وَقَصّرَ مَنْ قَصّرَ وَدَخَلَ فِى حَجّتِهِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ آمَنِينَ لا يَخَافُ إلاّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ. ×مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا% قَالَ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ الْفَضْلَ مِنْ اللّهِ وَالرّضْوَانَ. ×سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ% قَالَ: أَثَرُ الْخُشُوعِ وَالتّوَاضُعِ ×مَثَلُهُمْ فِى التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ% فَهَذَا فِى الإِنْجِيلِ، يَعْنِى أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ ÷ كَانُوا قَلِيلاً، ثُمّ ازْدَادُوا، ثُمّ كَثُرُوا، ثُمّ اسْتَغْلَظُوا. وَقَالَ: ×وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ% قَالَ: هِىَ مَفْصُولَةٌ بِأَنّهُمْ آمَنُوا بِاَللّهِ وَرُسُلِهِ يُصَدّقُونَهُمْ. قَالَ بَعْدُ: ×وَالشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ% وَفِى قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: ×وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ%، يَعْنِى مَا كَانَ فُتِحَ فِى الإِسْلامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ حَجَزَتْ بَيْنَ النّاسِ وَانْقَطَعَ الْكَلامُ، وَإِنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَوْا، فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَآمَنَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ تَكَلّمَ بِالإِسْلامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلاّ دَخَلَ فِى الإِسْلامِ حَتّى دَخَلَ فِى تِلْكَ الْهُدْنَةِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ الّذِينَ يَقُومُونَ بِالشّرْكِ وَبِالْحَرْبِ - عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَشْبَاهٌ لَهُمْ وَإِنّمَا كَانَتْ الْهُدْنَةُ حَتّى نَقَضُوا الْعَهْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، دَخَلَ فِيهَا مِثْلُ مَا دَخَلَ فِى الإِسْلامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ وَفَشَا الإِسْلامُ فِى كُلّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِى الْعَرَبِ. وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَتَاهُ أَبُو بِصَيْرٍ - وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ حَلِيفُ بَنِى زُهْرَةَ - مُسْلِمًا، قَدْ انْفَلَتَ مِنْ قَوْمِهِ فَسَارَ عَلَى قَدَمَيْهِ سَعْيًا، فَكَتَبَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ الزّهْرِىّ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ كِتَابًا، وَبَعَثَا رَجُلاً مِنْ بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَىّ، اسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرٍ ابْنِ لَبُونٍ - وَهُوَ خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ - وَخَرَجَ مَعَ الْعَامِرِىّ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: كَوْثَرُ وَحَمَلا خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ عَلَى بَعِيرٍ وَكَتَبَا يَذْكُرَانِ الصّلْحَ بَيْنَهُمْ وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ فَلَمّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدِمَا بَعْدَ أَبِى بِصَيْرٍ بِثَلاثَةِ أَيّامٍ فَقَالَ خُنَيْسٌ: يَا مُحَمّدُ هَذَا كِتَابٌ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أُبَىّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ قَدْ عَرَفْت مَا شَارَطْنَاكَ عَلَيْهِ وَأَشْهَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك، مِنْ رَدّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْك مِنْ أَصْحَابِنَا، فَابْعَثْ إلَيْنَا بِصَاحِبِنَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بِصَيْرٍ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُمْ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَرُدّنِى إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِى فِى دِينِى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا أَبَا بِصَيْرٍ إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْت، وَلا يَصْلُحُ لَنَا فِى دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا”. قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَرُدّنِى إلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “انْطَلِقْ يَا أَبَا بِصَيْرٍ، فَإِنّ اللّهَ سَيَجْعَلُ لَك مَخْرَجًا”، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْعَامِرِىّ وَصَاحِبِهِ فَخَرَجَ مَعَهُمَا؛ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُسِرّونَ إلَى أَبِى بِصَيْرٍ، يَا أَبَا بِصَيْرٍ أَبْشِرْ فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك مَخْرَجًا، وَالرّجُلُ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ فَافْعَلْ وَافْعَلْ يَأْمُرُونَهُ بِاَلّذِينَ مَعَهُ، فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ - انْتَهَوْا إلَيْهَا عِنْدَ صَلاةِ الظّهْرِ - فَدَخَلَ أَبُو بِصَيْرٍ مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ صَلاةَ الْمُسَافِرِ وَمَعَهُ زَادٌ لَهُ يَحْمِلُهُ مِنْ تَمْرٍ، فَمَالَ إلَى أَصْلِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ زَادَهُ فَجَعَلَ يَتَغَدّى، وَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ: اُدْنُوَا فَكُلا، فَقَالا: لا حَاجَةَ لَنَا فِى طَعَامِك، فَقَالَ: وَلَكِنْ لَوْ دَعَوْتُمُونِى إلَى طَعَامِكُمْ لأَجَبْتُكُمْ وَأَكَلْت مَعَكُمْ. فَاسْتَحْيِيَا فَدَنَوْا وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِى التّمْرِ مَعَهُ وَقَدّمَا سُفْرَةً لَهُمَا فِيهَا كِسْرٌ فَأَكَلُوا جَمِيعًا، وَآنَسَهُمْ وَعَلّقَ الْعَامِرِىّ بِسَيْفِهِ عَلَى حَجَرٍ فِى الْجِدَارِ، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ لِلْعَامِرِىّ: يَا أَخَا بَنِى عَامِرٍ مَا اسْمُك؟ فَقَالَ خُنَيْسٌ: قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ جَابِرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَصَارِمٌ سَيْفَك هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: نَاوِلْنِيهِ أَنْظُرْ إلَيْهِ إنْ شِئْت، فَنَاوَلَهُ الْعَامِرِىّ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى السّيْفِ مِنْ أَبِى بِصَيْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو بِصَيْرٍ بِقَائِمِ السّيْفِ وَالْعَامِرِىّ مُمْسِكٌ بِالْجَفْنِ فَعَلاهُ بِهِ حَتّى بَرَدَ، وَخَرَجَ كَوْثَرُ هَارِبًا يَعْدُو نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ فِى أَثْرِهِ، فَأَعْجَزَهُ حَتّى سَبَقَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَقُولُ أَبُو بِصَيْرٍ: وَاَللّهِ لَوْ أَدْرَكْته لأَسْلَكْته طَرِيقَ صَاحِبِهِ فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسٌ فِى أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ إذْ طَلَعَ الْمَوْلَى يَعْدُو، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: “هَذَا رَجُلٌ قَدْ رَأَى ذُعْرًا”، فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَيْحَك، مَا لَك”؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِى، وَأَفْلَتْ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ وَكَانَ الّذِى حَبَسَ أَبَا بِصَيْرٍ احْتِمَالُ سَلَبِهِمَا عَلَى بَعِيرِهِمَا، فَلَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ قَائِمًا حَتّى طَلَعَ أَبُو بِصَيْرٍ، فَأَنَاخَ الْبَعِيرَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ - سَيْفِ الْعَامِرِىّ - فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ: وَفَتْ ذِمّتُك وَأَدّى اللّهُ عَنْك، وَقَدْ أَسَلّمْتنِى بِيَدِ الْعَدُوّ، وَقَدْ امْتَنَعْت بِدِينِى مِنْ أَنْ أُفْتَنَ وَتَبَغّيْتَ بِى أَنْ أَكْذِبَ بِالْحَقّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ”. وَجَاءَ أَبُو بِصَيْرٍ بِسَلَبِ الْعَامِرِىّ خُنَيْسِ بْنِ جَابِرٍ وَرَحْلِهِ وَسَيْفِهِ، فَقَالَ: خَمّسْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى إذَا خَمّسْته رَأَوْنِى لَمْ أُوَفّ لَهُمْ بِاَلّذِى عَاهَدْتهمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ شَأْنُك بِسَلَبِ صَاحِبِك”، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِكَوْثَرَ: “تَرْجِعُ بِهِ إلَى أَصْحَابِك”، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ قَدْ أَهَمّنِى نَفْسِى، مَا لِى بِهِ قُوّةٌ وَلا يَدَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَبِى بِصَيْرٍ: “اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت”، فَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ حَتّى أَتَى الْعِيصَ، فَنَزَلَ مِنْهُ نَاحِيَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ إلَى الشّامِ، قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: فَخَرَجْت وَمَا مَعِى مِنْ الزّادِ إلاّ كَفّ مِنْ تَمْرٍ فَأَكَلْتهَا ثَلاثَةَ أَيّامٍ وَكُنْت آتِى السّاحِلَ فَأُصِيبُ حِيتَانًا قَدْ أَلْقَاهَا الْبَحْرُ فَآكُلُهَا، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ قَدْ حُبِسُوا بِمَكّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَلْحَقُوا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ قَوْلُ النّبِىّ ÷ لأَبِى بِصَيْرٍ: “وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ”، فَجَعَلُوا يَتَسَلّلُونَ إلَى أَبِى بِصَيْرٍ. وَكَانَ الّذِى كَتَبَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ بِالسّاحِلِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ، فَلَمّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ عُمَرَ جَعَلُوا يُتَسَلّلُونَ رَجُلاً رَجُلاً حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَبِى بِصَيْرٍ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً، فَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لا يَظْفَرُونَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلاّ قَتَلُوهُ وَلا تَمُرّ عِيرٌ إلاّ اقْتَطَعُوهَا، حَتّى أَحْرَقُوا قُرَيْشًا، لَقَدْ مَرّ رَكْبٌ يُرِيدُونَ الشّامَ مَعَهُمْ ثَلاثُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ هَذَا آخِرُ مَا اقْتَطَعُوا، لَقَدْ أَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ ثَلاثُونَ دِينَارًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْعَثُوا بِالْخُمُسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ. فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: لا يَقْبَلُهُ رَسُولُ اللّهِ قَدْ جِئْت بِسَلَبِ الْعَامِرِىّ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَقَالَ: إنّى إذَا فَعَلْت هَذَا لَمْ أَفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ. وَكَانُوا قَدْ أَمّرُوا عَلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ فَكَانَ يُصَلّى بِهِمْ وَيُفَرّضُهُمْ وَيُجَمّعُهُمْ وَهُمْ سَامِعُونَ لَهُ مُطِيعُونَ. فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ أَبِى بِصَيْرٍ لِلْعَامِرِىّ اشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاَللّهِ مَا صَالَحْنَا مُحَمّدًا عَلَى هَذَا، قَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ مِنْهُ قَدْ أَمْكَنَ صَاحِبُكُمْ فَقَتَلَهُ بِالطّرِيقِ فَمَا عَلَى مُحَمّدٍ فِى هَذَا؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ: قَدْ وَاَللّهِ عَرَفْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ أَوْفَى، وَمَا أُوتِينَا إلاّ مِنْ قِبَلِ الرّسُولَيْنِ، قَالَ: فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: وَاَللّهِ لا أُؤَخّرُ ظَهْرِى حَتّى يُودَى هَذَا الرّجُلُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّ هَذَا لَهُوَ السّفَهُ وَاَللّهِ لا يُودَى ثَلاثًا، وَأَنّى قُرَيْشٌ تَدِيهِ وَإِنّمَا بَعَثَتْهُ بَنُو زُهْرَةَ؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ: قَدْ وَاَللّهِ صَدَقْت، مَا دِيَتُهُ إلاّ عَلَى بَنِى زُهْرَةَ وَهُمْ بَعَثُوهُ وَلا يُخْرِجُ دِيَتَهُ غَيْرُهُمْ قَصْرَةً لأَنّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ فَهُمْ أَوْلَى مِنْ عَقْلِهِ. فَقَالَ الأَخْنَسُ: وَاَللّهِ لا نَدِيهِ مَا قَتَلْنَا وَلا أَمَرْنَا بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ رَجُلٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا مُتّبِعٌ لِمُحَمّدٍ فَأَرْسَلُوا إلَى مُحَمّدٍ يَدِيهِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لا، مَا عَلَى مُحَمّدٍ دِيَةٌ وَلا غُرْمٌ قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ مَا كَانَ عَلَى مُحَمّدٍ أَكْثَرُ مِمّا صَنَعَ لَقَدْ أَمْكَنَ الرّسُولَيْنِ مِنْهُ، فَقَالَ الأَخْنَسُ: إنْ وَدَتْهُ قُرَيْشٌ كُلّهَا كَانَتْ زُهْرَةُ بَطْنًا مِنْ قُرَيْشٍ تَدِيهِ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَدِهِ قُرَيْشٌ فَلا نَدِيهِ أَبَدًا، فَلَمْ تَخْرُجْ لَهُ دِيَةٌ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَام الْفَتْحِ، فَقَالَ مَوْهَبُ بْنُ رِيَاحٍ، فِيمَا قَالَ سُهَيْلٌ فِى بَنِى زُهْرَةَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ يُغَرّمَهُمْ مِنْ الدّيَةِ: أَتَانِى عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْوُ قَوْلٍ

فَإنْ كُنْتَ الْعتَابَ تُريدُ منّى

مَتَى تَغْمزْ قَنَاتى لاَ تَجدْنى يُسَامـــــى الأَكْرَميــنَ بعـزّ قَــوْم ليُوقظَنى وَمَا بى منْ رُقَاد فَمَا بَيْنى وَبَيْنَكَ منَ بعَاد ضَعيفَ الرّأْى فى الْكُرَب الشّدَاد هُمُ الرّأْسُ الْمُقَدّمُ فــى الْعبَــــاد أَنْشَدَنِيهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى عُبَيْدَةَ وَسَمِعْتهمْ يَثْبُتُونَهَا. فَلَمّا بَلَغَ أَبُو بِصَيْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَا بَلَغَ مِنْ الْغَيْظِ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلاً، وَكَتَبَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ كِتَابًا يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَلاّ تُدْخِلَ أَبَا بِصَيْرٍ وَأَصْحَابَهُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِمْ؟ وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أَبِى بِصَيْرٍ أَنْ يَقْدَمَ بِأَصْحَابِهِ مَعَهُ فَجَاءَهُ الْكِتَابُ وَهُوَ يَمُوتُ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَهُوَ يَمُوتُ فَمَاتَ وَهُوَ فِى يَدَيْهِ فَقَبَرَهُ أَصْحَابُهُ هُنَاكَ وَصَلّوْا عَلَيْهِ وَبَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً، فِيهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَلَمّا دَخَلَ الْحَرّةَ عَثَرَ فَانْقَطَعَتْ إصْبَعُهُ فَرَبَطَهَا وَهُوَ يَقُولُ: وَفِى سَبِيـــلِ اللّهِ مَا لَقِيــــت هَلْ أَنْــتِ إلاّ إصْبَـــــعٌ دَمِيَـــتْ

فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا. فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ائْذَنْ لِى أَبْكِى عَلَى الْوَلِيدِ. قَالَ: “ابْكِى عَلَيْهِ”، قَالَ: فَجَمَعَتْ النّسَاءَ وَصَنَعَتْ لَهُنّ طَعَامًا، فَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ بُكَائِهَا: يَا عَيْنُ فَابْكِى لِلْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيـ مِثْلُ الْوَلِيــــــــدِ بْــــــنِ الْوَلِيــ ــــدِ بْـــــنِ الْــــمُغِيـــــــرَهْ ـــــدِ أَبِى الْوَلِيدِ كَفَـــى الْعَشِيرَهْ فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَرْدَادَ الْوَلِيدِ قَالَ: “مَا اتّخَذُوا الْوَلِيدَ إلاّ حَنَانًا”. وَقَالُوا: لا نَعْلَمُ قُرَشِيّةً خَرَجَتْ بَيْنَ أَبَوَيْهَا مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إلَى اللّهِ إلاّ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ، كَانَتْ تُحَدّثُ تَقُولُ كُنْت أَخْرُجُ إلَى بَادِيَةٍ لَنَا بِهَا أَهْلِى فَأُقِيمُ فِيهِمْ الثّلاثَ وَالأَرْبَعَ وَهِىَ مِنْ نَاحِيَةِ التّنْعِيمِ - أَوْ قَالَتْ بِالْحِصْحَاصِ - ثُمّ أَرْجِعُ إلَى أَهْلِى فَلا يُنْكِرُونَ ذَهَابِى، حَتّى أَجْمَعْت السّيْرَ فَخَرَجْت يَوْمًا مِنْ مَكّةَ كَأَنّى أُرِيدُ الْبَادِيَةَ الّتِى كُنْت فِيهَا، فَلَمّا رَجَعَ مَنْ تَبِعَنِى خَرَجْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى الطّرِيقِ فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَقُلْت: حَاجَتِى؛ فَمَا مَسْأَلَتُك وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، فَلَمّا ذَكَرَ خُزَاعَةَ اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ لِدُخُولِ خُزَاعَةَ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَقْدِهِ، فَقُلْت: إنّى امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُرِيدُ اللّحُوقَ بِرَسُولِ اللّهِ وَلا عِلْمَ لِى بِالطّرِيقِ، فَقَالَ: أَهْلُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَنَا صَاحِبُك حَتّى أُورِدَك الْمَدِينَةَ، ثُمّ جَاءَنِى بِبَعِيرٍ فَرَكِبْته، فَكَانَ يَقُودُ بِى الْبَعِيرَ لا وَاَللّهِ مَا يُكَلّمُنِى كَلِمَةً حَتّى إذَا أَنَاخَ الْبَعِيرَ تَنَحّى عَنّى، فَإِذَا نَزَلْت جَاءَ إلَى الْبَعِيرِ فَقَيّدَهُ فِى الشّجِرَةِ وَتَنَحّى عَنّى فِى الشّجَرَةِ، حَتّى إذَا كَانَ الرّوَاحُ جَذَعَ الْبَعِيرُ فَقَرّبَهُ وَوَلّى عَنّى، فَإِذَا رَكِبْته أَخَذَ بِرَأْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَرَاءَهُ، حَتّى نَنْزِلُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ فَكَانَتْ تَقُولُ: نِعْمَ الْحَىّ خُزَاعَةُ، قَالَتْ: فَدَخَلْت عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷، وَأَنَا مُنْتَقِبَةٌ فَمَا عَرَفْتنِى حَتّى انْتَسَبْت، وَكَشَفْت النّقَابَ فَالْتَزَمَتْنِى وَقَالَتْ هَاجَرْت إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَرُدّنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا رَدّ غَيْرِى مِنْ الرّجَالِ أَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَأَبَا بِصَيْرٍ وَحَالُ الرّجَالِ يَا أُمّ سَلَمَةَ، لَيْسَ كَحَالِ النّسَاءِ، وَالْقَوْمُ مُصَبّحِى، قَدْ طَالَتْ غِيبَتِى عَنْهُمْ الْيَوْمَ ثَمَانِيّةَ أَيّامٍ مُنْذُ فَارَقْتهمْ فَهُمْ يَبْحَثُونَ قَدْرَ مَا كُنْت أَغِيبُ ثُمّ يَطْلُبُونَنِى، فَإِنْ لَمْ يَجِدُونِى رَحَلُوا إلَىّ فَسَارُوا ثَلاثًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ خَبَرَ أُمّ كُلْثُومٍ، فَرَحّبَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَتْ أُمّ كُلْثُومٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى فَرَرْت بِدِينِى إلَيْك، فَامْنَعْنِى وَلا تَرُدّنِى إلَيْهِمْ يَفْتِنُونِى وَيُعَذّبُونِى، فَلا صَبْرَ لِى عَلَى الْعَذَابِ إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَضَعْفُ النّسَاءِ إلَى مَا تَعْرِفُ، وَقَدْ رَأَيْتُك رَدَدْت رَجُلَيْنِ إلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، وَأَنَا امْرَأَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ اللّهَ نَقَضَ الْعَهْدَ فِى النّسَاءِ”، وَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِنّ “الْمُمْتَحِنَةَ”. وَحَكَمَ فِى ذَلِكَ بِحُكْمٍ رَضَوْهُ كُلّهُمْ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَرُدّ مَنْ جَاءَ مِنْ الرّجَالِ وَلا يَرُدّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ النّسَاءِ. وَقَدِمَ أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ الْوَلِيدُ وَعُمَارَةُ ابْنَا عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ، فَقَالا: يَا مُحَمّدُ فِلَنَا بِشُرُوطِنَا وَمَا عَاهَدْتنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: “قَدْ نَقَضَ اللّهُ فَانْصَرَفَا”. فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَكْتُبُ إلَى هُنَيْدٍ صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ% فَكَتَبَ إلَيْهِ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ، فَكَانَ يَرُدّ الرّجَالَ، فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ أَبَى اللّهُ ذَلِكَ أَنْ يَرُدّهُنّ إذَا اُمْتُحِنّ بِمِحْنَةِ الإِسْلامِ فَزَعَمَتْ أَنّهَا جَاءَتْ رَاغِبَةً فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدّ صَدُقَاتِهِنّ إلَيْهِمْ إنْ احْتَبَسْنَ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِى يَرُدّونَ عَلَيْهِمْ إنْ فَعَلُوا، فَقَالَ: ×وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا% وَصَبّحَهَا أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ فَطَلَبَاهَا، فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَرُدّهَا إلَيْهِمْ فَرَجَعَا إلَى مَكّةَ، فَأَخْبَرَا قُرَيْشًا. فَلَمْ يَبْعَثُوا فِى ذَلِكَ أَحَدًا، وَرَضُوا بِأَنْ تُحْبَسَ النّسَاءُ مَا أَنْفَقُوا ×ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ% ×وَإِنْ فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ، فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا% قَالَ: فَإِنْ فَاتَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفّارِ فَإِنْ أَتَتْكُمْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فَأَصَبْتُمْ فَعَوّضُوهُمْ مِمّا أَصَبْتُمْ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ الّتِى أَتَتْكُمْ، فَأَمّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرّوا بِحُكْمِ اللّهِ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُقِرّوا بِذَلِكَ، وَأَنّ مَا ذَابَ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَاقِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ. ×فَآتَوْا الّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ% مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فِى أَيْدِيكُمْ. وَلَسْنَا نَعْلَمُ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتَتْ زَوْجَهَا بِاللّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إيمَانِهَا، وَلَكِنّهُ حُكْمٌ حَكَمَ اللّهُ بِهِ لأَمْرٍ كَانَ وَاَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ×وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ% يَعْنِى مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَطَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِى أُمَيّةَ، فَتَزَوّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، وَطَلّقَ عُمَرُ أَيْضًا بِنْتَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيّةَ، فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَطَلّقَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْفِهْرِىّ أُمّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ يَوْمئِذٍ، فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُثْمَانَ الثّقَفِىّ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أُمّ الْحَكَمِ.

  • * *







غَزْوَةُ خَيْبَرَ حَدّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حَيّوَيْهِ لَفْظًا، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلاثِمِائَةٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ عِيسَى بْنِ أَبِى حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى ابْنِ سَهْلٍ، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِىّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ وَيُونُسُ، وَيَعْقُوبُ ابْنَا مُحَمّدٍ الظّفَرِيّانِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِى زَيْدِ بْنِ الْمُعَلّى الزّرَقِىّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَا مُحَمّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، وَمَعْمَرُ ابْنُ رَاشِدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلاءِ الْمُسَمّينَ، قَدْ حَدّثَنِى مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ، فَكَتَبْت مَا حَدّثُونِى. قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْحَجّةِ تَمَامَ سَنَةَ سِتّ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِى الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمِ وَخَرَجَ فِى صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ - وَيُقَالُ خَرَجَ لِهِلالِ رَبِيعٍ الأَوّلِ - إلَى خَيْبَرَ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ لِلْغَزْوِ فَهُمْ مُجِدّونَ وَتَجَلّبَ مَنْ حَوْلَهُ يَغْزُونَ مَعَهُ وَجَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك وَقَدْ كَانُوا تَخَلّفُوا عَنْهُ فِى غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَرْجَفُوا بِالنّبِىّ ÷ وَبِالْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك إلَى خَيْبَرَ، إنّهَا رِيفُ الْحِجَازِ طَعَامًا وَوَدَكًا وَأَمْوَالاً. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَخْرُجُوا مَعِى إلاّ رَاغِبِينَ فِى الْجِهَادِ فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلا”. وَبَعَثَ مُنَادِيًا فَنَادَى: “لا يَخْرُجَنّ مَعَنَا إلاّ رَاغِبٌ فِى الْجِهَادِ فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلا” فَلَمّا تَجَهّزَ النّاسُ إلَى خَيْبَرَ شَقّ ذَلِكَ عَلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِالّذِينَ هُمْ مُوَادِعُونَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ إذَا دَخَلُوا خَيْبَرَ أَهَلَكَ اللّهُ خَيْبَرَ كَمَا أَهَلَكَ بَنِى قَيْنُقَاعَ وَالنّضِيرَ وَقُرَيْظَةَ. قَالَ: فَلَمّا تَجَهّزْنَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقّ إلاّ لَزِمَهُ، وَكَانَ لأَبِى الشّحْمِ الْيَهُودِىّ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ الأَسْلَمِىّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِى شَعِيرٍ أَخَذَهُ لأَهْلِهِ فَلَزِمَهُ، فَقَالَ: أَجّلْنِى فَإِنّى أَرْجُو أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْك فَأَقْضِيَك حَقّك إنْ شَاءَ اللّهُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَ نَبِيّهُ خَيْبَرَ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حَدْرَدٍ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الشّحْمِ إنّا نَخْرُجُ إلَى رِيفِ الْحِجَازِ فِى الطّعَامِ وَالأَمْوَالِ. فَقَالَ أَبُو الشّحْمِ حَسَدًا وَبَغْيًا: تَحْسِبُ أَنّ قِتَالَ خَيْبَرَ مِثْلُ مَا تَلْقَوْنَهُ مِنْ الأَعْرَابِ؟ فِيهَا وَالتّوْرَاةُ عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ. قَالَ ابْنُ أَبِى حَدْرَدٍ: أَىْ عَدُوّ اللّهِ تُخَوّفْنَا بِعَدُوّنَا وَأَنْتَ فِى ذِمّتِنَا وَجِوَارِنَا؟ وَاَللّهِ لأَرْفَعَنّكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا تَسْمَعُ إلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْيَهُودِيّ؟ وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ أَبُو الشّحْمِ. فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْئًا، إلاّ أَنّى رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ لَمْ أَسْمَعْهُ فَقَالَ الْيَهُودِىّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ هَذَا قَدْ ظَلَمَنِى وَحَبَسَنِى بِحَقّى وَأَخَذَ طَعَامِى قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَعْطِهِ حَقّهُ”، قَالَ عَبْدُ اللّهِ: فَخَرَجْت فَبِعْت أَحَدَ ثَوْبَىْ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ وَطَلَبْت بَقِيّةَ حَقّهِ فَقَضَيْته، وَلَبِسْت ثَوْبِى الآخَرَ وَكَانَتْ عَلَىّ عِمَامَةٌ فَاسْتَدْفَأْت بِهَا. وَأَعْطَانِى سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ ثَوْبًا آخَرَ فَخَرَجْت فِى ثَوْبَيْنِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَنَفّلَنِى اللّهُ خَيْرًا، وَغَنِمْت امْرَأَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبِى الشّحْمِ قَرَابَةٌ فَبِعْتهَا مِنْهُ بِمَالٍ. وَجَاءَ أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ وَلا زَادَ وَلا ثَوْبَ أَخْرُجُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ شَقِيقَة سُنْبُلانِيّة، فَبَاعَهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ فَابْتَاعَ تَمْرًا بِدِرْهَمَيْنِ لَزَادَهُ وَتَرَكَ لأَهْلِهِ نَفَقَةً دِرْهَمَيْنِ وَابْتَاعَ بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى طَرِيقِ خَيْبَرَ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ إذْ أَبْصَرَ بِرَجُلٍ يَسِيرُ أَمَامَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَبْرُقُ فِى الْقَمَرِ كَأَنّهُ فِى الشّمْسِ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مِنْ هَذَا”؟ فَقِيلَ: أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَدْرَكُوهُ” قَالَ: فَأَدْرَكُونِى فَحَبَسُونِى، وَأَخَذَنِى مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ وَظَنَنْت أَنّهُ قَدْ نَزَلَ فِىّ أَمْرٌ مِنْ السّمَاءِ فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ مَا فَعَلْت حَتّى لَحِقَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “مَا لَك تَقْدُمُ النّاسَ لا تَسِيرُ مَعَهُمْ”؟ قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ نَاقَتِى نَجِيبَةٌ، قَالَ: “فَأَيْنَ الشّقِيقَةُ الّتِى كَسَوْتُك”؟ فَقُلْت: بِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ فَتَزَوّدَتْ بِدِرْهَمَيْنِ تَمْرًا، وَتَرَكْت لأَهْلِى نَفَقَةِ دِرْهَمَيْنِ وَاشْتَرَيْت بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ ÷، ثُمّ قَالَ: “أَنْتَ وَاَللّهِ يَا أَبَا عَبْسٍ وَأَصْحَابُك مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَئِنْ سَلّمْتُمْ وَعِشْتُمْ قَلِيلاً لَيَكْثُرَنّ زَادَكُمْ وَلَيَكْثُرَنّ مَا تَتْرُكُونَ لأَهْلِيكُمْ وَلَتَكْثُرَنّ دَرَاهِمُكُمْ وَعَبِيدُكُمْ وَمَا ذَاكَ بِخَيْرٍ لَكُمْ”، قَالَ أَبُو عَبْسٍ: فَكَانَ وَاَللّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِىّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: رَسُولُ اللّهِ بِخَيْبَرَ، وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَقُلْت: لا أَسْمَعُ بِهِ يَنْزِلُ مَكَانًا أَبَدًا إلاّ جِئْته، فَتَحَمّلْنَا حَتّى جِئْنَاهُ بِخَيْبَرَ فَنَجِدُهُ قَدْ فَتَحَ النّطَاةَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ، فَأَقَمْنَا حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْنَا، وَكُنّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَصَلّيْنَا الصّبْحَ خَلْفَ سِبَاعِ بْنِ عُرْفُطَةَ بِالْمَدِينَةِ فَقَرَأَ فِى الرّكْعَةِ الأُولَى سُورَةَ مَرْيَمَ وَفِى الآخِرَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ فَلَمّا قَرَأَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ قُلْت: تَرَكْت عَمّى بِالسّرَاةِ لَهُ مِكْيَالانِ مِكْيَالٌ يُطَفّفُ بِهِ وَمِكْيَالٌ يَتَبَخّسُ بِهِ. وَيُقَالُ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا ذَرّ، وَالثّبْتُ عِنْدَنَا سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ. وَكَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ لا يَظُنّونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَغْزُوهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَسِلاحِهِمْ وَعَدَدِهِمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ كُلّ يَوْمٍ عَشْرَةَ آلافِ مُقَاتِلٍ صُفُوفًا ثُمّ يَقُولُونَ مُحَمّدٌ يَغْزُونَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ وَكَانَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ يَقُولُونَ حِينَ تَجَهّزَ النّبِىّ ÷ إلَى خَيْبَرَ: مَا أَمْنَعُ وَاَللّهِ خَيْبَرَ مِنْكُمْ لَوْ رَأَيْتُمْ خَيْبَرَ وَحُصُونَهَا وَرِجَالَهَا لَرَجَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُصَلّوا إلَيْهِمْ حُصُونٌ شَامِخَاتٌ فِى ذُرَى الْجِبَالِ وَالْمَاءُ فِيهَا وَاتِنٌ إنّ بِخَيْبَرَ لأَلْفِ دَارِعٍ مَا كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطْفَان يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً إلاّ بِهِمْ فَأَنْتُمْ تُطِيقُونَ خَيْبَرَ؟ فَجَعَلُوا يُوحَوْنَ بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ فَيَقُولُ أَصْحَابُ النّبِىّ ÷: قَدْ وَعَدَهَا اللّهُ نَبِيّهُ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ فَعَمّى اللّهُ عَلَيْهِمْ مَخْرَجَهُ إلاّ بِالظّنّ حَتّى نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِسَاحَاتِهِمْ لَيْلاً. وَكَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ حَيْثُ أَحَسّوا بِمَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ الْيَهُودِىّ بِأَنْ يُعَسْكِرُوا خَارِجًا مِنْ حُصُونِهِمْ وَيَبْرُزُوا لَهُ فَإِنّى قَدْ رَأَيْت مَنْ سَارَ إلَيْهِ مِنْ الْحُصُونِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَقَاءٌ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَبْىٍ وَمِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ صَبْرًا. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: إنّ حُصُونَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ تِلْكَ هَذِهِ حُصُونٌ مَنِيعَةٌ فِى ذُرَى الْجِبَالِ. فَخَالَفُوهُ وَثَبَتُوا فِى حُصُونِهِمْ فَلَمّا صَبّحَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَعَايَنُوهُ أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَلَكَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، ثُمّ أَخَذَ عَلَى الزّغَابَةَ ثُمّ عَلَى نَقْمَى، ثُمّ سَلَكَ الْمُسْتَنَاخَ ثُمّ كَبَسَ الْوَطِيحَ، وَمَعَهُمْ دَلِيلانِ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا: حَسِيلُ بْنُ خَارِجَةَ، وَالآخَرُ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُعَيْمٍ خَرَجَ عَلَى عَصْرٍ وَبِهِ مَسْجِدٌ ثُمّ عَلَى الصّهْبَاءِ. فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَسِيرِهِ قَالَ لِعَامِرِ بْنِ سِنَانٍ: “انْزِلْ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ فَخُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك”. فَاقْتَحَمَ عَامِرٌ عَنْ رَاحِلَتِهِ ثُمّ ارْتَجَزَ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَقُولُ: اللّهُمّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إنّــــا إذَا صِيــــحَ بِنــــَا أَتَيْنَــــا وَلا تَصَدّقْنَا وَلا صَلّيْنَا

وَثَبّتْ الأَقْدَامَ إنْ لاقَيْنَا

وَبِالصّيَــــــاحِ عَــــوّلُوا عَلَيْنَـــا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَرْحَمُك اللّهُ” فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: وَجَبَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَوْلا مُتْعَتُنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَاسْتُشْهِدَ عَامِرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ يَقُولُ: لَمّا كُنّا دُونَ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى ظَبْىٍ حَاقِفٍ فِى ظِلّ شَجَرَةٍ فَأَتَفَرّدُ لَهُ بِسَهْمٍ فَأَرْمِيهِ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمِى شَيْئًا، وَأُذْعِرَ الظّبْىُ فَيَلْحَقُنِى عَامِرٌ فَفَوّقَ لَهُ السّهْمَ فَوَضَعَ السّهْمَ فِى جَنْبِ الظّبْىِ وَيَنْقَطِعُ وَتَرُ الْقَوْسِ فَيَعْلَقُ رِصَافُهُ بِجَنْبِهِ فَلَمْ يُخَلّصْهُ إلاّ بَعْدَ شَدّ. وَوَقَعَ فِى نَفْسِى يَوْمئِذٍ طِيَرَةٌ وَرَجَوْت لَهُ الشّهَادَةَ فَبَصُرْت رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ فَيُصِيبُ نَفْسَهُ، فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: “أَلاّ تُحَرّكَ بِنَا الرّكْبَ”، فَنَزَلَ عَبْدُ اللّهِ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: وَاَللّهِ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا فَأَنْزِلَــــنْ سَكِينَـــــــةً عَلَيْنَـــــا وَلا تَصَدّقْنَا وَلا صَلّيْنَا وَثَبّــــــتْ الأَقْــــدَامَ إنْ لاقَيْنَا وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ ارْحَمْهُ”، فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الصّهْبَاءِ فَصَلّى بِهَا الْعَصْرَ ثُمّ دَعَا بِالأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إلاّ بِالسّوِيقِ وَالتّمْرِ فَأَكَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَكَلُوا مَعَهُ ثُمّ قَامَ إلَى الْمَغْرِبِ فَصَلّى بِالنّاسِ وَلَمْ يَتَوَضّأْ ثُمّ صَلّى الْعِشَاءَ بِالنّاسِ ثُمّ دَعَا بِالأَدِلاّءِ فَجَاءَ حُسَيْلُ بْنُ خَارِجَةَ الأَشْجَعِىّ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نُعَيْمٍ الأَشْجَعِىّ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِحُسَيْلٍ: “امْضِ أَمَامَنَا حَتّى تَأْخُذَنَا صُدُورُ الأَوْدِيَةِ حَتّى نَأْتِىَ خَيْبَرَ مِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّامِ، فَأَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشّامِ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ”. فَقَالَ حُسَيْلٌ: أَنَا أَسْلُكُ بِك. فَانْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ لَهُ طُرُقٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ لَهَا طُرُقًا يُؤْتَى مِنْهَا كُلّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “سَمّهَا لِى” وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُحِبّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَالاسْمَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ وَالاسْمَ الْقَبِيحَ، فَقَالَ الدّلِيلُ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: حَزَنٌ. قَالَ: “لا تَسْلُكْهَا”، قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: شَاسٍ. قَالَ: “لا تَسْلُكْهَا” قَالَ لَهَا: طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: حَاطِبٌ. قَالَ: “لا تَسْلُكْهَا”، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ أَسَمَاءً أَقْبَحَ سَمّ لِرَسُولِ اللّهِ، قَالَ لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: سَمّهَا. قَالَ: اسْمُهَا مَرْحَبٌ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ اُسْلُكْهَا”، قَالَ عُمَرُ: أَلاّ سَمّيْت هَذَا الطّرِيقَ أَوّلَ مَرّةٍ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فِى فَوَارِسَ طَلِيعَةٍ فَأَخَذَ عَيْنًا لِلْيَهُودِ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: بَاغٍ أَبْتَغِى أَبْعِرَةً ضَلّتْ لِى، أَنَا عَلَى أَثَرِهَا. قَالَ لَهُ عَبّادٌ: أَلَك عِلْمٌ بِخَيْبَرَ؟ قَالَ: عَهْدِى بِهَا حَدِيثٌ فِيمَ تَسْأَلُنِى عَنْهُ؟ قَالَ: عَنْ الْيَهُودِ. قَالَ: نَعَمْ كَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ سَارُوا فِى حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَاسْتَنْفَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً فَجَاءُوا مُعَدّينَ مُؤَيّدِينَ بِالْكُرَاعِ وَالسّلاحِ يَقُودُهُمْ عُتْبَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِى حُصُونِهِمْ وَفِيهَا عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ وَهُمْ أَهْلُ الْحُصُونِ الّتِى لا تُرَامُ وَسِلاحٌ وَطَعَامٌ كَثِيرٌ لَوْ حُصِرُوا لِسِنِينَ لَكَفَاهُمْ وَمَاءٌ وَاتِنٌ يَشْرَبُونَ فِى حُصُونِهِمْ مَا أَرَى لأَحَدٍ بِهِمْ طَاقَةً، فَرَفَعَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ السّوْطَ فَضَرَبَهُ ضَرْبَاتٍ، وَقَالَ: مَا أَنْتَ إلاّ عَيْنٌ لَهُمْ اُصْدُقْنِى وَإِلاّ ضَرَبْت عُنُقَك فَقَالَ الأَعْرَابِىّ: أَفَتُؤَمّنّى عَلَى أَنْ أَصْدُقَك؟ قَالَ عَبّادٌ: نَعَمْ، فَقَالَ الأَعْرَابِىّ: الْقَوْمُ مَرْعُوبُونَ مِنْكُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِمَا قَدْ صَنَعْتُمْ بِمَنْ كَانَ بِيَثْرِبَ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِنّ يَهُودَ يَثْرِبَ بَعَثُوا ابْنَ عَمّ لِى وَجَدُوهُ بِالْمَدِينَةِ، قَدْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ يَبِيعُهَا، فَبَعَثُوهُ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ يُخْبِرُونَهُ بِقِلّتِكُمْ وَقِلّةِ خَيْلِكُمْ وَسِلاحِكُمْ. وَيَقُولُونَ لَهُ: فَاصْدُقُوهُمْ الضّرْبَ يَنْصَرِفُوا عَنْكُمْ فَإِنّهُ لَمْ يَلْقَ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ وَقُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ قَدْ سَرَوْا بِمَسِيرِهِ إلَيْكُمْ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ مَوَادّكُمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ وَسِلاحِكُمْ وَجَوْدَةِ حُصُونِكُمْ، وَقَدْ تَتَابَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ يَهْوَى هَوَى مُحَمّدٍ تَقُولُ قُرَيْشٌ: إنّ خَيْبَرَ تَظْهَرُ وَيَقُولُ آخَرُونَ يَظْهَرُ مُحَمّدٌ فَإِنْ ظَفَرَ مُحَمّدٌ فَهُوَ ذُلّ الدّهْرِ قَالَ الأَعْرَابِىّ: وَأَنَا أَسْمَعُ كُلّ هَذَا، فَقَالَ لِى كِنَانَةُ: اذْهَبْ مُعْتَرِضًا لِلطّرِيقِ فَإِنّهُمْ لا يَسْتَنْكِرُونَ مَكَانَك، وَاحْرُزْهُمْ لَنَا، وَادْنُ مِنْهُمْ كَالسّائِلِ لَهُمْ مَا تَقْوَى بِهِ ثُمّ أَلْقِ إلَيْهِمْ كَثْرَةَ عَدَدِنَا وَمَادّتِنَا فَإِنّهُمْ لَنْ يَدَعُوا سُؤَالَك، وَعَجّلْ الرّجْعَةَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ. فَأَتَى بِهِ عَبّادٌ النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ عَبّادٌ: جَعَلْت لَهُ الأَمَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمْسِكْهُ مَعَك يَا عَبّادُ فَأَوْثِقْ رِبَاطًا”. فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ عَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلامَ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى دَاعِيك ثَلاثًا، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ لَمْ يَخْرُجْ الْحَبْلُ عَنْ عُنُقِك إلاّ صَعَدًا”، فَأَسْلَمَ الأَعْرَابِىّ، وَخَرَجَ الدّلِيلُ يَسِيرُ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى انْتَهَى بِهِ فَيَسْلُكُ بَيْنَ حِيَاضَ وَالسّرِيرِ، فَاتّبَعَ صُدُورَ الأَوْدِيَةِ حَتّى هَبَطَ بِهِ الْخَرَصَةَ، ثُمّ نَهَضَ بِهِ حَتّى سَلَكَ بَيْنَ الشّقّ وَالنّطَاةِ. وَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: قِفُوا ثُمّ قَالَ: “قُولُوا اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقَلّتْ وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّتْ فَإِنّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِك مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا فِيهَا”. ثُمّ قَالَ: “اُدْخُلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ” فَسَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَنْزِلَةِ وَعَرّسَ بِهَا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُومُونَ كُلّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَتَلَبّسُونَ السّلاحَ وَيَصُفّونَ الْكَتَائِبَ، وَهُمْ عَشْرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ قَدْ خَرَجَ فِى رَكْبٍ إلَى غَطَفَانَ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً وَذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ سَائِرٌ إلَيْهِمْ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى فَزَارَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهَا، ثُمّ رَجَعَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَرَكْت مُحَمّدًا يُعَبّئُ أَصْحَابَهُ إلَيْكُمْ. فَبَعَثُوا إلَى حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَخَرَجَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ فِى أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِسَاحَتِهِمْ لَمْ يَتَحَرّكُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ وَلَمْ يَصِحْ لَهُمْ دِيكٌ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ فَأَصْبَحُوا وَأَفْئِدَتُهُمْ تَخْفِقُ وَفَتَحُوا حُصُونَهُمْ مَعَهُمْ الْمَسَاحِى وَالْكَرَازِينُ وَالْمَكَاتِلُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قَدْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ قَالُوا: مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ فَوَلّوْا هَارِبِينَ حَتّى رَجَعُوا إلَى حُصُونِهِمْ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ”، وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَنْزِلَةِ جَعَلَ مَسْجِدًا فَصَلّى إلَيْهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ نَافِلَةً. فَثَارَتْ رَاحِلَتُهُ تَجُرّ زِمَامَهَا، فَأُدْرِكَتْ تَوَجّهُ إلَى الصّخْرَةِ لا تُرِيدُ تَرْكَبُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “دَعُوهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ” حَتّى بَرَكَتْ عِنْد الصّخْرَةِ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الصّخْرَةِ، وَأَمَرَ بِرَحْلِهِ فَحَطّ وَأَمَرَ النّاسَ بِالتّحَوّلِ إلَيْهَا، ثُمّ ابْتَنَى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْهَا مَسْجِدًا فَهُوَ مَسْجِدُهُمْ الْيَوْمَ. فَلَمّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك، إنّك نَزَلْت مَنْزِلَك هَذَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ أَمَرْت بِهِ فَلا نَتَكَلّمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الرّأْىُ تَكَلّمْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلْ هُوَ الرّأْىُ”. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دَنَوْت مِنْ الْحِصْنِ وَنَزَلْت بَيْنَ ظُهْرَىْ النّخْلِ وَالنّزّ مَعَ أَنّ أَهْلَ النّطَاةِ لِى بِهِمْ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ قَوْمٌ أَبْعَدَ مَدَى مِنْهُمْ وَلا أَعْدَلَ مِنْهُمْ وَهُمْ مُرْتَفِعُونَ عَلَيْنَا، وَهُوَ أَسْرَعُ لانْحِطَاطِ نَبْلُهُمْ مَعَ أَنّى لا آمَنُ مِنْ بَيَاتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِى خَمْرِ النّخْلِ تَحَوّلْ يَا رَسُولَ اللّهِ إلَى مَوْضِعٍ بَرِئَ مِنْ النّزّ وَمِنْ الْوَبَاءِ نَجْعَلْ الْحَرّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتّى لا يَنَالَنَا نَبْلُهُمْ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: نُقَاتِلهُمْ هَذَا الْيَوْمَ، وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: “اُنْظُرْ لَنَا مَنْزِلاً بَعِيدًا مِنْ حُصُونِهِمْ بَرِيئًا مِنْ الْوَبَاءِ نَأْمَنُ فِيهِ بَيَاتَهُمْ”. فَطَافَ مُحَمّدٌ حَتّى انْتَهَى إلَى الرّجِيعِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ لَيْلاً، فَقَالَ: وَجَدْت لَك مَنْزِلاً. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ”. وَقَاتَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى اللّيْلِ يُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ، يُقَاتِلُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَحُشِدَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ: لَوْ تَحَوّلْت يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إذَا أَمْسَيْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَحَوّلْنَا”، وَجَعَلْت نَبْلَ الْيَهُودِ تُخَالِطُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَاوَزَهُ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْقُطُونَ نَبْلَهُمْ ثُمّ يَرُدّونَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ ÷ تَحَوّلَ وَأَمَرَ النّاسُ فَتَحُولُوا إلَى الرّجِيعِ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَغْدُو بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ الْيَهُودَ تَرَى النّخْلَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلادِهِمْ فَاقْطَعْ نَخْلَهُمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَطْعِ النّخْلِ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ فِى قَطْعِهَا حَتّى أَسْرَعُوا فِى الْقَطْعِ فَجَاءَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَكُمْ خَيْبَرَ، وَهُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَك، فَلا تَقْطَعْ النّخْلَ. فَأَمَرَ فَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: “فَنَهَى عَنْ قَطْعِ النّخْلِ”. وَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت نَخْلاً بِخَيْبَرَ فِى النّطَاةِ مُقَطّعَةً فَكَانَ ذَلِكَ مِمّا قَطَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷. وَحَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِىّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَطَعَ الْمُسْلِمُونَ فِى النّطَاةِ أَرْبَعَمِائَةِ عِذْقٍ وَلَمْ تَقْطَعْ فِى غَيْرِ النّطَاةِ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَنْظُرُ إلَى صَوْرٍ مِنْ كَبِيسٍ قَالَ: أَنَا قَطَعْت هَذَا الصّوْرَ بِيَدِى حَتّى سَمِعْت بِلالاً يُنَادِى عَزْمَةً مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ لا يَقْطَعُ النّخْلَ فَأَمْسَكْنَا. قَالَ: وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا شَدِيدَ الْحَرّ وَهُوَ أَوّلُ يَوْمٍ قَاتَلَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَهْلَ النّطَاةِ، وَبِهَا بَدَأَ فَلَمّا اشْتَدّ الْحَرّ عَلَى مَحْمُودٍ وَعَلَيْهِ أَدَاتُهُ كَامِلَةً جَلَسَ تَحْت حِصْنِ نَاعِم يَبْتَغِى فَيْئَهُ وَهُوَ أَوّلُ حِصْنٍ بَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلا يَظُنّ مَحْمُودٌ أَنّ فِيهِ أَحَدًا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إنّمَا ظَنّ أَنّ فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا - وَنَاعِمٌ يَهُودِىّ، وَلَهُ حُصُونٌ ذَوَاتُ عَدَدٍ فَكَانَ هَذَا مِنْهَا - فَدَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى فَأَصَابَ رَأْسَهُ. فَهَشّمَتْ الْبَيْضَةُ رَأْسَهُ حَتّى سَقَطَتْ جِلْدَةِ جَبِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَأُتِىَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَرَدّ الْجِلْدَةَ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ وَعَصَبَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِثَوْبٍ. فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ ÷ تَحَوّلَ إلَى الرّجِيعِ، وَخَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْبَيَاتَ فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ وَبَاتَ فِيهِ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ يَغْدُو كُلّ يَوْمٍ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ مُتَسَلّحِينَ وَيَتْرُكُ الْعَسْكَرَ بِالرّجِيعِ وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ عُثْمَانَ ابْنَ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَيُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ يَوْمَهُ إلَى اللّيْلِ، ثُمّ إذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَى الرّجِيعِ. وَكَانَ قَاتَلَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ أَسْفَلِ النّطَاةِ، ثُمّ عَادَ بَعْدُ فَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَعْلاهَا حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ، وَأَنّ مَنْ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُمِلَ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَدُووِىَ، وَإِنْ كَانَ بِهِ انْطِلاقٌ انْطَلَقَ إلَى مُعَسْكَرِ النّبِىّ ÷ وَكَانَ أَوّلَ يَوْمٍ قَاتَلُوا فِيهِ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَمْسُونَ رَجُلاً مِنْ نَبْلِهِمْ فَكَانُوا يُدَاوُونَ مِنْ الْجِرَاحِ، وَيُقَالُ: إنّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَبَاءَ الْمَنْزِلِ، فَأَمَرَهُمْ بِالتّحَوّلِ إلَى الرّجِيعِ، وَقَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَرَةٍ خَضْرَاءَ وَهِىَ وَبِئَةٌ وَخَيْمَةٌ، فَأَكَلُوا مِنْ تِلْكَ الثّمَرَةِ وَأَهْمَدَتْهُمْ إلَى الْحُمّى، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “قَرّسُوا الْمَاءَ فِى الشّنَانِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الأَذَانَيْنِ فَاحْدَرُوا الْمَاءَ عَلَيْكُمْ حَدْرًا وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ”، فَفَعَلُوا فَكَأَنّمَا أُنْشِطُوا مِنْ عِقَالٍ. وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ إنّ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ نَادَانَا بَعْدَ لَيْلٍ وَنَحْنُ بِالرّجِيعِ أَنَا آمَنُ وَأُبَلّغُكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَابْتَدَرْنَاهُ فَكُنْت أَوّلَ مَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ. فَأَدْخَلْنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ الْيَهُودِىّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ تَؤُمّنّى وَأَهْلِى عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِ الْيَهُودِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”. فَدَلّهُ عَلَى عَوْرَةِ الْيَهُودِ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ تِلْكَ السّاعَةَ فَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَخَبّرَهُمْ أَنّ الْيَهُودَ قَدْ أَسْلَمَهَا حَلْفَاؤُهَا وَهَرَبُوا، وَأَنّهَا قَدْ تَجَادَلَتْ وَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ. قَالَ كَعْبٌ: فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ فَظَفّرَنَا اللّهُ بِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِى النّطَاةِ شَيْءٌ غَيْرَ الذّرّيّةِ فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى الشّقّ وَجَدْنَا فِيهِ ذُرّيّةً فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْيَهُودِىّ زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ فِى الشّقّ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَرَأَيْته أَخَذَ بِيَدِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُنَاوِبُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِى حِرَاسَةِ اللّيْلِ فِى مَقَامِهِ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ، فَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ السّادِسَةُ مِنْ السّبْعِ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ عَلَى الْعَسْكَرِ فَطَافَ عُمَرُ بِأَصْحَابِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ وَفَرّقَهُمْ أَوْ فَرّقَ مِنْهُمْ فَأُتِىَ بِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فِى جَوْفِ اللّيْلِ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ فَقَالَ الْيَهُودِىّ: اذْهَبْ بِى إلَى نَبِيّكُمْ حَتّى أُكَلّمَهُ فَأَمْسَكَهُ عُمَرُ وَانْتَهَى بِهِ إلَى بَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَوَجَدَهُ يُصَلّى، فَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَلامَ عُمَرَ فَسَلّمَ وَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ وَدَخَلَ عُمَرُ بِالْيَهُودِىّ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلْيَهُودِىّ: “مَا وَرَاءَك وَمَنْ أَنْتَ”؟ فَقَالَ الْيَهُودِىّ: تَؤُمّنّى يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَأَصْدُقُك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”. فَقَالَ الْيَهُودِىّ: خَرَجْت مِنْ حِصْنِ النّطَاةِ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ نِظَامٌ تَرَكْتهمْ يُتَسَلّلُونَ مِنْ الْحِصْنِ فِى هَذِهِ اللّيْلَةِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَأَيْنَ يَذْهَبُونَ”؟ قَالَ: إلَى أَذَلّ مِمّا كَانُوا فِيهِ إلَى الشّقّ، وَقَدْ رُعِبُوا مِنْك حَتّى إنّ أَفْئِدَتَهُمْ لَتَخْفِقُ وَهَذَا حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ السّلاحُ وَالطّعَامُ وَالْوَدَكُ وَفِيهِ آلَةُ حُصُونِهِمْ الّتِى كَانُوا يُقَاتِلُونَ بِهَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا، قَدْ غَيّبُوا ذَلِكَ فِى بَيْتٍ مِنْ حُصُونِهِمْ تَحْتَ الأَرْضِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَمَا هُوَ”؟ قَالَ: مَنْجَنِيقٌ مُفَكّكَةٌ وَدَبّابَتَانِ وَسِلاحٌ مِنْ دُرُوعٍ وَبَيْضٍ وَسُيُوفٍ فَإِذَا دَخَلْت الْحِصْنَ غَدًا وَأَنْتَ تَدْخُلُهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنْ شَاءَ اللّهُ”، قَالَ الْيَهُودِىّ: إنْ شَاءَ اللّهُ أُوقِفُك عَلَيْهِ فَإِنّهُ لا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ غَيْرِى، وَأُخْرَى قِيلَ مَا هِىَ؟ قَالَ: تَسْتَخْرِجُهُ ثُمّ أَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِ الشّقّ، وَتُدْخِلُ الرّجَالَ تَحْتَ الدّبّابَتَيْنِ فَيَحْفِرُونَ الْحِصْنَ فَتَفْتَحُهُ مِنْ يَوْمِك، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِحِصْنِ الْكَتِيبَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى أَحْسَبُهُ قَدْ صَدَقَ، قَالَ الْيَهُودِىّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ احْقِنْ دَمِى، قَالَ: “أَنْتَ آمِنٌ”، قَالَ: وَلِى زَوْجَةٌ فِى حِصْنِ النّزَارِ فَهَبْهَا لِى، قَالَ: “هِىَ لَك”، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا لِلْيَهُودِ حَوّلُوا ذَرَارِيّهُمْ مِنْ النّطَاةِ”؟ قَالَ: جَرّدُوهَا لِلْمُقَاتِلَةِ وَحَوّلُوا الذّرَارِىّ إلَى الشّقّ وَالْكَتِيبَةِ. قَالُوا: ثُمّ دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الإِسْلامِ فَقَالَ: أَنْظِرْنِى أَيّامًا، فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ غَدَا بِالْمُسْلِمِينَ إلَى النّطَاةِ، فَفَتَحَ اللّهُ الْحِصْنَ، وَاسْتَخْرَجَ مَا كَانَ قَالَ الْيَهُودِىّ فِيهِ، فَأَمَرَ النّبِىّ ÷ بِالْمَنْجَنِيقِ أَنْ تُصْلَحَ وَتُنْصَبَ عَلَى الشّقّ عَلَى حِصْنِ النّزَارِ فَهَيّئُوا، فَمَا رَمَوْا عَلَيْهَا بِحَجَرٍ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ النّزَارِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ انْتَهَى إلَيْهِ حَصَبِ الْحِصْنِ فَسَاخَ فِى الأَرْضِ حَتّى أَخَذَ أَهْلَهُ أَخْذًا، وَأُخْرِجَتْ زَوْجَتُهُ يُقَالُ لَهَا: نُفَيْلَةُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْوَطِيحَ وَسُلالِم أَسْلَمَ الْيَهُودِىّ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ، فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سِمَاكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ انْتَهَى إلَى حِصْنِ نَاعِم فِى النّطَاةِ وَصَفّ أَصْحَابَهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ حَتّى يَأْذَنَ لَهُمْ فَعَمِدَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَحَمَلَ عَلَى يَهُودِىّ وَحَمَلَ عَلَيْهِ مَرْحَبٌ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُسْتُشْهِدَ فُلانٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَبْعِدْ مَا نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ”؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُنَادِيًا فَنَادَى: “لا تَحِلّ الْجَنّةُ لِعَاصٍ”، ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْقِتَالِ وَحَثّ عَلَيْهِ وَوَطّنَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. وَكَانَ يَسَارٌ الْحَبَشِىّ - عَبْدًا أَسْوَدَ لِعَامِرٍ الْيَهُودِىّ - فِى غَنَمِ مَوْلاهُ فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ يَتَحَصّنُونَ، وَيُقَاتِلُونَ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الّذِى يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِىّ، قَالَ: فَوَقَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِى نَفْسِهِ فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ يَسُوقُهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ مَا تَقُولُ؟ مَا تَدْعُو إلَيْهِ؟ قَالَ: “أَدْعُو إلَى الإِسْلامِ فَأَشْهَدُ أَنّ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّى رَسُولُ اللّهِ”. قَالَ: فَمَا لِى؟ قَالَ: “الْجَنّةُ إنْ ثَبَتّ عَلَى ذَلِكَ”، قَالَ: فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: إنّ غَنَمِى هَذِهِ وَدِيعَةٌ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “أَخْرِجْهَا مِنْ الْعَسْكَرِ، ثُمّ صِحْ بِهَا وَارْمِهَا بِحَصَيَاتٍ، فَإِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ سَيُؤَدّى عَنْك أَمَانَتَك”. فَفَعَلَ الْعَبْدُ، فَخَرَجْت الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا، وَعَلِمَ الْيَهُودِىّ أَنّ عَبْدَهُ قَدْ أَسْلَمَ، وَوَعَظَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ وَفَرّقَ بَيْنَهُمْ الرّايَاتِ، وَكَانَتْ ثَلاثَ رَايَاتٍ وَلَمْ تَكُنْ رَايَةٌ قَبْلَ يَوْمِ خَيْبَرَ، إنّمَا كَانَتْ الأَلْوِيَةُ، وَكَانَتْ رَايَةُ النّبِىّ ÷ السّوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ تُدْعَى الْعِقَابَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ وَدَفَعَ رَايَةً إلَى عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، وَرَايَةً إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَخَرَجَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ بِالرّايَةِ وَتَبِعَهُ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ فَاحْتُمِلَ فَأُدْخِلَ خِبَاءً مِنْ أخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ فَاطّلَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْخِبَاءِ، فَقَالَ: “لَقَدْ كَرّمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ الأَسْوَدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ الإِسْلامُ مِنْ نَفْسِهِ حَقّا، قَدْ رَأَيْت عِنْدَ رَأْسِهِ زَوْجَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ”. قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى مُرّةَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُيَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا فِى الْجَيْشِ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عُيَيْنَةَ مِنْ غَطَفَانَ؛ أَقْبَلَ مَدَدُ الْيَهُودِ، فَنَزَلْنَا بِخَيْبَرَ وَلَمْ نَدْخُلْ حِصْنًا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ رَأْسُ غَطَفَانَ وَقَائِدُهُمْ أَنْ ارْجِعْ بِمَنْ مَعَك وَلَك نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ هَذِهِ السّنَةَ إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِى خَيْبَرَ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَسْت بِمُسْلِمٍ حَلْفَائِى وَجِيرَانِى، فَأَقَمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عُيَيْنَةَ إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا، لا نَدْرِى مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الأَرْضِ أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ - صِيحَ ثَلاثَةً - فَإِنّكُمْ قَدْ خُولِفْتُمْ إلَيْهِمْ وَيُقَالُ: إنّهُ لَمّا سَارَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ فِيهِمْ حَلَفُوا مَعَهُ وَارْتَأَسَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلافٍ فَدَخَلُوا مَعَ الْيَهُودِ فِى حُصُونِ النّطَاةِ قَبْل قُدُومِ رَسُولِ اللّهِ ÷ بِثَلاثَةِ أَيّامٍ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُمْ فِى الْحِصْنِ فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى الْحِصْنِ نَادَاهُمْ إنّى أُرِيدُ أَنْ أُكَلّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ. فَأَرَادَ عُيَيْنَةُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْحِصْنَ فَقَالَ مَرْحَبٌ: لا تَدْخُلْهُ فَيَرَى خَلَلَ حِصْنِنَا وَيَعْرِفُ نَوَاحِيَهُ الّتِى يُؤْتَى مِنْهَا، وَلَكِنْ تَخْرُجُ إلَيْهِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ يَدْخُلَ فَيَرَى حَصَانَتَهُ وَيَرَى عَدَدًا كَثِيرًا. فَأَبَى مَرْحَبٌ أَنْ يُدْخِلَهُ فَخَرَجَ عُيَيْنَةُ إلَى بَابِ الْحِصْنِ فَقَالَ سَعْدٌ: إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِى إلَيْك يَقُولُ: “إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِى خَيْبَرَ فَارْجِعُوا وَكُفّوا، فَإِنّ ظَهَرْنَا عَلَيْهَا فَلَكُمْ تَمْرُ خَيْبَرَ سَنَةً”. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا وَاَللّهِ مَا كُنّا لِنُسَلّمَ حَلْفَاءَنَا لِشَيْءٍ وَإِنّا لَنَعْلَمُ مَا لَك وَلِمَنْ مَعَك بِمَا هَا هُنَا طَاقَةٌ هَؤُلاءِ قَوْمٌ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ وَرِجَالٍ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ، وَسِلاحٌ، إنْ أَقَمْت هَلَكْت وَمَنْ مَعَك، وَإِنْ أَرَدْت الْقِتَالَ عَجّلُوا عَلَيْك بِالرّجَالِ وَالسّلاحِ، وَلا وَاَللّهِ مَا هَؤُلاءِ كَقُرَيْشٍ قَوْمٌ سَارُوا إلَيْك، إنْ أَصَابُوا غِرّةً مِنْك فَذَاكَ الّذِى أَرَادُوا وَإِلاّ انْصَرَفُوا، وَهَؤُلاءِ يُمَاكِرُونَكَ الْحَرْبَ وَيُطَاوِلُونَك حَتّى تُمْهِلَهُمْ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَشْهَدُ لَيَحْضُرَنّكَ فِى حِصْنِك هَذَا حَتّى تَطْلُبَ الّذِى كُنّا عَرَضْنَا عَلَيْك، فَلا نُعْطِيك إلاّ السّيْفَ وَقَدْ رَأَيْت يَا عُيَيْنَةُ مِنْ قَدْ حَلَلْنَا بِسَاحَتِهِ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، كَيْفَ مَزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ فَرَجَعَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ: وَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّ اللّهَ مُنْجِزٌ لَك مَا وَعَدَك وَمُظْهِرٌ دِينَهُ فَلا تُعْطِ هَذَا الأَعْرَابِىّ تَمْرَةً وَاحِدَةً يَا رَسُولَ اللّهِ لَئِنْ أَخَذَهُ السّيْفُ لَيُسَلّمُنّهُمْ وَلَيُهَرّبْنَ إلَى بِلادِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ فِى الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى حِصْنِهِمْ الّذِى فِيهِ غَطَفَانُ، وَذَلِكَ عَشِيّةً، وَهُمْ فِى حِصْنِ نَاعِم، فَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: “أَنْ أَصْبِحُوا عَلَى رَايَاتِكُمْ عِنْدَ حِصْنِ نَاعِم الّذِى فِيهِ غَطَفَانُ”. قَالَ: فَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ فَلَمّا كَانَ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ تِلْكَ اللّيْلَةِ سَمِعُوا صَائِحًا يَصِيحُ لا يَدْرُونَ مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الأَرْضِ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ الْغَوْثَ، الْغَوْثَ بِحَيْفَاءَ - صِيحَ ثَلاثَةً - لا تُرْبَةَ وَلا مَالَ، قَالَ: فَخَرَجْت غَطَفَانُ عَلَى الصّعْبِ وَالذّلُولِ وَكَال أَمْرًا صَنَعَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِنَبِيّهِ، فَلَمّا أَصْبَحُوا أَخْبَرَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ وَهُوَ فِى الْكَتِيبَةِ بِانْصِرَافِهِمْ فَسَقَطَ فِى يَدَيْهِ وَذَلّ وَأَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ وَقَالَ: كُنّا مِنْ هَؤُلاءِ الأَعْرَابِ فِى بَاطِلٍ إنّا سِرْنَا فِيهِمْ فَوَعَدُونَا النّصْرَ وَغَرّونَا، وَلَعَمْرِى لَوْلا مَا وَعَدُونَا مِنْ نَصْرِهِمْ مَا نَابَذْنَا مُحَمّدًا بِالْحَرْبِ وَلَمْ نَحْفَظْ كَلامَ سَلاّمِ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ إذْ قَالَ: لا تَسْتَنْصِرُوا بِهَؤُلاءِ الأَعْرَابِ أَبَدًا فَإِنّا قَدْ بَلَوْنَاهُمْ. وَجَلَبَهُمْ لِنَصْرِ بَنِى قُرَيْظَةَ ثُمّ غَرّوهُمْ. فَلَمْ نَرَ عِنْدَهُمْ وَفَاءً لَنَا، وَقَدْ سَارَ فِيهِمْ حُيَىّ بْنُ أَخْطَبَ وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ الصّلْحَ مِنْ مُحَمّدٍ ثُمّ زَحَفَ مُحَمّدٌ إلَى بَنِى قُرَيْظَة َ وَانْكَشَفَتْ غَطَفَانُ رَاجِعَةً إلَى أَهْلِهَا. قَالُوا: فَلَمّا انْتَهَى الْغَطَفَانِيّونَ إلَى أَهْلِهِمْ بِحَيْفَاءَ وَجَدُوا أَهْلَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَقَالُوا: هَلْ رَاعَكُمْ شَىْءٌ؟ قَالُوا: لا وَاَللّهِ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَنَنّا أَنّكُمْ قَدْ غَنِمْتُمْ فَمَا نَرَى مَعَكُمْ غَنِيمَةً وَلا خَيْرًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لأَصْحَابِهِ: هَذَا وَاَللّهِ مِنْ مَكَائِدِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ خَدَعَنَا وَاَللّهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: بِأَىّ شَىْءٍ؟ قَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا فِى حِصْنِ النّطَاةِ بَعْدَ هَدْأَةٍ إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا يَصِيحُ لا نَدْرِى مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الأَرْضِ أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ - صِيحَ ثَلاثَةً - فَلا تُرْبَةَ وَلا مَالٍ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: يَا عُيَيْنَةُ، وَاَللّهِ لَقَدْ غَبَرْت إنْ انْتَفَعْت، وَاَللّهِ إنّ الّذِى سَمِعْت لَمِنْ السّمَاءِ وَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ حَتّى لَوْ نَاوَأَتْهُ الْجِبَالُ لأَدْرَكَ مِنْهَا مَا أَرَادَ. فَأَقَامَ عُيَيْنَةُ أَيّامًا فِى أَهْلِهِ ثُمّ دَعَا أَصْحَابَهُ لِلْخُرُوجِ إلَى نَصْرِ الْيَهُودِ، فَجَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ أَطِعْنِى وَأَقِمْ فِى مَنْزِلِك وَدَعْ نَصْرَ الْيَهُودِ، مَعَ أَنّى لا أَرَاك تَرْجِعُ إلَى خَيْبَرَ إلاّ وَقَدْ فَتَحَهَا مُحَمّدٌ وَلا آمِنْ عَلَيْك. فَأَبَى عُيَيْنَةُ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَقَالَ: لا أَسْلَمَ حُلَفَائِى لِشَيْءٍ. وَلَمّا وَلّى عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ هَجَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْحُصُونِ حِصْنًا حِصْنًا، فَلَقَدْ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حِصْنِ نَاعِم وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَحُصُونُ نَاعِم عِدّةٌ فَرَمَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ بِالنّبْلِ وَتَرّسَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَعَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وَبَيْضَةٌ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ: الظّرِبُ فِى يَدِهِ قَنَاةٌ وَتُرْسٌ وَأَصْحَابُهُ مُحَدّقُونَ بِهِ وَقَدْ كَانَ دَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، ثُمّ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ فَرَجَعَ، وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِوَاءَ الأَنْصَارِ إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَخَرَجَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، فَحَثّ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ وَسَالَتْ كَتَائِبُ الْيَهُودِ، أَمَامَهُمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ يَقْدَمُ الْيَهُودَ يَهُدّ الأَرْضَ هَدّا، فَأَقْبَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الأَنْصَارِ فَلَمْ يَزَلْ يَسُوقُهُمْ حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ وَخَرَجَ أَسِيرُ الْيَهُودِىّ يَقْدَمُ أَصْحَابَهُ مَعَهُ عَادِيَتُهُ. وَكَشَفَ رَايَةَ أَصْحَابِ الأَنْصَارِ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى مَوْقِفِهِ وَوَجَدَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى نَفْسِهِ حِدَةً شَدِيدَةً وَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ الّذِى وَعَدَهُمْ اللّهُ فَأَمْسَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مَهْمُومًا، وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَجَعَ مَجْرُوحًا وَجَعَلَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ وَجَعَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ الْيَهُودَ جَاءَهُمْ الشّيْطَانُ فَقَالَ لَهُمْ: إنّ مُحَمّدًا يُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَمْوَالِكُمْ نَادَوْهُمْ قُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ ثُمّ قَدْ أَحْرَزْتُمْ بِذَلِكَ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ وَحِسَابَكُمْ عَلَى اللّهِ فَنَادَوْهُمْ بِذَلِكَ فَنَادَتْ الْيَهُودُ: إنّا لا نَفْعَلُ وَلا نَتْرُكُ عَهْدَ مُوسَى وَالتّوْرَاةُ بَيْنَنَا”. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبّهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرّارٍ أَبَشَرٌ يَا مُحَمّدُ بْنَ مَسْلَمَةَ غَدًا، إنْ شَاءَ اللّهُ يُقْتَلُ قَاتِلُ أَخِيك وَتَوَلّى عَادِيَةَ الْيَهُودِ”. فَلَمّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إلَى عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ وَهُوَ أَرْمَدُ فَقَالَ: مَا أَبْصَرَ سَهْلاً وَلا جَبَلاً. قَالَ: فَذَهَبَ إلَيْهِ، فَقَالَ: “افْتَحْ عَيْنَيْك”، فَفَتْحهمَا فَتَفِلَ فِيهِمَا، قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: فَمَا رَمِدَتْ حَتّى السّاعَةِ، ثُمّ دَفَعَ إلَيْهِ اللّوَاءَ وَدَعَا لَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّصْرِ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَخُو مَرْحَبٍ فِى عَادِيَتِهِ فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ وَثَبَتَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَاضْطَرَبَا ضَرْبَاتٍ فَقَتَلَهُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَوْضِعِهِمْ وَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّى مَرْحَــــبُ شَاكِى السّــــلاحِ بَطَلٌ مُجَـــرّبُ أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ فَحَمَلَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَقَطَرَهُ عَلَى الْبَابِ وَفَتَحَ الْبَابِ وَكَانَ لِلْحِصْنِ بَابَانِ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ بَنِى سَاعِدَةَ قَالُوا: قَتَلَ أَبُو دُجَانَةَ الْحَارِثَ أَبَا زَيْنَبَ وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ، وَالْحَارِثُ مُعَلّمٌ فَوْقَ مِغْفَرِهِ وَيَاسِرٌ وَأُسَيْرٌ وَعَامِرٌ مُعَلّمِينَ. حَدّثَنِى ابْن أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو، قَالَ: نَزَلْت بِأَرِيحَا زَمَنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا حَىّ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِذَا رَجُلٌ يَهْدِجُ مِنْ الْكِبَرِ، فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتُمْ؟ فَقُلْنَا: مِنْ الْحِجَازِ، فَقَالَ الْيَهُودِىّ: وَاشَوْقَاه إلَى الْحِجَازِ أَنَا ابْنُ الْحَارِثِ الْيَهُودِىّ فَارِسُ خَيَابِرَ قَتَلَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو دُجَانَةَ يَوْمَ نَزَلَ مُحَمّدٌ خَيْبَرَ، وَكُنّا مِمّنْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى الشّامِ. فَقُلْت: أَلا تُسْلِمُ؟ قَالَ: أَمَا إنّهُ خَيْرٌ لِى لَوْ فَعَلْت، وَلَكِنْ أُعَيّرُ تُعَيّرُنِى الْيَهُودُ تَقُولُ أَبُوك ابْنُ سَيّدِ الْيَهُودِ لَمْ يَتْرُكْ الْيَهُودِيّةَ قُتِلَ عَلَيْهَا أَبُوك وَتُخَالِفُهُ؟. وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: كُنّا مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ حِينَ بَعَثَهُ النّبِىّ ÷ بِالرّايَةِ فَلَقِىَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ رَجُلاً مِنْ بَابِ الْحِصْنِ فَضَرَبَ عَلِيّا وَاتّقَاهُ بِالتّرْسِ عَلِىّ، فَتَنَاوَلَ عَلِىّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِى يَدِهِ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ. وَبَعَثَ رَجُلاً يُبَشّرُ النّبِىّ ÷ بِفَتْحِ الْحِصْنِ حِصْنِ مَرْحَبٍ وَدُخُولِهِمْ الْحِصْنَ. وَيُقَالُ إنّ مَرْحَبَ بَرَزَ وَهُوَ كَالْفَحْلِ الصّئُولِ يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ قَــــدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّى مَرْحَـــبُ شَاكِى السّلاحِ بَطَـــلٌ مُجَــــرّبُ أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْـــرَبُ يَدْعُو لِلْبِرَازِ، فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا وَاَللّهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ قُتِلَ أَخِى بِالأَمْسِ فَائْذَنْ لِى فِى قِتَالِ مَرْحَبٍ وَهُوَ قَاتِلُ أَخِى، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مُبَارَزَتِهِ وَدَعَا لَهُ بِدَعَوَاتٍ وَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ فَخَرَجَ مُحَمّدٌ فَصَاحَ: يَا مَرْحَبُ، هَلْ لَك فِى الْبِرَازِ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَبَرَزَ إلَيْهِ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: قَــــدْ عَلِمَـــــتْ خَيْبَرُ أَنّـــى مَـــرْحَبُ وَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَــــــــتْ خَيْبَرُ أَنّـى مَاضٍ حُــــلْوٌ إذَا شِئْــــت وَسَـمّ قَاضٍ وَيُقَالُ: إنّهُ جَعَلَ يَوْمئِذٍ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: يَـــــا نَفْــــسُ إلاّ تُقْتَلِى تَمُوتِـى لا صَبْـــرَ لِــــى بَعْدَ أَبِى النّبَيْـتِ وَكَانَ أَخُوهُ مَحْمُودٌ، يُكَنّى بِأَبِى النّبَيْتِ. قَالَ: وَبَرَزَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: فَحَالَ بَيْنَهُمَا عَشْرَاتٌ أَصْلُهَا كَمِثْلِ أَصْلِ الْفَحْلِ مِنْ النّخْلِ وَأَفْنَانٌ مُنْكَرَةٌ، فَكُلّمَا ضَرَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ اسْتَتَرَ بِالْعُشْرِ حَتّى قَطَعَا كُلّ سَاقٍ لَهَا، وَبَقِىَ أَصْلَهَا قَائِمًا كَأَنّهُ الرّجُلُ الْقَائِمُ. وَأَفْضَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَبَدَرَ مَرْحَبٌ مُحَمّدًا، فَيَرْفَعُ السّيْفَ لِيَضْرِبَهُ فَاتّقَاهُ مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ فَلَحِجَ سَيْفَهُ وَعَلَى مَرْحَبٍ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ فَيَضْرِبُ مُحَمّدٌ سَاقَىْ مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا. وَيُقَالُ: لَمّا اتّقَى مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ وَشَمّرَتْ الدّرْعُ عَنْ سَاقَىْ مَرْحَبٍ حِينَ رَفَعَ يَدَيْهِ بِالسّيْفِ فَطَأْطَأَ مُحَمّدٌ بِالسّيْفِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ وَوَقَعَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ مَرْحَبٌ: أَجْهِزْ يَا مُحَمّدُ، قَالَ: مُحَمّدٌ ذُقْ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِى مَحْمُودٌ وَجَاوَزَهُ وَمَرّ بِهِ عَلِىّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى سَلَبِهِ، فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ مَا قَطَعْت رِجْلَيْهِ ثُمّ تَرَكْته إلاّ لِيَذُوقَ مُرّ السّلاحِ وَشِدّةِ الْمَوْتِ كَمَا ذَاقَ أَخِى، مَكَثَ ثَلاثًا يَمُوتُ وَمَا مَنَعَنِى مِنْ الإِجْهَازِ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَدْ كُنْت قَادِرًا بَعْدَ أَنْ قَطَعْت رِجْلَيْهِ أَنْ أَجْهَزَ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: صَدَقَ ضَرَبْت عُنُقَهُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ. فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مُحَمّدَ ابْنَ مَسْلَمَةَ سَيْفَهُ وَدِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ فَكَانَ عِنْدَ آلِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ سَيْفُهُ فِيهِ كِتَابٌ لا يُدْرَى مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ يَهُودِىّ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ فَإِذَا فِيهِ: هَـــــذَا سَيْـــــــفُ مَــــرْحَـبْ مَـــــــنْ يَــــــذُقْهُ يَعْطَـــــــبْ حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَحَدّثَنِى زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ، وَمُجَمّعِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالُوا جَمِيعًا: مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَتَلَ مَرْحَبًا، قَالُوا: وَبَرَزَ أُسَيْرٌ وَكَانَ رَجُلاً أَيّدًا، وَكَانَ إلَى الْقِصَرِ فَجَعَلَ يَصِيحُ مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ قَتَلَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثُمّ بَرَزَ يَاسِرٌ وَكَانَ مِنْ أَشِدّائِهِمْ وَكَانَتْ مَعَهُ حَرْبَةٌ يَحُوشُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ حَوْشًا، فَبَرَزَ لَهُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَقَالَ الزّبَيْرُ: أَقَسَمْت عَلَيْك أَلاّ خَلّيْت بَيْنِى وَبَيْنَهُ، فَفَعَلَ عَلِىّ وَأَقْبَلَ يَاسِرٌ بِحَرْبَتِهِ يَسُوقُ بِهَا النّاسَ فَبَرَزَ لَهُ الزّبَيْرُ فَقَالَتْ صَفِيّةُ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَاحَزَنَى ابْنِى يُقْتَلُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ: “بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ”. قَالَ: فَاقْتَتَلا فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُـ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فِدَاك عَمّ وَخَالٌ”، وَقَالَ النّبِىّ ÷: “لِكُلّ نَبِىّ حَوَارِىّ وَحَوَارِىّ الزّبَيْرُ، وَابْنُ عَمّتِى”.

فَلَمّا قُتِلَ مَرْحَبٌ وَيَاسِرٌ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: أَبْشِرُوا، قَدْ تَرَحّبَتْ خَيْبَرُ وَتَيَسّرَتْ وَبَرَزَ عَامِرٌ وَكَانَ رَجُلاً طَوِيلاً جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ طَلَعَ عَامِرٌ: “أَتَرَوْنَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ”؟ وَهُوَ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ مُقَنّعٌ فِى الْحَدِيدِ يَصِيحُ مَنْ يُبَارِزُ؟ فَأَحْجَمَ النّاسُ عَنْهُ فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ كُلّ ذَلِكَ لا يَصْنَعُ شَيْئًا، حَتّى ضَرَبَ سَاقَيْهِ فَبَرَكَ، ثُمّ ذُفّفَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ سِلاحَهُ.

فَلَمّا قُتِلَ الْحَارِثُ وَمَرْحَبٌ، وَأُسَيْرٌ وَيَاسِرٌ، وَعَامِرٌ مَعَ نَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ كَثِيرٍ وَلَكِنْ إنّمَا سُمّىَ هَؤُلاءِ الْمَذْكُورُونَ لأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ شَجَاعَةٍ، وَكَانَ هَؤُلاءِ فِى حِصْنِ نَاعِم جَمِيعًا، وَلَمّا رُمِىَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ حِصْنِ نَاعِم حَمَلَ إلَى الرّجِيعِ، فَمَكَثَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ يَمُوتُ وَكَانَ الّذِى دَلّى عَلَيْهِ الرّحَا مَرْحَبٌ، فَجَعَلَ مَحْمُودٌ يَقُولُ لأَخِيهِ: يَا أَخِى، بَنَاتُ أَخِيك لا يَتْبَعْنَ الأَفْيَاءَ يَسْأَلْنَ النّاسَ. فَيَقُولُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: لَوْ لَمْ تَتْرُكْ مَالاً لَكَانَ لِى مَالٌ، وَمَحْمُودٌ كَانَ أَكْثَرُهُمَا مَالاً - وَلَمْ يَنْزِلْ يَوْمئِذٍ فَرَائِضُ الْبَنَاتِ - فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِى مَاتَ فِيهِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْيَوْمُ الثّالِثُ وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِى قُتِلَ فِيهِ مَرْحَبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ رَجُلٌ يُبَشّرُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنّ اللّهَ قَدْ أَنْزَلَ فَرَائِضَ الْبَنَاتِ، وَأَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَدْ قَتَلَ قَاتِلَهُ”؟ فَخَرَجَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَسُرّ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَ رَسُولَ اللّهِ ÷ السّلامَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَقْرَأْته مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَقَالَ مَحْمُودٌ: لا أَرَاهُ يَذْكُرُنِى، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَبِيتُ فِى مَوْضِعِهِ بِالرّجِيعِ فَمَاتَ خِلافَهُ، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى مَنْزِلَةٍ وَقَدْ جُرِحَ عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ نَفْسَهُ حُمِلَ إلَى الرّجِيعِ فَمَاتَ فَقُبِرَ عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ مَعَهُ فِى غَارٍ، فَقَالَ مُحَمّدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ اقْطَعْ لِى عِنْدَ قَبْرِ أَخِى. قَالَ: “لَك حَضَرُ الْفَرَسِ فَإِنْ عَمِلْت فَلَك حَضَرُ فَرَسَيْنِ”. وَكَانَ حِصْنُ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فِى النّطَاةِ، وَكَانَ حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ الطّعَامُ وَالْوَدَكُ وَالْمَاشِيَةُ وَالْمَتَاعُ وَكَانَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَكَانَ النّاسُ قَدْ أَقَامُوا أَيّامًا يُقَاتِلُونَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ إلاّ الْعَلَفُ. قَالَ مُعَتّبٌ الأَسْلَمِىّ: أَصَابَنَا مَعْشَرَ أَسْلَمَ خَصَاصَةً حِينَ قَدِمْنَا خَيْبَرَ، وَأَقَمْنَا عَشَرَةَ أَيّامٍ عَلَى حِصْنِ النّطَاةِ لا نَفْتَحُ شَيْئًا فِيهِ طَعَامٌ فَأَجْمَعَتْ أَسْلَمُ أَنْ يُرْسِلُوا أَسَمَاءَ بْنَ حَارِثَةَ فَقَالُوا: ائْتِ مُحَمّدًا رَسُولَ اللّهِ فَقُلْ إنّ أَسْلَمَ يُقْرِئُونَك السّلامَ وَيَقُولُونَ: إنّا قَدْ جَهْدَنَا مِنْ الْجَوْعِ وَالضّعْفِ، فَقَالَ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ: وَاَللّهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ أَمْرًا بَيْنَ الْعَرَبِ يَصْنَعُونَ فِيهِ هَذَا فَقَالَ هِنْدُ بْنُ حَارِثَةَ: وَاَللّهِ إنّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْبِعْثَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ، فَجَاءَهُ أَسَمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَسْلَمَ تَقُولُ: إنّا قَدْ جَهِدْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالضّعْفِ فَادْعُ اللّهَ لَنَا، فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “وَاَللّهِ مَا بِيَدِى مَا أَقْرِيهِمْ”، ثُمّ صَاحَ بِالنّاسِ، فَقَالَ: “اللّهُمّ افْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ فِيهِ أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَأَكْثَرُهُ وَدَكًا”، وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وَنَدَبَ النّاسَ فَمَا رَجَعْنَا حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْنَا الْحِصْنَ - حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَتْ أُمّ مُطَاعٍ الأَسْلَمِيّة، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى نِسَاءٍ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْت أَسْلَمَ حِينَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَا شَكَوْا مِنْ شِدّةِ الْحَالِ فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ فَنَهَضُوا، فَرَأَيْت أَسْلَمَ أَوّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَإِنّ عَلَيْهِ لَخَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ فَمَا غَابَتْ الشّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتّى فَتَحَهُ اللّهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ قِتَالٌ شَدِيدٌ، بَرَزَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ: يُوشَعُ، يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ فَبَرَزَ إلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٌ فَقَتَلَهُ الْحُبَابُ، وَبَرَزَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: الزّيّالُ فَبَرَزَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ الْغِفَارِىّ فَبَدَرَهُ الْغِفَارِىّ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً عَلَى هَامَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلامُ الْغِفَارِىّ، فَقَالَ النّاسُ: بَطَلُ جِهَادِهِ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “مَا بَأْسُ بِهِ يُؤْجَرُ وَيُحْمَدُ”. وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ يُحَدّثُ أَنّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ثَلاثَةَ أَيّامٍ وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَأَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ تَرْتَعُ وَرَاءَ حِصْنِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مِنْ رَجُلٍ يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ”؟ فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَخَرَجْت أَسْعَى مِثْلَ الظّبْىِ فَلَمّا نَظَرَ إلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُوَلّيًا، قَالَ: اللّهُمّ مَتّعْنَا بِهِ فَأَدْرَكْت الْغَنَمَ وَقَدْ دَخَلَ أَوّلُهَا الْحِصْنَ فَأَخَذْت شَاتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا فَاحْتَضَنْتهمَا تَحْتَ يَدَىّ، ثُمّ أَقْبَلْت أَعْدُو كَأَنْ لَيْسَ مَعِى شَىْءٌ حَتّى أَتَيْت بِهِمَا رَسُولَ اللّهِ ÷، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَذُبِحَتَا ثُمّ قَسَمَهُمَا، فَمَا بَقِىَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الّذِينَ هُمْ مَعَهُ مُحَاصِرِينَ الْحِصْنَ إلاّ أَكَلَ مِنْهَا، فَقِيلَ لأَبِى الْيَسَرِ: وَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَيُقَالُ: أَيْنَ بَقِيّةُ النّاسِ؟ فَيَقُولُ: فِى الرّجِيعِ بِالْمُعَسْكَرِ. فَسَمِعَ أَبُو الْيَسَرِ - وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ - وَهُوَ يَبْكِى فِى شَيْءٍ غَاظَهُ مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ فَقَالَ: لَعَمْرِى بَقِيت بَعْدَ أَصْحَابِى وَمُتّعُوا بِى وَمَا أُمَتّعُ بِهِمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ ÷ اللّهُمّ مَتّعْنَا بِهِ فَبَقِىَ فَكَانَ مِنْ آخِرِهِمْ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ يُحَدّثُ قَالَ: أَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ وَنَزَلْنَا خَيْبَرَ زَمَانَ الْبَلَحِ وَهِىَ أَرْضٌ وَخِيمَةٌ حَارّةٌ شَدِيدٌ حُرّهَا. فَبَيْنَا نَحْنُ مُحَاصِرُونَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فَخَرَجَ عِشْرُونَ حِمَارًا مِنْهُ أَوْ ثَلاثُونَ فَلَمْ يَقْدِرْ الْيَهُودُ عَلَى إدْخَالِهَا، وَكَانَ حِصْنُهُمْ لَهُ مَنَعَةٌ فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَانْتَحَرُوهَا، وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ وَطَبَخُوا لُحُومَهَا فِى الْقُدُورِ وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ وَمَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ فَأَمَرَ مُنَادِيًا: “إنّ رَسُولَ اللّهِ يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحُمُرِ الإِنْسِيّةِ - قَالَ: فَكَفَوْا الْقُدُورَ - وَعَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ وَعَنْ كُلّ ذِى نَابٍ وَمِخْلَبٍ”. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مُبَشّرٍ قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ لُحُومَ الْخَيْلِ فَذَبَحَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْلاً مِنْ خَيْلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: أَرَأَيْت الْبِغَالَ أَكُنْتُمْ تَأْكُلُونَهَا؟ قَالَ: لا. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: ذَبَحْنَا بِخَيْبَرَ لِبَنِى مَازِنِ بْنِ النّجّارِ فَرَسَيْنِ فَكُنّا نَأْكُلُ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. وَحَدّثَنِى ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، يَقُولُ: حَضَرَتْ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِخَيْبَرَ يَقُولُ: حَرَامٌ أَكْلُ الْحُمُرِ الأَهْلِيّةِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ. قَالُوا: وَكُلّ ذِى نَابٍ مِنْ السّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطّيْرِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: الثّبْت عِنْدَنَا أَنّ خَالِدًا لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَكَانَ ابْنُ الأَكْوَعِ يَقُولُ كُنّا عَلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، أَسْلَمَ بِأَجْمَعِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ حَصَرُوا أَهْلَ الْحِصْنِ فَلَقَدْ رَأَيْتنَا وَصَاحِبَ رَايَتِنَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ الرّايَةَ فَغَدَوْنَا مَعَهُ، وَغَدَا عَامِرُ بْنُ سِنَانٍ فَلَقِىَ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ، وَبَدَرَهُ الْيَهُودِىّ فَيَضْرِبُ عَامِرًا، قَالَ عَامِرٌ: فَاتّقَيْته بِدَرَقَتِى فَنَبَا سَيْفُ الْيَهُودِىّ عَنْهُ. قَالَ عَامِرٌ: فَأَضْرِبُ رِجْلَ الْيَهُودِىّ فَأَقْطَعُهَا، وَرَجَعَ السّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَأَصَابَهُ ذُبَابُهُ فَنَزَفَ فَمَاتَ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: حَبَطَ عَمَلُهُ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، إنّ لَهُ لأَجْرَيْنِ إنّهُ جَاهَدَ مُجَاهِدٌ، وَإِنّهُ لَيَعُومُ فِى الْجَنّةِ عَوْمَ الدّعْمُوصِ”. حَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: كُنْت فِيمَنْ تَرّسَ عَنْ النّبِىّ ÷ فَجَعَلْت أَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ تَرَامَوْا بِالْحَجَفِ فَفَعَلُوا فَرَمَوْنَا حَتّى ظَنَنْت أَلاّ يُقْلِعُوا، فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ رَمَى بِسَهْمٍ فَمَا أَخْطَأَ رَجُلاً مِنْهُمْ وَتَبَسّمَ إلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَانْفَرَجُوا وَدَخَلُوا الْحِصْنَ، حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ وَالأَطْعِمَةُ فِيهِ كُلّهَا، وَغَزَا بِنَا الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وَمَعَهُ رَايَتُنَا وَتَبِعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ أَقَمْنَا عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ نُقَاتِلُهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ بَكّرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ كَأَنّهُ الدّقَلُ فِى يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ وَخَرَجَ وَعَادِيَتُهُ مَعَهُ فَرَمَوْا بِالنّبْلِ سَاعَةً سُرَاعًا، وَتَرّسْنَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَمْطَرُوا عَلَيْنَا بِالنّبْلِ فَكَانَ نَبْلُهُمْ مِثْلَ الْجَرَادِ حَتّى ظَنَنْت أَلاّ يُقْلِعُوا، ثُمّ حَمَلُوا عَلَيْنَا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ وَاقِفٌ قَدْ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَمِدْعَمٌ يُمْسِكُ فَرَسَهُ. وَثَبَتَ الْحُبَابُ بِرَايَتِنَا، وَاَللّهِ مَا يَزُولُ يُرَامِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ وَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَهُ خَيْبَرَ يُغَنّمُهُ إيّاهَا. قَالَ: فَأَقْبَلَ النّاسُ جَمِيعًا حَتّى عَادُوا إلَى صَاحِبِ رَايَتِهِمْ ثُمّ زَحَفَ بِهِمْ الْحُبَابُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو قَلِيلاً قَلِيلاً، وَتَرْجِعُ الْيَهُودُ عَلَى أَدْبَارِهَا حَتّى لَحَمَهَا الشّرّ فَانْكَشَفُوا سِرَاعًا، وَدَخَلُوا الْحِصْنَ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ وَوَافَوْا عَلَى جُدُرِهِ - وَلَهُ جُدُرٌ دُونَ جُدُرٍ - فَجَعَلُوا يَرْمُونَنَا بِالْجَنْدَلِ رَمْيًا كَثِيرًا، وَنَحّونَا عَنْ حِصْنِهِمْ بِوَقْعِ الْحِجَارَةِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى مَوْضِعِ الْحُبَابِ الأَوّلِ، ثُمّ إنّ الْيَهُودَ تَلاوَمَتْ بَيْنَهَا وَقَالَتْ: مَا نَسْتَبْقِى لأَنْفُسِنَا؟ قَدْ قُتِلَ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجِلْدِ فِى حِصْنِ نَاعِم. فَخَرَجُوا مُسْتَمِيتِينَ وَرَجَعْنَا إلَيْهِمْ فَاقْتَتَلْنَا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ أَشَدّ الْقِتَالِ وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ عَلَى الْبَابِ ثَلاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ - أَبُو صَيّاحٍ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسّيْفِ فَأَطَنّ قِحْفَ رَأْسِهِ وَعَدِىّ بْنُ مَرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ طَعَنَهُ أَحَدُهُمْ بِالْحَرْبَةِ بَيْنَ ثَدْيِهِ فَمَاتَ وَالثّالِثُ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ فَدَمَغَهُ. وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ عَلَى الْحِصْنِ عِدّةً كُلّمَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ رَجُلاً حَمَلُوهُ حَتّى يُدْخِلُوهُ الْحِصْنَ. ثُمّ حَمَلَ صَاحِبُ رَايَتِنَا وَحَمَلْنَا مَعَهُ وَأَدْخَلْنَا الْيَهُودَ الْحِصْنَ وَتَبِعْنَاهُمْ فِى جَوْفِهِ فَلَمّا دَخَلْنَا عَلَيْهِمْ الْحِصْنَ فَكَأَنّهُمْ غَنَمٌ فَقَتَلْنَا مَنْ أَشْرَفَ لَنَا، وَأَسَرْنَا مِنْهُمْ وَهَرَبُوا فِى كُلّ وَجْهٍ يَرْكَبُونَ الْحَرّةَ يُرِيدُونَ حِصْنَ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ، وَجَعَلْنَا نَدَعُهُمْ يَهْرُبُونَ وَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُدُرِهِ فَكَبّرُوا عَلَيْهِ تَكْبِيرًا كَثِيرًا، فَفَتَتْنَا أَعْضَادَ الْيَهُودِ بِالتّكْبِيرِ لَقَدْ رَأَيْت فَتَيَانِ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ فَوْقَ الْحِصْنِ يُكَبّرُونَ فَوَجَدْنَا وَاَللّهِ مِنْ الأَطْعِمَةِ مَا لَمْ نَظُنّ أَنّهُ هُنَاكَ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالسّمْنِ وَالْعَسَلِ وَالزّيْتِ وَالْوَدَكِ. وَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: “كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلا تَحْتَمِلُوا”. يَقُولُ: لا تَخْرُجُوا بِهِ إلَى بِلادِكُمْ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ مَقَامَهُمْ طَعَامَهُمْ وَعَلَفَ دَوَابّهِمْ لا يُمْنَعُ أَحَدُ أَنْ يَأْخُذَ حَاجَتَهُ وَلا يُخَمّسُ الطّعَامَ، وَوَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَزّ وَالآنِيّةِ وَوَجَدُوا خَوَابِىَ السّكَرِ فَأُمِرُوا فَكَسَرُوهَا، فَكَانُوا يَكْسِرُونَهَا حَتّى سَالَ السّكَرُ فِى الْحِصْنِ وَالْخَوَابِى كِبَارٌ لا يُطَاقُ حَمْلُهَا. وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىّ يَقُولُ: وَجَدْنَا فِيهِ آنِيّةً مِنْ نُحَاسٍ وَفَخّارٍ كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْكُلُ فِيهَا وَتَشْرَبُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “اغْسِلُوهَا وَاطْبُخُوا وَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا”. وَقَالَ: “أَسْخِنُوا فِيهَا الْمَاءَ ثُمّ اُطْبُخُوا بَعْدُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا”. وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ غَنَمًا كَثِيرًا وَبَقَرًا وَحُمُرًا، وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ آلَةً كَثِيرَةً لِلْحَرْبِ وَمَنْجَنِيقًا وَدَبّابَاتٍ وَعُدّةً فَنَعْلَمُ أَنّهُمْ قَدْ كَانُوا يَظُنّونَ أَنّ الْحِصَارَ يَكُونُ دَهْرًا، فَعَجّلَ اللّهُ خِزْيَهُمْ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقَدْ خَرَجَ مِنْ أُطُمٍ مِنْ حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الْبَزّ عِشْرُونَ عِكْمًا مَحْزُومَةً مِنْ غَلِيظِ مَتَاعِ الْيَمَنِ، وَأَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ قَطِيفَةٍ يُقَالُ: قَدِمَ كُلّ رَجُلٍ بِقَطِيفَةٍ عَلَى أَهْلِهِ وَوَجَدُوا عَشَرَةَ أَحْمَالِ خَشَبٍ فَأَمَرَ بِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ الْحِصْنِ ثُمّ أَحْرَقَ فَمَكَثَ أَيّامًا يَحْتَرِقُ وَخَوَابِى سَكَرٍ كُسِرَتْ وَزُقَاقُ خَمْرٍ فَأُهْرِيقَتْ وَعَمِدَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَشَرِبَ مِنْ الْخَمْرِ فَرَفَعَ إلَى النّبِىّ ÷ فَكَرِهَ حِينَ رَفَعَ إلَيْهِ فَخَفَقَهُ بِنَعْلَيْهِ وَمَنْ حَضَرَهُ فَخَفَقُوهُ بِنِعَالِهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللّهِ الْخَمّارِ، وَكَانَ رَجُلاً لا يَصْبِرُ عَنْ الشّرَابِ قَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِرَارًا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: اللّهُمّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُضْرَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَفْعَلْ يَا عُمَرُ فَإِنّهُ يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ”، قَالَ: ثُمّ رَاحَ عَبْدُ اللّهِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ كَأَنّهُ أَحَدُهُمْ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: لَقَدْ وَجَدْنَا فِى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الطّعَامِ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّهُ لا يَكُونُ بِخَيْبَرَ، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ مَقَامَهُمْ شَهْرًا وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ فَيَعْلِفُونَ دَوَابّهُمْ مَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خُمُسٌ وَأُخْرِجُ مِنْ الّبُزُوزِ شَيْءٌ كَثِيرٌ يُبَاعُ فِى الْمَقْسَمِ؟ وَوُجِدَ فِيهِ خَرْزٌ مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ. فَقِيلَ لَهَا: فَمَنْ الّذِى يَشْتَرِى ذَلِكَ فِى الْمَقْسَمِ؟ قَالَتْ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ الّذِينَ كَانُوا فِى الْكَتِيبَةِ فَآمَنُوا، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الأَعْرَابِ، فَكُلّ هَؤُلاءِ يَشْتَرِى، فَأَمّا مَنْ يَشْتَرِى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّمَا يُحَاسَبُ بِهِ مِمّا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: لَمّا نَظَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ مِنْهُ الطّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْبَزّ قَالَ: مَا أَحَدٌ يَعْلِفُ لَنَا دَوَابّنَا وَيُطْعِمُنَا مِنْ هَذَا الطّعَامِ الضّائِعِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كِرَامًا فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: لَك الّذِى جَعَلَ لَك رَسُولُ اللّهِ ÷ ذُو الرّقَيْبَةِ، فَاسْكُتْ وَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ فِى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَلَهُ مَدَاخِلُ فَأَخْرَجُوا رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَتَعَجّبُوا لِسَوَادِ دَمِهِ وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ سَوَادِ هَذَا الدّمِ قَطّ - قَالَ: يَقُولُ مُتَكَلّمٌ: فِى رَفّ مِنْ تِلْكَ الرّفَافِ الثّومُ وَالثّرِيدُ - وَأُنْزِلَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ. قَالَ: وَتَحَوّلَتْ الْيَهُودُ مِنْ حِصْنِ نَاعِم كُلّهَا، وَمِنْ حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمِنْ كُلّ حُصُونِ النّطَاةِ، إلَى حِصْنٍ يُقَالُ لَهُ: قُلْعَةُ الزّبَيْرِ، فَزَحَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ فَحَاصَرَهُمْ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ حِصْنَهُمْ وَهُوَ حَصِينٌ مَنِيعٌ، وَإِنّمَا هُوَ فِى رَأْسِ قَلْعَةٍ لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ وَلا الرّجَالُ لِصُعُوبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ وَبَقِيت بَقَايَا لا ذِكْرَ لَهُمْ فِى بَعْضِ حُصُونِ النّطَاةِ، الرّجُلُ وَالرّجُلانِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِإِزَائِهِمْ رِجَالاً يَحْرُسُونَهُمْ لا يَطْلُعُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ إلاّ قَتَلُوهُ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى مُحَاصَرَةِ الّذِينَ فِى قَلْعَةِ الزّبَيْرِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: غَزَالٌ، فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ تُؤَمّنّى عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى مَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ وَتَخْرَجُ إلَى أَهْلِ الشّقّ، فَإِنّ أَهْلَ الشّقّ قَدْ هَلَكُوا رُعْبًا مِنْك؟ قَالَ: فَأَمّنّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ الْيَهُودِىّ: إنّك لَوْ أَقَمْت شَهْرًا مَا بَالُوا، لَهُمْ دُبُولٌ تَحْتَ الأَرْضِ يَخْرُجُونَ بِاللّيْلِ فَيَشْرَبُونَ بِهَا ثُمّ يَرْجِعُونَ إلَى قَلْعَتِهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْك، وَإِنْ قَطَعْت مَشْرَبَهُمْ عَلَيْهِمْ ضَجّوا، فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى دُبُولِهِمْ فَقَطَعَهَا، فَلَمّا قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَشَارِبَهُمْ لَمْ يُطِيقُوا الْمَقَامَ عَلَى الْعَطَشِ، فَخَرَجُوا فَقَاتَلُوا أَشَدّ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ نَفَرٌ وَأُصِيبَ مِنْ الْيَهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَشَرَةٌ، وَافْتَتَحَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَكَانَ آخِرَ حُصُونِ النّطَاةِ. فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ النّطَاةِ أَمَرَ بِالانْتِقَالِ وَالْعَسْكَرِ أَنْ يُحَوّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِالرّجِيعِ إلَى مَكَانِهِ الأَوّلِ بِالْمَنْزِلَةِ وَأَمّنَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْبَيَاتِ وَمِنْ حَرْبِ الْيَهُودِ، وَمَا يَخَافُ مِنْهُمْ لأَنّ أَهْلَ النّطَاةِ كَانُوا أَحَدّ الْيَهُودِ، وَأَهْلَ النّجْدَةِ مِنْهُمْ، ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أَهْلِ الشّقّ. فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِىّ، عَنْ أَبِى عُفَيْرٍ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ قَالَ: لَمّا تَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الشّقّ، وَبِهِ حُصُونٌ ذَاتُ عَدَدٍ كَانَ أَوّلَ حِصْنِ بَدَأَ مِنْهَا حِصْنُ أُبَىّ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى قَلْعَةٍ، يُقَالُ لَهَا: سُمْرَانُ فَقَاتَلَ عَلَيْهَا أَهْلَ الْحِصْنِ قِتَالاً شَدِيدًا، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ: غَزَالٌ فَدَعَا إلَى الْبِرَازِ فَبَرَزَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الْحُبَابُ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ نِصْفِ الذّرَاعِ فَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدِ غَزّالٍ، فَكَانَ أَعَزْلَ وَرَجَعَ مُبَادِرًا مُنْهَزِمًا إلَى الْحِصْنِ وَتَبِعَهُ الْحُبَابُ فَقَطَعَ عُرْقُوبَهُ فَوَقَعَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ آخَرُ فَصَاحَ مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آلِ جَحْشٍ فَقَتَلَ الْجَحْشِىّ. وَقَامَ مَكَانَهُ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ وَيَبْرُزُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْمِغْفَرِ يَخْتَالُ فِى مِشْيَتِهِ فَبَدَرَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ ثُمّ ذَفّفَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ دِرْعَهُ وَسَيْفَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِىّ ÷ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذَلِكَ. وَأَحْجَمُوا عَنْ الْبِرَازِ فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ تَحَامَلُوا عَلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ يَقْدُمُهُمْ أَبُو دُجَانَةَ فَوَجَدُوا فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا وَغَنَمًا وَطَعَامًا، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَتَقَحّمُوا الْجُدُرَ كَأَنّهُمْ الظّبَاءُ حَتّى صَارُوا إلَى حِصْنِ النّزَارِ بِالشّقّ وَجَعَلَ يَأْتِى مَنْ بَقِىَ مِنْ قُلَلِ النّطَاةِ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَعَلّقُوهُ وَامْتَنَعُوا فِيهِ أَشَدّ الامْتِنَاعِ، وَزَحَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ فِى أَصْحَابِهِ فَقَاتَلُوهُمْ فَكَانُوا أَشَدّ أَهْلِ الشّقّ قِتَالاً، رَمَوْا الْمُسْلِمِينَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ مَعَهُمْ حَتّى أَصَابَتْ النّبْلُ ثِيَابَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَلِقَتْ بِهِ فَأَخَذَ النّبْلَ فَجَمَعَهَا ثُمّ أَخَذَ لَهُمْ كَفّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَ بِهِ حِصْنَهُمْ فَرَجَفَ بِهِمْ ثُمّ سَاخَ فِى الأَرْضِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ: اسْتَوَى بِالأَرْضِ حَتّى جَاءَ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوا أَهْلَهُ أَخْذًا. وَكَانَتْ فِيهِ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَىّ وَابْنَةُ عَمّهَا. فَكَانَ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِى اللّحْمِ يَقُولُ شَهِدْت صَفِيّةَ أُخْرِجَتْ وَابْنَةُ عَمّهَا وَصَبِيّاتٌ مِنْ حِصْنِ النّزَارِ فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِصْنَ النّزَارِ بَقِيَتْ حُصُونٌ فِى الشّقّ، فَهَرَبَ أَهْلُهَا مِنْهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَهْلِ الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلالِم. وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: وَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَقَالَ: هَذَا آخِرُ حُصُونِ خَيْبَرَ كَانَ فِيهِ قِتَالٌ لَمّا فَتَحْنَا هَذَا الْحِصْنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ خَيْبَرَ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ قَالَ: قُلْت لِجَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ: كَيْفَ صَارَتْ صَفِيّةُ فِى حِصْنِ النّزَارِ فِى الشّقّ وَحِصْنِ آلِ أَبِى الْحُقَيْقِ بِسُلالِمَ وَلَمْ يَسُبّ فِى حُصُونِ النّطَاةِ مِنْ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ أَحَدٌ وَلا بِالشّقّ إلاّ فِى حِصْنِ النّزَارِ فَإِنّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ ذُرّيّةٌ وَنِسَاءٌ؟ فَقَالَ: إنّ يَهُودَ خَيْبَرَ أَخَرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ إلَى الْكَتِيبَةِ وَفَرّغُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ مَنْ كَانَ فِى حِصْنِ النّزَارِ صَفِيّةُ وَابْنَةُ عَمّهَا وَنُسَيّاتٌ مَعَهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ قَدْ رَأَى أَنّ حِصْنَ النّزَارِ أَحْصَنُ مَا هُنَالِكَ فَأَخْرَجَهَا فِى اللّيْلَةِ الّتِى تَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى صَبِيحَتِهَا إلَى الشّقّ حَتّى أُسِرَتْ وَبِنْتُ عَمّهَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ ذَرَارِىّ الْيَهُودِ، وَبِالْكَتِيبَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَلَمّا صَالَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ أَمِنَ الرّجَالَ وَالذّرّيّةَ وَدَفَعُوا إلَيْهِ الأَمْوَالَ وَالْبَيْضَاءَ وَالصّفْرَاءَ، وَالْحَلْقَةَ وَالثّيَابَ إلاّ ثَوْبًا عَلَى إنْسَانٍ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ حِينَ أَمّنَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُقْبِلُونَ وَيُدْبِرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ لَقَدْ أَنْفَقُوا عَامّةَ الْمَغْنَمِ مِمّا يَشْتَرُونَ مِنْ الثّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَكَانُوا قَدْ غَيّبُوا نَقُودَهُمْ وَعَيْنَ مَالِهِمْ. قَالُوا: ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلالِم، حِصْنِ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ الّذِى كَانُوا فِيهِ فَتَحَصّنُوا أَشَدّ التّحَصّنِ وَجَاءَهُمْ كُلّ فَلّ كَانَ قَدْ انْهَزَمَ مِنْ النّطَاةِ وَالشّقّ، فَتَحَصّنُوا مَعَهُمْ فِى الْقَمُوص وَهُوَ فِى الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَفِى الْوَطِيحَ وَسُلالِم، وَجَعَلُوا لا يُطَالِعُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ مُغَلّقِينَ عَلَيْهِمْ حَتّى هَمّ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَيْهِمْ لَمّا رَأَى مِنْ تَغْلِيقِهِمْ وَأَنّهُ لا يَبْرُزُ مِنْهُمْ بَارِزٌ. فَلَمّا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ وَقَدْ حَصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ الصّلْحَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: قُلْت لإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ: وُجِدَ فِى الْكَتِيبَةِ خَمْسُمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٌ. وَقَالَ: أَخْبَرَنِى أَبِى عَمّنْ رَأَى كِنَانَةَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ يَرْمِى بِثَلاثَةِ أَسْهُمٍ فِى ثَلاثِمِائَةٍ - يَعْنِى ذِرَاعً - فَيُدْخِلُهَا فِى هَدَفٍ شِبْرًا فِى شِبْرٍ فَمَا هُوَ إلاّ أَنْ قِيلَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ الشّقّ فِى أَصْحَابِهِ وَقَدْ تَهَيّأَ أَهْلُ الْقَمُوص وَقَامُوا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ بِالنّبْلِ فَنَهَضَ كِنَانَةُ إلَى قَوْسِهِ فَمَا قَدَرَ أَنْ يُوتِرَهَا مِنْ الرّعْدَةِ وَأَوْمَأَ إلَى أَهْلِ الْحُصُونِ لا تَرْمُوا وَانْقَمَعَ فِى حِصْنِهِ فَمَا رُئِىَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، حَتّى أَجْهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَقَذَفَ اللّهُ فِى قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. فَأَرْسَلَ كِنَانَةَ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: شَمّاخٌ إلَى النّبِىّ ÷ يَقُولُ: أَنْزِلْ إلَيْك أُكَلّمْك فَلَمّا نَزَلَ شَمّاخٌ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأُتِىَ بِهِ النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ بِرِسَالَةِ كِنَانَةَ، فَأَنْعَمَ لَهُ فَنَزَلَ كِنَانَةُ فِى نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَا صَالَحَهُ فَأَحْلَفَهُ عَلَى مَا أَحْلَفَهُ عَلَيْهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: تِلْكَ الْقِسِىّ وَالسّلاحُ إنّمَا كَانَ لآلِ أَبِى الْحُقَيْقِ جَمَاعَةٌ يُعِيرُونَهُ الْعَرَبَ، وَالْحُلِىّ يَعِيرُونَهُ الْعَرَبَ. ثُمّ يَقُولُ: كَانُوا شَرّ يَهُودِ يَثْرِبَ. قَالُوا: وَأَرْسَلَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنْزِلْ فَأُكَلّمَك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”. قَالَ: فَنَزَلَ ابْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِى حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَتَرَكَ الذّرّيّةَ لَهُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيّهِمْ وَيُخَلّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، أَوْ أَرْضٍ وَعَلَى الصّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلْقَةِ، وَعَلَى الْبَزّ إلاّ ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِى شَيْئًا”. فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الأَمْوَالِ فَقَبَضَهَا، الأَوّلُ فَالأَوّلُ وَبَعَثَ إلَى الْمَتَاعِ وَالْحَلْقَةِ فَقَبَضَهَا، فَوَجَدَ مِنْ الدّرُوعِ مِائَةَ دِرْعٍ وَمِنْ السّيُوفِ أَرْبَعَمِائَةِ سَيْفٍ وَأَلْفَ رُمْحٍ وَخَمْسَمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٍ بِجِعَابِهَا. فَسَأَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كِنَانَةَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ عَنْ كَنْزِ آلِ أَبِى الْحُقَيْقِ، وَحُلِىّ مِنْ حُلِيّهِمْ كَانَ يَكُونُ فِى مَسْكِ الْجَمَلِ كَانَ أَسْرَاهُمْ يُعْرَفُ بِهِ، وَكَانَ الْعُرْسُ يَكُونُ بِمَكّةَ فَيَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ الْحُلِىّ الشّهْرَ، فَيَكُونُ فِيهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الْحُلِىّ يَكُونُ عِنْدَ الأَكَابِرِ فَالأَكَابِرِ مِنْ آلِ أَبِى الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنْفَقْنَاهُ فِى حَرْبِنَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكُنّا نَرْفَعُهُ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ تُبْقِ الْحَرْبُ وَاسْتِنْصَارُ الرّجَالِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَحَلَفَا عَلَى ذَلِكَ فَوَكّدَا الأَيْمَانَ وَاجْتَهَدَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَهُمَا: “بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَانَ عِنْدَكُمَا”، قَالا: نَعَمْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَكُلّ مَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِكُمَا وَأَصَبْت مِنْ دِمَائِكُمَا فَهُوَ حِلّ لِى وَلا ذِمّةَ لَكُمَا”، قَالا: نَعَمْ. وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيّا، وَالزّبِيرَ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَعَشَرَةً مِنْ الْيَهُودِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَطْلُبُ مِنْك مُحَمّدٌ أَوْ تَعْلَمُ عِلْمَهُ فَأَعْلِمْهُ فَإِنّك تَأْمَنُ عَلَى دَمِك، وَإِلاّ فَوَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ عَلَيْهِ قَدْ اطّلَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ نَعْلَمْهُ. فَزَبَرَهُ ابْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ فَتَنَحّى الْيَهُودِىّ فَقَعَدَ. ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلاّمِ بْن أَبِى الْحُقَيْقِ - وَكَانَ رَجُلاً ضَعِيفًا - عَنْ كَنْزِهِمَا، فَقَالَ: لَيْسَ لِى عِلْمٌ غَيْرَ أَنّى قَدْ كُنْت أَرَى كِنَانَةَ كُلّ غَدَاةٍ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ - قَالَ: وَأَشَارَ إلَى خَرِبَةٍ - فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ دَفَنَهُ فَهُوَ فِيهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ ابْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ لَمّا ظَهَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى النّطَاةِ أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ - وَكَانَ أَهْلُ النّطَاةِ أَخَذَهُمْ الرّعْبُ - فَذَهَبَ بِمَسْكِ الْجَمْلِ فِيهِ حَلِيّهُمْ فَحَفَرَ لَهُ فِى خَرِبَةٍ لَيْلاً وَلا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمّ سَوّى عَلَيْهِ التّرَابَ بِالْكَتِيبَةِ وَهِىَ الْخَرِبَةُ الّتِى رَآهُ ثَعْلَبَةُ يَدُورُ بِهَا كُلّ غَدَاةٍ. فَأَرْسَلَ مَعَ ثَعْلَبَةَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ وَنَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ فَحَفَرَ حَيْثُ أَرَاهُ ثَعْلَبَةُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَنْزَ وَيُقَالُ: إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ دَلّ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَنْزِ، فَلَمّا أُخْرِجَ الْكَنْزُ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الزّبَيْرَ أَنْ يُعَذّبَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ حَتّى يَسْتَخْرِجَ كُلّ مَا عِنْدَهُ، فَعَذّبَهُ الزّبَيْرُ حَتّى جَاءَهُ بِزَنْدٍ يَقْدَحُهُ فِى صَدْرِهِ، ثُمّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يَقْتُلُهُ بِأَخِيهِ فَقَتَلَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَمَرَ بِابْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ الآخَرِ فَعُذّبَ، ثُمّ دُفِعَ إلَى وُلاةِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقُتِلَ بِهِ وَيُقَالُ: ضُرِبَ عُنُقُهُ، وَاسْتَحَلّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِذَلِكَ أَمْوَالَهُمَا وَسَبَى ذَرَارِيّهُمَا. فَحَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ الرّبِيعَةِ بْنِ أَبِى هِلالٍ، عَنْ هِلالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَمّنْ نَظَرَ إلَى مَا فِى مَسْكِ الْجَمْلِ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷ حِينَ أُتِىَ بِهِ، فَإِذَا جُلّهُ أَسْوِرَةٌ الذّهَبِ وَدَمَالِجُ الذّهَبِ وَخَلاخِلُ الذّهَبِ وَقِرَطَةُ الذّهَبِ وَنَظْمٌ مِنْ جَوْهَرٍ وَزُمُرّدٍ وَخَوَاتِمُ ذَهَبٍ وَفَتَخٌ بِجَزْعِ ظَفَارِ مُجَزّعٌ بِالذّهَبِ. وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ نِظَامًا مِنْ جَوْهَرٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ أَهْلِهِ إمّا عَائِشَةُ، أَوْ إحْدَى بَنَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمْ تَمْكُثْ إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ حَتّى فَرّقَتْهُ فِى أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالأَرَامِلِ فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ ذُرَةً مِنْهَا، فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَصَارَ إلَى فِرَاشِهِ لَمْ يَنَمْ فَغَدَا فِى السّحَرِ حَتّى أَتَى عَائِشَةَ، وَلَمْ تَكُنْ لَيْلَتَهَا، أَوْ بِنْتَه، فَقَالَ: “رُدّى عَلَىّ النّظَامَ فَإِنّهُ لَيْسَ لِى، وَلا لَك فِيهِ حَقّ”. فَخَبّرَتْهُ كَيْفَ صَنَعْت بِهِ فَحَمْدُ اللّهِ وَانْصَرَفَ. وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَىّ تَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ النّظَامُ لِبِنْتِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ صَفِيّةُ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَبَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِىَ إلَى الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَرْسَلَ بِهَا مَعَ بَلالٍ إلَى رَحْلِهِ، فَمَرّ بِهَا وَبِابْنَةِ عَمّهَا عَلَى الْقَتْلَى، فَصَاحَتْ ابْنَةُ عَمّهَا صِيَاحًا شَدِيدًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا صَنَعَ بَلالٌ فَقَالَ: “أَذَهَبَتْ مِنْك الرّحْمَةُ”؟ تَمُرّ بِجَارِيَةٍ حَدِيثَةِ السّنّ عَلَى الْقَتْلَى فَقَالَ بَلالٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ وَأَحْبَبْت أَنْ تَرَى مَصَارِعَ قَوْمِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لابْنَةِ عَمّ صَفِيّةَ: “مَا هَذَا إلاّ شَيْطَانٌ”. وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِىّ قَدْ نَظَرَ إلَى صَفِيّةَ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَيُقَالُ: إنّهُ وَعَدَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْىِ خَيْبَرَ، فَأَعْطَاهُ ابْنَةَ عَمّهَا. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أَبِى حَرْمَلَةَ، عَنْ أُخْتِهِ أُمّ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ ابْنَةِ أَبِى الْقَيْنِ الْمُزَنِىّ، قَالَتْ: كُنْت آلَفُ صَفِيّةَ مِنْ بَيْنَ أَزْوَاجِ النّبِىّ ÷ وَكَانَتْ تُحَدّثُنِى عَنْ قَوْمِهَا، وَمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْهُمْ قَالَتْ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَيْثُ أَجْلانَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَأَقَمْنَا بِخَيْبَرَ، فَتَزَوّجَنِى كِنَانَةُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ فَأَعْرَسَ بِى قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللّهِ ÷ بِأَيّامٍ وَذَبَحَ جُزُرًا وَدَعَا بِالْيَهُودِ وَحَوّلَنِى فِى حِصْنِهِ بِسُلالِمَ فَرَأَيْت فِى النّوْمِ كَأَنّ قَمَرًا أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ يَسِيرُ حَتّى يَقَعَ فِى حِجْرِى، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَكِنَانَةَ زَوْجِى فَلَطَمَ عَيْنِى فَاخْضَرّتْ فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ دَخَلْت عَلَيْهِ فَسَأَلَنِى فَأَخْبَرْته. قَالَتْ: وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ ذَرَارِيّهَا فِى الْكَتِيبَةِ، وَجَرّدُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ وَافْتَتَحَ حُصُونَ النّطَاةِ، وَدَخَلَ عَلَىّ كِنَانَةُ فَقَالَ: قَدْ فَرَغَ مُحَمّدٌ مِنْ النّطَاةِ، وَلَيْسَ هَا هُنَا أَحَدٌ يُقَاتِلُ قَدْ قُتِلَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النّطَاةِ وَكَذَبَتْنَا الْعَرَبُ. فَحَوّلَنِى إلَى حِصْنِ النّزَارِ بِالشّقّ - قَالَ: وَهُوَ أَحْصَنُ مِمّا عِنْدَنَا - فَخَرَجَ حَتّى أَدْخَلَنِى وَابْنَةَ عَمّى وَنُسَيّاتٍ مَعَنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْنَا قَبْلَ الْكَتِيبَةِ فَسُبِيت فِى النّزَارِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِى النّبِىّ ÷ إلَى الْكَتِيبَةِ، فَأَرْسَلَ بِى إلَى رَحْلِهِ ثُمّ جَاءَنَا حِينَ أَمْسَى فَدَعَانِى، فَجِئْت وَأَنَا مُقَنّعَةٌ حَيِيّةٌ فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: “إنْ أَقَمْت عَلَى دِينِك لَمْ أُكْرِهْك، وَإِنْ اخْتَرْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَك”، قَالَتْ: أَخْتَارُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالإِسْلامَ، فَأَعْتَقَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَتَزَوّجَنِى وَجَعَلَ عِتْقِى مَهْرِى، فَلَمّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: الْيَوْمَ نَعْلَمُ أَزَوْجَةً أَمْ سُرّيّةً فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَسَيُحَجّبُهَا وَإِلاّ فَهِىَ سُرّيّةٌ، فَلَمّا خَرَجَ أَمَرَ بِسِتْرٍ فَسَتَرَتْ بِهِ فَعَرَفَ أَنّى زَوْجَةٌ، ثُمّ قَدِمَ إلَى الْبَعِيرِ وَقَدّمَ فَخِذَهُ لأَضَعَ رِجْلِى عَلَيْهَا، فَأَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَوَضَعْت فَخِذِى عَلَى فَخِذِهِ، ثُمّ رَكِبْت، وَكُنْت أَلْقَى مِنْ أَزْوَاجِهِ يَفْخَرْنَ عَلَىّ يَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِىّ، وَكُنْت أَرَى رَسُولَ اللّهِ ÷ يُلَطّفُ بِى وَيُكْرِمُنِى، فَدَخَلَ عَلَىّ يَوْمًا وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: “مَا لَك”؟ فَقُلْت: أَزْوَاجُك يَفْخَرْنَ عَلَىّ وَيَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِىّ، قَالَتْ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ غَضِبَ، ثُمّ قَالَ: “إذَا قَالُوا لَك أَوْ فَاخَرُوك، فَقُولِى: أَبِى هَارُونُ وَعَمّى مُوسَى”. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو شُيَيْمٍ الْمُزَنِىّ - قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلامُهُ - يُحَدّثُ يَقُولُ لَمّا نَفّرْنَا أَهْلَهَا بِحَيْفَاءَ مَعَ عُيَيْنَةَ - قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَارّونَ هَادِئُونَ لَمْ يَهْجُهُمْ هَائِجٌ - رَجَعَ بِنَا عُيَيْنَةُ فَلَمّا كَانَ دُونَ خَيْبَرَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُطَامُ عَرّسْنَا مِنْ اللّيْلِ فَفَزِعْنَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَبْشِرُوا إنّى أَرَى اللّيْلَةَ فِى النّوْمِ أَنّى أُعْطِيت ذَا الرّقَيْبَةِ - جَبَلاً بِخَيْبَرَ - قَدْ وَاَللّهِ قَدْ أَخَذْت بِرِقْبَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ فَوَجَدَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنّمَهُ اللّهُ مَا فِيهَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أُعْطِنِى يَا مُحَمّدُ مِمّا غَنِمْت مِنْ حُلَفَائِى فَإِنّى انْصَرَفْت عَنْك وَعَنْ قِتَالِك وَخَذَلْت حُلَفَائِى وَلَمْ أُكْثِرْ عَلَيْك، وَرَجَعْت عَنْك بِأَرْبَعَةِ آلافِ مُقَاتِلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَذَبْت، وَلَكِنْ الصّيَاحُ الّذِى سَمِعْت أَنَفَرَك إلَى أُهْلِكْ”. قَالَ: أَجْزِنِى يَا مُحَمّدُ، قَالَ: “لَك ذُو الرّقَيْبَةِ”. قَالَ عُيَيْنَةُ: وَمَا ذُو الرّقَيْبَةِ؟ قَالَ: “الْجَبَلُ الّذِى رَأَيْت فِى النّوْمِ أَنّك أَخَذْته”، فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ فَجَعَلَ يَتَدَسّسُ إلَى الْيَهُودِ، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا، وَاَللّهِ مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يُصِيبُ مُحَمّدًا غَيْرَكُمْ. قُلْت: أَهْلُ الْحُصُونِ وَالْعُدّةِ وَالثّرْوَةِ أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ فِى هَذِهِ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، وَهَذَا الطّعَامِ الْكَثِيرِ مَا يُوجَدُ لَهُ آكِلٌ وَالْمَاءُ الْوَاتِنُ، قَالُوا: قَدْ أَرَدْنَا الامْتِنَاعَ فِى قَلْعَةِ الزّبَيْرِ وَلَكِنّ الدّبُولَ قُطِعَتْ عَنّا، وَكَانَ الْحُرّ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا بَقَاءٌ عَلَى الْعَطَشِ. قَالَ: قَدْ وُلِيتُمْ مِنْ حُصُونِ نَاعِمٍ مُنْهَزِمِينَ حَتّى صِرْتُمْ إلَى حِصْنِ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ. وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَمّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَيُخْبِرُ، قَالَ: قُتِلَ وَاَللّهِ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجَلَدِ لا نِظَامَ لَيَهُودَ بِالْحِجَازِ أَبَدًا، وَيَسْمَعُ سَلامَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَلاّمِ بْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ، وَكَأَنّمَا يَقُولُونَ: إنّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ مُخْتَلِطٌ فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ أَنْتَ غَرَرْتهمْ وَخَذَلْتهمْ وَتَرَكْتهمْ وَقِتَالَ مُحَمّدٍ وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا صَنَعْت بِبَنِى قُرَيْظَةَ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: إنّ مُحَمّدًا كَادَنَا فِى أَهْلِنَا، فَنَفَرْنَا إلَيْهِمْ حَيْثُ سَمِعْنَا الصّرِيخَ وَنَحْنُ نَظُنّ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ خَالَفَ إلَيْهِمْ فَلَمْ نَرَ شَيْئًا فَكَرَرْنَا إلَيْكُمْ لِنَنْصُرَكُمْ. قَالَ ثَعْلَبَةُ: وَمَنْ بَقِىَ تَنْصُرُهُ؟ قَدْ قُتِلَ مِنْ قُتِلَ وَبَقِىَ مَنْ بَقِىَ فَصَارَ عَبْدًا لِمُحَمّدٍ وَسَبَانَا، وَقَبَضَ الأَمْوَالَ قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ لِعُيَيْنَةَ: لا أَنْتَ نَصَرْت حُلَفَاءَك فَلَمْ يُعِدّوا عَلَيْك حِلْفَنَا وَلا أَنْتَ حَيْثُ وُلّيت - كُنْت أَخَذْت تَمْرَ خَيْبَرَ مِنْ مُحَمّدٍ سَنَةً وَاَللّهِ إنّى لأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا ظَاهِرًا، لَيَظْهَرَنّ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ. فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ يَفْتِلُ يَدَيْهِ فَلَمّا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَك إنّك تُوضَعُ فِى غَيْرِ شَيْءٍ؟ وَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْيَهُودُ كَانُوا يُخْبِرُونَنَا هَذَا. أَشْهَدُ لَسَمِعْت أَبَا رَافِعٍ سَلاّمَ بْنَ أَبِى الْحُقَيْقِ يَقُولُ إنّا نَحْسُدُ مُحَمّدًا عَلَى النّبُوّةِ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِى هَارُونَ وَهُوَ نَبِىّ مُرْسَلٌ، وَالْيَهُودُ لا تُطَاوِعُنِى عَلَى هَذَا، وَلَنَا مِنْهُ ذَبَحَانِ وَاحِدٌ بِيَثْرِبَ وَآخَرُ بِخَيْبَرَ. قَالَ الْحَارِثُ: قُلْت لِسَلاّمٍ: يَمْلِكُ الأَرْضَ جَمِيعًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالتّوْرَاةُ الّتِى أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ الْيَهُودُ بِقَوْلِى فِيهِ. قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ وَاطْمَأَنّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَسْأَلُ أَىّ الشّاةِ أَحَبّ إلَى مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُونَ: الذّرَاعُ وَالْكَتِفُ، فَعَمَدَتْ إلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، ثُمّ عَمَدَتْ إلَى سُمّ لابَطِىّ قَدْ شَاوَرَتْ الْيَهُودَ فِى سُمُومٍ فَأَجْمَعُوا لَهَا عَلَى هَذَا السّمّ بِعَيْنِهِ فَسَمّتْ الشّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِى الذّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ، فَلَمّا غَابَتْ الشّمْسُ صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَغْرِبَ وَانْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ وَيَجِدُ زَيْنَبَ جَالِسَةً عِنْدَ رَحْلِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: أَبَا الْقَاسِمِ هَدِيّةٌ أَهْدَيْتهَا لَك، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ، وَلا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْهَدِيّةِ، فَقَبَضْت مِنْهَا وَوَضَعْت بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَصْحَابِهِ وَهُمْ حُضُورٌ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ: “اُدْنُوا فَتَعَشّوْا”، فَدَنَوَا فَمَدّوا أَيْدِيَهُمْ وَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الذّرَاعَ، وَتَنَاوَلَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ عَظْمًا، وَأَنْهَشَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهَا نَهْشًا وَانْتَهَشَ بِشْرٌ، فَلَمّا ازْدَرَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَكْلَتَهُ ازْدَرَدَ بِشْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كُفّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنّ هَذِهِ الذّرَاعَ تُخْبِرُنِى أَنّهَا مَسْمُومَةٌ”. فَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ: قَدْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ وَجَدْت ذَلِكَ مِنْ أَكْلَتِى الّتِى أَكَلْتهَا، فَمَا مَنَعَنِى أَنّ أَلْفِظَهَا إلاّ كَرَاهِيَةَ أُنَغّصَ إلَيْك طَعَامَك، فَلَمّا تَسَوّغْتَ مَا فِى يَدِك لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِى عَنْ نَفْسِك، وَرَجَوْت أَلاّ تَكُونَ ازْدَرَدْتهَا وَفِيهَا نَعْىٌ. فَلَمْ يَرْمِ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى عَادَ لَوْنُهُ كَالطّيْلَسَانِ وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ سَنَةً لا يَتَحَوّلُ إلاّ مَا حُوّلَ ثُمّ مَاتَ مِنْهُ. وَيُقَالُ: لَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى مَاتَ، وَعَاشَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاثَ سِنِينَ. وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِزَيْنَبَ، فَقَالَ: “سَمَمْت الذّرَاعَ”؟ فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَك؟ قَالَ: “الذّرَاعُ”، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: “وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ”؟ قَالَتْ: قَتَلْت أَبِى وَعَمّى وَزَوْجِى، وَنِلْت مِنْ قَوْمِى مَا نِلْت، فَقُلْت: إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَتُخْبِرُهُ الشّاةُ مَا صَنَعْت، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَاخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِيهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: رِوَايَةً أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقُتِلَتْ، ثُمّ صُلِبَتْ. وَقَالَ قَائِلٌ: رِوَايَةً عَفَا عَنْهَا. وَكَانَ نَفَرٌ ثَلاثَةٌ قَدْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِى الطّعَامِ وَلَمْ يَسِيغُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشّاةِ وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَيُقَالُ: احْتَجَمَ عَلَى كَاهِلِهِ حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ. وَقَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ تَقُولُ دَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى مَرَضِهِ الّذِى مَاتَ فِيهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ فَمَسِسْته، فَقُلْت: مَا وَجَدْت مِثْلَ مَا وُعِكَ عَلَيْك عَلَى أَحَدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ كَذَلِكَ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلاءُ، زَعَمَ النّاسُ أَنّ بِرَسُولِ اللّهِ ذَاتُ الْجَنْبِ مَا كَانَ اللّهُ لِيُسَلّطَهَا عَلَىّ إنّمَا هِىَ هَمْزَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، وَلَكِنّهُ مِنْ الأَكْلَةِ الّتِى أَكَلْت أَنَا وَابْنُك يَوْمَ خَيْبَرَ، مَا زَالَ يُصِيبُنِى مِنْهَا عِدَادٌ حَتّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعٍ أَبْهَرِىّ”، فَمَاتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ شَهِيدًا، وَيُقَالُ: إنّ الّذِى مَاتَ فِى الشّاةِ مُبَشّرُ بْنُ الْبَرَاءِ. وَبِشْرٌ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ قَوْلِ زَيْنَبَ ابْنَةِ الْحَارِثِ: قَتَلْت أَبِى، قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَبُوهَا الْحَارِثُ، وَعَمّهَا يَسَارٌ، وَكَانَ أَخْبَرَ النّاسِ هُوَ الّذِى أُنْزِلَ مِنْ الشّقّ، وَكَانَ الْحَارِثُ أَشْجَعَ الْيَهُودِ، وَأَخُوهُ زُبَيْرُ قُتِلَ يَوْمئِذٍ فَكَانَ زَوْجُهَا سَيّدَهُمْ وَأَشْجَعَهُمْ سَلاّمَ بْنَ مِشْكَمٍ، كَانَ مَرِيضًا وَكَانَ فِى حُصُونِ النّطَاةِ فَقِيلَ لَهُ: إنّهُ لا قِتَالَ فِيكُمْ فَكُنْ فِى الْكَتِيبَةِ. قَالَ: لا أَفْعَلُ أَبَدًا. فَقُتِلَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَهُوَ أَبُو الْحَكَمِ الّذِى يَقُولُ فِيهِ الرّبِيعُ بْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ: وَلَمّا تَدَاعَوْا بِأَسْيَافِهِمْ وَكُنّــــا إذَا مَـــا دَعَـــــوْنَا بِـــهِ فَكَانَ الطّعَانُ دَعَوْنَا سَلامَا سَقَيْنَا سَرَاةَ الْعَـــــدُوِ السمَامَــــا وَهُوَ كَانَ صَاحِبُ حَرْبِهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ شَغَلَهُ بِالْمَرَضِ. قَالُوا: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرْوَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبِيَاضِىّ وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِى حُصُونِ النّطَاةِ وَحُصُونِ الشّقّ وَحُصُونِ الْكَتِيبَةِ، لَمْ يَتْرُكْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَتِيبَةِ إلاّ ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَجَمَعُوا أَثَاثًا كَبِيرًا وَبَزّا وَقَطَائِفَ وَسِلاحًا كَثِيرًا، وَغَنَمًا وَبَقَرًا، وَطَعَامًا وَأَدَمًا كَثِيرًا، فَأَمّا الطّعَامُ وَالأَدَمُ وَالْعَلَفُ فَلَمْ يُخَمّسْ يَأْخُذُ مِنْهُ النّاسُ حَاجَتَهُمْ وَكَانَ مَنْ احْتَاجَ إلَى سِلاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَغْنَمِ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ فَرُدّ ذَلِكَ فِى الْمَغْنَمِ، فَلَمّا اجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلّهُ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَجُزِئَ خَمْسَةَ أَجَزَاء، وَكَتَبَ فِى سَهْمٍ مِنْهَا “اللّهُ” وَسَائِرُ السّهْمَانِ أَغْفَالٌ. فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ سَهْمُ النّبِىّ ÷ لَمْ يُتَخَيّرْ فِى الأَخْمَاسِ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِبَيْعِ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ، فِيمَنْ يُرِيدُ فَجَعَلَ فَرْوَةُ يَبِيعُهَا فِيمَنْ يُرِيدُ فَدَعَا فِيهَا النّبِىّ ÷ بِالْبَرَكَةِ وَقَالَ: “اللّهُمّ أَلْقِ عَلَيْهَا النّفَاقَ”، قَالَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو: فَلَقَدْ رَأَيْت النّاسَ يَتَدَارَكُونَ عَلَىّ وَيَتَوَاثَبُونَ حَتّى نَفَقَ فِى يَوْمَيْنِ وَلَقَدْ كُنْت أَرَى أَنّا لا نَتَخَلّصُ مِنْهُ حِينًا لِكَثْرَتِهِ. وَكَانَ الْخُمُسُ الّذِى صَارَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَغْنَمِ يُعْطَى مِنْهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللّهُ مِنْ السّلاحِ وَالْكِسْوَةِ فَأَعْطَى مِنْهُ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ الثّيَابِ وَالْخَرْزِ وَالأَثَاثِ وَأَعْطَى رِجَالاً مِنْ بَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَنِسَاءً وَأَعْطَى الْيَتِيمَ وَالسّائِلَ. وَجَمَعْت يَوْمئِذٍ مَصَاحِفَ فِيهَا التّوْرَاةُ مِنْ الْمَغْنَمِ فَجَاءَتْ الْيَهُودُ تَطْلُبُهَا، وَتَكَلّمَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ تُرَدّ عَلَيْهِمْ. وَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: “أَدّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنّ الْغُلُولَ عَارٍ وَشَنَارٌ وَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. فَبَاعَ يَوْمئِذٍ فَرْوَةُ الْمَتَاعَ فَأَخَذَ عِصَابَةً فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ لِيَسْتَظِلّ بِهَا مِنْ الشّمْسِ ثُمّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَهِىَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ فَخَرَجَ فَطَرَحَهَا. وَأَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: عِصَابَةٌ مِنْ نَارٍ عَصَبْت بِهَا رَأْسَك، وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا يَحِلّ لِى مِنْ الْفَيْءِ خَيْطٌ وَلا مِخْيَطٌ، لا آخُذُ وَلا أُعْطِى”. فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عِقَالاً، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “حَتّى نَقْسِمَ الْغَنَائِمَ ثُمّ أُعْطِيك عِقَالاً، وَإِنْ شِئْت مِرَارًا”. وَكَانَ رَجُلٌ أَسْوَدَ مَعَ النّبِىّ ÷ يُمْسِكُ دَابّتَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَقُتِلَ يَوْمئِذٍ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُسْتُشْهِدَ كَرْكَرَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهُ الآن لِيُحَرّقَ فِى النّارِ عَلَى شَمْلَةٍ غَلّهَا”. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذْت شِرَاكَيْنِ يَوْمئِذٍ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ”، وَتُوُفّىَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَإِنّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “صَلّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ”، فَتَغَيّرَتْ وُجُوهُ النّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ صَاحِبَكُمْ غَلّ فِى سَبِيلِ اللّهِ”. قَالَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِىّ: فَفَتّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ لا يُسْوَى دِرْهَمَيْنِ. وَكَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ وَكَانُوا رُفَقَاءَ، فَقَالَ: الْمُحَدّثُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ الْخَرْزُ عِنْدَكُمْ الْيَوْمَ لَمْ يُسْوَ دِرْهَمَيْنِ. فَأُتِىَ بِذَلِكَ الْخَرْزِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ الْمَقْسَمِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ نَسِينَا هَذَا الْخَرْزَ عِنْدَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كُلّكُمْ يَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنّهُ نَسِيَهُ”؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَحَلَفُوا بِاَللّهِ جَمِيعًا أَنّهُمْ نَسُوهُ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِسَرِيرِ الْمَوْتَى فَسُجِنَ عَلَيْهِمْ بِالرّبَاطِ، ثُمّ صَلّى عَلَيْهِمْ صَلاةَ الْمَوْتَى. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَجِدُ الْغُلُولَ فِى رَحْلِ الرّجُلِ فَلا يُعَاقِبُهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُ أَحْرَقَ رَحْلَ أَحَدٍ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ، وَلَكِنّهُ يُعَنّفُ وَيُؤَنّبُ وَيُؤْذِى وَيُعَرّفُ النّاسَ بِهِ. قَالُوا: وَاشْتَرَى يَوْمَ خَيْبَرَ تِبْرًا بِذَهَبٍ جِزَافًا، فَلَهَا عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَكَانَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ يُحَدّثُ، يَقُولُ: أَصَبْت يَوْمئِذٍ قِلادَةً فَبِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَنَانِيرَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “بِعْ الذّهَبَ وَزْنًا بِوَزْنٍ”، وَكَانَ فِى الْقِلادَةِ ذَهَبٌ وَغَيْرُهُ فَرَجَعْت فِيهَا، وَاشْتَرَى السّعْدَانُ تِبْرًا بِذَهَبٍ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَرْبَيْتُمَا فَرُدّا وَوَجَدَ رَجُلٌ يَوْمئِذٍ فِى خَرِبَةٍ مِائَتَىْ دِرْهَمٍ”، فَأَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الْخُمُسَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ. وَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقِ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلا يَبِعْ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ، حَتّى يَعْلَمَ وَلا يَرْكَبْ دَابّةً مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى إذَا بَرَاهَا رَدّهَا، وَلا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ الْمَغْنَمِ، حَتّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدّهُ وَلا يَأْتِ مِنْ السّبْىِ حَتّى تَسْتَبْرِئَ وَتَحِيضَ حَيْضَةً وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا”. وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحّ فَقَالَ: “لِمَنْ هَذِهِ”؟ فَقِيلَ: لِفُلانٍ. قَالَ: “فَلَعَلّهُ يَطَؤُهَا”؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: “كَيْفَ بِوَلَدِهَا يَرِثُهُ، وَلَيْسَ بِابْنِهِ أَوْ يَسْتَرْقِهِ وَهُوَ يَعْدُو فِى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؟ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَتْبَعُهُ فِى قَبْرِهِ”. قَالُوا: وَقَدِمَ أَهْلُ السّفِينَتَيْنِ مِنْ عِنْدِ النّجَاشِىّ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ، فَلَمّا نَظَرَ النّبِىّ ÷ إلَى جَعْفَرٍ، قَالَ: مَا أَدْرِى بِأَيّهِمَا أَنَا أُسَرّ، بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ فَتْحِ خَيْبَرَ ثُمّ ضَمّهُ رَسُولُ اللّهِ وَقَبّلَ بَيْن عَيْنَيْهِ وَقَدِمَ الدّوْسِيّونَ فِيهِمْ أَبُو هَرِيرَةَ، وَالطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُمْ، وَنَفَرٌ مِنْ الأَشْجَعِيّينَ فَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ، وَنَظَرَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ إلَى أَبِى هَرِيرَةَ فَقَالَ: أَمّا أَنْتَ فَلا، فَقَالَ أَبُو هَرِيرَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. قَالَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ: يَا عَجَبَاه لِوَبَرٍ تَدَلّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللّهُ عَلَى يَدَىّ وَلَمْ يُهِنّى عَلَى يَدِهِ. قَالَ: وَكَانَ الْخُمُسُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ كُلّ مَغْنَمٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ شَهِدَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَوْ غَابَ عَنْهُ، وَكَانَ لا يَقْسِمُ لِغَائِبٍ فِى مَغْنَمٍ لَمْ يَشْهَدْهُ إلاّ أَنّهُ فِى بَدْرٍ ضَرَبَ لِثَمَانِيَةٍ لَمْ يَشْهَدُوا، كُلّهُمْ مُسْتَحَقّ فِيهَا، وَكَانَتْ خَيْبَرُ لأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، مَنْ شَهِدَهَا مِنْهُمْ أَوْ غَابَ عَنْهَا. قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ% يَعْنِى خَيْبَرَ. وَقَدْ تَخَلّفَ عَنْهَا رِجَالٌ مُرَىّ بْنُ سِنَانٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِىّ، خَلّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَغَيْرُهُمْ، وَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلانِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِمَنْ تَخَلّفَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ وَأَسْهَمَ لِمَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ النّاسِ مِمّنْ لَمْ يَشْهَدْ الْحُدَيْبِيَةَ. وَأَسْهَمَ لِرُسُلٍ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ إلَى أَهْلِ فَدَكَ، مُحَيّصَة بْنُ مَسْعُودٍ الْحَارِثِىّ وَغَيْرُهُ فَأَسْهَمَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلَمْ يَحْضُرُوا. وَأَسْهَمَ لِثَلاثَةِ مَرْضَى لَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِى خُطَامَة، وَأَسْهَمَ لِلْقَتْلَى الّذِينَ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إنّمَا كَانَتْ خَيْبَرُ لأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَشْهَدْهَا غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُسْهَمْ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّ قَوْمًا شَهِدُوا خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْحُدَيْبِيَةَ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ قُطَيْرٍ الْحَارِثِىّ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ إلَى خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَيُقَالُ: أَحَذَاهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مَمْلُوكُونَ مِنْهُمْ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبّى اللّحْمِ. قَالَ عُمَيْرٌ: وَلَمْ يُسْهَمْ لِى وَأَعْطَانِى خُرْثِىّ مَتَاعٍ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُحْذِيهِمْ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ عِشْرُونَ امْرَأَةً أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ وَصَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ أَيْمَنَ وَسَلْمَى امْرَأَةُ أَبِى رَافِعٍ مُوَلاّةُ النّبِىّ ÷ وَامْرَأَةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ وَلَدَتْ سَهْلَةَ بِنْتَ عَاصِمٍ بِخَيْبَرَ، وَأُمّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ وَأُمّ مَنِيعٍ وَهِىَ أُمّ شُبَاثٍ، وَكُعَيْبَة بِنْتُ سَعْدٍ الأَسْلَمِيّة، وَأُمّ مَتَاعٍ الأَسْلَمِيّة، وَأُمّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، وَأُمّ الضّحّاكِ بِنْتُ مَسْعُودٍ الْحَارِثِيّةُ، وَهِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ، وَأُمّ الْعِلاءِ الأَنْصَارِيّةُ وَأُمّ عَامِرٍ الأَشْهَلِيّة، وَأُمّ عَطِيّةَ الأَنْصَارِيّةُ، وَأُمّ سَلِيطٍ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمّ عَلِىّ بِنْتِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمَيّةَ بِنْتِ قَيْسِ بْنِ أَبِى الصّلْتِ الْغِفَارِيّةِ، قَالَتْ: جِئْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى نِسْوَةٍ مِنْ بَنِى غِفَارٍ، فَقُلْنَا: إنّا نُرِيدُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ نَخْرُجَ مَعَك فِى وَجْهِك هَذَا فَنُدَاوِى الْجَرْحَى وَنُعِينُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ”، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا مَعَهُ وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السّنّ، فَأَرْدَفَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ فَنَزَلَ الصّبْحَ فَأَنَاخَ وَإِذَا أَنَا بِالْحَقِيبَةِ عَلَيْهَا دَمٌ مِنّى، وَكَانَتْ أَوّلَ حَيْضَةٍ حِضْتُهَا، فَتَقَبّضَتْ إلَى النّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْت، فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا بِى وَرَأَى الدّمَ قَالَ: “لَعَلّك نُفِسْت”، قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: “فَأَصْلِحِى مِنْ نَفْسِك، ثُمّ خُذِى إنَاءً مِنْ مَاءٍ، ثُمّ اطْرَحِى فِيهِ مِلْحًا وَاغْسِلِى مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدّمِ ثُمّ عُودِى”، فَفَعَلَتْ فَلَمّا فَتَحَ اللّهُ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ، وَلَمْ يُسْهِمْ وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلادَةَ الّتِى تَرَيْنَ فِى عُنُقِى فَأَعْطَانِيهَا، وَعَلّقَهَا بِيَدِهِ فِى عُنُقِى، فَوَاَللّهِ لا تُفَارِقُنِى أَبَدًا، وَكَانَتْ فِى عُنُقِهَا حَتّى مَاتَتْ وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهَا، وَكَانَتْ لا تَطْهُرُ إلاّ وَجَعَلَتْ فِى طَهُورِهَا مِلْحًا، وَأَوْصَتْ أَنْ يُجْعَلَ فِى غَسْلِهَا مِلْحٌ حِينَ غَسَلَتْ. حَدّثَنِى عَبْدُ السّلامِ بْنُ مُوسَى بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْس، قَالَ: خَرَجْت مَعَ النّبِىّ ÷ إلَى خَيْبَرَ وَمَعِى زَوْجَتِى حُبْلَى، فَنُفِسَتْ بِالطّرِيقِ فَأَخْبَرَتْ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “انْقَعْ لَهَا تَمْرًا فَإِذَا أَنْعَمَ بَلّهُ فَامْرُثْهُ ثُمّ تَشْرَبُهُ”، فَفَعَلَتْ فَمَا رَأَتْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ، فَلَمّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ أَحْذَى النّسَاءَ، وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ فَأَحْذَى زَوْجَتِى وَوَلَدِى الّذِى وُلِدَ، قَالَ عَبْدُ السّلامِ: لَسْت أَدْرِى غُلامٌ أَمْ جَارِيَةٌ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمّ الْعَلاءِ الأَنْصَارِيّةِ، قَالَتْ: فَأَصَابَنِى ثَلاثُ خَرَزَاتٍ وَكَذَلِك أَصَابَ صَوَاحِبِى، وَأُتِىَ يَوْمئِذٍ بِرِعَاثٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: هَذَا لِبَنَاتِ أَخِى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ فَقَدِمَ بِهَا عَلَيْهِنّ فَرَأَيْت ذَلِكَ الرّعَاثَ عَلَيْهِنّ وَذَلِكَ مِنْ خُمُسِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى يَحْيَى، عَنْ ثُبَيْتَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ الأَسْلَمِيّة، عَنْ أُمّهَا أُمّ سِنَانٍ قَالَتْ لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْخُرُوجَ جِئْته فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَخْرُجُ مَعَك فِى وَجْهِك هَذَا، أَخْرِزُ السّقَاءَ وَأُدَاوِى الْمَرْضَى وَالْجَرِيحَ إنْ كَانَتْ جِرَاحٌ - وَلا يَكُونُ - وَأَنْظُرُ الرّحْلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُخْرُجِى عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ، فَإِنّ لَك صَوَاحِبُ قَدْ كَلّمْنَنِى، وَأَذِنَتْ لَهُنّ مِنْ قَوْمِك، وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ شِئْت فَمَعَ قَوْمِك، وَإِنْ شِئْت فَمَعَنَا”. قُلْت: مَعَك قَالَ: فَكُونِى مَعَ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِى، قَالَتْ: فَكُنْت مَعَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَغْدُو مِنْ الرّجِيعِ كُلّ يَوْمٍ عَلَيْهِ الدّرْعُ، فَإِذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَيْنَا، فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَةِ أَيّامٍ حَتّى فَتَحَ اللّهُ النّطَاةَ، فَلَمّا فَتَحَهَا تَحَوّلَ إلَى الشّقّ، وَحَوْلَنَا إلَى الْمَنْزِلَةِ فَلَمّا فَتَحَ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ فَأَعْطَانِى خَرْزًا وَأَوْضَاحًا مِنْ فِضّةٍ أُصِيبَتْ فِى الْمَغْنَمِ وَأَعْطَانِى قَطِيفَةً فَدَكِيّةً وَبُرْدًا يَمَانِيًا، وَخَمَائِلَ وَقِدْرًا مِنْ صُفْرٍ. وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ جَرَحُوا فَكُنْت أُدَاوِيهِمْ بِدَوَاءٍ كَانَ عِنْدَ أَهْلِى فَيَبْرَءُونَ فَرَجَعْت مَعَ أُمّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ لِى: حِينَ أَرَدْنَا نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَكُنْت عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِ النّبِىّ ÷ مَنَحَهُ لِى، فَقَالَتْ: بَعِيرُك الّذِى تَحْتَك لَك رَقَبَتُهُ أَعْطَاكِيهِ رَسُولُ اللّهِ، قَالَتْ: فَحَمِدْت اللّهَ وَقَدِمْت بِالْبَعِيرِ فَبِعْته بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ. قَالَتْ فَجَعَلَ اللّهُ فِى وَجْهِى ذَلِكَ خَيْرًا. قَالُوا: فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ وَأَسْهَمَ لِسَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ وَلَدَتْ بِخَيْبَرَ وَوُلِدَ لِعَبْدِ اللّهِ ابْنِ أُنَيْس بِخَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَيُقَالُ: رَضَخَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ. وَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: رَأَيْت فِى رَقَبَةِ أُمّ عُمَارَةَ خَرْزًا حُمْرًا فَسَأَلْتهَا عَنْ الْخَرْزِ، فَقَالَتْ: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ خَرْزًا فِى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ دُفِنَ فِى الأَرْضِ فَأُتِىَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَمَرَ بِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ النّسَاءِ فَأُحْصِينَ فَكُنّا عِشْرِينَ امْرَأَةً فَقَسَمَ ذَلِكَ الْخَرْزَ بَيْنَنَا هَذَا وَأَرْضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ قَطِيفَةً وَبُرْدًا يَمَانِيًا وَدِينَارَيْنِ وَكَذَلِك أَعْطَى صَوَاحِبِى. قُلْت: فَكَمْ كَانَتْ سُهْمَانُ الرّجَالِ؟ قَالَتْ: ابْتَاعَ زَوْجِى غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو مَتَاعًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفٍ فَلَمْ يُطَالِبْ بِشَيْءٍ فَظَنَنّا أَنّ هَذِهِ سُهْمَانُ الْفُرْسَانِ - وَكَانَ فَارِسًا - وَبَاعَ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ فِى الشّق زَمَنَ عُثْمَانَ بِثَلاثِينَ دِينَارًا. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ قَادَ فِى خَيْبَرَ ثَلاثَةَ أَفْرَاسٍ لِزَازٍ وَالظّربِ وَالسّكبِ وَكَانَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ قَدْ قَادَ أَفْرَاسًا، وَكَانَ خرَاشُ بْنُ الصّمّةِ قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفٍ - أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنِ النّبِىّ ÷ الّذِى أَرْضَعَهُ - قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ وَكَانَ أَبُو عَمْرو الأَنْصَارِىّ قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ. قَالَ: فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِكُلّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. وَيُقَالُ: إِنّهُ لَمْ يُسْهِمْ إِلاّ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ: إِنّهُ عَرّبَ الْعَرَبِىّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَهَجّنَ الْهَجِينَ فَأَسْهَمَ لِلْعَرَبِىّ وَأَلْقَى الْهَجِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ الْهَجِينُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ إِنّمَا كَانَتْ الْعرابُ حَتّى كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَفَتَحَ الْعِرَاقَ وَالشّامَ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ ضَرَبَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْخَيْلِ لِنَفْسِهِ إِلاّ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ هُوَ مَعْرُوفٌ سَهْمُ الْفَرَسِ. وَسَهْمُ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى النّطَاةِ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسِهِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: خَرَجَ سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ عَلَى فَرَسٍ فَلَمّا نَظَرَ إلَى بُيُوتِ خَيْبَرَ فِى اللّيْلِ، وَقَعَ بِهِ الْفَرَسُ، فَعَطَبَ الْفَرَسُ وَكُسِرَتْ يَدُ سُوَيْد، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتّى فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَهْمَ فَارِسَ. قَالُوا: وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَىْ فَرَسٍ. وَيُقَالُ ثَلاثُمِائَةِ وَمِائَتَانِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَكَانَ الّذِى وَلِىَ إحْصَاءَ الْمُسْلِمِينَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمَ النّبِىّ ÷ بَيْنَهُمْ الّذِى غَنِمُوا مِنْ الْمَتَاعِ الّذِى بِيعَ ثُمّ أَحَصَاهُمْ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ وَالْخَيْلُ مِائَتَىْ فَرَسٍ. فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُمْ الّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالسّهْمَانِ وَلِخَيْلِهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْخَيْلُ مِائَتَىْ فَرَسٍ لَهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَهْمٍ. فَكَانَتْ سُهْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الّتِى أَسْهَمَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى النّطَاةِ أَوْ فِى الشّقّ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ فَوْضَى لَمْ تُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَلَمْ تُحَدّ وَلَمْ تُقْسَمْ إنّمَا لَهَا رُؤَسَاءُ مُسَمّوْنَ لِكُلّ مِائَةِ رَأْسٍ يُعْرَفُ يُقْسَمُ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا خَرَجَ مِنْ غَلّتِهَا، فَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ فِى الشّقّ وَالنّطَاةِ: عَاصِمُ بْنُ عَدِىّ، وَعَلِىّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ. وَسَهْمُ بَنِى سَاعِدَةَ وَسَهْمُ بَنِى النّجّارِ لَهُمْ رَأْسٌ وَسَهْمُ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَسَهْمُ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، وَسَهْمُ بَنِى سَلَمَةَ - وَكَانُوا أَكْثَرَ وَرَأَسَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - وَسَهْمُ عُبَيْدَةَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَسَهْمُ أَوْسٍ وَسَهْمُ بَنِى الزّبَيْرِ وَسَهْمُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَهْمُ بِلْحَارِث بْنِ الْخَزْرَجِ، رَأْسُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. وَسَهْمُ بَيَاضَةَ رَأْسُهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَهْمُ نَاعِمٍ. فَهَذِهِ ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا فِى الشّقّ وَالنّطَاةِ فَوْضَى يَقْبِضُ رُؤَسَاؤُهُمْ الْغَلّةُ مِنْهُ ثُمّ يُفِضْ عَلَيْهِمْ وَيَبِيعُ الرّجُلُ سَهْمَهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى غِفَارٍ سَهْمَهُ بِخَيْبَرَ بِبَعِيرَيْنِ ثُمّ قَالَ لَهُ النّبِىّ ÷: “أَعْلَمُ أَنّ الّذِى آخُذُ مِنْك خَيْرٌ مِنْ الّذِى أُعْطِيك، وَاَلّذِى أُعْطِيك دُونَ الّذِى آخُذُ مِنْك، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ، وَإِنْ شِئْت فَأَمْسِكْ”، فَأَخَذَ الْغِفَارِىّ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَشْتَرِى مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى سَهْمٍ وَأَخَذَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ مِائَةٌ وَهُوَ سَهْمٌ أَوْسٍ كَانَ يُسَمّى سَهْمَ اللّفِيفِ حَقّ صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَابْتَاعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ سَهْمِ أَسْلَمَ سُهْمَانًا، وَيُقَالُ: إنّ أَسْلَمَ كَانُوا بَضْعَةً وَسَبْعِينَ وَغِفَارٌ بَضْعَةٌ وَعِشْرِينَ فَكَانُوا مِائَةً وَيُقَالُ: كَانَتْ أَسْلَمُ مِائَةً وَسَبْعِينَ وَغِفَارٌ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ وَهَذَا مِائَتَا سَهْمٍ وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَمّا فَتَحَ خَيْبَرَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ نَحْنُ أَرْبَابُ النّخْلِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَة بِهَا. فَسَاقَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرٍ مِنْ التّمْرِ وَالزّرْعِ وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أُقِرّكُمْ عَلَى مَا أَقَرّكُمْ اللّهُ”، فَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى تُوُفّىَ وَأَبِى بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ وَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النّخْلَ فَكَانَ يَخْرُصُهَا فَإِذَا خَرَصَ قَالَ: إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نِصْفَ مَا خَرَصْت، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا وَنَضْمَنُ لَكُمْ مَا خَرَصْت. وَإِنّهُ خَرَصَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ فَجَمَعُوا لَهُ حُلِيّا مِنْ حُلِىّ نِسَائِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا لَك، وَتَجَاوَزْ فِى الْقَسْمِ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللّهِ إنّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللّهِ إلَىّ وَمَا ذَاكَ يَحْمِلُنِى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ فَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِمْ مِثْلَ مَا كَانَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَيُقَالُ: الّذِى خَرَصَ بَعْدَ ابْنِ رَوَاحَةَ عَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو. قَالُوا: وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقَعُونَ فِى حَرْثِهِمْ وَبَقْلِهِمْ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ لِيَهُودَ نِصْفُهُ فَشَكَتْ الْيَهُودُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ: عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَنَادَى: إنّ الصّلاةَ جَامِعَةٌ وَلا يَدْخُلْ الْجَنّةَ إلاّ مُسْلِمٌ. فَاجْتَمَعَ النّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: إنّ الْيَهُودَ شَكَوْا إلَىّ أَنّكُمْ وَقَعْتُمْ فِى حَظَائِرِهِمْ وَقَدْ أَمّنّاهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاَلّذِى فِى أَيْدِيهِمْ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ وَعَامَلْنَاهُمْ وَإِنّهُ لا تَحِلّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إلاّ بِحَقّهَا، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لا يَأْخُذُونَ مِنْ بِقَوْلِهِمْ شَيْئًا إلاّ بِثَمَنٍ، فَرُبّمَا قَالَ الْيَهُودِىّ: لِلْمُسْلِمِ أَنَا أُعْطِيكَهُ بَاطِلاً فَيَأْبَى الْمُسْلِمُ إلاّ بِثَمَنٍ”. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِى الْكَتِيبَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ: كَانَتْ لِلنّبِىّ ÷ خَالِصَةً وَلَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ إنّمَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللّهِ ÷. وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ ابْنِ غُفَيْر، وَمُوسَى بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَائِلٌ: هِىَ خُمُسُ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ خَيْبَرَ، مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ. وَحَدّثَنِى قُدَامَة بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: كَتَبَ إلَىّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى خِلافَتِهِ أَنْ افْحَصْ لِى عَنْ الْكَتِيبَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَسَأَلْت عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَتْ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمّا صَالَحَ بَنِى أَبِى الْحُقَيْقِ جَزّأَ النّطَاةَ وَالشّقّ وَالْكَتِيبَةَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ جُزْءًا مِنْهَا، ثُمّ جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَمْسَ بَعَرَاتٍ وَأَعْلَمَ فِى بَعْرَةٍ مِنْهَا، فَجَعَلَهَا لِلّهِ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ اجْعَلْ سَهْمَك فِى الْكَتِيبَةِ”، فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ مِنْهَا الّذِى فِيهِ مَكْتُوبٌ عَلَى الْكَتِيبَةِ، فَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ خُمُسَ النّبِىّ ÷ وَكَانَتْ السّهْمَانُ أَغْفَالاً لَيْسَ عَلَيْهَا عَلامَاتٌ وَكَانَتْ فَوْضَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَتَبْت إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِى أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ أَبِى مَالِكٍ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: لَمّا خَرَجَ سَهْمُ النّبِىّ ÷ وَكَانَ الشّقّ وَالنّطَاةُ أَرْبَعَةَ الأَخْمَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ فَوْضَى. وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِى مَالِكٍ الْحِمْيَرِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ الْكَتِيبَةُ خُمُسُ رَسُولِ اللّهِ ÷. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُطْعِمُ مَنْ أَطْعَمَ فِى الْكَتِيبَةِ وَيُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّهَا خُمُسُ النّبِىّ ÷ مِنْ خَيْبَرَ، لأَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمْ يُطْعِمْ مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ أَحَدًا وَجَعَلَهَا سَهْمَانَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ الّتِى أَطْعَمَ فِيهَا. كَانَتْ الْكَتِيبَةُ تُخْرَصُ ثَمَانِيّةُ آلافِ وَسْقٍ تَمْرٍ فَكَانَ لِلْيَهُودِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةُ آلافٍ وَكَانَ يُزْرَعُ فِى الْكَتِيبَةِ شَعِيرٌ فَكَانَ يَحْصُدُ مِنْهَا ثَلاثَةَ آلافِ صَاعٍ فَكَانَ لِلنّبِىّ ÷ نِصْفُهُ أَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ صَاعٍ شَعِيرٌ، وَكَانَ يَكُونُ فِيهَا نَوًى فَرُبّمَا اجْتَمَعَ أَلْفُ صَاعٍ فَيَكُونُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ نِصْفُهُ فَكُلّ هَذَا قَدْ أَعْطَى مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالنّوَى.

  • * *

تَسْمِيَةُ سُهْمَانِ الْكَتِيبَةِ خُمُسُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَحْدَهُ وَسُلالِم، وَالْجَاسِمَيْنِ وَسَهْمَا النّسَاءِ وَسَهْمَا مَقْسَمٍ - وَكَانَ يَهُودِيّا - وَسَهْمَا عَوَانٍ وَسَهْمُ غِرّيث، وَسَهْمُ نُعَيْمٍ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا.

  • * *

ذِكْرُ طُعْمِ النّبِىّ ÷ فِى الْكَتِيبَةِ أَزْوَاجَهُ وَغَيْرَهُمْ أَطْعَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا تَمْرًا وَعِشْرِينَ وَسْقًا شَعِيرًا. وَلِلْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب ِ مِائَتَىْ وَسْقٍ وَلِفَاطِمَةَ وَعَلِىّ عَلَيْهِمَا السّلامُ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ ثَلاثُمِائَةِ وَسْقٍ وَالشّعِيرُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ وَسْقًا، لِفَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مِائَتَا وَسْقٍ. وَلأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَعِيرًا وَخَمْسُونَ وَسْقًا نَوًى، وَلأُمّ رِمْثَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسَةُ أَوْسَاقٍ شَعِيرًا، وَلِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرِو خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا. وَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا، قَالَتْ: بِعْنَا طُعْمَةَ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خَيْبَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ: هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ لأَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى قُحَافَةَ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِعَقِيلِ بْنِ أَبِى طَالِبٍ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ وَلِبَنِى جَعْفَرِ بْنِ أَبِى طَالِبٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ وَلأَبِى سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب ِ مِائَةَ وَسْقٍ وَلِلصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلأَبِى نَبْقَةَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِلْقَاسِمِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادٍ وَأُخْتِهِ هِنْدٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِصَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِبُحَيْنَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِلْحُصَيْنِ وَخَدِيجَةَ، وَهِنْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلأُمّ الْحَكَمِ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلأُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، ولِجُمَانَةَ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلأُمّ طَالِبٍ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِقَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلأَبِى أَرْقَمَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْر ٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلأَبِى بَصْرَةَ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلابْنِ أَبِى حُبَيْشٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِعَبْدِ اللّهِ بْنِ وَهْبٍ وَابْنَيْهِ خَمْسِينَ وَسْقًا، لابْنَيْهِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِنُمَيْلَةَ الْكَلْبِىّ مِنْ بَنِى لَيْثٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلأُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِمَلْكَانَ بْنِ عِبْدَةَ ثَلاثِينَ وَسْقًا، وَلِمُحَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ثَلاثِينَ وَسْقًا. وَأَوْصَى رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلرّهَاوِيّينَ بِطُعْمَةٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ وَلِلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ وَهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ الدّارِيّينَ قَدِمُوا مِنْ الشّامِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَوْصَى لَهُمْ بِطُعْمَةِ مِائَةِ وَسْقٍ هَانِئُ بْنُ حَبِيبٍ وَالْفَاكِهُ بْنُ النّعْمَانِ وَجَبَلَة بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هِنْدِ بْنِ بَرّ وَأَخُوهُ الطّيّبُ بْنُ بَرّ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ اللّهِ وَتَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ وَنُعَيْمُ بْنُ أَوْسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَزِيزُ بْنُ مَالِكٍ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ الرّحْمَنِ وَأَخُوهُ مُرّةُ بْنُ مَالِكٍ وَأَوْصَى لِلأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِى حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ الثّلْجِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلاّ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ لَلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ وَلِلأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ وَلِلرّهَاوِيّين بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ وَأَنْ يَنْفُذَ جَيْشُ أُسَامَةَ ابْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَقَدَ لَهُ إلَى مَقْتَلِ أَبِيهِ، وَأَلاّ يَتْرُكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ. قَالُوا: ثُمّ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ جِبْرِيلَ فِى قَسْمِ خُمُسِ خَيْبَرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَهُ فِى بَنِى هَاشِمٍ وَبَنِى الْمُطّلِبِ وَبَنِى عَبْدِ يَغُوثَ. وَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذَوِى الْقُرْبَى بِخَيْبَرَ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ وَبَنِى الْمُطّلِبِ مَشَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ حَتّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَؤُلاءِ إخْوَانُنَا مِنْ بَنِى الْمُطّلِبِ لا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِك الّذِى وَضَعَك اللّهُ بِهِ مِنْهُمْ أَفَرَأَيْت إخْوَانَنَا مِنْ بَنِى الْمُطّلِبِ، إنّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكَتْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ بَنِى الْمُطّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونِى فِى الْجَاهِلِيّةِ وَالإِسْلامِ، دَخَلُوا مَعَنَا فِى الشّعْبِ، إنّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ شَىْءٌ وَاحِدٌ وَشَبّكَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ أَصَابِعِهِ”. قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ يُحَدّثُ، قَالَ: اجْتَمَعَ الْعَبّاسُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ - لِى وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ - إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَكَلّمَاهُ فَأَمّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ فَأَدّيَا مَا يُؤَدّى النّاسُ وَأَصَابَا مَا يُصِيبُونَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. فَبُعِثَ بِى وَالْفَضْلِ فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَسَبَقْنَاهُ وَانْصَرَفَ إلَيْنَا مِنْ الظّهْرِ، وَقَدْ وَقَفْنَا لَهُ عِنْدَ حُجْرَةِ زَيْنَبَ فَأَخَذَ بِمَنَاكِبِهِمَا، فَقَالَ: أَخْرِجَا مَا تُسِرّانِ فَلَمّا دَخَلَ دَخَلا عَلَيْهِ فَكَلّمَاهُ، فَقَالا: يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْنَاك لِتُؤَمّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ فَنُؤَدّى مَا يُؤَدّى النّاسُ وَنُصِيبُ مَا يُصِيبُونَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. فَسَكَتَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: “إنّ الصّدَقَةَ لا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلا لآلِ مُحَمّدٍ إنّمَا هِىَ أَوْسَاخُ النّاسِ”. اُدْعُ لِى مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِىّ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك - لِلْفَضْلِ. وَقَالَ لأَبِى سُفْيَانَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك - لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِمّا عِنْدَك مِنْ الْخُمُسِ وَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْخُمُسِ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: قَدْ دَعَانَا عُمَرُ إلَى أَنْ يَنْكِحَ فِيهِ أَيَامَانَا وَيَخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَنَا، وَيُقْضَى مِنْهُ غَارِمُنَا، فَأَبَيْنَا عَلَيْهِ إلاّ أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا. حَدّثَنِى مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا عَلَيْهِمْ السّلامُ جَعَلُوا هَذَيْنِ السّهْمَيْنِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِى السّلاحِ وَالْعُدّةِ فِى سَبِيلِ اللّهِ. وَكَانَتْ تِلْكَ الطّعْمَةُ تُؤْخَذُ بِصَاعِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى حَيَاتِهِ وَفِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ حَتّى كَانَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ فَزَادَ فِى الصّاعِ سُدُسَ الْمُدّ فَأَعْطَى لِلنّاسِ بِالصّاعِ الّذِى زَادَ، ثُمّ كَانَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ فَزَادَ فِيهِ فَأَعْطَاهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُطْعِمِينَ، أَوْ قُتِلَ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَبِى بَكْرٍ، فَإِنّهُ يَرِثُهُ تِلْكَ الطّعْمَةَ مِنْ وِرْثِ مَالِهِ، فَلَمّا وَلِىَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قَبَضَ طُعْمَةَ كُلّ مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُوَرّثْهُ فَقَبَضَ طُعْمَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَقَبَضَ طُعْمَةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، وَكَلّمَهُ فِيهِ عَلِىّ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ فَأَبَى، وَقَبَضَ طُعْمَةَ صَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِى ذَلِكَ حَتّى غَالَظَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ بُرْدَهُ، فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ، قَالَ: أُعْطِيك بَعْضَهُ. قَالَ الزّبَيْرُ: لا وَاَللّهِ لا تُخَلّفْ تَمْرَةً وَاحِدَةً تَحْبِسُهَا عَنّى فَأَبَى عُمَرُ تَسْلِيمَهُ كُلّهُ إلَيْهِ. قَالَ الزّبَيْرُ: لا آخُذُهُ إلاّ جَمِيعًا فَأَبَى عُمَرُ وَأَبَى أَنْ يَرُدّ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. وَقَبَضَ طُعْمَةَ فَاطِمَةَ فَكَلَمْ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ. وَكَانَ يُجِيزُ لأَزْوَاجِ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَا صَنَعْنَ فَمَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِى خِلافَتِهِ فَخَلّى بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الطّعْمَةِ وَأَجَازَ مَا صَنَعْنَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَوَرِثَ ذَلِكَ كُلّ مَنْ وَرّثَهُنّ وَلَمْ يَفْعَلْ بِغَيْرِهِنّ. وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ مَنْ بَاعَ تِلْكَ الطّعْمَةِ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لا يُعْرَفُ إذَا مَاتَ الْمُطْعِمُ بَطَلَ حَقّهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ إلاّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِنّهُ أَجَازَ مَا صَنَعْنَ فَلَمّا وَلِىَ عُثْمَانُ كَلّمَ فِى تِلْكَ الطّعْمَةِ فَرَدّ عَلَى أُسَامَةَ وَلَمْ يَرُدّ عَلَى غَيْره. فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِى طُعْمَةِ صَفِيّةَ أُمّهِ فَأَبَى يَرُدّهُ وَقَالَ: أَنَا حَاضِرُك حِينَ تَكَلّمَ عُمَرُ وَعُمَرُ يَأْبَى عَلَيْك يَقُولُ: “خُذْ بَعْضَهُ”، فَأَنَا أُعْطِيك بَعْضَهُ الّذِى عَرَضَ عَلَيْك عُمَرُ أَنَا أُعْطِيك الثّلُثَيْنِ وَأَحْتَبِسُ الثّلُثَ، فَقَالَ الزّبَيْرُ: لا وَاَللّهِ لا تَمْرَةً وَاحِدَةً حَتّى تُسَلّمَهُ كُلّهُ أَوْ تَحْتَبِسَهُ. حَدّثَنِى شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا تُوُفّىَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، كَانَ وَلَدُهُ وَرَثَتُهُ يَأْخُذُونَ طُعْمَتَهُ مِنْ خَيْبَرَ، مِائَةَ وَسْقٍ فِى خِلافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْكِنَانِيّةُ، وَحَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ، فَلَمْ يَزَلْ جَارِيًا عَلَيْهِنّ حَتّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَوْ بَعْدَهُ فَقُطِعَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَمّنْ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ: لا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا أَبَدًا أَعْلَمَ مِنّى، كَانَ مَنْ أُعْطِىَ مِنْهُ طُعْمَةٌ جَرَتْ عَلَيْهِ حَتّى يَمُوتَ ثُمّ يَرِثُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَبِيعُونَ وَيُطْعِمُونَ وَيَهَبُونَ كَانَ هَذَا عَلَى عَهْدِ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، قُلْت: مِمّنْ سَمِعْت ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِى وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْمِى. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: فَذَكَرْت لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ أَخْبَرَنِى مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُمَرَ كَانَ يَقْبِضُ تِلْكَ الطّعْمَةَ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ فِى حَيَاةِ أَزْوَاجِ النّبِىّ ÷ وَغَيْرِهِنّ. ثُمّ يَقُولُ تُوُفّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِى سَنَةِ عِشْرِينَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ فَقَبَضَ طُعْمَتِهَا، فَكَلّمَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا الْوَرَثَةَ، قَالَ: إنّمَا كَانَتْ مِنْ النّبِىّ ÷ طُعْمَةً مَا كَانَ الْمَرْءُ حَيّا، فَإِذَا مَاتَ فَلا حَقّ لِوَرَثَتِهِ، قَالَ: فَكَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ حَتّى تُوُفّىَ ثُمّ وَلِىَ عُثْمَانُ. وَكَانَ النّبِىّ ÷ أَطْعَمَ زَيْدَ ابْنَ حَارِثَةَ طُعْمَةً مِنْ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَا كِتَابٌ فَلَمّا تُوُفّىَ زَيْدٌ جَعَلَهَا النّبِىّ ÷ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. قُلْت: فَإِنّ بَعْضَ مَنْ يَرْوِى يَقُولُ كَلّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِى طُعْمَةِ أَبِيهِ فَأَبَى، قَالَ مَا كَانَ إلاّ كَمَا أَخْبَرْتُك. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: هَذَا الأَمْرُ.

  • * *

تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ بَنِى أُمَيّةَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ قُتِلَ بِالنّطَاةِ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِىّ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُمَيْطٍ قَتَلَهُ أُسَيْرٌ الْيَهُودِىّ، وَرِفَاعَةُ بْنُ مَسْرُوحٍ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِىّ. وَمِنْ بَنِى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفٌ لَهُمْ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِمْ قُتِلَ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ الأَنْصَارِ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ دَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى مِنْ حِصْنِ نَاعِمٍ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَبُو الضّيّاحِ بْنِ النّعْمَانِ شَهِدَ بَدْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَعَدِىّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ وَأَوْسُ بْنُ حَبِيبٍ قُتِلَ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ، وَأُنَيْفُ بْنُ وَائِلَةَ قُتِلَ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ. وَمِنْ بَنِى زُرَيْق ٍ مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ، قَتَلَهُ مَرْحَبٌ. وَمِنْ بَنِى سَلِمَةَ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، مَاتَ مِنْ الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَفُضَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ، وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ، مِنْ أَسْلَمَ، وَعَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، أَصَابَ نَفْسَهُ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ فَدُفِنَ هُوَ وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِى غَارٍ وَاحِدٍ بِالرّجِيعِ. وَمِنْ بَنِى غِفَارٍ: عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ مُلَيْلٍ وَيَسَارٌ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِى الصّلاةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ قَائِلٌ: صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ. وَقُتِلَ مِنْ الْيَهُودِ ثَلاثَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلاً. وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ جَبَلَة بْنَ جَوّالٍ الثّعْلَبِىّ كُلّ دَاجِنٍ بِخَيْبَرَ، وَيُقَالُ أَعْطَاهُ كُلّ دَاجِنٍ فِى النّطَاةِ، وَلَمْ يُعْطِهِ مِنْ الْكَتِيبَةِ وَلا مِنْ الشّقّ شَيْئًا.

  • * *

ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِى خَيْبَرَ قَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِىّ: يَـــــا عِــــبَادَ اللّهِ فِـــيمَا نَرْغَبْ مَـــــا هُــــوَ إلاّ مَأْكَلٌ وَمَشْرَبْ وَجَنّــةٌ فِيهَــا نَعِيــمٌ مُعْجِــبْ وَقَالَ أَيْضًا: أَنَا لِمَنْ أَبْصَرَنِى ابْـــنُ جُنْــــدُبْ يَا رَبّ قِرْنٍ قَدْ تَرَكْــت أَنْكَـــــبْ طَــاحَ عَلَيْــهِ أَنْسُــرٌ وَثَعْلَــبْ أَنْشَدَنِى هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ، قَالَ: مَا زِلْت أَرْوِيهَا لأَبِى وَأَنَا غُلامٌ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ الرّهَانِ الّتِى كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْنَ سَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: كَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يَقُولُ: انْصَرَفْت مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَا مُسْتَيْقِنٌ أَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ عَلَى الْخَلْقِ وَتَأْبَى حَمِيّةُ الشّيْطَانِ إلاّ لُزُومَ دِينِى، فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِىّ فَخَبّرَنَا أَنّ مُحَمّدًا سَارَ إلَى خَيَابِرَ، وَأَنّ خَيَابِرَ، قَدْ جَمَعَتْ الْجَمُوعَ فَمُحَمّدٌ لا يُفْلِتُ إلَى أَنْ قَالَ عَبّاسٌ: مَنْ شَاءَ بَايَعْته لا يُفْلِتُ مُحَمّدٌ، فَقُلْت: أَنَا أُخَاطِرُك. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: أَنَا مَعَك يَا عَبّاسُ، وَقَالَ نَوْفَلُ ابْنُ مُعَاوِيَةَ: أَنَا مَعَك يَا عَبّاسُ. وَضَوَى إلَىّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَخَاطَرْنَا مِائَةَ بَعِيرٍ خُمَاسًا إلَى مِائَةِ بَعِيرٍ أَقُولُ: أَنَا وَحَيّزِى: يَظْهَرُ مُحَمّدٌ. وَيَقُولُ عَبّاسٌ وَحَيّزُهُ: تَظْهَرُ غَطَفَان. فَاضْطَرَبَ الصّوْتُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: خَشِيت وَاَللاّتِى حَيّزَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. فَغَضِبَ صَفْوَانُ وَقَالَ: أَدْرَكَتْك الْمُنَافِيَةُ فَأَسْكَتَ أَبُو سُفْيَانَ وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِظُهُورِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخَذَ حُوَيْطِبُ وَحَيّزُهُ الرّهْنَ. قَالُوا: وَكَانَتْ الأَيْمَنُ تَحْلِفُ عَنْ خَيْبَرَ؛ وَكَانَ أَهْلُ مَكّةَ حَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى خَيْبَرَ قَدْ تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ أَسَدٌ وَغِفَارٌ وَالْيَهُودُ بِخَيْبَرَ، وَذَلِك أَنّ الْيَهُودَ أَوْعَبَتْ فِى حُلَفَائِهَا، فَاسْتَنْصَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى ذَلِكَ بُيُوعٌ عِظَامٌ. وَكَانَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلاطٍ السّلَمِىّ ثُمّ الْبَهْزِىّ قَدْ خَرَجَ يُغِيرُ فِى بَعْضِ غَارَاتِهِ فَذُكِرَ لَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ بِخَيْبَرَ فَأَسْلَمَ، وَحَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ أُمّ شَيْبَةَ بِنْتُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ أُخْتُ مَصْعَبٍ الْعَبْدِىّ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ الْحَجّاجُ مُكْثِرًا، لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، مَعَادِنُ الذّهَبِ الّتِى بِأَرْضِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ائْذَنْ لِى حَتّى أَذْهَبَ فَآخُذَ مَا لِى عِنْدَ امْرَأَتِى، فَإِنْ عَلِمَتْ بِإِسْلامِى لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَ: لا بُدّ لِى يَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ أَنْ أَقُولَ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ، قَالَ الْحَجّاجُ: فَخَرَجْت فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى الْحَرَمِ هَبَطْت فَوَجَدْتهمْ بِالثّنِيّةِ الْبَيْضَاءِ، وَإِذَا بِهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمّعُونَ الأَخْبَارَ قَدْ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ، وَعَرَفُوا أَنّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالاً وَسِلاحًا، فَهُمْ يَتَحَسّبُونَ الأَخْبَارَ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الرّهَانِ فَلَمّا رَأَوْنِى قَالُوا: الْحَجّاجُ بْنُ عِلاطٍ عِنْدَهُ وَاَللّهِ الْخَبَرُ يَا حَجّاجُ، إنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ بَلَدِ الْيَهُودِ وَرِيفِ الْحِجَازِ، فَقُلْت: بَلَغَنِى أَنّهُ قَدْ سَارَ إلَيْهَا وَعِنْدِى مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرّكُمْ، فَالْتَبَطُوا بِجَانِبَىْ رَاحِلَتِى يَقُولُونَ: يَا حَجّاجُ أَخْبِرْنَا. فَقُلْت: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ، كَانُوا قَدْ سَارُوا فِى الْعَرَبِ يَجْمَعُونَ لَهُ الْجَمُوعَ وَجَمَعُوا لَهُ عَشَرَةَ آلافٍ فَهُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يَسْمَعْ قَطّ بِمِثْلِهَا، وَأَسَرَ مُحَمّدٌ أَسْرًا، فَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلْهُ حَتّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَنَقْتُلُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ قَتَلَ مِنّا وَمِنْهُمْ وَلِهَذَا فَإِنّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَيْكُمْ يَطْلُبُونَ الأَمَانَ فِى عَشَائِرِهِمْ وَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَقَدْ صَنَعُوا بِكُمْ مَا صَنَعُوا. قَالَ: فَصَاحُوا بِمَكّةَ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمّدٌ إنّمَا يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ. وَقُلْت: أَعِينُونِى عَلَى جَمْعِ مَالِى عَلَى غُرَمَائِى فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقَدِمَ فَأُصِيبُ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَنِى التّجّارُ إلَى مَا هُنَاكَ. فَقَامُوا فَجَمَعُوا إلَىّ مَالِى كَأَحَثّ جَمْعٍ سَمِعْت بِهِ وَجِئْت صَاحِبَتِى، وَكَانَ لِى عِنْدَهَا مَالٌ، فَقُلْت لَهَا: مَالِى، لَعَلّى أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ فَأُصِيبَ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِى التّجّارُ إلَى مَنْ انْكَسَرَ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمِعَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ فَقَامَ فَانْخَذَلَ ظَهْرُهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامُ فَأَشْفَقَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَهُ فَيُؤْذَى، وَعَلِمَ أَنْ سَيُؤْذَى عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِبَابِ دَارِهِ يُفْتَحُ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ فَدَعَا بِابْنِهِ قُثَمَ وَكَانَ يُشْبِهُ بِالنّبِىّ ÷ فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ أَلاّ يَشْمَتَ بِهِ الأَعْدَاءُ. وَحَضَرَ بَابَ الْعَبّاسِ بَيْنَ مُغِيظٍ مَحْزُونٍ وَبَيْنَ شَامِتٍ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ مَقْهُورِينَ بِظُهُورِ الْكُفْرِ وَالْبَغْىِ فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْعَبّاسَ طَيّبَةً نَفْسُهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ وَاشْتَدّتْ مُنّتُهُمْ وَدَعَا غُلامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُبَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى الْحَجّاجِ فَقُلْ يَقُولُ الْعَبّاسُ: اللّهُ أَعَلَى وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الّذِى تُخْبِرُ حَقّا. فَجَاءَهُ، فَقَالَ الْحَجّاجُ: قُلْ لأَبِى الْفَضْلِ: أَحِلْنِى فِى بَعْضِ بُيُوتِك حَتّى آتِيَك ظُهْرًا بِبَعْضِ مَا تُحِبّ، فَاكْتُمْ عَنّى. فَأَقْبَلَ أَبُو زُبَيْنَةَ يُبَشّرُ الْعَبّاسَ، أَبْشِرْ بِاَلّذِى يَسُرّك، فَكَأَنّهُ لَمْ يَمَسّهُ شَيْءٌ وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زُبَيْنَةَ فَاعْتَنَقَهُ الْعَبّاسُ وَأَعْتَقَهُ وَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِى قَالَ: فَقَالَ الْعَبّاسُ: لِلّهِ عَلَىّ عِتْقُ عَشْرِ رِقَابٍ فَلَمّا كَانَ ظُهْرًا جَاءَهُ الْحَجّاجُ فَنَاشَدَهُ اللّهَ لَتَكْتُمَنّ عَلَىّ ثَلاثَةَ أَيّامٍ. فَوَاثَقَهُ الْعَبّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: فَإِنّى قَدْ أَسْلَمْت وَلِى مَالٌ عِنْدَ امْرَأَتِى وَدَيْنٌ عَلَى النّاسِ وَلَوْ عَلِمُوا بِإِسْلامِى لَمْ يَدْفَعُوا إلَىّ تَرَكْت رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللّهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا وَانْتُثِلَ مَا فِيهَا، وَتَرَكْته عَرُوسًا بِابْنَةِ حُيَىّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقُتِلَ ابْنُ أَبِى الْحُقَيْقِ، قَالَ: فَلَمّا أَمْسَى الْحَجّاجُ مِنْ يَوْمِهِ خَرَجَ وَطَالَ عَلَى الْعَبّاسِ تِلْكَ اللّيَالِى، وَيُقَالُ: إنّمَا اسْتَنْظَرَ الْعَبّاسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَجَعَلَ الْعَبّاسُ يَقُولُ: يَا حَجّاجُ اُنْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنّى عَارِفٌ بِخَيْبَرَ؛ هِىَ رِيفُ الْحِجَازِ أَجَمَعَ وَأَهْلُ الْمَنَعَةِ وَالْعِدّةِ فِى الرّجَالِ. أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إى وَاَللّهِ فَاكْتُمْ عَنّى يَوْمًا وَلَيْلَةً، حَتّى إذَا مَضَى الأَجَلُ وَالنّاسُ يَمُوجُونَ فِى شَأْنِ مَا تَبَايَعُوا عَلَيْهِ عَمِدَ الْعَبّاسُ إلَى حِلّةٍ فَلَبِسَهَا، وَتَخَلّقَ الْخَلُوقَ وَأَخَذَ فِى يَدِهِ قَضِيبًا، ثُمّ أَقْبَلَ يَخْطِرُ، حَتّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحَجّاجِ بْنِ عِلاطٍ فَقَرَعَهُ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: لا تَدْخُلْ أَبَا الْفَضْلِ، قَالَ: فَأَيْنَ الْحَجّاجُ؟ قَالَتْ: انْطَلَقَ إلَى غَنَائِمِ مُحَمّدٍ لِيَشْتَرِىَ مِنْهَا الّتِى أَصَابَتْ الْيَهُودُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَهُ التّجّارُ إلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا الْعَبّاسُ: فَإِنّ الرّجُلَ لَيْسَ لَك بِزَوْجٍ إلاّ أَنْ تَتّبِعِى دِينَهُ إنّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَحَضَرَ الْفَتْحَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَإِنّمَا ذَهَبَ بِمَالِهِ هَارِبًا مِنْك، وَمِنْ أَهْلِك أَنْ يَأْخُذُوهُ. قَالَتْ: أَحَقّا يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: إى وَاَللّهِ، قَالَتْ: وَالثّواقِب إنّك لَصَادِقٌ، ثُمّ قَامَتْ تُخْبِرُ أَهْلَهَا، وَانْصَرَفَ الْعَبّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ يَتَحَدّثُونَ بِمَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجّاجِ فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ وَإِلَى حَالِهِ تَغَامَزُوا وَعَجِبُوا مِنْ تَجَلّدِهِ ثُمّ دَخَلَ فِى الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاَللّهِ التّجَلّدُ لِحُرّ الْمُصِيبَةِ أَيْنَ كُنْت مُنْذُ ثَلاثٍ لا تَطْلُعُ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: كَلاّ وَاَلّذِى حَلَفْتُمْ بِهِ لَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَتَرَكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ حُيَىّ بْنِ أَخْطَبَ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ بَنِى أَبِى الْحُقَيْقِ الْبِيضِ الْجِعَادِ الّذِينَ رَأَيْتُمُوهُمْ سَادَةَ النّضِيرِ مِنْ يَثْرِبَ، وَهَرَبَ الْحَجّاجُ بِمَالِهِ الّذِى عِنْدَ امْرَأَتِهِ. قَالُوا: مَنْ خَبّرَك بِهَذَا؟ قَالَ: الْعَبّاسُ الصّادِقُ فِى نَفْسِى، الثّقَةُ فِى صَدْرِى، فَابْعَثُوا إلَى أَهْلِهِ فَبَعَثُوا فَوَجَدُوا الْحَجّاجَ قَدْ انْطَلَقَ بِمَالِهِ وَاسْتَكْتَمَ أَهْلَهُ حَتّى يُصْبِحَ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ فَوَجَدُوهُ حَقّا، فَكَبّتْ الْمُشْرِكُونَ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ تَلْبَثْ قُرَيْشٌ خَمْسَةَ أَيّامٍ حَتّى جَاءَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِك.

  • * *








بَابُ شَأْنِ فَدَكَ قَالُوا: لَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى خَيْبَرَ فَدَنَا مِنْهَا، بَعَثَ مُحَيّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ إلَى فَدَكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلامِ وَيُخَوّفُهُمْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ كَمَا غَزَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَيَحِلّ بِسَاحَتِهِمْ. قَالَ مُحَيّصَةُ: جِئْتهمْ فَأَقَمْت عِنْدَهُمْ يَوْمَيْنِ وَجَعَلُوا يَتَرَبّصُونَ، وَيَقُولُونَ: بِالنّطَاةِ عَامِرٌ وَيَاسِرٌ وَأُسَيْرٌ وَالْحَارِثُ وَسَيّدُ الْيَهُودِ مَرْحَبٌ، مَا نَرَى مُحَمّدًا يَقْرَبُ حَرَاهُمْ إنّ بِهَا عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ. قَالَ مُحَيّصَةُ: فَلَمّا رَأَيْت خُبْثَهُمْ أَرَدْت أَرْحَلُ رَاجِعًا، فَقَالُوا: نَحْنُ نُرْسِلُ مَعَك رِجَالاً يَأْخُذُونَ لَنَا الصّلْحَ - وَيَظُنّونَ أَنّ الْيَهُودَ تَمْتَنِعُ. فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتّى جَاءَهُمْ قَتْلُ أَهْلِ حِصْنِ نَاعِمٍ وَأَهْلِ النّجْدَةِ مِنْهُمْ فَفَتّ ذَلِكَ أَعْضَادَهُمْ وَقَالُوا لِمُحَيّصَةَ: اُكْتُمْ عَنّا مَا قُلْنَا لَك وَلَك هَذَا الْحُلِىّ لِحُلِىّ نِسَائِهِمْ جَمَعُوهُ كَثِيرًا، فَقَالَ مُحَيّصَةُ: بَلْ أُخْبِرُ رَسُولَ اللّهِ ÷ بِاَلّذِى سَمِعْت مِنْكُمْ، فَأَخْبَرَ النّبِىّ ÷ بِمَا قَالُوا: قَالَ مُحَيّصَةُ: وَقَدِمَ مَعِى رَجُلٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: نُونُ بْنُ يُوشَعَ فِى نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، صَالَحُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُجَلّيَهُمْ وَيُخَلّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَمْوَالِ. فَفَعَلَ وَيُقَالُ: عَرَضُوا عَلَى النّبِىّ ÷ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بِلادِهِمْ وَلا يَكُونُ لِلنّبِىّ ÷ عَلَيْهِمْ مِنْ الأَمْوَالِ شَيْءٌ وَإِذَا كَانَ جُذَاذُهَا جَاءُوا فَجَذّوهَا، فَأَبَى النّبِىّ ÷ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ مُحَيّصَةُ: مَا لَكُمْ مَنَعَةٌ وَلا رِجَالٌ وَلا حُصُونٌ لَوْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ لَسَاقُوكُمْ إلَيْهِ، فَوَقَعَ الصّلْحُ بَيْنَهُمْ أَنّ لَهُمْ نِصْفَ الأَرْضِ بِتُرْبَتِهَا لَهُمْ وَلِرَسُولِ اللّهِ ÷ نِصْفُهَا، فَقَبِلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذَلِكَ، وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ. فَأَقَرّهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ فَلَمّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ، بَعَثَ عُمَرُ إلَيْهِمْ مَنْ يُقَوّمُ أَرْضَهُمْ، فَبَعَثَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ، وَفَرْوَةَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ صَخْرٍ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَوّمُوهَا لَهُمْ النّخْلَ وَالأَرْضَ فَأَخَذَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ نِصْفَ قِيمَةِ النّخْلِ بِتُرْبَتِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ يَزِيدُ - كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ جَاءَهُ مِنْ الْعِرَاقِ - وَأَجَلاهُمْ عُمَرُ إلَى الشّامِ. وَيُقَالُ: بَعَثَ أَبَا خيثمة الْحَارِثِىّ فَقَوّمَهَا. انْصِرَافُ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ خَيْبَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ أَنَسٌ: انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ خَيْبَرَ وَهُوَ يُرِيدُ وَادِىَ الْقُرَى، وَمَعَهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ مِلْحَانَ، وَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ ÷ صَفِيّةَ حَتّى مَرّ بِهَا، فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ ثُمّ عَرَضَ عَلَيْهَا الإِسْلامَ، فَقَالَ: إنْ تَكُونِى عَلَى دِينِك لَمْ نُكْرِهْك، فَإِنْ اخْتَرْت اللّهَ وَرَسُولَهُ اتّخَذْتُك لِنَفْسِى، قَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا مَهْرَهَا، فَلَمّا كَانَ بِالصّهْبَاءِ، قَالَ لأُمّ سُلَيْمٍ: اُنْظُرِى صَاحِبَتَك هَذِهِ فَامْشُطِيهَا وَأَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ فَقَامَتْ أُمّ سُلَيْمٍ - قَالَ أَنَسٌ: وَلَيْسَ مَعَنَا فَسَاطِيطُ وَلا سُرَادِقَاتُ - فَأَخَذْت كِسَائَيْنِ وَعَبَاءَتَيْنِ فَسَتَرَتْ بِهِمَا عَلَيْهَا إلَى شَجَرَةٍ فَمَشَطَتْهَا وَعَطّرَتْهَا، وَأَعْرَسَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ هُنَاكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَمّا خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ، وَقَرّبَ بَعِيرَهَا وَقَدْ سَتَرَهَا النّبِىّ ÷ بِثَوْبِهِ أَدْنَى فَخِذَهُ لِتَضَعَ رِجْلَهَا عَلَيْهِ فَأَبَتْ وَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى فَخِذِهِ فَلَمّا بَلَغَ ثِبَارًا أَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ فَأَبَتْ عَلَيْهِ حَتّى وَجَدَ فِى نَفْسِهِ حَتّى بَلَغَ الصّهْبَاءَ فَمَالَ إلَى دَوْمَةٍ هُنَاكَ فَطَاوَعَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت حَيْنَ أَرَدْت أَنْ أَنْزِلَ بِثِبَارٍ” - وَثِبَارٌ عَلَى سِتّةِ أَمْيَالٍ وَالصّهْبَاءُ عَلَى اثْنَىْ عَشَرَ مِيلاً - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ خِفْت عَلَيْك قُرْبَ الْيَهُودِ، فَلَمّا بَعُدْت أَمِنْت، فَزَادَهَا عِنْدَ النّبِىّ ÷ خَيْرًا، وَعَلِمَ أَنّهَا قَدْ صَدّقَتْهُ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مُسَاءَ تِلْكَ اللّيْلَةِ وَأَوْلَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا بِالْحَيْسِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ وَكَانَ قِصَاعُهُمْ الأَنْطَاعَ قَدْ بَسَطَتْ فَرُئِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْكُلُ مَعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الأَنْطَاعِ. قَالُوا: وَبَاتَ أَبُو أَيّوبَ الأَنْصَارِىّ قَرِيبًا مِنْ قُبّتِهِ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ حَتّى أَصْبَحَ فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بُكْرَةً فَكَبّرَ أَبُو أَيّوبَ فَقَالَ: “مَا لَك يَا أَبَا أَيّوبَ”؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دَخَلْت بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ وَكُنْت قَدْ قَتَلْت أَبَاهَا وَإِخْوَتَهَا وَعُمُومَتَهَا وَزَوْجَهَا وَعَامّةَ عَشِيرَتِهَا، فَخِفْت أَنْ تَغْتَالَك. فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَقَالَ لَهُ مَعْرُوفًا، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ أَنَزَلَ صَفِيّةَ فِى مَنْزِلِ الْحَارِثَةِ ابْنِ النّعْمَانِ وَانْتَقَلَ حَارِثَةُ عَنْهَا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ يَدًا وَاحِدَةً فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ إلَى أُمّ سَلَمَةَ تُسَلّمُ عَلَيْهَا - وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِىّ ÷ مَعَ النّبِىّ ÷ فِى غَزْوَةِ خَيْبَرَ - وَتَسْأَلُهَا عَنْ صَفِيّةَ أَظَرِيفَةٌ هِىَ؟ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَنْ أَرْسَلَك، عَائِشَةُ؟ فَسَكَتَتْ فَعَرَفَتْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا أَرْسَلَتْهَا، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: لَعَمْرِى إنّهَا لَظَرِيفَةٌ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَهَا لَمُحِبّ، فَجَاءَتْ بَرِيرَةُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ خَبَرَهَا، فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ مُتَنَكّرَةً حَتّى دَخَلَتْ عَلَى صَفِيّةَ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ، فَنَظَرَتْ إلَيْهَا وَهِىَ مُنْتَقِبَةٌ فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَمّا خَرَجَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ كَيْفَ رَأَيْت صَفِيّةَ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْت طَائِلاً، رَأَيْت يَهُودِيّةً بَيْنَ يَهُودِيّاتٍ - تَعْنِى عَمّاتِهَا وَخَالاتِهَا - وَلَكِنّى قَدْ أُخْبِرْت أَنّك تُحِبّهَا، فَهَذَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ لَوْ كَانَتْ ظَرِيفَةً. قَالَ: يَا عَائِشَةُ لا تَقُولِى هَذَا فَإِنّى عَرَضْت عَلَيْهَا الإِسْلامَ فَأَسْرَعَتْ وَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلامُهَا. قَالَ: فَرَجَعَتْ عَائِشَةُ فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةَ بِظُرْفِهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا حَفْصَةُ فَنَظَرَتْ إلَيْهَا ثُمّ رَجَعَتْ إلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إنّهَا لَظَرِيفَةٌ وَمَا هِىَ كَمَا قُلْت. فَلَمّا أَتَى رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّهْبَاءَ سَلَكَ عَلَى بُرْمَةَ حَتّى انْتَهَى إلَى وَادِى الْقُرَى يُرِيدُ مَنْ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ. وَكَانَ أَبُو هَرِيرَةَ يُحَدّثُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ خَيْبَرَ إلَى وَادِى الْقُرَى، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجَذَامِىّ قَدْ وَهَبَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، وَكَانَ يُرَحّلُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷. فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِى الْقُرَى انْتَهَيْنَا إلَى الْيَهُودِ وَقَدْ ضَوَى إلَيْهَا أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطّ رَحْلَ النّبِىّ ÷ وَقَدْ اسْتَقْبَلَتْنَا الْيَهُودُ بِالرّمْىِ حَيْثُ نَزَلْنَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَهُمْ يَصِيحُونَ فِى آطَامِهِمْ فَيَقْبَلُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَ مِدْعَمًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ النّاسُ: هَنِيئًا لَك الْجَنّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَلاّ وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنّ الشّمْلَةَ الّتِى أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمُقْسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا”، فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ النّاسُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِىّ ÷ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ”. وَعَبّى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفّهُمْ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَرَايَةً إلَى الْحُباَبِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَرَايَةً إلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ، ثُمّ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الإِسْلامِ وَأَخْبَرَهُمْ إنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ عَلَى اللّهِ. فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ فَقَتَلَهُ ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامِ فَقَتَلَهُ ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ حَتّى قَتَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، كُلّمَا قَتَلَ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِىَ إلَى الإِسْلامِ، وَلَقَدْ كَانَتْ الصّلاةُ تَحْضُرُ يَوْمئِذٍ فَيُصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِأَصْحَابِهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتّى أَمْسَوْا وَغَدَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ حَتّى أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ وَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَغَنّمَهُ اللّهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا. وَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِوَادِى الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيّامٍ وَقَسَمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِوَادِى الْقُرَى، وَتَرَكَ النّخْلَ وَالأَرْضَ بِأَيْدِى الْيَهُودِ وَعَامَلَهُمْ عَلَيْهَا. فَلَمّا بَلَغَ يَهُودُ تَيْمَاءَ مَا وَطِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِى الْقُرَى، صَالَحُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَقَامُوا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالِهِمْ. فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَخَرَجَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَلَمْ يَخْرُجْ أَهْلُ تَيْمَاءَوَوَادِى الْقُرَى، لأَنّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِى أَرْضِ الشّامِ، وَيَرَى أَنّ مَا دُونَ وَادِى الْقُرَى إلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ وَأَنّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الشّامِ. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ وَادِى الْقُرَى رَاجِعًا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ وَمِنْ وَادِى الْقُرَى وَغَنّمَهُ اللّهُ فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ سَرّى رَسُولُ اللّهِ ÷ لَيْلَتَهُ حَتّى إذَا كَانَ قُبَيْلَ الصّبْحِ بِقَلِيلٍ نَزَلَ وَعَرّسَ. وَقَالَ: “أَلا رَجُلٌ صَالِحٌ حَافِظٌ لَعَيْنِهِ يَحْفَظُ لَنَا صَلاةَ الصّبْحِ”؟ فَقَالَ: بِلالٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأْسَهُ وَوَضَعَ النّاسُ رُءُوسَهُمْ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِبَلالٍ: يَا بِلالُ احْفَظْ عَيْنَك، قَالَ: فَاحْتَبَيْت بِعَبَاءَتِى وَاسْتَقْبَلْت الْفَجْرَ، فَمَا أَدْرِى مَتَى وَضَعْت جَنْبِى إلاّ أَنّى لَمْ أَسْتَيْقِظْ إلاّ بِاسْتِرْجَاعِ النّاسِ، وَحَرّ الشّمْسِ وَأَخَذَتْنِى الأَلْسِنَةُ بِاللّوْمِ، وَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَىّ أَبُو بَكْرٍ وَفَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَكَانَ أَهْوَنَ لائِمَةً مِنْ النّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلِيَقْضِهَا”. فَتَفَرّقَ النّاسُ فِى أُصُولِ الشّجَرِ وَقَالَ ÷: “أَذّنْ يَا بِلالُ بِالأَذَانِ الأَوّل”. قَالَ بِلالٌ: وَكَذَلِكَ كُنْت أَفْعَلُ فِى أَسْفَارِهِ فَأَذِنْت فَلَمّا اجْتَمَعَ النّاسُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ارْكَعُوا رَكْعَتَىْ الْفَجْرِ”. فَرَكَعُوا، ثُمّ قَالَ: “أَقِمْ يَا بِلالُ”، فَأَقَمْت فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَصَلّى بِالنّاسِ. قَالَ بِلالٌ: فَمَا زَالَ يُصَلّى بِنَا حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَسْلُتُ الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ مِنْ حَرّ الشّمْسِ، ثُمّ سَلّمَ، فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: كَانَتْ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللّهِ وَلَوْ شَاءَ قَبَضَهَا وَكَانَ أَوْلَى بِهَا، فَلَمّا رَدّهَا إلَيْنَا صَلّيْنَا، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى بِلالٍ فَقَالَ: “مَهْ يَا بِلالٌ”، فَقَالَ: بِأَبِى وَأُمّى، قَبَضَ نَفْسِى الّذِى قَبَضَ نَفْسَك، فَجَعَلَ النّبِىّ ÷ يَتَبَسّمُ. وَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ اللّهُمّ إنّى أُحَرّمُ مَا بَيْنَ لابَتَىْ الْمَدِينَةِ”، قَالَ: وَانْتَهَى إلَى الْجَرْفِ لَيْلاً، فَنَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَطْرُقَ الرّجُلُ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ: وَهُوَ بِالْجَرْفِ لا تَطْرُقُوا النّسَاءَ بَعْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ. قَالَتْ: فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ الْحَىّ فَطَرَقَ أَهْلَهُ فَوَجَدَ مَا يَكْرَهُ فَخَلّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يَهْجُهُ وَضَنّ بِزَوْجَتِهِ أَنْ يُفَارِقَهَا وَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلادٌ وَكَانَ يُحِبّهَا، فَعَصَى رَسُولَ اللّهِ ÷ وَرَأَى مَا يَكْرَه. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُوحٍ الْحَارِثِىّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ حِزَامِ بْنِ مُحَيّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنّا بِالْمَدِينَةِ وَالْمَجَاعَةُ تُصِيبُنَا، فَنَخْرُجُ إلَى خَيْبَرَ فَنُقِيمُ بِهَا مَا أَقَمْنَا ثُمّ نَرْجِعُ وَرُبّمَا خَرَجْنَا إلَى فَدَكَ وَتَيْمَاءَ، وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَوْمًا لَهُمْ ثِمَارٌ لا يُصِيبُهَا قَطْعُهُ أَمّا تَيْمَاءُ فَعَيْنٌ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ جَبَلٍ لَمْ يُصِبْهَا قَطْعُهُ مُنْذُ كَانَتْ وَأَمّا خَيْبَرُ فَمَاءٌ وَاتِنٌ فَهِىَ مَغْفِرَةٌ فِى الْمَاءِ وَأَمّا فَدَكُ فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَبْلَ الإِسْلامِ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ وَفَتَحَ خَيْبَرَ قُلْت لأَصْحَابِى: هَلْ لَكُمْ فِى خَيْبَرَ فَإِنّا قَدْ جَهَدْنَا وَقَدْ أَصَابَنَا مَجَاعَةٌ؟ فَقَالَ أَصْحَابِى: إنّ الْبِلادَ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ نَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ وَإِنّمَا نَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ عَدَاوَةٍ وَغِشّ لِلإِسْلامِ وَأَهْلِهِ وَكُنّا قَبْلَ ذَلِكَ لا نَعْبُدُ شَيْئًا. قَالُوا: قَدْ جَهَدْنَا، فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَقَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ الأَرْضُ وَالنّخْلُ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ قَدْ دَفَعَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ عَلَى النّصْفِ فَأَمّا سَرَاةُ الْيَهُودِ وَأَهْلُ السّعَةِ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلُوا - بَنُو أَبِى الْحُقَيْقِ وَسَلاّمَ بْنَ مِشْكَمٍ، وَابْنَ الأَشْرَفِ - وَإِنّمَا بَقِىَ قَوْمٌ لا أَمْوَالَ لَهُمْ وَإِنّمَا هُمْ عُمّالُ أَيْدِيهِمْ. وَكُنّا نَكُونُ فِى الشّقّ يَوْمًا وَفِى النّطَاةِ يَوْمًا وَفِى الْكَتِيبَةِ يَوْمًا، فَرَأَيْنَا الْكَتِيبَةَ خَيْرًا لَنَا فَأَقَمْنَا بِهَا أَيّامًا، ثُمّ إنّ صَاحِبِى ذَهَبَ إلَى الشّقّ فَبَاتَ عَنّى وَقَدْ كُنْت أُحَذّرُهُ الْيَهُودَ، فَغَدَوْت فِى أَثَرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتّى انْتَهَيْت إلَى الشّقّ فَقَالَ لِى أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ مَرّ بِنَا حَيْنَ غَابَتْ الشّمْسُ يُرِيدُ النّطَاةَ. قَالَ: فَعَمَدْت إلَى النّطَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ لِى غُلامٌ مِنْهُمْ: تَعَالَ أَدُلّك عَلَى صَاحِبِك فَانْتَهَى بِى إلَى مُنْهَر فأقامنى عليه، فإذا الذباب يطلع من الْمَنْهَرِ. قَالَ: فَتَدَلّيْت فِى الْمَنْهَرِ فَإِذَا صَاحِبِى قَتِيلٌ، فَقُلْت لأَهْلِ الشّقّ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: لا وَاَللّهِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ قَالَ: فَاسْتَعَنْت عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ حَتّى أَخْرَجْته وَكَفّنْته وَدَفَنْته، ثُمّ خَرَجْت سَرِيعًا حَتّى قَدِمْت عَلَى قَوْمِى بِالْمَدِينَةِ فَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ. وَنَجِدُ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُرِيدُ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، فَخَرَجَ مَعِى مِنْ قَوْمِى ثَلاثُونَ رَجُلاً، أَكْبَرُنَا أَخِى حُوَيّصَةُ فَخَرَجَ مَعَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ - وَالْمَقْتُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ - وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَحْدَثَ مِنّى، فَهُوَ مُسْتَعْبَرٌ عَلَى أَخِيهِ رَقِيقٌ عَلَيْهِ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَقَدْ بَلَغَ النّبِىّ ÷ الْخَبَرُ، فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَخِى قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَبّرْ كَبّرْ” فَتَكَلّمْت، فَقَالَ: “كَبّرْ كَبّرْ” فَسَكَتّ. وَتَكَلّمَ أَخِى حُوَيّصَةُ فَتَكَلّمَ بِكَلِمَاتٍ وَذَكَرَ أَنّ الْيَهُودَ تُهْمَتُنَا وَظِنّتُنَا، ثُمّ سَكَتَ فَتَكَلّمْت وَأَخْبَرْت رَسُولَ اللّهِ ÷ الْخَبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إمّا أَنّ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ” وَكَتَبَ النّبِىّ ÷ إلَيْهِمْ فِى ذَلِكَ فَكَتَبُوا إلَيْهِ: مَا قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِحُوَيّصَةَ وَمُحَيّصَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ وَلِمَنْ مَعَهُمْ: “تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ”؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ لَمْ نَحْضُرْ وَلَمْ نَشْهَدْ. قَالَ: “فَتَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ”؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ جَذَعَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ حِقّةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ: رَأَيْتهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ فَرَكَضَتْنِى مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلامٌ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: كَانَتْ الْقَسَامَةُ فِى الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ أَقَرّهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الإِسْلامِ وَقَضَى بِهَا فِى الأَنْصَارِىّ الّذِى وُجِدَ بِخَيْبَرَ قَتِيلاً فِى جُبّ مِنْ جِبَابِ الْيَهُودِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلأَنْصَارِ: تَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ؛ خَمْسِينَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللّهِ مَا قَتَلْنَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ تَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كَفّارٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللّهِ أَنّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَكُمْ وَتَسْتَحِقّوا الدّمَ”؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ لَمْ نَحْضُرْ وَلَمْ نَشْهَدْ. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دِيَتَهُ عَلَى الْيَهُودِ، لأَنّهُ قُتِلَ بِحَضْرَتِهِمْ. حَدّثَنِى مَخْرَمَة بْنُ بُكَيْر، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِدِيَتِهِ عَلَى الْيَهُودِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطُوا فَلِيَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَعَانَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِبِضْعَةٍ وَثَلاثِينَ بَعِيرًا - فَهِىَ أَوّلُ مَا كَانَتْ الْقَسَامَة، وَكَانَ النّاسُ يَطْلُعُونَ إلَى أَمْوَالِهِمْ بِخَيْبَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْت أَنَا وَالزّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ نُفَيْلٍ إلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرَ فَطَلَعْنَا نَتَعَاهَدُهَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَبْعَثُ مَنْ يَطْلُعُهَا وَيَنْظُرُ إلَيْهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ تَفَرّقْنَا فِى أَمْوَالِنَا. فَعُدِىَ عَلَيْنَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِى فَصُرِعَتْ يَدَاىَ فَسَأَلُونِى: مِنْ صَنِعِ هَذَا بِك؟ فَقُلْت: لا أَدْرِى، فَأَصْلَحُوا أَمْرَ يَدَىْ وَقَالَ غَيْرُ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَحَرُوهُ بِاللّيْلِ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَكُوّعَ حَتّى أَصْبَحَ كَأَنّهُ كَانَ فِى وِثَاقٍ وَجَاءَ أَصْحَابُهُ فَأَصْلَحُوا مِنْ يَدَيْهِ فَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَ أَبَاهُ بِمَا صُنِعَ بِهِ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلَ مُظَهّرُ بْنُ رَافِعٍ الْحَارِثِىّ بِأَعْلاجٍ مِنْ الشّامِ يَعْمَلُونَ لَهُ بِأَرْضِهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ فَأَقْبَلَ حَتّى نَزَلَ بِهِمْ خَيْبَرَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيّامٍ فَيَدْخُلُ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ نَصَارَى وَنَحْنُ يَهُودُ، وَهَؤُلاءِ قَوْمٌ عَرَبٌ قَدْ قَهَرُونَا بِالسّيْفِ، وَأَنْتُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَسُوقُكُمْ مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَيْرِ إلَى الْجَهْدِ وَالْبُؤْسِ وَتَكُونُونَ فِى رِقّ شَدِيدٍ فَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ قَرْيَتِنَا فَاقْتُلُوهُ. قَالُوا: لَيْسَ مَعَنَا سِلاحٌ. فَدَسّوا إلَيْهِمْ سِكّينَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، قَالَ: فَخَرَجُوا فَلَمّا كَانُوا بِثِبَارَ، قَالَ لأَحَدِهِمْ: وَكَانَ الّذِى يَخْدُمُهُ مِنْهُمْ نَاوِلْنِى كَذَا وَكَذَا. فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ جَمِيعًا قَدْ شَهَرُوا سَكَاكِينَهُمْ فَخَرَجَ مُظَهّرٌ يَعْدُو إلَى سَيْفِهِ وَكَانَ فِى قِرَابِ رَاحِلَتِهِ فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْقِرَابِ لَمْ يَفْتَحْهُ حَتّى بَعَجُوا بَطْنَهُ ثُمّ انْصَرَفُوا سِرَاعًا حَتّى قَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى الْيَهُودِ فَآوَوْهُمْ وَزَوّدُوهُمْ وَأَعْطَوْهُمْ قُوّةً فَلَحِقُوا بِالشّامِ. وَجَاءَ عُمَرُ الْخَبَرَ بِمَقْتَلِ مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ وَمَا صَنَعَتْ الْيَهُودُ، فَقَامَ عُمَرُ خَطِيبًا بِالنّاسِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ إنّ الْيَهُودَ فَعَلُوا بِعَبْدِ اللّهِ مَا فَعَلُوا، وَفَعَلُوا بِمُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ مَعَ عَدْوَتِهِمْ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَهْلٍ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ لا أَشُكّ أَنّهُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ لَنَا عَدُوّ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ فَمَنْ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ فَلْيَخْرُجْ فَأَنَا خَارِجٌ فَقَاسَمَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ الأَمْوَالِ وَحَادّ حُدُودَهَا، وَمُوَرّفٌ أُرَفَهَا وَمُجْلِى الْيَهُودِ مِنْهَا، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ لَهُمْ: “أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللّهُ”، وَقَدْ أَذِنَ اللّهُ فِى جَلائِهِمْ إلاّ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِعَهْدٍ أَوْ بَيّنَةٍ مِنْ النّبِىّ ÷ أَنّهُ أَقَرّهُ فَأَقَرّهُ. فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ، فَقَالَ: قَدْ وَاَللّهِ أَصَبْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَوُفّقْت إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: “أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللّهُ”، وَقَدْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ سَهْلٍ فِى زَمَنِ النّبِىّ ÷ وَمَا حَرّضُوا عَلَى مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ حَتّى قَتَلَهُ أَعْبُدُهُ وَمَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَهُمْ أَهْلُ تُهْمَتِنَا وَظِنّتِنَا. فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: مَنْ مَعَك عَلَى مِثْلِ رَأْيِك؟ قَالَ: الْمُهَاجِرُونَ جَمِيعًا وَالأَنْصَارُ. فَسُرّ بِذَلِكَ عُمَرُ. حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ فِى مَرَضِهِ الّذِى تُوُفّىَ فِيهِ: “لا يَجْتَمِعُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَان”، فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَتّى وَجَدَ عَلَيْهِ الثّبْتَ مَنْ لا يَتّهِمُ فَأَرْسَلَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ النّبِىّ ÷ فَإِنّى مُجَلّيهِ فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَذِنَ فِى جَلائِهِمْ، فَأَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ الْحِجَازِ. قَالُوا: فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَرْبَعَةِ قُسّامٍ: فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبِيَاضِىّ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَحُبَابُ ابْنُ صَخْرٍ السّلَمِىّ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، عَلَى الرّءُوسِ الّتِى سَمّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَإِنّهُ سَمّى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا وَسَمّى رُؤَسَاءَهَا. وَيُقَالُ: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ سَمّى الرّؤَسَاءَ ثُمّ جَزّءُوا الشّقّ وَالنّطَاةَ، فَجَزّءُوهَا عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، جَعَلُوا ثَمَانِيّةَ عَشْرَ بَعْرَةً فَأَلْقَيْنَ فِى الْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلِكُلّ رَأْسٍ عَلامَةٌ فِى بَعْرَتِهِ فَإِذَا خَرَجَتْ أَوّلُ بَعْرَةٍ قِيلَ: سَهْمُ فُلانٍ وَسَهْمُ فُلانٍ. وَكَانَ فِى الشّقّ ثَلاثَةَ عَشْرَ سَهْمًا، وَفِى النّطَاةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ. حَدّثَنِى بِذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ مِنْ آلِ مَخْرَمَة، عَنْ أَبِيهِ. فَكَانَ أَوّلَ سَهْمٍ خَرَجَ فِى النّطَاةِ سَهْمُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ؛ ثُمّ سَهْمُ بَيَاضَةَ يُقَالُ إنّ رَأْسَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثُمّ سَهْمُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ثُمّ سَهْمُ بِلْحَارِث ابْنِ الْخَزْرَجِ، يُقَالُ: رَأْسُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ؛ ثُمّ سَهْمُ نَاعِمٍ يَهُودِىّ. ثُمّ ضَرَبُوا فِى الشّقّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: يَا عَاصِمُ بْنَ عَدِىّ، إنّك رَجُلٌ مَحْدُودٌ فَسَهْمُ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَعَ سَهْمِك، فَخَرَجَ سَهْمُ عَاصِمٍ أَوّلَ سَهْمٍ فِى الشّقّ، وَيُقَالُ إنّهُ: سَهْمُ النّبِىّ ÷ كَانَ فِى بَنِى بَيَاضَةَ وَالثّبْتُ أَنّهُ كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ. ثُمّ خَرَجَ سَهْمُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ عَلَى أَثَرِ سَهْمِ عَاصِمٍ، ثُمّ سَهْمُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ ثُمّ سَهْمُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ، ثُمّ سَهْمُ بَنِى سَاعِدَةَ، يُقَالُ: رَأْسُهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؛ ثُمّ سَهْمُ بَنِى النّجّارِ، ثُمّ سَهْمُ بَنِى حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمّ سَهْمُ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، يُقَالُ: رَأْسُهُمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ ثُمّ سَهْمَا سَلِمَةَ جَمِيعًا؛ ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدِ السّهَامِ؛ ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدٍ؛ ثُمّ سَهْمُ أَوْسٍ صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَأَلْت ابْنَ أَبِى حَبِيبَةَ لِمَ سُمّىَ عُبَيْدُ السّهَامِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِى دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: كَانَ اسْمُهُ عُبَيْدًا، وَلَكِنّهُ جَعَلَ يَشْتَرِى مِنْ السّهَامِ بِخَيْبَرَ فَسُمّىَ عُبَيْدَ السّهَامِ. حَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِى هَاشِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ قَالَ: أَوّلُ مَا ضُرِبَ فِى الشّقّ خَرَجَ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ فِيهِ سَهْمُ النّبِىّ ÷. وَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: كُنْت أُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ سَهْمِى مَعَ سَهْمِ النّبِىّ ÷ فَلَمّا أَخْطَأَنِى قُلْت: اللّهُمّ اجْعَلْ سَهْمِى فِى مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ لا يَكُونُ لأَحَدٍ عَلَىّ طَرِيقٌ. فَكَانَ سَهْمُهُ مُعْتَزِلاً وَكَانَ شُرَكَاؤُهُ أَعْرَابًا، فَكَانَ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُمْ سِهَامَهُمْ يَأْخُذُ حَقّ أَحَدِهِمْ بِالْفَرَسِ وَالشّيْءِ الْيَسِيرِ حَتّى خَلَصَ لَهُ سَهْمُ أَوْسٍ كُلّهُ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا قَسَمَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ خَيْبَرَ خَيّرُوا أَزْوَاجَ النّبِىّ ÷ فِى طُعُمِهِنّ الّذِى أَطْعَمَهُنّ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْكَتِيبَةِ، إنْ أَحْبَبْنَ أَنْ يُقْطَعَ لَهُنّ مِنْ الأَرْضِ وَالْمَاءُ مَكَانُ طُعُمِهِنّ أَوْ يُمْضَى لَهُنّ الْوُسُوقُ وَتَكُونُ مَضْمُونَةً لَهُنّ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا وَحَفْصَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا مِمّنْ اخْتَارَ الأَرْضَ وَالْمَاءَ وَكَانَ سَائِرُهُنّ أَخَذْنَ الْوُسُوقَ مَضْمُونَةً. حَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ: سَمِعْت عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ يَوْمًا: رَحِمَ اللّهُ بْنَ الْخَطّابِ قَدْ خَيّرَنِى فِيمَا صَنَعَ خَيّرَنِى فِى الأَرْضِ وَالْمَاءِ وَفِى الطّعْمَةِ فَاخْتَرْت الأَرْضَ وَالْمَاءَ فَهُنّ فِى يَدَىّ وَأَهْلُ الطّعْمِ مَرّةً يَنْقُصُهُمْ مَرْوَانُ وَمَرّةً لا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا، وَمَرّةً يُعْطِيهِمْ. وَيُقَالُ: إنّمَا خَيّرَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَطْ. حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ النّاسَ كُلّهُمْ فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الطّعْمَةَ كَيْلاً، وَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَاءَ وَالتّرَابَ وَأَذِنَ لِمَنْ شَاءَ بَاعَ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ فَكَانَ مَنْ بَاعَ الأَشْعَرِيّينَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ مِائَةَ وَسْقٍ بِخَمْسَةِ آلافِ دِينَارٍ، وَبَاعَ الرّهَاوِيّونَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: هَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا وَاَلّذِى رَأَيْت عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَحَدّثَنِى أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ طُعْمَةٌ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ الطّعْمَةُ مَضْمُونَةٌ فَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اخْتَارَ الطّعْمَةُ مَضْمُونَةٌ. وَلَمّا فَرَغَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْقِسْمَةِ أَخَرَجَ يَهُودَ خَيبِرَ، وَمَضَى عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ خَيْبَرَ فِى الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إلَى وَادِى الْقُرَى. وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بِالْقُسّامِ الّذِينَ قَسَمُوا: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمُوهَا عَلَى أَعْدَادِ السّهَامِ وَأَعْلَمُوا أُرَفَهَا، وَحَدّوا حُدُودَهَا، وَجَعَلُوهَا السّهَامَ تَجْرِى. فَكَانَ مَا قَسَمَ عُمَرُ مِنْ وَادِى الْقُرَى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ خَطَرًا، وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ خَطَرٌ وَلِعُمَرَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ خَطَرٌ - الْخَطَرُ هُوَ السّهْمُ - وَلِعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ خَطَرٌ وَلِمُعَيْقِبٍ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الأَرْقَمِ خَطَرٌ وَلِبَنِى جَعْفَرٍ خَطَرٌ وَلِعَمْرِو بْنِ سُرَاقَةَ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ اللّهِ وَعُبَيْدِ اللّهِ خَطَرَانِ وَلِشُيَيْمٍ خَطَرٌ وَلابْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ خَطَرٌ وَلابْنِ أَبِى بَكْرٍ خَطَرٌ وَلِعُمَرَ خَطَرٌ وَلِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خَطَرٌ وَلأُبَىّ بْنِ كَعْبٍ خَطَرٌ وَلِمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَطَرٌ وَلأَبِى طَلْحَةَ وَجُبَيْرٍ خَطَرٌ وَلِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ خَطَرٌ وَلِجَبّارِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبَابٍ خَطَرٌ وَلِمَالِكٍ بْنِ صَعْصَعَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ خَطَرٌ وَلِسَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ أَبِى شُرَيْقٍ خَطَرٌ وَلأَبِى عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ خَطَرٌ وَلِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ خَطَرٌ وَلِعَبّادِ بْنِ طَارِقٍ خَطَرٌ وَلِجَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ نِصْفُ خَطَرٍ وَلابْنِ الْحَارِثِ بْنِ قِيسٍ نِصْفُ خَطَرٍ وَلابْنِ جَرْمَةَ وَالضّحّاكِ خَطَرٌ. حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مِكْنَفٍ الْحَارِثِىّ قَالَ: إنّمَا خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْقُسّامِ بِرَجُلَيْنِ جَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، هُمَا قَاسِمَا الْمَدِينَةِ وَحَاسَبَاهَا، فَقَسَمَا خَيْبَرَ وَأَقَامَا نَخْلَ فَدَكَ وَأَرْضَهَا، وَدَفَعَ عُمَرُ إلَى يَهُودِ فَدَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَقَسَمَا السّهْمَانِ بِوَادِى الْقُرَى، ثُمّ أَجْلَى عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَهُودَ الْحِجَازِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ تَصَدّقَ بِاَلّذِى صَارَ لَهُ مِنْ وَادِى الْقُرَى مَعَ غَيْرِهِ.

  • * *



سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى تُرَبَةَ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْع حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عُمَرَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فِى ثَلاثِينَ رَجُلاً إلَى عَجُزِ هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ فَخَرَجَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِى هِلالٍ فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النّهَارَ وَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، وَجَاءَ عُمَرُ مُحَالّهُمْ فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى سَلَكَ النّجْدِيّةَ، فَلَمّا كَانَ بِالْجَدْرِ، قَالَ الْهِلالِىّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: هَلْ لَك فِى جَمْعٍ آخَرَ تَرَكْته مِنْ خَثْعَمَ، جَاءُوا سَائِرِينَ قَدْ أَجْدَبَتْ بِلادُهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ يَأْمُرْنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِهِمْ إنّمَا أَمَرَنِى أَصْمَدُ لِقِتَالِ هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ. فَانْصَرَفَ عُمَرُ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ.

  • * *



سَرِيّةُ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى نَجْدٍ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِى حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَأَمّرَهُ عَلَيْنَا، فَبَيّتْنَا نَاسًا مِنْ هَوَازِنَ، فَقَتَلْت بِيَدَىْ سَبْعَةً أَهْلَ أَبْيَاتٍ وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِت.

  • * *








سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى فَدَكَ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِى ثَلاثِينَ رَجُلاً إلَى بَنِى مُرّةَ بِفَدَكَ. فَخَرَجَ، فَلَقِىَ رِعَاءَ الشّاءِ، فَسَأَلَ أَيْنَ النّاسُ؟ فَقَالُوا: هُمْ فِى بِوَادِيهِمْ، وَالنّاسُ يَوْمئِذٍ شَاتُونَ لا يَحْضُرُونَ الْمَاءَ فَاسْتَاقَ النّعَمَ وَالشّاءَ وَعَادَ مُنْحَدِرًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ الصّرِيخُ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَدْرَكَهُ الدّهْمُ مِنْهُمْ عِنْدَ اللّيْلِ فَبَاتُوا يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ وَأَصْبَحُوا وَحَمَلَ الْمُرّيُونَ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا أَصْحَابَ بَشِيرٍ وَوَلّى مِنْهُمْ مَنْ وَلّى. وَقَاتَلَ بَشِيرٌ قِتَالاً شَدِيدًا حَتّى ضُرِبَ كَعْبُهُ وَقِيلَ قَدْ مَاتَ وَرَجَعُوا بِنَعَمِهِمْ وَشَاءَهُمْ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ السّرِيّةِ وَمُصَابِهَا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِىّ، وَأُمْهِلَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ فِى الْقَتْلَى، فَلَمّا أَمْسَى تَحَامَلَ حَتّى انْتَهَى إلَى فَدَكَ، فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودِىّ بِفَدَكَ أَيّامًا حَتّى ارْتَفَعَ مِنْ الْجِرَاحِ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَهَيّأَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ، فَقَالَ: سِرْ حَتّى تَنْتَهِىَ إلَى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، فَإِنْ ظَفّرَك اللّهُ بِهِمْ فَلا تَبْقَ فِيهِمْ. وَهَيّأَ مَعَهُ مِائَتَىْ رَجُلٍ وَعَقَدَ لَهُ اللّوَاءَ فَقَدِمَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ مِنْ سَرِيّةٍ قَدْ ظَفِرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ: “اجْلِسْ”، وَبَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ فِى مِائَتَىْ رَجُلٍ فَخَرَجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِى السّرِيّةِ حَتّى انْتَهَى إلَى مُصَابِ بَشِيرٍ وَأَصْحَابِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ عُلْبَةُ ابْنُ زَيْدٍ. حَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ غَالِبٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَسْعُودٍ وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ؛ فَلَمّا دَنَا غَالِبٌ مِنْهُمْ بَعَثَ الطّلائِعَ فَبَعَثَ عُلْبَةَ بْنَ زَيْدٍ فِى عَشَرَةٍ يَنْظُرُ إلَى جَمَاعَةِ مُحَالّهِمْ حَتّى أَوْفَى عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ثُمّ رَجَعَ إلَى غَالِبٍ فَأَخْبَرَهُ. فَأَقْبَلَ غَالِبٌ يَسِيرُ حَتّى إذَا كَانَ مِنْهُمْ بِمَنْظَرٍ الْعَيْنِ لَيْلاً، وَقَدْ اُجْتُلِبُوا وَعَطَنُوا وَهَدَءُوا، قَامَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ: “أَمّا بَعْدُ فَإِنّى أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ تُطِيعُونِى وَلا تَعْصُونِى وَلا تُخَالِفُوا لِى أَمْرًا، فَإِنّهُ لا رَأْى لِمَنْ لا يُطَاعُ. ثُمّ أَلّفَ بَيْنَهُمْ”، فَقَالَ: “يَا فُلانُ أَنْتَ وَفُلانٌ يَا فُلانُ أَنْتَ وَفُلانٌ - لا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ - وَإِيّاكُمْ أَنْ يَرْجِعَ إلَىّ أَحَدُكُمْ فَأَقُولُ أَيْنَ فُلانٌ صَاحِبُك؟ فَيَقُولُ: لا أَدْرِى؛ وَإِذَا كَبّرَتْ فَكَبّرُوا. قَالَ: فَكَبّرَ وَكَبّرُوا، وَأَخْرَجُوا السّيُوفَ”. قَالَ: فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ وَفِى الْحَاضِرِ نَعَمٌ وَقَدْ عَطَنُوا مَوَاشِيَهُمْ فَخَرَجَ إلَيْنَا الرّجَالُ فَقَاتَلُوا سَاعَةً فَوَضَعْنَا السّيُوفَ حَيْثُ شِئْنَا مِنْهُمْ وَنَحْنُ نَصِيحُ بِشِعَارِنَا: أَمِتْ أَمِتْ وَخَرَجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِى إثْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَأَبْعَدَ وَحَوَيْنَا عَلَى الْحَاضِرِ وَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا، وَمَعَنَا النّسَاءُ وَالْمَاشِيَةُ فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَيْنَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ فَجَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ اللّيْلِ فَلامَهُ أَمِيرُنَا لائِمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إلَى مَا عَهِدْت إلَيْك؟ فَقَالَ: إنّى خَرَجْت فِى إثْرِ رَجُلٍ جَعَلَ يَتَهَكّمُ بِى، حَتّى إذَا دَنَوْت وَلَحَمْته بِالسّيْفِ قَالَ: لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَغْمَدْت سَيْفَك؟ قَالَ: لا وَاَللّهِ مَا فَعَلْت حَتّى أَوْرَدْته شَعُوبَ، قَالَ: قُلْنَا: وَاَللّهِ بِئْسَ مَا فَعَلْت وَمَا جِئْت بِهِ تَقْتُلُ امْرَأً يَقُولُ: لا إلَهَ إلاّ اللّهُ فَنَدِمَ وَسَقَطَ فِى يَدَيْهِ. قَالَ: وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ وَالذّرّيّةَ وَكَانَتْ سِهَامُهُمْ عَشَرَةُ أَبْعِرَةً كُلّ رَجُلٍ أَوْ عِدْلهَا مِنْ الْغَنَمِ. وَكَانَ يُحْسَبُ الْجَزُورُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَحَدّثَنِى شِبْلُ بْنُ الْعَلاءِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ حُوَيّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَمِيرُنَا آخَى بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ. قَالَ أُسَامَةُ: فَلَمّا أَصَبْته وَجَدْت فِى نَفْسِى مِنْ ذَلِكَ مَوْجِدَةً شَدِيدَةً حَتّى رَأَيْتنِى وَمَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الطّعَامِ حَتّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَبّلَنِى وَاعْتَنَقَنِى وَاعْتَنَقْته، ثُمّ قَالَ لِى: يَا أُسَامَةُ خَبّرْنِى عَنْ غَزَاتِك. قَالَ: فَجَعَلَ أُسَامَةُ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ حَتّى انْتَهَى إلَى صَاحِبِهِ الّذِى قَتَلَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَتَلْته يَا أُسَامَةُ وَقَدْ قَالَ: لا إلَهَ إلاّ اللّهُ”؟ قَالَ: فَجَعَلْت أَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا قَالَهَا تَعَوّذًا مِنْ الْقَتْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلا شَقَقْت قَلْبَهُ فَتَعْلَمَ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ”؟ قَالَ أُسَامَةُ: لا أَقْتُلُ أَحَدًا يَقُولُ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ. قَالَ أُسَامَةُ: وَتَمَنّيْت أَنّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلاّ يَوْمئِذ حَدّثَنِى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ ابْنِ عَدِىّ بْنِ الْجَبّارِ، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت رَجُلاً مِنْ الْكُفّارِ يُقَاتِلُنِى، وَضَرَبَ إحْدَى يَدِىّ بِالسّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمّ لاذَ مِنّى بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ، أَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَقْتُلْهُ” قَالَ: فَإِنّى قَتَلْته فَمَاذَا؟ قَالَ: “فَإِنّهُ بِمَنْزِلَتِك الّتِى كُنْت بِهَا قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ، الّتِى قَالَ”.

  • * *










سَرِيّةُ بَنِى عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَلَيْهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ إلَى الْمَيْفَعَةِ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِى عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ غَزْوَةِ الْكُدْرِ أَقَامَ أَيّامًا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يُقِيمَ فَقَالَ لَهُ يَسَارٌ مَوْلاهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى قَدْ عَلِمْت غِرّةً مِنْ بَنِى عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَأَرْسَلَ مَعِى إلَيْهِمْ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ النّبِىّ ÷ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ فِى مِائَةٍ وَثَلاثِينَ رَجُلاً، خَرَجَ بِهِمْ يَسَارٌ فَظَعَنَ بِهِمْ فِى غَيْرِ الطّرِيقِ حَتّى فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ وَجَهَدُوا، وَاقْتَسَمُوا التّمْرَ عَدَدًا، فَبَيْنَا الْقَوْمُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَعْدَمَا سَاءَ ظَنّهُمْ بِيَسَارٍ وَظَنّ الْقَوْمُ أَنّ إسْلامَهُ لَمْ يَصِحّ وَقَدْ انْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ قَدْ فَحَصَهُ السّيْلُ فَلَمّا رَآهُ يَسَارٌ كَبّرَ، قَالَ: وَاَللّهِ قَدْ ظُفِرْتُمْ بِحَاجَتِكُمْ اُسْلُكُوا فِى هَذَا الْفَحْصِ حَتّى يَنْقَطِعَ بِكُمْ. فَسَارَ الْقَوْمُ فِيهِ سَاعَةٍ بِحِسّ خَفِىّ لا يَتَكَلّمُونَ إلاّ هَمْسًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى ضِرْسٍ مِنْ الْحَرّةِ، فَقَالَ يَسَارٌ لأَصْحَابِهِ: لَوْ صَاحَ رَجُلٌ شَدِيدُ الصّوْتِ لأَسْمَعَ الْقَوْمَ فَارْتَأَوْا رَأْيَكُمْ، قَالَ غَالِبٌ: انْطَلِقْ بِنَا يَا يَسَارٍ أَنَا وَأَنْتَ وَنَدَعُ الْقَوْمَ كَمِينًا، فَفَعَلا، فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا مِنْ الْقَوْمِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ سَمِعْنَا حِسّ النّاسِ وَالرّعَاءِ وَالْحُلُبِ فَرَجَعَا سَرِيعَيْنِ فَانْتَهَيَا إلَى أَصْحَابِهِمَا، فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا حَتّى إذَا كَانُوا مِنْ الْحَىّ قَرِيبًا، وَقَدْ وَعَظَهُمْ أَمِيرُهُمْ غَالِبٌ وَرَغّبَهُمْ فِى الْجِهَادِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الإِمْعَانِ فِى الطّلَبِ وَأَلّفَ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ: إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، فَكَبّرَ وَكَبّرُوا جَمِيعًا مَعَهُ وَوَقَعُوا وَسَطَ مَحَالّهِمْ فَاسْتَاقُوا نَعَمًا وَشَاءَ وَقَتَلُوا مِنْ أَشَرَف لَهُمْ وَصَادَفُوهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَيْفَعَةُ. قَالَ: وَاسْتَاقُوا النّعَمَ فَحَدَرُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُمْ جَاءُوا بِأَسْرَى.

  • * *



سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى الْجِنَابِ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَقَدْ كَانَ دَلِيلَ النّبِىّ ÷ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مِنْ أَيْنَ يَا حُسَيْلُ”؟ قَالَ: قَدِمْت مِنْ الْجِنَابِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا وَرَاءَك”؟ قَالَ: تَرَكْت جَمْعًا مِنْ غَطَفَان بِالْجِنَابِ قَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لَهُمْ: إمّا تَسِيرُوا إلَيْنَا وَإِمّا نَسِيرُ إلَيْكُمْ، فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ أَنْ سِرْ إلَيْنَا حَتّى نَزْحَفَ إلَى مُحَمّدٍ جَمِيعًا، وَهُمْ يُرِيدُونَك أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِك قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ فَقَالا جَمِيعًا: ابْعَثْ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بَشِيرًا فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللّيْلَ وَيَكْمُنُوا النّهَارَ وَخَرَجَ مَعَهُمْ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ دَلِيلاً، فَسَارُوا اللّيْلَ وَكَمَنُوا النّهَارَ حَتّى أَتَوْا أَسْفَلَ خَيْبَرَ فَنَزَلُوا بِسِلاحٍ ثُمّ خَرَجُوا مِنْ سِلاحٍ. حَتّى دَنَوْا مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُمْ الدّلِيلُ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ ثُلُثَا نَهَارٍ أَوْ نِصْفُهُ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ كَمَنْتُمْ وَخَرَجْت طَلِيعَةً لَكُمْ حَتّى آتِيَكُمْ بِالْخَبَرِ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ سِرْنَا جَمِيعًا. قَالُوا: بَلْ نُقَدّمُك. فَقَدّمُوهُ فَغَابَ عَنْهُمْ سَاعَةً ثُمّ كَرّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: هَذَا أَوَائِلُ سَرْحِهِمْ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ؟ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ إنْ أَغَرْنَا الآنَ حَذِرَنَا الرّجَالُ وَالْعَطَنُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَغْنَمُ مَا ظَهَرَ لَنَا ثُمّ نَطْلُبُ الْقَوْمَ. فَشَجُعُوا عَلَى النّعَمِ فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا مَلأُوا مِنْهُ أَيْدِيَهُمْ وَتَفَرّقَ الرّعَاءُ وَخَرَجُوا سِرَاعًا، ثُمّ حَذِرُوا الْجَمْعَ فَتَفَرّقَ الْجَمْعُ وَحُذِرُوا، وَلَحِقُوا بِعَلْيَاءَ بِلادِهِمْ فَخَرَجَ بَشِيرٌ بِأَصْحَابِهِ حَتّى أَتَى مَحَالّهُمْ فَيَجِدُهَا وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ. فَرَجَعَ بِالنّعَمِ حَتّى إذَا كَانُوا بِسِلاحٍ رَاجِعِينَ لَقُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ فَقَتَلُوهُ ثُمّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ وَعُيَيْنَةُ لا يَشْعُرُ بِهِمْ فَنَاوَشُوهُمْ ثُمّ انْكَشَفَ جَمْعُ عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ النّبِىّ ÷ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلاً أَوْ رَجُلَيْنِ فَأَسَرُوهُمَا أَسْرًا، فَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى النّبِىّ ÷ فَأَسْلَمَا فَأَرْسَلَهُمَا النّبِىّ ÷. قَالُوا: وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمُرّىّ حَلِيفًا لِعُيَيْنَةَ وَلَقِيَهُ مُنْهَزِمًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ عَتِيقٍ يَعْدُو بِهِ عَدْوًا سَرِيعًا، فَاسْتَوْقَفَهُ الْحَارِثُ فَقَالَ: لا، مَا أَقْدِرُ الطّلَبُ خَلْفِى أَصْحَابَ مُحَمّدٍ وَهُوَ يَرْكُضُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: أَمَا لَك بَعْدَ أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَطِئَ الْبِلادَ وَأَنْتَ مَوْضِعٌ فِى غَيْرِ شَيْءٍ. قَالَ الْحَارِثُ: فَتَنَحّيْت عَنْ سُنَنِ خَيْلِ مُحَمّدٍ حَتّى أَرَاهُمْ وَلا يَرَوْنِى، فَأَقَمْت مِنْ حِينِ زَالَتْ الشّمْسُ إلَى اللّيْلِ مَا أَرَى أَحَدًا - وَمَا طَلَبُوهُ إلاّ الرّعْبَ الّذِى دَخَلَهُ. قَالَ: فَلَقِيته بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ الْحَارِثُ: فَلَقَدْ أَقَمْت فِى مَوْضِعٍ حَتّى اللّيْلِ مَا رَأَيْت مِنْ طَلَبٍ، قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذَاكَ إنّى خِفْت الإِسَارَ وَكَانَ أَثْرِى عِنْدَ مُحَمّدٍ مَا تَعْلَمُ فِى غَيْرِ مَوْطِنٍ. قَالَ الْحَارِثُ: أَيّهَا الرّجُلُ قَدْ رَأَيْت وَرَأَيْنَا مَعَك أَمْرًا بَيّنًا فِى بَنِى النّضِيرِ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ وَقُرَيْظَةَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ قَيْنُقَاعُ، وَفِى خَيْبَرَ، إنّهُمْ كَانُوا أَعَزّيَهُودِ الْحِجَازِ كُلّهِ يُقِرّونَ لَهُمْ بِالشّجَاعَةِ وَالسّخَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ وَأَهْلُ نَخْلٍ؛ وَاَللّهِ إنْ كَانَتْ الْعَرَبُ لَتَلْجَأُ إلَيْهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ بِهِمْ. لَقَدْ سَارَتْ حَارِثَةُ بْنُ الأَوْسِ حَيْثُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَا كَانَ فَامْتَنَعُوا بِهِمْ مِنْ النّاسِ ثُمّ قَدْ رَأَيْت حَيْثُ نَزَلَ بِهِمْ كَيْفَ ذَهَبَتْ تِلْكَ النّجْدَةُ وَكَيْفَ أُدِيلُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ وَاَللّهِ ذَاكَ وَلَكِنْ نَفْسِى لا تُقِرّنِى. قَالَ الْحَارِثُ: فَادْخُلْ مَعَ مُحَمّدٍ. قَالَ: أَصِيرُ تَابِعًا قَدْ سَبَقَ قَوْمٌ إلَيْهِ فَهُمْ يَزِرُونَ بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَقُولُونَ شَهِدْنَا بَدْرًا وَغَيْرَهَا. قَالَ الْحَارِثُ: وَإِنّمَا هُوَ عَلَى مَا تَرَى، فَلَوْ تَقَدّمْنَا إلَيْهِ لَكُنّا مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ قَدْ بَقِىَ قَوْمُهُ بَعْدَهُمْ مِنْهُ فِى مُوَادَعَةٍ وَهُوَ مَوْقِعٌ بِهِمْ وَقْعَةً مَا وَطِئَ لَهُ الأَمْرُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: أَرَى وَاَللّهِ فَاتّعَدَا يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى النّبِىّ ÷ إلَى أَنْ مَرّ بِهِمَا فَرْوَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِىّ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَهُمَا يَتَقَاوَلانِ فَأَخْبَرَاهُ بِمَا كَانَا فِيهِ وَمَا يُرِيدَانِ. قَالَ فَرْوَةُ: لَوْ اسْتَأْنَيْتُمْ حَتّى تَنْظُرُوا مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُ فِى هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِى هُمْ فِيهَا وَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِمْ فَأَخّرُوا الْقُدُومَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَمَضَى فَرْوَةُ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ فَتَحَسّبَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ فَإِذَا الْقَوْمُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِىّ ÷ لا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْخُلُوا طَائِعِينَ أَبَدًا، فَخَبّرَهُمْ بِمَا أَوْقَعَ مُحَمّدٌ بِأَهْلِ خَيبِرَ. قَالَ فَرْوَةُ: وَقَدْ تَرَكْت رُؤَسَاءَ الضّاحِيَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ لِمُحَمّدٍ. قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَمَا الرّأْىُ فَأَنْتَ سَيّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ؟ قَالَ نَقْضِى هَذِهِ الْمُدّةَ الّتِى بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَنَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ، ثُمّ نَغْزُوهُ فِى عُقْرِ دَارِهِ. وَأَقَامَ أَيّامًا يُجَوّلُ فِى مَجَالِسِ قُرَيْشٍ، وَيَسْمَعُ بِهِ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِىّ، فَنَزَلَ مِنْ بَادِيَتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لِقُرَيْشٍ فَقَالَ نَوْفَلٌ إذًا لأَجِدُ عِنْدَكُمْ شَيْئًا قَدِمْت الآنَ لِمُقَدّمِك حَيْثُ بَلَغَنِى، وَلَنَا عَدُوّ قَرِيبٌ دَارُهُ وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ مُحَمّدٍ لا يُغَيّبُونَ عَلَيْهِ حَرْفًا مِنْ أُمُورِنَا. قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: خُزَاعَةُ، قَالَ: قَبُحَتْ خُزَاعَةُ؛ قَعَدَتْ بِهَا يَمِينَهَا قَالَ: فَرْوَةُ فَمَاذَا؟ قَالَ: اسْتَنْصَرَ قُرَيْشًا أَنْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَرْوَةُ فَأَنَا أَكْفِيكُمْ، فَلَقِىَ رُؤَسَاءَهُمْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَلا تَرَوْنَ مَاذَا نَزَلَ بِكُمْ إنّكُمْ رَضِيتُمْ أَنْ تُدَافِعُوا مُحَمّدًا بِالرّاحِ. قَالُوا: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ تُعِينُونَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَدُوّهِ وَعَدُوّكُمْ. قَالُوا: إذًا يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِى مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ فَيُوَطّئُنَا غَلَبَةً وَنَنْزِلُ عَلَى حُكْمِهِ وَنَحْنُ الآنَ فِى مُدّةٍ وَعَلَى دِينِنَا، فَلَقِىَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ شَىْءٌ. وَرَجَعَ فَلَقِىَ عُيَيْنَةَ وَالْحَارِثَ فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: رَأَيْت قَوْمَهُ قَدْ أَيْقَنُوا عَلَيْهِ فَقَارَبُوا الرّجُلَ وَتَدَبّرُوا الأَمْرَ. فَقَدِمُوا رِجْلاً وَأَخّرُوا أُخْرَى.

  • * *




غَزْوَةُ الْقَضِيّةِ حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، وَابْنِ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حُبَابٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَابْنِ أَبِى سَبْرَةَ وَأَبُو مَعْشَرٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِى. قَالُوا: لَمّا دَخَلَ هِلالُ ذِى الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا - قَضَاءَ عُمْرَتِهِمْ - وَأَلاّ يَتَخَلّفَ أَحَدٌ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ شَهِدَهَا إلاّ رِجَالٌ اُسْتُشْهِدُوا بِخَيْبَرَ وَرِجَالٌ مَاتُوا، وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مِمّنْ لَمْ يَشْهَدْ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ عُمّارًا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ أَلْفَيْنِ. فَحَدّثَنِى خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى ذِى الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ الشّهْرُ الّذِى صَدّتْهُ الْمُشْرِكُونَ لِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: ×الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ% يَقُولُ: كَمَا صَدّوكُمْ عَنْ الْبَيْتِ فَاعْتَمَرُوا فِى قَابِلٍ. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ حَاضِرِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَرَبِ: وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ، مَا لَنَا مِنْ زَادٍ وَمَا لَنَا مَنْ يُطْعِمُنَا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ وَأَنْ يَتَصَدّقُوا، وَأَلاّ يَكْفُوا أَيْدِيَهُمْ فَيَهْلِكُوا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ بِمَ نَتَصَدّقُ وَأَحَدُنَا لا يَجِدُ شَيْئًا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بِمَا كَانَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ وَلَوْ بِمِشْقَصٍ يَحْمِلُ بِهِ أَحَدُكُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ”. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى ذَلِكَ: ×وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ% قَالَ: نَزَلَتْ فِى تَرْكِ النّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللّهِ. حَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: مَتّعْ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَلَوْ بِمِشْقَصٍ وَلا تُلْقِ بِيَدِك إلَى التّهْلُكَةِ. حَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى تَرْكِ النّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللّهِ. وَحَدّثَنِى ابْنُ مُوهِبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَاقَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْقَضِيّةِ سِتّينَ بَدَنَةً. حَدّثَنِى غَانِمُ بْنُ أَبِى غَانِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ يَنَارٍ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِىّ عَلَى هَدْيِهِ يَسِيرُ بِالْهَدْىِ أَمَامَهُ يَطْلُبُ الرّعْىَ فِى الشّجَرِ مَعَهُ أَرْبَعَةُ فِتْيَانٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِى رُهْمٍ، قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ يَسُوقُ الْهَدْىَ وَأَرْكَبُ عَلَى الْبُدْنِ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى هَرِيرَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْت مِمّنْ صَاحَبَ الْبُدْنَ أَسُوقُهَا. حَدّثَنِى يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَلّدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ هَدْيَهُ بِيَدِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ. حَدّثَنِى مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ السّلاحَ وَالْبِيضَ وَالدّرُوعَ وَالرّمَاحَ وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِى الْحُلَيْفَةِ قَدّمَ الْخَيْلَ أَمَامَهُ وَهِىَ مِائَةُ فَرَسٍ عَلَيْهَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدّمَ السّلاحَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَمَلْت السّلاحَ وَقَدْ شَرَطُوا عَلَيْنَا أَلاّ نَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إلاّ بِسِلاحِ الْمُسَافِرِ السّيُوفُ فِى الْقُرُبِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا لا نَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ الْحَرَمَ، وَلَكِنْ تَكُونُ قَرِيبًا مِنّا، فَإِنْ هَاجَنَا هَيْجٌ مِنْ الْقَوْمِ كَانَ السّلاحُ قَرِيبًا مِنّا”. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَدّمَ الْبُدْنَ. وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: أَحْرَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ لأَنّهُ سَلَكَ إلَى طَرِيقِ الْفُرْعِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لأَهَلّ مِنْ الْبَيْدَاءِ وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَلَكْنَا فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ عَلَى الْفُرْعِ، وَقَدْ أَحْرَمَ أَصْحَابِى غَيْرِى، فَرَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَعَقَرْته، فَأَتَيْت أَصْحَابِى، فَمِنْهُمْ الآكِلُ وَالتّارِكُ فَسَأَلْت النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “كُلْ” قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: ثُمّ حَجّ حَجّةَ الْوَدَاعِ فَأَحْرَمَ مِنْ الْبَيْدَاءِ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ مِنْ الْمَسْجِدِ لأَنّ طَرِيقَهُ لَيْسَ عَلَى الْبَيْدَاءِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُلَبّى، وَالْمُسْلِمُونَ يُلَبّونَ وَمَضَى مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ إلَى مَرّ الظّهْرَانِ، فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلُوا مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللّهِ يُصْبِحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ. فَرَأَوْا سِلاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتّى أَتَوْا قُرَيْشًا فَأَخْبَرُوهُمْ بِاَلّذِى رَأَوْا مِنْ الْخَيْلِ وَالسّلاحِ فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: وَاَللّهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَنَحْنُ عَلَى كِتَابِنَا وَمُدّتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِى أَصْحَابِهِ؟ وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَرّ الظّهْرَانِ، وَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ السّلاحَ إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ حَيْثُ يَنْظُرُ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ ابْنَ حَفْصِ بْنِ الأَحْنَفِ فِى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى لَقَوْهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَصْحَابِهِ وَالْهَدْىُ وَالسّلاحُ قَدْ تَلاحَقُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ وَاَللّهِ مَا عَرَفْت صَغِيرًا وَلا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ تَدْخُلُ بِالسّلاحِ الْحَرَمَ عَلَى قَوْمِك، وَقَدْ شَرَطْت أَلاّ تَدْخُلَ إلاّ بِسِلاحِ الْمُسَافِرِ السّيُوفُ فِى الْقُرُبِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا نَدْخُلُهَا إلاّ كَذَلِك”، ثُمّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ: إنّ مُحَمّدًا لا يَدْخُلُ بِسِلاحٍ وَهُوَ عَلَى الشّرْطِ الّذِى شَرَطَ لَكُمْ، فَلَمّا جَاءَ مِكْرَزٌ بِخَبَرِ النّبِىّ ÷ خَرِجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَخَلّوْا مَكّةَ، وَقَالُوا: وَلا نَنْظُرُ إلَيْهِ وَلا إلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْهَدْىِ أَمَامَهُ حَتّى حُبِسَ بِذِى طُوًى. وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمْ اللّهُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ مُتَوَشّحُو السّيُوفِ يُلَبّونَ فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِى طُوًى وَقَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ ثُمّ دَخَلَ مِنْ الثّنِيّةِ الّتِى تَطْلُعُهُ عَلَى الْحَجُونَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ. فَحَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ أَنّ النّبِىّ ÷ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى جَاءَ عُرُوشَ مَكّةَ. حَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِىّ ÷ لَبّى حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ. حَدّثَنِى عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِى الْحُوَيْرِثِ قَالَ: وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِائَتَىْ رَجُلٍ عَلَى السّلاحِ عَلَيْهِمْ أَوْسُ بْنُ خَوْلىّ. حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: شَهِدْت عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَكُنْت قَدْ شَهِدْت الْحُدَيْبِيَةَ، فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى النّبِىّ ÷ حِينَ انْتَهَى إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ - وَقَدْ صُفّ لَهُ الْمُسْلِمُونَ - حِين دَنَا مِنْ الرّكْنِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهِ فَاسْتَلَمَ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ مُضْطَبِعًا بِثَوْبِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَطُوفُونَ مَعَهُ قَدْ اضْطَبَعُوا بِثِيَابِهِمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ خَلّوا بَنِى الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهْ حَقّا وَكُلّ الْخَيْرِ فِى سَبِيلِهْ كَمَـــــــا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِـــهْ إنّى شَهِدْت أَنّهُ رَسُولُهْ نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِـــــــهْ وَيُذْهِـــلُ الْخَلِيـــلَ عَــنْ خَلِيلِــــهْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا عُمَرُ إنّى أَسْمَعُ”، فَأَسْكَتَ عُمَر. فَحَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبّاسٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْعَجْلانِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ عَلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “إنّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرَوْنَكُمْ امْشُوا مَا بَيْنَ الْيَمَانِىّ وَالأَسْوَدِ”. فَفَعَلُوا. وَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمّا كَانَ الطّوَافُ السّابِعُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ وَقَدْ وَقَفَ الْهَدْىُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلّ فِجَاجِ مَكّةَ مَنْحَرٌ”، فَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَقَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَكَانَ قَدْ اعْتَمَرَ مَعَ النّبِىّ ÷ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمْ يَنْحَرُوا، فَأَمّا مَنْ كَانَ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَرَجَ فِى الْقَضِيّةِ فَإِنّهُمْ شُرِكُوا فِى الْهَدْىِ. حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: لَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ إلاّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، إلاّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَخَرَجْت وَنِسْوَةٌ مَعِى فِى الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ نُصَلّ إلَى الْبَيْتِ فَقَصّرْنَ مِنْ أَشْعَارِهِنّ بِالْحُدَيْبِيَةِ ثُمّ اعْتَمَرْنَ مَعَ النّبِىّ ÷ قَضَاءً لِعُمْرَتِهِنّ وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَقُتِلَ بِخَيْبَرَ وَلَمْ يَشْهَدْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ وَرِفَاعَةُ بْنُ مَسْرُوحٍ، وَثَقْفُ ابْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ الأَسَدِىّ وَأَبُو صَيّاحٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَعَدِىّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ وَأَوْسُ بْنُ حَبِيبٍ وَأُنَيْفُ بْنُ وَائِلٍ وَمَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الزّرَفِىّ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ وَعَامِرُ بْنُ الأَكْوَع. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَمَرَهُمْ فِى الْقَضِيّةِ أَنْ يَهْدُوا، فَمَنْ وَجَدَ بَدَنَةً مِنْ الإِبِلِ نَحَرَهَا، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً رَخّصَ لَهُمْ فِى الْبَقَرَةِ فَقَدِمَ فُلانٌ بِبَقَرٍ اشْتَرَاهُ النّاسُ مِنْهُ. حَدّثَنِى حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللّهِ ÷ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. حَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، أَنّ الّذِى حَلَقَهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْعَدَوِىّ. حَدّثَنِى عَلِىّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: لَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ نُسُكَهُ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتّى أَذّنَ بِلالٌ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَبَا الْحَكَمِ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَذْهَبَ أَبِى قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَمَاتَ أَبِى وَلَمْ يَشْهَدْ هَذَا الْيَوْمَ حِينَ يَقُومُ بِلالُ بْنُ أُمّ بِلالٍ يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ وَأَمّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ فَحِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ غَطّوا وُجُوهَهُمْ. حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: لَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْكَعْبَةَ فِى الْقَضِيّةِ، قَدْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ فِى شَرْطِك. وَأَمَرَ بَلالاً فَأَذّنَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ يَوْمئِذٍ مَرّةً وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ وَهُوَ الثّبْتُ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِىّ ÷ خَطَبَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَزَوّجَهَا النّبِىّ ÷ وَهُوَ مُحْرِم. حَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: لَمّا حَلّ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَزَوّجَهَا. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إنّ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَأُمّهَا سَلْمَى بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ بِمَكّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَلّمَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: عَلامَ نَتْرُكُ بِنْتَ عَمّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهْرَىْ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَهُ النّبِىّ ÷ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا؛ فَتَكَلّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ وَصِىّ حَمْزَةَ وَكَانَ النّبِىّ ÷ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ: أَنَا أَحَقّ بِهَا، ابْنَةُ أَخِى فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ جَعْفَرٌ، قَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ وَأَنَا أَحَقّ بِهَا لِمَكَانِ خَالَتِهَا عِنْدِى، أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: أَلا أَرَاكُمْ فِى ابْنَةِ عَمّى، وَأَنَا أَخَرَجْتهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَلَيْسَ لَكُمْ إلَيْهَا نَسَبٌ دُونِى، وَأَنَا أَحَقّ بِهَا مِنْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أَمّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَمَوْلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمّا أَنْتَ يَا عَلِىّ فَأَخِى وَصَاحِبِى، وَأَمّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِى وَخُلُقِى، وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَحَقّ بِهَا تَحْتَك خَالَتُهَا، وَلا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلا عَلَى عَمّتِهَا، فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ”. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَلَمّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ حَوْلَ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا هَذَا يَا جَعْفَرُ”؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَ النّجَاشِىّ إذَا أَرْضَى أَحَدًا قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ، فَقِيلَ لِلنّبِىّ ÷: تَزَوّجْهَا، فَقَالَ: “ابْنَةُ أَخِى مِنْ الرّضَاعَةِ”، فَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ سَلَمَةَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ، فَكَانَ النّبِىّ ÷ يَقُولُ هَلْ جَزَيْت سَلَمَةَ؟. حَدّثَنِى عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الظّهْرِ يَوْمَ الرّابِعِ أَتَى سُهَيْلُ ابْنُ عَمْرٍو، وُحَوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى - وَرَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ يَتَحَدّثُ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - فَقَالَ: قَدْ انْقَضَى أَجَلُك، فَاخْرَجْ عَنّا، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِى فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَصَنَعْت لَكُمْ طَعَامًا”؟ فَقَالا: لا حَاجَة لَنَا فِى طَعَامِك، اخْرَجْ عَنّا نَنْشُدُك اللّهَ يَا مُحَمّدُ وَالْعَهْدُ الّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَك إلاّ خَرَجْت مِنْ أَرْضِنَا؛ فَهَذِهِ الثّلاثُ قَدْ مَضَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَمْ يَنْزِلْ بَيْتًا، وَضُرِبَتْ لَهُ قُبّةٌ مِنْ الأَدَمِ بِالأَبْطَحِ فَكَانَ هُنَاكَ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا. فَغَضِبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَمَا رَأَى مِنْ غِلْظَةِ كَلامِهِمْ لِلنّبِىّ ÷ فَقَالَ لِسُهَيْلٍ: كَذَبْت لا أُمّ لَك، لَيْسَتْ بِأَرْضِك وَلا أَرْضِ أَبِيك وَاَللّهِ لا يَبْرَحُ مِنْهَا إلاّ طَائِعًا رَاضِيًا. فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثُمّ قَالَ: “يَا سَعْدُ لا تُؤْذِ قَوْمًا زَارُونَا فِى رِحَالِنَا”. قَالَ: وَأَسْكَتّ الرّجُلانِ عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا رَافِعٍ بِالرّحِيلِ وَقَالَ: “لا يُمْسِيَنّ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ” وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى نَزَلَ سَرِفَ، وَتَتَامّ النّاسُ وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ حِينَ يُمْسِى، وَأَقَامَ أَبُو رَافِعٍ حَتّى أَمْسَى، فَخَرَجَ بِمَيْمُونَةَ وَمَنْ مَعَهَا، فَلَقَوْا عَنَاءً مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ آذَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ النّبِىّ ÷. وَقَالَ لَهَا أَبُو رَافِعٍ - وَانْتَظَرَ أَنْ يَبْطِشَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَسْتَخْلِى بِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا - أَلا إنّى قَدْ قُلْت لَهُمْ: “مَا شِئْتُمْ هَذِهِ وَاَللّهِ الْخَيْلُ وَالسّلاحُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ” وَإِذَا الْخَيْلُ قَدْ قَرُبَتْ فَوَقَفَتْ لَنَا هُنَالِكَ وَالسّلاحُ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمَرَ مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى أَصْحَابِهِمْ بِبَطْنِ يَأْجَجَ فَيُقِيمُوا عَلَى السّلاحِ وَيَأْتِى الآخَرُونَ فَيَقْضُوا نُسُكَهُمْ فَفَعَلُوا، فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ سَارُوا مَعَنَا، فَلَمْ نَأْتِ سَرِفَ حَتّى ذَهَبَ عَامّةُ اللّيْلِ ثُمّ أَتَيْنَا سَرِفَ، فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ ثُمّ أَدْلَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.

  • * *





سَرِيّةُ ابْنِ أَبِى الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ فِى ذِى الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ حَدّثَنِى مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ - رَجَعَ فِى ذِى الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ - بَعَثَ ابْنَ أَبِى الْعَوْجَاءِ السّلَمِىّ فِى خَمْسِينَ رَجُلاً، فَخَرَجَ إلَى بَنِى سُلَيْمٍ. وَكَانَ عَيْنٌ لِبَنِى سُلَيْمٍ مَعَهُ فَلَمّا فَصَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ خَرَجَ الْعَيْنُ إلَى قَوْمِهِ فَحَذّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا. وَجَاءَهُمْ ابْنُ أَبِى الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ مُعَدّونَ لَهُ فَلَمّا رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ دَعَوْهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، وَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إلَى مَا دَعَوْتُمْ إلَيْهِ. فَرَامُوهُمْ سَاعَةً وَجَعَلَتْ الأَمْدَادُ تَأْتِى حَتّى أُحْدِقُوا بِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَقَاتَلَ الْقَوْمُ قِتَالاً شَدِيدًا حَتّى قُتِلَ عَامّتُهُمْ وَأُصِيبَ صَاحِبُهُمْ ابْنُ أَبِى الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا مَعَ الْقَتْلَى، ثُمّ تَحَامَلَ حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷.

  • * *

إسْلامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: كُنْت لِلإِسْلامِ مُجَانِبًا مُعَانِدًا، فَحَضَرْت بَدْرًامَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْت، ثُمّ حَضَرْت أُحُدًافَنَجَوْت، ثُمّ حَضَرْت الْخَنْدَقَ فَقُلْت فِى نَفْسِى: كَمْ أُوضِعُ؟ وَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ فَخَلّفْت مَالِى بِالرّهْطِ وَأَفْلَتْ - يَعْنِى مِنْ النّاسِ - فَلَمْ أَحْضُرْالْحُدَيْبِيَةَ وَلا صُلْحَهَا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالصّلْحِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكّةَ، فَجَعَلْت أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمّدٌ قَابِلاً مَكّةَ بِأَصْحَابِهِ مَا مَكّةُ بِمَنْزِلٍ وَلا الطّائِفُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ، وَأَنَا بَعْدُ نَاتٍ، عَنْ الإِسْلامِ أَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلّهَا لَمْ أُسْلِمْ. فَقَدِمْت مَكّةَ فَجَمَعْت رِجَالاً مِنْ قَوْمِى كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِى وَيَسْمَعُونَ مِنّى وَيُقَدّمُونَنِى فِيمَا نَابَهُمْ فَقُلْت لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا، مَعَ يُمْنِ نَفْسٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ. قَالَ قُلْت: تَعْلَمُونَ وَاَللّهِ أَنّى لأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الأُمُورَ عُلُوّا مُنْكَرًا، وَإِنّى قَدْ رَأَيْت رَأْيًا. قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ نَلْحَقُ بِالنّجَاشِىّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ مُحَمّدٌ كُنّا عِنْدَ النّجَاشِىّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النّجَاشِىّ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمّدٍ وَإِنْ تَظْهَرُ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا. قَالُوا: هَذَا الرّأْىُ قَالَ: فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ. وَكَانَ أَحَبّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ. قَالَ: فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَى النّجَاشِىّ، فَوَاَللّهِ إنّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِىّ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ يُزَوّجُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقُلْت لأَصْحَابِى: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ وَلَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النّجَاشِىّ وَسَأَلْته إيّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ سُرّتْ قُرَيْشٌ وَكُنْت قَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمّدٍ. قَالَ فَدَخَلْت عَلَى النّجَاشِىّ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِى أَهْدَيْت لِى مِنْ بِلادِك شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْت: نَعَمْ أَيّهَا الْمَلِكُ أَهْدَيْت لَك أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَفَرّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بِطَارِقَتِهِ وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِى مَوْضِعٍ وَأَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ وَيَحْتَفِظُ بِهِ. فَلَمّا رَأَيْت طِيبَ نَفْسِهِ قُلْت: أَيّهَا الْمَلِكُ إنّى قَدْ رَأَيْت رَجُلاً خَرَجَ مِنْ عِنْدَك وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوّ لَنَا؛ قَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا فَأُعْطِنِيهِ فَأَقْتُلْهُ فَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِى ضَرْبَةً ظَنَنْت أَنّهُ كَسَرَهُ وَابْتَدَرَ مِنْخَارِى، فَجَعَلْت أَتَلْقَى الدّمَ بِثِيَابِى، وَأَصَابَنِى مِنْ الذّلّ مَا لَوْ انْشَقّتْ بِى الأَرْضُ دَخَلْت فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ. ثُمّ قُلْت لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ لَوْ ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت مَا سَأَلْتُك. قَالَ: وَاسْتَحْيِى، وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِى أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَسُولِ اللّهِ - مَنْ يَأْتِيهِ النّامُوسُ الأَكْبَرُ الّذِى كَانَ يَأْتِى مُوسَى، وَاَلّذِى كَانَ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - لِتَقْتُلَهُ؟. قَالَ عَمْرٌو: وَغَيّرَ اللّهُ قَلْبِى عَمّا كُنْت عَلَيْهِ وَقُلْت فِى نَفْسِى: عَرَفَ هَذَا الْحَقّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ؟ قُلْت: أَتَشْهَدُ أَيّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللّهِ يَا عَمْرُو فَأَطِعْنِى وَاتّبَعَهُ وَاَللّهِ إنّهُ لَعَلَى الْحَقّ وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى كُلّ دِينٍ خَالَفَهُ. كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْت: أَفَتُبَايِعُنِى عَلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَتْهُ عَلَى الإِسْلامِ وَدَعَا لِى بِطَسْتٍ فَغَسَلَ عَنّى الدّمَ وَكَسَانِى ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِى قَدْ امْتَلأَتْ مِنْ الدّمِ فَأَلْقَيْتهَا، ثُمّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِى فَلَمّا رَأَوْا كِسْوَةَ الْمَلِكِ سُرّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْت مَنْ صَاحِبُك مَا أَرَدْت؟ فَقُلْت لَهُمْ: كَرِهْت أَنْ أُكَلّمَهُ فِى أَوّلِ مَرّةٍ وَقُلْت أَعُودُ إلَيْهِ. قَالُوا: الرّأْىُ مَا رَأَيْت وَفَارَقْتهمْ كَأَنّى أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ فَعَمِدْت إلَى مَوْضِعِ السّفُنِ فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ بِرُقَعٍ فَرَكِبْت مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى الشّعَيْبَةِ وَخَرَجْت مِنْ الشّعَيْبَةِ وَمَعِى نَفَقَةٌ فَابْتَعْت بَعِيرًا وَخَرَجْت أُرِيدُ الْمَدِينَةَ حَتّى خَرَجْت عَلَى مَرّ الظّهْرَانِ، ثُمّ مَضَيْت حَتّى كُنْت بِالْهَدّةِ إذَا رَجُلانِ قَدْ سَبَقَانِى بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلاً، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِى خَيْمَةٍ وَالآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرّاحِلَتَيْنِ فَنَظَرْت وَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقُلْت: أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مُحَمّدًا، دَخَلَ النّاسُ فِى الإِسْلامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَمَعٌ وَاَللّهِ لَوْ أَقَمْنَا لأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرِقْبَةِ الضّبُعِ فِى مَغَارَتِهَا. قُلْت: وَأَنَا وَاَللّهِ قَدْ أَرَدْت مُحَمّدًا وَأَرَدْت الإِسْلامَ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحّبَ بِى فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِى الْمَنْزِلِ، ثُمّ تَرَافَقْنَا حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِى عِنَبَةَ يَصِيحُ يَا رَبَاحُ يَا رَبَاحُ فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسِرْنَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكّةُ الْمَقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ فَظَنَنْت أَنّهُ يَعْنِينِى وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمّ وَلّى مُدْبِرًا إلَى الْمَسْجِدِ سَرِيعًا فَظَنَنْت أَنّهُ يُبَشّرُ رَسُولَ اللّهِ ÷ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا ظَنَنْت، وَأَنَخْنَا بِالْحَرّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِىَ بِالْعَصْرِ فَانْطَلَقْنَا جَمِيعًا حَتّى طَلَعْنَا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّ لِوَجْهِهِ تَهَلّلاً، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرّوا بِإِسْلامِنَا، فَتَقَدّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ ثُمّ تَقَدّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ ثُمّ تَقَدّمْت، فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلاّ أَنْ جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِى إلَيْهِ حِيَاءً مِنْهُ فَبَايَعْته عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِى مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِى، وَلَمْ يَحْضُرْنِى مَا تَأَخّرَ. فَقَالَ: إنّ الإِسْلامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالْهِجْرَةُ تَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهَا، قَالَ: فَوَاَللّهِ مَا عَدَلَ بِى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى أَمْرٍ حَزَبَهُ مُنْذُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنّا عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ وَلَقَدْ كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِى رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِى أُوَيْسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثّقَفِىّ، عَنْ عَمْرٍو، نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَقُلْت لِيَزِيدَ: فَلَمْ يُوَقّت لَك مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟ قَالَ: لا، إلاّ أَنّهُ قُبَيْلَ الْفَتْحِ قُلْت: وَإِنّ أَبِى أَخْبَرَنِى أَنّ عَمْرًا، وَخَالِدًا، وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لِهِلالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِىّ، قَالَ: فَحَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: سَمِعْت أَبِى يُحَدّثُ يَقُولُ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: لَمّا أَرَادَ اللّهُ بِى مِنْ الْخَيْرِ مَا أَرَادَ قَذَفَ فِى قَلْبِى حُبّ الإِسْلامِ وَحَضَرَنِى رُشْدِى، وَقُلْت: قَدْ شَهِدْت هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلّهَا عَلَى مُحَمّدٍ فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إلاّ أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِى نَفْسِى أَنّى مُوضَعٌ فِى غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجْت فِى خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَقِيت رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى أَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ؛ فَقُمْت بِإِزَائِهِ وَتَعَرّضْت لَهُ فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الظّهْرَ آمِنًا مِنّا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ ثُمّ لَمْ يَعْزِمْ لَنَا - وَكَانَتْ فِيهِ خِيرَةٌ - فَاطّلَعَ عَلَى مَا فِى أَنْفُسِنَا مِنْ الْهُمُومِ فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْعَصْرِ صَلاةَ الْخَوْفِ فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنّى مَوْقِعًا وَقُلْت: الرّجُلُ مَمْنُوعٌ وَافْتَرَقْنَا وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ خَيْلِنَا وَأَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرّوَاحِ، قُلْت فِى نَفْسِى: أَىّ شَيْءٍ بَقِىَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ إلَى النّجَاشِىّ؟ فَقَدْ اتّبَعَ مُحَمّدًا، وَأَصْحَابُهُ آمِنُونَ عِنْدَهُ فَأَخْرُجُ إلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِى إلَى نَصْرَانِيّةٍ أَوْ يَهُودِيّةٍ فَأُقِيمُ مَعَ عَجَمٍ تَابِعًا، أَوْ أُقِيمُ فِى دَارِى فِيمَنْ بَقِىَ؟ فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَتَغَيّبْت فَلَمْ أَشْهَدْ دُخُولَهُ وَكَانَ أَخِى الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النّبِىّ ÷ فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَطَلَبَنِى فَلَمْ يَجِدْنِى فَكَتَبَ إلَىّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ أَمّا بَعْدُ فَإِنّى لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِك عَنْ الإِسْلامِ وَعَقْلُك عَقْلُك، وَمِثْلُ الإِسْلامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟ وَقَدْ سَأَلَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْك، فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْت: يَأْتِى اللّهُ بِهِ، فَقَالَ: مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلامَ وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَقَدّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِى مَا فَاتَك، فَقَدْ فَاتَتْك مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ: فَلَمّا جَاءَنِى كِتَابُهُ نَشِطْت لِلْخُرُوجِ وَزَادَنِى رَغْبَةً فِى الإِسْلامِ وَسَرّنِى مَقَالَةُ رَسُولِ اللّهِ ÷. قَالَ خَالِدٌ: وَأَرَى فِى النّوْمِ كَأَنّى فِى بِلادٍ ضَيّقَةٍ جَدِيبَةٍ فَخَرَجْت إلَى بَلَدٍ أَخَضَرَ وَاسِعٍ فَقُلْت: إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا. فَلَمّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قُلْت: لأَذْكُرَنّهَا لأَبِى بَكْرٍ. قَالَ: فَذَكَرْتهَا فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُك الّذِى هَدَاك اللّهُ لِلإِسْلامِ وَالضّيقِ الّذِى كُنْت فِيهِ مِنْ الشّرْكِ، فَلَمّا أَجَمَعْت الْخُرُوجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قُلْت: مَنْ أُصَاحِبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ؟ فَلَقِيت صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَقُلْت: يَا أَبَا وَهْبٍ أَمّا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ إنّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمّدٍ فَاتّبَعْنَاهُ فَإِنّ شَرَفَ مُحَمّدٍ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى أَشَدّ الإِبَاءِ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِى مِنْ قُرَيْشٍ مَا اتّبَعْته أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا وَقُلْت: هَذَا رَجُلٌ مَوْتُورٌ يَطْلُبُ وِتْرًا، قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِى جَهْلٍ، فَقُلْت لَهُ مِثْلَ الّذِى قُلْت لِصَفْوَانَ، فَقَالَ لِى مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ، قُلْت: فَاطْوِ مَا ذَكَرْت لَك. قَالَ: لا أَذْكُرُهُ وَخَرَجْت إلَى مَنْزِلِى فَأَمَرْت بِرَاحِلَتِى تُخْرَجُ إلَىّ فَخَرَجْت بِهَا إلَى أَنْ أَلْقَى عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَقُلْت: إنّ هَذَا لِى لَصَدِيقٌ وَلَوْ ذَكَرْت لَهُ مَا أُرِيدُ ثُمّ ذَكَرْت مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ فَكَرِهْت أُذَكّرُهُ ثُمّ قُلْت: وَمَا عَلَىّ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِى فَذَكَرْت لَهُ مَا صَارَ الأَمْرُ إلَيْهِ فَقُلْت: إنّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِى جُحْرٍ لَوْ صُبّ عَلَيْهِ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. قَالَ: وَقُلْت لَهُ نَحْوًا مِمّا قُلْت لِصَاحِبَيْهِ، فَأَسْرَعَ الإِجَابَةَ، وَقَالَ: لَقَدْ غَدَوْت الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ وَهَذِهِ رَاحِلَتِى بِفَخّ مُنَاخَةٌ. قَالَ: فَاتّعَدْت أَنَا وَهُوَ بِيَأْجَجَ، إنْ سَبَقَنِى أَقَامَ وَإِنْ سَبَقْته أَقَمْت عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا فَلَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ حَتّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى الْهَدّةِ، فَنَجِد عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِك قَالَ: أَيْنَ مَسِيرُكُمْ؟ قُلْنَا: مَا أَخَرَجَك؟ قَالَ: فَمَا الّذِى أَخَرَجَكُمْ؟ قُلْنَا: الدّخُولُ فِى الإِسْلامِ وَاتّبَاعُ مُحَمّدٍ ÷. قَالَ: وَذَلِكَ الّذِى أَقْدَمَنِى، قَالَ: فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَأَنَخْنَا بِظَاهِرِ الْحَرّةِ رِكَابَنَا، فَأَخْبَرَ بِنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَسُرّ بِنَا، فَلَبِسْت مِنْ صَالِحِ ثِيَابِى، ثُمّ عَمِدْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَلَقِيَنِى أَخِى، فَقَالَ: اسْرَعْ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ أُخْبِرَ بِك فَسُرّ بِقُدُومِك وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْت الْمَشْىَ فَطَلَعْت عَلَيْهِ فَمَا زَالَ يَتَبَسّمُ إلَىّ حَتّى وَقَفْت عَلَيْهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ بِالنّبُوّةِ فَرَدّ عَلَىّ السّلامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ فَقُلْت: إنّى أَشْهَدُ أَنّ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ. فَقَالَ: “الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى هَدَاك قَدْ كُنْت أَرَى لَك عَقْلاً رَجَوْت أَلاّ يُسَلّمَك إلاّ إلَى الْخَيْرِ”. قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ رَأَيْت مَا كُنْت أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْك مُعَانِدًا عَنْ الْحَقّ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الإِسْلامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”، قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: “اللّهُمّ اغْفِرْ لِخَالِدٍ كُلّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدّ عَنْ سَبِيلِك”. قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدّمَ عَمْرٌو، وَعُثْمَانُ فَبَايَعَا رَسُولَ اللّهِ ÷ وَكَانَ قُدُومُنَا فِى صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ فَوَاَللّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْت يَعْدِلُ بِى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: سَأَلْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ الْكَعْبِىّ مَتَى كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى خُزَاعَةَ كِتَابَهُ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِى أَبِى، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنّهُ كَتَبَ لَهُمْ فِى جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَذَلِكَ أَنّهُ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِهِ بَعْدَ مُقِيمٍ عَلَى شِرْكِهِ وَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ إلاّ مُسْلِمٌ مُصَدّقٌ بِمُحَمّدٍ قَدْ أَتَوْا بِالإِسْلامِ وَهُوَ فِيمَنْ حَوْلَهُ قَلِيلٌ حَتّى قَدِمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ وَابْنَا هَوْذَةَ وَهَاجَرُوا، فَذَلِكَ حَيْثُ كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى خُزَاعَةَ: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى بُدَيْلٍ وَبِشْرٍ وَسَرَوَاتِ بَنِى عَمْرٍو، سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَإِنّى أَحْمَدُ اللّهَ إلَيْكُمْ اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّى لَمْ آثَمْ بِإِلّكُمْ وَلَمْ أَضَعْ فِى جَنْبِكُمْ وَإِنّ أَكْرَمَ تِهَامَةَ عَلَىّ أَنْتُمْ وَأَقْرَبُهُمْ رَحَمًا أَنْتُمْ وَمَنْ تَبِعَكُمْ مِنْ الْمُطّيّبِينَ، فَإِنّى قَدْ أَخَذْت لِمَنْ قَدْ هَاجَرَ مِنْكُمْ مِثْلَ مَا أَخَذْت لِنَفْسِى - وَلَوْ هَاجَرَ بِأَرْضِهِ - غَيْرُ سَاكِنٍ مَكّةَ إلاّ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجّا، وَإِنّى لَمْ أَضَعْ فِيكُمْ إذْ سَالَمْت، وَإِنّكُمْ غَيْرُ خَائِفِينَ مِنْ قِبَلِى وَلا مَحْصُورِينَ. أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ أَسْلَمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ وَابْنَاهُ وَتَابَعَا وَهَاجَرَا عَلَى مَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ عِكْرِمَةَ؛ أَخَذْت لِمَنْ تَبِعَنِى مِنْكُمْ مَا آخُذُ لِنَفْسِى، وَإِنّ بَعْضَنَا مِنْ بَعْضٍ أَبَدًا فِى الْحِلّ وَالْحَرَمِ، وَإِنّنِى وَاَللّهِ مَا كَذَبْتُكُمْ وَلْيُحِبّكُمْ رَبّكُمْ”. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ.

  • * *










سَرِيّةُ أَمِيرِهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بِالْكَدِيدِ فِى صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِى عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْجُهَنِىّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِىّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِىّ أَحَدَ بَنِى كَلْبِ بْنِ عَوْفٍ فِى سَرِيّةٍ كُنْت فِيهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِى الْمُلَوّحِ بِالْكَدِيدِ، وَهُمْ مِنْ بَنِى لَيْثٍ، فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيْدٍ لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إنّمَا جِئْت أُرِيدُ الإِسْلامَ. فَقُلْنَا: لا يَضُرّك رِبَاطُ لَيْلَةٍ إنْ كُنْت تُرِيدُ الإِسْلامَ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ نَسْتَوْثِقُ مِنْك. فَشَدَدْنَاهُ وَثَاقًا، وَخَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلاً مِنّا يُقَالُ لَهُ: سُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَقُلْنَا: إنْ نَازَعَك فَاحْتَزْ رَأْسَهُ. ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَكَمَنّا نَاحِيَةَ الْوَادِى، فَبَعَثَنِى أَصْحَابُ رَبِيئَةٍ لَهُمْ فَخَرَجْت فَأَتَيْت تَلاّ مُشْرِفًا عَلَى الْحَاضِرِ يُطْلِعُنِى عَلَيْهِمْ حَتّى إذَا أَسْنَدْت فِيهِ وَعَلَوْت عَلَى رَأْسِهِ انْبَطَحْت، فَوَاَللّهِ إنّى لأَنْظُرُ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَاءٍ لَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: وَاَللّهِ إنّى لأَرَى عَلَى هَذَا التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته عَلَيْهِ صَدْرَ يَوْمِى هَذَا، فَانْظُرِى إلَى أَوْعِيَتِك لا تَكُونُ الْكِلابُ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا. فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاَللّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْ أَوْعِيَتِى شَيْئًا. فَقَالَ: نَاوِلِينِى قَوْسِى وَنَبْلِى فَنَاوَلَتْهُ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ مَعَهَا، فَأَرْسَلَ سَهْمًا، فَوَاَللّهِ مَا أَخْطَأَ بِهِ جَنْبِى، فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِى. ثُمّ رَمَانِى الآخَرَ فَخَالَطَنِى بِهِ أَيْضًا، فَأَخَذْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِى. فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: وَاَللّهِ لَوْ كَانَ زَائِلَةً لَتَحَرّكَ بَعْدُ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَاىَ لا أَبَا لَك إذَا أَصْبَحْت فَاتّبِعِيهَا؛ لا تَمْضُغُهُمَا الْكِلابُ. ثُمّ دَخَلَ خِبَاءَهُ وَرَاحَتْ مَاشِيَةُ الْحَىّ مِنْ إبِلِهِمْ وَأَغْنَامِهِمْ فَحَلَبُوا وَعَطَنُوا، فَلَمّا اطْمَأَنّوا وَهَدَءُوا شَنَنّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذّرّيّةَ وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ فَخَرَجْنَا نَحْدُرُهَا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حَتّى مَرَرْنَا بِأَبِى الْبَرْصَاءِ فَاحْتَمَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا. وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فِى قَوْمِهِمْ فَجَاءَنَا مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ وَنَظَرُوا إلَيْنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الْوَادِى وَهُمْ مُوَجّهُونَ إلَيْنَا، فَجَاءَ اللّهُ الْوَادِىَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ بِمَاءٍ مَلأَ جَنْبَيْهِ وَاَيْمُ اللّهِ مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ سَحَابًا وَلا مَطَرًا، فَجَاءَ بِمَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجُوزُهُ فَلَقَدْ رَأَيْتهمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا وَقَدْ أَسْنَدْنَا فِى الْمُشَلّلِ وَفُتْنَاهُمْ فَهُمْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى طَلَبِنَا، فَمَا أَنْسَى رَجَزَ أَمِيرِنَا غَالِبٍ: أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعَزّ بِى فِـــــى خَضِلٍ نَبــــَاتُهُ مُغْلَوْلِــبِ وَذَاكَ قَوْلُ صَادِقٍ لَمْ يَكْذِبْ صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَـــوْنِ الْمُذْهَــــبِ ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ الأَسْلَمِىّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَهُمْ وَكُنّا بَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ.

  • * *







سَرِيّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِىّ فِى خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً حَتّى انْتَهَوْا إلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِىّ ÷ قَاتَلُوهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ حَتّى قَتَلُوا، فَأَفْلَتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِى الْقَتْلَى، فَلَمّا بَرَدَ عَلَيْهِ اللّيْلُ تَحَامَلَ حَتّى أَتَى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُمْ بِالْبَعْثِ إلَيْهِمْ فَبَلَغَهُ أَنّهُمْ قَدْ سَارُوا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكَهُمْ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى دَنَا مِنْهُمْ فَرَآهُ عَيْنٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِقِلّةِ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ فَجَاءُوا عَلَى الْخُيُولِ فَقَتَلُوهُمْ.

  • * *


سَرِيّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إلَى السّىّ مِنْ أَرْضِ بَنِى عَامِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ رُكْبَةَ فِى رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَرِيّةُ إلَى خَثْعَمَ بِتَبَالَةَ حَدّثَنِى الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً إلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ بِالسّىّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ فَكَانَ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ حَتّى صَبّحَهُمْ وَهُمْ غَارّونَ وَقَدْ أَوْعَزَ إلَى أَصْحَابِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَلا يُمْعِنُوا فِى الطّلَبِ فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءَ فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ كُلّهُ حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَاقْتَسَمُوا الْغَنِيمَةَ، وَكَانَتْ سِهَامَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا؛ كُلّ رَجُلٍ وَعَدَلُوا الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَغَابَتْ السّرِيّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. قَالَ ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ: فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: كَانُوا قَدْ أَصَابُوا فِى الْحَاضِرِ نِسْوَةً فَاسْتَاقُوهُنّ وَكَانَتْ فِيهِنّ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ فَقَدِمُوا بِهَا الْمَدِينَةَ، ثُمّ قَدِمَ وَفْدُهُمْ مُسْلِمِينَ فَلَمّا قَدِمُوا كَلّمُوا رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى السّبْىِ فَكَلَمْ النّبِىّ ÷ شُجَاعًا وَأَصْحَابَهُ فِى رَدّهِنّ فَسَلّمُوهُنّ وَرَدّوهُنّ إلَى أَصْحَابِهِنّ. قَالَ ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ: فَأَخْبَرْت شَيْخًا مِنْ الأَنْصَارِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَمّا الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ فَكَانَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ فَأَصَابَهَا، فَلَمّا قَدِمَ الْوَفْدُ خَيّرَهَا، فَاخْتَارَتْ الْمَقَامَ عِنْدَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ فَلَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَهِىَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ. فَقُلْت لابْنِ أَبِى سَبْرَةَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا قَطّ يَذْكُرُ هَذِهِ السّرِيّةَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ: لَيْسَ كُلّ الْعِلْمِ سَمِعْته. قَالَ: أَجَلْ وَاَللّهِ. فَقَالَ ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ: لَقَدْ حَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سَرِيّةً أُخْرَى. قَالَ إسْحَاقُ: حَدّثَنِى ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ بَعَثَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ فِى عِشْرِينَ رَجُلاً إلَى حَىّ مِنْ خَثْعَمَ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُغَذّ السّيْرَ. فَخَرَجُوا عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةً يَعْتَقِبُونَهَا، قَدْ غَيّبُوا السّلاحَ فَأَخَذُوا عَلَى الْفَتْقِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَطْنِ مَسْحَبٍ فَأَخَذُوا رَجُلاً فَسَأَلُوهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرِ فَقَدّمَهُ قُطْبَةُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. ثُمّ أَقَامُوا حَتّى كَانَ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ طَلِيعَةً فَيَجِدُ حَاضِرَ نَعَمٍ فِيهِ النّعَمُ وَالشّاءُ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ يَدِبّونَ دَبِيبًا يَخَافُونَ الْحَرَسَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحَاضِرِ وَقَدْ نَامُوا وَهَدَءُوا؛ فَكَبّرُوا وَشَنّوا الْغَارَةَ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رِجَالُ الْحَاضِرِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالاً شَدِيدًا حَتّى كَثُرَتْ الْجِرَاحُ فِى الْفَرِيقَيْنِ. وَأَصْبَحَ وَجَاءَ الْخَثْعَمِيّونَ الدّهْمَ فَحَالَ بَيْنَهُمْ سَيْلٌ أَتِىّ، فَمَا قَدَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَمْضِى حَتّى أَتَى قُطْبَةُ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرِ فَأَقْبَلَ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ وَالنّسَاءِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ سِهَامُهُمْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً وَالْبَعِيرُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الْخُمُسُ. وَكَانَ فِى صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ.

  • * *








غَزْوَةُ مُؤْتَةَ حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الأَزْدِىّ ثُمّ أَحَدَ بَنِى لَهَبٍ، إلَى مَلِكِ بُصْرَى بِكِتَابٍ فَلَمّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِىّ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الشّامَ. قَالَ: لَعَلّك مِنْ رُسُلِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُوثِقَ رِبَاطًا، ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ رَسُولٌ غَيْرَهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ الْخَبَرُ فَاشْتَدّ عَلَيْهِ وَنَدَبَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَقْتَلِ الْحَارِثِ وَمَنْ قَتَلَهُ فَأَسْرَعَ النّاسُ وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِالْجَرْفِ، وَلَمْ يُبَيّنْ رَسُولُ اللّهِ ÷ الأَمْرَ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ جَلَسَ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ وَجَاءَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ الْيَهُودِىّ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَعَ النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَمِيرُ النّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُلاً فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ”. فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ: أَبَا الْقَاسِمِ إنْ كُنْت نَبِيّا فَسَمّيْت مِنْ سَمّيْت قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا جَمِيعًا، إنّ الأَنْبِيَاءَ فِى بَنِى إسْرَائِيلَ إذَا اسْتَعْمَلُوا الرّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ ثُمّ قَالُوا: إنْ أُصِيبَ فُلانٌ فَلَوْ سَمّى مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمّ جَعَلَ الْيَهُودِىّ يَقُولُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: اعْهَدْ فَلا تَرْجِعْ إلَى مُحَمّدٍ أَبَدًا إنْ كَانَ نَبِيّا، فَقَالَ زَيْدٌ: فَأَشْهَدُ أَنّهُ نَبِىّ صَادِقٌ بَارّ، فَلَمّا أَجَمَعُوا الْمَسِيرَ وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَهُمْ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - لِوَاءٌ أَبْيَضُ - مَشَى النّاسُ إلَى أُمَرَاءِ رَسُولِ اللّهِ ÷ يُوَدّعُونَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُوَدّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُسْلِمُونَ ثَلاثَةُ آلافٍ فَلَمّا سَارُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ نَادَى الْمُسْلِمُونَ دَفَعَ اللّهُ عَنْكُمْ وَرَدّكُمْ صَالِحِينَ غَانِمِينَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ عِنْدَ ذَلِكَ: وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزّبَــــدَا لَكِنّنِى أَسْأَلُ الرّحْمَـــنَ مَغْفِــــرَةً

وَهِىَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَبِمَنْ مَعَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، أَوْ قَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللّهِ فِى سَبِيلِ اللّهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ لا تَغْدِرُوا وَلا تَغْلُوا وَلا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلاثٍ فَأَيّتُهُنّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ اُدْعُهُمْ إلَى الدّخُولِ فِى الإِسْلامِ فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ ثُمّ اُدْعُهُمْ إلَى التّحَوّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَإِنْ دَخَلُوا فِى الإِسْلامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللّهِ وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِى الْفَيْءِ وَلا فِى الْقِسْمَةِ شَيْءٌ إلاّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِنْ أَنْتَ حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللّهِ فَلا تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنّك لا تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللّهِ فِيهِمْ أَمْ لا، وَإِنْ حَاصَرَتْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمّةَ اللّهِ وَلا ذِمّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَك وَذِمّةَ أَبِيك وَذِمّةَ أَصْحَابِك، فَإِنّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمّتَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ”. حَدّثَنِى أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: خَرَجَ النّبِىّ ÷ مُشَيّعًا لأَهْلِ مُؤْتَةَ حَتّى بَلَغَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ وَوَقَفُوا حَوْلَهُ فَقَالَ: “اُغْزُوا بِسْمِ اللّهِ، فَقَاتِلُوا عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ بِالشّامِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا رِجَالاً فِى الصّوَامِعِ مُعْتَزِلِينَ لِلنّاسِ فَلا تَعْرِضُوا لَهُمْ وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشّيْطَانِ فِى رُءُوسِهِمْ مَفَاحِصَ فَاقْلَعُوهَا بِالسّيُوفِ وَلا تَقْتُلْنَ امْرَأَةً وَلا صَغِيرًا مُرْضِعًا وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، لا تُغْرِقُنّ نَخْلاً وَلا تَقْطَعْنَ شَجَرًا، وَلا تَهْدِمُوا بَيْتًا”. حَدّثَنِى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مُسْلِمٍ، قَالَ لَمّا وَدّعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مُرْنِى بِشَيْءٍ أَحْفَظْهُ عَنْك، قَالَ: “إنّك قَادِمٌ غَدًا بَلَدًا، السّجُودُ بِهِ قَلِيلٌ فَأَكْثِرْ السّجُودَ”. قَالَ عَبْدُ اللّهِ: زِدْنِى يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “اُذْكُرْ اللّهَ فَإِنّهُ عَوْنٌ لَك عَلَى مَا تَطْلُبُ”. فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى إذَا مَضَى ذَاهِبًا رَجَعَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ وِتْرٌ يُحِبّ الْوِتْرَ، قَالَ: “يَا ابْنَ رَوَاحَةَ مَا عَجَزْت فَلا تَعْجِزَنّ إنْ أَسَأْت عَشْرًا أَنْ تُحْسِنَ وَاحِدَةً”. فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: لا أَسْأَلُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يَقُولُ: كُنْت فِى حِجْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَلَمْ أَرَ وَالِىَ يَتِيمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْهُ خَرَجْت مَعَهُ فِى وَجْهِهِ إلَى مُؤْتَةَ، وَصَبّ بِى وَصَبَبْت بِهِ فَكَانَ يُرْدِفُنِى خَلْفَ رَحْلِهِ فَقَالَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَيْنَ شُعْبَتَىْ الرّحْلِ وَهُوَ يَتَمَثّلُ أَبْيَاتَ شِعْرٍ: إذَا بَلّغْتِنِى وَحَمَلْت رَحْلِى فَزَادُك أَنْعُمٌ وَخَلاك ذَمّ وَآبَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِى هُنَـــــالِكَ لا أُبَالِـــى طَلْعَ نَخْـلٍ مَسَافَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ وَلا أَرْجِعْ إلَى أَهْلِى وَرَائِى بِأَرْضِ الشّامِ مُشْتَهَى الثّوَاءِ وَلا نَخْـــــلٍ أَسَـــافِلُهَــــا رِوَاءِ فَلَمّا سَمِعْت هَذِهِ الأَبْيَاتَ بَكَيْت، فَخَفَقَنِى بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا يَضُرّك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِى اللّهُ الشّهَادَةَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ الدّنْيَا وَنَصَبِهَا وَهُمُومِهَا وَأَحْزَانِهَا وَأَحْدَاثِهَا. وَيَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَىْ الرّحْلِ، ثُمّ نَزَلَ نَزْلَةً مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَعَاقَبَهُمَا دُعَاءً طَوِيلاً ثُمّ قَالَ لِى: يَا غُلامُ، فَقُلْت: لَبّيْكَ، قَالَ: هِىَ إنْ شَاءَ اللّهُ الشّهَادَةُ”. وَمَضَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى مَقْتَلِ الْحَارِثِ بْن عُمَيْرٍ فَلَمّا فَصَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ فَجَمَعُوا الْجَمُوعَ. وَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: شُرَحْبِيلُ بِالنّاسِ وَقَدّمَ الطّلائِعَ أَمَامَهُ وَقَدْ نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَادِىَ الْقُرَى وَأَقَامُوا أَيّامًا، وَبَعَثَ أَخَاهُ سَدُوسَ وَقُتِلَ سَدُوسُ وَخَافَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فَتَحَصّنَ وَبَعَثَ أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: وَبْرُ بْنُ عَمْرٍو. فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى نَزَلُوا أَرْضَ مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِى بَهْرَاءَ وَوَائِلٍ وَبَكْرٍ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ فِى مِائَةِ أَلْفٍ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِىّ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا لَيْلَتَيْنِ لِيَنْظُرُوا فِى أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَإِمّا يَرُدّنَا وَإِمّا يَزِيدُنَا رِجَالاً. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ جَاءَهُمْ ابْنُ رَوَاحَةَ فَشَجّعَهُمْ ثُمّ قَالَ: وَاَللّهِ مَا كُنّا نُقَاتِلُ النّاسَ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ وَلا بِكَثْرَةِ سِلاحٍ، وَلا بِكَثْرَةِ خُيُولٍ إلاّ بِهَذَا الدّينِ الّذِى أَكْرَمْنَا اللّهُ بِهِ. انْطَلِقُوا وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ بَدْرٍمَا مَعَنَا إلاّ فَرَسَانِ وَيَوْمَ أُحُدٍ فَرَسٌ وَاحِدٌ وَإِنّمَا هِىَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إمّا ظُهُورٌ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَوَعَدَنَا نَبِيّنَا، وَلَيْسَ لِوَعْدِهِ خُلْفٌ وَإِمّا الشّهَادَةُ فَنَلْحَقُ بِالإِخْوَانِ نُرَافِقُهُمْ فِى الْجِنَانِ فَشَجّعَ النّاسَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ. فَحَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ الْمَقْبُرِىّ، عَنْ أَبِى هَرِيرَةَ قَالَ شَهِدْت مُؤْتَةَ، فَلَمّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ رَأَيْنَا مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالسّلاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذّهَبِ فَبَرِقَ بَصَرِى، فَقَالَ لِى ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ: يَا أَبَا هَرِيرَةَ مَا لَك؟ كَأَنّك تَرَى جَمُوعًا كَثِيرَةً، قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: تَشْهَدُنَا بِبَدْرٍ؟ إنّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ. حَدّثَنِى بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِىّ وَابْنِ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الآخَرِ فِى الْحَدِيثِ، قَالَ: لَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَكَانَ الأُمَرَاءُ يَوْمئِذٍ يُقَاتِلُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ أَخَذَ اللّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ النّاسَ مَعَهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِىّ: أَخْبَرَنِى مَنْ حَضَرَ يَوْمئِذٍ قَالَ لا، مَا قُتِلَ إلاّ طَعْنًا بِالرّمْحِ. ثُمّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَرْقَبَهَا، ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ. وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ فَوَقَعَ أَحَدُ نِصْفَيْهِ فِى كَرْمٍ فَوُجِدَ فِى نِصْفِهِ ثَلاثُونَ أَوْ بِضْعٌ وَثَلاثُونَ جُرْحًا. حَدّثَنِى أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُجِدَ مِمّا قُتِلَ مِنْ بَدَنِ جَعْفَرٍ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ ضَرْبَةً بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ. حَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ فِى بَدَنِ جَعْفَرٍ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ جُرْحًا، وَوُجِدَ بِهِ طَعْنَةٌ قَدْ أَنْفَذَتْهُ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَحَدّثَنِى عَبْدُ الْجَبّارِ ابْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْحَدِيثِ قَالا: لَمّا الْتَقَى النّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَشَفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ إلَى مُعْتَرَكِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَخَذَ الرّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَحَبّبَ إلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ، وَحَبّبَ إلَيْهِ الدّنْيَا، فَقَالَ: الآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُحَبّبُ إلَىّ الدّنْيَا، فَمَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ” فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَ: “اسْتَغْفِرُوا لَهُ فَقَدْ دَخَلَ الْجَنّةَ وَهُوَ يَسْعَى، ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَمَنّاهُ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ وَمَنّاهُ الدّنْيَا، فَقَالَ: الآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنّينِى الدّنْيَا ثُمّ مَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ”، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَدَعَا لَهُ، ثُمّ قَالَ: “اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ دَخَلَ الْجَنّةَ فَهُوَ يَطِيرُ فِى الْجَنّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يُشَاءُ مِنْ الْجَنّةِ، ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ الْجَنّةَ مُعْتَرِضًا”. فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى الأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَصَابَهُ الْجِرَاحُ”، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا اعْتِرَاضُهُ؟ قَالَ: “لَمّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَشَجُعَ فَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنّةَ”، فَسُرّىَ عَنْ قَوْمِهِ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِىّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “رَأَيْت جَعْفَرًا مَلِكًا يَطِيرُ فِى الْجَنّةِ تَدْمَى قَادِمَتَاهُ وَرَأَيْت زَيْدًا دُونَ ذَلِكَ”، فَقُلْت: “مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ زَيْدًا دُونَ جَعْفَرٍ”. فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ، فَقَالَ: “إنّ زَيْدًا لَيْسَ بِدُونِ جَعْفَرٍ وَلَكِنّا فَضّلْنَا جَعْفَرًا لِقَرَابَتِهِ مِنْك”. حَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ الْمَقْبُرِىّ، عَنْ أَبِى هَرِيرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “خَيْرُ الْفَرَسَانِ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ الرّجّالَةِ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ”. حَدّثَنِى نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَجُلاً مِنْ بَنِى مُرّةَ كَانَ فِى الْجَيْشِ قِيلَ لَهُ: إنّ النّاسَ يَقُولُونَ: إنّ خَالِدًا انْهَزَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: لا وَاَللّهِ مَا كَانَ ذَلِكَ لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ نَظَرْت إلَى اللّوَاءِ قَدْ سَقَطَ وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَنَظَرْت إلَى اللّوَاءِ فِى يَدِ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا، وَاتّبَعْنَاهُ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ رَأَيْتهَا قَطّ فِى كُلّ وَجْهٍ. ثُمّ إنّ الْمُسْلِمِينَ تَرَاجَعُوا، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ فَأَخَذَ اللّوَاءَ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِالأَنْصَارِ فَجَعَلَ النّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ: إلَىّ أَيّهَا النّاسُ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، قَالَ: فَنَظَرَ ثَابِتٌ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: خُذْ اللّوَاءَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: لا آخُذُهُ أَنْتَ أَحَقّ بِهِ أَنْتَ رَجُلٌ لَك سِنّ، وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا، قَالَ ثَابِتٌ: خُذْهُ أَيّهَا الرّجُلُ فَوَاَللّهِ مَا أَخَذْته إلاّ لَك، فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَحَمَلَهُ سَاعَةً وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ حَتّى تَكَرْكَرَ الْمُشْرِكُونَ وَحَمَلَ بِأَصْحَابِهِ فَفَضّ جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ ثُمّ دَهَمَهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَانْحَاشَ الْمُسْلِمُونَ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِى نَفَرٌ مِنْ قَوْمِى حَضَرُوا يَوْمئِذٍ قَالُوا: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءَ انْكَشَفَ بِالنّاسِ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ وَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ وَاتّبَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَصِيحُ يَا قَوْمِ يُقْتَلُ الرّجُلُ مُقْبِلاً أَحْسَنُ أَنْ يُقْتَلَ مُدْبِرًا يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ فَمَا يَثُوبُ إلَيْهِ أَحَدٌ، هِىَ الْهَزِيمَةُ وَيَتْبَعُونَ صَاحِبَ الرّايَةِ مُنْهَزِمًا. حَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ مَصْعَبٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءُ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ ابْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ ثَابِتٌ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى خَالِدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَانْكَشَفَ بِالنّاسِ. حَدّثَنِى عَطّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا، وَقَدْ جَعَلَ مُقَدّمَتَهُ سَاقَتَهُ وَسَاقَتَهُ مُقَدّمَتَهُ وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ وَمَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَتَهُ فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ رَايَاتِهِمْ وَهَيّأَتْهُمْ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ فَرُعِبُوا فَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا قَوْمٌ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا أَخَذَ خَالِدٌ الرّايَةَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الآنَ حَمِىَ الْوَطِيسُ”، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَالأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا؛ أَنّ خَالِدًا انْهَزَمَ بِالنّاسِ. قَالَ ابْنُ أَبِى الزّنَادِ: بَلَغَتْ الدّمَاءُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَوْضِعَ الأَشَاعِرِ مِنْ الْحَافِرِ. وَالْوَطِيسُ أَيْضًا ذَاكَ وَإِذَا حَمِىَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الدّابّةِ كَانَ أَشَدّ لِعَدُوّهَا. حَدّثَنِى دَاوُد بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِى مَالِكٍ يَقُولُ: انْكَشَفَ خَالِدُ ابْنُ الْوَلِيدِ يَوْمئِذٍ حَتّى عُيّرُوا بِالْفِرَارِ وَتَشَاءَمَ النّاسُ بِهِ. حَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِى حَسّانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالنّاسِ مُنْهَزِمًا، فَلَمّا سَمِعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِجَيْشِ مُؤْتَةَ قَادِمِينَ تَلْقَوْهُمْ بِالْجَرْفِ فَجَعَلَ النّاسُ يَحْثُونَ فِى وُجُوهِهِمْ التّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرّارُ أَفَرَرْتُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَيْسُوا بِفُرّارٍ وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ”. حَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ يَقُولُ: مَا لَقِىَ جَيْشٌ بُعِثُوا مَعَنَا مَا لَقِىَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالشّرّ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ فَيَدُقّ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَيَأْبَوْنَ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ يَقُولُونَ: أَلا تَقَدّمْت مَعَ أَصْحَابِك؟ فَأَمّا مَنْ كَانَ كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَجَلَسَ فِى بَيْتِهِ اسْتِحْيَاءً حَتّى جَعَلَ النّبِىّ ÷ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ رَجُلاً رَجُلاً، يَقُولُ: “أَنْتُمْ الْكُرّارُ فِى سَبِيلِ اللّهِ”. حَدّثَنِى مُصْعِبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: كَانَ فِى ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَدَخَلَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَا لِى لا أَرَى سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ؟ آشْتَكَى شَيْئًا؟ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: لا، وَاَللّهِ وَلَكِنّهُ لا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ إذَا خَرَجَ صَاحُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ: يَا فُرّارُ أَفَرَرْتُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ؟. حَتّى قَعَدَ فِى الْبَيْتِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلْ هُمْ الْكُرّارُ فِى سَبِيلِ اللّهِ فَلْيَخْرُجْ فَخَرَج”. حَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هَرِيرَةَ قَالَ: كُنّا نَخْرُجُ وَنَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ مِنْ النّاسِ لَقَدْ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنِ عَمّ لِى كَلامٌ فَقَالَ: إلاّ فِرَارَك يَوْمَ مُؤْتَةَ فَمَا دُرِيت أَىّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ. حَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَبِى الرّجّالِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمِ، عَنْ أُمّ عِيسَى ابْنِ الْحَزّارِ، عَنْ أُمّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ جَدّتِهَا أَسَمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: أَصْبَحْت فِى الْيَوْمِ الّذِى أُصِيبَ فِيهِ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، فَأَتَانِى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلَقَدْ هَيّأْت أَرْبَعِينَ مِنّا مِنْ أُدْمٍ وَعَجَنْت عَجِينِى، وَأَخَذْت بَنِىّ فَغَسَلْت وُجُوهَهُمْ وَدَهَنْتهمْ؟ فَدَخَلَ عَلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا أَسَمَاءُ أَيْنَ بَنُو جَعْفَرٍ؟ فَجِئْت بِهِمْ إلَيْهِ فَضَمّهُمْ وَشَمّهُمْ ثُمّ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، فَقُلْت: أَىْ رَسُولَ اللّهِ لَعَلّك بَلَغَك عَنْ جَعْفَرٍ شَىْءٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ قُتِلَ الْيَوْمَ. قَالَتْ: فَقُمْت أَصِيحُ وَاجْتَمَعَ إلَىّ النّسَاءُ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “يَا أَسَمَاءُ لا تَقُولِى هُجْرًا وَلا تَضْرِبِى صَدْرًا”، قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهِىَ تَقُولُ: وَاعَمّاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَاكِيَةُ” ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ شُغِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْيَوْمَ”. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى يَعْلَى، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَنَا أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى أُمّى فَنَعَى لَهَا أَبِى، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِى وَرَأْسِ أَخِى، وَعَيْنَاهُ تُهَرَاقَانِ الدّمُوعَ حَتّى تَقْطُرَ لِحْيَتُهُ. ثُمّ قَالَ: “اللّهُمّ إنّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إلَى أَحْسَنِ الثّوَابِ فَاخْلُفْهُ فِى ذُرّيّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْت أَحَدًا مِنْ عِبَادِك فِى ذُرّيّتِهِ”، ثُمّ قَالَ: “يَا أَسَمَاءُ أَلا أُبَشّرُك”؟ قَالَتْ بَلَى، بِأَبِى أَنْتَ وَأُمّى، قَالَ: “فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِى الْجَنّةِ”، قَالَتْ: بِأَبِى وَأُمّى يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْلَمَ النّاسَ ذَلِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَخَذَ بِيَدِى، يَمْسَحُ بِيَدِهِ رَأْسِى حَتّى رَقِىَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَجْلَسَنِى أَمَامَهُ عَلَى الدّرَجَةِ السّفْلَى، وَالْحُزْنُ يُعْرَفُ عَلَيْهِ فَتَكَلّمَ فَقَالَ: “إنّ الْمَرْءَ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَابْنُ عَمّهِ أَلا إنّ جَعْفَرًا قَدْ اُسْتُشْهِدَ، وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِى الْجَنّةِ”، ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَدْخَلَنِى، وَأَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ لأَهْلِى، وَأَرْسَلَ إلَى أَخِى فَتَغَدّيْنَا عِنْدَهُ وَاَللّهِ غَدَاءٌ طَيّبًا مُبَارَكًا. عَمِدَتْ سَلْمَى خَادِمَتُهُ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ ثُمّ نَسَفَتْهُ ثُمّ أَنْضَجَتْهُ وَأَدْمَتْهُ بِزَيْتٍ وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلاً. فَتَغَدّيْت أَنَا وَأَخِى مَعَهُ فَأَقَمْنَا ثَلاثَةَ أَيّامٍ فِى بَيْتِهِ نَدُورُ مَعَهُ كُلّمَا صَارَ فِى إحْدَى بُيُوتِ نِسَائِهِ ثُمّ رَجَعْنَا إلَى بَيْتِنَا، فَأَتَى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَنَا أُسَاوِمُ بِشَاةِ أَخٍ لِى، فَقَالَ: “اللّهُمّ بَارِكْ فِى صَفْقَتِهِ”. قَالَ عَبْدُ اللّهِ: فَمَا بِعْت شَيْئًا وَلا اشْتَرَيْت شَيْئًا إلاّ بُورِكَ فِيهِ. حَدّثَنِى عُمَرُ بْنُ أَبِى عَاتِكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا قَدِمَ نَعْىُ جَعْفَرٍ عَرَفْنَا فِى رَسُولِ اللّهِ ÷ الْحُزْنَ، قَالَتْ: قَدِيمًا مَا ضَرّ النّاسَ التّكَلّفُ. فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ النّسَاءَ قَدْ عَنَيْنَنَا بِمَا يَبْكِينَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَارْجِعْ إلَيْهِنّ فَأَسْكِتْهُنّ فَإِنْ أَبَيْنَ فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنّ التّرَابَ”، فَقُلْت فِى نَفْسِى: أَبْعَدَك اللّهُ مَا تَرَكْت نَفْسَك، وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعِ رَسُولِ اللّهِ ÷. حَدّثَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَنَا أَطّلِعُ مِنْ صَيْرِ الْبَاب فَأَسْمَعُ هَذَا. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مِمّا غَنِمُوا خَاتَمًا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: قَتَلْت صَاحِبَهُ يَوْمئِذٍ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إيّاهُ. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِىّ: لَقِينَاهُمْ فِى جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَصَافّونَا فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ يَسُلّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُغْرِى بِهِمْ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سِلاحٌ مُذَهّبٌ وَلِجَامٌ مُذَهّبٌ فَجَعَلْت أَقُولُ فِى نَفْسِى: مِنْ هَذَا؟ وَقَدْ رَافَقَنِى رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ، فَكَانَ مَعَنَا فِى مَسِيرِنَا ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ سَيْفٌ إذْ نَحَرَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِىّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ وَهَبَهُ لَهُ فَبَسَطَهُ فِى الشّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ أَوْتَادًا، فَلَمّا جَفّ اتّخَذَ مِنْهُ مَقْبِضًا وَجَعَلَهُ دَرَقَةً. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ الْمَدَدِىّ مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الرّومِىّ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَلَمّا مَرّ بِهِ خَرَجَ عَلَيْهِ فَعَرْقَبَ فَرَسُهُ فَقَعَدَ الْفَرَسُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَخَرّ عَنْهُ الْعِلْجُ وَشَدّ عَلَيْهِ فَعَلاهُ بِسَيْفِهِ فَقَتَلَهُ. حَدّثَنِى بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْت مُؤْتَةَ، فَبَارَزْت رَجُلاً يَوْمئِذٍ فَأَصَبْته، وَعَلَيْهِ يَوْمئِذٍ بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ فَلَمْ يَكُنْ هَمّى إلاّ الْيَاقُوتَةُ فَأَخَذْتهَا، فَلَمّا انْكَشَفْنَا وَانْهَزَمْنَا رَجَعْت بِهَا الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت بِهَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَنَفّلَنِيهَا فَبِعْتهَا زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْت بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ بِبَنِى خَطْمَةَ.

  • * *

ذِكْرُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَمِنْ بَنِى عَدِىّ ابْنِ كَعْب ٍ: مَسْعُودُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ. وَمِنْ بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَى ّ، ثُمّ مِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ حُسَيْلٍ: وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ. وَقُتِلَ مِنْ الأَنْصَارِ، ثُمّ مِنْ بَنِى النّجّار ِ مِنْ بَنِى مَازِنٍ سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ. وَمِنْ بَنِى النّجّارِ: الْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ يِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ. وَمِنْ بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج ِ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ قِيسٍ. ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ.

  • * *








غَزْوَةُ ذَاتِ السّلاسِلِ حَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، وَحَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَحَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ فَجَمَعْت مَا حَدّثُونِى، وَغَيْرُ هَؤُلاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِى أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنّ جَمْعًا مِنْ بَلِىّ وَقُضَاعَةَ قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوَا إلَى أَطْرَافِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَجَعَلَ مَعَهُ رَايَةً سَوْدَاءَ وَبَعَثَهُ فِى سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ - فِى ثَلاثِمِائَةِ - عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَصُهَيْبُ ابْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو الأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ. وَمِنْ الأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمِنْ مَرّ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ، وَهِىَ بِلادُ بَلِىّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَذَلِكَ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِمْ. كَانَتْ أُمّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ بَلَوِيّةً فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَتَأَلّفُهُمْ بِعَمْرٍو. فَسَارَ وَكَانَ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ وَكَانَتْ مَعَهُ ثَلاثُونَ فَرَسًا، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ بَلَغَهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عِشَاءً وَهُمْ شَاتُونَ فَجَمَعَ أَصْحَابُهُ الْحَطْبَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصْطَلُوا - وَهِىَ أَرْضٌ بَارِدَةٌ - فَمَنَعَهُمْ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتّى كَلّمَهُ فِى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ فَغَالَظَهُ فَقَالَ عَمْرٌو: أُمِرْت أَنْ تَسْمَعَ لِى وَتُطِيعَ قَالَ فَافْعَلْ وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ الْجُهَنِىّ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يُخْبِرُهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَيَسْتَمِدّهُ بِالرّجَالِ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ - أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا - وَالأَنْصَارَ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَلْحَقَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِى مِائَتَيْنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلا يَخْتَلِفَا. فَسَارُوا حَتّى لَحِقُوا بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمّ النّاسَ وَيَتَقَدّمَ عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إنّمَا قَدِمْت عَلَىّ مَدَدًا لِى، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَؤُمّنِى، وَأَنَا الأَمِيرُ وَإِنّمَا أَرْسَلَك النّبِىّ ÷ إلَىّ مَدَدًا. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: كَلاّ، بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِك وَهُوَ أَمِيرُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ عَمْرٌو: لا، بَلْ أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا فَلَمّا رَأَى أَبُو عُبَيْدَةَ الاخْتِلافَ - وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ لَيّنَ الشّيمَةِ - قَالَ لِتَطْمَئِنّ يَا عَمْرُو، وَتَعْلَمَنّ أَنّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ قَالَ إذَا قَدِمْت عَلَى صَاحِبِك فَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا وَإِنّك وَاَللّهِ إنْ عَصَيْتنِى لأُطِيعَنّكَ فَأَطَاعَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلّى بِالنّاسِ. فَآبَ إلَى عَمْرٍو جَمَعَ - فَصَارُوا خَمْسَمِائَةِ - فَسَارَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى وَطِئَ بِلادَ بَلِىّ وَدَوّخَهَا، وَكُلّمَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنّهُ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمَعَ فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ تَفَرّقُوا، حَتّى انْتَهَى إلَى أَقْصَى بِلادِ بَلِىّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَلَقِىَ فِى آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَرُمِىَ يَوْمئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْمٍ فَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِى الْبِلادِ وَتَفَرّقُوا، وَدَوّخَ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ وَأَقَامَ أَيّامًا لا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلا بِمَكَانٍ صَارُوا فِيهِ وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشّاءِ وَالنّعَمِ وَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ لَمْ يَكُنْ فِى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ إلاّ مَا ذُكِرَ لَهُ. وَكَانَ رَافِعُ بْنُ أَبِى رَافِعٍ الطّائِىّ يَقُولُ كُنْت فِيمَنْ نَفَرَ مَعَ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَكُنْت رَجُلاً أُغِيرُ فِى الْجَاهِلِيّةِ عَلَى أَمْوَالِ النّاسِ فَكُنْت أَجْمَعُ الْمَاءَ فِى الْبَيْضِ - بَيْضِ النّعَامِ - فَأَجْعَلُهُ فِى أَمَاكِنَ أَعْرِفُهَا، فَإِذَا مَرَرْت بِهَا وَقَدْ ظَمِئْت اسْتَخْرَجْتهَا فَشَرِبْت مِنْهَا. فَلَمّا نَفَرْت فِى ذَلِكَ الْبَعْثِ قُلْت: وَاَللّهِ لأَخْتَارَنّ لِنَفْسِى صَاحِبًا يَنْفَعُنِى اللّهُ بِهِ. فَاخْتَرْت أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ فَصَحِبْته، وَكَانَتْ لَهُ عَبَاءَةٌ فَدَكِيّةٌ فَإِذَا رَكِبَ خَلّهَا عَلَيْهِ بِخِلالٍ وَإِذَا نَزَلْنَا بَسَطَهَا. فَلَمّا قَفَلْنَا قُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، رَحِمَك اللّهُ عَلّمْنِى شَيْئًا يَنْفَعُنِى اللّهُ بِهِ. قَالَ قَدْ كُنْت فَاعِلاً وَلَوْ لَمْ تَسْأَلْنِى، لا تُشْرِكْ بِاَللّهِ وَأَقِمْ الصّلاةَ وَآتِ الزّكَاةَ وَصُمْ رَمَضَانَ وَحُجّ الْبَيْتَ وَاعْتَمِرْ وَلا تَتَأَمّرْ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ قُلْت: أَمّا مَا أَمَرْتنِى بِهِ مِنْ الصّلاةِ وَالصّوْمِ وَالْحَجّ فَأَنَا فَاعِلُهُ وَأَمّا الإِمَارَةُ فَإِنّى رَأَيْت النّاسَ لا يُصِيبُونَ هَذَا الشّرَفَ وَهَذَا الْغِنَى وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعِنْدَ النّاسِ إلاّ بِهَا. قَالَ: “إنّك اسْتَنْصَحْتنِى فَجَهَدْت لَك نَفْسِى؛ إنّ النّاسَ دَخَلُوا فِى الإِسْلامِ طَوْعًا وَكَرْهًا فَأَجَارَهُمْ اللّهُ مِنْ الظّلْمِ وَهُمْ عُوّادُ اللّهِ وَجِيرَانُ اللّهِ وَفِى أَمَانَتِهِ فَمَنْ أَخْفَرَ فَإِنّمَا يُخْفِرُ اللّهُ فِى جِيرَانِهِ وَإِنّ شَاةَ أَحَدِكُمْ أَوْ بَعِيرَهُ لِيَذْهَبَ فَيَظِلّ نَاتِئًا عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ وَاَللّهُ مِنْ وَرَاءِ جَارِهِ”. قَالَ: فَلَمّا تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ جِئْته فَقُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَنْهَنِى أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى اثْنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَالَ: فَمَا لَك تَأَمّرْت عَلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: اخْتَلَفَ النّاسُ وَخَشِيت عَلَيْهِمْ الْهَلاكَ وَدَعَوْا إلَىّ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ بُدّا. قَالَ: وَكَانَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِىّ رَفِيقًا لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا مَعَهُمَا فِى رَحْلِهِمَا، فَخَرَجَ عَوْفٌ يَوْمًا فِى الْعَسْكَرِ فَمَرّ بِقَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ جَزُورٌ قَدْ عَجَزُوا عَنْ عَمَلِهَا، فَكَانَ عَوْفٌ عَالِمًا بِالْجُزُرِ فَقَالَ: أَتُعْطُونَنِى عَلَيْهَا وَأَقْسِمُهَا بَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ نُعْطِيك عَشِيرًا مِنْهَا. فَنَحَرَهَا ثُمّ جَزّأَهَا بَيْنَهُمْ وَأَعْطَوْهُ مِنْهَا جُزْءًا فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ أَصْحَابَهُ فَطَبَخُوهُ وَأَكَلُوا مِنْهُ. فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا اللّحْمُ؟ فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالا: وَاَللّهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا. ثُمّ قَامَا يَتَقَيّآنِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَيْشُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا لِعَوْفٍ تَعَجّلْت أَجْرَك ثُمّ أَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلْنَا احْتَلَمَ فِى لَيْلَة بَارِدَةٍ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَرْدِ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَدْ وَاَللّهِ احْتَلَمْت، وَإِنْ اغْتَسَلْت مُتّ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَتَيَمّمَ ثُمّ قَامَ فَصَلّى بِهِمْ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا. قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى السّحَرِ وَهُوَ يُصَلّى فِى بَيْتِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ”؟ قُلْت: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: “صَاحِبُ الْجَزُورِ”؟ قُلْت: نَعَمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا. ثُمّ قَالَ: “أَخْبِرْنِى” فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ فِى مَسِيرِنَا وَمَا كَانَ بَيْنَ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُطَاوَعَةِ أَبِى عُبَيْدَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَرْحَمُ اللّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ”. ثُمّ أَخْبَرْته أَنّ عَمْرًا صَلّى بِنَا وَهُوَ جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ غَسَلَ فَرْجَهُ بِمَاءٍ وَتَيَمّمَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَلَمّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى النّبِىّ ÷ سَأَلَهُ عَنْ صَلاتِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اغْتَسَلْت لَمُتّ لَمْ أَجِد قَطّ بَرْدًا مِثْلَهُ وَقَدْ قَالَ اللّهُ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّهُ قَالَ شَيْئًا.

  • * *


سَرِيّةُ الْخَبَطِ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى دَاوُد بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ الأَنْصَارِىّ مِنْ وَلَدِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَبَعْضُهُمْ قَدْ زَادَ فِى الْحَدِيثِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِى سَرِيّةٍ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَهُمْ ثَلاثُمِائَةِ رَجُلٍ إلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى حَىّ مِنْ جُهَيْنَةَ؛ فَأَصَابَهُمْ جَوْعٌ شَدِيدٌ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالزّادِ فَجَمَعَ حَتّى إذَا كَانُوا لَيَقْتَسِمُونَ التّمْرَةَ فَقِيلَ لِجَابِرٍ: فَمَا يُغْنِى ثُلُثُ تَمْرَةٍ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدُوا فَقْدَهَا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ حَمُولَةٌ إنّمَا كَانُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَبَاعِرَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا زَادَهُمْ، فَأَكَلُوا الْخَبَطَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ ذُو مَشْرَةٍ حَتّى إنّ شِدْقَ أَحَدِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مِشْفَر الْبَعِيرِ الْعَضّة، فَمَكَثْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ لَقِينَا عَدُوّا مَا كَانَ بِنَا حَرَكَةٌ إلَيْهِ لِمَا بِالنّاسِ مِنْ الْجَهْدِ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِى مِنّى تَمْرًا بِجُزُرٍ يُوَفّينِى الْجُزُرَ هَاهُنَا وَأُوَفّيهِ التّمْرَ بِالْمَدِينَةِ؟ فَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاعَجَبَاهُ لِهَذَا الْغُلامِ لا مَالَ لَهُ يُدَانُ فِى مَالِ غَيْرِهِ فَوَجَدَ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: بِعْنِى جُزُرًا وَأُوَفّيك سِقَةً مِنْ تَمْرِ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ الْجُهَنِىّ: وَاَللّهِ مَا أَعْرِفُك، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ. قَالَ الْجُهَنِىّ: مَا أَعَرَفْتنِى بِنَسَبِك أَمّا إنّ بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلّةً سَيّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَابْتَاعَ مِنْهُمْ خَمْسَ جُزُرٍ كُلّ جَزُورٍ بِوَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ يَشْرِطُ عَلَيْهِ الْبَدَوِىّ، تَمْرٍ ذَخِيرَةٍ مُصَلّبَةٍ مِنْ تَمْرِ آلِ دُلَيْمٍ، قَالَ: يَقُولُ قَيْسٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْجُهَنِىّ: فَأَشْهِدْ لِى. فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنْ الأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ قَيْسٌ: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبّ. فَكَانَ فِيمَنْ أَشْهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ: لا أَشْهَدُ هَذَا يُدَانُ وَلا مَالَ لَهُ إنّمَا الْمَالُ لأَبِيهِ. قَالَ الْجُهَنِىّ: وَاَللّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخُنّى بِابْنِهِ فِى سِقَةٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفَعَالاً شَرِيفًا. فَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ قَيْسٍ كَلامٌ حَتّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلامَ وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِى مَوَاطِنَ ثَلاثَةٍ كُلّ يَوْمِ جَزُورًا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الرّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ، وَقَالَ تُرِيدُ: أَنْ تُخْفِرَ ذِمّتَك وَلا مَالَ لَك؟. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ: عَزَمْت عَلَيْك أَلاّ تَنْحَرَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ ذِمّتَك وَلا مَالَ لَك؟ فَقَالَ قَيْسٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ وَهُوَ يَقْضِى دَيْنَ النّاسِ وَيَحْمِلُ الْكُلّ وَيُطْعِمُ فِى الْمَجَاعَةِ لا يَقْضِى سِقَةَ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهَدِينَ فِى سَبِيلِ اللّهِ، فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَلِينَ لَهُ وَيَتْرُكُهُ حَتّى جَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: اعْزِمْ عَلَيْهِ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ، فَبَقِيت جَزُورَانِ مَعَهُ حَتّى وَجَدَ الْقَوْمُ الْحُوتَ فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظُهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ سَعْدٌ مَا كَانَ أَصَابَ الْقَوْمُ مِنْ الْمَجَاعَةِ، فَقَالَ: إنْ يَكُنْ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُهُ فَسَوْفَ يَنْحَرُ لِلْقَوْمِ، فَلَمّا قَدِمَ قَيْسٌ لَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْت فِى مَجَاعَةِ الْقَوْمِ حَيْثُ أَصَابَهُمْ؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ، قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمّ نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَهَيْت. قَالَ: وَمَنْ نَهَاك؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ أَمِيرِى، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنّهُ لا مَالَ لِى وَإِنّمَا الْمَالُ لأَبِيك، فَقُلْت: أَبِى يَقْضِى عَنْ الأَبَاعِدِ وَيَحْمِلُ الْكُلّ وَيُطْعِمُ فِى الْمَجَاعَةِ وَلا يَصْنَعُ هَذَا بِى قَالَ: فَلَك أَرْبَعُ حَوَائِطَ. قَالَ: وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ: وَأَتَى بِالْكِتَابِ إلَى أَبِى عُبَيْدَةَ فَشَهِدَ فِيهِ وَأَتَى عُمَرُ فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ - وَأَدْنَى حَائِطٍ مِنْهَا يَجُذّ خَمْسِينَ وَسْقًا. وَقَدِمَ الْبَدَوِىّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ سِقَتَهُ وَحَمّلَهُ وَكَسَاهُ فَبَلَغَ النّبِىّ ÷ فِعْلُ قَيْسٍ فَقَالَ: “إنّهُ فِى بَيْتِ جُودٍ”. حَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مِثْلَ الظّرِبِ فَأَكَلَ الْجَيْشُ مِنْهُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعٍ مِنْ أَضْلاعِهِ، فَنُصِبَ ثُمّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرَحَلَتْ ثُمّ مَرّ تَحْتَهَا فَلَمْ يُصِبْهَا. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَجْلِسُ فِى وَقْبِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الرّاكِبُ لَيَمُرّ بَيْنَ ضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاعِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحِجَازِىّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شُجَاعٍ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ الأَعْرَابِىّ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ وَاَللّهِ مَا مِثْلُ ابْنِك صَنَعْت وَلا تَرَكْت بِغَيْرِ مَالٍ فَابْنُك سَيّدٌ مِنْ سَادَةِ قَوْمِهِ نَهَانِى الأَمِيرُ أَنْ أَبِيعَهُ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: لا مَالَ لَهُ فَلَمّا انْتَسَبَ إلَيْك عَرَفْته فَتَقَدّمْت لِمَا عَرَفْت أَنّك تَسْمُو عَلَى مَعَالِى الأَخْلاقِ وَجَسِيمِهَا، وَأَنّك غَيْرُ مُذِمّ بِمَنْ لا مَعْرِفَةَ لَهُ لَدَيْك. قَالَ: فَأَعْطَى ابْنَهُ يَوْمئِذٍ أَمْوَالاً عِظَامًا.

  • * *









سَرِيّةُ خَضِرَةَ أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ فِى شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حَدْرَدٍ الأَسْلَمِىّ: تَزَوّجْت ابْنَةَ سُرَاقَةَ بْنِ حَارِثَةَ النّجّارِىّ وَكَانَ قُتِلَ بِبَدْرٍ فَلَمْ أُصِبْ شَيْئًا مِنْ الدّنْيَا كَانَ أَحَبّ إلَىّ مِنْ مَكَانِهَا، فَأَصْدَقْتهَا مِائَتَىْ دِرْهَمٍ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَسُوقُهُ إلَيْهَا فَقُلْت: عَلَى اللّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ الْمِعْوَلُ. فَجِئْت النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: “كَمْ سُقْت إلَيْهَا”؟ قُلْت: مِائَتَىْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: “لَوْ كُنْتُمْ تَغْتَرِفُونَهُ مِنْ نَاحِيَةَ بَطِحَانَ مَا زِدْتُمْ”. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْنِى فِى صَدَاقِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا وَافَقَتْ عِنْدَنَا شَيْئًا أُعِينُك بِهِ وَلَكِنّى قَدْ أَجَمَعْت أَنْ أَبَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ فِى أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فِى سَرِيّةٍ، فَهَلْ لَك أَنْ تَخْرُجَ فِيهَا؟ فَإِنّى أَرْجُو أَنْ يُغْنِمَك اللّهُ مَهْرَ امْرَأَتِك”. فَقُلْت: نَعَمْ فَخَرَجْنَا فَكُنّا سِتّةَ عَشَرَ رَجُلاً بِأَبِى قَتَادَةَ وَهُوَ أَمِيرُنَا، وَبَعَثَنَا إلَى غَطَفَان نَحْوَ نَجْدٍ، فَقَالَ: “سِيرُوا اللّيْلَ وَاكْمُنُوا النّهَارَ وَشُنّوا الْغَارَةَ وَلا تَقْتُلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ”. فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا نَاحِيَةَ غَطَفَان، فَهَجَمْنَا عَلَى حَاضِرٍ مِنْهُمْ عَظِيمٍ. قَالَ: وَخَطَبَنَا أَبُو قَتَادَةَ وَأَوْصَانَا بِتَقْوَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَلّفَ بَيْنَ كُلّ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: لا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ حَتّى يُقْتَلَ أَوْ يَرْجِعَ إلَىّ فَيُخْبِرُنِى خَبَرَهُ وَلا يَأْتِنِى رَجُلٌ فَأَسْأَلُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ: لا عِلْمَ لِى بِهِ وَإِذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَإِذَا حَمَلْت فَاحْمِلُوا، وَلا تُمْعِنُوا فِى الطّلَبِ. فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ فَسَمِعْت رَجُلاً يَصْرُخُ: يَا خَضِرَةَ فَتَفَاءَلَتْ، وَقُلْت: لأُصِيبَنّ خَيْرًا وَلأَجْمَعَنّ إلَىّ امْرَأَتِى وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ لَيْلاً. قَالَ: فَجَرّدَ أَبُو قَتَادَةَ سَيْفَهُ وَجَرّدْنَا سُيُوفَنَا، وَكَبّرَ وَكَبّرْنَا مَعَهُ فَشَدَدْنَا عَلَى الْحَاضِرِ فَقَاتَلَ رِجَالٌ، وَإِذَا بِرَجُلٍ طَوِيلٍ قَدْ جَرّدَ سَيْفَهُ صَلْتًا، وَهُوَ يَمْشِى الْقَهْقَرَى وَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ هَلُمّ إلَى الْجَنّةِ فَاتّبَعْته، ثُمّ قَالَ: إنّ صَاحِبَكُمْ لَذُو مَكِيدَةٍ وَإِنّ أَمْرَهُ هُوَ الأَمْرُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْجَنّةَ الْجَنّةَ يَتَهَكّمُ بِنَا، فَعَرَفْت أَنّهُ مُسْتَقْبِلٌ فَخَرَجْت فِى أَثْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ صَاحِبِى: لا تَبْعُدْ فَقَدْ نَهَانَا أَمِيرُنَا أَنْ نُمْعِنَ فِى الطّلَبِ، فَأَدْرَكْته فَرَمَيْته عَلَى جُرَيْدَاءِ مَتْنِهِ، ثُمّ قَالَ: اُدْنُ يَا مُسْلِمُ إلَى الْجَنّةِ فَرَمَيْته حَتّى قَتَلْته بِنَبْلِى، ثُمّ وَقَعَ مَيّتًا فَأَخَذْت سَيْفَهُ. وَجَعَلَ زَمِيلِى يُنَادِى: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّى وَاَللّهِ إنْ ذَهَبْت إلَى أَبِى قَتَادَةَ فَسَأَلَنِى عَنْك أَخْبَرْته. قَالَ: فَلَقِيته قَبْلَ أَبِى قَتَادَةَ فَقُلْت: أَسَأَلَ أَمِيرِى عَنّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَقَدْ تَغَيّظَ عَلَىّ وَعَلَيْك. وَأَخْبَرَنِى أَنّهُمْ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ - وَقَتَلُوا مَنْ أَشْرَفَ لَهُمْ - فَجِئْت أَبَا قَتَادَةَ فَلامَنِى فَقُلْت: قَتَلْت رَجُلاً كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِ كُلّهِ. ثُمّ اسْتَقْنَا النّعَمَ وَحَمَلْنَا النّسَاءَ وَجُفُونُ السّيُوفِ مُعَلّقَةٌ بِالأَقْتَابِ. فَأَصْبَحْت - وَبَعِيرِى مَقْطُورٌ - بِامْرَأَةٍ كَأَنّهَا ظَبْىٌ فَجَعَلَتْ تُكْثِرُ الالْتِفَاتَ خَلْفَهَا وَتَبْكِى، قُلْت: إلَى أَىّ شَيْءٍ تَنْظُرِينَ؟ قَالَتْ: أَنْظُرُ وَاَللّهِ إلَى رَجُلٍ لَئِنْ كَانَ حَيّا لِيَسْتَنْقِذَنَا مِنْكُمْ. فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنّهُ الّذِى قَتَلْته فَقُلْت: قَدْ وَاَللّهِ قَتَلْته، وَهَذَا سَيْفُهُ مُعَلّقٌ بِالْقَتَبِ إلَى غِمْدِهِ. فَقَالَتْ: هَذَا وَاَللّهِ غِمْدُ سَيْفِهِ فَشِمْهُ إنْ كَانَ صَادِقًا. قَالَ: فَشِمْته فَطَبَقَ. قَالَ: فَبَكَتْ وَيَئِسَتْ. قَالَ ابْنُ أَبِى حَدْرَدٍ: فَقَدِمْنَا عَلَى النّبِىّ ÷ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ. فَحَدّثَنِى أَبُو مَوْدُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا رَجَعْت مِنْ غَزْوَةِ خَضِرَةَ وَقَدْ أَصَبْنَا فَيْئًا، سَهْمَ كُلّ رَجُلٍ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، دَخَلْت بِزَوْجَتِى فَرَزَقَنِى اللّهُ خَيْرًا. وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: غَابُوا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً وَجَاءُوا بِمِائَتِى بَعِيرٍ وَأَلْفِ شَاةٍ وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا. وَكَانَ الْخُمُسُ مَعْزُولاً، وَكَانَ سُهْمَانُهُمْ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا، يَعْدِلُ الْبَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ. حَدّثَنِى ابْن أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ أَبِى حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَبْنَا فِى وَجْهِنَا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِيهِنّ فَتَاةٌ كَأَنّهَا ظَبْىٌ مِنْ الْحَدَاثَةِ وَالْحَلاوَةِ شَيْءٌ عَجَبٌ وَأَطْفَالٌ مِنْ غِلْمَانٍ وَجِوَارٍ فَاقْتَسَمُوا السّبْىَ وَصَارَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ لأَبِى قَتَادَةَ. فَجَاءَ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزّبَيْدِىّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا قَتَادَةَ قَدْ أَصَابَ فِى وَجْهِهِ هَذَا جَارِيَةً وَضِيئَةً وَقَدْ كُنْت وَعَدْتنِى جَارِيَةً مِنْ أَوّلِ فَيْءٍ يَفِيءُ اللّهُ عَلَيْك. قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أَبِى قَتَادَةَ فَقَالَ: “مَا جَارِيَةٌ صَارَتْ فِى سَهْمِك”؟ قَالَ: جَارِيَةٌ مِنْ السّبْىِ هِىَ أَوْضَأُ ذَلِكَ السّبْىِ أَخَذْتهَا لِنَفْسِى بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْنَا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ. قَالَ: “هَبْهَا لِى”. فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَدَفَعَهَا إلَى مَحْمِيَةَ بْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِىّ.

  • * *










شَأْنُ غَزْوَةِ الْفَتْحِ حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَابْنُ أَبِى حَثْمَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَنَجِيحٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ حَدِيثِ الْفَتْحِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوَعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلاءِ قَدْ حَدّثَنِى أَيْضًا، فَكَتَبْت كُلّ مَا سَمِعْت مِنْهُمْ، قَالُوا: كَانَتْ خُزَاعَةُ فِى الْجَاهِلِيّةِ قَدْ أَصَابُوا رَجُلاً مِنْ بَنِى بَكْرٍ أَخَذُوا مَالَهُ. فَمَرّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ عَلَى بَنِى الدّيلِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ فَمَرّ بَنُو الأَسْوَدِ بْنُ رِزْنٍ - ذُؤَيْبٌ، وَسَلْمَى، وَكُلْثُومٌ - عَلَى خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَة عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَكَانَ قَوْمُ الأَسْوَدِ يُؤَدّونَ فِى الْجَاهِلِيّةِ دِيَتَيْنِ بِفَضْلِهِمْ فِى بَنِى بَكْرٍ، فَتَجَاوَزُوا وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الإِسْلامِ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِى أَنْفُسِهِمْ إلاّ أَنّهُ قَدْ دَخَلَ الإِسْلامُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَأَمْسَكُوا، فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِى عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَهْدِهِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ حُلَفَاءَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَارِفًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُ يَوْمئِذٍ خُزَاعَةُ بِكِتَابٍ عَبْدَ الْمُطّلِبِ فَقَرَأَهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ: بِاسْمِك اللّهُمّ هَذَا حِلْفُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ لِخُزَاعَةَ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ سَرَاتُهُمْ وَأَهْلُ الرّأْىِ غَائِبُهُمْ مُقِرّ بِمَا قَضَى عَلَيْهِ شَاهِدُهُمْ. إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عُهُودَ اللّهِ وَعُقُودَهُ مَا لا يَنْسَى أَبَدًا، وَلا يَأْتِى بِلَدّ الْيَدُ وَاحِدَةٌ وَالنّصْرُ وَاحِدٌ مَا أَشَرْق ثَبِيرٌ، وَثَبَتَ حِرَاءٌ، وَمَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً لا يَزْدَادُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلاّ تَجَدّدًا أَبَدًا أَبَدًا، الدّهْرَ سَرْمَدًا. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَىّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُنِى بِحِلْفِكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلْفِ فَكُلّ حِلْفٍ كَانَ فِى الْجَاهِلِيّةِ فَلا يَزِيدُهُ الإِسْلامُ إلاّ شِدّةً وَلا حِلْفَ فِى الإِسْلامِ. وَجَاءَتْهُ أَسْلَمُ وَهُوَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ جَاءَ بِهِمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ أَسْلَمُ وَهَذِهِ مَحَالّهَا، وَقَدْ هَاجَرَ إلَيْك مَنْ هَاجَرَ مِنْهَا وَبَقِىَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِى مَوَاشِيهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ”. وَدَعَا الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِىّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: “هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لأَسْلَمَ لِمَنْ آمِنْ مِنْهُمْ بِاَللّهِ، وَشَهِدَ أَنّهُ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنّهُ آمَنَ بِأَمَانِ اللّهِ، وَلَهُ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ، وَإِنّ أَمَرْنَا وَأَمْرَكُمْ وَاحِدٌ عَلَى مَنْ دَهَمَنَا مِنْ النّاسِ بِظُلْمٍ الْيَدُ وَاحِدَةٌ، وَالنّصْرُ وَاحِدٌ، وَلأَهْلِ بَادِيَتِهِمْ مِثْلُ مَا لأَهْلِ قَرَارِهِمْ، وَهُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كَانُوا”. وَكَتَبَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِىّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ لِقَوْمِهِ عَظِيمُ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِمْ مَرَرْنَا بِهِ لَيْلَةً مَرَرْنَا وَنَحْنُ مُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة لِقَوْمِهِ وَغَيْرِ قَوْمِهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إنّ خَيْرَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ مُدَافِعًا عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِنّ الإِثْمَ لا خَيْرَ فِيهِ”. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ مِحْجَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا كَانَ بَيْنَ خُزَاعَةَ وَبَيْنَ كِنَانَةَ أَنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِىّ هَجَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَسَمِعَهُ غُلامٌ مِنْ خُزَاعَةَ فَوَقَعَ بِهِ فَشَجّهُ فَخَرَجَ إلَى قَوْمِهِ فَأَرَاهُمْ شَجّتَهُ فَثَارَ الشّرّ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَمَا تَطْلُبُ بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ مِنْ دِمَائِهَا. فَلَمّا دَخَلَ شَعْبَانُ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ تَكَلّمَتْ بَنُو نُفَاثَةَ مِنْ بَنِى بَكْرٍ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ - وَاعْتَزَلَتْ بَنُو مُدْلِجٍ فَلَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ - أَنْ يُعِينُوا بِالرّجَالِ وَالسّلاحِ عَلَى عَدُوّهِمْ مِنْ خُزَاعَةَ؛ وَذَكَرُوهُمْ الْقَتْلَى الّذِينَ أَصَابَتْ خُزَاعَةَ لَهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِأَرْحَامِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِدُخُولِهِمْ مَعَهُمْ فِى عَقْدِهِمْ وَعَهْدِهِمْ وَذَهَابِ خُزَاعَةَ إلَى مُحَمّدٍ فِى عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ فَوَجَدُوا الْقَوْمَ إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا إلاّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يُشَاوِرْ فِى ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَيُقَالُ: إنّهُمْ ذَاكِرُوهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَتْ بَنُو نُفَاثَةَ وَبَكْرٌ يَقُولُونَ: إنّمَا نَحْنُ فَأَعَانُوهُمْ بِالسّلاحِ وَالْكُرَاعِ وَالرّجَالِ وَدَسّوا ذَلِكَ سِرّا لِئَلاّ تَحْذَرُ خُزَاعَةُ، فَهُمْ آمِنُونَ غَارّونَ بِحَالِ الْمُوَادَعَةِ، وَمَا حَجَزَ الإِسْلامُ بَيْنَهُمْ. ثُمّ اتّعَدَتْ قُرَيْشٌ الْوَتِيرَ مَوْضِعًا بِمَنْ مَعَهَا، فَوَافَوْا لِلْمِيعَادِ فِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ كِبَارِهِمْ مُتَنَكّرُونَ مُنْتَقِبُونَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَجْلَبُوا مَعَهُمْ أَرِقّاءَهُمْ وَرَأْسَ بَنِى بَكْرٍ نَوْفَلِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ الدّؤَلِىّ فَبَيّتُوا خُزَاعَةُ لَيْلاً، وَهُمْ غَارّونَ آمِنُونَ مِنْ عَدُوّهِمْ وَلَوْ كَانُوا يَخَافُونَ هَذَا لَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ وَعُدّةٍ، فَلَمْ يَزَالُوا يَقْتُلُونَهُمْ حَتّى انْتَهَوْا بِهِمْ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَقَالُوا: يَا نَوْفَلُ إلَهَك، إلَهَك قَدْ دَخَلْت الْحَرَمَ، قَالَ: لا إلَهَ لِى الْيَوْمَ يَا بَنِى بَكْرٍ قَدْ كُنْتُمْ تَسْرِقُونَ الْحَاجّ أَفَلا تُدْرِكُونَ ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ؟ لا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ يَأْتِى امْرَأَتَهُ حَتّى يَسْتَأْذِنّى، لا يُؤَخّرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْيَوْمَ بَعْدَ يَوْمِهِ هَذَا مِنْ ثَأْرِهِ. فَلَمّا انْتَهَتْ خُزَاعَةُ إلَى الْحَرَمِ، دَخَلَتْ دَارَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَدَارَ رَافِعٍ الْخُزاعِيّيْنِ، وَانْتَهَوْا بِهِمْ فِى عَمَايَةَ الصّبْحَ وَدَخَلَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فِى مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ يَظُنّونَ أَلا يَعْرِفُوا، وَأَلاّ يَبْلُغَ هَذَا مُحَمّدًا ÷. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِىّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ، قَالَ: قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلاً، وَحَضَرُوا خُزَاعَةَ فِى دَارِ رَافِعٍ وَبُدَيْلٍ، وَأَصْبَحَتْ خُزَاعَة ُ مُقَتّلِينَ عَلَى بَابِ بُدَيْلٍ - وَرَافِعٌ مَوْلًى لِخُزَاعَةَ. وَتَنَحّتْ قُرَيْشٌ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَعَرَفُوا أَنّ هَذَا الّذِى صَنَعُوا نَقْضٌ لِلْمُدّةِ وَالْعَهْدِ الّذِى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ ابْنِ هِشَامٍ، قَالَ: وَجَاءَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَابْنُ أَبِى رَبِيعَةَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَإِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ، فَلامُوهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مِنْ عَوْنِهِمْ بَنِى بَكْرٍ، وَأَنّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ مُدّةً وَهَذَا نَقْضٌ لَهَا، وَانْصَرَفَ ذَلِكَ الْقَوْمُ وَدَسّوا إلَى نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الّذِى وَلّى كَلامَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت الّذِى صَنَعْنَا بِك وَأَصْحَابِك وَمَا قَتَلْت مِنْ الْقَوْمِ، وَأَنْتَ قَدْ حَضَرْتهمْ تُرِيدُ قَتْلَ مَنْ بَقِىَ مِنْهُمْ وَهَذَا مَا لا نُطَاوِعُك عَلَيْهِ فَاتْرُكْهُمْ لَنَا، قَالَ: نَعَمْ. فَتَرَكَهُمْ فَخَرَجُوا. فَقَالَ ابْنُ قَيْسٍ الرّقَيّات يَذْكُرُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو: كَثَرَتْهُمْ بِمَكّـــــةَ الأَحْيَـــــــــاءُ خَالَطَ أَخْوَالَهُ خُزَاعَـــــةَ لَمّـــــا

وَقَالَ فِى ذَلِكَ ابْنُ لُعْطٍ الدّيلِىّ رَدَدْنَا بَنِى كَعْبٍ بِأَفْوَقَ نَاصِلِ وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ أُسُودٌ تَبَارَى فِيهِمْ بِالْقَوَاصِــــلِ أَلا هَلْ أَتَى قُصْوَى الْعَشِيرَةِ أَنّنَا حَبَسْنَاهُمْ فِى دَارَة الْعَبْدِ رَافِعٍ حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ ذَبَحْنَاهُمْ ذَبَحَ التّيُــــوسِ كَأَنّنَــــا قَالَ: وَمَشَى الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ إلَى أَبِى سُفْيَانَ فَقَالا: هَذَا أَمْرٌ لا بُدّ لَهُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ وَاَللّهِ لَئِنْ لَمْ يُصْلَحْ هَذَا الأَمْرُ لا يَرُوعُكُمْ إلاّ مُحَمّدٌ فِى أَصْحَابِهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ رَأَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ رُؤْيَا كَرِهَتْهَا وَأَفْظَعَتْهَا وَخِفْت مِنْ شَرّهَا. فَقَالَ: الْقَوْمُ مَا هِيَ؟ قَالَ: رَأَتْ دَمًا أَقْبَلَ مِنْ الْحَجُونِ يَسِيلُ حَتّى وَقَفَ بِالْخَنْدَمَةِ مَلِيّا، ثُمّ كَانَ ذَلِكَ الدّمُ لَمْ يَكُنْ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ هَذَا، وَقَالُوا: هَذَا شَرّ. فَحَدّثَنِى مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَى مِنْ الشّرّ، قَالَ: هَذَا وَاَللّهِ أَمْرٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ لا حُمِلَ هَذَا إلاّ عَلَىّ وَلا وَاَللّهِ مَا شُووِرْت وَلا هُوِيت حَيْثُ بَلَغَنِى وَاَللّهِ لَيَغْزُونَا مُحَمّدٌ إنْ صَدَقَنِى ظَنّى وَهُوَ صَادِقِى، وَمَا لِى بُدّ أَنْ آتِىَ مُحَمّدًا فَأُكَلّمَهُ أَنْ يَزِيدَ فِى الْهُدْنَةِ وَيُجَدّدُ الْعَهْدَ قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُ هَذَا الأَمْرُ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ وَاَللّهِ أَصَبْت الرّأْىَ وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ مِنْ عَوْنِ بَنِى بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَعَرَفُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَنْ يَدْعُهُمْ حَتّى يَغْزُوَهُمْ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَخَرَجَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ عَلَى رَاحِلَتَيْنِ فَأَسْرَعَ السّيْرَ وَهُوَ يَرَى أَنّهُ أَوّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا وَجْهًا مِنْ أَمْرِ خُزَاعَةَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ النّاسَ قَبْلَنَا وَلا يَعْرِفُونَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ، وَمُخْرِجُهُ الّذِى رُدّ إلَيْهِ ثِقَةٌ مُقْنِعٌ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهًا إلاّ أَنّ النّاسَ قَبْلَنَا يَنْفُونَهُ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ، وَذَكَرْته لابْنِ جَعْفَرٍ وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ وَلأَبِى مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَهُ عِلْمَ بِالسّرِيّةِ فَكُلّهُمْ يُنْكِرُهُ وَلا يَأْتِى لَهُ بِوَجْهٍ. وَكَانَ أَوّلَ الْحَدِيثِ أَنّهُ حَدّثَنِى الثّقَةُ عِنْدِى، أَنّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يُخْبِرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ لَمّا قَدِمَ رَكِبَ خُزَاعَةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَمَنْ تُهْمَتُكُمْ وَظِنّتُكُمْ”؟ قَالُوا: بَنُو بَكْرٍ. قَالَ: “كُلّهَا”؟ قَالُوا: لا، وَلَكِنْ تُهْمَتُنَا بَنُو نُفَاثَةَ قَصْرَةً وَرَأْسُ الْقَوْمِ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النّفَاثِىّ. قَالَ: “هَذَا بَطْنٌ مِنْ بَنِى بَكْرٍ وَأَنَا بَاعِثٌ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَمُخَيّرُهُمْ فِى خِصَالٍ”. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ ضَمْرَةَ يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ إحْدَى ثَلاثِ خِلالٍ بَيْنَ أَنْ يَدُوا خُزَاعَةَ أَوْ يَبْرَءُوا مِنْ حَلِفِ نُفَاثَةَ أَوْ يَنْبِذُ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَأَتَاهُمْ ضَمْرَةُ رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَخَبّرَهُمْ بِاَلّذِى أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَدُوا قَتْلَى خُزَاعَةَ، أَوْ يَبْرَءُوا مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ أَوْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الأَعْجَمِىّ: أَمّا أَنْ نَدِىَ قَتْلَى خُزَاعَةَ؛ فَإِنّ نُفَاثَةَ قَوْمٌ فِيهِمْ عُرَامٌ فَلا نَدِيهِمْ حَتّى لا يَبْقَى لَنَا سَبَدٌ وَلا لَبَدٌ وَأَمّا أَنْ نَبْرَأَ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ فَإِنّهُ لَيْسَ قَبِيلَةً فِى الْعَرَبِ تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ أَشَدّ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْبَيْتِ مِنْ نُفَاثَةَ وَهُمْ حَلْفَاؤُنَا فَلا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِهِمْ مَا بَقِىَ لَنَا سَبَدٌ وَلا لَبَدٌ وَلَكِنّا نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ. فَرَجَعَ ضَمْرَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ تَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنْ يُجَدّدَ الْعَهْدَ وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَدّ الرّسُولِ بِمَا رَدّوهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: فَكُلّ أَصْحَابِنَا أَنْكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالأَنْقَابِ وَعَمّى عَلَيْهِمْ الأَخْبَارَ حَتّى دَخَلَهَا فُجَاءَةً - حَتّى ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ الْكَعْبِىّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيّعْ الّذِى حَدّثَك شَيْئًا، وَلَكِنّ الأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ لَك - نَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَوْنِ نُفَاثَةَ، وَقَالُوا: مُحَمّدٌ غَازِينَا، قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ - وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ مُرْتَدّ -: إنّ عِنْدِى رَأْيًا؛ أَنّ مُحَمّدًا لَيْسَ يَغْزُوكُمْ حَتّى يُعْذِرُ إلَيْكُمْ وَيُخَيّرُكُمْ فِى خِصَالٍ كُلّهَا أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ مِنْ غَزْوِهِ. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: يُرْسِلُ أَنْ ادُوا قَتْلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ ثَلاثَةٌ وَعِشْرُونَ قَتِيلاً، أَوْ تَبْرَءُوا مِنْ حِلْفِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَنَا - بَنُو نُفَاثَةَ - أَوْ نَنْبِذُ إلَيْكُمْ الْحَرْبَ فَمَا عِنْدَكُمْ فِى هَذِهِ الْخِصَالِ؟ قَالَ الْقَوْمُ: آخِرُ مَا قَالَ ابْنُ أَبِى السّرْحِ، وَقَدْ كَانَ بِهِ عَالِمًا. فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا خُصْلَةٌ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ التّبَرّؤِ مِنْ حِلْفِ بَنِى نُفَاثَةَ. قَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْدَرِىّ: حَفِظَتْ أَخْوَالُك وَغَضِبَتْ لَهُمْ قَالَ سُهَيْلٌ: وَأَبُو قُرَيْشٍ لَمْ تَلِدْهُ خُزَاعَةُ. قَالَ شَيْبَةُ: لا، وَلَكِنّا نَدِى قَتْلَى خُزَاعَةَ، فَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْنَا. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو: لا وَاَللّهِ لا يُودُونَ وَلا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ ابْنُ الْغَوْثِ بِنَا وَأَعْمِدَةٌ لِشِدّتِنَا، وَلَكِنْ نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ وَمَا الرّأْىُ لَنَا إلاّ جَحْدُ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ دَخَلَتْ فِى نَقْضِ عَهْدٍ وَقَطْعِ مُدّةٍ فَإِنْ قَطَعَهُ قَوْمٌ بِغَيْرِ هَوًى مِنّا وَلا مَشُورَةٍ فَمَا عَلَيْنَا. قَالُوا: هَذَا الرّأْىُ لا رَأْىَ غَيْرُهُ الْجَحْدُ لِكُلّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَإِنّى لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَوَامِرِ فِيهِ وَأَنَا فِى ذَلِكَ صَادِقٌ لَقَدْ كَرِهْت مَا صَنَعْتُمْ وَعَرَفْت أَنْ سَيَكُونُ لَهُ يَوْمُ عَمَاسٍ. قَالَتْ قُرَيْشٌ لأَبِى سُفْيَانَ: وَاخْرُجْ أَنْتَ بِذَلِكَ حَتّى خَرَجَ إلَى النّبِىّ ÷. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: فَذَكَرْت حَدِيثَ حِزَامٍ لابْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَقَالُوا: هَذَا وَجْهُهُ وَكَتَبَهُ مِنّى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِىّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِعَائِشَةَ: “قَدْ حِرْت فِى أَمْرِ خُزَاعَةَ”. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَتَرَى قُرَيْشًا تَجْتَرِئُ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَقَدْ أَفْنَاهُمْ السّيْفُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ لأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللّهُ تَعَالَى بِهِمْ”. قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيْرٌ أَوْ شَرّ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “خَيْر”. فَحَدّثَنِى حِزَامُ بْنُ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ الْكَعْبِىّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِىّ فِى أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ خُزَاعَةَ يَسْتَنْصِرُونَ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَيُخْبِرُونَهُ بِاَلّذِى أَصَابَهُمْ وَمَا ظَاهَرَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ - فَأَعَانُوهُمْ بِالرّجَالِ وَالسّلاحِ وَالْكُرَاعِ وَحَضَرَ ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِى رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِمْ مُتَنَكّرِينَ فَقَتَلُوا بِأَيْدِيهِمْ - وَرَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ فِى أَصْحَابِهِ وَرَأْسُ خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ وَقَامَ يُنْشِدُ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَاسْتَمَعَ مِنْهُ، فَقَالَ: حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيك الأَتْلَدَا ثُمّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُؤَكّدَا وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِى فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِى مُزْبِدَا هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُــــو أَحَــدَا اللّهُمّ إنّى نَاشِدٌ مُحَمّدًا قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا قُرْمٌ لَقُرْمٌ مِنْ قُرُومٍ أَصْيَدَا نَتْلُو الْقُــــرْآنَ رُكّعًا وَسُجّــــــدَا وَهُـــمْ أَذَلّ وَأَقَــــــلّ عَــــــدَدَا فَلَمّا فَرَغَ الرّكْبُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِىّ قَدْ هَجَاك. فَهَدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَمَهُ فَبَلَغَ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مُعْتَذِرًا مِمّا بَلَغَهُ فَقَالَ: أَأَنْت الّذِى تُهْدَى معد بأمره فَمَا حَمَلْت مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَوْسَعَ نَائِلاً وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ اجْتِذَابِهِ تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِى تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك قَادِرٌ وَنُبّى رَسُولَ اللّهِ أَنّى هَجَوْته سِوَى أَنّنِى قَدْ قُلْت يَا وَيْحَ فِتْيَةٍ أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا عَلَى أَنّ سَلْمَى لَيْسَ فِيهِمْ كَمِثْلِهِ وَإِنّى لاَ عِرْضًا خَرَقْتُ وَلاَ دَمًــــا بَلْ اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ

أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدٍ

إذَا رَاحَ يَهْتَزّ اهْتِزَازَ الْمُهَنّدِ وَأَعْطَى بِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالأَخَذِ بِالْيَدِ عَلَى كُلّ سَكْنٍ مِنْ تِهَامٍ وَمُنْجِدِ فَلا رَفَعَتْ سَوْطِى إلَىّ إذْن يَدِى أُصِيبُوا بِنَحِسِ يَوْمَ طَلْقٍ وَأَسْعَدِ كِفَاءً فَعَزّتْ عَبْرَتِى وَتَبَلّدِى جَمِيعًا فَإِلاّ تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدِ وَإِخْوَتِهِ أَوْ هَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ هَرَقْتُ فَفَكّرْ عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِـــدِ أَنْشَدَنِيهَا حِزَامٌ. وَبَلَغَتْ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَصِيدَتُهُ وَاعْتِذَارُهُ وَكَلّمَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِىّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ وَمَنْ مِنّا لَمْ يُعَادِك وَيُؤْذِك، وَنَحْنُ فِى جَاهِلِيّةٍ لا نَدْرِى مَا نَأْخُذُ وَمَا نَدْعُ حَتّى هَدَانَا اللّهُ بِك مِنْ الْهَلَكَةِ وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ الرّكْبُ وَكَثُرُوا عِنْدَك. فَقَالَ: “دَعْ الرّكْبَ فَإِنّا لَمْ نَجِدْ بِتِهَامَةَ أَحَدًا مِنْ ذِى رَحِمٍ وَلا بِعِيدِ الرّحِمِ كَانَ أَبَرّ بِنَا مِنْ خُزَاعَةَ”، فَأَسْكَتَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَلَمّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ عَفَوْت عَنْهُ”. قَالَ نَوْفَلٌ: فِدَاك أَبِى وَأُمّى. وَحَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ أَبِى أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَجُرّ طَرَفَ رِدَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: “لا نَصَرْت إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِى كَعْبٍ مِمّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِى”. وَحَدّثَنِى حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَكَأَنّكُمْ بِأَبِى سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ يَقُولُ: جَدّدْ الْعَهْدَ وَزِدْ فِى الْهُدْنَةَ وَهُوَ رَاجِعٌ بِسَخَطِهِ” . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِعَمْرِو بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ: “ارْجِعُوا وَتَفَرّقُوا فِى الأَوْدِيَةِ” وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَدَعَا بِمَاءٍ فَدَخَلَ يَغْتَسِلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَسْمَعَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَيْهِ: “لا نَصَرَتْ إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِى كَعْبٍ” وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكّةَ وَهُوَ مُتَخَوّفٌ الّذِى صَنَعَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَكُونُوا جَاءُوا رَسُولَ اللّهِ ÷. وَكَانَ الْقَوْمُ لَمّا أَتَوْا الأَبْوَاءَ رَاجِعِينَ تَفَرّقُوا، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى السّاحِلِ تُعَارِضُ الطّرِيقَ وَلَزِمَ بُدَيْلُ بْنُ أُمّ أَصْرَمَ فِى نَفِيرٍ مَعَهُ الطّرِيقَ فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَشْفَقَ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَكُونَ بُدَيْلٌ جَاءَ مُحَمّدًا، بَلْ كَانَ الْيَقِينُ عِنْدَهُ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَخْبِرُونِى عَنْ يَثْرِبَ، مُنْذُ كَمْ عَهْدُكُمْ بِهَا؟ فَقَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا بِهَا. فَعَرَفَ أَنّهُمْ كَتَمُوهُ فَقَالَ: أَمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمْرِ يَثْرِبَ شَيْءٌ تُطْعِمُونَاهُ؟ فَإِنّ لِتَمْرِ يَثْرِبَ فَضْلاً عَلَى تَمْرِ تِهَامَةَ. قَالُوا: لا، قَالَ: ثُمّ أَبَتْ نَفْسُهُ أَنْ تُقِرّهُ حَتّى قَالَ: يَا بُدَيْلُ هَلْ جِئْت مُحَمّدًا؟ قَالَ: لا مَا فَعَلْت، وَلَكِنّى سِرْت فِى بِلادِ كَعْبٍ وَخُزَاعَة َ مِنْ هَذَا السّاحِلِ فِى قَتِيلٍ كَانَ بَيْنَهُمْ فَأَصْلَحْت بَيْنَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: إنّك وَاَللّهِ - مَا عَلِمْت - بَرّ وَاصِلٌ. ثُمّ قَايَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى رَاحَ بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ ثُمّ جَاءَ مَنْزِلَهُمْ فَفَتّ أَبْعَارَ أَبَاعِرِهِمْ فَوَجَدَ فِيهَا نَوًى، وَوَجَدَ فِى مَنْزِلِهِمْ نَوًى مِنْ تَمْرِ عَجْوَةٍ كَأَنّهَا أَلْسِنَةُ الطّيْرِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ الْقَوْمُ مُحَمّدًا وَكَانَ الْقَوْمُ لَمّا كَانَتْ الْوَقْعَةُ خَرَجُوا مِنْ صُبْحِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَسَارُوا إلَى حَيْثُ لَقِيَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ ثَلاثًا. وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ قَدْ حَبَسَتْ خُزَاعَةَ فِى دَارِ بُدَيْلٍ وَرَافِعٍ ثَلاثَةَ أَيّامٍ لَمْ يُكَلّمُوا فِيهِمْ وَائْتَمَرَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَخْرُجَ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ ثُمّ خَرَجَ فَهَذَا خَمْسٌ بَعْدَ مَقْتَلِ خُزَاعَةَ. وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ إنّى كُنْت غَائِبًا فِى صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَاشْدُدْ الْعَهْدَ وَزِدْنَا فِى الْمُدّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَلْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَدَثٌ”؟ قَالَ: مَعَاذَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَنَحْنُ عَلَى مُدّتِنَا وَصُلْحِنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، لا نُغِيرُ وَلا نُبَدّلُ”. ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَة َ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ ÷ طَوَتْهُ دُونَهُ فَقَالَ أَرَغِبْت بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنّى أَوْ بِى عَنْهُ؟ قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَنْتَ امْرُؤٌ نَجَسٌ مُشْرِكٌ، قَالَ: يَا بُنَيّةُ لَقَدْ أَصَابَك بِعِلْمِك شَرّ، قَالَتْ: هَدَانِى اللّهُ لِلإِسْلامِ وَأَنْتَ يَا أَبَت سَيّدُ قُرَيْشٍ وَكَبِيرُهَا، كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْك الدّخُولُ فِى الإِسْلامِ، وَأَنْتَ تَعْبُدُ حَجَرًا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ؟ قَالَ: يَا عَجَبَاه، وَهَذَا مِنْك أَيْضًا؟ أَأَتْرُكُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَائِى وَأَتّبِعُ دِينَ مُحَمّدٍ؟ ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهَا فَلَقِىَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ، وَقَالَ: تُكَلّمُ مُحَمّدًا وَتُجِيرُ أَنْتَ بَيْنَ النّاسِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: جِوَارِى فِى جِوَارِ رَسُولِ اللّهِ ÷. ثُمّ لَقِىَ عُمَر َ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ بِمِثْلِ مَا كَلّمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْت الذّرّ تُقَاتِلُكُمْ لأَعَنْتهَا عَلَيْكُمْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيَتْ مِنْ ذِى رَحِمٍ شَرّا. ثُمّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنّهُ لَيْسَ فِى الْقَوْمِ أَحَدٌ أَقْرَبُ بِى رَحِمًا مِنْك، فَزِدْ فِى الْهُدْنَةِ وَجَدّدْ الْعَهْدَ فَإِنّ صَاحِبَك لَنْ يَرُدّهُ عَلَيْك أَبَدًا؛ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت رَجُلاً قَطّ أَكْثَرَ إكْرَامًا لِصَاحِبٍ مِنْ مُحَمّدٍ لأَصْحَابِهِ قَالَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: جِوَارِى فِى جِوَارِ رَسُولِ اللّهِ ÷. وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ النّبِىّ ÷ فَكَلّمَهَا، فَقَالَ: أَجِيرِى بَيْنَ النّاسِ فَقَالَتْ: إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ. قَالَ: إنّ جِوَارَك جَائِزٌ قَدْ أَجَارَتْ أُخْتُك أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ. قَالَتْ فَاطِمَةُ: ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَبَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مُرِى أَحَدَ بَنِيك يُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ قَالَتْ: إنّهُمَا صَبِيَانِ وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا يُجِيرُ. فَلَمّا أَبَت عَلَيْهِ أَتَى عَلِيّا رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ أَجِرْ بَيْنَ النّاسِ وَكَلّمْ مُحَمّدًا يُزِيدُ فِى الْمُدّةِ، قَالَ على: وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ عَزَمَ أَلا يَفْعَلَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا الرّأْيُ؟ يَسّرْ لِى أَمْرِى، فَإِنّهُ قَدْ ضَاقَ عَلَىّ فَمَرّ لِى بِأَمْرٍ تَرَى أَنّهُ نَافِعِى فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: مَا أَجِدُ لَك شَيْئًا أَمْثَلَ مِنْ أَنْ تَقُومَ فَتُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ فَإِنّك سَيّدُ كِنَانَةَ، قَالَ: تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّى شَيْئًا؟ قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: لا أَظُنّ ذَلِكَ وَاَللّهِ وَلَكِنّى لا أَجِدُ لَك غَيْرَهُ. فَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَىْ النّاسِ فَصَاحَ أَلا أَنّى قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ وَلا أَظُنّ مُحَمّدًا يَخْفِرُنِى ثُمّ دَخَلَ عَلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ مَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ. قَدْ عَرَفْت الّذِى كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَك، وَأَنّى قَدْ كُنْت لَك فِى حَرَمِنَا جَارًا، وَكُنْت لِى بِيَثْرِبَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَنْتَ سَيّدُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ وَزِدْ فِى الْمُدّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا أَبَا سُفْيَانَ جِوَارِى فِى جِوَارِ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى أَنّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ” يُقَالُ: لَمّا صَاحَ لَمْ يَقْرَبْ النّبِىّ ÷ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَانْطَلَقَ إلَى مَكّةَ، وَكَانَ قَدْ حُبِسَ وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتّهَمَتْهُ حِينَ أَبْطَأَ أَشَدّ التّهْمَةِ وَقَالُوا: وَاَللّهِ إنّا نَرَاهُ قَدْ صَبَأَ وَاتّبَعَ مُحَمّدًا سِرّا وَكَتَمَ إسْلامَهُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَى هِنْدٍ لَيْلاً قَالَتْ: لَقَدْ حُبِسْت حَتّى اتّهَمَك قَوْمُك، فَإِنْ كُنْت مَعَ طُولِ الإِقَامَةِ جِئْتهمْ بِنُجْحٍ فَأَنْتَ الرّجُلُ ثُمّ دَنَا مِنْهَا فَجَلَسَ مَجْلِسَ الرّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَتْ تَقُولُ: مَا صَنَعْت؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ إلاّ مَا قَالَ لِى عَلِىّ. فَضَرَبَتْ بِرِجْلَيْهَا فِى صَدْرِهِ وَقَالَتْ: قُبّحْت مِنْ رَسُولِ قَوْمٍ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَلَمّا أَصْبَحَ حَلَقَ رَأْسَهُ عِنْدَ الصّنَمَيْنِ إِسَافَ وَنَائِلَةَ وَذَبَحَ لَهُمَا، وَجَعَلَ يَمْسَحُ بِالدّمِ رُءُوسَهُمَا، وَيَقُولُ: لا أُفَارِقُ عِبَادَتَكُمَا حَتّى أَمُوتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِى أَبْرَأُ لِقُرَيْشٍ مِمّا اتّهَمُوهُ. وَحَدّثَنِى حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَقَالَتْ لَه قُرَيْشٌ: مَا وَرَاءَك؟ هَلْ جِئْتنَا بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمّدٍ أَوْ زِيَادَةٍ فِى مُدّةٍ؟ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَغْزُونَا فَقَالَ: وَاَللّهِ لَقَدْ أَبَى عَلَىّ وَلَقَدْ كَلّمْت عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ فَمَا قَدَرْت عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمْ إلاّ أَنّهُمْ يَرْمُونَنِى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إلاّ أَنّ عَلِيّا قَدْ قَالَ لَمّا ضَاقَتْ بِى الأُمُورُ: أَنْتَ سَيّدُ كِنَانَةَ، فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ فَنَادَيْت بِالْجِوَارِ، ثُمّ دَخَلْت عَلَى مُحَمّدٍ فَقُلْت: إنّى قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ وَمَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِى، فَقَالَ مُحَمّدٌ: “أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ” لَمْ يَزِدْنِى عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: مَا زَادَ عَلَى أَنْ تَلْعَبَ بِك تَلَعّبًا، قَالَ: وَاَللّهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ. حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا وَلّى أَبُو سُفْيَانَ رَاجِعًا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِعَائِشَةَ: جَهّزِينَا وَأَخْفِى أَمْرَك، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ الأَخْبَارَ وَالْعُيُونَ حَتّى نَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً”، وَيُقَالُ: قَالَ: “اللّهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ أَبْصَارَهُمْ فَلا يَرَوْنِى إلاّ بَغْتَةً وَلا يَسْمَعُونَ بِى إلاّ فَجْأَة”، قَالُوا: وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالأَنْقَابِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَطُوفُ عَلَى الأَنْقَابِ قَيّمًا بِهِمْ فَيَقُولُ: لا تَدْعُوا أَحَدًا يَمُرّ بِكُمْ تُنْكِرُونَهُ إلاّ رَدَدْتُمُوهُ - وَكَانَتْ الأَنْقَابُ مُسْلِمَةً - إلاّ مَنْ سَلَكَ إلَى مَكّةَ فَإِنّهُ يَتَحَفّظُ بِهِ وَيَسْأَلُ عَنْهُ أَوْ نَاحِيَةِ مَكّةَ. قَالُوا: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِىَ تُجَهّزُ رَسُولَ اللّهِ ÷ تَعْمَلُ قَمْحًا سَوِيقًا وَدَقِيقًا وَتَمْرًا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْر ٍ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَهَمّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِغَزْوٍ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِى. قَالَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ هَمّ بِسَفَرٍ فَآذِنِينَا نَتَهَيّأْ لَهُ. قَالَتْ: مَا أَدْرِى، لَعَلّهُ يُرِيدُ بَنِى سُلَيْمٍ لَعَلّهُ يُرِيدُ ثَقِيفًا، لَعَلّهُ يُرِيدُ هَوَازِنَ فَاسْتَعْجَمَتْ عَلَيْهِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت سَفَرًا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”. قَالَ: أَفَأَتَجَهّزُ؟ قَالَ: “نَعَمْ”. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيْنَ تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “قُرَيْشًا، وَأَخْفِ ذَلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ”، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ بِالْجَهَازِ، قَالَ: أَوَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدّةٌ؟ قَالَ: “إنّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَنَا غَازِيهِمْ”. وَقَالَ لأَبِى بَكْرٍ: “اطْوِ مَا ذَكَرْت لَك”، فَظَانّ يَظُنّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُرِيدُ الشّامَ وَظَانّ يَظُنّ ثَقِيفًا، وَظَانّ يَظُنّ هَوَازِنَ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِىّ فِى ثَمَانِيّةِ نَفَرٍ إلَى بَطْنِ إِضَمَ لِيَظُنّ ظَانّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ تَوَجّهَ إلَى تِلْكَ النّاحِيَةِ وَلأَنْ تَذْهَبَ بِذَلِكَ الأَخْبَارُ. حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ أَبِى حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَطْنِ إِضَمَ أَمِيرُنَا أَبُو قَتَادَةَ فِى تِلْكَ السّرِيّةِ وَفِيهَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ اللّيْثِىّ، وَأَنَا فِيهِمْ فَبَيْنَا نَحْنُ بِبَعْضِ وَادِى إِضَمَ إذْ مَرّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِىّ فَسَلّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيّةِ الإِسْلامِ فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلّمُ ابْنُ جَثّامَةَ فَقَتَلَهُ وَسَلَبَهُ بَعِيرًا لَهُ وَمَتَاعًا وَوَطْبًا مِنْ لَبَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَلَمّا لَحِقَنَا النّبِىّ ÷ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا% الآيَةَ. فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ وَلَمْ يَلْقَوْا جَمْعًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى ذِى خُشُبٍ فَبَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ تَوَجّهَ إلَى مَكّةَ، فَأَخَذُوا عَلَى بِين حَتّى لَحِقُوا النّبِىّ ÷ بِالسّقْيَا. حَدّثَنِى الْمُنْذِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: لَمّا أَجَمَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَسِيرَ إلَى قُرَيْشٍ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ النّاسُ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِى بلتعة إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِى أَجَمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلاً عَلَى أَنْ تُوَصّلَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِى رَأْسِهَا، ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، فَخَرَجَتْ، وَأَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّا وَالزّبَيْرَ، فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ كِتَابًا يُحَذّرُ قُرَيْشًا فَخَرَجَا فَأَدْرَكَاهَا بِالْخُلَيْفَةِ فَاسْتَنْزَلاهَا فَالْتَمَسَاهُ فِى رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالا لَهَا: إنّا نَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ، فَلَمّا رَأَتْ مِنْهُمَا الْجِدّ قَالَتْ: أَعْرِضَا عَنّى فَأَعْرَضَا عَنْهَا، فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِمَا، فَجَاءَا بِهِ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ حَاطِبًا فَقَالَ: “مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا”؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلا بَدّلْت، وَلَكِنّى كُنْت امْرَأً لَيْسَ لِى فِى الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِى بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ فَصَانَعَتْهُمْ. فَقَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: قَاتَلَك اللّهُ تَرَى رَسُولَ اللّهِ يَأْخُذُ بِالأَنْقَابِ وَتَكْتُبُ الْكُتُبَ إلَى قُرَيْشٍ تُحَذّرُهُمْ؟ دَعْنِى يَا رَسُولَ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّهُ قَدْ نَافَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ؟ لَعَلّ اللّهَ قَدْ اطّلَعَ يَوْمَ بَدْرٍعَلَى أَهْلِ بَدْرٍ. فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ”، وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى حَاطِبٍ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ حَاطِبٌ إلَى ثَلاثَةِ نَفَرٍ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ: " إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَذّنَ فِى النّاسِ بِالْغَزْوِ وَلا أَرَاهُ يُرِيدُ غَيْرَكُمْ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ تَكُونَ لِى عِنْدَكُمْ يَدٌ بِكِتَابِى إلَيْكُمْ. وَدَفَعَ الْكِتَابَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَرْجِ، يُقَالُ لَهَا: كَنُودٌ وَجَعَلَ لَهَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تُبَلّغَ الْكِتَابَ، وَقَالَ: أَخْفِيهِ مَا اسْتَطَعْت، وَلا تَمُرّى عَلَى الطّرِيقِ فَإِنّ عَلَيْهَا حَرَسًا. فَسَلَكَتْ عَلَى غَيْرِ نَقْبٍ عَنْ يَسَارِ الْمَحَجّةِ فِى الْفُلُوقِ حَتّى لَقِيَتْ الطّرِيقَ بِالْعَقِيقِ. حَدّثَنِى عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرَةَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: هِىَ سَارَةُ. جَعَلَ لَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، قَالُوا: فَلَمّا أَبَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْغَزْوَ أَرْسَلَ إلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَإِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ لَهُمْ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَحْضُرْ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ”، وَبَعَثَ رَسُولاً فِى كُلّ نَاحِيَةٍ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ - أَسْلَمَ، وَغِفَارَ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ. وَبَعَثَ إلَى بَنِى سُلَيْمٍ فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَلَقِيَتْهُ بِقُدَيْدٍ وَأَمّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَخَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَسَمَاءَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهِنْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَسْلَمَ يَقُولانِ لَهُمْ: “إنّ رَسُولَ اللّهِ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ”. وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ جُنْدُبًا وَرَافِعًا ابْنَىْ مَكِيثٍ إلَى جُهَيْنَةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إيمَاءَ بْنَ رَحْضَةَ، وَأَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى بَنِى الْحُصَيْنِ إلَى بَنِى غِفَارٍ وَضَمْرَةَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أَشْجَعَ مَعْقِلَ بْنَ سِنَانٍ وَنُعَيْمَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَبَعَثَ إلَى مُزَيْنَةَ بِلالَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِىّ؛ وَبَعَثَ إلَى بَنِى سُلَيْمٍ الْحَجّاجَ بْنَ عِلاطٍ السّلَمِىّ، ثُمّ الْبَهْزِىّ وَعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَبَعَثَ إلَى بَنِى كَعْبٍ بَنِى عَمْرَةَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ وَبُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، فَلَقِيَهُ بَنُو كَعْبٍ بِقُدَيْدٍ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ بَنِى كَعْبٍ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَعَسْكَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِبِئْرِ أَبِى عِنَبَةَ وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ فَكَانَ فِى الْمُهَاجِرِينَ ثَلاثُ رَايَاتٍ – رَايَةٌ مَعَ الزّبَيْرِ، وَرَايَةٌ مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، وَرَايَةٌ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقّاصٍ. وَكَانَ فِى الأَوْسِ بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ رَايَةٌ مَعَ أَبِى نَائِلَةَ، وَفِى بَنِى ظَفَرَ رَايَةٌ مَعَ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ، وَفِى بَنِى حَارِثَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَفِى بَنِى مُعَاوِيَةَ رَايَةٌ مَعَ جَبْرِ ابْنِ عَتِيكٍ، وَفِى بَنِى خَطْمَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَفِى بَنِى أُمَيّةَ رَايَةٌ مَعَ مُبَيّضٍ - قَالَ ابْنُ حَيّوَيْهِ نُبَيْضٌ فِى كِتَابِ أَبِى حَيّةَ: فَتَرَكْته أَنَا عَلَى مَا هُنَاكَ مُبَيّضٌ. وَفِى بَنِى سَاعِدَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِى أَسِيدٍ السّاعِدِىّ، وَفِى بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ رَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِى بَنِى سَلَمَةَ رَايَةٌ مَعَ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ. وَفِى بَنِى مَالِكِ بْنِ النّجّارِ رَايَةٌ مَعَ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، وَفِى بَنِى مَازِنٍ رَايَةٌ مَعَ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ، وَفِى بَنِى دِينَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا [.....]. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سَبْعَمِائَةِ وَمَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ ثَلاثُمِائَةِ فَرَسٍ وَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَرْبَعَةَ آلافٍ مَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ خَمْسَمِائَةِ وَكَانَتْ مُزَيْنَةُ أَلْفًا، فِيهَا مِنْ الْخَيْلِ مِائَةُ فَرَسٍ وَمِائَةُ دِرْعٍ وَفِيهَا ثَلاثَةُ أَلْوِيَةٍ لِوَاءٌ مَعَ النّعْمَانِ بْنِ مُقَرّنٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ عَمْرٍو. وَكَانَتْ أَسْلَمُ أَرْبَعَمِائَةِ فِيهَا ثَلاثُونَ فَرَسًا، وَلِوَاءَانِ يَحْمِلُ أَحَدَهُمَا بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ وَالآخَرُ نَاجِيَةُ بْنُ الأَعْجَمِ. وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ ثَمَانَمِائَةِ مَعَهَا مِنْ الْخَيْلِ خَمْسُونَ فَرَسًا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ لِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ أَبِى زُرْعَةَ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بَدْرٍ. وَكَانَتْ بَنُو كَعْبٍ ابْنِ عَمْرٍو خَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلاثَةُ أَلْوِيَةٍ لِوَاءٌ مَعَ بِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ شُرَيْحٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُ قَوْمُهُ بِقُدَيْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِى عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: لَمْ يَعْقِدْ رَسُولُ اللّهِ ÷ الأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ حَتّى انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ، ثُمّ جَعَلَ رَايَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ: كَانَتْ رَايَةُ أَشْجَعَ مَعَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَمَا حَلّ عُقْدَةً حَتّى انْتَهَى إلَى الصّلْصُلِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَقَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الإِبِلَ وَكَانُوا عَشَرَةَ آلافٍ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمَامَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، فِى مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَيْدَاءِ - قَالَ: فَحَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ خَالِدِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: وَحَدّثَنِى دَاوُد بْنُ خَالِدٍ، عَنْ الْمَقْبُرِىّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى لأَرَى السّحَابَ تَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِى كَعْبٍ”. وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ فَنَادَى مُنَادِيهِ: “مَنْ أَحَبّ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ”، وَصَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: وَحَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ سُمَىّ مَوْلَى أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ رَجُلٍ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ بِالْعَرْجِ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مِنْ الْعَطَشِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالْكَدِيدِ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إنَاءً مِنْ مَاءٍ فِى يَدِهِ حَتّى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ أَفْطَرَ تِلْكَ السّاعَةَ، وَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنّ قَوْمًا صَامُوا، فَقَالَ: “أُولَئِكَ الْعُصَاةُ”، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّكُمْ مُصَبّحُو عَدُوّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ”، قَالَ ذَلِك بِمَرّ الظّهْرَانِ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْعَرْجَ، وَالنّاسُ لا يَدْرُونَ أَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى قُرَيْشٍ، أَوْ إلَى هَوَازِنَ، أَوْ إلَى ثَقِيفٍ فَهُمْ يُحِبّونَ أَنْ يَعْلَمُوا، فَجَلَسَ فِى أَصْحَابِهِ بِالْعَرْجِ وَهُوَ يَتَحَدّثُ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: آتِى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ وَجْهِهِ. فَجَاءَ كَعْبُ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمّ قَالَ: قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ فَلَسْت لِحَاضِرِ إنْ لَمْ تَرَوْهَا فَنَنْتَـــزِعُ الْخِيَــــامَ بِبَطْـــــنِ وَجّ وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا السّيُوفَا قَوَاطِعُهُنّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنْهَا أُلُوفَا وَنَتْرُك دُورَهُــــمْ مِنْهُــمْ خُلُوفَــا أَنْشَدَنِيهَا أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ. فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَجَعَلَ النّاسُ يَقُولُونَ وَاَللّهِ مَا بَيّنَ لَك رَسُولُ اللّهِ شَيْئًا، مَا نَدْرِى بِمَنْ يُبْدَى؛ بِقُرَيْشٍ أَوْ ثَقِيفٍ أَوْ هَوَازِنَ. قَالَ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقُدَيْدٍ قِيلَ: هَلْ لَك فِى بِيضِ النّسَاءِ وَأَدَمِ الإِبِلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ اللّهَ تَعَالَى حَرّمَهَا عَلَىّ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَوَكَزَهُمْ فِى لَبّاتِ الإِبِلِ”. قَالَ: حَدّثَنِى الزّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِى الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النّبِىّ ÷ أَنّهُ قَالَ: “إنّ اللّهَ حَرّمَهُمْ عَلَىّ بِبِرّ الْوَالِدِ وَوَكَزَهُمْ فِى لَبّاتِ الإِبِلِ”. قَالَ: وَحَدّثَنِى قُرّانُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِىّ، قَالَ: كَانَ عُيَيْنَةُ فِى أَهْلِهِ بِنَجْدٍ فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُرِيدُ وَجْهًا، وَقَدْ تَجَمّعَتْ الْعَرَبُ إلَيْهِ فَخَرَجَ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَيَجِدُ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ خَرَجَ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ فَسَلَكَ عَنْ رُكُوبِهِ فَسَبَقَ إلَى الْعَرْجِ، فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْعَرْجِ فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْعَرْجَ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ بَلَغَنِى خُرُوجُك وَمَنْ يَجْتَمِعُ إلَيْك فَأَقْبَلْت سَرِيعًا وَلَمْ أَشْعُرْ فَأَجْمَعُ قَوْمِى فَيَكُونُ لَنَا جَلَبَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَسْت أَرَى هَيْئَةَ حَرْبٍ، لا أَرَى أَلْوِيَةً وَلا رَايَاتٍ فَالْعُمْرَةَ تُرِيدُ؟ فَلا أَرَى هَيْئَةَ الإِحْرَامِ فَأَيْنَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “حَيْثُ يَشَاءُ اللّهُ”. وَذَهَبَ وَسَارَ مَعَهُ وَوَجَدَ الأَقْرَعَ ابْنَ حَابِسٍ بِالسّقْيَا، قَدْ وَافَاهَا فِى عَشَرَةِ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَسَارُوا مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ قُدَيْدًا عَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَجَعَلَ الرّايَاتِ. فَلَمّا رَأَى عُيَيْنَةُ الْقَبَائِلَ تَأْخُذُ الرّايَاتِ وَالأَلْوِيَةَ عَضّ عَلَى أَنَامِلِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلامَ تَنْدَمُ؟ قَالَ: عَلَى قَوْمِى أَلاّ يَكُونُوا نَفَرُوا مَعَ مُحَمّدٍ فَأَيْنَ يُرِيدُ مُحَمّدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: حَيْثُ يَشَاءُ اللّهُ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ مَكّةَ بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: لَمّا سَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْعَرْجِ، فَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ نَظَرَ إلَى كَلْبَةٍ تَهِرّ عَلَى أَوْلادِهَا وَهُمْ حَوْلَهَا يَرْضَعُونَهَا، فَأَمَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ: جُعَيْلُ ابْنُ سُرَاقَةَ أَنْ يَقُومَ حِذَاءَهَا، لا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَلأَوْلادِهَا. قَالَ: حَدّثَنِى مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَمّا رَاحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْعَرْجِ تَقَدّمَتْ أَمَامَهُ جَرِيدَةٌ مِنْ خَيْلٍ طَلِيعَةٍ تَكُونُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمّا كَانَتْ بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ أَتَوْا بِعَيْنٍ مِنْ هَوَازِنَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، رَأَيْنَاهُ حِينَ طَلَعْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَغَيّبَ عَنّا فِى وَهْدَةٍ ثُمّ جَاءَ فَأَوْفَى عَلَى نَشَزٍ فَقَعَدَ عَلَيْهِ فَرَكَضْنَا إلَيْهِ فَأَرَادَ يَهْرُبَ مِنّا، وَإِذَا بَعِيرُهُ قَدْ عَقَلَهُ أَسْفَلَ مِنْ النّشَزِ وَهُوَ يُغَيّبُهُ فَقُلْنَا: مِمّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِى غِفَارٍ. فَقُلْنَا: هُمْ أَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ. فَقُلْنَا: مِنْ أَىّ بَنِى غِفَارٍ أَنْتَ؟ فَعَيِىَ وَلَمْ يُنْفِذْ لَنَا نَسَبًا، فَازْدَدْنَا بِهِ رِيبَةً وَأَسَأْنَا بَهْ الظّنّ فَقُلْنَا: فَأَيْنَ أَهْلُك؟ قَالَ: قَرِيبًا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةٍ. قُلْنَا: عَلَى أَىّ مَاءٍ. وَمَنْ مَعَك هُنَالِكَ؟ فَلَمْ يُنْفِذْ لَنَا شَيْئًا، فَلَمّا رَأَيْنَا مَا خَلَطَ قُلْنَا: لَتُصْدِقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك قَالَ: فَإِنْ صَدَقْتُكُمْ يَنْفَعُنِى ذَلِكَ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّى رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ مِنْ بَنِى نَضْرٍ بَعَثَتْنِى هَوَازِنُ عَيْنًا. وَقَالُوا: ائْتِ الْمَدِينَةَ حَتّى تَلْقَى مُحَمّدًا فَتَسْتَخْبِرَ لَنَا مَا يُرِيدُ فِى أَمْرِ حُلَفَائِهِ أَيَبْعَثُ إلَى قُرَيْشٍ بَعْثًا، أَوْ يَغْزُوهُمْ بِنَفْسِهِ وَلا نَرَاهُ إلاّ يَسْتَغْوِرَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ سَائِرًا أَوْ بَعَثَ بَعْثًا فَسِرْ مَعَهُ حَتّى تَنْتَهِىَ إلَى بَطْنِ سَرِفَ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُنَا أَوّلاً فَيَسْلُكُ فِى بَطْنِ سَرِفَ حَتّى يَخْرُجَ إلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ قُرَيْشًا فَسَيَلْزَمُ الطّرِيقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَأَيْنَ هَوَازِنُ”؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ بِبَقْعَاءَ وَقَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ وَأَجْلَبُوا فِى الْعَرَبِ، وَبَعَثُوا إلَى ثَقِيفٍ فَأَجَابَتْهُمْ فَتَرَكَتْ ثَقِيفًا عَلَى سَاقٍ قَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ وَبَعَثُوا إلَى الْجُرَشِ فِى عَمَلِ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ وَهُمْ سَائِرُونَ إلَى جَمْعِ هَوَازِنَ فَيَكُونُونَ جَمْعًا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَإِلَى مَنْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ”؟ قَالَ: إلَى فَتَاهُمْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَكُلّ هَوَازِنَ قَدْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ مَالِكٌ”؟ قَالَ: قَدْ أَبْطَأَ مِنْ بَنِى عَامِرٍ أَهْلُ الْجِدّ وَالْجَلْدِ. قَالَ: “مَنْ”؟ قَالَ: كَعْبٌ وَكِلابٌ. قَالَ: “مَا فَعَلَتْ هِلالٌ”؟ قَالَ: مَا أَقَلّ مِنْ ضَوَى إلَيْهِ مِنْهُمْ وَقَدْ مَرَرْت بِقَوْمِك أَمْسِ بِمَكّةَ وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَرَأَيْتهمْ سَاخِطِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ وَهُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، مَا أَرَاهُ إلاّ صَدَقَنِى” قَالَ الرّجُلُ: فَلَيَنْفَعَنّى ذَلِكَ؟ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَحْبِسَهُ وَخَافُوا أَنْ يَتَقَدّمَ وَيُحَذّرَ النّاسَ فَلَمّا نَزَلَ الْعَسْكَرُ مَرّ الظّهْرَانِ أَفْلَتَ الرّجُلُ فَطَلَبَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَهُ عِنْدَ الأَرَاكِ، وَقَالَ: “لَوْلا وُلّيت عَهْدًا لَك لَضَرَبْت عُنُقَك”، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَمَرَ بَهْ يُحْبَسُ حَتّى يَدْخُلَ مَكّةَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ وَفَتَحَهَا أُتِىَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَعَاهُ إلَى الإِسْلامِ فَأَسْلَمَ ثُمّ خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَوَازِنَ فَقُتِلَ بَأَوْطَاسٍ. قَالَ: حَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمَادِينَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، وَغَيْرِهِ قَالَ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَخَا رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ الرّضَاعَةِ أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ أَيّامًا، وَكَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللّهِ ÷، وَكَانَ لَهُ تِرْبًا، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَادَاهُ عَدَاوَةً لَمْ يُعَادِ أَحَدٌ قَطّ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ الشّعْبَ، وَهَجَا رَسُولَ اللّهِ وَهَجَا أَصْحَابَهُ وَهَجَا حَسّانَ، فَقَالَ: أَلا مُبَلّغٌ حَسّانَ عَنّى رِسَالَةً أَبُوك أَبُو سُــــوءٍ وَخَالُك مِثْلُــــهُ فَخِلْتُك مِنْ شَرّ الرّجَالِ الصّعَالِكِ فَلَسْت بِخَيْرٍ مِـــنْ أَبِيـك وَخَالِك فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِحَسّانَ: اُهْجُهُ، قَالَ: لا أَفْعَلُ حَتّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللّهِ ÷. فَسَأَلَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “كَيْفَ آذَنُ لَك فِى ابْنِ عَمّى أَخِى أَبِى”؟ قَالَ: أَسُلّك مِنْهُ كَمَا تُسَلّ الشّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ. فَقَالَ حَسّانُ شِعْرًا، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُذَاكِرَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ فَذَاكَرَهُ، قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو سُفْيَانَ عِشْرِينَ سَنَةً عَدُوّا لِرَسُولِ اللّهِ ÷ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُونَهُ وَلا يَتَخَلّفُ عَنْ مَوْضِعٍ تَسِيرُ فِيهِ قُرَيْشٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ ÷ ثُمّ إنّ اللّهَ أَلْقَى فِى قَلْبِهِ الإِسْلامَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْت: مَنْ أَصْحَبُ وَمَعَ مَنْ أَكُونُ؟ قَدْ ضَرَبَ الإِسْلامُ بِجِرَانِهِ فَجِئْت زَوْجَتِى وَوَلَدِى، فَقُلْت: تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَقَدْ أَظَلّ قُدُومُ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: قَدْ آنَ لَك تُبْصِرَ أَنّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ قَدْ تَبِعَتْ مُحَمّدًا وَأَنْتَ مُوضِعٌ فِى عَدَاوَتِهِ وَكُنْت أَوْلَى النّاسِ بِنَصْرِهِ فَقُلْت لِغُلامِى مَذْكُورٍ عَجّلْ بِأَبْعِرَةٍ وَفَرَسٍ. قَالَ: ثُمّ سِرْنَا حَتّى نَزَلْنَا الأَبْوَاءَ، وَقَدْ نَزَلَتْ مُقَدّمَتُهُ الأَبْوَاءَ، فَتَنَكّرْت وَخِفْت أَنْ أُقْتَلَ وَكَانَ قَدْ هَدَرَ دَمِى؛ فَخَرَجْت، وَأَجِدُ ابْنِى جَعْفَرًا عَلَى قَدَمِى نَحْوًا مِنْ مِيلٍ فِى الْغَدَاةِ الّتِى صَبّحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِيهَا الأَبْوَاءَ، فَأَقْبَلَ النّاسُ رَسَلاً رَسَلاً، فَتَنَحّيْت فَرَقًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمّا طَلَعَ مَرْكَبُهُ تَصَدّيْت لَهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَمّا مَلأَ عَيْنَيْهِ مِنّى أَعْرَضَ عَنّى بِوَجْهِهِ إلَى النّاحِيَةِ الأُخْرَى، فَتَحَوّلْت إلَى نَاحِيَةِ وَجْهِهِ الأُخْرَى، وَأَعْرَضَ عَنّى مِرَارًا، فَأَخَذَنِى مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ وَقُلْت: أَنَا مَقْتُولٌ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَيْهِ. وَأَتَذَكّرُ بِرّهُ وَرَحْمَتَهُ وَقَرَابَتِى فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنّى، وَقَدْ كُنْت لا أَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَأَصْحَابَهُ سَيَفْرَحُونَ بِإِسْلامِى فَرَحًا شَدِيدًا؛ لِقَرَابَتِى مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ إعْرَاضَ رَسُولِ اللّهِ عَنّى أَعْرَضُوا عَنّى جَمِيعًا، فَلَقِيَنِى ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ مُعْرِضًا، وَنَظَرْت إلَى عُمَرَ وَيُغْرِى بِى رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَلَزّ بِى رَجُلٌ يَقُولُ: يَا عَدُوّ اللّهِ أَنْتَ الّذِى كُنْت تُؤْذِى رَسُولَ اللّهِ ÷، وَتُؤْذِى أَصْحَابَهُ قَدْ بَلَغْت مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فِى عَدَاوَتِهِ فَرَدَدْت بَعْضَ الرّدّ عَنْ نَفْسِى، فَاسْتَطَالَ عَلِىّ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ حَتّى جَعَلَنِى فِى مِثْلِ الْحَرَجَةِ مِنْ النّاسِ يُسَرّونَ بِمَا يَفْعَلُ بِى. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى عَمّى الْعَبّاسِ، فَقُلْت: يَا عَبّاسُ، قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ سَيَفْرَحُ رَسُولُ اللّهِ بِإِسْلامِى لِقَرَابَتِى وَشَرَفِى، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ رَأَيْت، فَكَلّمَهُ لِيَرْضَى عَنّى قَالَ: لا وَاَللّهِ لا أُكَلّمُهُ كَلِمَةً فِيك أَبَدًا بَعْدَ الّذِى رَأَيْت مِنْهُ إلاّ أَنْ أَرَى وَجْهًا، إنّى أُجِلّ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَأَهَابُهُ. فَقُلْت: يَا عَمّى إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَلَقِيت عَلِيّا، رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ، فَكَلّمْته، فَقَالَ لِى مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت إلَى الْعَبّاسِ فَقُلْت: يَا عَمّ فَكُفّ عَنّى الرّجُلَ الّذِى يَشْتُمُنِى. قَالَ: صِفْهُ لِى، فَقُلْت: هُوَ رَجُلٌ آدَمُ شَدِيدُ الأُدْمَةِ قَصِيرٌ دَحْدَاحٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شَجّةٌ. قَالَ: ذَاكَ نُعْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ النّجّارِىّ. فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا نُعْمَانُ، إنّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنُ عَمّ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَابْنُ أَخِى، وَإِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَاخِطًا فَسَيَرْضَى، فَكُفّ عَنْهُ فَبَعْدَ لأْىٍ مَا كَفّ. وَقَالَ: لا أَعْرِضُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَخَرَجْت فَجَلَسْت عَلَى بَابِ مَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى خَرَجَ إلَى الْجُحْفَةِ، وَهُوَ لا يُكَلّمُنِى وَلا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَجَعَلْت لا يَنْزِلُ مَنْزِلاً إلاّ أَنَا عَلَى بَابِهِ وَمَعِى ابْنِى جَعْفَرٌ قَائِمٌ فَلا يَرَانِى إلاّ أَعْرَضَ عَنّى، فَخَرَجْت عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حَتّى شَهِدْت مَعَهُ فَتْحَ مَكّةَ، وَأَنَا عَلَى حِيلَةٍ تُلازِمُهُ حَتّى هَبَطَ مِنْ أَذَاخِرَ حَتّى نَزَلَ الأَبْطَحَ، فَدَنَوْت مِنْ بَابِ قُبّتِهِ فَنَظَرَ إلَىّ نَظَرًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ذَلِكَ النّظَرِ الأَوّلِ قَدْ رَجَوْت أَنْ يَتَبَسّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ نِسَاءُ بَنِى الْمُطّلِبِ وَدَخَلَتْ مَعَهُنّ زَوْجَتِى فَرَقّقَتْهُ عَلَىّ. وَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ لا أُفَارِقُهُ عَلَى حَالٍ حَتّى خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، فَخَرَجْت مَعَهُ وَقَدْ جَمَعَتْ الْعَرَبُ جَمْعًا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ قَطّ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَمّا لَقِيتهمْ قُلْت: الْيَوْمَ يُرَى أَثَرِى إنْ شَاءَ اللّهُ وَلَمّا لَقِيتهمْ حَمَلُوا الْحَمَلَةَ الّتِى ذَكَرَ اللّهُ ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. وَثَبَتَ رَسُولُ اللّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ الشّهْبَاءِ وَجَرّدَ سَيْفَهُ فَأَقْتَحِمُ عَنْ فَرَسِى وَبِيَدِى السّيْفُ صَلْتًا، قَدْ كُسِرَتْ جَفْنُهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَنّى أُرِيدُ الْمَوْتَ دُونَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَىّ فَأَخَذَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِلِجَامِ الْبَغْلَةِ فَأَخَذْت بِالْجَانِبِ الآخَرِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَذَهَبْت أَكْشِفُ الْمِغْفَرَ فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَخُوك وَابْنُ عَمّك أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ فَارْضَ عَنْهُ أَىْ رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “قَدْ فَعَلْت”، فَغَفَرَ اللّهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا فَأُقَبّلُ رِجْلَهُ فِى الرّكَابِ ثُمّ الْتَفَتَ إلَىّ فَقَالَ: أَخِى لَعَمْرِى، ثُمّ أَمَرَ الْعَبّاسَ فَقَالَ: نَادِ يَا أَصْحَابَ الْبَقَرَةِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلأَنْصَارِ يَا لَلْخَزْرَجِ فَأَجَابُوا: لَبّيْكَ دَاعِىَ اللّهِ وَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَدْ حَطّمُوا الْجُفُونَ وَشَرَعُوا الرّمَاحَ وَخَفَضُوا عَوَالِىَ الأَسِنّةِ وَأَرْقَلُوا إرْقَالَ الْفُحُولِ فَرَأَيْتنِى وَإِنّى لأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ شُرُوعَ رِمَاحِهِمْ حَتّى أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَقَالَ لِى رَسُولُ اللّهِ ÷: “تَقَدّمْ فَضَارِبْ الْقَوْمَ”، فَحَمَلْت حَمَلَةً أَزَلْتهمْ عَنْ مَوْضِعِهِمْ وَتَبِعَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ قُدُمًا فِى نُحُورِ الْقَوْمِ مَا نَالُوا مَا تَقَدّمَ فَمَا قَامَتْ لَهُمْ قَائِمَةٌ حَتّى طَرَدْتهمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ وَتَفَرّقُوا فِى كُلّ وَجْهٍ وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الطّلَبِ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى وَجْهٍ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِى وَجْهٍ، وَبَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الأَشْعَرِىّ إلَى عَسْكَرٍ بَأَوْطَاسٍ فَقُتِلَ وَقَتَلَ أَبُو مُوسَى قَاتِلَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: وَقَدْ سَمِعْت فِى إسْلامِ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَجْهًا آخَرَ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنَا وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بِنِيقِ الْعُقَابِ فَطَلَبْنَا الدّخُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَبَى يُدْخِلَهُمَا عَلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صِهْرُك وَابْنُ عَمّتِك وَابْنُ عَمّك وَأَخُوك مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَدْ جَاءَ اللّهُ بِهِمَا مُسْلِمَيْنِ لا يَكُونَانِ أَشْقَى النّاسِ بِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا حَاجَةَ لِى بِهِمَا؛ أَمّا أَخِى فَالْقَائِلُ لِى بِمَكّةَ مَا قَالَ لَنْ يُؤْمِنَ لِى حَتّى أَرْقَى فِى السّمَاءَ”، وَذَلِك قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: ×أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا هُوَ مِنْ قَوْمِك مَا هُوَ وَقَدْ تَكَلّمَ وَكُلّ قُرَيْشٍ قَدْ تَكَلّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ عَفَوْت عَمّنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ وَابْنُ عَمّك وَقَرَابَتُهُ بِك، وَأَنْتَ أَحَقّ النّاسِ عَفْوًا عَنْ جُرْمِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هُوَ الّذِى هَتَكَ عِرْضِى، فَلا حَاجَةَ لِى بِهِمَا”، فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ: وَمَعَهُ ابْنُهُ وَاَللّهِ لَيَقْبَلَنّى أَوْ لأَخَذْت بِيَدِ ابْنِى هَذَا فَلأَذْهَبَن فِى الأَرْضِ حَتّى أَهْلَكَ عَطَشًا وَجُوعًا، وَأَنْتَ أَحْلَمُ النّاسِ، وَأَكْرَمُ النّاسِ مَعَ رَحِمِى بِك. فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ مَقَالَتُهُ فَرّقَ لَهُ . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُمَيّةَ: إنّمَا جِئْت لأُصَدّقَك، وَلِى مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لِى وَالصّهْرِ بِك. وَجَعَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ تُكَلّمُهُ فِيهِمَا، فَرّقَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا وَدَخَلا، فَأَسْلَمَا وَكَانَا جَمِيعًا حَسَنَى الإِسْلامِ قُتِلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بِالطّائِفِ وَمَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بِالْمَدِينَةِ فِى خِلافَةِ عُمَرَ لَمْ يُغْمَصْ عَلَيْهِ فِى شَيْءٍ وَكَانَ أَهْدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَبِى سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ نِيقِ الْعُقَابِ: “أَنْتَ الّذِى تَقُولُ طَرَدْتنِى كُلّ مُطْرَدٍ؟ بَلْ اللّهُ طَرَدَك كُلّ مُطْرَدٍ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا قَوْلٌ قُلْته بِجَهَالَةٍ وَأَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: وَأَدّعِى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمّدٍ، فَإِنّهُ هَرَبَ وَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ، فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قَالَ: قَيْصَرُ أَنْتَ ابْنُ عَمّ مُحَمّدٍ إنْ كُنْت صَادِقًا، مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ أَنَا ابْنُ عَمّهِ. فَقُلْت: لا أَرَانِى عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ وَقَدْ هَرَبْت مِنْ الإِسْلامِ لا أَعْرِفُ إلاّ بِمُحَمّدٍ فَدَخَلَنِى الإِسْلامُ، وَعَرَفْت أَنّ مَا كُنْت فِيهِ بَاطِلٌ مِنْ الشّرْكِ، وَلَكِنّا كُنّا مَعَ قَوْمٍ أَهْلِ عُقُولٍ بَاسِقَةٍ وَأَرَى فَاضِلَ النّاسِ يَعِيشُ فِى عُقُولِهِمْ وَرَأْيِهِمْ فَسَلَكُوا فَجّا فَسَلَكْنَاهُ. وَلَمّا جَعَلَ أَهْلُ الشّرَفِ وَالسّنّ يَقْتَحِمُونَ عَنْ مُحَمّدٍ وَيَنْصُرُونَ آلِهَتَهُمْ وَيَغْضَبُونَ لآبَائِهِمْ فَاتّبَعْنَاهُمْ. وَلَقِيَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ بِالسّقْيَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَبّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى رَاحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَكَانَ يَنْزِلُ مَعَهُ فِى كُلّ مَنْزِلٍ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ. وَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِى نَزَلَ فِيهَا بِالْجُحْفَةِ رَأَى أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِىّ ÷ وَأَصْحَابَهُ لَمّا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ، خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ كَلْبَةٌ تَهِرّ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْهَا اسْتَلْقَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَإِذَا أَطْبَاؤُهَا تَشْخَبُ لَبَنًا. فَذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ذَهَبَ كَلْبُهُمْ وَأَقْبَلَ دَرّهُمْ سَائِلُوكُمْ بِأَرْحَامِكُمْ وَأَنْتُمْ لاقُونَ بَعْضَهُمْ فَإِنْ لَقِيتُمْ أَبَا سُفْيَانَ فَلا تَقْتُلُوهُ”. وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قُدَيْدًا لَقِيَتْهُ سُلَيْمٌ وَذَلِكَ أَنّهُمْ نَفَرُوا مِنْ بِلادِهِمْ فَلَقَوْهُ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ جَمِيعًا، مَعَ كُلّ رَجُلٍ رُمْحُهُ وَسِلاحُهُ وَقَدِمَ مَعَهُمْ الرّسُولانِ اللّذَانِ كَانَ أَرْسَلَهُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ فَذَكَرَا أَنّهُمْ أَسْرَعُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ حَيْثُ نَزَلا عَلَيْهِمْ وَحَشَدُوا - وَيُقَالُ: إنّهُمْ أَلْفٌ - فَقَالَتْ سُلَيْمٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّك تُقْصِينَا وَتَسْتَغِشّنَا وَنَحْنُ أَخْوَالُك - أُمّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلالِ بْنِ فَالِحِ بْنِ ذَكْوَانَ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ - فَقَدِمْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ حَتّى تَنْظُرَ كَيْفَ بَلاؤُنَا، فَإِنّا صُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللّقَاءِ. فُرْسَانٌ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. قَالَ: وَمَعَهُمْ لِوَاءَانِ وَخَمْسُ رَايَاتٍ وَالرّايَاتُ سُودٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “سِيرُوا” فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَتَهُ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مُقَدّمَةِ النّبِىّ ÷ حِينَ لَقِيَتْهُ بَنُو سُلَيْمٍ بِقُدَيْدٍ حَتّى نَزَلُوا مَرّ الظّهْرَانِ وَبَنُو سُلَيْمٍ مَعَهُ. قَالَ: حَدّثَنِى شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ تِسْعَمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ، وَالْقَنَا وَالدّرُوعِ الظّاهِرَةِ قَدْ طَوَوْا أَلْوِيَتَهُمْ وَرَايَاتِهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ لِوَاءٌ وَلا رَايَةٌ مَعْقُودَةٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ اعْقِدْ لَنَا وَضَعْ رَايَتَنَا حَيْثُ رَأَيْت. فَقَالَ: “يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ مَا فَعَلَ فَتًى كَانَ قَدِمَ مَعَ وَفْدِكُمْ عَلَىّ حَسَنُ الْوَجْهِ، جَيّدُ اللّسَانِ”؟ قَالُوا: تُوُفّىَ حَدِيثًا. قَالَ: حَدّثَنِى عِكْرِمَةُ بْنُ فَرّوخٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ بْنِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السّلَمِىّ قَالَ: قَالَ عَبّاسٌ: لَقِيته وَهُوَ يَسِيرُ حَتّى هَبَطَ مِنْ الْمُشَلّلِ فِى آلَةِ الْحَرْبِ وَالْحَدِيدُ ظَاهِرٌ عَلَيْنَا، وَالْخَيْلُ تُنَازِعُنَا الأَعِنّةَ فَصَفَفْنَا لِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَنَادَى عُيَيْنَةُ مَنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا عُيَيْنَةُ هَذِهِ بَنُو سُلَيْمٍ، قَدْ حَضَرَتْ بِمَا تَرَى مِنْ الْعُدّةِ وَالْعَدَدِ وَالسّلاحِ وَإِنّهُمْ لأَحْلاسُ الْخَيْلِ وَرِجَالُ الْحَرْبِ، وَرُعَاةُ الْحَدَقِ. فَقَالَ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَقْصِرْ أَيّهَا الرّجُلُ وَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ لَنَحْنُ أَفْرَسُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ وَأَطْعَنُ بِالْقَنَا، وَأَضْرَبُ بِالْمَشْرَفِيّةِ مِنْك، وَمِنْ قَوْمِك. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: كَذَبْت وَلَؤُمْت لَنَحْنُ أَوْلَى بِمَا ذَكَرْت مِنْك، قَدْ عَرَفَتْهُ لَنَا الْعَرَبُ قَاطِبَةً، فَأَوْمَأَ إلَيْهِمَا النّبِىّ ÷ بِيَدِهِ حَتّى سَكَتَا، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُرَيْشًا حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَيْهِمْ فَقَدْ اغْتَمّوا وَهُمْ يَخَافُونَ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَرّ الظّهْرَانِ عِشَاءً أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوقِدُوا النّيرَانَ فَأَوْقَدُوا عَشَرَةَ آلافِ نَارٍ فَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ بَعْثَةَ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَتَحَسّبُ الأَخْبَارَ، وَقَالُوا: إنْ لَقِيت مُحَمّدًا فَخُذْ لَنَا مِنْهُ جِوَارًا إلاّ أَنْ تَرَى رِقّةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَآذِنْهُ بِالْحَرْبِ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَلَقِيَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَتْبَعَاهُ فَخَرَجَ مَعَهُمَا، فَلَمّا بَلَغُوا الأَرَاكَ مِنْ مَرّ الظّهْرَانِ رَأَوْا الأَبْنِيَةَ وَالْعَسْكَرَ وَالنّيرَانَ وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ وَرُغَاءَ الإِبِلِ فَأَفْزَعَهُمْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقَالُوا: هَؤُلاءِ بَنُو كَعْبٍ حَاشَتْهَا الْحَرْبُ، فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَؤُلاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِى كَعْبٍ، قَالُوا: فَتَنَجّعَتْ هَوَازِنُ عَلَى أَرْضِنَا وَاَللّهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا إنّ هَذَا الْعَسْكَرَ مِثْلُ حَاجّ النّاسِ، قَالُوا: وَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ ابْنَ الْخَطّابِ. وَقَدْ رَكِبَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ الدّلْدُلَ عَسَى أَنْ يُصِيبَ رَسُولاً إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ مَعَ عَشَرَةِ آلافٍ فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِى سُفْيَانَ فَقَالَ: أَبَا حَنْظَلَةَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا لَبّيْكَ. أَبُو الْفَضْلِ، قَالَ الْعَبّاسُ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا وَرَاءَك؟ قَالَ الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللّهِ فِى عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْلِمْ ثَكِلَتْك أُمّك وَعَشِيرَتُك، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ: أَسْلِمَا، فَإِنّى لَكُمَا جَارٌ حَتّى تَنْتَهُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ فَإِنّى أَخْشَى أَنْ تَقْتَطِعُوا دُونَ النّبِىّ ÷ قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَك. قَالَ: فَخَرَجَ بِهِمْ الْعَبّاسُ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَبُو سُفْيَانَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ قَدْ أَجَرْتهمْ وَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْك. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَدْخِلْهُمْ”، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَمَكَثُوا عِنْدَهُ عَامّةَ اللّيْلِ يَسْتَخْبِرُهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَدَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ، وَقَالَ: “تَشْهَدُونَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّى رَسُولُ اللّهِ”، فَأَمّا حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ فَشَهِدَا، وَأَمّا أَبُو سُفْيَانَ فَشَهِدَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ فَلَمّا قَالَ: “وَأَنّى رَسُولُ اللّهِ” قَالَ: وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ إنّ فِى النّفْسِ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا يَسِيرًا بَعْدُ فَأَرْجِئْهَا، ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ: قَدْ أَجَرْنَاهُمْ اذْهَبْ بِهِمْ إلَى مَنْزِلِك، فَلَمّا أَذّنَ الصّبْحُ أَذّنَ الْعَسْكَرُ كُلّهُمْ فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ أَذَانِهِمْ، وَقَالَ: مَا يَصْنَعُونَ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: فَقُلْت: الصّلاةُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَمْ يُصَلّونَ فِى الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: يُصَلّونَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَثِيرٌ وَاَللّهِ، قَالَ: ثُمّ رَآهُمْ يَبْتَدِرُونَ وُضُوءَ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: مَا رَأَيْت يَا أَبَا الْفَضْلِ مُلْكًا هَكَذَا قَطّ، لا مُلْكَ كِسْرَى، وَلا مُلْكَ بَنِى الأَصْفَرِ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: وَيْحَك، آمِنْ، قَالَ: أَدْخِلْنِى عَلَيْهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ فَأَدْخَلَهُ الْعَبّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ اسْتَنْصَرْت إلَهِى وَاسْتَنْصَرْت إلَهَك، فَلا وَاَللّهِ مَا لَقِيتُك مِنْ مَرّةٍ إلاّ ظَفِرْت عَلَىّ فَلَوْ كَانَ إلَهِى مُحِقّا وَإِلَهُك مُبْطِلاً غَلَبْتُك، فَتَشَهّدَ أَبُو سُفْيَانَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمّدُ جِئْت بِأَوْبَاشِ النّاسِ مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لا يَعْرِفُ إلَى عَشِيرَتِك وَأَصْلِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْتَ أَظْلَمُ وَأَفْجَرُ غَدَرْتُمْ بِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ وَظَاهَرْتُمْ عَلَى بَنِى كَعْبٍ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِى حَرَمِ اللّهِ وَأَمْنِهِ”، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَيّكُمْ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ كُنْت جَعَلْت حِدّتَك وَمَكِيدَتَك بِهَوَازِنَ فَهُمْ أَبْعَدُ رَحِمًا وَأَشَدّ لَك عَدَاوَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى لأَرْجُو مِنْ رَبّى أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ لِى كُلّهُ بِفَتْحِ مَكّةَ، وَإِعْزَازِ الإِسْلامِ بِهَا، وَهَزِيمَةِ هَوَازِنَ وَأَنْ يُغْنِمَنِى اللّهُ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ فَإِنّى رَاغِبٌ إلَى اللّهِ تَعَالَى فِى ذَلِكَ”. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْت يَعْقُوبَ بْنَ عُتْبَةَ يُخْبِرُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ بِمَرّ الظّهْرَانِ، قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ، وَاَللّهِ لَئِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْوَةً إنّهُ لَهَلاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدّهْرِ، قَالَ: فَأَخَذْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ الشّهْبَاءَ فَرَكِبْتهَا، وَقُلْت: أَلْتَمِسُ إنْسَانًا أَبْعَثُهُ إلَى قُرَيْشٍ؛ فَيَلْقَوْنَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً. قَالَ: فَوَاَللّهِ إنّى لَفِى الأَرَاكِ أَبْتَغِى إنْسَانًا إذْ سَمِعْت كَلامًا يَقُولُ: وَاَللّهِ إنْ رَأَيْت كَاللّيْلَةِ مِنْ النّيرَانِ. قَالَ: يَقُولُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: هَذِهِ وَاَللّهِ خُزَاعَةُ حَاشَتْهَا الْحَرْبُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَقَلّ وَأَذَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهُمْ وَعَسْكَرُهُمْ. قَالَ: وَإِذَا بِأَبِى سُفْيَانَ، فَقُلْت: أَبَا حَنْظَلَةَ، فَقَالَ: يَا لَبّيْكَ أَبَا الْفَضْلِ - وَعَرَفَ صَوْتِى - مَا لَك، فِدَاك أَبِى وَأُمّي؟ فَقُلْت: وَيْلَك، هَذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى عَشَرَةِ آلافٍ. فَقَالَ: بِأَبِى وَأُمّى مَا تَأْمُرُنِى، هَلْ مِنْ حِيلَةٍ؟ قُلْت: نَعَمْ تَرْكَبُ عَجُزَ هَذِهِ الْبَغْلَةِ فَأَذْهَبُ بِك إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِنّهُ وَاَللّهِ إنْ ظُفِرَ بِك دُونَ رَسُولِ اللّهِ لَتُقْتَلَن. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَأَنَا وَاَللّهِ أَرَى ذَلِكَ، قَالَ: وَرَجَعَ بُدَيْلٌ وَحَكِيمٌ ثُمّ رَكِبَ خَلْفِى، ثُمّ وَجّهْت بِهِ كُلّمَا مَرَرْت بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْنِى قَالُوا: عَمّ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَلَمّا رَآنِى قَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: الْعَبّاسُ. قَالَ: فَذَهَبَ يَنْظُرُ فَرَأَى أَبَا سُفْيَانَ خَلْفِى، فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ، عَدُوّ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَمْكَنَ مِنْك بِلا عَهْدٍ، وَلا عَقْدٍ، ثُمّ خَرَجَ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ ÷ يَشْتَدّ، وَرَكَضَتْ الْبَغْلَةُ حَتّى اجْتَمَعْنَا جَمِيعًا عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِىّ ÷، قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى النّبِىّ ÷ وَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى إثْرِى، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللّهِ قَدْ أَمْكَنَ اللّهُ مِنْهُ بِلا عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ، فَدَعْنِى أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى قَدْ أَجَرْته قَالَ: ثُمّ الْتَزَمْت رَسُولَ اللّهِ ÷، فَقُلْت: وَاَللّهِ لا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ أَحَدٌ غَيْرِى - أَوْ دُونِى. فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِيهِ، قُلْت: مَهْلاً يَا عُمَرُ فَإِنّهُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عَدِىّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا، وَلَكِنّهُ أَحَدُ بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَهْلاً، يَا أَبَا الْفَضْلِ فَوَاَللّهِ لإِسْلامُكَ كَانَ أَحَبّ إلَىّ مِنْ إسْلامِ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ أَجَرْته لَك فَلِيَبِتْ عِنْدَك حَتّى تَغْدُو بِهِ عَلَيْنَا إذَا أَصْبَحْت”. فَلَمّا أَصْبَحْت غَدَوْت بِهِ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: “وَيْحَك، يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ”؟ قَالَ: بِأَبِى أَنْتَ مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك قَدْ كَانَ يَقَعُ فِى نَفْسِى أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ إلَهٌ لَقَدْ أَغْنَى عَنّى شَيْئًا بَعْدُ، قَالَ: “يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّى رَسُولُ اللّهِ”؟ قَالَ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمّى، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك، أَمّا هَذِهِ فَوَاَللّهِ إنّ فِى النّفْسِ مِنْهَا لَشَيْئًا بَعْدُ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: فَقُلْت: وَيْحَك، اشْهَدْ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَاشْهَدْ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَبْلُ وَاَللّهِ أَنْ تُقْتَلَ فَقَالَ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّك عَرَفْت أَبَا سُفْيَانَ وَحُبّهُ الشّرَفَ وَالْفَخْرَ اجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: “نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلْعَبّاسِ بَعْدَ مَا خَرَجَ: “احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِى إلَى خَطْمِ الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللّهِ فَيَرَاهَا”. قَالَ الْعَبّاسُ: فَعَدَلْت بِهِ فِى مَضِيقِ الْوَادِى إلَى خَطْمِ الْجَبَلِ، فَلَمّا حَبَسْت أَبَا سُفْيَانَ قَالَ: غَدْرًا بَنِى هَاشِمٍ؟ فَقَالَ الْعَبّاسُ: إنّ أَهْلَ النّبُوّةِ لا يَغْدِرُونَ وَلَكِنْ لِى إلَيْك حَاجَةٌ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَهَلاّ بَدَأْت بِهَا أَوّلاً، فَقُلْت: إنّ لِى إلَيْك حَاجَةً فَكَانَ أَفْرَخَ لِرَوْعِى، قَالَ الْعَبّاسُ: لَمْ أَكُنْ أَرَاك تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَعَبّا رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى قَادَتِهَا وَالْكَتَائِبُ عَلَى رَايَاتِهَا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ رَسُولَ اللّهِ ÷ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِى بَنِى سُلَيْمٍ، وَهُمْ أَلْفٌ فِيهِمْ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِىّ، وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا الْحَجّاجُ ابْنُ عِلاطٍ، قَال َ أَبُو سُفْيَانَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: الْغُلامُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمّا حَاذَى خَالِدٌ الْعَبّاسَ وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو سُفْيَانَ، كَبّرَ ثَلاثًا، ثُمّ مَضَوْا. ثُمّ مَرّ عَلَى إثْرِهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ فِى خَمْسِمِائَةٍ - مِنْهُمْ مُهَاجِرُونَ وَأَفْنَاءُ الْعَرَبِ - وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فَلَمّا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ كَبّرَ ثَلاثًا وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. قَالَ: ابْنُ أُخْتِك؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمَرّ بَنُو غِفَارٍ فِى ثَلاثِمِائَةٍ يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ أَبُو ذَرّ الْغِفَارِىّ - وَيُقَالُ: إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ - فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلاثًا. قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: بَنُو غِفَارٍ. قَالَ: مَالِى وَلِبَنِى غِفَارٍ ثُمّ مَضَتْ أَسْلَمُ فِى أَرْبَعِمِائَةٍ فِيهَا لِوَاءَانِ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدَهُمَا بُرَيْدَةُ بْنُ الْحَصِيبِ وَالآخَرُ نَاجِيَةُ بْنُ الأَعْجَمِ فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلاثًا. قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: أَسْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَالِى وَلأَسْلَمَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مَرّةٌ قَطّ. قَالَ الْعَبّاسُ: هُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ دَخَلُوا فِى الإِسْلامِ. ثُمّ مَرّتْ بَنُو عَمْرِو بْنُ كَعْبٍ فِى خَمْسِمِائَةٍ يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ. قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: بَنُو كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ: نَعَمْ هَؤُلاءِ حُلَفَاءُ مُحَمّدٍ فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلاثًا. ثُمّ مَرّتْ مُزَيْنَةُ فِى أَلْفٍ فِيهَا ثَلاثَةُ أَلْوِيَةٍ وَفِيهَا مِائَةُ فَرَسٍ يَحْمِلُ أَلْوِيَتَهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقَرّنٍ، وَبِلالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو؛ فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: مُزَيْنَةُ، قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَالِى وَلِمُزَيْنَةَ قَدْ جَاءَتْنِى تُقَعْقِعُ مِنْ شَوَاهِقِهَا. ثُمّ مَرّتْ جُهَيْنَةُ فِى ثَمَانِمِائَةٍ مَعَ قَادَتِهَا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ لِوَاءٌ مَعَ أَبِى رَوْعَةَ مَعْبَدَ بْنِ خَالِدٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِاللّهِ بْنِ بَدْرٍ، قَالَ: فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلاثًا. ثُمّ مَرّتْ كِنَانَةُ، بَنُو لَيْثٍ، وَضَمْرَةُ وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ فِى مِائَتَيْنِ يَحْمِلُ لِوَاءَهُمْ أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِىّ، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلاثًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: بَنُو بَكْرٍ، قَالَ: نَعَمْ أَهْلُ شُؤْمٍ وَاَللّهِ الّذِينَ غَزَانَا مُحَمّدٌ بِسَبَبِهِمْ أَمَا وَاَللّهِ مَا شُووِرْت فِيهِ وَلا عَلِمْته، وَلَقَدْ كُنْت لَهُ كَارِهًا حَيْثُ بَلَغَنِى، وَلَكِنّهُ أَمْرٌ حُمّ قَالَ الْعَبّاسُ: قَدْ خَارَ اللّهُ لَك فِى غَزْوِ مُحَمّدٍ ÷ وَدَخَلْتُمْ فِى الإِسْلامِ كَافّةً. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَبِى عَمْرَةَ بْنِ حَمَاسٍ قَالَ مَرّتْ بَنُو لَيْثٍ وَحْدَهَا، وَهُمْ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ يَحْمِلُ لِوَاءَهَا الصّعْبُ بْنُ جَثّامَةَ، فَلَمّا مَرّ كَبّرُوا ثَلاثًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: بَنُو لَيْثٍ. ثُمّ مَرّتْ أَشْجَعُ - وَهُمْ آخِرُ مَنْ مَرّ وَهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ مَعَهُمْ لِوَاءَانِ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَلِوَاءٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَؤُلاءِ كَانُوا أَشَدّ الْعَرَبِ عَلَى مُحَمّدٍ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: أَدْخَلَ اللّهُ الإِسْلامَ فِى قُلُوبِهِمْ فَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَسَكَتَ، ثُمّ قَالَ: مَا مَضَى بَعْدُ مُحَمّدٌ، قَالَ الْعَبّاسُ: لَمْ يَمْضِ بَعْدُ لَوْ رَأَيْت الْكَتِيبَةَ الّتِى فِيهَا مُحَمّدٌ ÷ رَأَيْت الْحَدِيدَ وَالْخَيْلَ وَالرّجَالَ وَمَا لَيْسَ لأَحَدِ بِهِ طَاقَةٌ قَالَ: أَظُنّ وَاَللّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَهُ بِهَؤُلاءِ طَاقَةٌ؟ فَلَمّا طَلَعَتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ الْخَضْرَاءُ طَلَعَ سَوَادٌ وَغَبَرَةٌ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، وَجَعَلَ النّاسُ يَمُرّونَ كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ: مَا مَرّ مُحَمّدٌ، فَيَقُولُ الْعَبّاسُ: لا، حَتّى مَرّ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ بَيْنَ أَبِى بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَهُوَ يُحَدّثُهُمَا، قَالَ الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللّهِ فِى كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فِيهَا الرّايَاتُ وَالأَلْوِيَةُ مَعَ كُلّ بَطْنٍ مِنْ الأَنْصَارِ رَايَةٌ وَلِوَاءٌ فِى الْحَدِيدِ لا يُرَى مِنْهُمْ إلاّ الْحَدَقُ وَلِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ، رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فِيهَا زَجَلٌ - وَعَلَيْهِ الْحَدِيدُ - بِصَوْتِ عَالٍ وَهُوَ يُزْعِجُهَا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ مَنْ هَذَا الْمُتَكَلّمُ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، قَالَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ بَنِى عَدِىّ بَعْدُ وَاَللّهِ قِلّةٍ وَذِلّةٍ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ إنّ اللّهَ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، وَإِنّ عُمَرَ مِمّنْ رَفَعَهُ الإِسْلامُ، وَيُقَالُ: كَانَ فِى الْكَتِيبَةِ أَلْفُ دَارِعٍ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ رَايَتَهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُوَ أَمَامَ الْكَتِيبَةِ، فَلَمّا مَرّ سَعْدٌ بِرَايَةِ النّبِىّ ÷ نَادَى: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى إذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أُمِرْت بِقَتْلِ قَوْمِك؟ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرّ بِنَا قَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا، وَإِنّى أَنْشُدُك اللّهَ فِى قَوْمِك، فَأَنْتَ أَبَرّ النّاسِ وَأَرْحَمُ النّاسِ وَأَوْصَلُ النّاس. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِى قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ الْيَوْمَ أَعَزّ اللّهُ فِيهِ قُرَيْشًا”، قَالَ: وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى سَعْدٍ فَعَزَلَهُ وَجَعَلَ اللّوَاءَ إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ سَعْدٍ حِينَ صَارَ لابْنِهِ، فَأَبَى سَعْدٌ أَنْ يُسَلّمَ اللّوَاءَ إلاّ بِأَمَارَةِ مِنْ النّبِىّ ÷ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِعِمَامَتِهِ فَعَرَفَهَا سَعْدٌ فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ أَهْلِهِ قَالُوا: دَخَلَ وَاَللّهِ سَعْدٌ بِلِوَائِهِ حَتّى غَرَزَهُ بِالْحَجُونِ. وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِىّ: وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَمَرَ عَلِيّا، رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَأَخَذَ اللّوَاءَ فَذَهَبَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، بِهَا حَتّى دَخَلَ بِهَا مَكّةَ فَغَرَزَهَا عِنْدَ الرّكْنِ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ قَطّ، وَلا خَبّرَنِيهِ مُخَبّرٌ سُبْحَانَ اللّهِ مَا لأَحَدِ بِهَذِهِ طَاقَةٌ وَلا يَدَانِ، ثُمّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا، قَالَ: قُلْت: وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ لَيْسَ بِمُلْكِ وَلَكِنّهَا نُبُوّةٌ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: قَالَ لَهُ الْعَبّاسُ: فَانْجُ وَيْحَك فَأَدْرِكْ قَوْمَك قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَتَقَدّمَ النّاسُ كُلّهُمْ حَتّى دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ حَتّى انْتَهَى إلَى هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ، فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: هَذَا مُحَمّدٌ فِى عَشَرَةِ آلافٍ عَلَيْهِمْ الْحَدِيدُ وَقَدْ جَعَلَ لِى: مَنْ دَخَلَ دَارِى فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ طَرَحَ السّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، قَالَتْ: قَبّحَك اللّهُ رَسُولَ قَوْمٍ قَالَ: وَجَعَلَ يَصْرُخُ بِمَكّةَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَيْحَكُمْ إنّهُ قَدْ جَاءَ مَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ هَذَا مُحَمّدٌ فِى عَشَرَةِ آلافٍ عَلَيْهِمْ الْحَدِيدُ فَأَسْلِمُوا قَالُوا: قَبّحَك اللّهُ وَافِدَ قَوْمٍ وَجَعَلَتْ هِنْدُ تَقُولُ: اُقْتُلُوا وَافِدَكُمْ هَذَا، قَبّحَك اللّهُ وَافِدَ قَوْمٍ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ لا تَغُرّنكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ رَأَيْت مَا لَمْ تَرَوْا رَأَيْت الرّجَالَ وَالْكُرَاعَ وَالسّلاحَ فَلا لأَحَدِ بِهَذَا طَاقَةٌ، قَالُوا: وَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إلَى ذِى طُوًى، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى تَلاحَقَ النّاسُ. وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ دَعَوْا إلَى قِتَالِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَضَوَى إلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِى بَكْرٍ وَهُذَيْلٍ، وَتَلَبّسُوا السّلاحَ وَيُقْسِمُونَ بِاَللّهِ لا يَدْخُلُهَا مُحَمّدٌ عَنْوَةً أَبَدًا. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى الدّيلِ يُقَالُ لَهُ: حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الدّيلِىّ، لَمّا سَمِعَ بِرَسُولِ اللّهِ جَلَسَ يُصْلِحُ سِلاحَهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَنْ تُعِدّ هَذَا؟ قَالَ: لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ - فَإِنّى أَرْجُو أَنْ أَخْدُمَك مِنْهُمْ خَادِمًا فَإِنّك إلَيْهِ مُحْتَاجَةٌ، قَالَتْ: وَيْحَك، لا تَفْعَلْ وَلا تُقَاتِلْ مُحَمّدًا وَاَللّهِ لَيَضِلّن هَذَا عَنْك لَوْ رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ: سَتَرَيْنَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَبّادِ بْنِ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءُ، وَلِوَاؤُهُ أَسْوَدُ، حَتّى وَقَفَ بِذِى طُوًى وَتَوَسّطَ النّاسَ، وَإِنّ عُثْنُونَهُ لَيَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ تَعَالَى حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ فَتْحِ اللّهِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمّ قَالَ: “الْعَيْشُ عَيْشُ الآخِرَةُ”، قَالَ: وَجَعَلَتْ الْخَيْلُ تَمْعَجُ بِذِى طُوًى فِى كُلّ وَجْهٍ ثُمّ ثَابَتْ وَسَكَنَتْ حَيْثُ تَوَسّطَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَتْ: وَصَعِدَ أَبُو قُحَافَةَ يَوْمَئِذٍ بِصُغْرَى بَنَاتِهِ قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِى قُحَافَةَ تَقُودُهُ حَتّى ظَهَرَتْ بِهِ إلَى أَبِى قُبَيْسٍ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَلَمّا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى أَبِى قُبَيْسٍ، قَالَ: يَا بُنَيّةُ مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلاً يَسْعَى بَيْنَ ذَلِكَ السّوَادِ مُقْبِلاً وَمُدْبِرًا، قَالَ: ذَلِكَ الْوَازِعُ يَا بُنَيّةُ اُنْظُرِى مَا تَرَيْنَ، قَالَتْ: تَفَرّقَ السّوَادُ. قَالَ: قَدْ تَفَرّقَتْ الْجُيُوشُ الْبَيْتَ الْبَيْتَ، قَالَتْ: فَنَزَلْت بِهِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ الْجَارِيَةُ تَرْعَبُ لِمَا تَرَى، فَيَقُولُ: يَا بُنَيّةُ لا تَخَافِى فَوَاَللّهِ إنّ أَخَاك عَتِيقًا لآثُرُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ عِنْدَ مُحَمّدٍ، قَالَ: وَعَلَيْهَا طَوْقٌ مِنْ فِضّةٍ فَاخْتَلَسَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ، قَالُوا: فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: أَنْشُدُ بِاَللّهِ طَوْقَ أُخْتِى ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمّ قَالَ: “يَا أُخَيّةُ احْتَسِبِى طَوْقَك، فَإِنّ الأَمَانَةَ فِى النّاسِ قَلِيلٌ”. قَالُوا: ثُمّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: “كَيْفَ قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ”؟ فَقَالَ: عَدِمْنَا خَيْلَنَــا إنْ لَـــمْ تَرَوْهَـــــا تُثِيـــرُ النّقْــــعَ مِنْ كَتِفَىْ كَـــدَاءِ ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كُدًى، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ اللّيطِ، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ، وَالرّايَةُ مَعَ ابْنِهِ قَيْسٍ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَدَخَلَ مِنْ أَذَاخِرَ. وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ الْقِتَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ سِتّةِ نَفَرٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ، وَهَبّارِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ، وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ اللّيْثِىّ، وَالْحُوَيْرِثِ بْنِ نُقَيْذٍ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ هِلالِ بْنِ خَطَلٍ الأَدْرَمِىّ، وَهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَارَةَ مَوْلاةَ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، وَقَيْنَتَيْنِ لأَبِى خَطَلٍ قُرَيْنَا وَقُرَيْبَةَ وَيُقَالُ: فَرْتَنَا وَأَرْنَبَةَ. فَكُلّ الْجُنُودِ دَخَلَ فَلَمْ يَلْقَ جَمْعًا، فَلَمّا دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَجَدَ جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا قَدْ جَمَعُوا لَهُ، فِيهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَمَنَعُوهُ الدّخُولَ وَشَهَرُوا السّلاحَ وَرَمَوْا بِالنّبْلِ وَقَالُوا: لا تَدْخُلُهَا عَنْوَةً أَبَدًا فَصَاحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِى أَصْحَابِهِ وَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَرْبَعَةً مِنْ هُذَيْلٍ، وَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ الانْهِزَامِ حَتّى قُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ وَهُمْ مُوَلّونَ فِى كُلّ وَجْهٍ، وَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَاتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَصِيحَانِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلامَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؟ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ وَضَعَ السّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، فَجَعَلَ النّاسُ يَقْتَحِمُونَ الدّورَ وَيُغَلّقُونَ عَلَيْهِمْ وَيَطْرَحُونَ السّلاحَ فِى الطّرُقِ حَتّى يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَلَمّا ظَهَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى ثَنِيّةِ أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى الْبَارِقَةِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْبَارِقَةُ. أَلَمْ أَنْهَ عَنْ الْقِتَالِ؟ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ÷ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قُوتِلَ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتَلْ مَا قَاتَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَضَى اللّهُ خَيْرًا”، قَالَ: وَجَعَلَ يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ. وَهُوَ يُقَاتِلُ خَارِجَةَ ابْنَ خُوَيْلِدٍ الْكَعْبِىّ أَنْشَدَنِيهَا عَنْ أَبِيهِ: إذَا مَا رَسُولُ اللّهِ فِينَا رَأَيْتنَا إذَا مَا ارْتَدَيْنَا الْفَارِسِيّةَ فَوْقَهَا وَإِنّ مُحَمّـــدًا لَهَــــا نَاصِـــــــرٌ كَلُجّةِ بَحْرٍ نَالَ فِيهَا سَرِيرُهَا رُدَيْنِيّةٌ يَهْدِى الأَصَمّ خَرِيرُهَا عَــــزّتْ وَعَــــــزّ نَصِيرُهَــــــا وَأَقْبَلَ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ مَكّةَ، مُدَجّجًا فِى الْحَدِيدِ عَلَى فَرَسٍ ذَنُوبٍ بِيَدِهِ قَنَاةٌ. وَبَنَاتُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدْ ذُكِرَ لَهُنّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ دَخَلَ فَخَرَجْنَ قَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ يَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ وُجُوهَ الْخَيْلِ فَضَرَبَهُنّ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ أَعْلَى مَكّةَ، فَقَالَ لَهُنّ: أَمَا وَاَللّهِ لا يَدْخُلُهَا حَتّى تَرَيْنَ ضَرْبًا كَأَفْوَاهِ الْمَزَادِ، ثُمّ خَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْخَنْدَمَةِ فَرَأَى خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى الْقِتَالَ وَدَخَلَهُ الرّعْبُ حَتّى مَا يَسْتَمْسِكُ مِنْ الرّعْدَةِ، حَتّى انْتَهَى إلَى الْكَعْبَةِ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَطَرَحَ سِلاحَهُ فَأَتَى الْبَيْتَ فَدَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كَعْبٍ دِرْعَهُ وَصَفَفَهُ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ وَسَيْفَهُ وَأَدْرَكَ فَرَسَهُ غَائِرًا فَأَدْرَكَهُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَلَحِقَ النّبِىّ ÷ بِالْحَجُونِ، قَالُوا: وَأَقْبَلَ حِمَاسُ بْنُ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا حَتّى أَتَى بَيْتَهُ فَدَقّهُ فَفَتَحَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ فَدَخَلَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رُوحُهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ الْخَادِمُ الّذِى وَعَدْتنِي؟ مَا زِلْت مُنْتَظِرَتُك مُنْذُ الْيَوْمِ تُسَخّرُ بِهِ، قَالَ: دَعِى عَنْك، أَغْلِقِى بَابِى فَإِنّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، قَالَتْ: وَيْحَك أَلَمْ أَنْهَك عَنْ قِتَالِ مُحَمّدٍ؟ وَقُلْت لَك: مَا رَأَيْته يُقَاتِلُكُمْ مِنْ مَرّةٍ إلاّ ظَهَرَ عَلَيْكُمْ، وَمَا بَابُنَا؟ قَالَ: إنّهُ لا يُفْتَحُ عَلَى أَحَدٍ بَابُهُ، ثُمّ قَالَ - أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِى الزّنَادِ: وَأَنْتَ لَوْ شَهِدْتنَا بِالْخَنْدَمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ كَالْعَجُوزِ الْمُؤْتِمَهْ وَضَرَبَتْنَــــا بِالسّيُـــوفِ الْمِسْلِمَهْ إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرَمَهْ

لَمْ تَنْطِقِى فِى اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ

لَهُـــمْ زَئِيرٌ خَلْفَنـَــا وَغَمْغَمَـــــهْ قَالَ: وَأَقْبَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى انْتَهَى بِهِمْ إلَى الْحَجُونِ، فَغَرّزَ الرّايَةَ عِنْدَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلاّ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَخْطَآ طَرِيقَهُ فَسَلَكَا غَيْرَهَا فَقُتِلا؛ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِىّ، فَقَامَ عَلَيْهِ خَالِدٌ الأَشْقَرُ، وَهُوَ جَدّ حِزَامِ بْنِ خَالِدٍ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ الّذِى قَتَلَ خَالِدًا ابْنُ أَبِى الْجِذْعِ الْجُمَحِيّ. قَالَ: فَحَدّثَنِى قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ بَشِيرٍ مَوْلَى الْمَازِنِيّينَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: كُنْت مِمّنْ لَزِمَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَدَخَلْت مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَذَاخِرَ، فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى بُيُوتِ مَكّةَ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ قُبّتِهِ، فَقَالَ: “هَذَا مَنْزِلُنَا يَا جَابِرُ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ عَلَيْنَا قُرَيْشٌ فِى كُفْرِهَا”. قَالَ جَابِرٌ: فَذَكَرْت حَدِيثًا كُنْت أَسْمَعُهُ مِنْهُ ÷ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ: “مَنْزِلُنَا غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ إذَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْنَا مَكّةَ فِى الْخَيْفِ حِينَ تَقَاسَمُوا عَلَىّ الْكُفْر”، وَكُنّا بِالأَبْطَحِ وِجَاهَ شِعْبِ أَبِى طَالِبٍ حَيْثُ حُصِرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَبَنُو هَاشِمٍ ثَلاثَ سِنِينَ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو رَافِعٍ قَدْ ضَرَبَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ قُبّةً بِالْحَجُونِ مِنْ أَدَمٍ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى انْتَهَى إلَى الْقُبّةِ وَمَعَهُ أُمّ سَلَمَة مَيْمُونَةُ. قَالَ: حَدّثَنِى مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنّبِىّ ÷: أَلا تَنْزِلُ مَنْزِلَك مِنْ الشّعْبِ؟ قَالَ: “فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عُقَيْلٌ مَنْزِلاً”؟ كَانَ عُقَيْلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَمَنْزِلَ إخْوَتِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ بِمَكّةَ. فَقِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷: فَانْزِلْ فِى بَعْضِ بُيُوتِ مَكّةَ فِى غَيْرِ مَنَازِلِك فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَ: “لا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ”. فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا، وَكَانَ يَأْتِى إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ. قَالَ: وَحَدّثَنَا ابْنُ خَدِيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ مَكّةَ، فَاضْطَرَبَ بِالأَبْطَحِ فِى عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، وَعَامَ الْفَتْحِ وَفِى حَجّتِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ فِى الْفَتْحِ وَيَأْتِى لِكُلّ صَلاةٍ، قَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ تَحْتَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِى وَهْبٍ الْمَخْزُومِىّ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ عَلَيْهَا حَمَوَانِ لَهَا - عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِىّ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ - فَاسْتَجَارَا بِهَا وَقَالا: نَحْنُ فِى جِوَارِك، فَقَالَتْ: نَعَمْ أَنْتُمَا فِى جِوَارِى. قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ: فَهُمَا عِنْدِى إذْ دَخَلَ عَلِىّ فَارِسًا، مُدَجّجًا فِى الْحَدِيدِ وَلا أَعْرِفُهُ فَقُلْت لَهُ: أَنَا بِنْتُ عَمّ رَسُولِ اللّهِ ÷، قَالَتْ: فَكَفّ عَنّى وَأَسْفَرَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَقُلْت: أَخِى فَاعْتَنَقْته وَسَلّمْت عَلَيْهِ، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا فَشَهَرَ السّيْفَ عَلَيْهِمَا، قُلْت: أَخِى مِنْ بَيْنِ النّاسِ يَصْنَعُ بِى هَذَا، قَالَتْ: وَأَلْقَيْت عَلَيْهِمَا ثَوْبًا، وَقَالَ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ وَحُلْت دُونَهُمَا، فَقُلْت: وَاَللّهِ لَتَبْدَأَن بِى قَبْلَهُمَا، قَالَتْ: فَخَرَجَ وَلَمْ يَكَدْ فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَيْتًا، وَقُلْت: لا تَخَافَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِىّ، عَنْ أَبِى مُرّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ، عَنْ أُمّ هَانِئٍ، قَالَتْ: فَذَهَبْت إلَى خِبَاءِ رَسُولِ اللّهِ ÷ بِالْبَطْحَاءِ فَلَمْ أَجِدْهُ وَوَجَدْت فِيهِ فَاطِمَةَ فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّى عَلِيّ؟ أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِى مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا قَالَتْ: فَكَانَتْ أَشَدّ عَلَىّ مِنْ زَوْجِهَا، وَقَالَتْ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَتْ: إلَى أَنْ طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَعَلَيْهِ رَهْجَةُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: “مَرْحَبًا بِفَاخِتَةَ أُمّ هَانِئٍ” وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّى عَلِيّ؟ مَا كِدْت أَنْفَلِتُ مِنْهُ أَجَرْت حَمْوَيْنِ لِى مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا كَانَ ذَاكَ قَدْ أَمّنّا مَنْ أَمّنْت، وَأَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت”، ثُمّ أَمَرَ فَاطِمَةَ فَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلاً فَاغْتَسَلَ ثُمّ صَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُلْتَحِفًا بِهِ وَذَلِكَ ضُحًى فِى فَتْحِ مَكّةَ. قَالُوا: قَالَتْ: فَرَجَعْت إلَيْهِمَا فَأَخْبَرْتهمَا وَقُلْت لَهُمَا: إنْ شِئْتُمَا فَأَقِيمَا وَإِنْ شِئْتُمَا فَارْجِعَا إلَى مَنَازِلِكُمَا. قَالَتْ: فَأَقَامَا عِنْدِى يَوْمَيْنِ فِى مَنْزِلِى، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى مَنَازِلِهِمَا. قَالَتْ: فَكُنْت أَكُونُ مَعَ النّبِىّ ÷ فِى خِبَائِهِ بِالأَبْطَحِ حَتّى خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَتْ: فَأَتَى آتٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ ابْنِ أَبِى رَبِيعَةَ جَالِسَانِ فِى نَادِيهِمَا مُتَفَضّلانِ فِى الْمُلاءِ الْمُزَعْفَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا سَبِيلَ إلَيْهِمَا، قَدْ أَمّنّاهُمَا”. قَالَ: وَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَنْزِلِهِ سَاعَةً مِنْ النّهَارِ وَاطْمَأَنّ وَاغْتَسَلَ ثُمّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَأُدْنِيَتْ إلَى بَابِ قُبّتِهِ وَدَعَا لِلُبْسِ السّلاحِ وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدْ صَفّ لَهُ النّاسُ فَرَكِبَ بِرَاحِلَتِهِ وَالْخَيْلُ تَمْعَجُ بَيْنَ الْخَنْدَمَةِ إلَى الْحَجُونِ: وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبُو بَكْرٍ ÷ إلَى جَنْبِهِ يَسِيرُ يُحَادِثُهُ فَمَرّ بِبَنَاتِ أَبِى أُحَيْحَةَ بِالْبَطْحَاءِ حِذَاءَ مَنْزِلِ أَبِى أُحَيْحَةَ وَقَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أَبِى بَكْرٍ فَتَبَسّمَ، وَذَكَرَ بَيْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: تَظِلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّـــــــــــــرَاتٍ يُلَطّمُهُــــنّ بِالْخُمُــــرِ النّسَــــاءُ وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْكَعْبَةِ فَرَآهَا، وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ تَقَدّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَاسْتَلَمَ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ، وَكَبّرَ فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ فَرَجَعُوا التّكْبِيرَ حَتّى ارْتَجّتْ مَكّةُ تَكْبِيرًا حَتّى جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُشِيرُ إلَيْهِمْ اُسْكُتُوا وَالْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْجِبَالِ يَنْظُرُونَ، ثُمّ طَافَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ آخِذٌ بِزِمَامِهَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُمِائَةِ صَنَمٍ وَسِتّونَ صَنَمًا مُرَصّصَةٌ بِالرّصَاصِ، وَكَانَ هُبَلُ أَعْظَمُهَا، وَهُوَ وِجَاهَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَابِهَا، وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ حَيْثُ يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ الذّبَائِحَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كُلّمَا مَرّ بِصَنَمِ مِنْهَا يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِى يَدِهِ وَيَقُولُ: “جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا فَيَقَعُ الصّنَمُ لِوَجْهِهِ”. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُشِيرَ بِالْقَضِيبِ إلَى الصّنَمِ فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ فَطَافَ رَسُولُ اللّهِ ÷. سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ الأَسْوَدَ بِمِحْجَنِهِ فِى كُلّ طَوَافٍ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ سَبْعِهِ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَجَاءَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَضْلَةَ فَأَخْرَجَ رَاحِلَتَهُ، ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَقَامِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لاصِقٌ بِالْكَعْبَةِ وَالدّرْعُ عَلَيْهِ وَالْمِغْفَرُ وَعِمَامَتُهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى زَمْزَمَ فَاطّلَعَ فِيهَا، وَقَالَ: “لَوْلا أَنْ يَغْلِبَ بَنُو عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَنَزَعْت مِنْهَا دَلْوًا”. فَنَزَعَ لَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ، وَيُقَالُ: الّذِى نَزَعَ الدّلْوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأَمَرَ بِهُبَلَ فَكُسِرَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ لأَبِى سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ قَدْ كُسِرَ هُبَلُ أَمَا إنّك قَدْ كُنْت مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى غُرُورٍ حِينَ تَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ أَنْعَمَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: دَعْ هَذَا عَنْك يَا ابْنَ الْعَوّامِ، فَقَدْ أَرَى لَوْ كَانَ مَعَ إلَهِ مُحَمّدٍ غَيْرُهُ لَكَانَ غَيْرَ مَا كَانَ. قَالُوا: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنْ الْمَسْجِدِ وَالنّاسُ حَوْلَهُ ثُمّ أَرْسَل بِلالاً إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ يَأْتِيه بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ بِلالٌ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِىَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، قَالَ عُثْمَانُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى أُمّهِ وَهِىَ بِنْتُ شَيْبَةَ، وَرَجَعَ بِلالٌ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَالَ: نَعَمْ، ثُمّ جَلَسَ بِلالٌ مَعَ النّاسِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لأُمّهِ، وَالْمِفْتَاحُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَهَا: يَا أُمّهُ أَعْطِنِى الْمِفْتَاحَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ أَرْسَلَ إلَىّ وَأَمَرَنِى أَنْ آتِىَ بِهِ إلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمّهُ: أُعِيذُك بِاَللّهِ أَنْ تَكُونَ الّذِى تَذْهَبُ مَأْثُرَةُ قَوْمِهِ عَلَى يَدَيْهِ، قَالَ: فَوَاَللّهِ لَتَدْفَعَنهُ إلَىّ أَوْ لَيَأْتِيَنك غَيْرِى فَيَأْخُذُهُ مِنْك، فَأَدْخَلَتْهُ فِى حُجْزَتِهَا وَقَالَتْ: أَىّ رَجُلٍ يُدْخِلُ يَدَهُ هَاهُنَا؟ فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يُكَلّمُهَا إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ فِى الدّارِ، وَعُمَرُ رَافِعٌ صَوْتَهُ حِينَ رَأَى إبْطَاءَ عُثْمَانَ، يَا عُثْمَانُ اُخْرُجْ إلَىّ، فَقَالَتْ أُمّهُ: يَا بُنَىّ خُذْ الْمِفْتَاحَ فَأَنْ تَأْخُذَهُ أَنْتَ أَحَبّ إلَىّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ تَيْمٌ وَعَدِىّ، قَالَ: فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَنَاوَلَهُ إيّاهُ فَلَمّا نَاوَلَهُ بَسَطَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَدَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِىّ اللّهِ بِأَبِى أَنْتَ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسّقَايَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ فِيهِ وَلا أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ مِنْهُ” . وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا فِى قَبْضِ الْمِفْتَاحِ بِوَجْهِ آخَرَ. قَالَ: حَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى بَعِيرٍ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأُسَامَةُ رَدِيفُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَمَعَهُ بِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَلَمّا بَلَغَ رَأْسَ الثّنِيّةِ أَرْسَلَ عُثْمَانَ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِهِ. قَالُوا: وَكَانَ عُثْمَانُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مُسْلِمًا قَبْلَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ مَعَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ وَهَذَا أَثْبَتُ الْوُجُوهِ. وَقَالُوا: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدّمَ فَيَفْتَحَ الْبَيْتَ فَلا يَدَعُ فِيهِ صُورَةً إلاّ مَحَاهَا، وَلا تِمْثَالاً، إلاّ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ. فَلَمّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ شَيْخًا كَبِيرًا يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلامِ. وَيُقَالُ: أَمَرَهُ أَلاّ يَدَعَ صُورَةً إلاّ مَحَاهَا، فَتَرَك عُمَرُ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلامُ، فَقَالَ: “يَا عُمَرُ أَلَمْ آمُرْك أَلاّ تَدَعَ فِيهَا صُورَةً إلاّ مَحَوْتهَا”؟ فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: “فَامْحُهَا”. فَكَانَ الزّهْرِىّ يَقُولُ: لَمّا دَخَلَ النّبِىّ ÷ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ الْمَلائِكَةِ وَغَيْرِهَا، وَرَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ ÷، قَالَ: “قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوهُ شَيْخًا يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلامِ” ثُمّ رَأَى صُورَةَ مَرْيَمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، ثُمّ قَالَ: “امْسَحُوا مَا فِيهَا مِنْ الصّوَرِ إلاّ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ”. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُوَرًا، فَأَمَرَنِى أَنْ آتِيَهُ فِى الدّلْوِ بِمَاءِ فَيَبُلّ الثّوْبَ وَيَضْرِبَ بِهِ الصّوَرَ وَيَقُولُ: “قَاتَلَ اللّهُ قَوْمًا يُصَوّرُونَ مَا لا يَخْلُقُونَ”، قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ ÷ بِالْكَعْبَةِ فَغُلّقَتْ عَلَيْهِ. وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللّهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتّةِ أَعْمِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْت بِلالاً كَيْفَ صَنَعَ النّبِىّ ÷ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَثَلاثَةً وَرَاءَهُ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَالْمِفْتَاحُ فِى يَدِهِ وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَذُبّ النّاسَ عَنْ الْبَابِ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَلِىّ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ مَنْصُورٍ الْحَجَبِىّ، عَنْ أُمّهِ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ بَرّةَ بِنْتِ أَبِى تِجْرَاةَ، قَالَتْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَأَخَذَ بِعِضَادَتَىْ الْبَابِ فَأَشْرَفَ عَلَى النّاسِ وَبِيَدِهِ الْمِفْتَاحُ ثُمّ جَعَلَهُ فِى كُمّهِ، قَالُوا: فَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى النّاسِ وَقَدْ لِيطَ بِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَهُمْ جُلُوسٌ. قَالَ: “الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنّونَ“؟ قَالُوا: نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وَقَدْ قَدَرْت، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَإِنّى أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِى يُوسُفُ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ، أَلا إنّ كُلّ رِبًا فِى الْجَاهِلِيّةِ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَأْثُرَةٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِى هَاتَيْنِ إلاّ سِدَانَةَ الْبَيْتِ، وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلا وَفِى قَتِيلِ الْعَصَا وَالسّوْطِ الْخَطَأِ شِبْهُ الْعَمْدِ الدّيَةُ مُغَلّظَةٌ مِائَةُ نَاقَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِى بُطُونِهَا أَوْلادُهَا، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَكَبّرَهَا بِآبَائِهَا، كُلّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ، أَلا إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَهِىَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ لَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ قَبْلِى، وَلا تَحِلّ لأَحَدٍ كَائِنٍ بَعْدِى، وَلَمْ تَحِلّ لِى إلاّ سَاعَةً مِنْ النّهَارِ” - يُقَصّرُهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِيَدِهِ هَكَذَا - “لا يُنَفّرُ صَيْدُهَا وَلا يُعْضَدُ عِضَاهُهَا، وَلا تَحِلّ لُقَطَتُهَا إلاّ لِمُنْشِدٍ وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا”، فَقَالَ الْعَبّاسُ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا: إلاّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَإِنّهُ لا بُدّ مِنْهُ إنّهُ لِلْقَبْرِ وَطَهُورُ الْبُيُوتِ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: “إلاّ الإِذْخِرَ فَإِنّهُ حَلالٌ، وَلا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ، وَإِنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَلا يَحِلّ لامْرَأَةٍ تُعْطِى مِنْ مَالِهَا إلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ وَالْمُسْلِمُونَ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَمُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمَيْسَرَتُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ فِى عَهْدِهِ، وَلا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلا جَلَبَ وَلا جَنَبَ، وَلا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ إلاّ فِى بُيُوتِهِمْ وَبِأَفْنِيَتِهِمْ وَلا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَالْبَيّنَةُ عَلَى مَنْ ادّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَلا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلاثٍ إلاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَبَعْدَ الصّبْحِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الأَضْحَى، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ لا يَحْتَبِ أَحَدُكُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِى بِعَوْرَتِهِ إلَى السّمَاءِ، وَلا يَشْتَمِلُ الصّمّاءَ، وَلا إخَالُكُمْ إلاّ وَقَدْ عَرَفْتُمُوهَا”. قَالَ: ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ فَتَنَحّى نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ قَبَضَ السّقَايَةَ مِنْ الْعَبّاسِ وَقَبَضَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَلَمّا جَلَسَ قَالَ: “اُدْعُوا إلَىّ عُثْمَانَ” فَدُعِىَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِى طَلْحَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ لِعُثْمَانَ يَوْمًا، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الإِسْلامِ وَمَعَ عُثْمَانَ الْمِفْتَاحُ، فَقَالَ: “لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِى أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَقَدْ هَلَكَتْ إذًا قُرَيْشٌ وَذَلّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلْ عَمُرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ”، فَلَمّا دَعَانِى بَعْدَ أَخْذِهِ الْمِفْتَاحَ ذَكَرْت قَوْلَةَ مَا كَانَ قَالَ: فَأَقْبَلْت فَاسْتَقْبَلْته بِبِشْرٍ وَاسْتَقْبَلَنِى بِبِشْرٍ، ثُمّ قَالَ: “خُذُوهَا يَا بَنِى أَبِى طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً لا يَنْزِعُهَا إلاّ ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكُلُوا بِالْمَعْرُوفِ”. قَالَ عُثْمَانُ: فَلَمّا وُلِيَتْ نَادَانِى فَرَجَعَتْ إلَيْهِ، فَقَالَ: “أَلَمْ يَكُنْ الّذِى قُلْت لَك”؟ قَالَ: فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِى بِمَكّةَ فَقُلْت: بَلَى، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ وَالنّبِىّ ÷ مُضْطَجِعٌ بِثَوْبِهِ، وَقَالَ: “أَعِينُوهُ” وَقَالَ: “قُمْ عَلَى الْبَابِ وَكُلْ بِالْمَعْرُوفِ”، وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ السّقَايَةَ إلَى الْعَبّاسِ فَكَانَ الْعَبّاسُ يَلِيهَا دُونَ بَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِى الْجَاهِلِيّةِ وَوَلَدُهُ بَعْدَهُمْ، فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَنَفِيّةِ كَلّمَ فِيهَا ابْنَ عَبّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَا لَك وَلَهَا؟ نَحْنُ أَوْلَى بِهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ كَانَ أَبُوك كَلّمَ فِيهَا فَأَقَمْت الْبَيّنَةَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ وَعَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَزْهَرَ بْنَ عَوْفٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، أَنّ الْعَبّاسَ كَانَ يَلِيهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ وَأَبُوك فِى نَادِيَتِهِ بِعُرَنَةَ فِى إبِلِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَعْطَاهَا الْعَبّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ. فَعَرَفَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَ فَكَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ أَبِيهِ لا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا مُنَازِعٌ وَلا يَتَكَلّمُ فِيهَا مُتَكَلّمٌ. وَكَانَ لِلْعَبّاسِ مَالٌ بِالطّائِفِ، كَرْمٌ كَانَ يَحْمِلُ زَبِيبَهُ إلَيْهَا فَيُنْبَذُ فِى الْجَاهِلِيّةِ وَالإِسْلامِ، ثُمّ كَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ كَانَ عَلِىّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ. قَالَ: وَجَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “لِمَ قَاتَلْت وَقَدْ نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ”؟ فَقَالَ: هُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَرَشَقُونَا بِالنّبْلِ، وَوَضَعُوا فِينَا السّلاحَ وَقَدْ كَفَفْت مَا اسْتَطَعْت، وَدَعَوْتهمْ إلَى الإِسْلامِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَأَبَوْا، حَتّى إذَا لَمْ أَجِدْ بُدّا قَاتَلْتهمْ فَظَفّرَنَا اللّهُ عَلَيْهِمْ وَهَرَبُوا فِى كُلّ وَجْهٍ يَا رَسُولَ اللّهِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَضَى اللّهُ خَيْرًا”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كُفّوا السّلاحَ إلاّ خُزَاعَةَ عَنْ بَنِى بَكْرٍ إلَى صَلاةِ الْعَصْرِ”. فَخَبّطُوهُمْ سَاعَةً وَهِىَ السّاعَةُ الّتِى أُحِلّتْ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ لَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ قَبْلَهُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ نَهَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ. قَالَ أَبُو الْيَسَر: فَدَخَلْنَا مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ اللّيطِ، فَكَانُوا هُمْ الّذِينَ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَأَبَوْا أَنْ يَدْعُونَا نَدْخُلَ وَكَلّمَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِمْ فَأَبَوْا. قَالَ خَالِدٌ: احْمِلُوا عَلَيْهِمْ فَحَمَلْنَا فَمَا قَامُوا لَنَا فُوَاقَ نَاقَةٍ حَتّى هَرَبُوا، وَنَهَانَا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ أَبُو الْيَسَرِ: فَجَعَلْت أَحْذِمُ بِسَيْفِى، وَهَوَيْت إلَى رَجُلٍ فَضَرَبْته فَاعْتَزَلَ إلَى خُزَاعَةَ، فَسَقَطَ فِى يَدِى فَجَعَلْت أَسْأَلُ عَنْهُ فَقِيلَ لِى: إنّهُ مِنْ الْحَيَا - أَخُو خُزَاعَةَ. فَحَمِدْت اللّهَ أَلاّ أَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ خُزَاعَةَ. قَالُوا: وَأَقَامَ أَبُو أَحَمْدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ حِينَ فَرَغَ النّبِىّ ÷ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ أَنْشُدُ بِاَللّهِ يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ حِلْفِى، وَأَنْشُدُ بِاَللّهِ يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ دَارِى، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، فَسَارَ عُثْمَانُ بِشَىْءِ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى أَبِى أَحْمَدَ فَسَارَهُ فَنَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ عَنْ بَعِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ فَمَا سَمِعَ أَبُو أَحْمَدَ ذَاكَرَهَا حَتّى لَقِىَ اللّهُ فَقِيلَ لِعُثْمَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ ÷: مَاذَا قَالَ لَك رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تَقُولَهُ لأَبِى أَحْمَدَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَذْكُرْهُ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَأَذْكُرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ قَدْ حَالَفَ إلَى حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، وَكَانَ الْمُطّلِبُ بْنُ الأَسْوَدِ قَدْ دَعَاهُ إلَى أَنْ يُحَالِفَهُ وَقَالَ: دَمِى دُونَ دَمِك، وَمَالِى دُونَ مَالِك، وَحَالَفَ حَرْبَ بْنِ أُمَيّةَ، فَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِى ذَلِكَ: أَبَنِى أُمَيّةَ كَيْفَ أَخْذُلُ فِيكُمْ وَلَقَدْ دَعَانِى غَيْرُكُـــمْ فَأَبَيْتـــــــه وَأَنَا ابْنُكُمْ وَحَلِيفُكُمْ فِى الْعَشْرِ وَخَبّأْتُكُـــــمْ لِنَوَائِــبِ الدّهْــــرِ وَكَانُوا يَتَحَالَفُونَ فِى الْعَشْرِ مِنْ ذِى الْحَجّةِ قِيَامًا، يَتَمَاسَحُونَ كَمَا يَتَمَاسَحُ الْبَيّعَانِ وَكَانُوا يَتَوَاعَدُونَ قَبْلَ الْعَشْرِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ابْنِ عَلْقَمَةَ الْعَامِرِىّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَنَجّمَ عَلَيْهِ مَا فَضَلَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَهْلُ أَبِى أَحْمَدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: لَك بِهَا دَارٌ فِى الْجَنّةِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِى بَيْعِ دَارِهِ لأَبِى سُفْيَانَ أَنْشَدَنِيهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِىّ: أَقَطَعْت عَقْدَك بَيْنَنَا أَلا ذَكَرْت لَيَالِىَ الْـ عَقْدِى وَعَقْدُك قَائِمٌ دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا وَلَقَدْ جَرَيْت إلَى الْعُقُو قَدْ كُنْت آوِى فِى ذُرَى مَا كَانَ عَقْـــدُك مِثْـــلَ عَقْــــــدِ وَالْحَادِثَاتُ إلَى نَدَامَهْ عَشْرِ الّتِى فِيهَا الْقِيَامَهْ لا عَوْقَ فِيهِ وَلا أَثَامَهْ تَشْرِى بِك عَنْك الْغَرَامَهْ طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ قِ وَأَسْوَأُ الْخُلُقِ الرّغَامَهْ فِيهِ الْمَقَامَةُ وَالسّلامَهْ ابْنِ عَمْـــــرِو لابْــــنِ مَامَــــــهْ قَالُوا: وَكَانَ إسَافُ وَنَائِلَةُ رَجُلاً وَامْرَأَةً الرّجُلُ إسَافُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْمَرْأَةُ نَائِلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ مِنْ جُرْهُمٍ، فَزَنَيَا فِى جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَاِتّخَذَتْهُمَا قُرَيْشٌ يَعْبُدُونَهُمَا، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهُمَا وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ إذَا نَسَكُوا، فَخَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا امْرَأَةٌ شَمْطَاءُ سَوْدَاءُ تَخْمُشُ وَجْهَهَا، عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةُ الشّعْرِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فِى ذَلِكَ، فَقَالَ: “تِلْكَ نَائِلَةُ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِى بِلادِكُمْ أَبَدًا”. وَيُقَالُ: إنّ إبْلِيسَ رَنّ ثَلاثَ رَنّاتٍ رَنّةً حِينَ لُعِنَ فَتَغَيّرَتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلائِكَةِ، وَرَنّةً حِينَ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ يُصَلّى قَائِمًا بِمَكّةَ، وَرَنّةً حِينَ افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ، فَاجْتَمَعَتْ ذُرّيّتُهُ، فَقَالَ إبْلِيسُ: ايئَسُوا أَنْ تَرُدّوا أُمّةَ مُحَمّدٍ عَلَى الشّرْكِ بَعْدَ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَلَكِنْ اُفْشُوَا فِيهِمْ النّوْحَ وَالشّعْرَ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَصَبَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ إبْرَاهِيمُ، وَجِبْرِيلُ يُرِيهِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ إسْمَاعِيلُ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ قُصَىّ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِىّ فَجَدّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَبَعَثَ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَبْدُونَ فِى بِوَادِيهَا؛ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَبُو هُودٍ سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِىّ، ثُمّ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فَبَعَثَ هَؤُلاءِ النّفَرَ، ثُمّ كَانَ مُعَاوِيَةُ عَامَ حَجّ فَبَعَثَ هَؤُلاءِ النّفَرَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: لَمّا حَجّ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَى أَكْبَرِ شَيْخٍ يَعْلَمُهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَشَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِى بَكْرٍ، ثُمّ أَمَرَهُمْ بِتَجْدِيدِهِ، وَكُلّ وَادٍ فِى الْحَرَمِ فَهُوَ يَسِيلُ فِى الْحِلّ، وَلا يَسِيلُ وَادٍ مِنْ الْحِلّ فِى الْحَرَمِ إلاّ فِى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التّنْعِيمِ. وَكَانَ يُقَالُ: وَلا يُنَفّرُ صَيْدُهَا. قَالَ: لا يَخْرُج مِنْ الظّلّ إلَى الشّمْسِ، وَيُقَال: لا يُذْعَرُ. قَالَ حَدّثَنِى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَغْشَاهُ الْحَمَامُ عَلَى رَحْلِهِ وَثِيَابِهِ وَطَعَامِهِ مَا يُطْرَدُ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُرَخّصُ أَنْ يُكَشْكَشَ، وَقَوْلُهُ: “لا تَحِلّ لُقَطَةٌ ضَالّتَهَا إلاّ لِمُنْشِدِ”، يَقُولُ: لا يَأْكُلُهَا كَمَا يَأْكُلُ اللّقَطَةَ فِى غَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ. قَالُوا: خَرَجَ غَزِىّ مِنْ هُذَيْلٍ فِى الْجَاهِلِيّةِ وَفِيهِمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الأَدْلَعِ يُرِيدُونَ حَىّ أَحْمَرَ بَأْسًا، وَكَانَ أَحْمَرَ بَأْسًا رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ شُجَاعًا لا يُرَامُ، وَكَانَ لا يَنَامُ فِى حَيّهِ إنّمَا يَنَامُ خَارِجًا مِنْ حَاضِرِهِ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لا يَخْفَى مَكَانُهُ وَكَانَ الْحَاضِرُ إذَا أَتَاهُمْ فَزِعَ صَرَخُوا بِأَحْمَرَ بَأْسًا فَيَثُوبُ مِثْلَ الأَسَدِ، فَلَمّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْغُزّىّ مِنْ هُذَيْلٍ، قَالَ لَهُمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الأَدْلَعِ: إنْ كَانَ أَحْمَرُ بَأْسًا فِى الْحَاضِرِ فَلَيْسَ إلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَطِيطٌ لا يَخْفَى، فَدَعُونِى أَتَسَمّعُ، فَتَسَمّعَ الْحِسّ فَسَمِعَهُ فَأَمّهُ حَتّى وَجَدَهُ نَائِمًا فَقَتَلَهُ، وَوَضَعَ السّيْفَ فِى صَدْرِهِ ثُمّ اتّكَأَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ حَمَلُوا عَلَى الْحَىّ فَصَاحَ الْحَىّ: يَا أَحْمَرُ بَأْسًا فَلا شَيْءَ لا أَحْمَرُ بَأْسًا قَدْ قُتِلَ، فَنَالُوا مِنْ الْحَاضِرِ حَاجَتَهُمْ ثُمّ انْصَرَفُوا، فَتَشَاغَلَ النّاسُ بِالإِسْلامِ فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِيَوْمِ دَخَلَ جُنَيْدِبُ بْنُ الأَدْلَعِ مَعَهُ يَرْتَادُ وَيَنْظُرُ - وَالنّاسُ آمِنُونَ - فَرَآهُ جُنْدُبُ بْنُ الأَعْجَمِ الأَسْلَمِىّ، فَقَالَ: جُنَيْدِبُ بْنُ الأَدْلَعِ قَاتَلَ أَحْمَرُ بَأْسًا، فَقَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ جُنْدُبُ يَسْتَجِيشُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِىَ خِرَاشَ بْنِ أُمَيّةَ الْكَعْبِىّ، فَأَخْبَرَهُ فَاشْتَمَلَ خِرَاشٌ عَلَى السّيْفِ ثُمّ أَقْبَلَ إلَيْهِ وَالنّاسُ حَوْلَهُ وَهُوَ يُحَدّثُهُمْ عَنْ قَتْلِ أَحْمَرَ بَأْسًا، فَبَيْنَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ ابْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلاً عَلَى السّيْفِ فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ فَوَاَللّهِ مَا ظَنّ النّاسُ إلاّ أَنّهُ يُفَرّجُ عَنْهُ النّاسُ لِيَنْصَرِفُوا عَنْهُ فَانْفَرَجُوا عَنْهُ، فَلَمّا انْفَرَجَ النّاسُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ بِالسّيْفِ فَطَعَنَهُ بِهِ فِى بَطْنِهِ وَابْنُ الأَدْلَعِ مُسْتَنِدٌ إلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ، فَجَعَلَتْ حِشْوَتُهُ تَسَايَلَ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَبْرُقَانِ فِى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، فَوَقَعَ الرّجُلُ، فَمَاتَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ بِقَتْلِهِ فَقَامَ خَطِيبًا - وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ الظّهْرِ - فَقَالَ: “أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَيَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ فَهِىَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا؛ لَمْ تَحِلّ لأَحَدِ كَانَ قَبْلِى، وَلا تَحِلّ لأَحَدِ بَعْدِى، وَلَمْ تَحِلّ لِى إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمّ رَجَعْت كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقُولُوا: إنّ اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلّهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ وَاَللّهِ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ وَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ وَاَللّهِ لأَدِيَنه فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِى هَذَا فَأَهْلُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَتِيلِهِمْ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ”. فَدَخَلَ أَبُو شُرَيْحٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَ ابْنِ الزّبَيْرِ فَحَدّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: إنّ النّبِىّ ÷ أَمَرَنَا أَنْ يُبَلّغَ الشّاهِدُ الْغَائِبَ وَكُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا، وَقَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِىّ ÷ أَمَرَ بِهِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك، إنّهُ لا يُمْنَعُ مِنْ ظَالِمٍ وَلا خَالِعِ طَاعَةٍ وَلا سَافِكِ دَمٍ، فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: قَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِىّ ÷ أَمَرَ بِهِ فَأَنْتَ وَشَأْنُك. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ أَخْبَرَ ابْنَ عُمَرَ، مَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَحِمَ اللّهُ أَبَا شُرَيْحٍ قَدْ قَضَى الّذِى عَلَيْهِ قَدْ عَلِمْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ تَكَلّمَ يَوْمَئِذٍ فِى خُزَاعَةَ حِينَ قَتَلُوا الْهُذَلِىّ بِأَمْرِ لا أَحْفَظُهُ إلاّ أَنّى سَمِعْت الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: فَأَدّيهِ. قَالَ: حَدّثَنِى عَمْرُو بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قَتَلَهُ خِرَاشٌ بَعْدَمَا نَهَى النّبِىّ ÷ عَنْ الْقَتْلِ فَقَالَ: لَوْ كُنْت قَاتِلاً مُؤْمِنًا بِكَافِرِ لَقَتَلْت خِرَاشًا بِالْهُذَلِىّ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خُزَاعَةَ يُخْرِجُونَ دِيَتَهُ فَكَانَتْ خُزَاعَةُ أَخْرَجَتْ دِيَتَهُ، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى غَنَمٍ عُفْرٍ جَاءَتْ بِهَا بَنُو مُدْلِجٍ فِى الْعَقْلِ، وَكَانَ يُعَاقِلُونَهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ، ثُمّ شَدّهُ الإِسْلامُ وَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الإِسْلامِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَنِى كَعْبٍ فَأَعْطَوْا الْقَتِيلَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ. قَالُوا: وَجَاءَتْ الظّهْرُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِلالاً أَنْ يُؤَذّنَ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ وَقُرَيْشٌ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ فَرّ وُجُوهُهُمْ وَتَغَيّبُوا خَوْفًا أَنْ يُقَتّلُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ، فَلَمّا أَذّنَ بِلالٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ فَلَمّا بَلَغَ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ، تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِى جَهْلٍ: قَدْ لَعَمْرِى رَفَعَ لَك ذِكْرَك أَمّا الصّلاةُ فَسَنُصَلّى، وَاَللّهِ لا نُحِبّ مَنْ قَتَلَ الأَحِبّةَ أَبَدًا؛ وَلَقَدْ كَانَ جَاءَ أَبِى الّذِى جَاءَ مُحَمّدًا مِنْ النّبُوّةِ فَرَدّهَا وَلَمْ يُرِدْ خِلافَ قَوْمِهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَكْرَمَ أَبِى فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْيَوْمَ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وَاثُكْلاه لَيْتَنِى مُتّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ أَسْمَعُ بِلالاً يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِى الْعَاصِ: هَذَا وَاَللّهِ الْحَدَثُ الْعَظِيمُ أَنْ يَصِيحَ عَبْدُ بَنِى جُمَحَ عَلَى بَنِيّةِ أَبِى طَلْحَةَ. قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إنْ كَانَ هَذَا سَخَطَ اللّهِ فَسَيُغَيّرُهُ، وَإِنْ كَانَ رِضَاءَ اللّهِ فَسَيُقِرّهُ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمّا أَنَا فَلا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ قُلْت شَيْئًا لأَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْحَصْبَاءُ فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ وَظَهَرَ انْقَحَمْت بَيْتِى وَأَغْلَقْت عَلَىّ بَابِى، وَأَرْسَلْت إلَى ابْنِى عَبْدِ اللّهِ بْنِ سُهَيْلٍ أَنْ اُطْلُبْ لِى جِوَارًا مِنْ مُحَمّدٍ، وَإِنّى لا آمَنُ أَنْ أُقْتَلَ، وَجَعَلْت أَتَذّكّرُ أَثَرِى عِنْدَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ أَثَرًا مِنّى، وَإِنّى لَقِيت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَا لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ: وَكُنْت الّذِى كَاتَبْته، مَعَ حُضُورِى بَدْرًا وَأُحُدًا، وَكُلّمَا تَحَرّكَتْ قُرَيْشٌ كُنْت فِيهَا، فَذَهَبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تُؤَمّنُهُ؟ فَقَالَ: “نَعَمْ هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللّهِ فَلْيَظْهَرْ”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِمَنْ حَوْلَهُ: “مَنْ لَقِىَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلا يَشُدّ النّظَرَ إلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ فَلَعَمْرِى إنّ سُهَيْلاً لَهُ عَقْلٌ وَشَرَفٌ وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الإِسْلامَ وَلَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ”، فَخَرَجَ عَبْدُ اللّهِ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ سُهَيْلٌ: كَانَ وَاَللّهِ بَرّا صَغِيرًا وَكَبِيرًا، فَكَانَ سُهَيْلٌ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ وَخَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ مَعَ النّبِىّ ÷ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتّى أَسْلَمَ بِالْجِعِرّانَةِ. وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِى وَهْبٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ زَوْجُ أُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ - هُوَ وَابْنُ الزّبَعْرَى جَمِيعًا حَتّى انْتَهَى إلَى نَجْرَانَ، فَلَمْ يَأْمَنّا مِنْ الْخَوْفِ حَتّى دَخَلا حِصْنَ نَجْرَانَ، فَقِيلَ لَهُمَا: مَا وَرَاءَكُمَا؟ قَالا: أَمّا قُرَيْشٌ فَقَدْ قُتِلَتْ وَدَخَلَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، وَنَحْنُ وَاَللّهِ نَرَى أَنّ مُحَمّدًا سَائِرٌ إلَى حِصْنِكُمْ هَذَا فَجَعَلَتْ بَلْحَارِثٍ وَكَعْبٌ يُصْلِحُونَ مَا رَثّ مِنْ حِصْنِهِمْ وَجَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ فَأَرْسَلَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَبْيَاتًا يُرِيدُ بِهَا ابْنَ الزّبَعْرَى، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِى الزّنَادِ: لا تَعْدَمْنَ رَجُلاً أَحَلّك بُغْضُهُ بَلِيَتْ قَنَاتُك فِى الْحُرُوبِ فَأُلْقِيَتْ غَضِبَ الإِلَهُ عَلَى الزّبَعْــرَى وَابْنِـهِ نَجْرَانَ فِى عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ خَمّانَةً خَوْفَاءَ ذَاتَ وُصُومِ وَعَذَابُ سُـــوءٍ فِى الْحَيَاةِ مُقِيــمِ فَلَمّا جَاءَ ابْنَ الزّبَعْرَى شِعْرُ حَسّانَ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِى وَهْبٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ عَمّ؟ قَالَ: أَرَدْت وَاَللّهِ مُحَمّدًا، قَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَتْبَعَهُ؟ قَالَ: إىِ وَاَللّهِ، قَالَ: يَقُولُ هُبَيْرَةُ: يَا لَيْتَ أَنّى رَافَقْت غَيْرَك وَاَللّهِ مَا ظَنَنْت أَنّك تَتْبَعُ مُحَمّدًا أَبَدًا، قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى: هُوَ ذَاكَ فَعَلَى أَىّ شَيْءٍ نُقِيمُ مَعَ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَتْرُكُ ابْنَ عَمّى، وَخَيْرَ النّاسِ وَأَبَرّهُمْ وَمَعَ قَوْمِى وَدَارِى، فَانْحَدَرَ ابْنُ الزّبَعْرَى حَتّى جَاءَ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَهُوَ جَالِسٌ فِى أَصْحَابِهِ فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَيْهِ قَالَ: “هَذَا ابْنُ الزّبَعْرَى، وَمَعَهُ وَجْهٌ فِيهِ نُورُ الإِسْلامِ”، فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قَالَ: السّلامُ عَلَيْكُمْ أَىْ رَسُولِ اللّهِ شَهِدْت أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّك عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى هَدَانِى لِلإِسْلامِ لَقَدْ عَادَيْتُك وَأَجْلَبْت عَلَيْك، وَرَكِبْت الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ وَمَشَيْت عَلَى قَدَمِى فِى عَدَاوَتِك، ثُمّ هَرَبْت مِنْك إلَى نَجْرَانَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَلاّ أَقْرَبَ الإِسْلامَ أَبَدًا، ثُمّ أَرَادَ بِى اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْهُ بِخَيْرِ فَأَلْقَاهُ فِى قَلْبِى وَحَبّبَهُ إلَىّ وَذَكَرْت مَا كُنْت فِيهِ مِنْ الضّلالَةِ، وَاتّبَاعِ مَا لا يَنْفَعُ ذَا عَقْلٍ مِنْ حَجَرٍ يُعْبَدُ، وَيُذْبَحُ لَهُ لا يَدْرِى مَنْ عَبَدَهُ وَمَنْ لا يَعْبُدُهُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى هَدَاك لِلإِسْلامِ إنّ الإِسْلامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”، وَأَقَامَ هُبَيْرَةُ بِنَجْرَانَ وَأَسْلَمَتْ أُمّ هَانِئٍ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ حِينَ بَلَغَهُ إسْلامُهَا يَوْمَ الْفَتْحِ: أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ نَآك سُؤَالُهَا وَقَدْ أَرّقَتْ فِى رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ وَإِنّى مِنْ قَوْمٍ إذَا جَدّ جِدّهُمْ وَإِنّى لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِى وَإِنّ كَلامَ الْمَرْءِ فِى غَيْرِ كُنْهِهِ وَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ فَكُونِى عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَــةِ كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا بِنَجْرَانَ يَسْرِى بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا عَلَى أَىّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا إذَا كَرِهَتْ نَحْوَ الْعَوَالِى فَحَالُهَا لَكَالنّبْلِ تَهْوِى لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا وَقَطّعَتْ الأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا مُلَمْلَمَةٍ حَمْرَاءَ يَبِـــسَ تِلالُهَــا أَقَامَ بِنَجْرَانَ حَتّى مَاتَ مُشْرِكًا. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّة هَرَبَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى حَتّى انْتَهَى إلَى حَائِطِ عَوْفٍ فَدَخَلَ هُنَاكَ، وَخَرَجَ أَبُو ذَرّ لِحَاجَتِهِ، وَكَانَ دَاخِلَهُ فَلَمّا رَآهُ هَرَبَ حُوَيْطِبٌ فَنَادَاهُ أَبُو ذَرّ: تَعَالَ أَنْتَ آمِنٌ، فَرَجَعَ إلَيْهِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ فَإِنْ شِئْت أَدْخَلْتُك عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، وَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ إلَى مَنْزِلِك، قَالَ: وَهَلْ لِى سَبِيلٌ إلَى مَنْزِلِى؟ أُلْقَى فَأُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَى مَنْزِلِى، أَوْ يَدْخُلَ عَلَىّ مَنْزِلِى فَأُقْتَلَ. قَالَ: فَأَنَا أَبْلُغُ مَعَك مَنْزِلَك، فَبَلَغَ مَعَهُ مَنْزِلَهُ، ثُمّ جَعَلَ يُنَادِى عَلَى بَابِهِ: إنّ حُوَيْطِبًا آمِنٌ فَلا يُهْجَمُ عَلَيْهِ، ثُمّ انْصَرَفَ أَبُو ذَرّ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: “أَوَ لَيْسَ قَدْ أَمّنّا كُلّ النّاسِ إلاّ مَنْ أَمَرْت بِقَتْلِهِ”؟. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِى حَبِيبَةَ مَوْلَى الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ؟ الْبَغُومُ بِنْتُ الْمُعَذّلِ مِنْ كِنَانَةَ، وَأَسْلَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، وَهِىَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِى عَشْرِ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَيْنَ رَسُولَ اللّهِ بِالأَبْطَحِ فَبَايَعْنَهُ فَدَخَلْنَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ زَوْجَتُهُ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةُ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَتَكَلّمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَظْهَرَ الدّينَ الّذِى اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ لِتَمَسّنِى رَحْمَتُك، يَا مُحَمّدُ إنّى امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاَللّهِ مُصَدّقَةٌ، ثُمّ كَشَفَتْ عَنْ نِقَابِهَا فَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَرْحَبًا بِك”، فَقَالَتْ: وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَىّ أَنْ يَذِلّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك، وَلَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَىّ أَنْ يَعِزّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: “وَزِيَادَةً أَيْضًا”، ثُمّ قَرَأَ رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِنّ الْقُرْآنَ وَبَايَعَهُنّ، فَقَالَتْ هِنْدٌ: مِنْ بَيْنِهِنّ يَا رَسُولَ اللّهِ نُمَاسِحُك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى لا أُصَافِحُ النّسَاءَ إنّ قَوْلِى لِمِائَةِ امْرَأَةٍ مِثْلُ قَوْلِى لامْرَأَةِ وَاحِدَة”، وَيُقَالُ: وَضَعَ عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا، ثُمّ مَسَحْنَ عَلَى يَدِهِ يَوْمَئِذٍ، وَيُقَالُ: كَانَ يُؤْتَى بِقَدَحِ مِنْ مَاءٍ فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ، ثُمّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِنّ فَيُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنّ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُهَا عِنْدَنَا: “إنّى لا أُصَافِحُ النّسَاءَ”. ثُمّ قَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ هَرَبَ عِكْرِمَةُ مِنْك إلَى الْيَمَنِ، وَخَافَ أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَمّنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هُوَ آمِنٌ”. فَخَرَجَتْ أُمّ حَكِيمٍ فِى طَلَبِهِ وَمَعَهَا غُلامٌ لَهَا رُومِىّ، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَجَعَلَتْ تُمَنّيهِ حَتّى قَدِمَتْ عَلَى حَىّ مِنْ عَكّ، فَاسْتَغَاثَتْهُمْ عَلَيْهِ، فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، وَأَدْرَكَتْ عِكْرِمَةَ وَقَدْ انْتَهَى إلَى سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ تِهَامَةَ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَجَعَلَ نُوَتِى السّفِينَةَ يَقُولُ لَهُ: أَخْلِصْ، فَقَالَ: أَىّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا هَرَبْت إلاّ مِنْ هَذَا، فَجَاءَتْ أُمّ حَكِيمٍ عَلَى هَذَا الْكَلامِ، فَجَعَلَتْ تُلِحّ إلَيْهِ، وَتَقُولُ: يَا ابْنَ عَمّ، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ، وَخَيْرِ النّاسِ، لا تُهْلِكْ نَفْسَك، فَوَقَفَ لَهَا حَتّى أَدْرَكَتْهُ، فَقَالَتْ: إنّى قَدْ اسْتَأْمَنْت لَك مُحَمّدًا رَسُولَ اللّهِ ÷، قَالَ: أَنْتِ فَعَلْت؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَنَا كَلّمْته فَأَمّنَك، فَرَجَعَ مَعَهَا، وَقَالَ: مَا لَقِيت مِنْ غُلامِك الرّومِىّ؟ فَخَبّرَتْهُ خَبَرَهُ فَقَتَلَهُ عِكْرِمَةُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُسْلِمْ، فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَصْحَابِهِ: “يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبّوا أَبَاهُ، فَإِنّ سَبّ الْمَيّتِ يُؤْذِى الْحَىّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيّت”، قَالَ: وَجَعَلَ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ يُجَامِعَهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ، وَتَقُولُ: إنّك كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ، فَيَقُولُ: إنّ أَمْرًا مَنَعَك مِنّى لأَمْرٌ كَبِيرٌ، فَلَمّا رَأَى النّبِىّ ÷ عِكْرِمَةَ وَثَبَ إلَيْهِ - وَمَا عَلَى النّبِىّ ÷ رِدَاءٌ - فَرَحًا بِعِكْرِمَةَ، ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَزَوْجَتُهُ مُنْتَقِبَةٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِى أَنّك أَمّنْتنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ” فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِلَى مَا تَدْعُو يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: أَدْعُوك إلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّى رَسُولُ اللّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصّلاةَ، وَتُؤْتِىَ الزّكَاةَ” - وَتَفْعَلَ وَتَفْعَلَ حَتّى عَدّ خِصَالَ الإِسْلامِ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاَللّهِ مَا دَعَوْت إلاّ إلَى الْحَقّ، وَأَمْرٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ؛ قَدْ كُنْت وَاَللّهِ فِينَا قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ، وَأَنْتَ أَصْدَقُنَا حَدِيثًا، وَأَبَرّنَا بِرّا، ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّى أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَسُرّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ ÷، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ عَلّمْنِى خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُهُ، قَالَ: “تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ”، قَالَ عِكْرِمَةُ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: رَسُولُ اللّهِ ÷: “تَقُولُ: أُشْهِدُ اللّهَ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنّى مُسْلِمٌ مُهَاجِرٌ مُجَاهِدٌ”، فَقَالَ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَسْأَلُنِى الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إلاّ أَعْطَيْتُكَهُ”. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّى أَسْأَلُك أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِى كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَوْ مَسِيرٍ وَضَعْت فِيهِ، أَوْ مَقَامٍ لَقِيتُك فِيهِ، أَوْ كَلامٍ قُلْته فِى وَجْهِك، أَوْ وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ اغْفِرْ لَهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَسِيرِ إطْفَاءَ نُورِك، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنّى مِنْ عِرْضٍ فِى وَجْهِى أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ”، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَضِيت يَا رَسُولَ اللّهِ، ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْت أُنْفِقُهَا فِى صَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إلاّ أَنْفَقْت ضِعْفَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ، وَلا قِتَالاً كُنْت أُقَاتِلُ فِى صَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إلاّ أَبْلَيْت ضِعْفَهُ فِى سَبِيلِ اللّهِ، ثُمّ اجْتَهَدَ فِى الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ ÷ امْرَأَتَهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ الأَوّلِ. وَأَمّا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، فَهَرَبَ حَتّى أَتَى الشّعَيْبَةَ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلامِهِ يَسَارٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ: وَيْحَك، اُنْظُرْ مَنْ تَرَى، قَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ صَفْوَانُ: مَا أَصْنَعُ بِعُمَيْرِ؟ وَاَللّهِ مَا جَاءَ إلاّ يُرِيدُ قَتْلِى، قَدْ ظَاهَرَ مُحَمّدًا عَلَىّ، فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: يَا عُمَيْرُ مَا كَفَاك مَا صَنَعْت بِى؟ حَمّلْتنِى دَيْنَك وَعِيَالَك، ثُمّ جِئْت تُرِيدُ قَتْلِى، قَالَ أَبَا وَهْبٍ: جُعِلْت فِدَاك، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَبَرّ النّاسِ وَأَوْصَلِ النّاسِ، وَقَدْ كَانَ عُمَيْرٌ، قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷: يَا رَسُولَ اللّهِ سَيّدُ قَوْمِى خَرَجَ هَارِبًا لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِى الْبَحْرِ وَخَافَ أَلاّ تُؤَمّنَهُ، فَأَمّنْهُ فِدَاك أَبِى وَأُمّى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ أَمّنْته”، فَخَرَجَ فِى أَثَرِهِ، فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ أَمّنَك، فَقَالَ صَفْوَانُ: لا وَاَللّهِ لا أَرْجِعُ مَعَك حَتّى تَأْتِيَنِى بِعَلامَةِ أَعْرِفُهَا، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْت صَفْوَانَ هَارِبًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَأَخْبَرْته بِمَا أَمّنْته، فَقَالَ: لا أَرْجِعُ حَتّى تَأْتِىَ بِعَلامَةِ أَعْرِفُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “خُذْ عِمَامَتِى”، قَالَ: فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ الْبُرْدُ الّذِى دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ مُعْتَجِرًا بِهِ بُرْدَ حِبَرَةٍ، فَخَرَجَ عُمَيْرٌ فِى طَلَبِهِ الثّانِيَةِ حَتّى جَاءَ بِالْبُرْدِ، فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ جِئْتُك مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النّاسِ وَأَوْصَلِ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ، وَأَحْلَمِ النّاسِ مَجْدُهُ مَجْدُك، وَعِزّهُ عِزّك، وَمُلْكُهُ مُلْكُك، ابْنُ أُمّك وَأَبِيك، أُذَكّرُك اللّهَ فِى نَفْسِك، قَالَ لَهُ: أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ، قَالَ: قَدْ دَعَاك إلَى أَنْ تَدْخُلَ فِى الإِسْلامِ، فَإِذَا رَضِيت وَإِلاّ سَيّرَك شَهْرَيْنِ فَهُوَ أَوْفَى النّاسِ، وَأَبَرّهُمْ وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك بِبُرْدِهِ الّذِى دَخَلَ بِهِ مُعْتَجِرًا، تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ هُوَ، فَرَجَعَ صَفْوَانُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يُصَلّى بِالْمُسْلِمِينَ الْعَصْرَ فِى الْمَسْجِدِ فَوَقَفَا، فَقَالَ صَفْوَانُ: كَمْ تُصَلّونَ فِى الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ: خَمْسَ صَلَوَاتٍ، قَالَ: يُصَلّى بِهِمْ مُحَمّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمّا سَلّمَ صَاحَ صَفْوَانُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ جَاءَنِى بِبُرْدِك، وَزَعَمَ أَنّك دَعَوْتنِى إلَى الْقُدُومِ عَلَيْك، فَإِنْ رَضِيت أَمْرًا وَإِلاّ سَيّرْتنِى شَهْرَيْنِ، قَالَ: “انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ”، قَالَ: لا وَاَللّهِ حَتّى تُبَيّنَ لِى، قَالَ: “بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ”. فَنَزَلَ صَفْوَانُ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قِبَلَ هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ صَفْوَانُ وَهُوَ كَافِرٌ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَسْتَعِيرُهُ سِلاحَهُ فَأَعَارَهُ سِلاحَهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدَاتِهَا، فَقَالَ: طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَارِيَةً مُؤَدّاةً”. فَأَعَارَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَحَمَلَهَا إلَى حُنَيْنٍ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَالطّائِفَ، ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسِيرُ فِى الْغَنَائِمِ يَنْظُرُ إلَيْهَا، وَمَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، جَعَلَ صَفْوَانُ يَنْظُرُ إلَى شِعْبٍ مُلِئَ نَعَمًا وَشَاءً وَرِعَاءً فَأَدَامَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَرْمُقُهُ فَقَالَ: “أَبَا وَهْبٍ يُعْجِبُك هَذَا الشّعْبُ”؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “هُوَ لَك وَمَا فِيهِ”. فَقَالَ صَفْوَانُ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا طَابَتْ نَفْسُ أَحَدٍ بِمِثْلِ هَذَا إلاّ نَفْسُ نَبِىّ أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ، قَالَ: أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قَبْلَ نِسَائِهِمْ، ثُمّ قَدِمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ فِى الْعِدّةِ فَرَدّهُنّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ وَامْرَأَةُ عِكْرِمَةَ قَبْلَ أَزْوَاجِهِمَا، ثُمّ أَسْلَمَا فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ ÷ نِسَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنّ إسْلامَهُمْ كَانَ فِى عِدّتِهِمْ. قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ الْوَحْىَ فَرُبّمَا أَمْلَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَيُكْتَبُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَيَقْرَأُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَيَقُولُ: “كَذَلِكَ اللّهُ” وَيُقِرّهُ، وَافْتُتِنَ، وَقَالَ: مَا يَدْرِى مُحَمّدٌ مَا يَقُولُ إنّى لأَكْتُبُ لَهُ مَا شِئْت، هَذَا الّذِى كَتَبْت يُوحَى إلَىّ كَمَا يُوحَى إلَى مُحَمّدٍ، وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَ ابْنُ أَبِى سَرْحٍ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَخِى، إنّى وَاَللّهِ اخْتَرْتُك فَاحْتَبِسْنِى هَاهُنَا، وَاذْهَبْ إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمْهُ فِى، فَإِنّ مُحَمّدًا إنْ رَآنِى ضَرَبَ الّذِى فِيهِ عَيْنَاىَ إنّ جُرْمِى أَعْظَمُ الْجُرْمِ وَقَدْ جِئْت تَائِبًا، فَقَالَ: بَلْ اذْهَبْ مَعِى، قَالَ عَبْدُ اللّهِ: وَاَللّهِ لَئِنْ رَآنِى لَيَضْرِبَن عُنُقِى وَلا يُنَاظِرُنِى، قَدْ أَهْدَرَ دَمِى، وَأَصْحَابُهُ يُطْلِبُونَنِى فِى كُلّ مَوْضِعٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: انْطَلِقْ مَعِى، فَلا يَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللّهُ، فَلَمْ يُرَعْ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلاّ بِعُثْمَانَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ وَاقِفَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى النّبِىّ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أُمّهُ كَانَتْ تَحْمِلُنِى وَتُمْشِيهِ وَتُرْضِعُنِى وَتَقْطَعُهُ، وَكَانَتْ تُلْطِفُنِى، وَتَتْرُكُهُ فَهَبْهُ لِى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَجَعَلَ عُثْمَانُ كُلّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ النّبِىّ ÷ بِوَجْهِهِ اسْتَقْبَلَهُ فَيُعِيدُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلامَ، فَإِنّمَا أَعْرَضَ النّبِىّ ÷ عَنْهُ إرَادَةَ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لأَنّهُ لَمْ يُؤَمّنْهُ، فَلَمّا رَأَى أَلاّ يُقْدَمَ أَحَدٌ، وَعُثْمَانُ قَدْ أَكَبّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يُقَبّلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، تُبَايِعُهُ فِدَاك أَبِى وَأُمّى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”، ثُمّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: “مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلَهُ”؟ أَوْ قَالَ: “الْفَاسِقِ”، فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ: أَلا أَوْمَأْت إلَىّ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَوَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ إنّى لأَتّبِعُ طَرَفَك مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ رَجَاءَ أَنْ تُشِيرَ إلَىّ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَيُقَالُ: قَالَ هَذَا أَبُو الْيُسْرِ، وَيُقَالُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى لا أَقْتُلُ بِالإِشَارَةِ”. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّ النّبِىّ ÷ قَالَ يَوْمَئِذٍ: “إنّ النّبِىّ ÷ لا تَكُونُ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ” فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَجَعَلَ يَفِرّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ كُلّمَا رَآهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمّى، لَوْ تَرَى ابْنَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ يَفِرّ مِنْك كُلّمَا رَآك فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “أَوَ لَمْ أُبَايِعْهُ وَأُؤَمّنْهُ”؟ قَالَ: بَلَى، أَىْ رَسُولَ اللّهِ، وَلَكِنّهُ يَتَذَكّرُ عَظِيمَ جُرْمِهِ فِى الإِسْلامِ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “الإِسْلامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”، فَرَجَعَ عُثْمَانُ إلَى ابْنِ أَبِى سَرْحٍ فَأَخْبَرَهُ فَكَانَ يَأْتِى فَيُسَلّمُ عَلَى النّبِىّ مَعَ النّاسِ. وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ مِنْ وَلَدِ قُصَىّ، فَإِنّهُ كَانَ يُؤْذِى النّبِىّ ÷ فَأَهْدَرَ دَمَهُ فَبَيْنَا هُوَ فِى مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ يَسْأَلُ عَنْهُ؟ فَقِيلَ: هُوَ فِى الْبَادِيَةِ، فَأُخْبِرَ الْحُوَيْرِثُ أَنّهُ يُطْلَبُ وَتَنَحّى عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ عَنْ بَابِهِ، فَخَرَجَ الْحُوَيْرِثُ يُرِيدُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ آخَرَ فَتَلَقّاهُ عَلِىّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَأَمّا هَبّارُ بْنُ الأَسْوَدِ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ كَانَ كُلّمَا بَعَثَ سَرِيّةً أَمَرَهَا بِهَبّارِ إنْ أُخِذَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنّارِ، ثُمّ قَالَ: “إنّمَا يُعَذّبُ بِالنّارِ رَبّ النّارِ اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ ثُمّ اُقْتُلُوهُ”، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ عَسّ بِابْنَةِ النّبِىّ ÷ زَيْنَبَ وَضَرَبَ ظَهْرَهَا بِالرّمْحِ - وَكَانَتْ حُبْلَى - حَتّى سَقَطَتْ فَأَهْدَرَ النّبِىّ ÷ دَمَهُ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسٌ بِالْمَدِينَةِ فِى أَصْحَابِهِ إذْ طَلَعَ هَبّارُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَكَانَ لَسِنًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ سُبّ مَنْ سَبّك؛ إنّى قَدْ جِئْت مُقِرّا بِالإِسْلامِ أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَخَرَجَتْ سَلْمَى مَوْلاةُ النّبِىّ ÷ فَقَالَتْ: لا أَنْعَمَ اللّهُ بِك عَيْنًا أَنْتَ الّذِى فَعَلْت وَفَعَلْت، فَقَالَ: إنّ الإِسْلامَ مَحَا ذَلِكَ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ سَبّهِ وَالتّعْرِيضِ لَهُ. قَالَ: حَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ: كُنْت جَالِسًا مَعَ النّبِىّ ÷ فِى أَصْحَابِهِ فِى مَسْجِدِهِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَطَلَعَ هَبّارُ بْنُ الأَسْوَدِ مِنْ بَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَلَمّا نَظَرَ الْقَوْمُ إلَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَبّارُ بْنُ الأَسْوَدِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ رَأَيْته”، فَأَرَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْقِيَامَ إلَيْهِ، فَأَشَارَ النّبِىّ ÷ أَنْ اجْلِسْ وَوَقَفَ عَلَيْهِ هَبّارٌ، فَقَالَ: السّلامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّى أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ، وَلَقَدْ هَرَبْت مِنْك فِى الْبِلادِ وَأَرَدْت اللّحُوقَ بِالأَعَاجِمِ، ثُمّ ذَكَرْت عَائِدَتَك وَفَضْلَك وَبِرّك وَصَفْحَك عَمّنْ جَهِلَ عَلَيْك؛ وَكُنّا يَا رَسُولَ اللّهِ أَهْلَ شِرْكٍ فَهَدَانَا اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِك، وَأَنْقَذَنَا بِك مِنْ الْهَلَكَةِ فَاصْفَحْ عَنْ جَهْلِى وَعَمّا كَانَ يَبْلُغُك عَنّى، فَإِنّى مُقِرّ بِسُوءِ فِعْلِى، مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِى. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ عَفَوْت عَنْك، وَقَدْ أَحْسَنَ اللّهُ بِك حَيْثُ هَدَاك لِلإِسْلامِ وَالإِسْلامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”. قَالَ: حَدّثَنِى وَاقِدُ بْنُ أَبِى يَاسِرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ ذَكَرَ هَبّارًا قَطّ إلاّ تَغَيّظَ عَلَيْهِ، وَلا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ بَعَثَ سَرِيّةً قَطّ، إلاّ قَالَ: “إنْ ظَفِرْتُمْ بِهَبّارٍ فَاقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمّ اضْرِبُوا عُنُقَهُ”. وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت أَطْلُبُهُ وَأَسْأَلُ عَنْهُ وَاَللّهُ يَعْلَمُ لَوْ ظَفِرْت بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِىَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ لَقَتَلْته، ثُمّ طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَنَا عِنْدَهُ جَالِسٌ فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَيَقُولُ: سُبّ يَا مُحَمّدُ مَنْ سَبّك، وَأُوذِىَ مَنْ آذَاكَ، فَقَدْ كُنْت مُوضِعًا فِى سَبّك وَأَذَاك، وَكُنْت مَخْذُولاً، وَقَدْ نَصَرَنِى اللّهُ وَهَدَانِى لِلإِسْلامِ، قَالَ الزّبَيْرُ: فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى النّبِىّ ÷ وَإِنّهُ لَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ اسْتِحْيَاءً مِمّا يَعْتَذِرُ هَبّارٌ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “قَدْ عَفَوْت عَنْك، الإِسْلامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”. وَكَانَ لَسِنًا، وَكَانَ يَسُبّ حَتّى يَبْلُغَ مِنْهُ فَلا يَنْتَصِفُ مِنْ أَحَدٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ حِلْمُهُ وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ الأَذَى، فَقَالَ هَبّارٌ: سُبّ مَنْ سَبّك. قَالُوا: وَأَمّا ابْنُ خَطَلٍ، فَإِنّهُ خَرَجَ حَتّى دَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِى الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَرْزَةَ الأَسْلَمِىّ يَقُولُ: فِى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ×لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ% أَخْرَجْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَضَرَبْت عُنُقَهُ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَيُقَالُ قَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِىّ؛ وَيُقَالُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَيُقَالُ شَرِيكُ بْنُ عَبَدَةَ الْعَجْلانِىّ، وَأَثْبَتَهُ عِنْدَنَا أَبُو بَرْزَةَ. وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ سَاعِيًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ خُزَاعَةَ، فَكَانَ يَصْنَعُ طَعَامَهُ وَيَخْدُمُهُ فَنَزَلا فِى مَجْمَعٍ فَأَمَرَهُ يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ نِصْفَ النّهَارِ فَاسْتَيْقَظَ وَالْخُزَاعِىّ نَائِمٌ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَاغْتَاظَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتّى قَتَلَهُ فَلَمّا قَتَلَهُ قَالَ: وَاَللّهِ لَيَقْتُلَنّى مُحَمّدٌ بِهِ إنْ جِئْته، فَارْتَدّ عَنْ الإِسْلامِ وَسَاقَ مَا أَخَذَ مِنْ الصّدَقَةِ وَهَرَبَ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مَكّةَ: مَا رَدّك إلَيْنَا؟ قَالَ: لَمْ أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ، فَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ إحْدَاهُمَا فَرْتَنَا، وَالأُخْرَى أَرْنَبُ وَكَانَتَا فَاسِقَتَيْنِ وَكَانَ يَقُولُ الشّعْرَ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ ÷، وَيَأْمُرُهُمَا تُغَنّيَانِ بِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَيْنَتَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَتُغَنّى الْقَيْنَتَانِ بِذَلِكَ الْهِجَاءِ، وَكَانَتْ سَارَةُ مَوْلاةُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ مُغَنّيَةً نَوّاحَةً بِمَكّةَ فَيُلْقَى عَلَيْهَا هِجَاءُ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَتُغَنّى بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ تَطْلُبُ أَنْ يَصِلَهَا وَشَكَتْ الْحَاجَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا كَانَ لَك فِى غِنَائِك وَنِيَاحِك مَا يُغْنِيك”، فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّ قُرَيْشًا مُنْذُ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ تَرَكُوا سَمَاعَ الْغِنَاءِ، فَوَصَلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَوْقَرَ لَهَا بَعِيرًا طَعَامًا، فَرَجَعَتْ إلَى قُرَيْشٍ وَهِىَ عَلَى دِينِهَا، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تُقْتَلَ فَقُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا؛ أَرْنَبُ أَوْ فَرْتَنَا، وَأَمّا فَرْتَنَا فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا حَتّى آمَنَتْ وَعَاشَتْ حَتّى كُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلاعِهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ فَقَضَى فِيهَا عُثْمَانُ ثَمَانِيَةَ آلافِ دِرْهَمٍ سِتّةَ آلافٍ دِيَتُهَا، وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْجُرْمِ. قَالُوا: وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَإِنّهُ كَانَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِى سَهْمٍ - كَانَتْ أُمّهُ سَهْمِيّةً - فَاصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِى نَدَامَى لَهُ فَأَتَى نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِىّ، وَعَلِمَ بِمَكَانِهِ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ ثَمِلٌ يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ: دَعِينِى أَصْطَبِحْ يَا بَكْرُ إنّى

وَنَقّبَ عَنْ أَبِيك أَبِى يَزِيدٍ

بِهِمْ أَرْسَتْ رَوَاسٍ مِنْ ثَبِيرٍ تُغَنّينِى الْحَمَـــامُ كَأَنّ رَهْطـِـــــي رَأَيْت الْمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشَامِ أَخِى الْقَيْنَاتِ وَالشّرْبِ الْكِرَامِ وَمِنْ ثَوْرٍ وَلَمْ تَصْمَمْ صَمَامِ خُزَاعَـــةُ أَوْ أُنَاسٌ مِــنْ جُــــذَامِ فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ حَتّى بَرّدَهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ وَهُوَ ثَمِلٌ فِيمَا بَيْن الصّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَرَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهَبّتُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ حَتّى قَتَلُوهُ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: لَعَمْرِى لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ فَلِلّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْــلَ مِقْيَـــسٍ وَفُجّعَ إخْوَانُ السّنَاءِ بِمِقْيَسِ إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَـــرّسْ وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّ أَخَاهُ هَاشِمُ بْنُ صُبَابَةَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَشَهِدَ الْمُرَيْسِيعَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ خَطَأً وَلا يَدْرِى، فَظَنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَدِمَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، فَقَضَى لَهُ ÷ بِالدّيَةِ عَلَى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَخَذَهَا، وَأَسْلَمَ ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ الْعُمَرِىّ فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ مُرْتَدّا كَافِرًا يَقُولُ شِعْرًا. وَيُقَالُ: قَتَلَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَهُوَ لا يَشْعُرُ بِهِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِى رَهْجِ الْعَدُوّ فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمْ فَرَجَعَ وَلَقِيَهُ أَوْسٌ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلَهُ فَقَضَى النّبِىّ ÷ بِدِيَتِهِ عَلَى رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ - وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ - فَقَالَ: شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ حَمَلْت بِهِ وِتْرِى وَأَدْرَكْــــت ثُؤْرَتِي تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ سَرَاةَ بَنِى النّجّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ وَكُنْت إلَى الأَوْثَــانِ أَوّلَ رَاجِــــــعٍ فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَمَهُ. قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ أُبَىّ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ إلَى قُرَيْشٍ إلَى مَكّةَ قَالُوا: مَا رَدّك إلَيْنَا وَقَدْ اتّبَعْت مُحَمّدًا؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ إلَى الصّنَمَيْنِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ وَلا أَقْدَمَ، ثُمّ أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صَنَعَ وَكَيْفَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِىّ، عَنْ أَبِى حُصَيْنٍ الْهُذَلِىّ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ النّفَرُ الّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَتْلِهِمْ سَمِعَ النّوْحَ عَلَيْهِمْ بِمَكّةَ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: فِدَاك أَبِى وَأُمّى، الْبَقِيّةُ فِى قَوْمِك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تُقْتَلُ قُرَيْشٌ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ”، يَعْنِى عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى يَزِيدُ بْنُ فِرَاسٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْبَرْصَاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “لا تُغْزَى قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” يَعْنِى عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَتْلِ وَحْشِىّ مَعَ النّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَحَدٍ أَحْرَصَ مِنْهُمْ عَلَى وَحْشِىّ، وَهَرَبَ وَحْشِىّ إلَى الطّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مُقِيمًا حَتّى قَدِمَ فِى وَفْدِ الطّائِفِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ. فَقَالَ: “وَحْشِىّ”؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “اجْلِسْ”، حَدّثْنِى كَيْفَ قَتَلْت حَمْزَةَ. فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “غَيّبْ عَنّى وَجْهَك”، قَالَ: فَكُنْت إذَا رَأَيْته تَوَارَيْت عَنْهُ، ثُمّ خَرَجَ النّاسُ إلَى مُسَيْلِمَةَ فَدَفَعْت إلَى مُسَيْلِمَةَ فَزَرَقْته بِالْحَرْبَةِ وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ، فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ. قَالَ: وَحَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَامَ الْفَتْحِ فَاسْتَسْلَفَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمّا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ هَوَازِنَ وَغَنّمَهُ أَمْوَالَهَا رَدّهَا وَقَالَ: “إنّمَا جَزَاءُ السّلَفِ الْحَمْدُ وَالأَدَاءُ”. وَقَالَ: “بَارَكَ اللّهُ لَك فِى مَالِك وَوَلَدِك”. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ الْهُذَلِىّ، عَنْ أَبِى حُصَيْنٍ الْهُذَلِىّ، قَالَ: اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ ثَلاثَةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ: مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ ثَلاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِى رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى الْفَتْحِ أَنّهُ قَسَمَ فِيهِمْ دَرَاهِمَ فَيُصِيبُ الرّجُلُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَعَثَ إلَى بَنِى جَذِيمَةَ. قَالَ: وَحَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ الْكَلْبِىّ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ أَبِى وَدَاعَةَ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَيْتِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ وَعَطِشَ فَاسْتَسْقَى. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ. عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ هَذَا الزّبِيبِ أَفَلا أَسْقِيك مِنْهُ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: فَبَعَثَ الرّجُلُ إلَى بَيْتِهِ فَأَتَى بِقَدَحٍ عَظِيمٍ فَأَدْنَاهُ النّبِىّ ÷ مِنْ فِيهِ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَكَرِهَهُ فَرَدّهُ، قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِمَاءِ ثُمّ دَعَا بِهِ. قَالَ: وَأُتِىَ بِمَاءِ مِنْ زَمْزَمَ فَصَبّهُ عَلَيْهِ حَتّى رَأَيْت الْمَاءَ يَفِيضُ مِنْ جَانِبِهِ وَشَرِبَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، ثُمّ نَاوَلَهُ الّذِى عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ: “مَنْ أَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ رَيْبٌ فَلْيَكْسِرْهُ بِالْمَاءِ”. قَالَ: حَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَسْلَمَ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِى وَعْلَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَهْدَى صَدِيقٌ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ ثَقِيفٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمَا عَلِمْت أَنّ اللّهَ تَعَالَى حَرّمَهَا”؟ فَسَارّ الرّجُلُ غُلامَهُ اذْهَبْ بِهَا إلَى الْحَزْوَرَةِ فَبِعْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بِمَ أَمَرْته”؟ قَالَ: بِبَيْعِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ الّذِى حَرّمَ شُرْبَهَا حَرّمَ بَيْعَهَا”، فَبَلَغَنِى أَنّهَا فُرّغَتْ فِى الْبَطْحَاءِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَثَمَنِ الْخِنْزِيرِ، وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ، وَثَمَنِ الأَصْنَامِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِى أُمَيّةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷: يَوْمَ الْفَتْحِ مَا تَرَى فِى شُحُومِ الْمَيْتَةِ يُدْهَنُ بِهَا السّقَاءُ؟ فَقَالَ ÷: “قَاتَلَ اللّهُ الْيَهُودَ حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحُومَ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا” . قَالَ: وَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: “قَاتَلَ اللّهُ الْيَهُودَ حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحْمَ فَبَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَه”. قَالَ: وَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُتْعَةَ النّسَاءِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِى عَمْرٍو بْنِ عَدِىّ بْنِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْحَزْوَرَةِ: “وَاَللّهِ إنّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللّهِ وَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَىّ، وَلَوْلا أَنّى أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت”. قَالَ: حَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، عَنْ النّبِىّ ÷ مِثْلُ ذَلِكَ وَقَالَ: “لَوْلا أَنّ أَهْلَك أَخَرَجُونِى مَا خَرَجْت”. قَالَ: وَحَدّثَنِى شَيْخٌ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: كَانَ لِبَنِى عَبْدِ الدّارِ غُلامٌ يُقَالُ لَهُ: جَبْرٌ وَكَانَ يَهُودِيّا، فَسَمِعَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ فَعَرَفَ الّذِى ذُكِرَ فِى ذَلِكَ فَاطْمَأَنّ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَسْلَمَ فَلَمّا ارْتَدّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ عَنْ إسْلامِهِ رَجَعَ إلَى مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَهْلَهُ بِإِسْلامِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ يَكْتُمُ إسْلامَهُ مِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَعَذّبُوهُ أَشَدّ الْعَذَابِ حَتّى قَالَ لَهُمْ: الّذِى يُرِيدُونَ فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ جَاءَ إلَى النّبِىّ ÷ فَشَكَا إلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ مَا لَقِىَ فِى سَبَبِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَمَنَهُ فَاشْتَرَى نَفْسَهُ فَعَتَقَ وَاسْتَغْنَى وَنَكَحَ امْرَأَةً لَهَا شَرَفٌ. قَالَ: حَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: إنّى نَذَرْت أَنْ أُصَلّىَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك مَكّةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَاهُنَا أَفْضَلُ”، فَرَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلاثًا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَصَلاةٌ هَاهُنَا أَفَضْلُ مِنْ أَلْفٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْبُلْدَانِ”. وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النّبِىّ ÷: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى جَعَلْت عَلَى نَفْسِى، إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك مَكّةَ، أَنْ أُصَلّىَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فقال رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَقْدِرِينَ عَلَى ذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرّومُ”. فَقَالَتْ: آتِى بِخَفِيرٍ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ. فَقَالَ: “لا تَقْدِرِينَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ ابْعَثِى بِزَيْتٍ يُسْتَصْبَحُ لَك بِهِ فِيهِ فَكَأَنّك أَتَيْته”، فَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تَبْعَثُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلّ سَنَةٍ بِمَالٍ يُشْتَرَى بِهِ زَيْتٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتّى مَاتَتْ فَأَوْصَتْ بِذَلِكَ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ جَلَسَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَمَرّ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: قَدْ كَانَ يُذْكَرُ لَنَا مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ حُسْنٌ وَجَمَالٌ مَا رَأَيْنَا هُنّ كَذَلِكَ قَالَ: فَغَضِبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى كَادَ أَنْ يَقَعَ بِسَعْدٍ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ فَفَرّ مِنْهُ سَعْدٌ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَاذَا لَقِيت مِنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَمَا لَهُ”؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ. قَالَ: فَغَضِبَ النّبِىّ ÷ حَتّى كَانَ وَجْهُهُ لَيُتَوَقّدُ، ثُمّ قَالَ: “رَأَيْتهنّ وَقَدْ أُصِبْنَ بِآبَائِهِنّ وَأَبْنَائِهِنّ وَإِخْوَانِهِنّ وَأَزْوَاجِهِنّ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ وَأَبْذَلُهُ لِزَوْجٍ بِمَا مَلَكَتْ يَدٌ”. وَكَانَ أَبُو الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ، فَمَا أَنْسَى شِدّةَ بَيَاضِهِ وَسَوَادَ شَعْرِهِ، وَإِنّ مِنْ الرّجَالِ لَمَنْ هُوَ أَطْوَلُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَقْصَرُ مِنْهُ يَمْشِى وَيَمْشُونَ حَوْلَهُ، قَالَ: فَقُلْت لأُمّى: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: رَسُولُ اللّهِ. قِيلَ لَهُ: مَا ثِيَابُهُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ، قَالَ: دَخَلْنَا بَعْدَ فَتْحِهَا بِأَيّامٍ نَنْظُرُ وَنَرْتَادُ وَأَنَا مَعَ أَبِى، فَنَظَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَسَاعَةَ رَأَيْته عَرَفْته وَذَكَرْت رُؤْيَتِى إيّاهُ بِذِى الْمَجَازِ، وَأَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُ أَثَرَهُ يَوْمَئِذٍ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “لا حِلْفَ فِى الإِسْلامِ، وَلَنْ يَزِيدَ حِلْفَ الْجَاهِلِيّةِ الإِسْلامُ إلاّ شِدّةً”. وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ تُحَدّثُ تَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَحْسَنَ ثَغْرًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَمَا رَأَيْت بَطْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلاّ ذَكَرْت الْقَرَاطِيسَ الْمُثْنِيَةَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ - تَعْنِى عُكَنَهُ - وَقَدْ رَأَيْته دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ ضَفّرَ رَأْسَهُ بِضَفَائِرَ أَرْبَعٍ. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَلِىّ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النّبِىّ ÷ قَالَتْ: ضَفّرْت رَأْسَ النّبِىّ ÷ بِذِى الْحُلَيْفَةِ أَرْبَعَ ضَفَائِرَ فَلَمْ يُحِلّهُ حَتّى فَتَحَ مَكّةَ وَمُقَامُهُ بِمَكّةَ حَتّى حِينَ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى حُنَيْنٍ حَلّهُ وَغَسَلْت رَأْسَهُ بِسِدْر. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِى حُصَيْنٍ الْهُذَلِىّ قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ أَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِهَدِيّةٍ - وَهُوَ بِالأَبْطَحِ - مَعَ مَوْلاةٍ لَهَا، بِجَدْيَيْنِ مَرْضُوفَيْنِ وَقَدّ. فَانْتَهَتْ الْجَارِيَةُ إلَى خَيْمَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَسَلّمَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ بَيْنَ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ وَمَيْمُونَةَ، وَنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ بَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَتْ: إنّ مَوْلاتِى أَرْسَلَتْ إلَيْك بِهَذِهِ الْهَدِيّةِ، وَهِىَ مُعْتَذِرَةٌ إلَيْك وَتَقُولُ: إنّ غَنَمَنَا الْيَوْمَ قَلِيلَةُ الْوَالِدَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَارَكَ اللّهُ لَكُمْ فِى غَنَمِكُمْ وَأَكْثَرَ وَالِدَتَهَا”، فَرَجَعَتْ الْمَوْلاةُ إلَى هِنْدٍ فَأَخْبَرَتْهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَسُرّتْ بِذَلِكَ فَكَانَتْ الْمَوْلاةُ تَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ غَنَمِنَا وَوَالِدَتِنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَرَى قَبْلُ وَلا قَرِيبًا، فَتَقُولُ هِنْدٌ: هَذَا دُعَاءُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَبَرَكَتُهُ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى هَدَانَا لِلإِسْلامِ، ثُمّ تَقُولُ: لَقَدْ كُنْت أَرَى فِى النّوْمِ أَنّى فِى الشّمْسِ أَبَدًا قَائِمَةً وَالظّلّ مِنّى قَرِيبٌ لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنّا رَأَيْت كَأَنّى دَخَلْت الظّلّ. قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ: وَقَدِمَتْ عَلَى النّبِىّ ÷ إحْدَى نِسَاءِ بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ - إمّا خَالَةٌ أَوْ عَمّةٌ - بِنَحْىٍ مَمْلُوءٍ سَمْنًا وَجِرَابٍ أَقِطٍ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِى الأَبْطَحِ، فَلَمّا دَخَلَتْ انْتَسَبَتْ لَهُ فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَدَعَاهَا إلَى الإِسْلامِ، فَأَسْلَمَتْ وَصَدّقَتْ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَبُولِ هَدِيّتِهَا، وَجَعَلَ يُسَائِلُهَا عَنْ حَلِيمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنّهَا تُوُفّيَتْ فِى الزّمَانِ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ ÷، ثُمّ سَأَلَهَا: “مَنْ بَقِىَ مِنْهُمْ”؟ فَقَالَتْ: أَخَوَاك وَأُخْتَاك، وَهُمْ وَاَللّهِ مُحْتَاجُونَ إلَى بِرّك وَصِلَتِك، وَلَقَدْ كَانَ لَهُمْ مَوْئِلٌ فَذَهَبَ. وَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيْنَ أَهْلُك”؟ فَقَالَتْ: بِذَنَبِ أَوْطَاسٍ، فَأَمَرَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِكِسْوَةٍ وَأَعْطَاهَا جَمَلاً ظَعِينَةً وَأَعْطَاهَا مِائَتَىْ دِرْهَمٍ، وَانْصَرَفَتْ وَهِىَ تَقُولُ: نِعْمَ وَاَللّهِ الْمَكْفُولُ كُنْت صَغِيرًا، وَنِعْمَ الْمَرْءُ كُنْت كَبِيرًا، عَظِيمَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْهُذَلِىّ، قَالَ: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ بَثّ السّرَايَا، فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى، وَبَعَثَ إلَى ذِى الْكَفّيْنِ - صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ - الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدّوْسِىّ، فَجَعَلَ يُحَرّقُهُ بِالنّارِ وَيَقُولُ: يَـــا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْــت مِنْ عِبَادِكَا مِيلادُنَـــا أَقْدَمُ مِـــنْ مِيلادِكَـــــا أَنَا حَشَشْـــت النّــارَ فِى فُؤَادِكَـــا وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِىّ إلَى مَنَاةَ بِالْمُشَلّلِ فَهَدَمَهُ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى صَنَمِ هُذَيْلٍ - سُوَاعٍ - فَهَدَمَهُ فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ انْتَهَيْت إلَيْهِ وَعِنْدَهُ السّادِنُ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْت: هَدْمُ سُوَاعٍ. فَقَالَ: مَا لَك وَلَهُ؟ فَقُلْت: أَمَرَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: لا تَقْدِرُ عَلَى هَدْمِهِ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: يَمْتَنِعُ. قَالَ عَمْرٌو: حَتّى الآنَ أَنْتَ فِى الْبَاطِلِ وَيْحَك هَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَدَنَوْت إلَيْهِ فَكَسَرْته، وَأَمَرْت أَصْحَابِى فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ: لِلسّادِنِ كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ. ثُمّ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِمَكّةَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ فَلا يَدَعَن فِى بَيْتِهِ صَنَمًا إلاّ كَسَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَكْسِرُونَ تِلْكَ الأَصْنَامَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ حِينَ أَسْلَمَ لا يَسْمَعُ بِصَنَمٍ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ قُرَيْشٍ إلاّ مَشَى إلَيْهِ حَتّى يَكْسِرَهُ، وَكَانَ أَبُو تِجْرَاةَ يَعْمَلُهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ وَيَبِيعُهَا. قَالَ سَعْدُ بْنُ عَمْرٍو: أَخْبَرَنِى أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ يَعْمَلُهَا وَيَبِيعُهَا. وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ إلاّ وَفِى بَيْتِهِ صَنَمٌ. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ بَعْضِ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ فَلا يَتْرُكَن فِى بَيْتِهِ صَنَمًا إلاّ كَسَرَهُ، أَوْ حَرَقَهُ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ، قَالَ جُبَيْرٌ: وَقَدْ كُنْت أَرَى قَبْلَ ذَلِكَ الأَصْنَامَ يُطَافُ بِهَا مَكّةَ، فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْبَدْوِ فَيَخْرُجُونَ بِهَا إلَى بُيُوتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلاّ وَفِى بَيْتِهِ صَنَمٌ إذَا دَخَلَ مَسَحَهُ وَإِذَا خَرَجَ مَسَحَهُ تَبَرّكًا بِهِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ جَعَلَتْ تَضْرِبُ صَنَمًا فِى بَيْتِهَا بِالْقَدُومِ فِلْذَةً فِلْذَةً وَهِىَ تَقُولُ: كُنّا مِنْك فِى غُرُورٍ. قَالَ: وَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُصَلّى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: حَدّثَنِى مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عِشْرِينَ لَيْلَةً يُصَلّى رَكْعَتَيْنِ.

  • * *










شَأْنُ هَدْمِ الْعُزّى قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْهُذَلِىّ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَبَثّ السّرَايَا فِى كُلّ وَجْهٍ أَمَرَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الإِسْلامِ، فَخَرَجَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ فِى مِائَتَيْنِ قَبْلَ يَلَمْلَمَ، وَخَرَجَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِى ثَلَثِمِائَةٍ قَبْلَ عُرَنَةَ. وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى يَهْدِمُهَا، فَخَرَجَ خَالِدٌ فِى ثَلاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهَا وَهَدَمَهَا. ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “هَدَمْت”؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَلْ رَأَيْت شَيْئًا مَا”؟ قَالَ: لا، قَالَ: “فَإِنّك لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إلَيْهَا فَاهْدِمْهَا”، فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيّظٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا جَرّدَ سَيْفَهُ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةُ الرّأْسِ فَجَعَلَ السّادِنُ يَصِيحُ بِهَا. قَالَ خَالِدٌ: وَأَخَذَنِى اقْشِعْرَارٌ فِى ظَهْرِى، فَجَعَلَ يَصِيحُ: أَيَا عُزّ شُدّى شَدّةً لا تُكَذّبِى أَيَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِـــى الْمَرْءَ خَالِدًا عَلَى خَالِدٍ أَلْقِى الْقِنَاعَ وَشَمّرِي

فَبُوئِى بِذَنْبٍ عَاجِـــلٍ أَوْ تَنَصّرِي

قَالَ: وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالسّيْفِ إلَيْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: يَا عُزّ كُفْرَانَـــك لا سُبْحَانَـــــك إنّى وَجَدْت اللّهَ قَــــدْ أَهَانَــــك قَالَ: فَضَرَبَهَا بِالسّيْفِ فَجَزّلَهَا بِاثْنَيْنِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: “نَعَمْ تِلْكَ الْعُزّى وَقَدْ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبِلادِكُمْ أَبَدًا”، ثُمّ قَالَ خَالِدٌ: أَىْ رَسُولَ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَكْرَمَنَا وَأَنْقَذَنَا مِنْ الْهَلَكَةِ إنّى كُنْت أَرَى أَبِى يَأْتِى إلَى الْعُزّى بِحِتْرِهِ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ فَيَذْبَحُهَا لِلْعُزّى، وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمّ يَنْصَرِفُ إلَيْنَا مَسْرُورًا، فَنَظَرْت إلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِى، وَذَلِكَ الرّأْىُ الّذِى كَانَ يُعَاشُ فِى فَضْلِهِ كَيْفَ خُدِعَ حَتّى صَارَ يَذْبَحُ لِحَجَرٍ لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يَضُرّ وَلا يَنْفَعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ هَذَا الأَمْرَ إلَى اللّهِ فَمَنْ يَسّرَهُ لِلْهُدَى تَيَسّرَ وَمَنْ يَسّرَهُ لِلضّلالَةِ كَانَ فِيهَا”، وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَكَانَ سَادِنُهَا أَفْلَحَ بْنَ نَضْرٍ الشّيْبَانِىّ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَزِينٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: مَا لِى أَرَاك حَزِينًا؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَضِيعَ الْعُزّى مِنْ بَعْدِى، قَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: فَلا تَحْزَنْ فَأَنَا أَقُومُ عَلَيْهَا بَعْدَك، فَجَعَلَ كُلّ مَنْ لَقِىَ، قَالَ: إنْ تَظْهَرَ الْعُزّى كُنْت قَدْ اتّخَذْت يَدًا عِنْدَهَا بِقِيَامِى عَلَيْهَا، وَإِنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى الْعُزّى – وَلا أَرَاهُ يَظْهَرُ – فَابْنُ أَخِى، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×تَبّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ% وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ: هَذَا فِى اللاّتِى. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ[…..].

  • * *

بَابُ ذِكْرِ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ رَجُلانِ أَخْطَآ الطّرِيقَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِىّ، وَخَالِدٌ الأَشْعَرُ مِنْ بَنِى كَعْبٍ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ صَبْرًا بِالسّيْفِ ابْنُ خَطَلٍ، قَتَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ قَتَلَهُ عَلِىّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَنْدَمَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قَتِيلاً.

  • * *


غَزْوَةُ بَنِى جَذِيمَةَ قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزّى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكّةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَنِى جَذِيمَةَ وَبَعَثَهُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الإِسْلامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلاً، فَخَرَجَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَبَنِى سُلَيْمٍ؛ فَكَانُوا ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلاً، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ بِأَسْفَلَ مَكّةَ، فَقِيلَ لِبَنِى جَذِيمَةَ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ قَدْ صَلّيْنَا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ وَأَذّنّا فِيهَا، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ خَالِدٌ فَقَالَ: الإِسْلامُ، قَالُوا: نَحْنُ مُسْلِمُونَ، قَالَ: فَمَا بَالُ السّلاحِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ عَدَاوَةً فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ فَأَخَذْنَا السّلاحَ لأَنْ نَدْفَعَ عَنْ أَنْفُسِنَا مَنْ خَالَفَ دِينَ الإِسْلامِ، قَالَ: فَضَعُوا السّلاحَ، فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: جَحْدَمُ: يَا بَنِى جَذِيمَةَ إنّهُ وَاَللّهِ خَالِدٌ، وَمَا يَطْلُبُ مُحَمّدٌ مِنْ أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقِرّ بِالإِسْلامِ، وَنَحْنُ مُقِرّونَ بِالإِسْلامِ، وَهُوَ خَالِدٌ لا يُرِيدُ بِنَا مَا يُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِنّهُ مَا يَقْدِرُ مَعَ السّلاحِ إلاّ الإِسَارَ، ثُمّ بَعْدَ الإِسَارِ السّيْفُ، قَالُوا: نُذَكّرُك اللّهَ تَسُومَنَا، فَأَبَى يُلْقِى سَيْفَهُ حَتّى كَلّمُوهُ جَمِيعًا فَأَلْقَى سَيْفَهُ، وَقَالُوا: إنّا مُسْلِمُونَ وَالنّاسُ قَدْ أَسْلَمُوا، وَفَتَحَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، فَمَا نَخَافُ مِنْ خَالِدٍ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللّهِ لَيَأْخُذَنكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الأَحْقَادِ الْقَدِيمَةِ، فَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلاحَ، ثُمّ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: اسْتَأْسِرُوا، فَقَالَ جَحْدَمٌ: يَا قَوْمُ مَا يُرِيدُ مِنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ يَسْتَأْسِرُونَ إنّمَا يُرِيدُ مَا يُرِيدُ فَقَدْ خَالَفْتُمُونِى وَعَصَيْتُمْ أَمْرِى، وَهُوَ وَاَللّهِ السّيْفُ، فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ فَأُمِرَ بَعْضُهُمْ يَكْتِفُ بَعْضًا، فَلَمّا كُتِفُوا دَفَعَ إلَى كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الرّجُلَ وَالرّجُلَيْنِ وَبَاتُوا فِى وَثَاقٍ فَكَانُوا إذَا جَاءَ وَقْتُ الصّلاةِ يُكَلّمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلّونَ ثُمّ يَرْبِطُونَ، فَلَمّا كَانَ فِى السّحَرِ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا نُرِيدُ بِأَسْرِهِمْ نَذْهَبُ بِهِمْ إلَى النّبِىّ ÷، وَقَائِلٌ يَقُولُ: نَنْظُرُ هَلْ يَسْمَعُونَ أَوْ يُطِيعُونَ وَنَبْلُوهُمْ وَنُخْبِرُهُمْ، وَالنّاسُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَلَمّا كَانَ فِى السّحَرِ نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ - وَالْمُذَافّةُ الإِجْهَازُ عَلَيْهِ بِالسّيْفِ، فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلّ مَنْ كَانَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ فِى يَدِى أَسِيرٌ فَأَرْسَلْته، وَقُلْت: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت وَكَانَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الأَنْصَارِ أُسَارَى فَأَرْسَلُوهُمْ. قَالَ: وَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَأَرْسَلْت أَسِيرِى، وَمَا أُحِبّ أَنّى قَتَلْته وَأَنّ لِى مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ، أَوْ غَرَبَتْ وَأَرْسَلَ قَوْمِى مَعِى مِنْ الأَنْصَارِ أَسْرَاهُمْ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ أَرْسَلْت أَسِيرِى. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَشِيرٍ الْمَازِنِىّ يَقُولُ: كَانَ مَعِى أَسِيرٌ مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمّا نَادَى خَالِدٌ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ، أَخْرَجْت سَيْفِى لأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ لِى الأَسِيرُ: يَا أَخَا الأَنْصَارِ، إنّ هَذَا لا يَفُوتُك، اُنْظُرْ إلَى قَوْمِك، قَالَ: فَنَظَرْت فَإِذَا الأَنْصَارُ طُرّا قَدْ أَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ، قَالَ: قُلْت: انْطَلِقْ حَيْثُ شِئْت، فَقَالَ: بَارَكَ اللّهُ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ رَحِمًا مِنْكُمْ قَدْ قَتَلُونَا بَنُو سُلَيْمٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِى الأَسْرَى يُذَافّونَ وَثَبَتَ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى أَسْرَاهُمْ فَذَافّوهُمْ - وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ - غَضِبَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ مِنْ الأَنْصَارِ، فَكَلّمَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِىّ، وَقَالَ: اتّقِ اللّهَ يَا خَالِدُ، وَاَللّهِ مَا كُنّا لِنَقْتُلَ قَوْمًا مُسْلِمِينَ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيك؟ قَالَ: نَسْمَعُ إقْرَارَهُمْ بِالإِسْلامِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ بِسَاحَتِهِمْ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّا فِى الْجَيْشِ وَقَدْ كُتّفَتْ بَنُو جَذِيمَةَ، أُمِرَ بَعْضُهُمْ فَكَتَفَ بَعْضًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَسْرَى: يَا فَتًى، فَقُلْت: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِرُمّتِى هَذِهِ فَمُقَدّمِى إلَى النّسَيّاتِ ثُمّ رَادّى فَفَاعِلٍ بِى مَا فُعِلَ بِأَصْحَابِى؟ قَالَ: قَدْ سَأَلْت يَسِيرًا، قَالَ: وَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَانْتَهَيْت بِهِ إلَى النّسْوَةِ، فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِنّ كَلّمَ امْرَأَةً مِنْهُنّ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، قَالَ: ثُمّ رَجَعْت بِهِ حَتّى رَدَدْته فِى الأَسْرَى، فَقَامَ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَيُقَالُ: إنّ فَتًى مِنْ بَنِى جَذِيمَةَ أَدْرَكَهُ الْجَيْشُ عَشِيّةً فَنَادَى فِى الْقَوْمِ فَكَفّ عَنْهُ وَكَانَ الّذِينَ يَطْلُبُونَهُ بَنُو سُلَيْمٍ، وَكَانُوا عَلَيْهِ مُتَغَيّظِينَ فِى حُرُوبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِبَرْزَةَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ بَنُو جَذِيمَةَ قَدْ أَصَابُوهُمْ بِبَرْزَةَ وَهُمْ مَوْتُورُونَ يُرِيدُونَ الْقَوَدَ مِنْهُمْ فَشَجُعُوا عَلَيْهِ فَلَمّا لَمْ يَرَ إلاّ أَنّهُمْ يَقْتُلُونَهُ شَدّ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلاً، ثُمّ شَدّ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ آخَرُ، ثُمّ جَاءَ الظّلامُ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَوَجَدَ الْفَتَى فُرْجَةً حَتّى إذَا كَانَ الْغَدَاةُ جَاءَ وَقَدْ قَتَلَ مِنْ الْقَوْمِ رَجُلَيْنِ وَالنّسَاءُ وَالذّرّيّةُ فِى يَدِ خَالِدٍ فَاسْتَأْمَنَ فَعَرَضَ فَرَسَهُ فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ قَالُوا: هَذَا الّذِى صَنَعَ بِالأَمْسِ مَا صَنَعَ فَنَاوَشُوهُ عَامّةَ النّهَارِ ثُمّ أَعْجَزَهُمْ وَكَرّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَنْزِلَ عَلَى أَنْ تُعْطُونِى عَهْدًا وَمِيثَاقًا لِتَصْنَعُنّ لِى مَا تَصْنَعُونَ بِالظّعُنِ إنْ استحييتموهن اسْتَحْيَيْت، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُنّ قَتَلْت؟ قَالُوا: لَك ذَلِكَ، فَنَزَلَ بِعَهْدِ اللّهِ وَمِيثَاقِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: هَذَا صَاحِبُنَا الّذِى فَعَلَ بِالأَمْسِ مَا فَعَلَ، قَالُوا: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الأَسْرَى مِنْ الرّجَالِ فَإِنْ قَتَلَهُ خَالِدٌ فَهُوَ إمَامٌ وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ كَأَحَدِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّمَا جَعَلْنَا لَهُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظّعُنِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّ خَالِدًا لا يَقْتُلُ الظّعُنَ إمّا يَقْسِمُهُنّ، وَإِمّا يَعْفُو عَنْهُنّ، قَالَ الْفَتَى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ بِى مَا فَعَلْتُمْ فَانْطَلِقُوا بِى إلَى نُسَيّاتٍ هُنَاكَ ثُمّ اصْنَعُوا بِى مَا بَدَا لَكُمْ، قَالَ: فَفَعَلُوا، وَهُوَ مَكْتُوفٌ بِرُمّةٍ حَتّى وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْهُنّ فَأَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ، وَقَالَ أَسْلِمِى: حُبَيْشٌ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ لا ذَنْبَ لِى قَدْ قُلْت شِعْرًا: أَثِيبِى بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النّوَى أَلَمْ يَكُ حَقّا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ أَلَمْ أَكُ قَدْ طَالَبْتُكُمْ فَلَقِيتُكُمْ فَإِنّى لا ضَيّعْت سِرّ أَمَانَةٍ سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِـــلٌ وَيَنْأَى الأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ

تَكَلّفَ إدْلاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ

بِحَلْيَةَ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ وَلا رَاقٍ عَيْنِى بَعْدَك الْيَوْمَ رَائِقُ لَنَا عَنْك إلاّ أَنْ يَكُونَ التّوَاثُـــقُ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ قُسَيْطٍ وَابْنُ أَبِى الزّنَادِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حُرّةَ، عَنْ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِىّ، قَالَ: أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ ضَرَبْت عُنُقَهُ، يَقُولُ: ثُمّ وَضَعَتْ فَاهَا عَلَى فِيهِ فَالْتَقَمَتْهُ فَلَمْ تَزَلْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى النّبِىّ ÷ عَابَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى خَالِدٍ مَا صَنَعَ قَالَ: يَا خَالِدُ أَخَذْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ قَتَلْتهمْ بِعَمّك الْفَاكِهِ قَاتَلَك اللّهُ، قَالَ: وَأَعَانَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى خَالِدٍ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَخَذْتهمْ بِقَتْلِ أَبِيك، فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِى بِيَدِى وَأَشْهَدْت عَلَى قَتْلِهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، ثُمّ الْتَفَتَ إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَنْشُدُك اللّهَ هَلْ عَلِمْت أَنّى قَتَلْت قَاتِلَ أَبِى؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: اللّهُمّ نَعَمْ، ثُمّ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، وَلَوْ لَمْ أَقْتُلْ قَاتِلَ أَبِى كُنْت تَقْتُلُ قَوْمًا مُسْلِمِينَ بِأَبِى فِى الْجَاهِلِيّةِ؟ قَالَ خَالِدٌ: وَمَنْ أَخْبَرَك أَنّهُمْ أَسْلَمُوا؟ فَقَالَ: أَهْلُ السّرِيّةِ كُلّهُمْ يُخْبِرُونَنَا أَنّك وَجَدْتهمْ قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ وَأَقَرّوا بِالإِسْلامِ، ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ، قَالَ: جَاءَنِى رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ فَأَغَرْت بِأَمْرِ النّبِىّ ÷، فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَغَالَظَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَعْرَضَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ خَالِدٍ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ، فَقَالَ: “يَا خَالِدُ ذَرُوا لِى أَصْحَابِى مَتَى يُنْكَ أَنْفُ الْمَرْءِ يُنْكَ لَوْ كَانَ أُحُدٌ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ قِيرَاطًا قِيرَاطًا فِى سَبِيلِ اللّهِ لَمْ تُدْرِكْ غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً مِنْ غَدَوَاتِ أَوْ رَوْحَاتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ” . قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، أَخَذْت بَنِى جَذِيمَةَ بِاَلّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ، أَوَ لَيْسَ الإِسْلامُ قَدْ مَحَا مَا كَانَ قَبْلَهُ فِى الْجَاهِلِيّةِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهمْ إلاّ بِالْحَقّ أَغَرْت عَلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ وَامْتَنَعُوا، فَلَمْ يَكُنْ لِى بُدّ - إذْ امْتَنَعُوا - مِنْ قِتَالِهِمْ فَأَسَرْتهمْ ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَىّ رَجُلٍ تَعْلَمُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُ وَاَللّهِ رَجُلاً صَالِحًا، قَالَ: فَهُوَ أَخْبَرَنِى غَيْرَ الّذِى أَخْبَرْتنِى، وَكَانَ مَعَك فِى ذَلِكَ الْجَيْشِ، قَالَ خَالِدٌ: فَإِنّى أَسَتَغْفِرُ اللّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ، قَالَ: فَانْكَسَرَ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: وَيْحَك، رأيتِ رَسُولَ اللّهِ يَسْتَغْفِرْ لَك. قَالَ: حَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ، وَكَانَ فِى الْقَوْمِ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ فِى السّحَرِ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ أَرْسَلْت أَسِيرِى وَقُلْت لِخَالِدٍ: اتّقِ اللّهَ، فَإِنّك مَيّتٌ وَإِنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، قَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، إنّهُ لا عِلْمَ لَك بِهَؤُلاءِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَإِنّمَا يُكَلّمُنِى خَالِدٌ عَلَى مَا فِى نَفْسِهِ مِنْ التّرَةِ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتّى رُئِىَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ، وَيَقُولُ: “اللّهُمّ إنّى أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِد”، وَقَدِمَ خَالِدٌ وَالنّبِىّ ÷ عَاتِبٌ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ كَلامٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَمَشَى خَالِدٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ إلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَتّى رَضِىَ عَنْهُ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِى يَا أَبَا مُحَمّدٍ، قَالُوا: وَدَخَلَ عَمّارٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَقَدْ حَمَشَ قَوْمًا قَدْ صَلّوْا وَأَسْلَمُوا. ثُمّ وَقَعَ بِخَالِدٍ عِنْدَ النّبِىّ ÷ وَخَالِدٌ جَالِسٌ لا يَتَكَلّمُ فَلَمّا قَامَ عَمّارٌ وَقَعَ بِهِ خَالِدٌ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “مَهْ يَا خَالِدُ لا تَقَعْ بِأَبِى الْيَقْظَانِ فَإِنّهُ مَنْ يُعَادِهِ يُعَادِهِ اللّهُ، وَمَنْ يُبْغِضْهُ يُبْغِضْهُ اللّهُ، وَمَنْ يُسَفّهْهُ يُسَفّهْهُ اللّهُ”. قَالُوا: فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ اسْتَقْرَضَ مَالاً بِمَكّةَ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ فَأَعْطَاهُ مَالاً، فَقَالَ: “انْطَلِقْ إلَى بَنِى جَذِيمَةَ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك، فَدِ لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ”، فَخَرَجَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتّى جَاءَهُمْ فَوَدَى لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدٌ، وَدَفَعَ إلَيْهِمْ مَالَهُمْ وَبَقِىَ لَهُمْ بَقِيّةُ الْمَالِ، فَبَعَثَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ أَبَا رَافِعٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ لِيَسْتَزِيدَهُ فَزَادَهُ مَالاً، فَوَدَى لَهُمْ كُلّ مَا أَصَابَ حَتّى إنّهُ لَيَدِى لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ بَقِىَ مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ، فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: هَذِهِ الْبَقِيّةُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِمّا أَصَابَ خَالِدٌ مِمّا لا يَعْلَمُهُ وَلا تَعْلَمُونَهُ، فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ. وَيُقَالُ: إنّمَا الْمَالُ الّذِى بَعَثَ بِهِ مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ النّبِىّ ÷ مِنْ ابْنِ أَبِى رَبِيعَةَ، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، فَبَعَثَ مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَلَمّا رَجَعَ عَلِىّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “مَا صَنَعْت يَا عَلِىّ”؟ فَأَخْبَرَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَتِهِمْ فَوَدَيْت لَهُمْ كُلّ مَنْ قَتَلَ خَالِدٌ حَتّى مِيلَغَةَ الْكِلابِ ثُمّ بَقِىَ مَعِى بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقُلْت: هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِمّا لا يَعْلَمُهُ وَلا تَعْلَمُونَهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَصَبْت مَا أَمَرْت خَالِدًا بِالْقَتْلِ، إنّمَا أَمَرْته بِالدّعَاءِ”، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لا يُقْبِلُ عَلَى خَالِدٍ وَيَعْرِضُ عَنْهُ وَخَالِدٌ يَتَعَرّضُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَيَحْلِفُ مَا قَتَلَهُمْ عَلَى تِرَةٍ وَلا عَدَاوَةٍ، فَلَمّا قَدِمَ عَلِىّ وَوَدَاهُمْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى خَالِدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ حَتّى تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الأَخْنَسِىّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَسُبّوا خَالِدَ ابْنَ الْوَلِيدِ، فَإِنّمَا هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ سَلّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ”. قَالَ: وَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِى الأَحْوَصِ، عَنْ النّبِىّ ÷، قَالَ: “نِعْمَ عَبْدُ اللّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَخُو الْعَشِيرَةِ وَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ سَلّهُ عَلَى الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِين”. قَالَ: وَحَدّثَنِى يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الأَخْنَسِىّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يُغِيرَ عَلَى بَنِى كِنَانَةَ، إلاّ أَنْ يَسْمَعَ أَذَانًا أَوْ يَعْلَمَ إسْلامًا، فَخَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَنِى جَذِيمَةَ فَامْتَنَعُوا أَشَدّ الامْتِنَاعِ، وَقَاتَلُوا وَتَلَبّسُوا السّلاحَ فَانْتَظَرَ بِهِمْ صَلاةَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لا يَسْمَعُ أَذَانًا، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ فَادّعَوْا بَعْدُ الإِسْلامَ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا عَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى ذَلِكَ عَلَى خَالِدٍ، وَلَقَدْ كَانَ الْمُقَدّمَ حَتّى مَاتَ. وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ. وَإِلَى تَبُوكَ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى أُكَيْدِرٍ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ. فَسَبَى مَنْ سَبَى ثُمّ صَالَحَهُمْ وَلَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إلَى نَجْرَانَ أَمِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللّهِ وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى حَجّةِ الْوَدَاعِ، فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأْسَهُ أَعْطَاهُ نَاصِيَتَهُ فَكَانَتْ فِى مُقَدّمِ قَلَنْسُوَتِهِ فَكَانَ لا يَلْقَى أَحَدًا إلاّ هَزَمَهُ اللّهُ تَعَالَى؛ وَلَقَدْ قَاتَلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَوَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ. فَجَعَلَ يَقُولُ: الْقَلَنْسُوَةُ الْقَلَنْسُوَةُ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ عَجَبًا لِطَلَبِك الْقَلَنْسُوَةَ وَأَنْتَ فِى حَوْمَةِ الْقِتَالِ، فَقَالَ: إنّ فِيهَا نَاصِيَةَ النّبِىّ ÷، وَلَمْ أَلْقَ بِهَا أَحَدًا إلاّ وَلّى. وَلَقَدْ تُوُفّىَ خَالِدٌ يَوْمَ تُوُفّىَ وَهُوَ مُجَاهِدٌ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَقَبْرُهُ بِحِمْصٍ؛ فَأَخْبَرَنِى مَنْ غَسّلَهُ وَحَضَرَ مَوْتَهُ وَنَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ ثِيَابِهِ مَا فِيهِ مَصَحّ؛ مَا بَيْنَ ضَرْبَةِ سَيْفٍ أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ. وَلَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الّذِى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَيْسَ بِذَلِكَ، ثُمّ يَذْكُرُهُ بَعْدُ فَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِ وَيَتَنَدّمُ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ فِى أَمْرِهِ، وَيَقُولُ: سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ تَعَالَى وَلَقَدْ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ هَبَطَ مِنْ لَفْتٍ فِى حَجّتِهِ. وَمَعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ هَذَا”؟ فَقَالَ الرّجُلُ: فُلانٌ. قَالَ: “بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ فُلانٌ”، ثُمّ طَلَعَ آخَرُ، فَقَالَ: “مَنْ الرّجُلُ”؟ فَقَالَ: فُلانٌ. فَقَالَ: “بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ فُلانٌ”، ثُمّ طَلَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: “مَنْ هَذَا”؟ قَالَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: “نِعْمَ عَبْدُ اللّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ”. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى جَذِيمَةَ مُبَيّضٌ، قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ إلْيَاسَ يَقُولُ: بَلَغْنَا أَنّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِينَ رَجُلاً.

  • * *








غَزْوَةُ حُنَيْنٍ حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِىّ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَبُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ؛ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ، وَغَيْرُ هَؤُلاءِ، حَدّثَنَا مِمّنْ لَمْ أُسَمّ أَهْلُ ثِقَةٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ مَا قَدْ حَدّثُونِى بِهِ. قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ مَشَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَثَقِيفٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَحَشَدُوا وَبَغَوْا وَأَظْهَرُوا أَنْ قَالُوا: وَاَللّهِ مَا لاقَى مُحَمّدٌ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَسِيرُوا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْكُمْ. فَأَجْمَعَتْ هَوَازِنُ أَمْرَهَا وَجَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلاثِينَ سَنَةً - وَكَانَ سَيّدًا فِيهَا، وَكَانَ مُسَبّلاً، يَفْعَلُ فِى مَالِهِ وَيُحْمَدُ، فَاجْتَمَعَتْ هَوَازِنُ كُلّهَا، وَكَانَ فِى ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهَا يَوْمَئِذٍ قَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ فِى الأَحْلافِ، هُوَ الّذِى قَادَهَا؛ وَفِى بَنِى مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ - وَيُقَالُ: الأَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ - وَهُوَ الّذِى قَادَهَا مُوَالِيًا ثَقِيفًا؛ فَأَوْعَبَتْ كُلّهَا مَعَ هَوَازِنَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ إلَى مُحَمّدٍ فَوَجَدَ ثَقِيفًا إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا، فَقَالُوا: قَدْ كُنّا نَهُمّ بِالْمَسِيرِ إلَيْهِ وَنَكْرَهُ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ سَارَ إلَيْنَا لَوَجَدَ حِصْنًا حَصِينًا نُقَاتِلُ دُونَهُ وَطَعَامًا كَثِيرًا، حَتّى نُصِيبَهُ أَوْ يَنْصَرِفَ، وَلَكِنّا لا نُرِيدُ ذَلِكَ وَنَسِيرُ مَعَكُمْ وَنَكُونُ يَدًا وَاحِدَةً، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ. قَالَ غَيْلانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِىّ: لَبَنِيهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ إنّى أُرِيدُ أَمْرًا كَائِنَةً لَهُ أُمُورٌ لا يَشْهَدُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاّ عَلَى فَرَسِهِ، فَشَهِدَهَا عَشَرَةٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ فَلَمّا انْهَزَمُوا بَأَوْطَاسٍ هَرَبُوا، فَدَخَلُوا حِصْنَ الطّائِفِ فَغَلّقُوهُ، وَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، إنّكُمْ تَخْرُجُونَ مِنْ حِصْنِكُمْ وَتَسِيرُونَ إلَى رَجُلٍ لا تَدْرُونَ أَيَكُونُ لَكُمْ أَمْ عَلَيْكُمْ فَمُرُوا بِحِصْنِكُمْ أَنْ يُرَمّ مَا رَثّ مِنْهُ، فَإِنّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، فَأَمَرُوا بِهِ أَنْ يُصْلَحَ، وَخَلّفُوا عَلَى مَرَمّتِهِ رَجُلاً وَسَارُوا، وَشَهِدَهَا نَاسٌ مِنْ بَنِى هِلالٍ لَيْسُوا بِكَثِيرٍ مَا يَبْلُغُونَ مِائَةً، وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلا كِلابٌ، وَلَقَدْ كَانَتْ كِلابٌ قَرِيبَةً فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: لِمَ تَرَكَتْهَا كِلابٌ فَلَمْ تَحْضُرْهَا؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللّهِ إنْ كَانَتْ لَقَرِيبَةٌ وَلَكِنّ ابْنَ أَبِى الْبَرَاءِ مَشَى فَنَهَاهَا عَنْ الْحُضُورِ فَأَطَاعَتْهُ، وَقَالَ: وَاَللّهِ لَوْ نَأَوْا مُحَمّدًا مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَظَهَرَ عَلَيْهِ. وَنَصَرَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِى بَنِى جُشَمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلاّ التّيَمّنُ بِهِ وَمَعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ يَوْمَئِذٍ، وَجِمَاعُ النّاسِ، ثَقِيفٌ وَغَيْرُهَا مِنْ هَوَازِنَ، إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِىّ، فَلَمّا أَجْمَعَ مَالِكٌ الْمَسِيرَ بِالنّاسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ أَمَرَ النّاسَ فَجَاءُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ حَتّى نَزَلُوا بَأَوْطَاسٍ، وَاجْتَمَعَ النّاسُ بِهِ فَعَسْكَرُوا وَأَقَامُوا بِهِ وَجُعِلَتْ الأَمْدَادُ تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَدُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ يَوْمَئِذٍ فِى شِجَارٍ يُقَادُ بِهِ عَلَى بَعِيرٍ فَمَكَثَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمّا نَزَلَ الشّيْخُ لَمَسّ الأَرْضَ بِيَدِهِ، فَقَالَ: بِأَىّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بَأَوْطَاسٍ، قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لا حَزْنٌ ضَرِسٌ وَلا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِى أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَثُغَاءَ الشّاءِ، وَخُوَارَ الْبَقَرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مِنْ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِى كِلابِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَمَعَكُمْ مِنْ بَنِى كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ بَنِى هِلالِ بْنِ عَامِرٍ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لا، قَالَ دُرَيْدٌ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ شَرَفًا مَا تَخَلّفُوا عَنْهُ فَأَطِيعُونِى يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَارْجِعُوا وَافْعَلُوا مَا فَعَلَ هَؤُلاءِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لا يَضُرّانِ وَلا يَنْفَعَانِ. ثُمّ قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ، فَدَعَا لَهُ فَقَالَ: يَا مَالِكٌ، إنّك تُقَاتِلُ رَجُلاً كَرِيمًا؛ وَقَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك، وَإِنّ هَذَا كَائِنٌ الْيَوْمَ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ الأَيّامِ، يَا مَالِكُ مَا لِى أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَخُوَارَ الْبَقَرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَثُغَاءَ الشّاءِ؟ قَالَ مَالِكٌ: سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، قَالَ دُرَيْدٌ: وَلِمَ؟ قَالَ مَالِكٌ: أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ حَتّى يُقَاتِلَ عَنْهُمْ، قَالَ: فَأَنْقَضَ بِيَدِهِ، ثُمّ قَالَ: رَاعِى ضَأْنٍ مَا لَهُ وَلِلْحَرْبِ؟ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَكُمْ لَمْ يَنْفَعْك إلاّ رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِى أَهْلِك وَمَالِك، ثُمّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ غَابَ الْجَدّ وَالْحَدّ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ رِفْعَةٍ وَعَلاءٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلا كِلابٌ، يَا مَالِكُ، إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، فَإِذَا صَنَعْت مَا صَنَعْت فَلا تَعْصِنِى فِى هَذِهِ الْخُطّةِ ارْفَعْهُمْ إلَى مُمْتَنِعِ بِلادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ وَعِزّهِمْ، ثُمّ الْقَ الْقَوْمَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَك لَحِقَ بِك مِنْ وَرَاءَك؛ وَكَانَ أَهْلُك لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك، فَغَضِبَ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ: وَاَللّهِ لا أَفْعَلُ، وَلا أُغَيّرُ أَمْرًا صَنَعْته، إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبُرَ عِلْمُك، وَحَدَثَ بَعْدَك مَنْ هُوَ أَبْصَرُ بِالْحَرْبِ مِنْك، قَالَ دُرَيْدٌ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْىٍ هَذَا فَاضِحُكُمْ فِى عَوْرَتِكُمْ وَمُمَكّنٌ مِنْكُمْ عَدُوّكُمْ، وَلاحِقٌ بِحِصْنِ ثَقِيفٍ وَتَارِكُكُمْ فَانْصَرِفُوا وَاتْرُكُوهُ فَسَلّ مَالِكٌ سَيْفَهُ، ثُمّ نَكّسَهُ، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِى أَوْ لأَتّكِئَن عَلَى السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِى وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ، وَرَأْيٌ فَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: وَاَللّهِ لَئِنْ عَصَيْنَا مَالِكًا، وَهُوَ شَابّ، لَيَقْتُلَن نَفْسَهُ وَنَبْقَى مَعَ دُرَيْدٍ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لا قِتَالَ فِيهِ، ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةً، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ مَعَ مَالِكٍ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دُرَيْدٌ وَأَنّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ. قَالَ هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ: يَـــا لَيْتَنِــى فِيهَــــــا جَــــــذَعْ أَخُــــبّ فِيهَـــــا وَأَضَــــــعْ وَكَانَ دُرَيْدٌ قَدْ ذُكِرَ بِالْفُرُوسِيّةِ وَالشّجَاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَيّدَ بَنِى جُشَمٍ وَأَوْسَطَهُمْ نَسَبًا. وَلَكِنّ السّنّ أَدْرَكَتْهُ حَتّى فَنِىَ فَنَاءً - وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَكّةَ لِثَلاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى: ×إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ% قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُصَلّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمّ غَدَا يَوْمَ السّبْتِ لِسِتّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكّةَ عَتّابَ بْنِ أُسَيْدٍ يُصَلّى بِهِمْ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلّمُهُمْ السّنَنَ وَالْفِقْهَ. قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَأَلْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ. فَلَمّا فَصَلَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَوْ لَقِينَا بَنِى شَيْبَانَ مَا بَالَيْنَا، وَلا يَغْلِبُنَا الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى ذَلِكَ: ×لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ% الآيَةَ. قَالَ: حَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ. لا نَغْلِبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى ذَلِكَ: ×لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ% الآيَةَ. قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “خَيْرُ الأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا تُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ - كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ”. قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ نَاسٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَثِيرٌ. مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ اسْتَعَارَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدّاتِهَا كَامِلَةً. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ. طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَارِيَةً مُؤَدّاةً” وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِصَفْوَانَ: “اكْفِنَا حَمْلَهَا”، فَحَمَلَهَا صَفْوَانُ عَلَى إبِلِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَوْطَاسٍ، فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِى سِنَانٍ الدّيلِىّ، عَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللّيْثِىّ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ يُعَلّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، قَالَ: فَرَأَيْنَا يَوْمًا، وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ النّبِىّ ÷ شَجَرَةً عَظِيمَةً خَضْرَاءَ فَسَتَرَتْنَا مِنْ جَانِبِ الطّرِيقِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ”، قَالَ: “إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا لِلسّنَنِ سَنَنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ شَجَرَةً عَظِيمَةً، أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ يَذْبَحُونَ بِهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، وَكَانَ مَنْ حَجّ مِنْهُمْ وَضَعَ رِدَاءَهُ عِنْدَهَا. وَيَدْخُلُ بِغَيْرِ رِدَاءٍ تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَمّا مَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حُنَيْنٍ قَالَ لَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثًا، وَقَالَ: “وَكَذَا فَعَلَ قَوْمُ مُوسَى بِمُوسَى”. قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: لَمّا كُنّا دُونَ أَوْطَاسٍ نَزَلْنَا تَحْتَ شَجَرَةٍ وَنَظَرْنَا إلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ تَحْتَهَا، وَعَلّقَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ، قَالَ: وَكُنْت مِنْ أَقْرَبِ أَصْحَابِهِ إلَيْهِ، قَالَ: فَمَا أَفْزَعَنِى إلاّ صَوْتُهُ يَا أَبَا بُرْدَةَ، فَقُلْت: لَبّيْكَ فَأَقْبَلَتْ سَرِيعًا، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ هَذَا الرّجُلَ جَاءَ وَأَنَا نَائِمٌ فَسَلّ سَيْفِى ثُمّ قَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِى فَفَزِعْت بِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمّدُ مَنْ يُؤَمّنُك مِنّى الْيَوْمَ؟ قُلْت: اللّهُ”، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَوَثَبْت إلَى سَيْفِى فَسَلَلْته، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “شِمْ سَيْفَك”، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِى أَضْرِبُ عُنُقَ عَدُوّ اللّهِ، فَإِنّ هَذَا مِنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فَقَالَ لِى: اُسْكُتْ يَا أَبَا بُرْدَةَ، قَالَ: فَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ شَيْئًا وَلا عَاقَبَهُ، قَالَ: فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِ فِى الْعَسْكَرِ لِيَشْهَدَهُ النّاسُ فَيَقْتُلُهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَأَمّا أَنَا فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ كَفّنِى عَنْ قَتْلِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “اُلْهُ عَنْ الرّجُلِ يَا أَبَا بُرْدَةَ”، قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “يَا أَبَا بُرْدَةَ إنّ اللّهَ مَانِعِى وَحَافِظِى حَتّى يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ”. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حُنَيْنٍ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثّلاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، وَبَعَثَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رِجَالاً مِنْ هَوَازِنَ يَنْظُرُونَ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ - ثَلاثَةَ نَفَرٍ - وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرّقُوا فِى الْعَسْكَرِ، فَرَجَعُوا إلَيْهِ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: “مَا شَأْنُكُمْ وَيْلَكُمْ”؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالاً بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى، وَقَالُوا لَهُ: مَا نُقَاتِلُ أَهْلَ الأَرْضِ إنْ نُقَاتِلْ إلاّ أَهْلَ السّمَوَاتِ - وَإِنّ أَفْئِدَةَ عُيُونِهِ تَخْفُقُ - وَإِنْ أَطَعْتنَا رَجَعْت بِقَوْمِك، فَإِنّ النّاسَ إنْ رَأَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْنَا أَصَابَهُمْ مِثْلَ الّذِى أَصَابَنَا، قَالَ: “أُفّ لَكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ أَجْبَنُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ”، فَحَبَسَهُمْ عِنْدَهُ فَرَقًا أَنْ يَشِيعَ ذَلِكَ الرّعْبُ فِى الْعَسْكَرِ، وَقَالَ: “دِلّونِى عَلَى رَجُلٍ شُجَاعٍ”. فَأَجْمِعُوا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، فَخَرَجَ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ أَصَابَهُ نَحْوَ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: “مَا رَأَيْت”؟ قَالَ: رَأَيْت رِجَالاً بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ. مَا يُطَاقُ النّظَرُ إلَيْهِمْ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْت أَنْ أَصَابَنِى مَا تَرَى فَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، قَالُوا: وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ الأَسْلَمِىّ فَقَالَ: “انْطَلِقْ فَادْخُلْ فِى النّاسِ حَتّى تَأْتِىَ بِخَبَرِ مِنْهُمْ وَمَا يَقُولُ مَالِكٌ”. فَخَرَجَ عَبْدُ اللّهِ فَطَافَ فِى عَسْكَرِهِمْ ثُمّ انْتَهَى إلَى ابْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُ عِنْدَهُ رُؤَسَاءُ هَوَازِنَ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ إنّ مُحَمّدًا لَمْ يُقَاتِلْ قَطّ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرّةِ، وَإِنّمَا كَانَ يَلْقَى أَغْمَارًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَيُنْصَرُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ فِى السّحَرِ فَصَفّوا مَوَاشِيَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ ثُمّ صُفّوا صُفُوفَكُمْ، ثُمّ تَكُونُ الْحَمَلَةُ مِنْكُمْ وَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ فَتَلْقَوْنَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفِ سَيْفٍ مَكْسُورِ الْجَفْنِ، وَاحْمِلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاعْلَمُوا أَنّ الْغَلَبَةَ لِمَنْ حَمَلَ أَوّلاً فَلَمّا وَعَى ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حَدْرَدٍ رَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَ بِكُلّ مَا سَمِعَ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: كَذَبَ ابْنُ أَبِى حَدْرَدٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِى حَدْرَدٍ: لَئِنْ كَذّبْتنِى لَرُبّمَا كَذّبَتْ بِالْحَقّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اسْمَعْ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِى حَدْرَدٍ قَالَ: “صَدَقَ كُنْت ضَالاّ فَهَدَاك اللّهُ”. قَالَ: وَكَانَ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيّةِ الأَنْصَارِىّ يَقُولُ: سِرْنَا مَعَ النّبِىّ ÷ فِى غَزْوَةِ هَوَازِنَ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، قَدْ تَقَطّعُوا مِنْ وَرَائِك فَنَزَلَ فَصَلّى الْعَصْرَ وَأَوَى إلَيْهِ النّاسَ فَأَمَرَهُمْ فَنَزَلُوا، وَجَاءَهُ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى انْطَلَقْت مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهَا بِظُعُنِهَا وَنِسَائِهَا وَنَعَمِهَا فِى وَادِى حُنَيْنٍ، فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَ: “تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلا فَارِسٌ يَحْرُسُنَا اللّيْلَةَ”؟ إذْ أَقْبَلَ أُنَيْسُ بْنُ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىّ عَلَى فَرَسِهِ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ: “انْطَلِقْ حَتّى تَقِفَ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَلا تَنْزِلَن إلاّ مُصَلّيًا أَوْ قَاضِى حَاجَةٍ، وَلا تَغُرّن مَنْ خَلْفَك”. قَالَ: وَبِتْنَا حَتّى أَضَاءَ الْفَجْرُ وَحَضَرْنَا الصّلاةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ أَأَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ اللّيْلَةَ؟ قُلْنَا: لا وَاَللّهِ فَأُقِيمَتْ الصّلاةُ فَصَلّى بِنَا، فَلَمّا سَلّمَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَنْظُرُ خِلالَ الشّجَرِ فَقَالَ: “أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ وَجَاءَ” فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى وَقَفْت عَلَى الْجَبَلِ كَمَا أَمَرْتنِى، فَلَمْ أَنْزِلْ عَنْ فَرَسِى إلاّ مُصَلّيًا أَوْ قَاضِىَ حَاجَةٍ حَتّى أَصْبَحْت، فَلَمْ أُحِسّ أَحَدًا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “انْطَلِقْ فَانْزِلْ عَنْ فَرَسِك، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا”. فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا أَلاّ يَعْمَلَ بَعْدَ هَذَا عَمَلاً؟. قَالُوا: وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنْ مَكّةَ مَعَ النّبِىّ ÷ فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا - عَلَى غَيْرِ دِينٍ - رُكْبَانًا وَمُشَاةً يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ وَلا يَكْرَهُونَ أَنْ تَكُونَ الصّدْمَةُ لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَخَرَج أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِى أَثَرِ الْعَسْكَرِ كُلّمَا مَرّ بِتُرْسٍ سَاقِطٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ مَتَاعٍ مِنْ مَتَاعِ النّبِىّ ÷ حَمَلَهُ وَالأَزْلامُ فِى كِنَانَتِهِ، حَتّى أَوْقَرَ جَمَلَهُ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ وَلَمْ يُسْلِمْ وَهُوَ فِى الْمُدّةِ الّتِى جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَاضْطَرَبَ خَلْفَ النّاسِ وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ وَاضْطَرَبُوا خَلْفَ النّاسِ، وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ فَمَرّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَبْشِرْ أَبَا وَهْبٍ هُزِمَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: إنّ رَبّا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَىّ مِنْ رَبّ مِنْ هَوَازِنَ إنْ كُنْت مَرْبُوبًا. قَالَ: وَلَمّا كَانَ مِنْ اللّيْلِ عَمَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ إلَى أَصْحَابِهِ فَعَبّأَهُمْ فِى وَادِى حُنَيْنٍ - وَهُوَ وَادٍ أَجْوَفَ ذُو شِعَابٍ وَمَضَايِقَ - وَفَرّقَ النّاسُ فِيهِ وَأَوْعَزَ إلَى النّاسِ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً، وَعَبَأَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ وَصَفّهُمْ صُفُوفًا فِى السّحَرِ، وَوَضَعَ الأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ فِى أَهْلِهَا؛ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَفِى الأَنْصَارِ رَايَاتٌ مَعَ الْخَزْرَجِ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ - وَيُقَالُ: لِوَاءُ الْخَزْرَجِ الأَكْبَرُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - وَلِوَاءُ الأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَفِى كُلّ بَطْنٍ مِنْ الأَوْسِ، وَالْخَزْرَجِ لِوَاءٌ أَوْ رَايَةٌ. وَفِى بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو نَائِلَةَ، وَفِى بَنِى حَارِثَةَ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَفِى ظَفَرٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ فِى بَنِى مُعَاوِيَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا هِلالُ بْنُ أُمَيّةَ فِى بَنِى وَاقِفٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فِى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرَايَةُ يَحْمِلُهَا أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِىّ فِى بَنِى سَاعِدَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فِى بَنِى مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو سَلِيطٍ فِى بَنِى عَدِىّ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ فِى بَنِى مَازِنٍ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِى الْجَاهِلِيّةِ خُضْرٌ وَحُمْرٌ فَلَمّا كَانَ الإِسْلامُ أَقَرّوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْمُهَاجِرِينَ سُودٌ وَالأَلْوِيَةُ بِيضٌ، وَكَانَ فِى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِى أَسْلَمَ رَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مَعَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَالأُخْرَى مَعَ جُنْدُبِ بْنِ الأَعْجَمِ. وَكَانَ فِى بَنِى غِفَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو ذَرّ، وَمَعَ بَنِى ضَمْرَةَ وَلَيْثٍ وَسَعْدِ بْنِ لَيْثٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِىّ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ مَعَ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو رَايَتَانِ يَحْمِلُ إحْدَاهُمَا بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى أَبُو شُرَيْحٍ، وَكَانَ فِى بَنِى مُزَيْنَةَ ثَلاثُ رَايَاتٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِى جُهَيْنَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ رَايَةٌ مَعَ رَافِعِ ابْنِ مَكِيثٍ، وَرَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَرَايَةٌ مَعَ أَبِى زُرْعَةَ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، وَرَايَةٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَكَانَتْ فِى بَنِى أَشْجَعَ رَايَتَانِ وَاحِدَةٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالأُخْرَى مَعَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ. وَكَانَتْ فِى بَنِى سُلَيْمٍ ثَلاثُ رَايَاتٍ رَايَةٌ مَعَ الْعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَرَايَةٌ مَعَ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ وَرَايَةٌ مَعَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلاطٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ قَدِمَ سُلَيْمًا مِنْ يَوْمِ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَةَ الْخَيْلِ وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُقَدّمَتِهِ حَتّى وَرَدَ الْجِعِرّانَةِ. قَالُوا: وَانْحَدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِأَصْحَابِهِ وَقَدْ مَضَتْ مُقَدّمَتُهُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ فِى وَادِى حُنَيْنٍ، فَانْحَدَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ انْحِدَارًا - وَهُوَ وَادٍ حُدُورٌ - وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ دُلْدُلَ وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ الْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ وَاسْتَقْبَلَ الصّفُوفَ وَطَافَ عَلَيْهَا بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ يَنْحَدِرُونَ فِى الْوَادِى، فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إنْ صَدَقُوا وَصَبَرُوا، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَنْحَدِرُونَ فِى غَلَسِ الصّبْحِ. فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى وَادِى حُنَيْنٍ - وَهُوَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ لَهُ مَضَايِقُ وَشِعَابٌ - فَاسْتَقْبَلْنَا مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ لا وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَهُ فِى ذَلِكَ الزّمَانِ قَطّ مِنْ السّوَادِ وَالْكَثْرَةِ قَدْ سَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ ثُمّ صَفّوا صُفُوفًا. فَجَعَلُوا النّسَاءَ فَوْقَ الإِبِلِ وَرَاءَ صُفُوفِ الرّجَالِ، ثُمّ جَاءُوا بِالإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَجَعَلُوهَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِئَلاّ يَفِرّوا بِزَعْمِهِمْ، فَلَمّا رَأَيْنَا ذَلِكَ السّوَادَ حَسِبْنَاهُ رِجَالاً كُلّهُمْ فَلَمّا تَحَدّرْنَا فِى الْوَادِى، فَبَيْنَا نَحْنُ فِيهِ غَلَسَ الصّبْحُ إنْ شَعَرْنَا إلاّ بِالْكَتَائِبِ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْ مَضِيقِ الْوَادِى وَشِعْبِهِ فَحَمَلُوا حَمَلَةً وَاحِدَةً، فَانْكَشَفَ أَوّلُ الْخَيْلِ - خَيْلِ سُلَيْمٍ - مُوَلّيَةً فَوَلّوْا، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكّةَ وَتَبِعَهُمْ النّاسُ مُنْهَزِمِينَ مَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ وَهُوَ يَقُولُ: “يَا أَنْصَارَ اللّهِ، وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ صَابِرٌ”، قَالَ: ثُمّ تَقَدّمَ بِحَرْبَتِهِ أَمَامَ النّاسِ فَوَاَلّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا ضَرَبْنَا بِسَيْفٍ وَلا طَعَنّا بِرُمْحٍ حَتّى هَزَمَهُمْ اللّهُ ثُمّ رَجَعَ النّبِىّ ÷ إلَى الْعَسْكَرِ يَأْمُرُ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَجَعَلَتْ هَوَازِنُ تُوَلّى وَثَابَ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فَوَلّى الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَمَا مَعَهُ إلاّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آخِذًا بِثَفَرِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَالنّبِىّ ÷ لا يَأْلُو مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَتَيْته حَتّى أَخَذْت بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ شَهْبَاءُ فَشَجَرْتهَا بِالْحَكَمَةِ، وَكُنْت رَجُلاً صَيّتًا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ رَأَى مِنْ النّاسِ مَا رَأَى: “لا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ”، قَالَ: “يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ”، فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ، قَالَ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ الإِبِلُ إذَا حَنَتْ إلَى أَوْلادِهَا، يَقُولُونَ: يَا لَبّيْكَ يَا لَبّيْكَ، فَيَذْهَبُ الرّجُلُ مِنْهُمْ فَيُثْنِى بَعِيرَهُ فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيُقَدّمُهَا فِى عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ تُرْسَهُ وَسَيْفَهُ، ثُمّ يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلّى سَبِيلَهُ فِى النّاسِ وَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِىَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى إذَا ثَابَ إلَيْهِ النّاسُ اجْتَمَعُوا، فَكَانَتْ الدّعْوَةُ أَوّلاً: يَا لَلأَنْصَارِ ثُمّ قُصِرَتْ الدّعْوَةُ، فَنَادَوْا: يَا لَلْخَزْرَجِ، قَالَ: وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ اللّقَاءِ صُدُقًا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ: فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَالْمُتَطَاوَلِ فِى رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: “الآنَ حَمِىَ الْوَطِيسُ”، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِهِ مِنْ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ، ثُمّ قَالَ: “انْهَزِمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ”، فَوَاَللّهِ مَا زِلْت أَرَى أَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، وَحَدّهُمْ كَلِيلاً حَتّى هَزَمَهُمْ اللّهُ وَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ لِلْعَبّاسِ: “نَادِ يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ” فَرَجَعَتْ الأَنْصَارُ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَرّةُ بَعْدَ الْفَرّةِ. قَالَ: فَعَطَفُوا عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلادِهَا، قَدْ شَرَعُوا الرّمَاحَ حَتّى إنّى لأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ رِمَاحَهُمْ أَشَدّ مِنْ خَوْفِى رِمَاحَ الْمُشْرِكِينَ يَؤُمّونَ الصّفُوفَ وَيَقُولُونَ: يَا لَبّيْكَ يَا لَبّيْكَ، فَلَمّا اخْتَلَطُوا وَاجْتَلَدُوا، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ قَائِمٌ عَلَى بَغْلَتِهِ فِى رَكَائِبِهِ يَقُولُ: “اللّهُمّ إنّى أَسَلُكَ وَعْدَك، لا يَنْبَغِى لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا”، ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ: “نَاوِلْنِى حَصَيَاتٍ” فَنَاوَلَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ الأَرْضِ ثُمّ قَالَ: “شَاهَتْ الْوُجُوهُ”، وَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: “انْهَزِمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ”. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ وَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وُجِدَ الأَسْرَى عِنْدَ النّبِىّ ÷ مُكَتّفِينَ. قَالَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ إلَى أَبِى سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِى الْحَدِيدِ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ النّبِىّ ÷ قَالَ: “مَنْ هَذَا”؟ قَالَ: ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ، وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ: “مَنْ أَنْتَ”؟ قَالَ: أَخُوك - فِدَاك أَبِى وَأُمّى - أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ أَخِى، نَاوِلْنِى حَصًى مِنْ الأَرْضِ”، فَنَاوَلْته فَرَمَى بِهَا فِى أَعْيُنِهِمْ كُلّهِمْ، وَانْهَزَمُوا، قَالُوا: فَلَمّا انْكَشَفَ النّاسُ انْحَازَ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى دَابّتِهِ لَمْ يَنْزِلْ، إلاّ أَنّهُ قَدْ جَرّدَ سَيْفَهُ وَطَرَحَ غِمْدَهُ وَبَقِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الْعَبّاسُ وَعَلِىّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخَزْرَجِىّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَلَيْهِمْ السّلامُ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ قَالَ لِحَارِثَةَ بْنِ النّعْمَانِ: “يَا حَارِثَةُ كَمْ تَرَى الّذِينَ ثَبَتُوا”؟ قَالَ: فَلَمّا الْتَفَتَ وَرَائِى تَحَرّجًا، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِى وَشِمَالِى، فَحَزَرْتُهُمْ مِائَةً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ هُمْ مِائَةٌ حَتّى كَانَ يَوْمٌ مَرَرْت عَلَى النّبِىّ ÷ وَهُوَ يُنَاجِى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلامُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَال جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ: “مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ”؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ”. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ: “هَذَا أَحَدُ الْمِائَةِ الصّابِرَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَوْ سَلّمَ لَرَدَدْت عَلَيْهِ السّلامَ”. فَأَخْبَرَهُ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: مَا كُنْت أَظُنّهُ إلاّ دِحْيَةَ الْكَلْبِىّ وَاقِفٌ مَعَك. وَكَانَ دُعَاءُ النّبِىّ ÷ يَوْمَئِذٍ حِينَ انْكَشَفَ النّاسُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إلاّ الْمِائَةُ الصّابِرَةُ: “اللّهُمّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ”، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَقَدْ لُقّنْت الْكَلِمَاتِ الّتِى لَقّنَ اللّهُ مُوسَى يَوْمَ فَلَقَ الْبَحْرَ أَمَامَهُ وَفِرْعَوْنُ خَلْفَهُ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: إنّ حَارِثَةَ بْنَ النّعْمَانِ مَرّ بِالنّبِىّ ÷ وَهُوَ يُنَاجِى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلامُ وَهُمَا قَائِمَانِ فَسَلّمَ عَلَيْهِمَا حَارِثَةُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَلْ رَأَيْت الرّجُلَ”؟ قَالَ حَارِثَةُ: نَعَمْ، وَلا أَدْرِى مَنْ هُوَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ، وَقَدْ رَدّ عَلَيْك السّلامَ”. وَيُقَالُ: إنّ الْمِائَةَ الصّابِرَةَ يَوْمَئِذٍ ثَلاثَةٌ وَثَلاثُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ وَسِتّونَ مِنْ الأَنْصَارِ وَالْعَبّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ والْعَبّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ. وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ يَمِينِهِ وَحَفّ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ قَالَ: مَرّ جِبْرِيلُ وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ مَعَ النّبِىّ ÷ وَاقِفٌ فَقَالَ: “مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ”؟ فَقَالَ: “حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ”. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ: “هَذَا أَحَدُ الثّمَانِينَ الصّابِرَةِ، وَقَدْ تَكَفّلَ اللّهُ لَهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِى الْجَنّةِ”. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ الّذِينَ تَكَفّلَ اللّهُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِى الْجَنّةِ. قَالُوا: وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُول: وَاَللّهِ الّذِى لا إلَهَ إلاّ هُوَ مَا وَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلَكِنّهُ وَقَفَ وَاسْتَنْصَرَ ثُمّ نَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَــــا النّبِـــــىّ لا كَــــــــذِبْ أَنَـــــا ابْـــنُ عَبْــــدِ الْمُطّلِــبْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ نَصْرَهُ وَكُبِتَ عَدُوّهُ وَأَفْلَحَ حُجّتُهُ. قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِى رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ النّاسِ، إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ، قَدْ أَكْثَرَ فِى الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ فَيَصْمُدُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَعَرْقَبَ جَمَلَهُ، فَسَمِعَ خَرْخَرَةَ جَمَلِهِ وَاكْتَسَعَ الْجَمَلُ وَيَشُدّ عَلِىّ وَأَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ، فَيَقْطَعُ عَلِىّ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَيَقْطَعُ أَبُو دُجَانَةَ يَدَهُ الأُخْرَى - وَأَقْبَلا يَضْرِبَانِهِ بِسَيْفَيْهِمَا جَمِيعًا حَتّى تَثَلّمَ سَيْفَاهُمَا، فَكَفّ أَحَدُهُمَا وَأَجْهَزَ الآخَرُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: امْضِ لا تُعَرّجْ عَلَى سَلَبِهِ فَمَضَيَا يَضْرِبَانِ أَمَامَ النّبِىّ ÷ وَيَعْتَرِضُ لَهُمَا فَارِسٌ مِنْ هَوَازِنَ بِيَدِهِ رَايَةٌ حَمْرَاءُ فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْفَرَسِ وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ، ثُمّ ضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا فَمَضَيَا عَلَى سَلَبِهِ، وَيَمُرّ أَبُو طَلْحَة فَسَلَبَ الأَوّلَ وَمَرّ بِالآخَرِ فَسَلَبَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَعَلِىّ، وَأَبُو دُجَانَةَ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ يُقَاتِلُونَ بَيْن يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى سُلَيْمَان بْنُ بِلالٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ قَالَ قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ فِى كُلّ وَجْهٍ وَأَنَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ فِى يَدِى سَيْفٌ لِى صَارِمٌ وَأُمّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ قَدْ حَزَمَتْهُ عَلَى وَسَطِهَا - وَهِىَ يَوْمَئِذٍ حَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ - وَأُمّ سَلِيطٍ وَأُمّ الْحَارِثِ. قَالُوا: فَجَعَلَتْ تُسِلّهُ وَتَصِيحُ بِالأَنْصَارِ أَيّةُ عَادَةٍ هَذِهِ مَا لَكُمْ وَلِلْفِرَارِ، قَالَتْ: وَأَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ مَعَهُ لِوَاءٌ يُوضِعُ جَمَلَهُ فِى أَثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ الْجَمَلِ. وَكَانَ جَمَلاً مُشْرِفًا، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَأَشُدّ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ حَتّى أَثْبَتّه، وَأَخَذْت سَيْفًا لَهُ وَتَرَكْت الْجَمَلَ يُخَرْخِرُ يَتَصَفّقُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ قَائِمٌ مُصْلِتٌ السّيْفَ بِيَدِهِ قَدْ طَرَحَ غِمْدَهُ يُنَادِى: “يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ”، قَالَ: وَكَرّ الْمُسْلِمُونَ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا بَنِى عَبْدِ الرّحْمَنِ، يَا بَنِى عُبَيْدِ اللّهِ، يَا خَيْلَ اللّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ سَمّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللّهِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ بَنِى عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الأَوْسِ بَنِى عُبَيْدِ اللّهِ، فَكَرّتْ الأَنْصَارُ، وَوَقَفَتْ هَوَازِنُ حَلْبَ نَاقَةٍ فَتُوحٍ ثُمّ كَانَتْ إيّاهَا، فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت هَزِيمَةً كَانَتْ مِثْلَهَا، ذَهَبُوا فِى كُلّ وَجْهٍ فَرَجَعَ ابْنَاىَ إلَىّ - حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا زَيْدٍ - بِأُسَارَى مُكَتّفِينَ فَأَقُومُ إلَيْهِمْ مِنْ الْغَيْظِ. فَأَضْرِبُ عُنُقَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ بِالأُسَارَى، فَرَأَيْت فِى بَنِى مَازِنِ بْنِ النّجّارِ ثَلاثِينَ أَسِيرًا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى هَزِيمَتِهِمْ مَكّةَ، ثُمّ كَرّوا بَعْدُ وَتَرَاجَعُوا، فَأَسْهَمَ لَهُمْ النّبِىّ ÷ جَمِيعًا. فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: إنّ أُمّ سُلَيْمٍ، أُمّى ابْنَةَ مِلْحَانَ جَعَلَتْ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت هَؤُلاءِ الّذِينَ أَسْلَمُوك وَفَرّوا عَنْك وَخَذَلُوك لا تَعْفُ عَنْهُمْ إذَا أَمْكَنَك اللّهُ مِنْهُمْ - فَاقْتُلْهُمْ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: “يَا أُمّ سُلَيْمٍ، قَدْ كَفَى اللّهُ عَافِيَةُ اللّهِ أَوْسَعُ”، وَمَعَهَا يَوْمَئِذٍ جَمَلُ أَبِى طَلْحَةَ قَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَغْلِبَهَا، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِى خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ وَهِىَ شَادّةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَمَعَهَا خَنْجَرٌ فِى يَدِهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خَنْجَرٌ أَخَذْته مَعِى، إنْ دَنَا مِنّى أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته بِهِ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ؟. وَكَانَتْ أُمّ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيّةُ أَخَذَتْ بِخِطَامِ جَمَلِ أَبِى الْحَارِثِ زَوْجِهَا، وَكَانَ جَمَلُهُ يُسَمّى الْمِجْسَارَ، فَقَالَتْ: يَا حَارِ تَتْرُكُ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَخَذَتْ بِخِطَامِ الْجَمَلِ. وَالْجَمَلُ يُرِيدُ أَنْ يَلْحَقَ بِأُلاّفِهِ وَالنّاسُ يُوَلّونَ مُنْهَزِمِينَ. وَهِىَ لا تُفَارِقُهُ. فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: فَمَرّ بِى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ. فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: يَا عُمَرُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَمْرُ اللّهِ، وَجَعَلَتْ أُمّ الْحَارِثِ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ جَاوَزَ بَعِيرِى فَأَقْتُلُهُ وَاَللّهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَا صَنَعَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ بِنَا تَعْنِى بَنِى سُلَيْمٍ وَأَهْلَ مَكّةَ الّذِينَ انْهَزَمُوا بِالنّاسِ. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَصِيحُ يَوْمَئِذٍ بِالْخَزْرَجِ يَا لَلْخَزْرَجِ يَا لَلْخَزْرَجِ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَا لَلأَوْسِ ثَلاثًا، فَثَابُوا وَاَللّهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ كَأَنّهُمْ النّحْلُ تَأْوِى إلَى يَعْسُوبِهَا. قَالَ: فَحَنِقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ حَتّى أَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِى قَتْلِ الذّرّيّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “مَا بَالُ أَقْوَامٍ ذَهَبَ بِهِمْ الْقَتْلُ حَتّى بَلَغَ الذّرّيّةَ أَلا لا تُقْتَلُ الذّرّيّةُ ثَلاثًا”. قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَيْسَ إنّمَا هُمْ أَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَوَلَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلادَ الْمُشْرِكِينَ؟ كُلّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوّدَانِهَا أَوْ يُنَصّرَانِهَا”. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَلِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمّا تَرَاءَيْنَا نَحْنُ وَالْقَوْمُ رَأَيْنَا سَوَادًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ قَطّ كَثْرَةً وَإِنّمَا ذَلِكَ السّوَادُ نَعَمٌ فَحَمَلُوا النّسَاءَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ مِثْلَ الظّلّةِ السّوْدَاءِ مِنْ السّمَاءِ حَتّى أَظَلّتْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ وَسَدّتْ الأُفُقَ فَنَظَرْت، فَإِذَا وَادِى حُنَيْنٍ يَسِيلُ بِالنّمْلِ نَمْلٍ أَسْوَدَ مَبْثُوثٍ لَمْ أَشُكّ أَنّهُ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللّهُ بِهِ فَهَزَمَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الأَنْصَارِ، قَالُوا: رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ كَالْبُجُدِ السّودِ هَوَتْ مِنْ السّمَاءِ رُكَامًا، فَنَظَرْنَا فَإِذَا نَمْلٌ مَبْثُوثٌ، فَإِنْ كُنّا لَنَنْفُضُهُ عَنْ ثِيَابِنَا، فَكَانَ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللّهُ بِهِ. وَكَانَ سِيمَا الْمَلائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ وَكَانَ الرّعْبُ الّذِى قَذَفَ اللّهُ فِى قُلُوبِ الْمُشْرِكِين يَوْمَ حُنَيْنٍ كَوَقْعِ الْحَصَى فِى الطّسْتِ، فَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ عَامِرٍ السّوَائِىّ يُحَدّثُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ يَوْمَئِذٍ فَسُئِلَ عَنْ الرّعْبِ فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ فَيَرْمِى بِهَا فِى الطّسْتِ فَيَطِنّ، فَقَالَ: إنْ كُنّا نَجِدُ فِى أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، يَقُولُ: حَدّثَنِى عِدّةٌ مِنْ قَوْمِى شَهِدُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقُولُونَ: لَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِتِلْكَ الْكَفّ مِنْ الْحَصَيَاتِ فَمَا مِنّا أَحَدٌ إلاّ يَشْكُو الْقَذَى فِى عَيْنَيْهِ، وَلَقَدْ كُنّا نَجِدُ فِى صُدُورِنَا خَفَقَانًا كَوَقْعِ الْحَصَى فِى الطّسَاسِ مَا يَهْدَأُ ذَلِكَ الْخَفَقَانُ عَنّا؛ وَلَقَدْ رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ رِجَالاً بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ حُمْرٌ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ كَتَائِبَ كَتَائِبَ مَا يُلِيقُونَ شَيْئًا، وَلا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ مِنْ الرّعْبِ مِنْهُمْ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْعَبْسِىّ، عَمّنْ أَخْبَرَهُ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدّثَنِى نَفَرٌ مِنْ قَوْمِنَا حَضَرُوا يَوْمَئِذٍ قَالُوا: كَمَنّا لَهُمْ فِى الْمَضَايِقِ وَالشّعَابِ ثُمّ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً رَكِبْنَا أَكْتَافَهُمْ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى صَاحِبِ بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ وَحَوْلَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: “شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا” فَانْهَزَمْنَا، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَنَا وَكَانَتْ إيّاهَا، وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ وَرَاءَنَا نَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَكِدُونَنَا، فَتَفَرّقَتْ جَمَاعَتُنَا فِى كُلّ وَجْهٍ وَجَعَلَتْ الرّعْدَةُ تَسْحَقُنَا حَتّى لَحِقْنَا بِعَلْيَاءِ بِلادِنَا، فَإِنْ كَانَ لَيُحْكَى عَنّا الْكَلامُ مَا كُنّا نَدْرِى بِهِ مِمّا كَانَ بِنَا مِنْ الرّعْبِ فَقَذَفَ اللّهُ الإِسْلامَ فِى قُلُوبِنَا. وَكَانَتْ رَايَةُ الأَحْلافِ مِنْ ثَقِيفٍ مَعَ قَارِبِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ مِنْ الأَحْلافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إلاّ رَجُلانِ مِنْ بَنِى غِيَرَةَ وَهْبٌ وَاللّجْلاجُ. وَقَالَ النّبِىّ ÷ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ اللّجْلاجِ: “قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شُبّانِ ثَقِيفٍ، إلاّ مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ”. وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِى مَالِكٍ مَعَ ذِى الْخِمَارِ فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ تَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَيُسْتَحْصَى الْقَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ بِبَنِى مَالِكٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، فَقَاتَلَ بِهَا مَلِيّا، وَجَعَلَ يَحُثّ ثَقِيفًا وَهَوَازِنَ عَلَى الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ اللّجْلاجُ رَجُلاً مِنْ بَنِى كُنّةَ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَخِى بَنِى كُنّةَ: “هَذَا سَيّدُ شُبّانِ كُنّةَ إلاّ ابْنَ هُنَيْدَةَ” - الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ إيَاسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَضْحَكُ. وَكَانَتْ كُنّةُ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ يَمَانِيّةً قَدْ وُلِدَتْ فِى قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَتْ أَمَةً فَأَعْتَقَ الْحَارِثُ كُلّ مَمْلُوكٍ مِنْ بَنِى كُنّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فِى خِلافَتِهِ: أَيَسُرّك أَنّ أَهْلَ بَيْتِ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ مَكَانَ كُنّةَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوَدِدْت أَنّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَيْتَ أُمّى كُنّةُ، وَأَنّ اللّهَ يَرْزُقُنِى مِنْ بِرّهَا مَا رَزَقَك، وَكَانَ أَبَرّ النّاسِ بِأُمّهِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُ طَعَامًا إلاّ مِنْ يَدِهِ وَلا يَغْسِلُ رَأْسَهَا إلاّ هُوَ وَلا يُسَرّحُ رَأْسَهَا إلاّ هُوَ. قَالُوا: وَهَرَبَتْ ثَقِيفٌ، فَقَالَ شُيُوخٌ مِنْهُمْ - أَسْلَمُوا بَعْدُ كَانُوا قَدْ حَضَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ - قَالُوا: مَا زَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى طَلَبِنَا فِيمَا نَرَى، وَنَحْنُ مُوَلّونَ حَتّى إنّ الرّجُلَ مِنّا لَيَدْخُلُ حِصْنَ الطّائِفِ وَإِنّهُ لَيَظُنّ أَنّهُ عَلَى أَثَرِهِ مِنْ رُعْبِ الْهَزِيمَةِ. وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: لَمّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا، قَدْ عَلاهُ الْمُشْرِكُ، فَاسْتَدَرْت لَهُ حَتّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْته عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَىّ فَضَمّنِى ضَمّةً وَجَدْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، وَكَادَ أَنْ يَقْتُلَنِى لَوْلا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ فَسَقَطَ، وَذَفّفْتُ عَلَيْهِ وَمَضَيْت وَتَرَكْت عَلَيْهِ سَلَبَهُ فَلَحِقْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ، فَقُلْت: مَا بَالُ النّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللّهِ، ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ”، قَالَ: فَقُمْت، فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِى؟ ثُمّ جَلَسْت، ثُمّ قَالَ: “مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ”. فَقُمْت، فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِى؟ ثُمّ جَلَسْت، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ”. فَقَامَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَشَهِدَ لِى، ثُمّ لَقِيت الأَسْوَدَ ابْنَ الْخُزَاعِىّ فَشَهِدَ لِى، وَإِذَا صَاحِبِى الّذِى أَخَذَ السّلَبَ لا يُنْكِرُ أَنّى قَتَلْته - وَقَدْ قَصَصْت عَلَى النّبِىّ ÷ الْقِصّةَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِى فَأَرْضِهِ مِنّى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: لاهَا اللّهِ إذًا، لا تَعْمِدْ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللّهِ، وَعَنْ رَسُولِهِ يُعْطِيك سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيّاهُ”. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَ لِى حَاطِبُ بْنُ أَبِى بَلْتَعَةَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَبِيعُ السّلاحَ؟ فَبِعْته مِنْهُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَاشْتَرَيْت بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ الرّدَيْنِىّ، فَإِنّهُ لأَوّلُ مَالٍ لِى نِلْته فِى الإِسْلامِ. فَلَمْ نَزَلْ نَعِيشُ مِنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَكَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ قَدْ تَعَاهَدَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ وُجّهَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حُنَيْنٍ - وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْر ٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِى طَلْحَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَكَانَا تَعَاهَدَا إنْ رَأَيَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ دَائِرَةً أَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ وَهُمَا خَلْفَهُ، قَالَ شَيْبَةُ: فَأَدْخَلَ اللّهُ الإِيمَانَ قُلُوبَنَا، قَالَ شَيْبَةُ: لَقَدْ هَمَمْت بِقَتْلِهِ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِى فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ وَعَلِمْت أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّى، وَيُقَالُ: قَالَ: غَشِيَتْنِى ظُلْمَةٌ حَتّى لا أُبْصِرُ فَعَرَفْت أَنّهُ مُمْتَنِعٌ مِنّى وَأَيْقَنْت بِالإِسْلامِ. وَقَدْ سَمِعْت فِى قِصّةِ شَيْبَةَ وَجْهًا آخَرَ كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يَقُولُ لَمّا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ غَزَا مَكّةَ فَظَفِرَ بِهَا وَخَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، قُلْت: أَخْرُجُ لَعَلّى أُدْرِكُ ثَأْرِى وَذَكَرْت قَتْلَ أَبِى يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ، وَعَمّى قَتَلَهُ عَلِىّ، قَالَ: فَلَمّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ جِئْته عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا الْعَبّاسُ قَائِمٌ عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضّةِ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْت: عَمّهُ لَنْ يَخْذُلَهُ، قَالَ: ثُمّ جِئْته عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا بِأَبِى سُفْيَانَ ابْنِ عَمّهِ، فَقُلْت: ابْنُ عَمّهِ لَنْ يَخْذُلَهُ، فَجِئْته مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلاّ أُسَوّرُهُ بِالسّيْفِ إذْ رُفِعَ مَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَأَنّهُ بَرْقٌ وَخِفْت أَنْ يَمْحَشَنِى وَوَضَعْت يَدَىّ عَلَى بَصَرِى وَمَشَيْت الْقَهْقَرَى، وَالْتَفَتَ إلَىّ فَقَالَ: “يَا شَيْبَ اُدْنُ مِنّى، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِى”، وَقَالَ: “اللّهُمّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ”، قَالَ: فَرَفَعْت إلَيْهِ رَأْسِى وَهُوَ أَحَبّ إلَىّ مِنْ سَمْعِى وَبَصَرِى وَقَلْبِى، ثُمّ قَالَ: “يَا شَيْبَ، قَاتِلْ الْكُفّارَ”، فَقَالَ: فَتَقَدّمْت بَيْنَ يَدَيْهِ أُحِبّ وَاَللّهِ أَقِيهِ بِنَفْسِى وَبِكُلّ شَيْءٍ فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ: “الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَرَادَ بِك خَيْرًا مِمّا أَرَدْت”. ثُمّ حَدّثَنِى بِمَا هَمَمْت بِهِ. فَلَمّا كَانَتْ الْهَزِيمَةُ حَيْثُ كَانَتْ وَالدّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَكَلّمُوا بِمَا فِى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالضّغْنِ وَالْغِشّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِى هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَقِيتٍ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْلا أَنّى سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَنْهَى عَنْ قَتْلِك لَقَتَلْتُك، وَقَالَ صَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَخُو صَفْوَانَ لأُمّهِ أَسْوَدُ مِنْ سُودَانِ مَكّةَ: أَلا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك، لأَنْ يَرُبّنِى رَبّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَىّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِى رَبّ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ: وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لا يَجْتَبِرُهَا مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ يَقُولُ لَهُ عِكْرِمَةُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ، وَإِنّمَا الأَمْرُ بِيَدِ اللّهِ وَلَيْسَ إلَى مُحَمّدٍ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ إنْ أُدِيلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنّ لَهُ الْعَاقِبَةَ غَدًا. قَالَ: يَقُول سُهَيْلٌ: إنّ عَهْدَك بِخِلافِهِ لَحَدِيثٌ قَالَ: يَا أَبَا يَزِيدَ إنّا كُنّا وَاَللّهِ نُوضِعُ فِى غَيْرِ شَىْءٍ وَعُقُولُنَا عُقُولُنَا. نَعْبُدُ الْحَجَرَ لا يَنْفَعُ وَلا يَضُرّ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: حَضَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بِأَفْرَاسٍ وَعَبِيدٍ وَمَوَالٍ، فَقُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ وَقُتِلَ مَعَهُ غُلامٌ لَهُ نَصْرَانِىّ أَغْرَلُ فَبَيْنَا طَلْحَةُ يَسْلُبُ الْقَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ إذْ مَرّ بِهِ فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ مَا تَخْتَتِنُ، قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: وَسَمِعْتهَا وَخَشِيت أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْنَا مِنْ الْعَرَبِ، فَقُلْت: لا تَفْعَلْ فِدَاك أَبِى وَأُمّى، إنّمَا هُوَ غُلامٌ لَنَا نَصْرَانِىّ، ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ قَتْلَى ثَقِيفٍ، فَأَقُولُ أَلا تَرَاهُمْ مُخْتَتَنِينَ؟ وَيُقَالُ: إنّ الْعَبْدَ كَانَ لِذِى الْخِمَارِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَسْلُبُ الْقَتْلَى، فَجَرّدَهُ فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِلأَنْصَارِ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا تَخْتَتِنُ ثَقِيفٌ وَسَمِعَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَوَجَدَ فِى نَفْسِهِ، قَالَ: فَقَالَ: أُرِيك يَا أَبَا طَلْحَةَ فَجَرّدَ لَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: هَذَا سَيّدُ ثَقِيفٍ ثُمّ أَتَى إلَى ذِى الْخِمَارِ سَيّدِ الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: وَجَاءَنِى أَمْرٌ قَطَعَنِى، وَخَشِيت أَنْ تَسِيرَ عَلَيْنَا فِى الْعَرَبِ، حَتّى أَبْصَرَ الْقَوْمُ وَعَرَفُوا أَنّهُ عَبْدٌ لَهُمْ نَصْرَانِىّ. وَكَانَ الّذِى قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ، فَبَلَغَ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “يَرْحَمُ اللّهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِى أُمَيّةَ، وَأَبْعَدَ اللّهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا” . قَالَ: وَكَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللّهِ ÷ لِعَبْدِ اللّهِ بِرَحْمَةِ اللّهِ فَبَلَغَهُ، فَقَالَ: إنّى لأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِى اللّهُ الشّهَادَةَ فِى وَجْهِى هَذَا فَقُتِلَ فِى حِصَارِ الطّائِفِ. وَقَالَ النّبِىّ ÷ يَوْمَ حُنَيْنٍ: “لَوْلا ابْنُ جَثّامَةَ الأَصْغَرُ لَفُضِحَتْ الْخَيْلُ الْيَوْمَ”. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: إنّ مَـــاءَ حُنَيْـــنٍ لَنَــا فَخَلّــــوهْ إنْ تَشْرَبُـــوا مِنْـــهُ فَلَـــنْ تَعْلُـوهْ هَذَا رَسُولُ اللّهِ لَنْ يَعْلُوهْ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ... ]: غَلَبَتْ خَيْـــلُ اللّهِ خَيْـــلَ اللاّتِ وَاَللّـــــهُ أَحَــــقّ بِالثّبَــــــــاتِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ قَدّمَ سُلَيْمًا فِى مُقَدّمَتِهِ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: “مَا هَذَا”؟ قَالُوا: امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَجُلاً يُدْرِكُ خَالِدًا فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا. وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ امْرَأَةً أُخْرَى فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا قَتَلْتهَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَرْدَفْتهَا وَرَائِى فَأَرَادَتْ قَتْلِى فَقَتَلْتهَا. فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَدُفِنَتْ. قَالُوا: لَمّا هَزَمَ اللّهُ تَعَالَى هَوَازِنَ اتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ. فَنَادَتْ بَنُو سُلَيْمٍ بَيْنَهَا: ارْفَعُوا عَنْ بَنِى أُمّكُمْ الْقَتْلَ فَرَفَعُوا الرّمَاحَ وَكَفّوا عَنْ الْقَتْلِ - وَأُمّ سُلَيْمٍ؛ بُكْمَةُ ابْنَةُ مُرّةَ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرّةَ - فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ الّذِى صَنَعُوا قَالَ اللّهُمّ: “عَلَيْك بِبَنِى بُكْمَةَ” - وَلا يَشْعُرُونَ أَنّ لَهُمْ أُمّا اسْمُهَا بُكْمَةُ - أَمّا فِى قَوْمِى فَوَضَعُوا السّلاحَ وَضْعًا، وَأَمّا عَنْ قَوْمِهِمْ فَرَفَعُوا رَفْعًا وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِطَلَبِ الْقَوْمِ ثُمّ قَالَ لِخَيْلِهِ: “إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ فَلا يُفْلِتَنّ مِنْكُمْ”، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا، وَكَانَ مِنْ بَنِى سَعْدٍ وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَأَخَذَهُ بِجَادٌ فَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ فَكَانَ قَدْ عُرِفَ جُرْمُهُ فَهَرَبَ. فَأَخَذَتْهُ الْخَيْلُ فَضَمّوهُ إلَى الشّيْمَاءِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتِ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ الرّضَاعَةِ فَعَنّفُوا عَلَيْهَا فِى السّيَاقِ فَجَعَلَتْ الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ: إنّى وَاَللّهِ أُخْتُ صَاحِبِكُمْ وَلا يُصَدّقُوهَا، وَأَخَذَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ، وَكَانُوا أَشَدّ النّاسِ عَلَى هَوَازِنَ، حَتّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ إنّى أُخْتُك، قَالَ النّبِىّ ÷: “وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ”؟ فَأَرَتْهُ عَضّةً، وَقَالَتْ: عَضَضْتَنِيهَا وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك بِوَادِى السّرَرِ، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِرِعَائِهِمْ أَبُوك أَبِى، وَأُمّك أُمّى، قَدْ نَازَعْتُك الثّدْىَ، وَتَذَكّرْ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْعَلامَةَ فَوَثَبَ قَائِمًا فَبَسَطَ رِدَاءَهُ، ثُمّ قَالَ: “اجْلِسِى عَلَيْهِ” وَرَحّبَ بِهَا، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَسَأَلَهَا عَنْ أُمّهِ وَأَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَوْتِهِمَا فِى الزّمَانِ. ثُمّ قَالَ: “إنْ أَحْبَبْت فَأَقِيمِى عِنْدَنَا مُحَبّةً مُكَرّمَةً، وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَرْجِعِى إلَى قَوْمِك وَصِلَتِك رَجَعْت إلَى قَوْمِك”. قَالَتْ: أَرْجِعُ إلَى قَوْمِى، وَأَسْلَمَتْ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ ثَلاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً أَحَدُهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ، فَزَوّجُوهُ الْجَارِيَةَ. قَالَ عَبْدُ الصّمَدِ: أَخْبَرَنِى أَبِى أَنّهُ أَدْرَكَ نَسْلَهَا فِى بَنِى سَعْدٍ، وَرَجَعَتْ الشّيْمَاءُ إلَى مَنْزِلِهَا، وَكَلّمَهَا النّسْوَةُ فِى بِجَادٍ - فَرَجَعَتْ إلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أَنّهُ يَهَبُهُ لَهَا وَيَعْفُو عَنْهُ، فَفَعَلَ ثُمّ أَمَرَ لَهَا بِبَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ وَسَأَلَهَا: “مَنْ بَقِىَ مِنْهُمْ”؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِأُخْتِهَا وَأَخِيهَا وَبِعَمّهَا أَبِى بُرْقَانَ وَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْمٍ سَأَلَهَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷، ثُمّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “ارْجِعِى إلَى الْجِعِرّانَةِ تَكُونِينَ مَعَ قَوْمِك، فَإِنّى أَمْضِى إلَى الطّائِفِ”. فَرَجَعَتْ إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَأَتَاهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهَا نَعَمًا وَشَاءً لَهَا، وَلِمَنْ بَقِىَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا. قَالُوا: وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَتَوْا الطّائِفَ، وَعَسْكَرَ عَسْكَرٌ بِأَوْطَاسٍ؛ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ إلَى نَخْلَةَ إلاّ بَنُو عَنَزَةَ مِنْ ثَقِيفٍ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْلاً تَتْبَعُ مَنْ سَلَكَ نَخْلَةَ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا، وَيُدْرِكُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّالِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِى شِجَارٍ لَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ فَأَنَاخَ بِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، فَإِذَا هُوَ دُرَيْدٌ وَلا يَعْرِفُهُ الْغُلامُ. قَالَ الْفَتَى: مَا أُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِ، قَالَ لَهُ: دُرَيْدٌ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِىّ، قَالَ: فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، قَالَ دُرَيْدٌ: بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ سَيْفِى مِنْ وَرَاءِ الرّحْلِ فِى الشّجَارِ فَاضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنْ الطّعَامِ، وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ، فَإِنّى كُنْت كَذَلِكَ أَقْتُلُ الرّجَالَ، ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَرَبّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْت فِيهِ نِسَاءَك، زَعَمَتْ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ تَكَشّفَ لِلْمَوْتِ عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلَ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ، فَقَالَتْ: وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلاثًا فِى غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَجَزّ نَاصِيَةَ أَبِيك، قَالَ الْفَتَى: لَمْ أَشْعُرْ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الأَشْعَرِىّ فِى آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ إلَى أَوْطَاسٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً فَكَانَ مَعَهُ فِى ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَكَانَ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ عَسْكَرُوا بِأَوْطَاسٍ عَسْكَرًا عَظِيمًا، تَفَرّقَ مِنْهُمْ مَنْ تَفَرّقَ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ وَأُسِرَ مَنْ أُسِرَ فَانْتَهَيْنَا إلَى عَسْكَرِهِمْ فَإِذَا هُمْ مُمْتَنِعُونَ فَبَرَزَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ، فَقَالَ: اللّهُمّ اشْهَدْ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً كَذَلِكَ فَلَمّا كَانَ التّاسِعُ بَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مُعْلِمٌ يَنْحُبُ لِلْقِتَالِ وَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمّا كَانَ الْعَاشِرُ بَرَزَ رَجُلٌ مُعْلِمٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: اللّهُمّ اشْهَدْ، قَالَ: يَقُولُ الرّجُلُ: اللّهُمّ لا تَشْهَدْ فَضَرَبَ أَبَا عَامِرٍ فَأَثْبَتَهُ فَاحْتَمَلْنَاهُ وَبِهِ رَمَقٌ. وَاسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىّ، وَأَخْبَرَ أَبُو عَامِرٍ أَبَا مُوسَى أَنّ قَاتِلَهُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الصّفْرَاءِ. قَالُوا: وَأَوْصَى أَبُو عَامِرٍ إلَى أَبِى مُوسَى، وَدَفَعَ إلَيْهِ الرّايَةَ، وَقَالَ: ادْفَعْ فَرَسِى وَسِلاحِى لِلنّبِىّ ÷، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو مُوسَى حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِى عَامِرٍ، وَجَاءَ بِسِلاحِهِ وَتَرِكَتِهِ وَفَرَسِهِ إلَى النّبِىّ ÷، وَقَالَ: إنّ أَبَا عَامِرٍ أَمَرَنِى بِذَلِكَ، وَقَالَ: قُلْ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ يَسْتَغْفِرُ لِى، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ قَالَ: “اللّهُمّ اغْفِرْ لأَبِى عَامِرٍ وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمّتِى فِى الْجَنّةِ”، وَأَمَرَ بِتَرِكَةِ أَبِى عَامِرٍ فَدُفِعَتْ إلَى ابْنِهِ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ قَدْ غَفَرَ لأَبِى عَامِرٍ قُتِلَ شَهِيدًا، فَادْعُ اللّهَ لِى، فَقَالَ: “اللّهُمّ اغْفِرْ لأَبِى مُوسَى، وَاجْعَلْهُ فِى أَعْلَى أُمّتِى” فَيَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ وَقَعَ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ. قَالُوا: وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ فِى بَنِى نَصْرٍ ثُمّ فِى بَنِى رِبَابٍ فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ مُسْلِمًا - يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِبَابٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُم”. وَوَقَفَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الثّنَايَا مَعَهُ فُرْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ. قِفُوا حَتّى يَمْضِىَ ضُعَفَاؤُكُمْ تَلْتَمّ أُخْرَاكُمْ. وَقَالَ: اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَلَى خُيُولِهِمْ وَاضِعِينَ رِمَاحَهُمْ عَلَى آذَانِ خُيُولِهِمْ. قَالَ: أُولَئِكَ إخْوَانُكُمْ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ. اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ، قَالُوا: نَرَى رِجَالاً أَكْفَالاً، قَدْ وَضَعُوا رِمَاحَهُمْ عَلَى أَكْفَالِ خُيُولِهِمْ، قَالَ: تِلْكَ الْخَزْرَجُ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ وَهُمْ سَالِكُونَ طَرِيقَ إخْوَانِهِمْ. قَالَ اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ، قَالُوا: نَرَى أَقْوَامًا كَأَنّهُمْ الأَصْنَامُ عَلَى الْخَيْلِ، قَالَ: تِلْكَ كَعْبُ بْنُ لُؤَىّ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ فَلَمّا غَشِيَتْهُ الْخَيْلُ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْسَرَ ثُمّ طَفِقَ يَلُوذُ بِالشّجَرِ حَتّى سَلَكَ فِى يَسُومَ، جَبَلٌ بِأَعْلَى نَخْلَةَ، فَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا، وَيُقَالُ: قَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى رَجُلاً بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ يَخْبِطُ بِرِجْلَيْهِ فِى الأَرْضِ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، قَالَ: ذَلِكَ ابْنُ صَفِيّةَ الزّبَيْر، وَاَيْمُ اللّهِ لَيُزِيلَنّكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ فَلَمّا بَصُرَ بِهِمْ الزّبَيْرُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتّى أَهْبَطَهُمْ مِنْ الثّنِيّةِ، وَهَرَبَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فَتَحَصّنَ فِى قَصْرٍ بِلِيّةَ، وَيُقَالُ: دَخَلَ حِصْنَ ثَقِيفٍ. وَذُكِرَ لِلنّبِىّ ÷ أَنّ رَجُلاً كَانَ بِحُنَيْنٍ قَاتَلَ قِتَالاً شَدِيدًا حَتّى اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ، فَذُكِرَ لِلنّبِىّ ÷ فَقَالَ: “مِنْ أَهْلِ النّارِ”، فَارْتَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِى أَنْفُسِهِمْ مَا اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ فَلَمّا اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ أَخَذَ مِشْقَصًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَانْتَحَرَ بِهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِلالاً أَنْ يُنَادِىَ: “أَلا لا دَخَلَ الْجَنّةَ إلاّ مُؤْمِنٌ وَأَنّ اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِر”. قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْغَنَائِمِ تُجْمَعُ وَنَادَى مُنَادِيهِ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلا يَغُلّ”، وَجَعَلَ النّاسُ غَنَائِمَهُمْ فِى مَوْضِعٍ حَتّى اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْهَا. وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا: فَقَالَتْ: إنّى قَدْ عَلِمْت أَنّك قَدْ قَاتَلْت الْمُشْرِكِينَ فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِهِمْ، قَالَ: هَذِهِ الإِبْرَةَ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا، وَهِىَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَسَمِعَ مُنَادِىَ رَسُولِ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ فَلْيَرُدّهُ”. فَرَجَعَ عَقِيلٌ، فَقَالَ: وَاَللّهِ مَا أَرَى إبْرَتَك إلاّ قَدْ ذَهَبَتْ، فَأَلْقَاهَا فِى الْغَنَائِمِ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِىّ أَخَذَ يَوْمَئِذٍ قَوْسًا فَرَمَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ، ثُمّ رَدّهَا فِى الْمَغْنَمِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِىّ ÷ بِكُبّةِ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اضْرِبْ بِهَذِهِ أَىْ دَعْهَا لِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمّا مَا كَانَ لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَك”، وَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا الْحَبْلُ وَجَدْته حَيْثُ انْهَزَمَ الْعَدُوّ فَأَشُدّ بِهِ عَلَى رَحْلِى؟ قَالَ: “نَصِيبِى مِنْهُ لَك، وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَنْصِبَاءِ الْمُسْلِمِينَ”؟. قَالَ: فَحَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ، أَنّ النّبِىّ ÷ أَتَى النّاسَ عَامَ حُنَيْنٍ فِى قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُمْ، وَأَنّهُ نَزَلَ قَبِيلَةً مِنْ الْقَبَائِلِ وَجَدُوا فِى بَرْذَعَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ عِقْدًا مِنْ جَزَعٍ غُلُولاً، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَكَبّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُكَبّرُ عَلَى الْمَيّتِ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَجَدَ فِى رَحْلِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ غُلُولاً فَبَكّتَهُ وَلامَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَلَمْ يَخْرِقْ رَحْلَهُ. قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ سَبَايَا يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا يَكْرَهُونَ يَقَعُوا عَلَيْهِنّ وَلَهُنّ أَزْوَاجٌ فَسَأَلُوا النّبِىّ ÷ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ: ×وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ% وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَوْمَئِذٍ لا تُوطَأُ حَامِلٌ مِنْ السّبْىِ حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً”، وَسَأَلُوا النّبِىّ ÷ يَوْمَئِذٍ عَنْ الْعَزْلِ. فَقَالَ: “لَيْسَ مِنْ كُلّ الْمَاءِ يَكُونُ إلَى الْوَلَدِ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَىْءٌ”. قَالُوا: وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ يَوْمًا بِحُنَيْنٍ، ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَجَلَسَ إلَيْهَا، فَقَامَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِىّ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ قُرَيْشٍ - وَمَعَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، يَدْفَعُ عَنْ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ لِمَكَانِهِ مِنْ خِنْدِفَ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَىْ النّبِىّ ÷ وَعُيَيْنَةُ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، لا وَاَللّهِ لا أَدَعُهُ حَتّى أُدْخِلَ عَلَى نِسَائِهِ مِنْ الْحَرْبِ وَالْحَزَنِ مَا أَدْخَلَ عَلَى نِسَائِى، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “تَأْخُذُ الدّيَةَ”؟ وَيَأْبَى عُيَيْنَةُ، فَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللّغَطُ إلَى أَنْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ: مُكَيْتَلٌ قَصِيرٌ مُجْتَمِعٌ عَلَيْهِ شِكّةٌ كَامِلَةٌ، وَدَرَقَةٌ فِى يَدِهِ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّى لَمْ أَجِدْ لِمَا فَعَلَ هَذَا شَبَهًا فِى غُرّةِ الإِسْلامِ إلاّ غَنَمًا وَرَدَتْ، فَرُمِيَتْ أُولاهَا فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا، فَاسْنُنْ الْيَوْمَ وَغَيّرْ غَدًا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَدَهُ، فَقَالَ: “تَقْبَلُونَ الدّيَةَ خَمْسِينَ فِى فَوْرِنَا هَذَا وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْقَوْمِ حَتّى قَبِلُوهَا”، وَمُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ الْقَاتِلُ فِى طَرَفِ النّاسِ فَلَمْ يَزَالُوا يَرَوْنَهُ وَيَقُولُونَ: رأيتِ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَسْتَغْفِرُ لَك، فَقَامَ مُحَلّمٌ فَقَامَ رَجُلٌ طَوِيلٌ آدَمُ مُحْمَرّ بِالْحِنّاءِ. عَلَيْهِ حُلّةٌ قَدْ كَانَ تَهَيّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ حَتّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَىْ النّبِىّ ÷ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ كَانَ مِنْ الأَمْرِ الّذِى بَلَغَكُمْ فَإِنّى أَتُوبُ إلَى اللّهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِى. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا اسْمُك”؟ قَالَ: أَنَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ، قَالَ: “قَتَلْته بِسِلاحِك فِى غُرّةِ الإِسْلامِ، اللّهُمّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ”، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ كَانَ الّذِى بَلَغَك وَإِنّى أَتُوبُ إلَى اللّهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِى، فَعَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ: “اللّهُمّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ حَتّى كَانَتْ الثّالِثَةُ”، قَالَ: فَعَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِمَقَالَتِهِ، ثُمّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قُمْ”، فَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَهُوَ يَتَلَقّى دَمْعَهُ بِفَضْلِ رِدَائِهِ. وَكَانَ ضَمْرَةُ السّلَمِىّ يُحَدّثُ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: كُنّا نَتَحَدّثُ فِيمَا بَيْنَنَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِاسْتِغْفَارٍ لَهُ، وَلَكِنّهُ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ قَدْرَ الدّمِ عِنْدَ اللّهِ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِىّ، قَالَ: لَمّا مَاتَ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ دَفَنَهُ قَوْمُهُ فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَطَرَحُوهُ بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ فَأَكَلَتْهُ السّبَاعُ. قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ، قَالَ: لَمّا حَضَرَ مُحَلّمَ بْنَ جَثّامَةَ الْمَوْتُ أَتَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِىّ، فَقَالَ: يَا مُحَلّمُ إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْجِعَ إلَيْنَا فَتُخْبِرَنَا بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَقِيتُمْ، قَالَ: فَأَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ أَوْ مَا شَاءَ اللّهُ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتُمْ يَا مُحَلّمُ؟ قَالَ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَجَدْنَا رَبّا رَحِيمًا غَفَرَ لَنَا، قَالَ عَوْفٌ: أَكُلّكُمْ؟ قَالَ: كُلّنَا غَيْرَ الأَحْرَاضِ، قَالَ: وَمَا الأَحْرَاضُ؟ قَالَ: الّذِينَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالأَصَابِعِ، وَاَللّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ اسْتَنْفَقَهُ اللّهُ لِى إلاّ وَقَدْ وُفّيت أَجْرَهُ حَتّى إنّ قِطّةً لأَهْلِى هَلَكَتْ فَلَقَدْ أُعْطِيت أَجْرَهَا، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْت: وَاَللّهِ إنّ تَصْدِيقَ رُؤْيَاىَ أَنْ أَنْطَلِقَ إلَى أَهْلِ مُحَلّمٍ فَأَسْأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْقِطّةِ، فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ عَوْفٌ: يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنُوا، فَلَمّا دَخَلَ قَالُوا: وَاَللّهِ مَا كُنْت لَنَا بِزَوّارٍ، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَهَذِهِ بِنْتُ أَخِيك أَمْسَتْ وَلَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، وَهِىَ هَذِهِ لِمَا بِهَا، وَلَقَدْ فَارَقَنَا أَبُوهَا اللّيْلَةَ، قَالَ: قُلْت: هَلْ هَلَكَتْ لَكُمْ قِطّةٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ حَسَسْتُمُوهَا يَا عَوْفُ؟ قَالَ: أُنْبِئْت نَبَأَهَا فَاحْتَسِبُوهَا. قَالَ: حَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، قَالَ: رَأَيْت النّبِىّ ÷ بِحُنَيْنٍ يَتَخَلّلُ الرّجَالَ يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَنَا مَعَهُ فَأُتِىَ يَوْمَئِذٍ بِشَابّ فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَضَرَبُوهُ بِمَا كَانَ فِى أَيْدِيهِمْ وَحَثَا عَلَيْهِ التّرَابَ.

  • * *

تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِحُنَيْنٍ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ وَهُوَ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَمَوَالِى النّبِىّ ÷. وَمِنْ الأَنْصَارِ سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَرُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لُوذَانَ وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِىّ أُصِيبَ بِأَوْطَاسٍ؛ فَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةٌ.

  • * *


شَأْنُ غَزْوَةِ الطّائِفِ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَابْنُ مَوْهَبٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِىّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الزّهْرِىّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَغَيْرُ هَؤُلاءِ مِمّنْ لَمْ يُسَمّ أَهْلُ ثِقَاتٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِى بِهِ. قَالُوا: لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حُنَيْنًا وَأَرَادَ الْمَسِيرَ إلَى الطّائِفِ، بَعَثَ الطّفَيْلَ ابْنَ عَمْرٍو إلَى ذِى الْكَفّيْنِ - صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ - يَهْدِمُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدّ قَوْمَهُ وَيُوَافِيَهُ بِالطّائِفِ، فَقَالَ الطّفَيْلُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْصِنِى، قَالَ: “أَفْشِ السّلامَ، وَابْذُلْ الطّعَامَ، وَاسْتَحْىِ مِنْ اللّهِ كَمَا يَسْتَحْيِى الرّجُلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْ أَهْلِهِ، إذَا أَسَأْت فَأَحْسِنْ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذّاكِرِينَ”، قَالَ: فَخَرَجَ الطّفَيْلُ سَرِيعًا إلَى قَوْمِهِ فَهَدَمَ ذَا الْكَفّيْنِ وَجَعَلَ يَحْشُو النّارَ فِى جَوْفِهِ وَيَقُولُ: يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْـــت مِــنْ عُبّادِكَا مِيلادُنَــــا أَقْدَمُ مِــنْ مِيلادِكَـــــا أَنَا حَشَـــوْت النّارَ فِـــى فُؤَادِكَــــا وَأَسْرَعَ مَعَهُ قَوْمُهُ انْحَدَرَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ فَوَافَوْا النّبِىّ ÷ بِالطّائِفِ بَعْدَ مُقَامِهِ بِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ فَقَدِمَ بِدَبّابَةٍ وَمَنْجَنِيقٍ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَزْدِ، مَنْ يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ؟ قَالَ الطّفَيْلُ: مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِى الْجَاهِلِيّةِ، قَالَ: أَصَبْتُمْ وَهُوَ النّعْمَانُ بْنُ الزّرَافَةِ اللّهْبِىّ. وَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ، وَأَخَذَ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ مِنْ الأَدِلاّءِ إلَى الطّائِفِ، فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الطّائِفِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَمَرَ بِالسّبْىِ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىّ، وَأَمَرَ بِالْغَنَائِمِ فَسِيقَتْ إلَى الْجِعِرّانَةِ وَالرّثّةِ. وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الطّائِفِ وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ رَمّوا حِصْنَهُمْ وَدَخَلُوا فِيهِ مُنْهَزِمِينَ مِنْ أَوْطَاسٍ وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ حِصْنٌ عَلَى مَدِينَتِهِمْ لَهُ بَابَانِ - وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ وَتَهَيّئُوا، وَأَدْخَلُوا حِصْنَهُمْ مَا يُصْلِحُهُمْ لِسَنَةٍ لَوْ حُصِرُوا وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْلانُ بْنُ سَلَمَةَ بِجُرَشَ يَتَعَلّمَانِ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ يُرِيدَانِ أَنْ يَنْصِبَاهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ، وَكَانَا لَمْ يَحْضُرَا حُنَيْنًا وَلا حِصَارَ الطّائِفِ. وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ أَوْطَاسٍ، فَسَلَكَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمّ عَلَى بَحْرَةِ الرّغَاءِ مِنْ لِيّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ يَبْنِى بِيَدِهِ مَسْجِدًا بِلِيّةَ، وَأَصْحَابُهُ يَنْقُلُونَ إلَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَأُتِىَ يَوْمَئِذٍ إلَى النّبِىّ ÷ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ هُذَيْلٍ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ اللّيْثِىّ إلَى الْهُذَلِيّينَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِى الإِسْلامِ. وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ بِلِيّةَ، وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ قَصْرًا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا قَصْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ: “أَيْنَ مَالِكٌ”؟ قَالُوا: هُوَ يَرَاك الآنَ فِى حِصْنِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ فِى قَصْرِهِ”؟ قَالُوا: مَا فِيهِ أَحَدٌ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “حَرّقُوهُ”، فَحُرّقَ مِنْ حِينِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ غَابَتْ الشّمْسُ. وَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى قَبْرِ أَبِى أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِهِ، وَهُوَ قَبْرٌ مُشْرِفٌ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: لَعَنَ اللّهُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ فَإِنّهُ كَانَ مِمّنْ يُحَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُمَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷: لَعَنَ اللّهُ أَبَا قُحَافَةَ فَإِنّهُ كَانَ لا يَقْرِى الضّيْفَ، وَلا يَمْنَعُ الضّيْمَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ سَبّ الأَمْوَاتِ يُؤْذِى الأَحْيَاءَ، فَإِنْ شِئْتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَعُمّوا”. ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ لِيّةَ فَسَلَكَ طَرِيقًا يُقَالُ لَهَا: الضّيْقَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلْ هِىَ الْيُسْرَى”، ثُمّ خَرَجَ عَلَى نَخِبٍ حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةِ الصّادِرَةِ عِنْدَ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِىّ ÷ إمّا أَنْ تَخْرُجَ وَإِمّا أَنْ نُحَرّقَ عَلَيْك حَائِطَك فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِإِحْرَاقِ حَائِطِهِ وَمَا فِيهِ. وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ، فَيَضْرِبُ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ فَسَاعَةَ حَلّ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَصْحَابُهُ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّا قَدْ دَنَوْنَا مِنْ الْحِصْنِ فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ سَلّمْنَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ الرّأْىِ فَالتّأَخّرُ عَنْ حِصْنِهِمْ. قَالَ: فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِىّ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَقَدْ طَلَعَ عَلَيْنَا مِنْ نَبْلِهِمْ سَاعَةَ نَزَلْنَا شَيْءٌ اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ كَأَنّهُ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ - وَتَرّسْنَا لَهُمْ - حَتّى أُصِيبَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ، وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحُبَابَ فَقَالَ: “اُنْظُرْ مَكَانًا مُرْتَفِعًا مُسْتَأْخِرًا عَنْ الْقَوْمِ”، فَخَرَجَ الْحُبَابُ حَتّى انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطّائِفِ خَارِجٍ مِنْ الْقَرْيَةِ فَجَاءَ إلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَحَوّلُوا. قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ: إنّى لأَنْظُرُ إلَى أَبِى مِحْجَنٍ يَرْمِى مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ بِعِشْرَتِهِ بِمَعَابِلَ كَأَنّهَا الرّمَاحُ مَا يَسْقُطُ لَهُ سَهْمٌ، قَالُوا: وَارْتَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عِنْدَ مَسْجِدِ الطّائِفِ الْيَوْمَ. قَالُوا: وَأَخْرَجُوا امْرَأَةً سَاحِرَةً فَاسْتَقْبَلَتْ الْجَيْشَ بِعَوْرَتِهَا - وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النّبِىّ ÷ - يَدْفَعُونَ بِذَلِكَ عَنْ حِصْنِهِمْ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الأَكَمَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْحِصْنِ فَخَرَجَ قُدّامَ النّاسِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ ثَقِيفًا الأَمَانَ يُرِيدُ يُكَلّمُهُمْ فَأَعْطَوْهُ الأَمَانَ فَلَمّا دَنَا مِنْهُمْ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجَ هُذَيْلُ بْنُ أَبِى الصّلْتِ أَخُو أُمَيّةَ بْنِ أَبِى الصّلْتِ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ، وَلا يَرَى أَنّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَيُقَالُ: إنّ يَعْقُوبَ بْنَ زَمْعَةَ كَمَنَ لَهُ فَأَسَرَهُ حَتّى أَتَى بِهِ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: قَاتِلُ أَخِى يَا رَسُولَ اللّهِ فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ أُتِىَ بِهِ إلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ النّبِىّ ÷ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ ضَرَبَ لِزَوْجَتَيْهِ قُبّتَيْنِ، ثُمّ كَانَ يُصَلّى بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ حِصَارَ الطّائِفِ كُلّهُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِى حِصَارِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ وَقَالَ قَائِلٌ: تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ وَقَالَ قَائِلٌ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكُلّ ذَلِكَ وَهُوَ يُصَلّى بَيْن الْقُبّتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى أُمَيّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى مُصَلّى النّبِىّ ÷ بِالْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا مِنْ الدّهْرِ إلاّ يُسْمَعُ لَهَا نَقِيضٌ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ. فَنَصَبَ النّبِىّ ÷ الْمَنْجَنِيقَ، قَالَ: وَشَاوَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِىّ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَى أَنْ تَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَإِنّا كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَاتِ عَلَى الْحُصُونِ وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا، فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوّنَا وَيُصِيبُ مِنّا بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْجَنِيقُ طَالَ الثّوَاءُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَعَمِلَ مَنْجَنِيقًا بِيَدِهِ، فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ، وَيُقَالُ: قَدِمَ بِالْمَنْجَنِيقِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ وَدَبّابَتَيْنِ، وَيُقَالُ: الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ وَيُقَالُ: خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَدِمَ مِنْ جُرَشَ بِمَنْجَنِيقٍ وَدَبّابَتَيْنِ، وَنَثَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحَسَكَ شِقّتَيْنِ - حَسَكٌ مِنْ عَيْدَانَ - حَوْلَ حِصْنِهِمْ وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ تَحْتَ الدّبّابَةِ وَهِىَ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ - وَذَلِكَ يَوْمٌ يُقَالُ لَهُ: الشّدْخَةُ. قِيلَ: وَمَا الشّدْخَةُ؟ قَالَ: مَا قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - دَخَلُوا تَحْتَهَا، ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الْحِصْنِ لِيَحْفِرُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَحَرَقَتْ الدّبّابَةَ فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تَحْتِهَا وَقَدْ أُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ رِجَالٌ. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِقَطْعِ أَعْنَابِهِمْ وَتَحْرِيقِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ قَطَعَ حَبَلَةً فَلَهُ حَبَلَةٌ فِى الْجَنّةِ”. فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ لِيَعْلَى بْنِ مُرّةَ الثّقَفِىّ: أَقَطْعُ ذَلِكَ أَجْرِي؟ فَفَعَلَ يَعْلَى بْنُ مُرّةَ ثُمّ جَاءَهُ، فَقَالَ يَعْلَى: نَعَمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَك النّارُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقَالَ عُيَيْنَةُ أَوْلَى بِالنّارِ مِنْ يَعْلَى، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقْطَعُونَ قَطْعًا ذَرِيعًا. قَالَ: وَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الثّقَفِىّ وَاَللّهِ لَنُقَطّعَنّ أَبَا عِيَالِك، فَقَالَ سُفْيَانُ: إذًا لا تَذْهَبُونَ بِالْمَاءِ وَالتّرَابِ فَلَمّا رَأَى الْقَطْعَ نَادَى سُفْيَانُ يَا مُحَمّدُ لِمَ تَقْطَعُ أَمْوَالَنَا؟ إمّا أَنْ تَأْخُذَهَا إنْ ظَهَرْت عَلَيْنَا، وَإِمّا أَنْ تَدَعَهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ كَمَا زَعَمْت، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَإِنّى أَدَعُهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ”، فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷. وَحَدّثَ أَبُو وَجْزَةَ السّعْدِىّ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَقْطَعُ كُلّ رَجُلٍ مِنْ أَعْنَابِهِمْ خَمْسَ حَبَلاتٍ، فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ عُمّ لَمْ يُؤْكَلْ ثَمَرُهُ، فَأَمَرَ أَنْ يَقْطَعُوا مَا أَكَلُوا ثَمَرَهُ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ الأَوّلَ فَالأَوّلَ، قَالَ: وَتَقَدّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى ثَقِيفٍ فَقَالا: أَمّنُوا حَتّى نَتَكَلّمَ، فَأَمّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا - وَهُمْ يَخَافُونَ السّبَاءَ - مِنْهُمْ ابْنَةُ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ ثَعْلَبَةَ - كَانَتْ عِنْدَ قَارِبِ بْنِ الأَسْوَدِ، لَهَا مِنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ قَارِبٍ - وَامْرَأَةٌ أُخْرَى. فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا، قَالَ لَهُمَا بَنُو الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ أَلا نَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِى الأَسْوَدِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا - وَكَانَ النّبِىّ ÷ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّائِفِ نَازِلاً بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَمْقُ - لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً وَلا أَشَدّ مُؤْنَةً مِنْهُ وَلا أَبْعَدُ عِمَارَةً - وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعَمّرْ أَبَدًا، فَكَلّمَاهُ لِيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لا يَجْهَلُ. فَكَلّمَاهُ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷. وَكَانَ رَجُلٌ يَقُومُ عَلَى الْحِصْنِ، فَيَقُولُ: رُوحُوا رِعَاءَ الشّاءِ رُوحُوا جَلابِيبَ مُحَمّدٍ رُوحُوا عَبِيدَ مُحَمّدٍ أَتَرَوْنَا نَتَبَاءَسُ عَلَى أَحْبُلٍ أَصَبْتُمُوهَا مِنْ كُرُومِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ رَوّحْ مُرَوّحًا إلَى النّارِ”، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ: فَأَهْوَى لَهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِى نَحْرِهِ وَهُوَ مِنْ الْحِصْنِ مَيّتًا. قَالَ: فَرَأَيْت النّبِىّ ÷ قَدْ سُرّ بِذَلِكَ. قَالَ: وَجَعَلُوا يَقُولُونَ عَلَى حِصْنِهِمْ هَذَا قَبْرُ أَبِى رِغَالَ، قَالَ لِعَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: “أَتَدْرِى يَا عَلِىّ مَا هَذَا؟ قَبْرُ أَبِى رِغَالَ وَهُمْ قَوْمُ ثَمُودَ”. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ يَرْمِى بِمَعَابِلَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ لِصَاحِبِهِ: إنْ افْتَتَحْنَا الطّائِفَ فَعَلَيْك بِنِسَاءِ بَنِى قَارِبٍ فَإِنّهُنّ أَجْمَلُ إنْ أَمْسَكْت، وَأَكْثَرُ فِدَاءً إنْ فَادَيْتَ، فَسَمِعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا مُزَيْنَةَ، قَالَ: لَبّيْكَ، قَالَ: ارْمِ ذَلِكَ الرّجُلَ، يَعْنِى أَبَا مِحْجَنٍ وَإِنّمَا غَارَ الْمُغِيرَةُ حِينَ ذَكَرَ الْمُزَنِىّ النّسَاءَ، وَعَرَفَ أَنّ أَبَا مِحْجَنٍ رَجُلٌ رَامٍ لا يَسْقُطُ لَهُ سَهْمٌ، فَرَمَاهُ الْمُزَنِىُّ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمُهُ شَيْئًا. وَفَوّقَ لَهُ أَبُو مِحْجَنٍ - بِمِعْتَلَةٍ فَتَقَعُ فِى نَحْرِهِ فَقَتَلَتْهُ. قَالَ: يَقُولُ الْمُغِيرَةُ: مَنّى الرّجَالَ بِنِسَاءِ بَنِى قَارِبٍ. قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ الْمُزَنِىّ، وَهُوَ يَسْمَعُ كَلامَهُ أَوّلَهُ وَآخِرَهُ: قَاتَلَك اللّهُ يَا مُغِيرَةُ، أَنْتَ وَاَللّهِ عَرّضْته لِهَذَا. وَإِنْ كَانَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ سَاقَ لَهُ الشّهَادَةَ. أَنْتَ وَاَللّهِ مُنَافِقٌ، وَاَللّهِ لَوْلا الإِسْلامُ مَا تَرَكْتُك حَتّى أَغْتَالَك وَجَعَلَ الْمُزَنِىّ يَقُولُ: إنّ مَعَنَا الدّاهِيَةَ وَمَا نَشْعُرُ وَاَللّهِ لا أُكَلّمُك أَبَدًا قَالَ: طَلَبَ الْمُغِيرَةُ إلَى الْمُزَنِىّ أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قَالَ: لا وَاَللّهِ أَبَدًا، قَالَ: فَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِى عَمَلِ عُمَرَ بِالْكُوفَةِ - فَقَالَ: وَاَللّهِ. مَا كَانَ الْمُغِيرَةُ بِأَهْلٍ أَنْ يُوَلّى وَهَذَا فِعْلُهُ، قَالَ: وَرَمَى أَبُو مِحْجَنٍ يَوْمَ الطّائِفِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بِسَهْمٍ فَدَمِلَ الْجُرْحُ حَتّى بَغَى، وَخَرَجَ السّهْمُ مِنْ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَهُ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ. وَتُوُفّىَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ. وَقَدِمَ أَبُو مِحْجَنٍ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمِشْقَصَ فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مِحْجَنٍ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الْمِشْقَصَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ لا أَعْرِفُهُ وَأَنَا بَرَيْت قَدَحَهُ وَرِيشَتَهُ وَرَصَفَتَهُ وَرَمَيْت بِهِ ابْنَك؟ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى أَكْرَمَهُ عَلَى يَدَىّ وَلَمْ يُهِنّى عَلَى يَدَيْهِ. وَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ ÷: أَيّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرّ، فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ رِجَالٌ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً: أَبُو بَكَرَةَ، وَالْمُنْبَعِثُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُنْبَعِثَ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَمّارِ بْنِ مُعَتّبٍ، وَالأَزْرَقُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ الأَزْرَقِ، وَكَانَ عَبْدًا لِلْكَلَدَةِ الثّقَفِىّ مِنْ بَنِى مَالِكٍ، ثُمّ صَارَ حَلِيفًا فِى بَنِى أُمَيّةَ فَنَكَحُوا إلَيْهِ وَأَنْكَحُوهُ، وَوَرْدَانُ عَبْدٌ لِعَبْدِ اللّهِ ابْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِىّ جَدّ الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَانَ، وَيُحَنّسُ النّبّالُ وَكَانَ عَبْدًا لِيَسَارِ ابْنِ مَالِكٍ فَأَسْلَمَ سَيّدُهُ بَعْدُ فَرَدّ النّبِىّ ÷ إلَيْهِ وَلاءَهُ - فَهُمْ أَعْبُدُ الطّائِفِ - وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ - كَانَ عَبْدًا لِخَرَشَةَ الثّقَفِىّ، وَيَسَارٌ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ لَمْ يُعْقِبْ، وَأَبُو بَكَرَةَ نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ، وَكَانَ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَإِنّمَا كُنّىَ بِأَبِى بَكَرَةَ أَنّهُ نَزَلَ فِى بَكَرَةٍ مِنْ الْحِصْنِ، وَنَافِعٌ أَبُو السّائِبِ عَبْدٌ لِغَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ، فَأَسْلَمَ غَيْلانُ بَعْدُ فَرَدّ النّبِىّ ÷ إلَيْهِ وَلاءَهُ وَمَرْزُوقٌ غُلامٌ لِعُثْمَانَ لا عَقِبَ لَهُ، كُلّ هَؤُلاءِ أَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ، وَيَحْمِلُهُ فَكَانَ أَبُو بَكَرَةَ إلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. وَكَانَ الأَزْرَقُ إلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ وَرْدَانُ إلَى أَبَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ يُحَنّسُ النّبّالُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَسَارُ بْنُ مَالِكٍ إلَى سَعْدِ ابْنِ عُبَادَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ إلَى أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْ يُقْرِئُوهُمْ الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُوهُمْ السّنَنَ”. فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلّمَتْ أَشْرَافُهُمْ فِى هَؤُلاءِ الْمُعْتَقِينَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ، يَرُدّوهُمْ فِى الرّقّ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ لا سَبِيلَ إلَيْهِمْ”، وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مَشَقّةً شَدِيدَةً وَاغْتَاظُوا عَلَى غِلْمَانِهِمْ. قَالُوا: وَقَالَ عُيَيْنَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ اِيذَنْ لِى حَتّى آتِىَ حِصْنَ الطّائِفِ فَأُكَلّمَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: أَدْنُو مِنْكُمْ وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَعَرَفَهُ أَبُو مِحْجَنٍ فَقَالَ: اُدْنُ، فَدَنَا، فَقَالَ: اُدْخُلْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الْحِصْنَ، فَقَالَ: فِدَاؤُكُمْ أَبِى وَأُمّى وَاَللّهِ لَقَدْ سَرّنِى مَا رَأَيْت مِنْكُمْ، وَاَللّهِ لَوْ أَنّ فِى الْعَرَبِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ وَاَللّهِ مَا لاقَى مُحَمّدٌ مِثْلَكُمْ قَطّ، وَلَقَدْ مَلّ الْمُقَامَ فَاثْبُتُوا فِى حِصْنِكُمْ فَإِنّ حِصْنَكُمْ حَصِينٌ وَسِلاحَكُمْ كَثِيرٌ، وَمَاءَكُمْ وَاتِنٌ لا تَخَافُونَ قَطْعَهُ، قَالَ: فَلَمّا خَرَجَ قَالَتْ ثَقِيفٌ لأَبِى مِحْجَنٍ: فَإِنّا كَرِهْنَا دُخُولَهُ وَخَشِينَا أَنْ يُخْبِرَ مُحَمّدًا بِخَلَلٍ إنْ رَآهُ فِينَا أَوْ فِى حِصْنِنَا. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: أَنَا كُنْت أَعْرَفَ لَهُ لَيْسَ مِنّا أَحَدٌ أَشَدّ عَلَى مُحَمّدٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ، فَلَمّا رَجَعَ إلَى النّبِىّ ÷ قَالَ لَهُ: “مَا قُلْت لَهُمْ”؟ قَالَ: قُلْت: اُدْخُلُوا فِى الإِسْلامِ وَاَللّهِ لا يَبْرَحُ مُحَمّدٌ عُقْرَ دَارِكُمْ حَتّى تَنْزِلُوا، فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ أَمَانًا، قَدْ نَزَلَ بِسَاحَةِ أَهْلِ الْحُصُونِ قَبْلَكُمْ قَيْنُقَاعَ وَالنّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ أَهْلِ الْحَلْقَةِ وَالْعُدّةِ وَالآطَامِ، فَخَذّلْتُهُمْ مَا اسْتَطَعْت، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ سَاكِتٌ عَنْهُ حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كَذَبْت، قُلْت لَهُمْ: كَذَا وَكَذَا” لِلّذِى قَالَ. قَالَ عُيَيْنَةُ: أَسَتَغْفِرُ اللّهَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِى أُقَدّمُهُ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّى أَقْتُلُ أَصْحَابِى”، وَيُقَالُ: إنّ أَبَا بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَغْلَظَ لَهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ: وَيْحَك يَا عُيَيْنَةُ، إنّمَا أَنْتَ أَبَدًا تُوضِعُ فِى الْبَاطِلِ كَمْ لَنَا مِنْك مِنْ يَوْمٍ بَنِى النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ، تَجْلِبُ عَلَيْنَا وَتُقَاتِلُنَا بِسَيْفِك، ثُمّ أَسْلَمْت كَمَا زَعَمْت فَتُحَرّضُ عَلَيْنَا عَدُوّنَا قَالَ: أَسَتَغْفِرُ اللّهَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَأَتُوبُ إلَيْهِ، لا أَعُودُ أَبَدًا. قَالُوا: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، يُقَالُ لَهُ: مَاتِعٌ وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: هِيتٌ. وَكَانَ مَاتِعٌ يَكُونُ فِى بُيُوتِهِ لا يَرَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النّسَاءِ مِمّا يَفْطِنُ لَهُ الرّجَالُ وَلا يَرَى أَنّ لَهُ فِى ذَلِكَ إرْبَةً فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: إنْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الطّائِفَ غَدًا فَلا تُفْلِتَنّ مِنْك بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلانَ فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، وَإِذَا جَلَسَتْ تَثَنّتْ وَإِذَا تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ، وَإِذَا اضْطَجَعَتْ تَمَنّتْ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنّهُ الأُقْحُوَانُ. كَمَا قَالَ الْخَطِيمُ: بَيْنَ شُكُولِ النّسَاءِ خِلْقَتُهَا تَغْتَـــرِقُ الطّـــرْفَ وَهْىَ لاهِيَـــةٌ نَصْبٌ فَلا جَبْلَةٌ وَلا قَضَفُ كَأَنّمَـــا شَفّ وَجْهَهَــــــــا نُزُفُ فَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَلامَهُ، فَقَالَ: “أَلا أَرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِلْجَمَالِ إذَا خَرَجْت إلَى الْعَقِيقِ، وَالْحَيْلُ لا يُمْسَكُ لِمَا أَسْمَعُ”، وَقَالَ: “لا يَدْخُلَنّ عَلَى نِسَاءِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ”، وَيُقَالُ: قَالَ: “لا يَدْخُلَنّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ”، وَغَرّبَهُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْحِمَى، فَشَكَيَا الْحَاجَةَ فَأَذِنَ لَهُمَا أَنْ يَنْزِلا كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلانِ ثُمّ يَرْجِعَانِ إلَى مَكَانِهِمَا، إلَى أَنْ تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَمّا تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَخَلا مَعَ النّاسِ. فَلَمّا وَلِىَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأُدْخِلُكُمَا؟ فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا، فَلَمّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ دَخَلا مَعَ النّاسِ، فَلَمّا وَلِىَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَبُو بَكْرٍ وَأُدْخِلُكُمَا؟ اُخْرُجَا إلَى مَوْضِعِكُمَا فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا، فَلَمّا قُتِلَ عُمَرُ دَخَلا مَعَ النّاسِ. قَالُوا: قَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِىّ، وَهُوَ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ: يَا عَبِيدَ مُحَمّدٍ إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا لاقَيْتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ قِتَالَكُمْ غَيْرَنَا؛ تُقِيمُونَ مَا أَقَمْتُمْ بِشَرّ مَحْبِسٍ، ثُمّ تَنْصَرِفُونَ لَمْ تُدْرِكُوا شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ نَحْنُ قَسِىّ وَأَبُونَا قَسَا، وَاَللّهِ لا نُسَلّمُ مَا حَيِينَا، وَقَدْ بَنَيْنَا طَائِفًا حَصِينًا فَنَادَاهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَاَللّهِ لَنَقْطَعَنّ عَلَيْك مَعَاشَك حَتّى تَخْرُجَ مِنْ جُحْرِك هَذَا، إنّمَا أَنْتَ ثَعْلَبٌ فِى جُحْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: إنْ قَطَعْتُمْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ حَبَلاتِ عِنَبٍ فَإِنّ فِى الْمَاءِ وَالتّرَابِ مَا يُعِيدُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: لا تَقْدِرُ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَاءٍ وَلا تُرَابٍ لَنْ نَبْرَحَ عَنْ بَابِ جُحْرِك حَتّى تَمُوتَ، قَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ لا تَقُلْ هَذَا، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِى فَتْحِ الطّائِفِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ قَالَ لَك هَذَا رَسُولُ اللّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَجَاءَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ: لَمْ يُؤْذَنْ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فِى فَتْحِهَا؟ قَالَ: “لا”. وَجَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الأَوْقَصِ السّلَمِيّةُ، وَهِىَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِى إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك حُلِىّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ الْخُزَاعِىّ أَوْ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلانَ - وَكَانَتَا مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ ثَقِيفٍ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِى ثَقِيفٍ يَا خَوْلَةُ”؟ قَالَ: فَخَرَجَتْ خَوْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ حَدّثَتْ خَوْلَةُ مَا حَدّثَتْنِى أَنّك قُلْته؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ قُلْته”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَلَمْ يُؤْذَنْ لَك فِيهِمْ؟ قَالَ: “لا”، قَالَ: أَفَلا أُؤَذّنُ فِى النّاسِ بِالرّحِيلِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلَى”، فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتَكَلّمُونَ يَمْشِى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ. فَقَالُوا: نَنْصَرِفُ وَلا نَفْتَحُ الطّائِفَ لا نَبْرَحُ حَتّى يَفْتَحَ اللّهُ عَلَيْنَا. وَاَللّهِ إنّهُمْ لأَذَلّ وَأَقَلّ مَنْ لاقَيْنَا؛ قَدْ لَقِينَا جَمْعَ مَكّةَ وَجَمْعَ هَوَازِنَ، فَفَرّقَ اللّهُ تِلْكَ الْجَمُوعَ وَإِنّمَا هَؤُلاءِ ثَعْلَبٌ فِى جُحْرٍ، لَوْ حَصَرْنَاهُمْ لَمَاتُوا فِى حِصْنِهِمْ هَذَا وَكَثُرَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمْ وَالاخْتِلافُ، فَمَشَوْا إلَى أَبِى بَكْرٍ فَتَكَلّمُوا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَالأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ. فَكَلّمُوا عُمَرَ فَأَبَى، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، وَدَخَلَنِى فِى الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الشّكّ مَا لا يَعْلَمُهُ إلاّ اللّهُ. وَرَاجَعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ بِكَلامٍ لَيْتَ أَنّى لَمْ أَفْعَلْ، وَأَنّ أَهْلِى وَمَالِى ذَهَبَا، ثُمّ كَانَتْ الْخِيَرَةُ لَنَا مِنْ اللّهِ فِيمَا صَنَعَ فَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ كَانَ خَيْرًا لِلنّاسِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ - بِلا سَيْفٍ دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ دَخَلَ - مِنْ يَوْمِ بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى يَوْمِ كُتِبَ الْكِتَابُ، فَاتّهِمُوا الرّأْىَ وَالْخِيَرَةُ فِيمَا صَنَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَلَنْ أُرَاجِعَهُ فِى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الأَمْرِ أَبَدًا، وَالأَمْرُ أَمْرُ اللّهِ وَهُوَ يُوحِى إلَى نَبِيّهِ مَا يَشَاءُ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ قَالَ لأَبِى بَكْرٍ: “إنّى رَأَيْت أَنّى أُهْدِيَتْ لِى قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأُهْرَاقَ مَا فِيهَا”. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَأَنَا لا أَرَى ذَلِكَ”. قَالَ: حَدّثَنِى كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حِصَارِهِمْ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِىّ، فَقَالَ: “يَا نَوْفَلُ مَا تَقُولُ”؟ أَوْ تَرَى، فَقَالَ نَوْفَلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ ثَعْلَبٌ فِى جُحْرٍ إنْ أَقَمْت عَلَيْهِ أَخَذْته، وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَضُرّك شَيْئًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فِى فَتْحِهَا، قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عُمَرَ وَأَذّنَ فِى النّاسِ بِالرّحِيلِ. قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَضِجّونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ”، فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ”، فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَالنّبِىّ ÷ يَضْحَكُ، فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ لِوَجْهِهِمْ نَادَى سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلاجٍ الثّقَفِىّ قَالَ: أَلا إنّ الْحَىّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاَللّهِ مَجَدَةٌ كِرَامٌ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: قَاتَلَك اللّهُ تَمْدَحُ قَوْمًا مُشْرِكِينَ بِالامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إنّى وَاَللّهِ مَا جِئْت مَعَكُمْ أُقَاتِلُ ثَقِيفًا، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ مُحَمّدٌ الطّائِفَ فَأُصِيبَ جَارِيَةً مِنْ ثَقِيفٍ فَأَطَأهَا لَعَلّهَا تَلِدُ لِى رَجُلاً، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مُبَارَكُونَ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ النّبِىّ ÷ بِمَقَالَتِهِ فَتَبَسّمَ ÷، ثُمّ قَالَ: “هَذَا الْحُمْقُ الْمُطَاعُ”، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا: “قُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ”، فَلَمّا ارْتَحَلُوا وَاسْتَقَلّوا، قَالَ: “قُولُوا: آيِبُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ”، وَلَمّا ظَعَنَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الطّائِفِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ عَلَى ثَقِيفٍ. قَالَ: “اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ” .

  • * *

تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ بَنِى أُمَيّةَ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أُمَيّةَ وَعُرْفُطَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِنْ بَنِى أَسَدٍ: يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ. جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ - وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ - إلَى حِصْنِ الطّائِفِ فَقَتَلُوهُ. وَيُقَالُ قَالَ لَهُمْ أَمّنُونِى حَتّى أُكَلّمَكُمْ. فَأَمّنُوهُ ثُمّ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ حَتّى قَتَلُوهُ. وَمِنْ بَنِى تَيْمٍ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى قُحَافَةَ رُمِىَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَزَلْ مِنْهُ جَرِيحًا، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِىّ ÷. وَمِنْ بَنِى مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، رُمِىَ مِنْ الْحِصْنِ. وَمِنْ بَنِى عَدِىّ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَنَزِىّ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَمِن ْ بَنِى سَهْمٍ: السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ. وَمِنْ بَنِى سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ الضّيْحَانِ بْنِ نَاشِبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ. وَمِنْ الأَنْصَارِ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ - وَاسْمُ الْجَذَعِ ثَعْلَبَةُ - وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَوْفَلٍ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً.

  • * *



شَأْنُ مَسِيرِ النّبِىّ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الطّائِفِ فَأَخَذَ عَلَى دَحْنَا ثُمّ عَلَى قَرْنِ الْمَنَازِلِ، ثُمّ عَلَى نَخْلَةَ حَتّى خَرَجَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسِيرُ وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ وَفِى رِجْلَيْهِ نَعْلانِ لَهُ غَلِيظَتَانِ إذْ زَحَمَتْ نَاقَتُهُ نَاقَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِهِ عَلَى سَاقِهِ فَأَوْجَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَوْجَعْتنِى، أَخّرْ رِجْلَك وَقَرَعَ رِجْلَهُ بِالسّوْطِ”. قَالَ: فَأَخَذَنِى مِنْ أَمْرِى مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ وَخَشِيت أَنْ يَنْزِلَ فِىّ الْقُرْآنُ لِعَظِيمِ مَا صَنَعْت؛ فَلَمّا أَصْبَحْنَا بِالْجِعِرّانَةِ خَرَجْت أَرْعَى الظّهْرَ وَمَا هُوَ يَوْمِى، فَرَقًا أَنْ يَأْتِىَ النّبِىّ ÷. وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَطْلُبُنِى، فَلَمّا رَوّحْت الرّكَابَ سَأَلْت فَقَالُوا: طَلَبَك رَسُولُ اللّهِ ÷. فَجِئْته وَأَنَا أَتَرَقّبُ فَقَالَ: “إنّك أَوْجَعْتنِى بِرِجْلِك فَقَرَعْتُك بِالسّوْطِ، فَخُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ عِوَضًا مِنْ ضَرْبَتِى”. قَالَ أَبُو رُهْمٍ: فَرِضَاهُ عَنّى كَانَ أَحَبّ إلَىّ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حَدْرَدٍ الأَسْلَمِىّ، يَقُولُ: كُنْت مَعَ النّبِىّ ÷ فِى مَسِيرَةٍ وَهُوَ يُحَادِثُنِى، فَجَعَلَتْ نَاقَتِى تَلْصِقُ بِنَاقَتِهِ وَكَانَتْ نَاقَتِى نَاقَةً شَهْمَةً فَجَعَلْت أُرِيدُ أَنْ أُنَحّيَهَا فَلا تُطَاوِعُنِى، فَلَصِقَتْ بِنَاقَةِ النّبِىّ ÷ وَأُصِيبَتْ رِجْلُهُ، فَقَالَ: أَخْ أَوْجَعْتنِى فَرَفَعَ رِجْلَهُ مِنْ الْغَرْزِ كَأَنّهَا جُمّارَةً، وَدَفَعَ رِجْلِى بِمِحْجَنٍ فِى يَدِهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً لا يَتَحَدّثُ فَوَاَللّهِ مَا نَزَلْت حَتّى ظَنَنْت أَنْ سَيَنْزِلُ فِىّ عَذَابٌ، قَالَ: فَلَمّا نَزَلْنَا قُلْت لأَصْحَابِى: إنّى أَرْعَى لَكُمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَوْمَ رِعْيَتِى، فَلَمّا أَرَحْت الظّهْرَ عَلَيْهِمْ قُلْت: هَلْ جَاءَ أَحَدٌ يَبْغِينِى؟ فَقَالُوا: رَسُولُ اللّهِ ÷ جَاءَ يَبْغِيك، فَقُلْت فِى نَفْسِى: هِىَ وَاَللّهِ هِىَ، قُلْت: مَنْ جَاءَ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَكَانَ أَكْرَهَ إلَىّ وَذَلِكَ أَنّ الأَنْصَارَ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَيْنَا غِلْظَةٌ، قَالَ: ثُمّ جَاءَ بَعْدُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَبْتَغِينِى. قَالَ: فَخَرَجْت خَائِفًا حَتّى وَاجَهْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فَجَعَلَ يَبْتَسِمُ فِى وَجْهِى وَقَالَ: “أَوْجَعْتُك بِمِحْجَنِى الْبَارِحَةَ”، ثُمّ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنْ الْغَنَمِ. قَالَ: فَأَخَذْتهَا فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ شَاةً ضَائِنَةً. وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ الْجُهَنِىّ، يَقُولُ: لَمّا أَرَادَ ÷ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ قَرْنٍ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ وَطِئْت لَهُ عَلَى يَدَيْهَا، وَالزّمَامُ فِى يَدِى مَطْوِىّ، فَرَكِبَ عَلَى الرّحْلِ وَنَاوَلْته الزّمَامَ وَدُرْت مِنْ خَلْفِهِ فَخَلّفَ النّاقَةَ بِالسّوْطِ كُلّ ذَلِكَ يُصِيبُنِى، فَالْتَفَتَ إلَىّ فَقَالَ: “أَصَابَك السّوْطُ”؟ قُلْت: نَعَمْ بِأَبِى وَأُمّى، قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ الْجِعِرّانَةَ إذَا رِبْضَةٌ مِنْ الْغَنَمِ نَاحِيَةً مِنْ الْغَنَائِمِ فَسَأَلَ عَنْهَا صَاحِبَ الْغَنَمِ فَخَبّرَهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ لا أَحْفَظُهُ ثُمّ صَاحَ: “أَيْنَ أَبُو زُرْعَةَ”؟ قَالَ: قُلْت: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: “خُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ بِاَلّذِى أَصَابَك مِنْ السّوْطِ أَمْسِ”، قَالَ: فَعَدَدْتهَا فَوَجَدْتهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَأْسٍ، قَالَ: فَتَأَثّلْت بِهَا مَالاً. وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: لَقِيت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَهُوَ مُنْحَدِرٌ مِنْ الطّائِفِ إلَى الْجِعِرّانَةِ فَتَحَصّلْت، وَالنّاسُ يَمْضُونَ أَمَامَهُ أَرْسَالاً، فَوَقَعْت فِى مِقْنَبٍ مِنْ خَيْلِ الأَنْصَارِ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونِى بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إلَيْك إلَيْك مَا أَنْتَ؟ وَأَنْكَرُونِى، حَتّى إذَا دَنَوْت وَعَرَفْت أَنّهُ يَسْمَعُ صَوْتِى أَخَذْت الْكِتَابَ الّذِى كَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلْته بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِى، ثُمّ رَفَعْت يَدَىّ وَنَادَيْت: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ وَهَذَا كِتَابِى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَوْمَ وَفَاءٍ أَدْنُوهُ”، فَأَدْنَيْت مِنْهُ فَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى سَاقِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ فَلَمّا انْتَهَيْت إلَيْهِ سَلّمْت، وَسُقْت إلَيْهِ الصّدَقَةَ فَمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَسْأَلُهُ عَنْهُ إلاّ أَنّى قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت الضّالّةَ مِنْ الإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِى وَقَدْ مَلأْتهَا لإِبِلِى، هَلْ لِى مِنْ أَجْرٍ إنْ أَسْقَيْتهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ، فِى كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى أَجْر”. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ الْمَقْبُرِىّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ غَنَمٌ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ هَدِيّةٌ قَدْ أَهْدَيْتهَا لَك، قَالَ: “وَمِمّنْ أَنْتَ”؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، قَالَ: “إنّى لا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّى مُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ قَدْ سُقْت الصّدَقَةَ إلَى بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ لِمَالِى بِعَيْنِهِ مُصَدّقًا، قَالَ: وَأَقْبَلَ بُرَيْدَةُ فَلَحِقَ النّبِىّ ÷ فَقَالَ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا مِنْ قَوْمِى، شَرِيفٌ يَنْزِلُ بِالصّفَاحِ، قَالَ: “فَمَا أَقْدَمَك إلَى نَخْلَةَ”؟ قَالَ: هِىَ أَمْرَعُ مِنْ الصّفَاحِ الْيَوْمَ. ثُمّ قَالَ: “نَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ كَمَا تَرَى”، فَالْحَقْنَا بِالْجِعِرّانَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ يَعْدُو عِرَاضَ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَسُوقُ الْغَنَمَ مَعِى إلَى الْجِعِرّانَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَسُقْهَا، وَلَكِنْ تَقْدَمُ عَلَيْنَا الْجِعِرّانَةَ فَنُعْطِيك غَنَمًا أُخْرَى إنْ شَاءَ اللّهُ”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تُدْرِكُنِى الصّلاةُ وَأَنَا فِى عَطَنِ الإِبِلِ أَفَأُصَلّى فِيهِ؟ قَالَ: “لا”، قَالَ: فَتُدْرِكُنِى وَأَنَا فِى مَرَاحِ الْغَنَمِ أَفَأُصَلّى فِيهِ؟ قَالَ: “نَعَمْ”. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ رُبّمَا تَبَاعَدَ مِنّا الْمَاءُ وَمَعَ الرّجُلِ زَوْجَتُهُ فَيَدْنُو مِنْهَا؟ قَالَ: “نَعَمْ وَيَتَيَمّمُ”. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَتَكُونُ فِينَا الْحَائِضُ قَالَ: “تَتَيَمّمُ”. قَالَ: فَلَحِقَ النّبِىّ ÷ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ شَاةٍ. قَالُوا: وَجَعَلَتْ الأَعْرَابُ فِى طَرِيقِهِ يَسْأَلُونَهُ وَكَثُرُوا عَلَيْهِ حَتّى اضْطَرّوهُ إلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَنَزَعَتْهُ عَنْ مِثْلِ شِقّةِ الْقَمَرِ فَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَقُولُ: “أَعْطُونِى رِدَائِى أَعْطُونِى رِدَائِى لَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته بَيْنَكُمْ ثُمّ لا تَجِدُونِى بَخِيلاً وَلا جَبَانًا وَلا كَذّابًا”، ثُمّ لَمّا كَانَ عِنْدَ الْقَسْمِ قَالَ: “أَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ وَإِيّاكُمْ وَالْغُلُولَ فَإِنّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، ثُمّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ، فَقَالَ: “وَاَللّهِ مَا يَحِلّ لِى مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْكُمْ وَلا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلاّ الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُم”. قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَالسّبْىُ وَالْغَنَائِمُ بِهَا مَحْبُوسَةٌ وَقَدْ اتّخَذَ السّبْىُ حَظَائِرَ يَسْتَظِلّونَ بِهَا مِنْ الشّمْسِ فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى تِلْكَ الْحَظَائِرِ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا سَبْىُ هَوَازِنَ اسْتَظَلّوا مِنْ الشّمْسِ. وَكَانَ السّبْىُ سِتّةَ آلافٍ وَكَانَتْ الإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَكَانَتْ الْغَنَمُ لا يُدْرَى عَدَدُهَا، قَدْ قَالُوا: أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَقَلّ وَأَكْثَرَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمَرَ بُسْرَ ابْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِىّ يَقْدَمُ مَكّةَ فَيَشْتَرِى لِلسّبْىِ ثِيَابًا يَكْسُوهَا، ثِيَابَ الْمَعْقِدِ فَلا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْهُمْ إلاّ كَاسِيًا، فَاشْتَرَى بُسْرٌ كُسْوَةً فَكَسَا السّبْىَ كُلّهُمْ وَاسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ بِالسّبْىِ، وَقَدْ كَانَ فَرّقَ مِنْهُ وَأَعْطَى رِجَالاً؛ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ قَدْ وَطِئَهَا بِالْمِلْكِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ بِحُنَيْنٍ فَرَدّهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ حَتّى حَاضَتْ فَوَطِئَهَا، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ أُخْرَى، وَأَعْطَى عَلِىّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: رَيْطَةُ بِنْتُ هِلالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرٍو، فَوَطِئَهَا عُثْمَانُ فَكَرِهَتْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلِىّ وَطِئَ. وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً فَأَعْطَاهَا عُمَرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ، فَبَعَثَ بِهَا ابْنُ عُمَرَ إلَى أَخْوَالِهِ بِمَكّةَ بَنِى جُمَحَ لِيُصْلِحُوا مِنْهَا حَتّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ يَأْتِيَهُمْ. وَكَانَتْ جَارِيَةً وَضِيئَةً مُعْجِبَةً. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: فَقَدِمْت مكة فَطُفْت بِالْبَيْتِ، فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَنَا أُرِيدُ الْجَارِيَةَ أَنْ أُصِيبَهَا، وَأَرَى النّاسَ يَشْتَدّونَ، فَقُلْت: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: رَدّ رَسُولُ اللّهِ ÷ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَأَبْنَاءَهَا. قَالَ قُلْت: تِلْكَ صَاحِبَتُكُمْ فِى بَنِى جُمَحَ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا فَذَهَبُوا فَأَخَذُوهَا. وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْىِ هَوَازِنَ فَلَمْ تُوطَأْ. وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا طَلْحَةُ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقّاصٍ جَارِيَةً وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ جَارِيَةً وَهَذَا كُلّهُ بِحُنَيْنٍ. فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ أَقَامَ يَتَرَبّصُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَفْدُهُمْ وَبَدَأَ بِالأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا، وَأَعْطَى الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ أَوّلَ النّاسِ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ غَنِمَ فِضّةً كَثِيرَةً أَرْبَعَةَ آلافِ أُوقِيّةٍ فَجُمِعَتْ الْغَنَائِمُ بَيْنَ يَدَىْ النّبِىّ ÷ فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفِضّةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَصْبَحْت أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالاً فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَقَالَ: أَعْطِنِى مِنْ هَذَا الْمَالِ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “يَا بِلالُ زِنْ لأَبِى سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِى يَزِيدُ أَعْطِهِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “زِنُوا يَزِيدَ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِى مُعَاوِيَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: “زِنْ لَهُ يَا بِلالُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّك الْكَرِيمُ فِدَاك أَبِى وَأُمّى وَلَقَدْ حَارَبْتُك فَنِعْمَ الْمُحَارَبُ كُنْت، ثُمّ سَالَمْتُك فَنِعْمَ الْمُسَالَمُ أَنْتَ، جَزَاك اللّهُ خَيْرًا وَأَعْطَى فِى بَنِى أَسَدٍ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالا: حَدّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللّهِ ÷ بِحُنَيْنٍ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا حَكِيمُ بْنَ حِزَامٍ، إنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَاَلّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ”، قَالَ: فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: وَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى يَأْخُذُهُ فَيَقُولُ: عُمَرُ أَيّهَا النّاسُ إنّى أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنّى أَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَه. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِى الزّنَادِ، قَالَ: أَخَذَ حَكِيمٌ الْمِائَةَ الأُولَى ثُمّ تَرَكَ. وَفِى بَنِى عَبْدِ الدّارِ النّضَيْرُ وَهُوَ أَخُو النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، مِائَةً مِنْ الإِبِلِ. وَفِى بَنِى زُهْرَةَ أُسَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَلاءَ بْنَ جَارِيَةَ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا. وَقَدْ رَأَيْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ مَخْرَمَةُ فِى ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِى يَذْكُرُ أَنّهُ أُعْطِىَ شَيْئًا. وَمِنْ بَنِى مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ مِنْ الإِبِلِ. وَأَعْطَى فِى بَنِى جُمَحَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَيُقَالُ: إنّهُ طَافَ مَعَ النّبِىّ ÷ وَالنّبِىّ ÷ يَتَصَفّحُ الْغَنَائِمَ إذْ مَرّ بِشِعْبٍ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيهِ غَنَمٌ وَإِبِلٌ وَرِعَاؤُهَا مَمْلُوءٌ. فَأَعْجَبَ صَفْوَانَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَعْجَبَك يَا أَبَا وَهْبٍ هَذَا الشّعْبُ”؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “هُوَ لَك وَمَا فِيهِ”. فَقَالَ صَفْوَانُ: أَشْهَدُ مَا طَابَتْ بِهَذَا نَفْسُ أَحَدٍ قَطّ إلاّ نَبِىّ، وَأَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ. وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِىّ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ وَهْبٍ خَمْسِينَ مِنْ الإِبِلِ. وَفِى بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَىّ أَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عُمَرَ خَمْسِينَ مِنْ الإِبِلِ. وَأَعْطَى فِى الْعَرَبِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِىّ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ الْفَزَارِىّ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِىّ أَرْبَعًا مِنْ الإِبِلِ فَعَاتَبَ النّبِىّ ÷ فِى شِعْرٍ قَالَهُ: كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتهَا وَحَثّى الْجُنُودَ لِكَىْ يُدْلِجُوا فَأَصْبَحَ نَهْبِى وَنَهْبُ الْعَبِيـ إلاّ أَفَائِلَ أُعْطِيتهَا وَقَدْ كُنْت فِى الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلا حَابِسٌ وَمَا كُنْـــت دُونَ امْــرِئٍ مِنْهُمَـــا بِكَرّى عَلَى الْقَوْمِ فِى الأَجْرَعِ إذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِى الْمَجْمَعِ وَمَــنْ تَضَـــعِ الْيَوْمَ لا يُرْفَــــــعِ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَبْيَاتَهُ إلَى النّبِىّ ÷، فَقَالَ النّبِىّ ÷ لِلْعَبّاسِ: “أَنْتَ الّذِى تَقُولُ: أَصْبَحَ نَهْبِى وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: بِأَبِى وَأُمّى يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ هَكَذَا قَالَ: قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَالَ عَبّاسٌ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “سَوَاءٌ مَا يَضُرّك بَدَأْت بِالأَقْرَعِ أَمْ عُيَيْنَةَ”، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمّى، مَا أَنْتَ بِشَاعِرٍ وَلا رَاوِيَةٍ وَلا يَنْبَغِى لَك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنّى، فَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ”، وَيُقَالُ: خَمْسِينَ مِنْ الإِبِلِ فَفَزِعَ مِنْهَا أُنَاسٌ وَقَالُوا: أَمَرَ بِعَبّاسٍ يُمَثّلُ بِهِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيمَا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ النّاسَ. فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِى عَوْنٍ عَنْ سَعْدٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالا: كَانَتْ الْعَطَايَا فَارِعَةً مِنْ الْغَنَائِمِ. قَالَ: حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ مِنْ الْخُمُسِ، فَأَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ أَنّهَا مِنْ الْخُمُسِ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِىّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمَا وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلاعِ الأَرْضِ كُلّهَا مِثْلَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ وَلَكِنّى تَأَلّفْتهمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلامِهِ”. وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَفِى ثَوْبِ بِلالٍ فِضّةٌ يَقْبِضُهَا لِلنّاسِ عَلَى مَا أَرَاهُ اللّهُ فَأَتَاهُ ذُو الْحُوَيْصِرَةِ التّمِيمِىّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَيْلَك فَمَنْ يَعْدِلْ إذَا لَمْ أَعْدِلْ”؟ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ اِيذَنْ لِى أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: “دَعْهُ إنّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ يَنْظُرُ الرّامِى فِى قُذَذِهِ فَلا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِى نَصْلِهِ فَلا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِى رِصَافِهِ فَلا يَرَى شَيْئًا، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَأَيْتهمْ إنّ فِيهِمْ رَجُلاً أَسْوَدَ إحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ، أَوْ كَبَضْعَةٍ تَدَرْدَر”، فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت عَلِيّا يُحَدّثُ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْت رَجُلاً مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يُعْطِى تِلْكَ الْعَطَايَا، وَهُوَ يَقُولُ: إنّهَا الْعَطَايَا مَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللّهِ، قُلْت: أَمَا وَاَللّهِ لأُبَلّغَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ مَا قُلْت، فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرْته، فَتَغَيّرَ لَوْنُهُ حَتّى نَدِمْت عَلَى مَا صَنَعْته، فَوَدِدْت أَنّى لَمْ أُخْبِرْهُ، ثُمّ قَالَ: “يَرْحَمُ اللّهُ أَخِى مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ”. وَكَانَ الْمُتَكَلّمُ بِهَذَا مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ الْعَمْرِىّ. ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النّاسِ وَالْغَنَائِمِ ثُمّ فَضّهَا عَلَى النّاسِ فَكَانَتْ سِهَامَهُمْ لِكُلّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أَخَذَ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ مِنْ الإِبِلِ أَوْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ شَاةٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.

  • * *

ذِكْرُ وَفْدِ هَوَازِنَ قَالُوا: فَقَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ. وَكَانَ فِى الْوَفْدِ عَمّ النّبِىّ ÷ مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِى هَذِهِ الْحَظَائِرِ مَنْ كَانَ يَكْفُلُك مِنْ عَمّاتِك وَخَالاتِك وَحَوَاضِنِك، وَقَدْ حَضَنّاك فِى حُجُورِنَا، وَأَرْضَعْنَاك بِثُدِيّنَا، وَلَقَدْ رَأَيْتُك مُرْضَعًا فَمَا رَأَيْت مُرْضَعًا خَيْرًا مِنْك، وَرَأَيْتُك فَطِيمًا فَمَا رَأَيْت فَطِيمًا خَيْرًا مِنْك، ثُمّ رَأَيْتُك شَابّا فَمَا رَأَيْت شَابّا خَيْرًا مِنْك، وَقَدْ تَكَامَلَتْ فِيك خِلالُ الْخَيْرِ وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنّ اللّهُ عَلَيْك فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ اسْتَأْنَيْت بِكُمْ حَتّى ظَنَنْت أَنّكُمْ لا تَقْدَمُونَ”، وَقَدْ قُسِمَ السّبْىُ وَجَرَتْ فِيهِمْ السّهْمَانُ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ وَجَاءُوا بِإِسْلامِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَكَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ وَالْمُتَكَلّمَ أَبُو صُرَدٍ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلاءِ مَا لا يَخْفَى عَلَيْك. يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِى هَذِهِ الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالاتُك وَحَوَاضِنُك اللاّتِى كُنّ يَكْفُلْنَك، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِى شِمْرٍ وَلِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ثُمّ نَزَلا مِنّا بِمِثْلِ الّذِى نَزَلْت بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا وَعَائِدَتَهُمَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ - أَبُو صُرَدٍ: إنّمَا فِى هَذِهِ الْحَظَائِرِ أَخَوَاتُك وَعَمّاتُك وَبَنَاتُ عَمّاتِك وَخَالاتُك وَبَنَاتُ خَالاتِك، وَأَبْعَدُهُنّ قَرِيبٌ مِنْك، يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمّى، إنّهُنّ حَضَنّك فِى حُجُورِهِنّ وَأَرْضَعْنَك بِثُدِيّهِنّ وَتَوَرّكْنَك عَلَى أَوْرَاكِهِنّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ وَقَالَ: أُمْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللّهِ فِى كَرَمٍ أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا اللآئِى إذْ كُنْت طِفْلاً كُنْت تَرْضَعُهَا أَلا تَدَارَكَهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا لا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ إنّا لَنَشْكُــــرُ آلاءً وَإِنْ قَدُمَــــــتْ فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدّخِرُ مُمَزّقٌ شَمْلَهَا فِى دَهْرِهَا غِيَرُ إذْ فُوك مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَحْضِهَا الدّرَرُ وَإِذْ يَزِينُك مَا تَأْتِى وَمَا تَذَرُ يَا أَرْجَحَ النّاسِ حَتّى حِينَ يُخْتَبَرُ وَاسْتَبْقِ مِنّا فَإِنّا مَعْشَرٌ زُهُرُ وَعِنْدَنَـــا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَـــــرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَصْدَقُهُ وَعِنْدِى مَنْ تَرَوْنَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ”؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَبَيْنَ أَمْوَالِنَا، وَمَا كُنّا نَعْدِلُ بِالأَحْسَابِ شَيْئًا، فَرُدّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “أَمّا مَا لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ النّاسَ”، وَإِذَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُولُوا: “إنّا لَنَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ، فَإِنّى سَأَقُولُ لَكُمْ: مَا كَانَ لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَسَأَطْلُبُ لَكُمْ إلَى النّاسِ”. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ بِالنّاسِ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِى أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالُوا: إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمّا مَا كَانَ لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ”. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: فَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ، قَالَتْ الأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ، قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمّا أَنَا وَفَزَارَةُ فَلا، وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِىّ: أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلا، قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: وَهّنْتُمُونِى ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى النّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: “إنّ كُلّ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ جَاءُوا مُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِهِمْ فَخَيّرْتهمْ بَيْنَ النّسَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالأَمْوَالِ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالنّسَاءِ وَالأَبْنَاءِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنّ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَرُدّهُ فَلْيُرْسِلْ - وَمَنْ أَبَى مِنْكُمْ وَتَمَسّكَ بِحَقّهِ فَلْيَرُدّ عَلَيْهِمْ، وَلْيَكُنْ فَرْضًا عَلَيْنَا سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ اللّهُ بِهِ عَلَيْنَا”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ رَضِينَا وَسَلّمْنَا، قَالَ: “فَمُرُوا عُرَفَاءَكُمْ أَنْ يَدْفَعُوا ذَلِكَ إلَيْنَا حَتّى نَعْلَمَ”.

فَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَطُوفُ عَلَى الأَنْصَارِ يَسْأَلُهُمْ هَلْ سَلّمُوا وَرَضُوا؟ فَخَبّرُوهُ أَنّهُمْ سَلّمُوا وَرَضُوا، وَلَمْ يَتَخَلّفْ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى الْمُهَاجِرِينَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَخَلّفْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ يَطُوفُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ. ثُمّ جَمَعُوا الْعُرَفَاءَ وَاجْتَمَعَ الأُمَنَاءُ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَاتّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ تَسْلِيمِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَدَفَعَ مَا كَانَ فِى أَيْدِيهِمْ مِنْ السّبْىِ. فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الّتِى عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدْ خُيّرَتْ تُقِيمُ أَوْ تَرْجِعُ إلَى قَوْمِهَا، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَرُدّتْ إلَيْهِمْ. وَاَلّتِى عِنْدَ عَلِىّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَابْنِ عُمَرَ رَجَعْنَ إلَى قَوْمِهِنّ. وَأَمّا الّتِى عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقّاصٍ فَاخْتَارَتْ سَعْدًا وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ. 

وَكَانَ عُيَيْنَةُ قَدْ خَيّرُوهُ فِى السّبْىِ فَأَخَذَ رَأْسًا مِنْهُمْ نَظَرَ إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ أُمّ الْحَىّ لَعَلّهُمْ أَنْ يُغْلُوا بِفِدَائِهَا، فَإِنّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهَا فِى الْحَىّ نَسَبٌ فَجَاءَ ابْنُهَا إلَى عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: هَلْ لَك فِى مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ؟ قَالَ: لا، فَرَجَعَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ سَاعَةً فَجَعَلَتْ الْعَجُوزُ تَقُولُ لابْنِهَا: مَا أَرَبُك فِى نَقْدِ مِائَةِ نَاقَةٍ؟ اُتْرُكْهُ فَمَا أَسْرَعَ مَا يَتْرُكُنِى بِغَيْرِ فِدَاءٍ فَلَمّا سَمِعَهَا عُيَيْنَةُ، قَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ خُدْعَةً، وَاَللّهِ مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ إلاّ فِى غُرُورٍ، وَلا جَرَمَ وَاَللّهِ لأُبَاعِدَنّ أَثَرَك مِنّى، قَالَ: ثُمّ مَرّ بِهِ ابْنُهَا فَقَالَ: هَلْ لَك فِى الْعَجُوزِ فِيمَا دَعَوْتنِى إلَيْهِ؟ قَالَ ابْنُهَا: لا أَزِيدُك عَلَى خَمْسِينَ، قَالَ عُيَيْنَةُ: لا أَفْعَلُ، قَالَ: فَلَبِثَ سَاعَةً فَمَرّ بِهِ مَرّةً أُخْرَى وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ، قَالَ عُيَيْنَةُ: هَلْ لَك فِى الْعَجُوزِ فِى الّذِى بَذَلْت لِي؟ قَالَ الْفَتَى: لا أَزِيدُك عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَرِيضَةً هَذَا الّذِى أَقْوَى عَلَيْهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: وَاَللّهِ لا أَفْعَلُ بَعْدَ مِائَةِ فَرِيضَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَلَمّا تَخَوّفَ عُيَيْنَةُ أَنْ يَتَفَرّقَ النّاسُ وَيَرْتَحِلُوا جَاءَهُ عُيَيْنَةُ، فَقَالَ: هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِى إلَيْهِ؟ قَالَ الْفَتَى: هَلْ لَك إلَى عَشْرِ فَرَائِضَ أُعْطِيكهَا؟ قَالَ عُيَيْنَةُ: وَاَللّهِ لا أَفْعَلُ فَلَمّا رَحَلَ النّاسُ نَادَاهُ عُيَيْنَةُ هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِى إلَيْهِ إنْ شِئْت؟ قَالَ الْفَتَى: أَرْسِلْهَا وَأَحْمِلُك، قَالَ: لا وَاَللّهِ مَا لِى بِحَمْلِك حَاجَةٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ عُيَيْنَةُ عَلَى نَفْسِهِ لائِمًا لَهَا، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا. قَالَ الْفَتَى: أَنْتَ صَنَعْت هَذَا بِنَفْسِك، عَمَدْت إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ وَاَللّهِ مَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، وَلا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلا صَاحِبُهَا بِوَاجِدٍ، فَأَخَذْتهَا مِنْ بَيْنِ مَنْ تَرَى. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: خُذْهَا لا بَارَكَ اللّهُ لَك فِيهَا، وَلا حَاجَةَ لِى فِيهَا، قَالَ: يَقُولُ الْفَتَى: يَا عُيَيْنَةُ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ كَسَا السّبْىَ فَأَخْطَأَهَا مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْكُسْوَةِ، فَمَا أَنْتَ كَاسِيهَا ثَوْبًا؟ قَالَ: لا وَاَللّهِ مَا ذَلِكَ لَهَا عِنْدِى، قَالَ: لا تَفْعَلْ فَمَا فَارَقَهُ حَتّى أَخَذَ مِنْهُ شَمْلَ ثَوْبٍ، ثُمّ وَلّى الْفَتَى وَهُوَ يَقُولُ: إنّك لَغَيْرُ بَصِيرٍ بِالْفُرَصِ، وَشَكَا عُيَيْنَةُ إلَى الأَقْرَعِ مَا لَقِىَ فَقَالَ الأَقْرَعُ: إنّك وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهَا بِكْرًا غَرِيرَةً وَلا نَصَفًا وَثِيرَةً، وَلا عَجُوزًا أَصِيلَةً عَمَدْت إلَى أَحْوَجِ شَيْخٍ فِى هَوَازِنَ فَسَبَيْت امْرَأَتَهُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذَاكَ. وَتَمَسّكَتْ بَنُو تَمِيمٍ مَعَ الأَقْرَعِ بِالسّبْىِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْفِدَاءَ سِتّ فَرَائِضَ ثَلاثَ حِقَاقٍ وَثَلاثَ جِذَاعٍ. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ: “لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ وَلاءٌ أَوْ رِقّ لَثَبَتَ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ إنّمَا هُوَ إسَارٌ وَفِدْيَةٌ”. وَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ الْعَدَوِىّ عَلَى مَقَاسِمِ الْمَغْنَمِ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلْوَفْدِ: “مَا فَعَلَ مَالِكٌ”؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَرَبَ فَلَحِقَ بِحِصْنِ الطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَخْبِرُوهُ أَنّهُ إنْ كَانَ يَأْتِى مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الإِبِلِ”، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمَرَ بِحَبْسِ أَهْلِ مَالِكٍ بِمَكّةَ عِنْدَ عَمّتِهِمْ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بِنْتِ أَبِى أُمَيّةَ. فَقَالَ الْوَفْدُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُولَئِكَ سَادَتُنَا وَأَحِبّتُنَا إلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّمَا أُرِيدُ بِهِمْ الْخَيْر”، فَوَقَفَ مَالَ مَالِكٍ فَلَمْ يُجْرِ فِيهِ السّهْمَ، فَلَمّا بَلَغَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ الْخَبَرُ، وَمَا صَنَعَ فِى قَوْمِهِ، وَمَا وَعَدَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَنّ أَهْلَهُ وَمَالَهُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ خَافَ مَالِكٌ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَيَحْبِسُونَهُ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَقُدّمَتْ حَتّى وُضِعَتْ بِدَحْنَا، وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِىَ بِهِ لَيْلاً، فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ لَيْلاً فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى دَحْنَا، فَرَكِبَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَحِقَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَيُدْرِكُهُ قَدْ رَكِبَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلامُهُ. وَيُقَالُ: لَحِقَهُ بِمَكّةَ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ الطّائِفِ مِنْ هَوَازِنَ وَفَهْمٍ فَكَانَ قَدْ ضَوَى إلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى الشّرْكِ وَيُغِيرُ بِهِمْ عَلَى ثَقِيفٍ، يُقَاتِلُهُمْ بِهِمْ وَلا يَخْرُجُ لِثَقِيفٍ سَرْحٌ إلاّ أَغَارَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَجَعَ حِينَ رَجَعَ وَقَدْ سَرّحَ النّاسُ مَوَاشِيَهُمْ وَأَمِنُوا فِيمَا يَرَوْنَ حَيْثُ انْصَرَفَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَكَانَ لا يَقْدِرُ عَلَى سَرْحٍ إلاّ أَخَذَهُ وَلا عَلَى رَجُلٍ إلاّ قَتَلَهُ، فَكَانَ قَدْ بَعَثَ إلَى النّبِىّ ÷ بِالْخُمُسِ مِمّا يُغِيرُ بِهِ مَرّةً مِائَةَ بَعِيرٍ وَمَرّةً أَلْفَ شَاةٍ، وَلَقَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحٍ لأَهْلِ الطّائِفِ فَاسْتَاقَ لَهُمْ أَلْفَ شَاةٍ فِى غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ فِى ذَلِكَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ الثّقَفِىّ: تَهَابُ الأَعْدَاءُ جَانِبَنَا وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمُ وَأَتَوْنَـــــا فِـــــى مَنَازِلِنــــــــَا ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلِمَهْ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرُمَهْ وَلَقَــــدْ كَانُــــــوا أُولِى نَقِمَـــهْ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ: مَا إنْ رَأَيْت وَلا سَمِعْت بِمِثْلِهِ أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اجْتُدِى وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا فَكَأَنّهُ لَيْــــثٌ عَلَــــى أَشْبَالِــــهِ فِى النّاسِ كُلّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ وَمَتَى تَشَاءُ يُخْبِرْك عَمّا فِى غَدِ بِالْمَشْرَفِىّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَـــادِرٌ فِى مَرْصَــدِ قَالُوا: لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى قُرَيْشٍ، وَفِى قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِى الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَىّ مِنْ الأَنْصَارِ فِى أَنْفُسِهِمْ حَتّى كَثُرَتْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَوْمَهُ، أَمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ، وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِمّنْ كَانَ هَذَا إنْ كَانَ هَذَا مِنْ اللّهِ صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ رَأْىِ رَسُولِ اللّهِ ÷ اسْتَعْتَبْنَاهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا يَقُولُ فِىّ قَوْمُك”؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “يَقُولُونَ أَمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هَذَا إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ اللّهِ صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْىِ رَسُولِ اللّهِ ÷ اسْتَعْتَبْنَاهُ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ”؟ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلاّ كَأَحَدِهِمْ، وَإِنّا لَنُحِبّ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَاجْمَعْ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ الأَنْصَارِ فِى هَذِهِ الْحَظِيرَةِ”، فَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِى تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ جَاءَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَىّ مِنْ الأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِى وَجْهِهِ فَحَمِدَ اللّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِى هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: “يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِى عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِى أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاّلاً فَهَدَاكُمْ اللّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ”؟ قَالُوا: بَلَى، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: “أَلا تُجِيبُونِى يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ”؟ قَالُوا: وَمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ وَلِرَسُولِ اللّهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: “أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاك، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاك، وَجَدْتُمْ فِى أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِى شَيْءٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهِ قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلامِكُمْ أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ وَاَلّذِى نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْت شِعْبَ الأَنْصَارِ، أَكْتُبُ لَكُمْ بِالْبَحْرَيْنِ كِتَابًا مِنْ بَعْدِى تَكُونُ لَكُمْ خَاصّةً دُونَ النّاسِ فَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ الأَنْصَارِ”. قَالُوا: وَمَا حَاجَتُنَا بِالدّنْيَا بَعْدَك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “إمّا لا فَسَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتّى تَلْقَوْا اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَعُمَانَ، وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النّجُومِ، اللّهُمّ ارْحَمْ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ”، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللّهِ حَظّا وَقَسْمًا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَتَفَرّقُوا. وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لاثْنَتَىْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ لَيْلاً؛ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الّذِى تَحْتَ الْوَادِى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ ÷ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ - فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ - وَلَمْ يَجُزْ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْوَادِىَ إلاّ مُحْرِمًا، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبّى حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ. وَيُقَالُ: لَمّا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَطَعَ التّلْبِيَةَ فَلَمّا أَتَى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عَلَى بَابِ بَنِى شَيْبَةَ، وَدَخَلَ وَطَافَ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، ثُمّ خَرَجَ فَطَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَتّى إذَا انْتَهَى إلَى الْمَرْوَةِ فِى الطّوَافِ السّابِعِ حَلَقَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، حَلَقَهُ أَبُو هِنْدٍ عَبْدُ بَنِى بَيَاضَةَ وَيُقَالُ: حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ، وَلَمْ يَسُقْ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهَا هَدْيًا. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْجِعِرّانَةِ مِنْ لَيْلَتِهِ فَكَانَ كَبَائِتٍ بِهَا، فَلَمّا رَجَعَ إلَى الْجِعِرّانَةِ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَسَلَكَ فِى وَادِى الْجِعِرّانَةِ، وَسَلَكَ مَعَهُ حَتّى خَرَجَ عَلَى سَرِفَ، ثُمّ أَخَذَ الطّرِيقَ حَتّى انْتَهَى إلَى مَرّ الظّهْرَانِ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ، وَخَلّفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىّ يُعَلّمَانِ النّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ فِى الدّينِ، وَقَالَ لَهُ: “أَتَدْرِى عَلَى مَنْ أَسْتَعْمِلُك”؟ قَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “اسْتَعْمَلْتُك عَلَى أَهْلِ اللّهِ بَلّغْ عَنّى أَرْبَعًا: لا يَصْلُحُ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ، وَلا بَيْعٌ وَسَلَفٌ، وَلا بَيْعٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلا تَأْكُلْ رِبْحَ مَا لَيْسَ عِنْدَك”، أَقَامَ لِلنّاسِ الْحَجّ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ تِلْكَ السّنَةَ – وَهِىَ سَنَةُ ثَمَانٍ – بِغَيْرِ تَأْمِيرٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ عَلَى الْحَجّ وَلَكِنّهُ أَمِيرُ مَكّةَ، وَحَجّ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى مُدّتِهِمْ وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْحَجّ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ.

  • * *

قُدُومُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ حَاصَرَ النّبِىّ ÷ أَهْلَ الطّائِفِ بِجُرَشَ يَتَعَلّمُ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ ثُمّ رَجَعَ إلَى الطّائِفِ بَعْدَ أَنْ وَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَعَمِلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَالْعَرّادَاتِ، وَأَعَدّ ذَلِكَ حَتّى قَذَفَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِى قَلْبِهِ الإِسْلامَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِىّ ÷، فَأَسْلَمَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اِيذَنْ لِى فَآتِىَ قَوْمِى فَأَدْعُوَهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الدّينِ ذَهَبَ عَنْهُ ذَاهِبٌ. فَأَقْدَمُ عَلَى أَصْحَابِى وَقَوْمِى بِخَيْرِ قَادِمٍ وَمَا قَدِمَ وَافِدٌ قَطّ عَلَى قَوْمِهِ إلاّ مَنْ قَدِمَ بِمِثْلِ مَا قَدِمْت بِهِ وَقَدْ سَبَقْت يَا رَسُولَ اللّهِ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لأَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلادِهِمْ، ثُمّ اسْتَأْذَنَهُ الثّانِيَةَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلامَ الأَوّلَ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّهُمْ إذًا قَاتِلُوك”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ وَجَدُونِى نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِى، وَاسْتَأْذَنَهُ الثّالِثَةَ، فَقَالَ: “إنْ شِئْت فَاخْرُجْ”، فَخَرَجَ إلَى الطّائِفِ فَسَارَ إلَيْهَا خَمْسًا، فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ عِشَاءً فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَأَنْكَرَ قَوْمُهُ دُخُولَهُ مَنْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِىَ الرّبّةَ، ثُمّ قَالُوا: السّفَرُ قَدْ حَصَرَهُ فَجَاءُوا مَنْزِلَهُ فَحَيّوْهُ تَحِيّةَ الشّرْكِ، فَكَانَ أَوّلَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَحِيّةُ الشّرْكِ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ. ثُمّ دَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ أَتَتّهِمُونَنِى؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّى أَوْسَطُكُمْ نَسَبًا، وَأَكْثَرُكُمْ مَالاً، وَأَعَزّكُمْ نَفَرًا؟ فَمَا حَمَلَنِى عَلَى الإِسْلامِ إلاّ أَنّى رَأَيْت أَمْرًا لا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَاهِبٌ فَاقْبَلُوا نُصْحِى، وَلا تَسْتَعْصُونِى. فَوَاَللّهِ مَا قَدِمَ وَافِدٌ عَلَى قَوْمٍ بِأَفْضَلَ مِمّا قَدِمْت بِهِ عَلَيْكُمْ فَاتّهَمُوهُ، وَاسْتَغَشّوهُ، وَقَالُوا: قَدْ وَاللاّتِ وَقَعَ فِى أَنْفُسِنَا حَيْثُ لَمْ تَقْرَبْ الرّبّةَ، وَلَمْ تَحْلِقْ رَأْسَك عِنْدَهَا أَنّك قَدْ صَبَوْت فَآذَوْهُ وَنَالُوا مِنْهُ، وَحَلُمَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتَمِرُونَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِهِ حَتّى إذْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْفَى عَلَى غُرْفَةٍ لَهُ فَأَذّنَ بِالصّلاةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ رَهْطِهِ مِنْ الأَحْلافِ يُقَالُ لَهُ: وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ - وَيُقَالُ: رَمَاهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ بَنِى مَالِكٍ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا - وَكَانَ عُرْوَةُ رَجُلاً مِنْ الأَحْلافِ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ، فَلَمْ يَرْقَأْ دَمُهُ وَحُشِدَ قَوْمُهُ فِى السّلاحِ، وَجُمِعَ الآخَرُونَ وَتَجَايَشُوا، فَلَمّا رَأَى عُرْوَةُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: لا تَقْتَتِلُوا فِىّ فَإِنّى قَدْ تَصَدّقْت بِدَمِى عَلَى صَاحِبِهِ لِيُصْلِحَ بِذَلِكَ بَيْنَكُمْ فَهِىَ كَرَامَةُ اللّهِ أَكْرَمَنِى اللّهُ بِهَا الشّهَادَةُ سَاقَهَا اللّهُ إلَىّ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ خَبّرَنِى عَنْكُمْ هَذّ أَنّكُمْ تَقْتُلُونَنِى، ثُمّ قَالَ لِرَهْطِهِ: ادْفِنُونِى مَعَ الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ. قَالَ: فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَتْلُهُ، فَقَالَ: “مَثَلُ عُرْوَةَ مَثَلُ صَاحِبِ يَاسِينَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَقَتَلُوه”. وَيُقَالُ: إنّ عُرْوَةَ لَمْ يَقْدَمْ الْمَدِينَةَ، وَإِنّمَا لَحِقَ رَسُولَ اللّهِ ÷ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ ثُمّ انْصَرَفَ، وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَلَمّا قُتِلَ عُرْوَةُ، قَالَ ابْنُهُ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ أَخِيهِ قَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ لأَهْلِ الطّائِفِ: لا نُجَامِعُكُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، وَقَدْ قَتَلْتُمْ عُرْوَةَ، ثُمّ لَحِقَا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَسْلَمَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا”. قَالا: نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ النّبِىّ ÷: “وَخَالُكُمَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب حَالِفَاهُ”، فَفَعَلا، وَنَزَلا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَقَامَا بِالْمَدِينَةِ حَتّى قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالُوا: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدَ بَنِى عِلاجٍ، وَكَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ، وَأَنْكَرِهِمْ وَكَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ يَالَيْل بْنِ عَمْرٍو، وَتَمَشّى إلَى عَبْدِ يَالَيْل ظُهْرًا حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ إنّ عَمْرًا يَقُولُ: اُخْرُجْ إلَىّ فَلَمّا جَاءَ الرّسُولُ إلَى عَبْدِ يَالَيْل، قَالَ: وَيْحَك عَمْرٌو أَرْسَلَك؟ قَالَ: نَعَمْ وَهُوَ وَاقِفٌ فِى الدّارِ، وَكَانَ عَبْدُ يَالَيْل يُحِبّ صُلْحَهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يَمْشِىَ إلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ يَالَيْل: إنّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْت أَظُنّهُ بِعَمْرٍو، وَمَا هُوَ إلاّ عَنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ وَكَانَ أَمْرًا سُوءًا، مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ مُحَمّدٍ، فَخَرَجَ إلَيْهِ عَبْدُ يَالَيْل، فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت، وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ، وَإِنّمَا نَحْنُ فِى حِصْنِنَا هَذَا، مَا بَقَاؤُنَا فِيهِ هَذَا أَطْرَافُنَا تُصَابُ، وَلا نَأْمَنُ مِنْ أَحَدٍ مِنّا يَخْرُجُ شِبْرًا وَاحِدًا مِنْ حِصْنِنَا هَذَا، فَانْظُرُوا فِى أَمْرِكُمْ، قَالَ عَبْدُ يَالَيْل: قَدْ وَاَللّهِ رَأَيْت مَا رَأَيْت، فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَتَقَدّمَ بِاَلّذِى تَقَدّمْت بِهِ، وَإِنّ الْحَزْمَ وَالرّأْىَ الّذِى فِى يَدَيْك. قَالَ: فَائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ أَنّهُ لا يَأْمَنُ لَكُمْ سِرْبٌ، وَلا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلاّ اُقْتُطِعَ؟ فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يُرْسِلُوا رَسُولاً إلَى النّبِىّ ÷ كَمَا خَرَجَ عُرْوَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى النّبِىّ ÷، قَالَ: فَابْعَثُوا رَأْسَكُمْ عَبْدَ يَالَيْل. فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالَيْل بْنَ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ، وَكَانَ سِنّ عُرْوَةَ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَخَشِىَ إنْ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ مُسْلِمًا أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النّبِىّ ÷ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ، حَتّى يَبْعَثُوا مَعَهُ رِجَالاً، فَأَجْمَعُوا عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ الأَحْلافِ وَثَلاثَةٍ مِنْ بَنِى مَالِكٍ فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالَيْل الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ، وَهَؤُلاءِ الأَحْلافُ رَهْطُ عُرْوَةَ، وَبَعَثُوا فِى بَنِى مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِى الْعَاصِ، وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ، وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ، سِتّةٌ. وَيُقَالُ: إنّ الْوَفْدَ كَانَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فِيهِمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. قَالُوا: فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالَيْل وَهُوَ رَأْسُهُمْ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَكِنّهُ أَحَبّ إنْ رَجَعُوا أَنْ يُسَهّلَ كُلّ رَجُلٍ رَهْطَهُ فَلَمّا كَانُوا بِوَادِى قَنَاةَ مِمّا يَلِى دَارَ حُرُضٍ نَزَلُوا، فَيَجِدُونَ نَشَرًا مِنْ الإِبِلِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ سَأَلْنَا صَاحِبَ الإِبِلِ لِمَنْ الإِبِلُ وَخَبّرَنَا مِنْ خَبَرِ مُحَمّدٍ. فَبَعَثُوا عُثْمَانَ بْنَ أَبِى الْعَاصِ، فَإِذَا هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَرْعَى فِى نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَلَمّا رَآهُمْ سَلّمَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَهُمْ، وَخَرَجَ يَشْتَدّ، يُبَشّرُ النّبِىّ ÷ بِقُدُومِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَلْقَى أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَقَسَمْت بِاَللّهِ عَلَيْك لا تَسْبِقْنِى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِخَبَرِهِمْ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُخْبِرُهُ - وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ ذَكَرَهُمْ بِبَعْضِ الذّكْرِ - فَأُبَشّرُهُ بِمَقْدَمِهِمْ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ وَالْمُغِيرَةُ عَلَى الْبَابِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى الْمُغِيرَةِ فَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ عَلَى النّبِىّ ÷ وَهُوَ مَسْرُورٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ قَدِمَ قَوْمِى يُرِيدُونَ الدّخُولَ فِى الإِسْلامِ بِأَنْ تَشْرُطَ لَهُمْ شُرُوطًا، وَيَكْتُبُونَ كِتَابًا عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَبِلادِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا يَسْأَلُونَ شَرْطًا وَلا كِتَابًا أَعْطَيْته أَحَدًا مِنْ النّاسِ إلاّ أَعْطَيْتهمْ”، فَبَشّرْهُمْ فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ رَاجِعًا، فَخَبّرَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَبَشّرَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ ÷، فَكُلّ مَا أَمَرَهُمْ الْمُغِيرَةُ فَعَلُوا إلاّ التّحِيّةَ، فَإِنّهُمْ قَالُوا: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللّهِ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ الأَرْضَ لا يُنَجّسُهَا شَىْءٌ”. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُنْزِلُ قَوْمِى عَلَىّ وَأُكْرِمُهُمْ فَإِنّى حَدِيثُ الْجُرْمِ فِيهِمْ. فَقَالَ: “لا آمَنُك أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَك”، وَكَانَ جُرْمُ الْمُغِيرَةِ أَنّهُ خَرَجَ فِى ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى مَالِكٍ فَقَدِمُوا عَلَى الْمُقَوْقَسِ فَحَيّا بَنِى مَالِكٍ وَجَفَاهُ وَهُوَ مِنْ الأَحْلافِ، وَكَانَ مَعَهُ رَجُلانِ الشّرِيدُ وَدَمّونُ فَلَمّا كَانُوا بِسَبَاقٍ وَضَعُوا شَرَابًا لَهُمْ فَسَقَاهُمْ الْمُغِيرَةُ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يُخَفّفُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَنْزِعُ لِبَنِى مَالِكٍ حَتّى ثَمِلُوا وَنَامُوا، فَلَمّا نَامُوا وَثَبَ إلَيْهِمْ لِيَقْتُلَهُمْ فَشَرَدَ الشّرِيدُ مِنْهُمْ لَيْلَتَئِذٍ وَفَرِقَ دَمّونُ أَنْ يَكُونَ هَذَا سُكْرًا مِنْهُ فَتَغَيّبَ فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا دَمّونُ يَا دَمّونُ، فَلا دَمّونُ فَجَعَلَ يَبْكِى، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ فَطَلَعَ دَمّونُ، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ: تَغَيّبْت حِينَ رَأَيْتُك صَنَعْت بِبَنِى مَالِكٍ مَا صَنَعْت، فَخَشِيت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَهَابَ عَقْلٍ، قَالَ: إنّمَا صَنَعْت ذَلِكَ بِهِمْ لَمّا حَيّاهُمْ الْمُقَوْقَسُ وَجَفَانِى، ثُمّ أَقْبَلَ بِأَمْوَالِهِمْ حَتّى أَتَى بِهَا النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ اُخْمُسْ هَذِهِ الأَمْوَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَسْنَا نَغْدِرُ وَلا يَنْبَغِى لَنَا الْغَدْرُ”، فَأَبَى أَنْ يَخْمُسَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَنْزَلَ الْمُغِيرَةُ ثَقِيفًا فِى دَارِهِ بِالْبَقِيعِ، وَهِىَ خُطّةٌ خَطّهَا النّبِىّ ÷ لَهُ، فَأَمَرَ النّبِىّ ÷ بِخَيْمَاتٍ ثَلاثٍ مِنْ جَرِيدٍ فَضُرِبَتْ فِى الْمَسْجِدِ، فَكَانُوا يَسْمَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِاللّيْلِ وَتَهَجّدَ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷، وَيَنْظُرُونَ إلَى الصّفُوفِ فِى الصّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَرْجِعُونَ إلَى مَنْزِلِ الْمُغِيرَةِ فَيُطْعَمُونَ وَيَتَوَضّئُونَ وَيَكُونُونَ فِيهِ مَا أَرَادُوا، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُجْرِى لَهُمْ الضّيَافَةَ فِى دَارِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ خُطْبَةَ النّبِىّ ÷ فَلا يَسْمَعُونَهُ يَذْكُرُ نَفْسَهُ، فَقَالُوا: أَمَرَنَا بِالتّشَهّدِ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ، وَلا يَشْهَدُ بِهِ فِى خُطْبَتِهِ، فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَوْلُهُمْ، قَالَ: “أَنَا أَوّلُ مَنْ شَهِدَ أَنّى رَسُولُ اللّهِ”، ثُمّ قَامَ فَخَطَبَ وَشَهِدَ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فِى خُطْبَتِهِ، فَمَكَثُوا عَلَى هَذَا أَيّامًا يَغْدُونَ عَلَى النّبِىّ ÷ كُلّ يَوْمٍ يُخَلّفُونَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِى الْعَاصِ عَلَى رِحَالِهِمْ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ فَكَانَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ وَنَامُوا بِالْهَاجِرَةِ خَرَجَ فَعَمَدَ إلَى النّبِىّ ÷ فَسَأَلَهُ عَنْ الدّينِ وَاسْتَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ، وَأَسْلَمَ سِرّا مِنْ أَصْحَابِهِ فَاخْتَلَفَ إلَى النّبِىّ ÷ مِرَارًا حَتّى فَقِهَ وَسَمِعَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ سُوَرًا مِنْ فِى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَإِذَا وَجَدَ رَسُولَ اللّهِ ÷ نَائِمًا عَمَدَ إلَى أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ وَاسْتَقْرَأَهُ - وَيُقَالُ: إذَا وَجَدَ النّبِىّ ÷ نَائِمًا جَاءَ إلَى أُبَىّ بْنِ كَعْبٍ فَاسْتَقْرَأَهُ - فَبَايَعَ النّبِىّ ÷ عَلَى الإِسْلامِ قَبْلَ الْوَفْدِ، وَقَبْلَ الْقَضِيّةِ، وَكَتَمَ ذَلِكَ عُثْمَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأُعْجِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِهِ وَأَحَبّهُ. فَمَكَثَ الْوَفْدُ أَيّامًا يَخْتَلِفُونَ إلَى النّبِىّ ÷ وَالنّبِىّ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ يَالَيْل: هَلْ أَنْتَ مُقَاضِينَا حَتّى نَرْجِعَ إلَى أَهْلِنَا وَقَوْمِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ إنْ أَنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِالإِسْلامِ قَاضَيْتُكُمْ، وَإِلاّ فَلا قَضِيّةَ، وَلا صُلْحَ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ”، قَالَ عَبْدُ يَالَيْل: أَرَأَيْت الزّنَا؟ فَإِنّا قَوْمٌ عُزّابٌ بِغَرْبٍ لا بُدّ لَنَا مِنْهُ وَلا يَصْبِرُ أَحَدُنَا عَلَى الْعُزْبَةِ، قَالَ: “هُوَ مِمّا حَرّمَ اللّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ”، يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: ×وَلا تَقْرَبُوا الزّنَا إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً% قَالَ: أَرَأَيْت الرّبَا؟ قَالَ: “الرّبَا حَرَامٌ”، قَالَ: فَإِنّ أَمْوَالَنَا كُلّهَا رِبًا، قَالَ: “لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ”، يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ% قَالَ: أَفَرَأَيْت الْخَمْرَ؟ فَإِنّهَا عَصِيرُ أَعْنَابِنَا، لا بُدّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ: “فَإِنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَهَا”، ثُمّ تَلا رَسُولُ اللّهِ ÷ هَذِهِ الآيَةَ: ×إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ% الآيَةَ، قَالَ: فَارْتَفَعَ الْقَوْمُ وَخَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَقَالَ عَبْدُ يَالَيْل: وَيْحَكُمْ نَرْجِعُ إلَى قَوْمِنَا بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثّلاثِ، وَاَللّهِ لا تَصْبِرُ ثَقِيفٌ عَنْ الْخَمْرِ أَبَدًا، وَلا عَنْ الزّنَا أَبَدًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ: أَيّهَا الرّجُلُ إنْ يُرِدْ اللّهُ بِهَا خَيْرًا تَصْبِرْ عَنْهَا قَدْ كَانَ هَؤُلاءِ الّذِينَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، فَصَبَرُوا وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنّا نَخَافُ هَذَا الرّجُلَ قَدْ أَوْطَأَ الأَرْضَ غَلَبَةً، وَنَحْنُ فِى حِصْنٍ فِى نَاحِيَةٍ مِنْ الأَرْضِ، وَالإِسْلامُ حَوْلَنَا فَاشٍ، وَاَللّهِ لَوْ قَامَ عَلَى حِصْنِنَا شَهْرًا لَمُتْنَا جُوعًا؛ وَمَا أَرَى إلاّ الإِسْلامَ وَأَنَا أَخَافُ يَوْمًا مِثْلَ يَوْمِ مَكّةَ. وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، هُوَ الّذِى يَمْشِى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى كَتَبُوا الْكِتَابَ كَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِى كَتَبَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ بِالطّعَامِ فَلا يَأْكُلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى أَسْلَمُوا. قَالُوا: أَرَأَيْت الرّبّةَ مَا تَرَى فِيهَا؟ قَالَ: “هَدْمَهَا”، قَالُوا: هَيْهَاتَ لَوْ تَعْلَمُ الرّبّةُ أَنّا أَوْضَعْنَا فِى هَدْمِهَا قَتَلَتْ أَهْلَنَا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: وَيْحَك يَا عَبْدَ يَالَيْل إنّ الرّبّةَ حَجَرٌ لا يَدْرِى مَنْ عَبَدَهُ مِمّنْ لا يَعْبُدُهُ، قَالَ عَبْدُ يَالَيْل: إنّا لَمْ نَأْتِك يَا عُمَرُ فَأَسْلَمُوا، وَكَمُلَ الصّلْحُ وَكَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمّا كَمُلَ الصّلْحُ كَلّمُوا النّبِىّ ÷ يَدَعُ الرّبّةَ ثَلاثَ سِنِينَ لا يَهْدِمُهَا، فَأَبَى، قَالُوا: سَنَتَيْنِ فَأَبَى، قَالُوا: سَنَةً فَأَبَى، قَالُوا: شَهْرًا وَاحِدًا فَأَبَى أَنْ يُوَقّتَ لَهُمْ وَقْتًا، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِتَرْكِ الرّبّةِ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَكَرِهُوا أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا، فَسَأَلُوا النّبِىّ ÷ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ هَدْمِهَا، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ، أَنَا أَبْعَثُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَهْدِمَانِهَا”. وَاسْتَعْفَوْا رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنْ يَكْسِرُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالَ: “أَنَا آمُرُ أَصْحَابِى أَنْ يَكْسِرُوهَا”. وَسَأَلُوا النّبِىّ ÷ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا خَيْرَ فِى دِينٍ لا صَلاةَ فِيه”، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ أَمّا الصّلاةُ فَسَنُصَلّى، وَأَمّا الصّيَامُ فَسَنَصُومُ. وَتَعَلّمُوا فَرَائِضَ الإِسْلامِ وَشَرَائِعَهُ. وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَصُومُوا مَا بَقِىَ مِنْ الشّهْرِ وَكَانَ بِلالٌ يَأْتِيهِمْ بِفِطْرِهِمْ. وَيُخَيّلُ إلَيْهِمْ أَنّ الشّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَيَقُولُونَ: مَا هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ إلاّ اسْتِبَارٌ لَنَا، يَنْظُرُ كَيْفَ إسْلامُنَا، فَيَقُولُونَ: يَا بِلالُ، مَا غَابَتْ الشّمْسُ بَعْدُ، فَيَقُولُ بِلالٌ: مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَفْطَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَكَانَ الْوَفْدُ يَحْفَظُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ تَعْجِيلِ فِطْرِهِ، وَكَانَ بِلالٌ يَأْتِيهِمْ بِسَحُورِهِمْ قَالَ: فَأَسْتُرُهُمْ مِنْ الْفَجْرِ فَلَمّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَمّرْ عَلَيْنَا رَجُلاً مِنّا يَؤُمّنَا، فَأَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِى الْعَاصِ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، لِمَا رَأَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الإِسْلامِ، قَالَ عُثْمَانُ: وَكَانَ آخِرَ عَهْدٍ عَهِدَهُ إلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْ اتّخِذْ مُؤَذّنًا لا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا، وَإِذَا أَمَمْت قَوْمًا فَاقْدُرْهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ، وَإِذَا صَلّيْت لِنَفْسِك فَأَنْتَ وَذَاكَ” . ثُمّ خَرَجَ الْوَفْدُ عَامِدِينَ إلَى الطّائِفِ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ عَبْدُ يَالَيْل: أَنَا أَعْلَمُ النّاسِ بِثَقِيفٍ فَاكْتُمُوهَا الْقَضِيّةَ - وَخَوّفُوهُمْ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَأَخْبِرُوهُمْ أَنّ مُحَمّدًا سَأَلَنَا أُمُورًا عَظّمْنَاهَا فَأَبَيْنَاهَا عَلَيْهِ. يَسْأَلُنَا تَحْرِيمَ الزّنَا وَالْخَمْرِ، وَأَنْ نُبْطِلَ أَمْوَالَنَا فِى الرّبَا، وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ، وَخَرَجَتْ ثَقِيفٌ حِينَ دَنَا الْوَفْدُ فَلَمّا رَآهُمْ الْوَفْدُ سَارُوا الْعَنَقَ وَقَطّرُوا الإِبِلَ، وَتَغَشّوْا بِثِيَابِهِمْ كَهَيْئَةِ الْقَوْمِ قَدْ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَلَمْ يَرْجِعُوا بِخَيْرٍ، فَلَمّا رَأَتْ ثَقِيفٌ مَا فِى وُجُوهِ الْقَوْمِ حَزِنُوا وَكَرَبُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا جَاءَ وَفْدُكُمْ بِخَيْرٍ، وَدَخَلَ الْوَفْدُ فَكَانَ أَوّلَ مَا بَدَءُوا بِهِ عَلَى اللاّتِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: حِينَ نَزَلَ الْوَفْدُ إلَيْهَا، وَكَانُوا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فَدَخَلَ الْقَوْمُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَنَظَرُوا فِيمَا خَرَجُوا يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَتْ ثَقِيفٌ: كَأَنّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا عَهْدٌ وَلا بِرُؤْيَتِهَا، ثُمّ رَجَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِهِ وَأَتَى رِجَالاً مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَسَأَلُوهُمْ مَاذَا رَجَعْتُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ الْوَفْدُ قَدْ اسْتَأْذَنُوا النّبِىّ ÷ أَنْ يَنَالُوا مِنْهُ فَرَخّصَ لَهُمْ، فَقَالُوا: جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ فَظّ غَلِيظٍ يَأْخُذُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ قَدْ ظَهَرَ بِالسّيْفِ، وَأَدَاخَ الْعَرَبَ، وَدَانَ لَهُ النّاسُ، وَرُعِبَتْ مِنْهُ بَنُو الأَصْفَرِ فِى حُصُونِهِمْ، وَالنّاسُ فِيهِ إمّا رَاغِبٌ فِى دِينِهِ، وَإِمّا خَائِفٌ مِنْ السّيْفِ فَعَرَضَ عَلَيْنَا أُمُورًا شَدِيدَةً أَعْظَمْنَاهَا، فَتَرَكْنَاهَا عَلَيْهِ حَرّمَ عَلَيْنَا الزّنَا، وَالْخَمْرَ وَالرّبَا، وَأَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ، فَقَالَتْ ثَقِيفٌ: لا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا، فَقَالَ الْوَفْدُ: لَعَمْرِى قَدْ كَرِهْنَا ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَاهُ وَرَأَيْنَا أَنْ لَمْ يُنْصِفْنَا، فَأَصْلِحُوا سِلاحَكُمْ وَرُمّوا حِصْنَكُمْ وَانْصِبُوا الْعَرّادَاتِ عَلَيْهِ وَالْمَنْجَنِيقَ وَأَدْخِلُوا طَعَامَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فِى حِصْنِكُمْ لا يُحَاصِرُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَاحْفِرُوا خَنْدَقًا مِنْ وَرَاءِ حِصْنِكُمْ، وَعَاجِلُوا ذَلِكَ فَإِنّ أَمْرَهُ قَدْ ظَلّ لا نَأْمَنُهُ. فَمَكَثُوا بِذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ يُرِيدُونَ الْقِتَالَ، ثُمّ أَدْخَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ قَدْ أَدَاخَ الْعَرَبَ كُلّهَا، فَارْجِعُوا إلَيْهِ فَأَعْطُوهُ مَا سَأَلَ وَصَالِحُوهُ وَاكْتُبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا وَيَبْعَثَ الْجُيُوشَ، فَلَمّا رَأَى الْوَفْدُ أَنْ قَدْ سَلّمُوا بِالْقَضِيّةِ، وَرُعِبُوا مِنْ النّبِىّ ÷ وَرَغِبُوا فِى الإِسْلامِ، وَاخْتَارُوا الأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ، قَالَ الْوَفْدُ: فَإِنّنَا قَدْ قَاضَيْنَاهُ وَأَعْطَانَا مَا أَحْبَبْنَاهُ وَشَرَطَ لَنَا مَا أَرَدْنَا، وَوَجَدْنَاهُ أَتْقَى النّاسِ، وَأَبَرّ النّاسِ، وَأَوْصَلَ النّاسِ، وَأَوْفَى النّاسِ، وَأَصْدَقَ النّاسِ، وَأَرْحَمَ النّاسِ، وَقَدْ تَرَكَنَا مِنْ هَدْمِ الرّبّةِ، وَأَبَيْنَا أَنْ نَهْدِمَهَا، وَقَالَ: “أَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا”، وَهُوَ يَبْعَثُ مَنْ يَهْدِمُهَا. قَالَ: يَقُولُ شَيْخٌ مِنْ ثَقِيفٍ: قَدْ بَقِىَ فِى قَلْبِهِ مِنْ الشّرْكِ بَعْدُ بَقِيّةٌ فَذَاكَ وَاَللّهِ مِصْدَاقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، إنْ قَدَرَ عَلَى هَدْمِهَا فَهُوَ مُحِقّ وَنَحْنُ مُبْطِلُونَ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ فَفِى النّفْسِ مِنْ هَذَا بَعْدُ شَىْءٌ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْعَاصِ: مَنّتْك نَفْسُك الْبَاطِلَ وَغَرّتْك الْغُرُورَ وَمَا الرّبّةُ؟ وَمَا تَدْرِى الرّبّةُ مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا؟ كَمَا كَانَتْ الْعُزّى مَا تَدْرِى مَنْ عَبَدَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا، جَاءَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَحْدَهُ فَهَدَمَهَا؛ وَكَذَلِك إِسَافُ وَنَائِلَةُ وَهُبَلُ وَمَنَاةُ خَرَجَ إلَيْهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَهَدَمَهَا؛ وَسُوَاعٌ خَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَهَدَمَهُ فَهَلْ امْتَنَعَ شَيْءٌ مِنْهُمْ؟ قال الثقفى: إن الربة لا تشبه شيئًا مما ذكرت. قال عثمان: سترى. وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً ثُمّ خَرَجُوا وَقَدْ تَحَكّمَ أَبُو مُلَيْحٍ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَهُمَا يُرِيدَانِ يَسِيرَانِ مَعَ أَبِى سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةِ إلَى هَدْمِ الرّبّةِ، فَقَالَ أَبُو مُلَيْحٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِى قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَقْضِيَهُ مِنْ حُلِىّ الرّبّةِ فَعَلْت، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “نَعَمْ”، فَقَالَ قَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَعَنْ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبِى، فَإِنّهُ قَدْ تَرَكَ دَيْنًا مِثْلَ دَيْنِ عُرْوَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ الأَسْوَدَ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ”، فَقَالَ قَارِبٌ: تَصِلُ بِهِ قَرَابَةً إنّمَا الدّيْنُ عَلَىّ وَأَنَا مَطْلُوبٌ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إذًا أَفْعَلُ”. فَقَضَى عَنْ عُرْوَةَ وَالأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ. وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ وَأَصْحَابُهُمَا لِهَدْمِ الرّبّةِ فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الطّائِفِ، قَالَ لأَبِى سُفْيَانَ: تَقَدّمْ فَادْخُلْ لأَمْرِ النّبِىّ ÷، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: بَلْ تَقَدّمْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك فَتَقَدّمَ الْمُغِيرَةُ وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ ذِى الْهَرْمِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ فِى بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً يَهْدِمُونَ الرّبّةَ، فَلَمّا نَزَلُوا بِالطّائِفِ نَزَلُوا عِشَاءً فَبَاتُوا، ثُمّ غَدَوْا عَلَى الرّبّةِ يَهْدِمُونَهَا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لأَصْحَابِهِ الّذِينَ قَدِمُوا مَعَهُ: لأُضْحِكَنّكُمْ الْيَوْمَ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَاسْتَوَى عَلَى رَأْسِ الرّبّةِ وَمَعَهُ الْمِعْوَلُ وَقَامَ وَقَامَ قَوْمُهُ بَنُو مُعَتّبٍ دُونَهُ مَعَهُمْ السّلاحُ مَخَافَةَ أَنْ يُصَابَ كَمَا فُعِلَ بِعَمّهِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَلاّ زَعَمْت تُقَدّمُنِى أَنْتَ إلَى الطّاغِيَةِ، تُرَانِى لَوْ قُمْت أَهْدِمُهَا كَانَتْ بَنُو مُعَتّبٍ تَقُومُ دُونِى؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: إنّ الْقَوْمَ قَدْ وَاضَعُوهُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَقْدَمَ فَأَحَبّوا الأَمْنَ عَلَى الْخَوْفِ، وَقَدْ خَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا يَبْكِينَ عَلَى الطّاغِيَةِ، وَالْعَبِيدُ وَالصّبْيَانُ وَالرّجَالُ مُنْكَشِفُونَ، وَالأَبْكَارُ خَرَجْنَ، فَلَمّا ضَرَبَ الْمُغِيرَةُ ضَرْبَةً بِالْمِعْوَلِ سَقَطَ مَغْشِيّا عَلَيْهِ يَرْتَكِضُ فَصَاحَ أَهْلُ الطّائِفِ صَيْحَةً وَاحِدَةً كَلاّ زَعَمْتُمْ أَنّ الرّبّةَ لا تَمْتَنِعُ بَلَى وَاَللّهِ لَتَمْتَنِعَنّ، وَأَقَامَ الْمُغِيرَةُ مَلِيّا وَهُوَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ، ثُمّ اسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا مِنْ حَىّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَعْقَلُ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَا مِنْ حَىّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَحْمَقُ مِنْكُمْ، وَيْحَكُمْ وَمَا اللاّتُ وَالْعُزّى، وَمَا الرّبّةُ؟ حَجَرٌ مِثْلُ هَذَا الْحَجَرِ، لا يَدْرِى مَنْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ، وَيْحَكُمْ أَتَسْمَعُ اللاّتُ أَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرّ؟ ثُمّ هَدَمَهَا وَهَدَمَ النّاسُ مَعَهُ فَجَعَلَ السّادِنُ يَقُولُ - وَكَانَتْ سَدَنَةَ اللاّتِ مِنْ ثَقِيفٍ بَنُو الْعِجْلانِ بْنِ عَتّابِ بْنِ مَالِكٍ. وَصَاحِبُهَا مِنْهُمْ عَتّابُ بْنُ مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ ثُمّ بَنُوهُ بَعْدَهُ - يَقُولُ: سَتَرَوْنَ إذَا انْتَهَى إلَى أَسَاسِهَا، يَغْضَبُ الأَسَاسُ غَضَبًا يَخْسِفُ بِهِمْ. فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ الْمُغِيرَةُ وَلِىَ حَفْرَ الأَسَاسِ حَتّى بَلَغَ نِصْفَ قَامَةٍ، وَانْتَهَى إلَى الْغَبْغَبِ خِزَانَتِهَا. وَانْتَزَعُوا حِلْيَتَهَا وَكُسْوَتَهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَمِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضّةٍ، قَالَ: تَقُولُ عَجُوزٌ مِنْهُمْ: أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ وَتَرَكُوا الْمِصَاعَ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِمّا وَجَدَ فِيهَا أَبَا مُلَيْحٍ وَقَارِبًا، وَنَاسًا، وَجَعَلَ فِى سَبِيلِ اللّهِ، وَفِى السّلاحِ مِنْهَا. ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ كَتَبَ لِثَقِيفٍ: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ النّبِىّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ لا يُعْضَدُ وَمَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ، فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبَلّغُ مُحَمّدًا، فَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِىّ مُحَمّدٍ ÷” وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ النّبِىّ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ. فَلا يَتَعَدّاهُ أَحَدٌ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ ÷. وَنَهَى النّبِىّ ÷ عَنْ قَطْعِ عِضَاهِ وَجّ وَعَنْ صَيْدِهِ وَكَانَ الرّجُلُ يُوجَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى حِمَى وَجّ سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقّاصٍ.

  • * *


بَعْثَةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ الْمُصَدّقِينَ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الزّهْرِىّ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالا: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْجِعِرّانَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بَقِيّةَ ذِى الْقَعْدَةِ، وَذِى الْحِجّةِ، فَلَمّا رَأَى هِلالَ الْمُحَرّمِ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ، فَبَعَثَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ إلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ بِصَدَقَتِهِمْ، وَيُقَالُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؛ وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الأَشْهَلِىّ إلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ؛ وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ فِى جُهَيْنَةَ؛ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى فَزَارَةَ، وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلابِىّ إلَى بَنِى كِلابٍ، وَبَعَثَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْكَعْبِىّ إلَى بَنِى كَعْبٍ، وَبَعَثَ ابْنَ اللّتْبِيّةِ الأَزْدِىّ إلَى بَنِى ذُبْيَانَ، وَبَعَثَ رَجُلاً مِنْ بَنِى سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. فَخَرَجَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى كَعْبٍ. وَيُقَالُ: إنّمَا سَعَى عَلَيْهِمْ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحّامُ الْعَدَوِىّ، فَجَاءَ وَقَدْ حَلّ بِنَوَاحِيهِمْ بَنُو جُهَيْمٍ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ جُنْدُبِ بْنِ الْعُتَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ فَهُمْ يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ عَلَى غَدِيرٍ لَهُمْ بِذَاتِ الأَشْطَاطِ، وَيُقَالُ: وَجَدَهُمْ عَلَى عُسْفَانَ. ثُمّ أَمَرَ بِجَمْعِ مَوَاشِى خُزَاعَةَ لِيَأْخُذَ مِنْهَا الصّدَقَةَ. قَالَ: فَحَشَرَتْ خُزَاعَةُ الصّدَقَةَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَاسْتَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَنُو تَمِيمٍ، وَقَالُوا: مَا هَذَا؟ تُؤْخَذُ أَمْوَالُكُمْ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتَجَيّشُوا، وَتَقَلّدُوا الْقِسِىّ وَشَهَرُوا السّيُوفَ فَقَالَ الْخُزَاعِيّونَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَدِينُ بِدِينِ الإِسْلامِ وَهَذَا مِنْ دِينِنَا. قَالَ التّمِيمِيّونَ: وَاَللّهِ لا يَصِلُ إلَى بَعِيرٍ مِنْهَا أَبَدًا، فَلَمّا رَآهُمْ الْمُصَدّقُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ مُوَلّيًا وَهُوَ يَخَافُهُمْ وَالإِسْلامُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَعُمّ الْعَرَبَ، قَدْ بَقِيَتْ بَقَايَا مِنْ الْعَرَبِ وَهُمْ يَخَافُونَ السّيْفَ لِمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِمَكّةَ وَحُنَيْنٍ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَمَرَ مُصَدّقِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ فَقَدِمَ الْمُصَدّقُ عَلَى النّبِىّ ÷ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنْت فِى ثَلاثَةِ نَفَرٍ فَوَثَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى التّمِيمِيّينَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَحَالّهِمْ وَقَالُوا: لَوْلا قَرَابَتُكُمْ مَا وَصَلْتُمْ إلَى بِلادِكُمْ لَيَدْخُلَنّ عَلَيْنَا بَلاءٌ مِنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ ÷ وَعَلَى أَنْفُسِكُمْ حَيْثُ تَعْرِضُونَ لِرُسُلِ رَسُولِ اللّهِ تَرُدّونَهُمْ عَنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِنَا، فَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلادِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ الّذِينَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا”؟ فَانْتَدَبَ أَوّلُ النّاسِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِىّ، فَقَالَ: أَنَا وَاَللّهِ لَهُمْ أَتْبَعُ آثَارَهُمْ وَلَوْ بَلَغُوا يَبْرِينَ حَتّى آتِيَك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ فَتَرَى فِيهِمْ رَأْيَك أَوْ يُسْلِمُوا، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهَا مُهَاجِرٌ وَاحِدٌ وَلا أَنْصَارِىّ، فَكَانَ يَسِيرُ بِاللّيْلِ، وَيَكْمُنُ لَهُمْ بِالنّهَارِ، خَرَجَ عَلَى رَكُوبَةٍ حَتّى انْتَهَى إلَى الْعَرْجِ، فَوَجَدَ خَبَرَهُمْ أَنّهُمْ قَدْ عَارَضُوا إلَى أَرْضِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ فِى أَثَرِهِمْ حَتّى وَجَدَهُمْ قَدْ عَدَلُوا مِنْ السّقْيَا يَؤُمّونَ أَرْضَ بَنِى سُلَيْمٍ فِى صَحْرَاءَ قَدْ حَلّوا وَسَرّحُوا مَوَاشِيَهُمْ وَالْبُيُوتُ خُلُوفٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إلاّ النّسَاءُ وَنُفَيْرٌ فَلَمّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلّوْا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، وَوَجَدُوا فِى الْمَحَلّةِ مِنْ النّسَاءِ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلاثِينَ صَبِيّا، فَحَمَلَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ بِهِمْ النّبِىّ ÷ فَحُبِسُوا فِى دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ

فَقَدِمَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ الْعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ، وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَرِيَاحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُجَاشِعٍ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَبْلَ الظّهْرِ فَلَمّا دَخَلُوا سَأَلُوا عَنْ سَبْيِهِمْ، فَأُخْبِرُوا بِهِمْ فَجَاءُوهُمْ فَبَكَى الذّرَارِىّ، وَالنّسَاءُ فَرَجَعُوا، حَتّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ ثَانِيَةً، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ، وَقَدْ أَذّنَ بِلالٌ بِالظّهْرِ بِالأَذَانِ الأَوّلِ، وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَعَجّلُوا خُرُوجَهُ فَنَادَوْا: يَا مُحَمّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا فَقَامَ إلَيْهِمْ بِلالٌ، فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَخْرُجُ الآنَ، فَاشْتَهَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَصْوَاتَهُمْ فَجَعَلُوا يَخْفِقُونَ بِأَيْدِيهِمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَأَقَامَ بِلالٌ الصّلاةَ، وَتَعَلّقُوا بِهِ يُكَلّمُونَهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَعَهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ بِلالٍ الصّلاةَ مَلِيّا، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَتَيْنَاك بِخَطِيبِنَا وَشَاعِرِنَا فَاسْمَعْ مِنّا، فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷، ثُمّ مَضَى فَصَلّى بِالنّاسِ الظّهْرَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، تَمّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِى صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَدِمُوا عَلَيْهِ، وَقَدّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ التّمِيمِىّ فَخَطَبَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا، وَاَلّذِى جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَأَعْطَانَا الأَمْوَالَ نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُمْ مَالاً وَأَكْثَرَهُمْ عَدَدًا، فَمَنْ مِثْلُنَا فِى النّاسِ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النّاسِ وَذَوِى فَضْلِهِمْ؟ فَمَنْ يُفَاخِرُ فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا وَلَوْ شِئْنَا لأَكْثَرْنَا مِنْ الْكَلامِ وَلَكِنّا نَسْتَحْيِى مِنْ الإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا اللّهُ، أَقُولُ قَوْلِى هَذَا لأَنْ يُؤْتَى بِقَوْلٍ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: “قُمْ فَأَجِبْ خَطِيبَهُمْ”، فَقَامَ ثَابِتٌ - وَمَا كَانَ دَرَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَمَا هَيّأَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَقُولُ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهَا أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْمُهُ، فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ إلاّ مِنْ فَضْلِهِ، ثُمّ كَانَ مِمّا قَدّرَ اللّهُ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى لَنَا مِنْ خَلْقِهِ رَسُولاً، أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ زِيّا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ فَدَعَا إلَى الإِيمَانِ فَآمَنَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِى رَحِمِهِ أَصْبَحُ النّاسِ وَجْهًا، وَأَفْضَلُ النّاسِ فِعَالاً، ثُمّ كُنّا أَوّلَ النّاسِ إجَابَةً حِينَ دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَرَسُولِهِ نُقَاتِلُ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مِنّا مَالُهُ وَدَمُهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ جَاهَدْنَاهُ فِى ذَلِكَ، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، أَقُولُ قَوْلِى هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّه لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، ثُمّ جَلَسَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا، فَأَذِنَ لَهُ فَأَقَامُوا الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ فَقَالَ:

نَحْنُ الْمُلُوكُ فَلا حَىّ يُقَارِبُنَا وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الأَحْيَاءِ كُلّهِمُ وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَا أَكَلُوا وَنَنْحَرُ الْكُــومَ عَبْطًا فِــى أَرُومَتِنَـا فِينَا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْخَيْرِ يُتّبَعُ مِنْ السّدِيفِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ لِلنّازِلِينَ إذَا مَـــا أُنْزِلُوا شَبِعُـوا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَجِبْهُمْ يَا حَسّانُ بْنَ ثَابِتٍ”، فَقَامَ فَقَالَ: إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمُ سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ لا يَرْقَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمُ وَلا يَضِنّونَ عَنْ جَارٍ بِفَضْلِهِمُ إنْ كَانَ فِى النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِى الْوَحْىِ عِفّتُهُمْ كَأَنّهُمْ فِى الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ لا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمُ إذَا نَصَبْنَا لِحَىّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا فَإِنّ فِى حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ أَهْدَى لَهُمْ مَدْحَهُ قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ وَأَنّهُـــمْ أَفْضَـــلُ الأَحْيَاءِ كُلّهِـــمُ قَدْ شَرّعُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ تَقْوَى الإِلَهِ وَبِالأَمْرِ الّذِى شَرَعُوا أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِى أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا إنّ الْخَلائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ عِنْدَ الدّفَاعِ وَلا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا وَلا يَنَالُهُمُ فِى مَطْمَعٍ طَبَعُ فَكُلّ سَبْقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ إذَا تَفَرّقَتْ الأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ لا يَطْمَعُونَ وَلا يُرْدِيهِمُ طَمَعُ أُسْدٌ بِبِيشَةَ فِى أَرْسَاغِهَا فَدَعُ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلا خُورٌ وَلا جُزُعُ كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرَعُ إذَا الزّعَانِفُ مِنْ أَطْرَافِهَا خَشَعُوا وَلا يَكُنْ هَمّك الأَمْرَ الّذِى مَنَعُوا سُمّا غَرِيضًا عَلَيْهِ الصّابُ وَالسّلَعُ فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ فِى الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ حَسّانُ، وَقَالَ: “إنّ اللّهَ لَيُؤَيّدُ حَسّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا دَافَعَ عَنْ نَبِيّهِ”، وَسُرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ وَالْمُسْلِمُونَ بِمَقَامِ ثَابِتٍ وَشِعْرِ حَسّانَ. وَخَلا الْوَفْدُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ قَائِلٌ: تَعْلَمُنّ وَاَللّهِ أَنّ هَذَا الرّجُلَ مُؤَيّدٌ مَصْنُوعٌ لَهُ، وَاَللّهِ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَهُمْ أَحْلَمُ مِنّا، وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَجْهَرِ النّاسِ صَوْتًا. وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ فِى رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ - التّمِيمِيّينَ - وَيُذْكَرُ أَنّهُمْ نَادَوْا النّبِىّ ÷ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، فَقَالَ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ% إلَى قَوْلِهِ: ×أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ% يَعْنِى تَمِيمًا حِينَ نَادَوْا النّبِىّ ÷. وَكَانَ ثَابِتٌ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَ النّبِىّ ÷ فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ السّبْىَ وَالأَسْرَى، وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ يَوْمَئِذٍ يَهْجُو قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، كَانَا جَمِيعًا فِى الْوَفْدِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ. وَكَانَ يُجِيزُ الْوَفْدَ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ وَيُفَضّلُ بَيْنَهُمْ فِى الْعَطِيّةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، فَلَمّا أَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: “هَلْ بَقِىَ مِنْكُمْ مَنْ لَمْ نُجِزْهُ”؟ قَالُوا: غُلامٌ فِى الرّحْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَرْسِلُوهُ نُجِزْهُ”، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ: إنّهُ غُلامٌ لا شَرَفَ لَهُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَإِنْ كَانَ فَإِنّهُ وَافِدٌ وَلَهُ حَقّ”، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ شِعْرًا يُرِيدُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ: ظَلِلْت مُفْتَرِشًا هَلْبَاك تَشْتُمُنِى إنّا وَسُؤْدَدُنَا عَوْدٌ وَسُؤْدَدُكُمْ إنْ تُبْغِضُونَا فَإِنّ الــرّومَ أَصْلُكُــــمُ عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبِ مُخَلّفٌ بِمَكَانِ الْعَجْبِ وَالذّنَبِ وَالرّومُ لا تَمْلِكُ الْبَغْضَـــاءَ لِلْعَرَبِ قَالَ: حَدّثَنِى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ شَيْخٍ أَخْبَرَهُ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِى النّجّارِ، قَالَتْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى الْوَفْدِ يَوْمَئِذٍ يَأْخُذُونَ جَوَائِزَهُمْ عِنْدَ بِلالٍ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّ. قَالَتْ: وَقَدْ رَأَيْت غُلامًا أَعْطَاهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ أَعْطَى خَمْسَ أَوَاقِىّ. قُلْت: وَمَا النّشّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيّةٍ.

  • * *


بَعْثَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ إلَى بَنِى الْمُصْطَلِقِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِى مُعَيْطٍ إلَى صَدَقَاتِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَاتِهِمْ. فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَسَمِعُوا بِهِ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ خَرَجَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلاً يَتَلَقّوْنَهُ بِالْجُزُرِ وَالنّعَمِ فَرَحًا بِهِ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا يُصَدّقُ بَعِيرًا قَطّ وَلا شَاةً، فَلَمّا رَآهُمْ وَلّى رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمْ فَأَخْبَرَ النّبِىّ ÷ أَنّهُ لَمّا دَنَا مِنْهُمْ لَقُوهُ مَعَهُمْ السّلاحُ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّدَقَةِ، فَهَمّ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَغْزُوهُمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَوْمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ الرّكْبُ الّذِينَ لَقُوا الْوَلِيدَ، فَأَخْبَرُوا النّبِىّ ÷ الْخَبَرَ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ سَلْهُ هَلْ نَاطَقَنَا أَوْ كَلّمَنَا؟ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ نُكَلّمُهُ وَنَعْتَذِرُ، فَأَخَذَهُ الْبُرَحَاءُ فَسُرّىَ عَنْهُ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا% الآيَةَ. فَقَرَأَ النّبِىّ ÷ الْقُرْآنَ، وَأَخْبَرَنَا بِعُذْرِنَا وَمَا نَزَلَ فِى صَاحِبِنَا، ثُمّ قَالَ: “مَنْ تُحِبّونَ أَبْعَثُ إلَيْكُمْ”؟ قَالُوا: تَبْعَثُ عَلَيْنَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَقَالَ: “يَا عَبّادُ سِرْ مَعَهُمْ فَخُذْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ وَتَوَقّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ”. قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ عَبّادٍ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُنَا شَرَائِعَ الإِسْلامِ حَتّى أَنَزَلْنَاهُ فِى وَسَطِ بُيُوتِنَا، فَلَمْ يُضَيّعْ حَقّا، وَلَمْ يَعْدُ بِنَا الْحَقّ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَأَقَامَ عِنْدَنَا عَشْرًا، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ رَاضِيًا.

  • * *


بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إلَى خَثْعَمَ فِى صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النّبِىّ ÷ بَعَثَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ فِى عِشْرِينَ رَجُلاً إلَى حَىّ خَثْعَمَ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ، وَيَكْمُنَ النّهَارَ وَأَنْ يُغِذّ السّيْرَ فَخَرَجُوا فِى عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ يَعْتَقِبُونَ عَلَيْهَا، قَدْ غَيّبُوا السّلاحَ فَأَخَذُوا عَلَى الْفَتْقِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَطْنِ مَسْحَاءَ فَأَخَذُوا رَجُلاً فَسَأَلُوهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرِ. وَخَبَرُ هَذِهِ السّرِيّةِ دَاخِلٌ فِى سَرِيّةِ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ.

  • * *








سَرِيّةُ بَنِى كِلابٍ أَمِيرُهَا الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلابِىّ قَالَ: حَدّثَنِى رَشِيدٌ أَبُو مَوْهُوبٍ الْكِلابِىّ، عَنْ حَيّانَ بْنِ أَبِى سُلْمَى، وَعَنْبَسَةَ بْنِ سُلْمَى، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ جَيْشًا إلَى الْقُرَطَاءِ فِيهِمْ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الْكِلابِىّ، وَالأَصْيَدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ قُرْطِ بْنِ عَبْدٍ، حَتّى لَقُوهُمْ بِالزّجّ، زَجّ لاوَةَ، فَدَعَوْهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَأَبَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ فَلَحِقَ الأَصْيَدُ أَبَاهُ سَلَمَةَ بْنَ قُرْطٍ، وَسَلَمَةُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ عَلَى غَدِيرِ زَجّ، فَدَعَا أَبَاهُ إلَى الإِسْلامِ وَأَعْطَاهُ الأَمَانَ فَسَبّهُ وَسَبّ دِينَهُ، فَضَرَبَ الأَصْيَدُ عُرْقُوبَىْ فَرَسِهِ فَلَمّا وَقَعَ عَلَى عُرْقُوبَيْهِ، ارْتَكَزَ سَلَمَةُ عَلَى رُمْحِهِ فِى الْمَاءِ، ثُمّ اسْتَمْسَكَ بِهِ حَتّى جَاءَهُ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ ابْنُهُ. وَهَذِهِ السّرِيّةُ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ. قَالَ: حَدّثَنِى رَشِيدٌ أَبُو مَوْهُوبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِى سُلْمَى، وَعَنْبَسَةَ بْنِ أَبِى سُلْمَى قَالا: كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُرَيْطٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَأَخَذُوا صَحِيفَتَهُ فَغَسَلُوهَا وَرَقَعُوا بِهَا اسْتَ دَلْوِهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا. فَقَالَتْ أُمّ حَبِيبِ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُرَيْطِ بْنِ عَبْدِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ وَخَاصَمَتْهُمْ فِى بَيْتٍ لَهَا فَقَالَتْ: أَيَا ابْنَ سَعِيدٍ لا تَكُونَنّ ضُحْكَةً أَيَا ابْنَ سَعِيدٍ إنّمَا الْقَوْمُ مَعْشَرٌ إذَا مَا أَتَتْهُـــمْ آيَةٌ مِـــنْ مُحَمّـــدٍ وَإِيّاكَ وَاسْتَمْرِرْ لَهُمْ بِمَرِيرِ عَصَوْا مُنْذُ قَامَ الدّينُ كُلّ أَمِيرِ مَحَوْهَـــا بِمَاءِ الْبِئْرِ فَهْــىَ عَصِيـرِ قَالُوا: فَلَمّا فَعَلُوا بِالْكِتَابِ مَا فَعَلُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا لَهُمْ؟ أَذَهَبَ اللّهُ بِعُقُولِهِمْ؟ فَهُمْ أَهْلُ رِعْدَةٍ، وَعَجَلَةٍ وَكَلامٍ مُخْتَلِطٍ، وَأَهْلُ سَفَهٍ”، وَكَانَ الّذِى جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ رَجُلٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَوْسَجَةَ، لِمُسْتَهَلّ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ، قَالَ الْوَاقِدِىّ: رَأَيْت بَعْضَهُمْ عَيِيّا لا يُبِينُ الْكَلامَ.

  • * *


شَأْنُ سَرِيّةٍ أَمِيرُهَا عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِىّ فِى رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ: حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالا: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَنّ نَاسًا مِنْ الْحَبَشَةِ تَرَايَاهُمْ أَهْلُ الشّعَيْبَةِ - سَاحِلٌ بِنَاحِيَةِ مَكّةَ - فِى مَرَاكِبَ فَبَلَغَ النّبِىّ ÷ فَبَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِىّ فِى ثَلاثِمِائَةِ رَجُلٍ حَتّى انْتَهَى إلَى جَزِيرَةٍ فِى الْبَحْرِ فَخَاضَ إلَيْهِمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ ثُمّ انْصَرَفَ، فَلَمّا كَانَ بِبَعْضِ الْمَنَازِلِ اسْتَأْذَنَهُ بَعْضُ الْجَيْشِ فِى الانْصِرَافِ حَيْثُ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ ابْنَ حُذَافَةَ السّهْمِىّ - وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ - فَنَزَلْنَا بِبَعْضِ الطّرِيقِ وَأَوْقَدَ الْقَوْمُ نَارًا يَصْطَلُونَ عَلَيْهَا، وَيَصْطَنِعُونَ الطّعَامَ، فَقَالَ: عَزَمْت عَلَيْكُمْ أَلاّ تَوَاثَبْتُمْ فِى هَذِهِ النّارِ، فَقَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَتَحَاجَزُوا حَتّى ظَنّ أَنّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا، فَقَالَ: اجْلِسُوا، إنّمَا كُنْت أَضْحَكُ مَعَكُمْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ: “مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلا تُطِيعُوهُ”.

  • * *


سَرِيّةُ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى الْفَلْسِ فِى رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْم ٍ يَقُولُ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَنّاحٍ وَهُمَا جَالِسَانِ بِالْبَقِيعِ: تَعْرِفُ سَرِيّةَ الْفَلْسِ؟ قَالَ مُوسَى: مَا سَمِعْت بِهَذِهِ السّرِيّةِ. قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ حَزْمٍ، ثُمّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ فَرَسًا؛ وَلَيْسَ فِى السّرِيّةِ إلاّ أَنْصَارِىّ، فِيهَا وُجُوهُ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَاجْتَنَبُوا الْخَيْلَ وَاعْتَقَبُوا عَلَى الإِبِلِ حَتّى أَغَارُوا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ. وَسَأَلَ عَنْ مَحَلّةِ آلِ حَاتِمٍ، ثُمّ نَزَلَ عَلَيْهَا، فَشَنّوا الْغَارَةَ مَعَ الْفَجْرِ. فَسَبَوْا حَتّى مَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ مِنْ السّبْىِ وَالنّعَمِ وَالشّاءِ، وَهَدَمُوا الْفَلْسَ وَخَرّبُوهُ، وَكَانَ صَنَمًا لِطَيّئٍ ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَذَكَرْت هَذِهِ السّرِيّةَ لِمُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِىّ، فَقَالَ: مَا أَرَى ابْنَ حَزْمٍ زَادَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ مِنْ هَذِهِ السّرِيّةِ وَلَمْ يَأْتِك بِهَا. قُلْت: فَأْتِ بِهَا أَنْتَ، فَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِىّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى الْفَلْسِ لِيَهْدِمَهُ فِى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الأَنْصَارِ، لَيْسَ فِيهَا مُهَاجِرٌ وَاحِدٌ وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ فَرَسًا وَظَهْرًا، فَامْتَطَوْا الإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَاتِ فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ مَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ وَلِوَاءٌ أَبْيَضُ مَعَهُمْ الْقَنَا وَالسّلاحُ الظّاهِرُ وَقَدْ دَفَعَ رَايَتَهُ إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَلِوَاءَهُ إلَى جَبّارِ بْنِ صَخْرٍ السّلَمِىّ وَخَرَجَ بِدَلِيلٍ مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثٌ، فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقِ فَيْدٍ، فَلَمّا انْتَهَى بِهِمْ إلَى مَوْضِعٍ، قَالَ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَىّ الّذِى تُرِيدُونَ يَوْمٌ تَامّ، وَإِنْ سِرْنَاهُ بِالنّهَارِ وَطِئْنَا أَطْرَافَهُمْ وَرِعَاءَهُمْ. فَأَنْذِرُوا الْحَىّ فَتَفَرّقُوا، فَلَمْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ حَاجَتَكُمْ وَلَكِنْ نُقِيمُ يَوْمَنَا هَذَا فِى مَوْضِعِنَا حَتّى نُمْسِىَ، ثُمّ نَسْرِى لَيْلَتَنَا عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَنَجْعَلُهَا غَارَةً حَتّى نُصَبّحَهُمْ فِى عَمَايَةِ الصّبْحِ، قَالُوا: هَذَا الرّأْىُ فَعَسْكَرُوا وَسَرّحُوا الإِبِلَ، وَاصْطَنَعُوا، وَبَعَثُوا نَفَرًا مِنْهُمْ يَتَقَصّوْنَ مَا حَوْلَهُمْ، فَبَعَثُوا أَبَا قَتَادَةَ، وَالْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَأَبَا نَائِلَةَ فَخَرَجُوا عَلَى مُتُونِ خَيْلٍ لَهُمْ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ فَأَصَابُوا غُلامًا أَسْوَدَ، فَقَالُوا: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَطْلُبُ بُغْيَتِى، فَأَتَوْا بِهِ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ، فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: بَاغٍ، قَالَ: فَشُدّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا غُلامٌ لِرَجُلٍ مِنْ طَيّئٍ مِنْ بَنِى نَبْهَانَ أَمَرُونِى بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالُوا: إنْ رَأَيْت خَيْلَ مُحَمّدٍ فَطِرْ إلَيْنَا فَأَخْبِرْنَا، وَأَنَا لا أُدْرِكُ أَسْرًا، فَلَمّا رَأَيْتُكُمْ أَرَدْت الذّهَابَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قُلْت: لا أَعْجَلُ حَتّى آتِىَ أَصْحَابِى بِخَبَرٍ بَيّنٍ مِنْ عَدَدِكُمْ وَعَدَدِ خَيْلِكُمْ وَرِكَابِكُمْ وَلا أَخْشَى مَا أَصَابَنِى، فَلَكَأَنّى كُنْت مُقَيّدًا حَتّى أَخَذَتْنِى طَلائِعُكُمْ، قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: اُصْدُقْنَا مَا وَرَاءَك، قَالَ: أَوَائِلُ الْحَىّ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ طَرّادَةٍ تُصَبّحُهُمْ الْخَيْلَ وَمَغَارُهَا حِينَ غَدَوْا، قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ لأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالَ جَبّارُ ابْنُ صَخْرٍ: نَرَى أَنْ نَنْطَلِقَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ لَيْلَتَنَا حَتّى نُصَبّحَ الْقَوْمَ وَهُمْ غَارّونَ فَنُغِيرَ عَلَيْهِمْ وَنَخْرُجَ بِالْعَبْدِ الأَسْوَدِ لَيْلاً، وَنُخَلّفَ حُرَيْثًا مَعَ الْعَسْكَرِ حَتّى يَلْحَقُوا إنْ شَاءَ اللّهُ. قَالَ عَلِىّ: هَذَا الرّأْىُ فَخَرَجُوا بِالْعَبْدِ الأَسْوَدِ وَالْخَيْلُ تَعَادَا، وَهُوَ رِدْفُ بَعْضِهِمْ عُقْبَةً ثُمّ يَنْزِلُ فَيُرْدِفُ آخَرَ عُقْبَةً وَهُوَ مَكْتُوفٌ فَلَمّا انْهَارَ اللّيْلُ كَذَبَ الْعَبْدُ، وَقَالَ: قَدْ أَخْطَأْت الطّرِيقَ وَتَرَكْتهَا وَرَائِى، قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: فَارْجِعْ إلَى حَيْثُ أَخْطَأْت فَرَجَعَ مِيلاً أَوْ أَكْثَرَ، ثُمّ قَالَ: أَنَا عَلَى خَطَأٍ، فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: إنّا مِنْك عَلَى خُدْعَةٍ مَا تُرِيدُ إلاّ أَنْ تُثْنِيَنَا عَنْ الْحَىّ قَدّمُوهُ لِتَصْدُقْنَا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك، قَالَ: فَقُدّمَ وَسُلّ السّيْفُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَمّا رَأَى الشّرّ، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ صَدَقْتُكُمْ أَيَنْفَعُنِى؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنّى صَنَعْت مَا رَأَيْتُمْ إنّهُ أَدْرَكَنِى مَا يُدْرِكُ النّاسَ مِنْ الْحَيَاءِ، فَقُلْت: أَقْبَلْت بِالْقَوْمِ أَدُلّهُمْ عَلَى الْحَىّ مِنْ غَيْرِ مِحْنَةٍ وَلا حَقّ فَآمَنُهُمْ، فَلَمّا رَأَيْت مِنْكُمْ مَا رَأَيْت وَخِفْت أَنْ تَقْتُلُونِى كَانَ لِى عُذْرٌ، فَأَنَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى الطّرِيقِ، قَالُوا: اُصْدُقْنَا، قَالَ: الْحَىّ مِنْكُمْ قَرِيبٌ. فَخَرَجَ مَعَهُمْ حَتّى انْتَهَى إلَى أَدْنَى الْحَىّ فَسَمِعُوا نُبَاحَ الْكِلابِ وَحَرَكَةَ النّعَمِ فِى الْمَرَاحِ وَالشّاءِ فَقَالَ: هَذِهِ الأَصْرَامُ وَهِىَ عَلَى فَرْسَخٍ، فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: فَأَيْنَ آلُ حَاتِمٍ؟ قَالَ: هُمْ مُتَوَسّطُو الأَصْرَامِ، قَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ أَفْزَعْنَا الْحَىّ تَصَايَحُوا وَأَفْزَعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَتَغَيّبَ عَنّا أَحْزَابُهُمْ فِى سَوَادِ اللّيْلِ، وَلَكِنْ نُمْهِلُ الْقَوْمَ حَتّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مُعْتَرِضًا فَقَدْ قَرُبَ طُلُوعُهُ فَنُغِيرُ فَإِنْ أَنْذَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا أَيْنَ يَأْخُذُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ خَيْلٌ يَهْرُبُونَ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، قَالُوا: الرّأْىُ مَا أَشَرْت بِهِ، قَالَ: فَلَمّا اعْتَرَضُوا الْفَجْرَ أَغَارُوا عَلَيْهَا فَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا وَأَسَرُوا مَنْ أَسَرُوا، وَاسْتَاقُوا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ وَجَمَعُوا النّعَمَ وَالشّاءَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ تَغَيّبَ فَمَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ، قَالَ: تَقُولُ جَارِيَةٌ مِنْ الْحَىّ تَرَى الْعَبْدَ الأَسْوَدَ - وَكَانَ اسْمُهُ أَسْلَمَ - وَهُوَ مُوثَقٌ: مَالَهُ هَبِلَ هَذَا عَمَلُ رَسُولِكُمْ أَسْلَمَ، لا سَلِمَ وَهُوَ جَلَبَهُمْ عَلَيْكُمْ وَدَلّهُمْ عَلَى عَوْرَتِكُمْ قَالَ: يَقُولُ الأَسْوَدُ: أَقْصِرِى يَا ابْنَةَ الأَكَارِمِ مَا دَلَلْتهمْ حَتّى قُدّمْت لِيُضْرَبَ عُنُقِى، قَالَ: فَعَسْكَرَ الْقَوْمُ وَعَزَلُوا الأَسْرَى وَهُمْ نَاحِيَةَ نُفَيْرٍ وَعَزَلُوا الذّرّيّةَ وَأَصَابُوا مِنْ آلِ حَاتِمٍ أُخْتَ عَدِىّ وَنُسَيّاتٍ مَعَهَا، فَعَزَلُوهُنّ عَلَى حِدَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمُ لِعَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: مَا تَنْتَظِرُ بِإِطْلاقِى؟ فَقَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ، قَالَ: أَنَا عَلَى دِينِ قَوْمِى هَؤُلاءِ الأَسْرَى، مَا صَنَعُوا صَنَعْت، قَالَ: أَلا تَرَاهُمْ مُوثَقِينَ فَنَجْعَلُك مَعَهُمْ فِى رِبَاطِك؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا مَعَ هَؤُلاءِ مُوثَقًا أَحَبّ إلَىّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، يُصِيبُنِى مَا أَصَابَهُمْ، فَضَحِكَ أَهْلُ السّرِيّةِ مِنْهُ فَأُوثِقَ وَطُرِحَ مَعَ الأَسْرَى، وَقَالَ: أَنَا مَعَهُمْ حَتّى تَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا أَنْتُمْ رَاءُونَ، فَقَائِلٌ: يَقُولُ لَهُ مِنْ الأَسْرَى: لا مَرْحَبًا بِك، أَنْتَ جِئْتنَا بِهِمْ، وَقَائِلٌ يَقُول: مَرْحَبًا بِك وَأَهْلاً، مَا كَانَ عَلَيْك أَكْثَرُ مِمّا صَنَعْت لَوْ أَصَابَنَا الّذِى أَصَابَك لَفَعَلْنَا الّذِى فَعَلْت وَأَشَدّ مِنْهُ، ثُمّ آسَيْت بِنَفْسِك وَجَاءَ الْعَسْكَرُ وَاجْتَمَعُوا، فَقَرّبُوا الأَسْرَى فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ الإِسْلامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ تُرِكَ وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، حَتّى أَتَوْا عَلَى الأَسْوَدِ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الإِسْلامَ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنّ الْجَزَعَ مِنْ السّيْفِ لَلُؤْمٌ وَمَا مِنْ خُلُودٍ، قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ الْحَىّ مِمّنْ أَسْلَمَ: يَا عَجَبًا مِنْك، أَلا كَانَ هَذَا حَيْثُ أُخِذْت فَلَمّا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ وَسُبِىَ مَنْ سُبِىَ مِنّا، وَأَسْلَمَ مِنّا مَنْ أَسْلَمَ رَاغِبًا فِى الإِسْلامِ، تَقُولُ مَا تَقُولُ وَيْحَك، أَسْلِمْ وَاتّبِعْ دِينَ مُحَمّدٍ، قَالَ: فَإِنّى أُسْلِمُ وَأَتّبِعُ دِينَ مُحَمّدٍ، فَأَسْلَمَ وَتُرِكَ وَكَانَ يَعِدُ فَلا يَفِى حَتّى كَانَتْ الرّدّةُ - فَشَهِدَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْيَمَامَةَ فَأُبْلِىَ بَلاءً حَسَنًا. قَالَ: وَسَارَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى الْفَلْسِ فَهَدَمَهُ وَخَرّبَهُ وَوَجَدَ فِى بَيْتِهِ ثَلاثَةَ أَسْيَافٍ: رُسُوبَ، وَالْمِخْذَمَ، وَسَيْفًا يُقَالُ لَهُ: الْيَمَانِىّ، وَثَلاثَةَ أَدْرَاعٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ يُلْبِسُونَهُ إيّاهَا، وَجَمَعُوا السّبْىَ فَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَاسْتُعْمِلَ عَبْدُ اللّهِ ابْنُ عَتِيكٍ السّلَمِىّ عَلَى الْمَاشِيَةِ وَالرّثّةِ ثُمّ سَارُوا حَتّى نَزَلُوا رَكَكَ فَاقْتَسَمُوا السّبْىَ وَالْغَنَائِمَ وَعَزَلَ النّبِىّ ÷ صَفِيّا رَسُوبًا وَالْمِخْذَمَ، ثُمّ صَارَ لَهُ بَعْدُ السّيْفُ الآخَرُ وَعَزَلَ الْخُمُسَ، وَعَزَلَ آلَ حَاتِمٍ، فَلَمْ يَقْسِمْهُمْ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَر الزّهْرِىّ، فَقَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ فِى السّبْىِ أُخْتُ عَدِىّ بْنِ حَاتِمٍ لَمْ تُقْسَمْ فَأُنْزِلَتْ دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. وَكَانَ عَدِىّ بْنُ حَاتِمٍ قَدْ هَرَبَ حِينَ سَمِعَ بِحَرَكَةِ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، وَكَانَ لَهُ عَيْنٌ بِالْمَدِينَةِ فَحَذّرَهُ فَخَرَجَ إلَى الشّامِ. وَكَانَتْ أُخْتُ عَدِىّ إذَا مَرّ النّبِىّ ÷ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنّ اللّهُ عَلَيْك كُلّ ذَلِكَ يَسْأَلُهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ مَنْ وَافِدُك؟ فَتَقُولُ: عَدِىّ بْنُ حَاتِمٍ، فَيَقُولُ: “الْفَارّ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ”؟ حَتّى يَئِسَتْ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الرّابِعِ مَرّ النّبِىّ ÷، فَلَمْ تَكَلّمْ فَأَشَارَ إلَيْهَا رَجُلٌ قُومِى فَكَلّمِيهِ فَكَلّمَتْهُ فَأَذِنَ لَهَا وَوَصَلَهَا، وَسَأَلَتْ عَنْ الرّجُلِ الّذِى أَشَارَ إلَيْهَا فَقِيلَ عَلِىّ، وَهُوَ الّذِى سَبَاكُمْ أَمَا تَعْرِفِينَهُ؟ فَقَالَتْ: لا وَاَللّهِ مَا زِلْت مُدْنِيَةً طَرَفَ ثَوْبِى عَلَى وَجْهِى وَطَرَفَ رِدَائِى عَلَى بُرْقُعِى مِنْ يَوْمِ أُسِرْت حَتّى دَخَلْت هَذِهِ الدّارَ وَلا رَأَيْت وَجْهَهُ وَلا وَجْهَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.

  • * *


غَزْوَةُ تَبُوكَ قُرِئَ عَلَى أَبِى الْقَاسِمِ بْنِ أَبِى حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَان بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزّهْرِىّ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، وَابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْجُمَحِىّ، وَعُمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَأَيّوبُ ابْنُ النّعْمَانِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِ تَبُوكَ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلاءِ قَدْ حَدّثَنِى مِمّنْ لَمْ أُسَمّ ثِقَاتٌ، وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا قَدْ حَدّثُونِى. قَالُوا: كَانَتْ السّاقِطَةُ - وَهُمْ الأَنْبَاطُ - يَقْدَمُونَ الْمَدِينَة بِالدّرْمَكِ وَالزّيْتِ فِى الْجَاهِلِيّةِ، وَبَعْدَ أَنْ دَخَلَ الإِسْلامُ، فَإِنّمَا كَانَتْ أَخْبَارُ الشّامِ عِنْد الْمُسْلِمِينَ كُلّ يَوْمٍ لِكَثْرَةِ مَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ الأَنْبَاطِ، فَقَدِمَتْ قَادِمَةٌ فَذَكَرُوا أَنّ الرّومَ قَدْ جَمَعَتْ جَمُوعًا كَثِيرَةً بِالشّامِ، وَأَنّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ، وَجُذَامُ، وَغَسّانُ، وَعَامِلَةُ، وَزَحَفُوا وَقَدّمُوا مُقَدّمَاتِهِمْ إلَى الْبَلْقَاءِ، وَعَسْكَرُوا بِهَا، وَتَخَلّفَ هِرَقْلُ بِحِمْصٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إنّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ قِيلَ لَهُمْ فَقَالُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَدُوّ أَخْوَفَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ لِمَا عَايَنُوا مِنْهُمْ - إذْ كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ تُجّارًا - مِنْ الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْكُرَاعِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لا يَغْزُو غَزْوَةً إلاّ وَرّى بِغَيْرِهَا، لِئَلاّ تَذْهَبَ الأَخْبَارُ بِأَنّهُ يُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، حَتّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى حَرّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَاسْتَقْبَلَ غُزّى وَعَدَدًا كَثِيرًا، فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِالْوَجْهِ الّذِى يُرِيدُ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْقَبَائِلِ، وَإِلَى مَكّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى غَزْوِهِمْ، فَبَعَثَ إلَى أَسْلَمَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْلُغَ الْفُرْعَ، وَبَعَثَ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِىّ إلَى قَوْمِهِ أَنْ يَطْلُبَهُمْ بِبِلادِهِمْ، وَخَرَجَ أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِىّ فِى قَوْمِهِ، وَخَرَجَ أَبُو الْجَعْدِ الضّمْرِىّ فِى قَوْمِهِ بِالسّاحِلِ، وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ، وَجُنْدُبَ بْنَ مَكِيثٍ فِى جُهَيْنَةَ؛ وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ فِى أَشْجَعَ، وَبَعَثَ فِى بَنِى كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ وَعَمْرَو ابْنَ سَالِمٍ وَبِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ؛ وَبَعَثَ فِى سُلَيْمٍ عِدّةً مِنْهُمْ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَحَضّ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ وَأَمَرَهُمْ بِالصّدَقَةِ، فَحَمَلُوا صَدَقَاتٍ كَثِيرَةً، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ حَمَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ جَاءَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَلْ أَبْقَيْت شَيْئًا”؟ قَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَجَاءَ عُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَلْ أَبْقَيْت شَيْئًا”؟ قَالَ: نَعَمْ نِصْفَ مَا جِئْت بِهِ، وَبَلَغَ عُمَرَ مَا جَاءَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا اسْتَبَقْنَا إلَى الْخَيْرِ إلاّ سَبَقَنِى إلَيْهِ. وَحَمَلَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَالاً، وَحَمَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ إلَى النّبِىّ ÷ مَالاً، وَحَمَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَيْهِ مَالاً، مِائَتَىْ أُوقِيّةٍ، وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إلَيْهِ مَالاً، وَحَمَلَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إلَيْهِ مَالاً، وَتَصَدّقَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىّ بِتِسْعِينَ وَسْقًا تَمْرًا، وَجَهّزَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ ثُلُثَ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ نَفَقَةً حَتّى كَفَى ذَلِكَ الْجَيْشَ مَئُونَتَهُمْ حَتّى إنْ كَانَ لَيُقَالُ: مَا بَقِيَتْ لَهُمْ حَاجَةٌ حَتّى كَفَاهُمْ شُنُقَ أَسْقِيَتِهِمْ، فَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ يَوْمَئِذٍ: “مَا يَضُرّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا”. وَرَغِبَ أَهْلُ الْغِنَى فِى الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَاحْتَسَبُوا فِى ذَلِكَ الْخَيْرَ، وَقَوّوْا أُنَاسٌ دُونَ هَؤُلاءِ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُمْ، حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْتِى بِالْبَعِيرِ إلَى الرّجُلِ وَالرّجُلَيْنِ فَيَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ بَيْنَكُمَا تَتَعَاقَبَانِهِ، وَيَأْتِى الرّجُلُ بِالنّفَقَةِ فَيُعْطِيهَا بَعْضَ مَنْ يَخْرُجُ حَتّى إنْ كُنّ النّسَاءُ لَيُعِنّ بِكُلّ مَا قَدَرْنَ عَلَيْهِ. قَالَتْ أُمّ سِنَانٍ الأَسْلَمِيّةُ: لَقَدْ رَأَيْت ثَوْبًا مَبْسُوطًا بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا فِيهِ مِسْكٌ وَمَعَاضِدُ وَخَلاخِلُ وَأَقْرِطَةٌ وَخَوَاتِيمُ وَخَدَمَاتٌ مِمّا يَبْعَثُ بِهِ النّسَاءُ، يُعِنّ بِهِ الْمُسْلِمِينَ فِى جَهَازِهِمْ، وَالنّاسُ فِى عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَأُحِبّتْ الظّلالُ فَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ الزّمَانِ الّذِى هُمْ عَلَيْهِ وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ بِالانْكِمَاشِ وَالْجِدّ، وَضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَسْكَرَهُ بِثَنِيّةِ الْوَدَاعِ، وَالنّاسُ كَثِيرٌ لا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ، قَدْ رَحَلَ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ إلاّ أَنّهُ ظَنّ أَنّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلْجَدّ بْنِ قَيْسٍ: “أَبَا وَهْبٍ هَلْ لَك الْعَامَ تَخْرُجُ مَعَنَا لَعَلّك تَحْتَقِبُ مِنْ بَنَاتِ الأَصْفَرِ”؟ فَقَالَ الْجَدّ: أوَ تَأْذَنُ لِى وَلا تَفْتِنّي؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِى مَا أَحَدٌ أَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّى، وَإِنّى لأَخْشَى إنْ رَأَيْت نِسَاءَ بَنِى الأَصْفَرِ لا أَصْبِرُ عَنْهُنّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “قَدْ أَذِنْت لَك” . فَجَاءَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْجَدّ - وَكَانَ بَدْرِيّا، وَهُوَ أَخُو مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لأُمّهِ - فَقَالَ لأَبِيهِ: لِمَ تَرُدّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَقَالَتَهُ؟ فَوَاَللّهِ مَا فِى بَنِى سَلِمَةَ أَكْثَرُ مَالاً مِنْك، وَلا تَخْرُجُ وَلا تَحْمِلُ أَحَدًا، قَالَ: يَا بُنَىّ مَا لِى وَلِلْخُرُوجِ فِى الرّيحِ وَالْحَرّ وَالْعُسْرَةِ إلَى بَنِى الأَصْفَرِ؟ وَاَللّهِ مَا آمَنُ خَوْفًا مِنْ بَنِى الأَصْفَرِ وَإِنّى فِى مَنْزِلِى بِخُرْبَى، فَأَذْهَبُ إلَيْهِمْ فَأَغْزُوهُمْ إنّى وَاَللّهِ يَا بُنَىّ عَالِمٌ بِالدّوَائِرِ فَأَغْلَظَ لَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ: لا وَاَللّهِ وَلَكِنّهُ النّفَاقُ، وَاَللّهِ لَيَنْزِلَنّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِيك قُرْآنٌ يَقْرَءُونَهُ، قَالَ: فَرَفَعَ نَعْلَهُ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَهُ، فَانْصَرَفَ ابْنُهُ وَلَمْ يُكَلّمْهُ. وَجَعَلَ الْخَبِيثُ يُثَبّطُ قَوْمَهُ، وَقَالَ لِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ: وَنَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ يَا بَنِى سَلِمَةَ لا تَنْفِرُوا فِى الْحَرّ. يَقُولُ: لا تَخْرُجُوا فِى الْحَرّ زَهَادَةً فِى الْجِهَادِ وَشَكّا فِى الْحَقّ وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ ÷. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ، ×وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِى الْحَرّ% إلَى قَوْلِهِ: ×جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ% وَفِيهِ نَزَلَتْ ×وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلا تَفْتِنّى% الآيَةَ، أَىْ كَأَنّهُ إنّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِى الأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ إنّمَا تَعَذّرَ بِالْبَاطِلِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْثَرُ بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَرَغْبَتِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ. يَقُول اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ% يَقُولُ: إنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَاءَ ابْنُهُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَك إنّهُ سَوْفَ يَنْزِلُ فِيك قُرْآنٌ يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: يَقُولُ أَبُوهُ: اُسْكُتْ عَنّى يَا لُكَعُ، وَاَللّهِ لا أَنْفَعُك بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، وَاَللّهِ لأَنْتَ أَشَدّ عَلَىّ مِنْ مُحَمّدٍ. قَالَ: وَجَاءَ الْبَكّاءُونَ - وَهُمْ سَبْعَةٌ - يَسْتَحْمِلُونَهُ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: ×لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ% الآيَةَ. وَهُمْ سَبْعَةٌ مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، لا اخْتِلافَ فِيهِ عِنْدَنَا؛ وَمِنْ بَنِى وَاقِفٍ هَرَمِىّ بْنُ عَمْرٍو؛ وَمِنْ بَنِى حَارِثَةَ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ الّذِى تَصَدّقَ بِعَرْضِهِ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَمَرَ بِالصّدَقَةِ فَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ بِهَا، فَجَاءَ عُلْبَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدِى مَا أَتَصَدّقُ بِهِ وَجَعَلْت عَرْضِى حِلاّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ قَبِلَ اللّهُ صَدَقَتَك”. وَمِنْ بَنِى مَازِنِ بْنِ النّجّارِ أَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَمِنْ بَنِى سَلِمَةَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، وَمِنْ بَنِى زُرَيْقٍ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَمِنْ بَنِى سُلَيْمٍ عِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السّلَمِىّ. وَهَؤُلاءِ أَثْبَتُ مَا سَمِعْنَا. وَيُقَالُ: عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُغَفّلٍ الْمُزَنِىّ، وَعَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِىّ، وَيُقَالُ: هُمْ بَنُو مُقَرّنٍ، مِنْ مُزَيْنَةَ. وَلَمّا خَرَجَ الْبَكّاءُونَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَقَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنّهُ لا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ ظَهْرًا، لَقِىَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ شِبْلِ النّضْرِىّ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِىّ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّل الْمُزَنِىّ، وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: وَمَا يَبْكِيكُمَا؟ قَالا: جِئْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُنْفِقُ بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ تَفُوتَنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلاهُ، وَزَوّدَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷. وَحَمَلَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ÷ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ، وَحَمَلَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ ثَلاثَةً بَعْدَ الّذِى كَانَ جَهّزَ مِنْ الْجَيْشِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا يَخْرُجْ مَعَنَا إلاّ مُقْوٍ”، فَخَرَجَ رَجُلٌ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ النّاسُ: الشّهِيدَ الشّهِيدَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُنَادِيًا يُنَادِى: “لا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إلاّ مُؤْمِنٌ - أَوْ إلاّ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ - وَلا يَدْخُلُ الْجَنّةَ عَاصٍ”. وَكَانَ الرّجُلُ طَرَحَهُ بَعِيرُهُ بِالسّوَيْدَاءِ. قَالُوا: وَجَاءَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللّهِ ÷ مِنْ غَيْرِ عِلّةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ. وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ. هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِى غِفَارٍ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ، اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلاً. وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَىّ بِعَسْكَرِهِ فَضَرَبَهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ بِحِذَاءِ ذُبَابٍ، مَعَهُ حُلَفَاؤُهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ مِمّنْ اجْتَمَعَ إلَيْهِ، فَكَانَ يُقَالُ: لَيْسَ عَسْكَرُ ابْنِ أُبَىّ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ. وَأَقَامَ مَا أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْعَسْكَرِ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يُصَلّى بِالنّاسِ، فَلَمّا اسْتَمَدّ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ السّفَرُ وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِىّ - وَيُقَالُ: مُحَمّدَ ابْنَ مَسْلَمَةَ - لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ غَزْوَةً غَيْرَ هَذِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اسْتَكْثِرُوا مِنْ النّعَالِ، فَإِنّ الرّجُلَ لا يَزَالُ رَاكِبًا مَا دَامَ مُنْتَعِلاً”، فَلَمّا سَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَخَلّفَ ابْنُ أُبَىّ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ: يَغْزُو مُحَمّدٌ بَنِى الأَصْفَرِ، مَعَ جَهْدِ الْحَالِ وَالْحَرّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ إلَى مَا لا قِبَلَ لَهُ بِهِ يَحْسِبُ مُحَمّدٌ أَنّ قِتَالَ بَنِى الأَصْفَرِ اللّعِبُ؟ وَنَافَقَ مَعَهُ مَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، ثُمّ قَالَ ابْنُ أُبَىّ: وَاَللّهِ لَكَأَنّى أَنْظُرُ إلَى أَصْحَابِهِ غَدًا مُقَرّنِينَ فِى الْحِبَالِ إرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمّا رَحَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى تَبُوكَ، وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ فَدَفَعَ لِوَاءَهُ الأَعْظَمَ إلَى أَبِى بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَرَايَتُهُ الْعُظْمَى إلَى الزّبَيْرِ، وَدَفَعَ رَايَةَ الأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى أَبِى دُجَانَةَ وَيُقَالُ: إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، قَالُوا: وَإِذَا عَبْدٌ لامْرَأَةٍ مِنْ بَنِى ضَمْرَةَ لَقِيَهُ عَلَى رَأْسِ ثَنِيّةِ النّورِ، وَالْعَبْدُ مُتَسَلّحٌ. قَالَ الْعَبْدُ. أُقَاتِلُ مَعَك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَمَا أَنْتَ”؟ قَالَ: مَمْلُوكٌ لامْرَأَةٍ مِنْ بَنِى ضَمْرَةَ سَيّئَةِ الْمَلَكَةِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ارْجِعْ إلَى سَيّدَتِك، لا تَقْتُلْ مَعِى فَتَدْخُلَ النّارَ”. قَالَ: حَدّثَنِى رِفَاعَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِى مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: جَلَسْت مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَذَكَرْنَا غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَذَكَرَ أَنّهُ حَمَلَ لِوَاءَ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ فِى تَبُوكَ فَقُلْت: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَمْ تَرَى كَانَ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: ثَلاثُونَ أَلْفًا، لَقَدْ كَانَ النّاسُ يَرْحَلُونَ عِنْدَ مَيْلِ الشّمْسِ فَمَا يَزَالُونَ يَرْحَلُونَ وَالسّاقَةُ مُقِيمُونَ حَتّى يَرْحَلَ الْعَسْكَرُ، فَسَأَلْت بَعْضَ مَنْ كَانَ بِالسّاقَةِ، فَقَالَ: مَا يَرْحَلُ آخِرُهُمْ إلاّ مَسَاءً تَمّ نَرْحَلُ عَلَى أَثَرِهِمْ فَمَا نَنْتَهِى إلَى الْعَسْكَرِ إلاّ مُصْبِحِينَ مِنْ كَثْرَةِ النّاسِ. قَالُوا: وَتَخَلّفَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمْ النّيّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى تَخَلّفُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكّ وَلا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: كَانَ مِنْ خَبَرِى حِينَ تَخَلّفْت عَنْ تَبُوكَ أَنّى لَمْ أَكُ قَطّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنّى حِينَ تَخَلّفْت عَنْهُ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاَللّهِ مَا اجْتَمَعَتْ لِى رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى اجْتَمَعَتَا فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَجَعَلْت أَعْدُو لأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعَ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً فَأَقُولُ فِى نَفْسِى: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ أَزَلْ يَتَمَادَى بِى حَتّى شَمّرَ بِالنّاسِ الْجِدّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ غَازِيًا وَالْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِى شَيْئًا، فَقُلْت: أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ. فَغَدَوْت بَعْدَ مَا فَصَلُوا أَتَجَهّزُ فَرَجَعْت وَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، ثُمّ غَدَوْت فَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، فَلَمْ أَزَلْ يَتَمَادَى بِى حَتّى أَسْرَعُوا، وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَقُلْت: أَرْتَحِلُ فَأُدْرِكُهُمْ وَيَا لَيْتَنِى فَعَلْت وَلَمْ أَفْعَلْ، وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِى النّاسِ فَطُفْت فِيهِمْ يُحْزِنُنِى أَلاّ أَرَى إلاّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِى النّفَاقُ، أَوْ رَجُلاً مِمّنْ عَذَرَ اللّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِى الْقَوْمِ: “مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ”؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِى عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ ابْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْت، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاّ خَيْرًا. وَالْقَائِلُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَيُقَالُ: الّذِى رَدّ عَلَيْهِ الْمَقَالَةَ أَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَثْبَتُهُمَا عِنْدَنَا. قَالَ هِلالُ بْنُ أُمَيّةَ الْوَاقِفِىّ، حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى تَبُوكَ: وَاَللّهِ مَا تَخَلّفْت شَكّا وَلا ارْتِيَابًا، وَلَكِنْ كُنْت مُقْوِيًا فِى الْمَالِ. قُلْت: أَشْتَرِى بَعِيرًا. وَلَقِيَنِى مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ، فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مُقْوٍ فَأَبْتَاعُ بَعِيرًا وَأَنْطَلِقُ بِهِ، فَقُلْت: هَذَا صَاحِبٌ أُرَافِقُهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ: نَغْدُو فَنَشْتَرِى بَعِيرَيْنِ فَنَلْحَقُ بِالنّبِىّ ÷ وَلا يَفُوتُ ذَلِكَ نَحْنُ قَوْمٌ مُخِفّونَ عَلَى صَدْرِ رَاحِلَتَيْنِ فَغَدًا نَسِيرُ، فَلَمْ نَزَلْ نَدْفَعُ ذَلِكَ وَنُؤَخّرُ الأَيّامَ حَتّى شَارَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْبِلادَ، فَقُلْت: مَا هَذَا بِحِينِ خُرُوجٍ، وَجَعَلْت لا أَرَى فِى الدّارِ وَلا فِى غَيْرِهَا إلاّ مَعْذُورًا، أَوْ مُنَافِقًا مُعْلِنًا، فَأَرْجِعُ مُغْتَمّا بِمَا أَنَا فِيهِ، وَكَانَ أَبُو خَيْثَمَةَ قَدْ تَخَلّفَ مَعَنَا، وَكَانَ لا يُتّهَمُ فِى إسْلامِهِ وَلا يُغْمَضُ عَلَيْهِ فَعَزَمَ لَهُ عَلَى مَا عَزَمَ، وَكَانَ أَبُو خَيْثَمَةَ يُسَمّى عَبْدَ اللّهِ بْنَ خَيْثَمَةَ السّالِمِىّ فَرَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَشَرَةَ أَيّامٍ حَتّى دَخَلَ عَلَى امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِى يَوْمٍ حَارّ فَوَجَدَهُمَا فِى عَرِيشَيْنِ لَهُمَا، قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِمَا قَامَ عَلَى الْعَرِيشَيْنِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللّهِ رَسُولُ اللّهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ فِى الضّحّ وَالرّيحِ وَالْحَرّ يَحْمِلُ سِلاحَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِى ظِلالٍ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ مُقِيمٌ فِى مَالِهِ مَا هَذَا بِالنّصَفِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللّهِ لا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَخْرُجَ فَأَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ ÷. فَأَنَاخَ نَاضِحَهُ وَشَدّ عَلَيْهِ قَتَبَهُ وَتَزَوّدَ وَارْتَحَلَ فَجَعَلَتْ امْرَأَتَاهُ يُكَلّمَانِهِ وَلا يُكَلّمُهُمَا، حَتّى أَدْرَكَ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِىّ بِوَادِى الْقُرَى يُرِيدُ النّبِىّ ÷ فَصَحِبَهُ فَتَرَافَقَا، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: يَا عُمَيْرُ إنّ لِى ذُنُوبًا وَأَنْتَ لا ذَنْبَ لَك، فَلا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّى حَتّى آتِىَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَبْلَك، فَفَعَلَ عُمَيْرٌ فَسَارَ أَبُو خَيْثَمَةَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ - وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ - قَالَ النّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ الطّرِيقَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ”، فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو خَيْثَمَةَ، فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَوْلَى لَك يَا أَبَا خَيْثَمَةَ”، ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ ÷ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ. قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَصَبّحَ ذَا خُشُبٍ، فَنَزَلَ تَحْتَ الدّوْمَةِ وَكَانَ دَلِيلَهُ إلَى تَبُوكَ عَلْقَمَةُ بْنُ الْفَغْوَاءِ الْخُزَاعِىّ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَحْتَ الدّوْمَةِ فَرَاحَ مِنْهَا مُمْسِيًا حَيْثُ أَبْرَدَ، وَكَانَ فِى حَرّ شَدِيدٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ مِنْ يَوْمِ نَزَلَ ذَا خُشُبٍ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى مَنْزِلِهِ يُؤَخّرُ الظّهْرَ حَتّى يُبْرِدَ، وَيُعَجّلُ الْعَصْرَ، ثُمّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَكُلّ ذَلِكَ فَعَلَهُ حَتّى رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ. وَكَانَتْ مَسَاجِدُهُ فِى سَفَرِهِ إلَى تَبُوكَ مَعْرُوفَةً صَلّى تَحْتَ دَوْمَةٍ بِذِى خُشُبٍ، وَمَسْجِدِ الْفَيْفَاءِ، وَمَسْجِدٍ بِالْمَرْوَةِ، وَمَسْجِدٍ بِالسّقْيَا، وَمَسْجِدٍ بِوَادِى الْقُرَى، وَمَسْجِدٍ بِالْحِجْرِ، وَمَسْجِدٍ بِذَنَبِ حَوْصَاءَ، وَمَسْجِدٍ بِذِى الْجِيفَةِ مِنْ صَدْرِ حَوْصَاءَ، وَمَسْجِدٍ بِشِقّ تَارَاءَ مِمّا يَلِى جَوْبَرَ، وَمَسْجِدٍ بِذَاتِ الْخِطْمِىّ، وَمَسْجِدٍ بِسَمَنَةَ، وَمَسْجِدٍ بِالأَخْضَرِ، وَمَسْجِدٍ بِذَاتِ الزّرَابِ، وَمَسْجِدٍ بِالْمِدْرَانِ، وَمَسْجِدٍ بِتَبُوكَ. وَلَمّا مَضَى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ سَائِرًا، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجَالُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَخَلّفَ فُلانٌ، فَيَقُولُ: “دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ”، فَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرٌ لَمْ يَخْرُجُوا إلاّ رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ. وَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: أَبْطَأْت فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَجْلِ بَعِيرِى، كَانَ نِضْوًا أَعْجَفَ فَقُلْت: أَعْلِفُهُ أَيّامًا ثُمّ أَلْحَقُ بِرَسُولِ اللّهِ ÷. فَعَلَفْته أَيّامًا ثُمّ خَرَجْت، فَلَمّا كُنْت بِذِى الْمَرْوَةِ عَجَزَ بِى، فَتَلَوّمْت عَلَيْهِ يَوْمًا فَلَمْ أَرَ بِهِ حَرَكَةً فَأَخَذْت مَتَاعِى فَحَمَلْته عَلَى ظَهْرِى، ثُمّ خَرَجْت أَتْبَعُ رَسُولَ اللّهِ ÷ مَاشِيًا فِى حَرّ شَدِيدٍ، وَقَدْ تَقَطّعَ النّاسُ فَلا أَرَى أَحَدًا يَلْحَقُنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَعْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ نِصْفَ النّهَارِ، وَقَدْ بَلَغَ مِنّى الْعَطَشُ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الطّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِى عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “كُنْ أَبَا ذَرّ”، فَلَمّا تَأَمّلَنِى الْقَوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو ذَرّ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى دَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ: “مَرْحَبًا بِأَبِى ذَرّ يَمْشِى وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ”، فَقَالَ: “مَا خَلّفَك يَا أَبَا ذَرّ”؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ بَعِيرِهِ ثُمّ قَالَ: “إنْ كُنْت لَمِنْ أَعَزّ أَهْلِى عَلَىّ تَخَلّفًا، لَقَدْ غَفَرَ اللّهُ لَك يَا أَبَا ذَرّ بِكُلّ خُطْوَةٍ ذَنْبًا إلَى أَنْ بَلَغْتنِى” . وَوَضَعَ مَتَاعَهُ عَنْ ظَهْرِهِ نَمْ اسْتَسْقَى، فَأُتِىَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ فَلَمّا أَخْرَجَهُ عُثْمَانُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى الرّبَذَةِ فَأَصَابَهُ قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلاّ امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ، فَأَوْصَاهُمَا، فَقَالَ: اغْسِلانِى وَكَفّنَانِى، ثُمّ ضَعَانِى عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ إذَا أَنَا مُتّ، وَأَقْبَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِى رَهْطٍ مِنْ الْعِرَاقِ عُمّارًا، فَلَمْ يَرْعَهُمْ إلاّ بِالْجِنَازَةِ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبِلُ تَطَؤُهَا، فَسَلّمَ الْقَوْمُ فَقَامَ إلَيْهِمْ غُلامُهُ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَعِينُونِى عَلَيْهِ، فَاسْتَهَلّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِى وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَبُو ذَرّ يَمْشِى وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ”. ثُمّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى وَارَوْهُ ثُمّ حَدّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِىّ - وَهُوَ كُلْثُومُ بْنُ الْحُصَيْنِ قَدْ بَايَعَ رَسُولَ اللّهِ ÷ تَحْتَ الشّجَرَةِ - فَقَالَ: غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ تَبُوكَ، قَالَ: فَسِرْت ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالأَخْضَرِ، وَأَنَا قَرِيبٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷، وَأُلْقِىَ عَلَىّ النّعَاسُ فَطَفِقْت أَسْتَيْقِظُ، وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِى مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَيُفْزِعُنِى دُنُوّهَا مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ، فَطَفِقْت أَحُوزُ رَاحِلَتِى حَتّى غَلَبَتْنِى عَيْنَاىَ فِى بَعْضِ الطّرِيقِ، وَنَحْنُ فِى بَعْضِ اللّيْلِ، فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِى رَاحِلَتَهُ وَرِجْلُهُ فِى الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلاّ بِقَوْلِهِ: “حَسّ”، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “سِرْ”، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسْأَلُنِى عَمّنْ تَخَلّفَ مِنْ بَنِى غِفَارٍ، فَأُخْبِرُهُ بِهِمْ وَهُوَ يَسْأَلُنِى: “مَا فَعَلَ النّفَرُ الْحُمْرُ الطّوَالُ النّطَانِطِ”؟ فَحَدّثْته بِتَخَلّفِهِمْ، قَالَ: “فَمَا فَعَلَ النّفَرُ السّودُ الْقِصَارُ الْجِعَادُ الْحُلْسُ”؟ فَقُلْت: وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلاءِ، قَالَ: “بَلَى، الّذِينَ هُمْ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ”، قَالَ: فَتَذَكّرْتهمْ فِى بَنِى غِفَارٍ فَلا أَذْكُرُهُمْ، ثُمّ ذَكَرْت أَنّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا فِينَا وَكَانُوا يَحِلّونَ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ لَهُمْ نَعَمٌ كَثِيرٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ حُلَفَاءُ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا مَنَعَ أَحَدٌ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ رَجُلاً نَشِيطًا فِى سَبِيلِ اللّهِ مِمّنْ يَخْرُجُ مَعَنَا، فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْخَارِجِ، إنْ كَانَ لَمِنْ أَعَزّ أَهْلِى عَلَىّ أَنْ يَتَخَلّفَ عَنّى الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارُ، وَغِفَارٌ، وَأَسْلَمُ”. وَقَالُوا: بَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَسِيرِهِ مَرّ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ الْعَسْكَرِ قَدْ تَرَكَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَجَفِ وَالضّعْفِ فَمَرّ بَهْ مَارّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ، وَعَلَفَهُ أَيّامًا، ثُمّ حَوّلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَصَلُحَ الْبَعِيرُ فَسَافَرَ عَلَيْهِ، فَرَآهُ صَاحِبُهُ الأَوّلُ فَاخْتَصَمَا إلَى النّبِىّ ÷ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ أَحْيَا خُفّا أَوْ كُرَاعًا بِمَهْلَكَةٍ مِنْ الأَرْضِ فَهُوَ لَه”. قَالَ: وَكَانَ النّاسُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ثَلاثِينَ أَلْفًا، وَمِنْ الْخَيْلِ عَشْرَةُ آلافٍ فَرَسٌ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كُلّ بَطْنٍ مِنْ الأَنْصَارِ أَنْ يَتّخِذُوا لِوَاءً وَرَايَةً وَالْقَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ فِيهَا الرّايَاتُ وَالأَلْوِيَةُ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ دَفَعَ رَايَةَ بَنِى مَالِكِ بْنِ النّجّارِ إلَى عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، فَأَدْرَكَ رَسُولُ اللّهِ ÷ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَعْطَاهُ الرّايَةَ. قَالَ عُمَارَةُ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَعَلّك وَجَدْت عَلَىّ، قَالَ: “لا وَاَللّهِ وَلَكِنْ قَدّمُوا الْقُرْآنَ وَكَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ مِنْك؛ وَالْقُرْآنُ يُقَدّمُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مُجَدّعًا”. وَأَمَرَ فِى الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْ يَحْمِلَ رَايَاتِهِمْ أَكْثَرُهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ أَبُو زَيْدٍ يَحْمِلُ رَايَةَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَحْمِلُ رَايَةَ بَنِى سَلِمَةَ، وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمًا بِأَصْحَابِهِ فِى سَفَرِهِ وَعَلَيْهِ جُبّةٌ صُوفٌ وَقَدْ أَخَذَ بِعَنَانِ فَرَسِهِ - أَوْ قَالَ: مِقْوَدِ فَرَسِهِ - وَهُوَ يُصَلّى، فَبَالَ الْفَرَسُ فَأَصَابَ الْجُبّةَ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَقَالَ: “لا بَأْسَ بِأَبْوَالِهَا وَلُعَابِهَا وَعَرَقِهَا”. قَالُوا: وَكَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ مَعَ النّبِىّ ÷ فِى تَبُوكَ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ ابْنُ ثَابِتٍ، أَحَدُ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالْجُلاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ، ومخشى بْنُ حِمْيَرَ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِى سَلِمَةَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ. فَقَالَ: تَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِى الأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِى الْحِبَالِ إرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لِى أَرَى قُرّاءَنَا هَؤُلاءِ أَوْعَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللّقَاءِ؟ وَقَالَ الْجُلاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَكَانَ زَوْجُ أُمّ عُمَيْرٍ، وَكَانَ ابْنُهَا عُمَيْرٌ يَتِيمًا فِى حِجْرِهِ هَؤُلاءِ سَادَتُنَا وَأَشْرَافُنَا وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنّا: وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ، وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّى أُقَاضِى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلّ رَجُلٍ مِنّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنّا نَنْفَلِتُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ بِمَقَالَتِكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ: “أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى، قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا”، فَذَهَبَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ، فَقَالَ لَهُمْ: فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ ÷ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى نَاقَتِهِ وَقَدْ أَخَذَ بِحَقَبِ نَاقَةِ النّبِىّ ÷ وَرِجْلاهُ تَنْسِفَانِ الْحِجَارَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: ×وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ% إلَى قَوْلِهِ: ×بِأَنّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ% قَالُوا: وَرَدّ عُمَيْرٌ عَلَى الْجُلاسِ مَا قَالَ - حِينَ قَالَ لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ - قَالَ: فَأَنْت شَرّ مِنْ الْحِمَارِ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ الصّادِقُ، وَأَنْت الْكَاذِبُ، وَجَاءَ الْجُلاسُ إلَى النّبِىّ ÷ فَحَلَفَ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى نَبِيّهِ فِيهِ: ×يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ%، وَنَزَلَتْ فِيهِ ×وَمَا نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ% الآيَةُ. قَالَ: وَكَانَ لِلْجُلاسِ دِيَةٌ فِى الْجَاهِلِيّةِ عَلَى بَعْضِ قَوْمِهِ وَكَانَ مُحْتَاجًا، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ أَخَذَهَا لَهُ فَاسْتَغْنَى بِهَا. وَقَالَ مخشى بْنُ حِمْيَرَ: قَدْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ قَعَدَ بِى اسْمِى وَاسْمُ أَبِى، فَكَانَ الّذِى عُفِىَ عَنْهُ فِى هَذِهِ الآيَةِ مخشى بْنُ حِمْيَرَ - فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدُ الرّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ اللّهِ - وَسَأَلَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا وَلا يُعْلَمَ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ. وَيُقَالُ فِى الْجُلاسِ بْنُ سُوَيْدٍ: إنّهُ كَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُثَبّطُ النّاسَ عَنْ الْخُرُوجِ وَكَانَتْ أُمّ عُمَيْرٍ تَحْتَهُ، وَكَانَ عُمَيْرٌ يَتِيمًا فِى حِجْرِهِ وَلا مَالَ لَهُ، فَكَانَ يَكْفُلُهُ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَسَمِعَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: يَا جُلاسُ قَدْ كُنْت أَحَبّ النّاسِ إلَىّ، وَأَحْسَنَهُمْ عِنْدِى أَثَرًا، وَأَعَزّهُمْ عَلَىّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ، وَاَللّهِ لَقَدْ قُلْت مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتهَا لَتَفْضَحَنّكَ، وَلَئِنْ كَتَمْتهَا لأَهْلِكَنّ، وَإِحْدَاهُمَا أَهْوَنُ عَلَىّ مِنْ الأُخْرَى، فَذَكَرَ لِلنّبِىّ ÷ مَقَالَةَ الْجُلاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ أَعْطَى الْجُلاسَ مَالاً مِنْ الصّدَقَةِ لِحَاجَتِهِ، وَكَانَ فَقِيرًا، فَبَعَثَ النّبِىّ ÷ إلَى الْجُلاسِ فَسَأَلَهُ عَمّا قَالَ عُمَيْرٌ، فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا تَكَلّمَ بَهْ قَطّ، وَأَنّ عُمَيْرًا لَكَاذِبٌ - وَهُوَ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ - وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَ النّبِىّ ÷ فَقَامَ، وَهُوَ يَقُولُ: اللّهُمّ أَنْزِلْ عَلَى رَسُولِك بَيَانَ مَا تَكَلّمْت بِهِ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى نَبِيّهِ ×يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ% إلَى قَوْلِهِ: ×أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ% لِلصّدَقَةِ الّتِى أَعْطَاهَا النّبِىّ ÷. فَقَالَ الْجُلاسُ: اسْمَعْ اللّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَىّ التّوْبَةَ وَاَللّهِ لَقَدْ قُلْت: مَا قَالَ عُمَيْرٌ، وَلَمّا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ خَيْرٍ كَانَ يَصْنَعُهُ إلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، فَكَانَ ذَلِك مِمّا قَدْ عُرِفَتْ بَهْ تَوْبَتُهُ. قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السّاعِدِىّ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى تَبُوكَ، فَلَمّا جِئْنَا وَادِىَ الْقُرَى مَرَرْنَا عَلَى حَدِيقَةٍ لامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اُخْرُصُوهَا”، فَخَرَصَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَخَرَصْنَاهَا مَعَهُ عَشْرَةَ أَوْسَاقٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “احْفَظِى مَا خَرَجَ مِنْهَا حَتّى نَرْجِعَ إلَيْك”، فَلَمّا أَمْسَيْنَا بِالْحِجْرِ، قَالَ: “إنّهَا سَتَهُبّ اللّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلا يَقُومَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلاّ مَعَ صَاحِبِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيُوثِقْ عِقَالَهُ”، قَالَ: فَهَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ إلاّ مَعَ صَاحِبِهِ، إلاّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِى سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الآخَرُ فِى طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَأَمّا الّذِى ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمّا الّذِى ذَهَبَ فِى طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ فَطَرَحَتْهُ بِجَبَلَىْ طَيّئٍ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَبَرَهُمَا، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ إلاّ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ”؟ ثُمّ دَعَا الّذِى أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِىَ، وَأَمّا الآخَرُ الّذِى وَقَعَ بِجَبَلَىْ طَيّئٍ فَإِنّ طَيّئًا أَهْدَتْهُ لِلنّبِىّ ÷ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَادِىَ الْقُرَى أَهْدَى لَهُ بَنُو عُرَيْضٍ الْيَهُودِىّ هَرِيسًا، فَأَكَلَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَطْعَمَهُمْ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، فَهِىَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ. تَقُولُ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ: هَذَا الّذِى صَنَعَ بِهِمْ مُحَمّدٌ خَيْرٌ مِمّا وَرِثُوهُ مِنْ آبَائِهِمْ لأَنّ هَذَا لا يَزَالُ جَارِيًا عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا مَرَرْنَا بِالْحِجْرِ اسْتَقَى النّاسُ مِنْ بِئْرِهَا وَعَجَنُوا، فَنَادَى مُنَادِى النّبِىّ ÷: “لا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَلا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلاةِ وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ فَاعْلِفُوهُ الإِبِلَ”. قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: كُنْت أَصْغَرَ أَصْحَابِى وَكُنْت مُقْرِيهمْ فِى تَبُوكَ، فَلَمّا نَزَلْنَا عَجَنْت لَهُمْ، ثُمّ تَحَيّنْت الْعَجِينَ، وَقَدْ ذَهَبْت أَطْلُبُ حَطَبًا، فَإِذَا مُنَادِى النّبِىّ ÷ يُنَادِى: “إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَأْمُرُكُمْ أَلاّ تَشْرَبُوا مِنْ مَاءِ بِئْرِهِمْ”. فَجَعَلَ النّاسُ يَهْرَقُونَ مَا فِى أَسْقِيَتِهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ عَجَنّا. قَالَ: “أَعْلِفُوهُ الإِبِلَ”، قَالَ سَهْلٌ: فَأَخَذْت مَا عَجَنْت فَعَلَفْت نِضْوَيْنِ فَهُمَا كَانَا أَضْعَفَ رِكَابِنَا. وَتَحَوّلْنَا إلَى بِئْرِ صَالِحٍ النّبِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَجَعَلْنَا نَسْتَقِى مِنْ الأَسْقِيَةِ وَنَغْسِلُهَا، ثُمّ ارْتَوَيْنَا، فَلَمْ نَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ إلاّ مُمْسِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَسْأَلُوا نَبِيّكُمْ الآيَاتِ هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيّهُمْ آيَةً فَكَانَتْ النّاقَةُ تَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْفَلْجِ تَسْقِيهِمْ مِنْ لَبَنِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا مَا شَرِبَتْ مِنْ مَائِهَا، فَعَقَرُوهَا فَأُوعِدُوا ثَلاثًا، وَكَانَ وَعْدُ اللّهِ غَيْرَ مَكْذُوبٍ فَأَخَذَتْهُمْ الصّيْحَةُ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَحْتَ أَدِيمِ السّمَاءِ إلاّ هَلَكَ إلاّ رَجُلٌ فِى الْحَرَمِ مَنَعَهُ الْحَرَمُ مِنْ عَذَابِ اللّهِ”. قَالُوا: يَا نَبِىّ اللّهِ مَنْ هُوَ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَبُو رِغَالٍ، أَبُو ثَقِيفٍ”. قَالُوا: فَمَا لَهُ بِنَاحِيَةِ مَكّةَ؟ قَالَ: “إنّ صَالِحًا بَعَثَهُ مُصَدّقًا، فَانْتَهَى إلَى رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ شَاةٍ شُصُصٍ وَمَعَهُ شَاةٌ وَالِدٌ وَمَعَهُ صَبِىّ مَاتَتْ أُمّهُ بِالأَمْسِ. فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِى إلَيْك، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللّهِ وَأَهْلاً خُذْ، قَالَ: فَأَخَذَ الشّاةَ اللّبُونَ، فَقَالَ: إنّمَا هِىَ أُمّ هَذَا الْغُلامِ بَعْدَ أُمّهِ خُذْ مَكَانَهَا عَشْرًا، قَالَ: لا، قَالَ: عِشْرِينَ، قَالَ: لا، قَالَ: خَمْسِينَ، قَالَ: لا، قَالَ: خُذْهَا كُلّهَا إلاّ هَذِهِ الشّاةَ، قَالَ: لا، قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبّ اللّبَنَ فَأَنَا أُحِبّهُ، فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمّ قَالَ: اللّهُمّ تَشْهَدْ ثُمّ فَوّقَ لَهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: لا يَسْبِقُ بِهَذَا الْخَبَرِ إلَى نَبِىّ اللّه أَوّلَ مِنّى فَجَاءَ صَالِحًا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَرَفَعَ صَالِحٌ يَدَيْهِ مُدّا فَقَالَ: اللّهُمّ الْعَنْ أَبَا رِغَالٍ ثَلاثًا”. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذّبِينَ إلاّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ” . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ: رَأَيْت رَجُلاً جَاءَ إلَى النّبِىّ ÷ بِخَاتَمٍ وَجَدَهُ فِى الْحِجْرِ فِى بُيُوتِ الْمُعَذّبِينَ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ، وَقَالَ: “أَلْقِهِ”، فَأَلْقَاهُ فَمَا أَدْرِى أَيْنَ وَقَعَ حَتّى السّاعَةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ لأَصْحَابِهِ حِينَ حَاذَاهُمْ: “إنّ هَذَا وَادِى النّفْرِ”، فَجَعَلُوا يُوضِعُونَ فِيهِ رِكَابَهُمْ حَتّى خَرَجُوا مِنْهُ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتّى خَلّفَهَا، قَالَ: وَارْتَحَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لَمّا أَصْبَحَ وَلا مَاءَ مَعَهُمْ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى حَدْرَدٍ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا - وَلا وَاَللّهِ مَا أَرَى فِى السّمَاءِ سَحَابًا - فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَدْعُو حَتّى إنّى لأَنْظُرُ إلَى السّحَابِ تَأْتَلِفُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَمَا رَامَ مَقَامَهُ حَتّى سَحّتَ عَلَيْنَا السّمَاءُ بِالرّوَاءِ، فَكَأَنّى أَسْمَعُ تَكْبِيرَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى الْمَطَرِ، ثُمّ كَشَفَ اللّهُ السّمَاءَ عَنّا مِنْ سَاعَتِهَا، وَإِنْ الأَرْضُ إلاّ غُدُرٌ تَنَاخَسُ فَسُقِىَ النّاسُ وَارْتَوَوْا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَسْمَعُ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “أَشْهَدُ أَنّى رَسُولُ اللّهِ”، فَقُلْت لِرَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ: وَيْحَك، أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ سَحَابَةٌ: مَارّةٌ؟ وَهُوَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِىّ، وَيُقَالُ: زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ. قَالَ: حَدّثَنِى يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنّهُ قَالَ لَهُ: هَلْ كَانَ النّاسُ يَعْرِفُونَ أَهْلَ النّفَاقِ فِيهِمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَاَللّهِ إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ وَبَنِى عَمّهِ، سَمِعْت جَدّك قَتَادَةَ بْنَ النّعْمَانِ يَقُولُ: تَبِعَنَا فِى دَارِنَا قَوْمٌ مِنّا مُنَافِقُونَ، ثُمّ مِنْ بَعْدُ سَمِعْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: فِى بَنِى النّجّارِ مَنْ لا بَارَكَ اللّهُ فِيهِ، فَيُقَالُ: مَنْ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَيَقُولُ: سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ وَقَيْسُ بْنُ فِهْرٍ، ثُمّ يَقُولُ زَيْدٌ: لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَاءِ مَا كَانَ دَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فَأَرْسَلَ اللّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ فَقُلْنَا: يَا وَيْحَك، أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ، وَهُوَ وَاَللّهِ رَجُلٌ لَك بِهِ قَرَابَةٌ يَا مَحْمُودُ بْنَ لَبِيدٍ، قَالَ مَحْمُودٌ: قَدْ عَرَفْته. قَالَ: ثُمّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُوَجّهًا إلَى تَبُوكَ، فَأَصْبَحَ فِى مَنْزِلٍ فَضَلّتْ نَاقَةُ النّبِىّ ÷ الْقَصْوَاءُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِى طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ÷ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ - عَقَبِىّ بَدْرِىّ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا - وَكَانَ فِى رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ أَحَدُ بَنِى قَيْنُقَاعٍ كَانَ يَهُودِيّا فَأَسْلَمَ فَنَافَقَ، وَكَانَ فِيهِ خُبْثُ الْيَهُودِ وَغِشّهُمْ، وَكَانَ مُظَاهِرًا لأَهْلِ النّفَاقِ، فَقَالَ زَيْدٌ وَهُوَ فِى رَحْلِ عُمَارَةَ وَعُمَارَةُ عِنْدَ النّبِىّ ÷: أَلَيْسَ مُحَمّدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِىّ وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السّمَاءِ، وَهُوَ لا يَدْرِى أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ مُنَافِقًا يَقُولُ: إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِىّ، وَأَنّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السّمَاءِ وَلا يَدْرِى أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنّى وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلاّ مَا عَلّمَنِى اللّهُ، وَقَدْ دَلّنِى عَلَيْهَا، وَهِىَ فِى الْوَادِى فِى شِعْبِ كَذَا وَكَذَا - الشّعْبُ أَشَارَ لَهُمْ إلَيْهِ - حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُوا بِهَا”. فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنْ شَيْءٍ حَدّثْنَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ إنّهَا عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا - الّذِى قَالَ زَيْدٌ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ فِى رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللّهِ ÷ زَيْدٌ: وَاَللّهِ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ عَلَيْنَا، قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدِ بْنِ اللّصَيْتِ يَجَأُهُ فِى عُنُقِهِ وَيَقُولُ: وَاَللّهِ إنّ فِى رَحْلِى لَدَاهِيَةٌ وَمَا أَدْرِى اُخْرُجْ يَا عَدُوّ اللّهِ مِنْ رَحْلِى. وَكَانَ الّذِى أَخْبَرَ عُمَارَةَ بِمَقَالَةِ زَيْدٍ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ فِى الرّحْلِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاَلّذِى ذَهَبَ فَجَاءَ بِالنّاقَةِ مِنْ الشّعْبِ الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ الأَشْهَلِىّ وَجَدَهَا وَزِمَامُهَا قَدْ تَعَلّقَ فِى شَجَرَةٍ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ: كَأَنّى لَمْ أُسْلِمْ إلاّ الْيَوْمَ قَدْ كُنْت شَاكّا فِى مُحَمّدٍ، وَقَدْ أَصْبَحْت وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَزَعَمَ النّاسُ أَنّهُ تَابَ، وَكَانَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يُنْكِرُ تَوْبَتَهُ وَيَقُولُ لَمْ يَزَلْ فَسْلاً حَتّى مَاتَ. فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِوَادِى الْمُشَقّقِ سَمِعَ حَادِيًا فِى جَوْفِ اللّيْلِ فَقَالَ: أَسْرِعُوا بِنَا نَلْحَقُهُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “مِمّنْ الْحَادِى، مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ”؟ قَالُوا: بَلَى، مِنْ غَيْرِنَا، قَالَ: فَأَدْرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَإِذَا جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: “مِمّنْ الْقَوْمُ”؟ قَالَ: مِنْ مُضَرَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَأَنَا مِنْ مُضَرَ”، فَانْتَسَبَ حَتّى بَلَغَ مُضَرَ، قَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ أَوّلُ مَنْ حَدَا بِالإِبِلِ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “وَكَيْفَ ذَلِكَ”؟ قَالُوا: بَلَى، إنّ أَهْلَ الْجَاهِلِيّةِ كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأُغِيرَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ وَمَعَهُ غُلامٌ لَهُ فَنَدّتْ إبِلُهُ فَأَمَرَ غُلامَهُ أَنْ يَجْمَعَهَا، فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ فَضَرَبَ يَدَهُ بِعَصًا، فَجَعَلَ الْغُلامُ يَقُولُ: وَايَدَاهُ وَايَدَاهُ وَتُجْتَمَعُ الإِبِلُ، فَجَعَلَ سَيّدُهُ يَقُولُ: قُلْ هَكَذَا بِالإِبِلِ، وَجَعَلَ النّبِىّ ÷ يَضْحَكُ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِبِلالٍ: “أَلا أُبَشّرُكُمْ”؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ وَهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ، فَقَالَ: “إنّ اللّهَ أَعْطَانِى الْكَنْزَيْنِ فَارِسَ وَالرّومَ، وَأَمَدّنِى بِالْمُلُوكِ مُلُوكِ حِمْيَرَ، يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَيَأْكُلُونَ فَيْءَ اللّه”. وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَقُولُ: كُنّا بَيْنَ الْحِجْرِ وَتَبُوكَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِحَاجَتِهِ وَكَانَ إذَا ذَهَبَ أَبْعَدَ وَتَبِعْته بِمَاءٍ بَعْدَ الْفَجْرِ فَأَسْفَرَ النّاسُ بِصَلاتِهِمْ - وَهِىَ صَلاةُ الصّبْحِ - حَتّى خَافُوا الشّمْسَ فَقَدِمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَصَلّى بِهِمْ. فَحَمَلْت مَعَ النّبِىّ ÷ إدَاوَةً فِيهَا مَاءٌ، فَلَمّا فَرَغَ صَبَبْت عَلَيْهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمّ أَرَادَ أَنْ يَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمّ الْجُبّةِ - وَعَلَيْهِ جُبّةٌ رُومِيّةٌ - فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبّةِ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ خُفّيْهِ. وَانْتَهَيْنَا إلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ رَكَعَ بِالنّاسِ فَسَبّحَ النّاسُ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ ÷ حَتّى كَادُوا أَنْ يَفْتَتِنُوا، فَجَعَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَنْكُصَ وَرَاءَهُ فَأَشَارَ إلَيْهِ النّبِىّ ÷ أَنْ اُثْبُتْ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ خَلْفَ عَبْدِ الرّحْمَنِ رَكْعَةً، فَلَمّا سَلّمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ تَوَاثَبَ النّاسُ، وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقْضِى الرّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ، ثُمّ سَلّمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: “أَحْسَنْتُمْ إنّهُ لَمْ يُتَوَفّ نَبِىّ حَتّى يَؤُمّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أُمّتِهِ”. وَأَتَاهُ يَوْمَئِذٍ يَعْلَى بْنُ مُنَبّهٍ بِأَجِيرٍ لَهُ قَدْ نَازَعَ رَجُلاً مِنْ الْعَسْكَرِ فَعَضّهُ ذَلِكَ الرّجُلُ، فَانْتَزَعَ الأَجِيرُ يَدَهُ مِنْ فِى الْعَاضّ فَانْتَزَعَ ثَنِيّتَهُ فَلَزِمَهُ الْمَجْرُوحُ فَبَلَغَ بِهِ النّبِىّ ÷، قَالَ: وَقُمْت مَعَ أَجِيرِى لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَأَتَى بِهِمَا النّبِىّ ÷ فَقَالَ: “يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَعَضّ أَخَاهُ كَمَا يَعَضّ الْفَحْلُ”. فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَا أَصَابَ مِنْ ثَنِيّتِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنّكُمْ لَنْ تَنَالُوهَا حَتّى يُضْحِىَ النّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلا يَمَسّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتّى آتِىَ”، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إلَيْهَا رَجُلانِ وَالْعَيْنُ مِثْلَ الزّلالِ تَبُضّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَسَأَلَهُمَا: “هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا”؟ قَالا: نَعَمْ، فَسَبّهُمَا النّبِىّ ÷ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَقُولَ. ثُمّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتّى اجْتَمَعَ فِى شَنّ، ثُمّ غَسَلَ النّبِىّ ÷ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَاءَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النّاسُ، ثُمّ قَالَ النّبِىّ ÷: “يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إنْ طَالَتْ بِك حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا” . قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَكَانَ يَتِيمًا لا مَالَ لَهُ قَدْ مَاتَ أَبُوهُ فَلَمْ يُوَرّثْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عَمّهُ مَيّلاً، فَأَخَذَهُ وَكَفَلَهُ حَتّى كَانَ قَدْ أَيْسَرَ فَكَانَتْ لَهُ إبِلٌ وَغَنَمٌ وَرَقِيقٌ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ جَعَلَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الإِسْلامِ وَلا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمّهِ حَتّى مَضَتْ السّنُونَ وَالْمَشَاهِدُ كُلّهَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ فَتْحِ مَكّةَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ لِعَمّهِ: يَا عَمّ، قَدْ انْتَظَرْت إسْلامَك فَلا أَرَاك تُرِيدُ مُحَمّدًا، فَائْذَنْ لِى فِى الإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاَللّهِ لَئِنْ اتّبَعْت مُحَمّدًا لا أَتْرُكُ بِيَدِك شَيْئًا كُنْت أَعْطَيْتُكَهُ إلاّ نَزَعْته مِنْك حَتّى ثَوْبَيْك، فَقَالَ عَبْدُ الْعُزّى، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ اسْمُهُ: أَنَا وَاَللّهِ مُتّبِعٌ مُحَمّدًا وَمُسْلِمٌ وَتَارِكٌ عِبَادَةَ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ، وَهَذَا مَا بِيَدِى فَخُذْهُ، فَأَخَذَ كُلّ مَا أَعْطَاهُ حَتّى جَرّدَهُ مِنْ إزَارِهِ، فَأَتَى أُمّهُ فَقَطَعَتْ بِجَادًا لَهَا بِاثْنَيْنِ فَائْتَزَرَ بِوَاحِدٍ وَارْتَدَى بِالآخَرِ، ثُمّ أَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِوَرِقَانَ - جَبَلٌ مِنْ حِمَى الْمَدِينَةِ - فَاضْطَجَعَ فِى الْمَسْجِدِ فِى السّحَرِ، ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّبْحَ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَتَصَفّحُ النّاسَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ الصّبْحِ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ: “مَنْ أَنْت”؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: “أَنْت عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ”، ثُمّ قَالَ: “انْزِلْ مِنّى قَرِيبًا”، فَكَانَ يَكُونُ فِى أَضْيَافِهِ وَيُعَلّمُهُ الْقُرْآنَ حَتّى قَرَأَ قُرْآنًا كَثِيرًا، وَالنّاسُ يَتَجَهّزُونَ إلَى تَبُوكَ، وَكَانَ رَجُلاً صِيّتَا، فَكَانَ يَقُومُ فِى الْمَسْجِدِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا تَسْمَعُ إلَى هَذَا الأَعْرَابِىّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ حَتّى قَدْ مَنَعَ النّاسَ الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “دَعْهُ يَا عُمَرُ”، فَإِنّهُ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَلَمّا خَرَجُوا إلَى تَبُوكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ لِى بِالشّهَادَةِ، قَالَ: “أَبْلِغْنِى لِحَاءَ سَمُرَةَ”، فَأَبْلَغَهُ لِحَاءَ سَمُرَةَ فَرَبَطَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى عَضُدِهِ، وَقَالَ: “اللّهُمّ إنّى أُحَرّمُ دَمَهُ عَلَى الْكُفّارِ”، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ أَرَدْت هَذَا. قَالَ النّبِىّ ÷: “إنّك إذَا خَرَجْت غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَأَخَذَتْك الْحُمّى فَقَتَلَتْك فَأَنْت شَهِيدٌ، وَوَقَصَتْك دَابّتُك فَأَنْت شَهِيدٌ، لا تُبَالِ بِأَيّةِ كَانَ”، فَلَمّا نَزَلُوا تَبُوكَ فَأَقَامُوا بِهَا أَيّامًا تُوُفّىَ عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ. فَكَانَ بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: حَضَرْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَمَعَ بِلالٍ الْمُؤَذّنِ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ عِنْدَ الْقَبْرِ وَاقِفًا بِهَا، وَإِذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْقَبْرِ، وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا يُدْلِيَانِهِ إلَى النّبِىّ ÷، وَهُوَ يَقُولُ: “أَدْنِيَا إلَىّ أَخَاكُمَا فَلَمّا هَيّآهُ لِشِقّهِ”، قَالَ: “اللّهُمّ إنّى قَدْ أَمْسَيْت عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ”، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِى كُنْت صَاحِبَ اللّحْدِ. وَقَالُوا: أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى مَسِيرِهِ وَهُوَ مُرْدِفٌ سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ خَلْفَهُ فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ صَوْتَهُ فَقَالَ: “يَا سُهَيْلُ”، كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ سُهَيْلٌ: يَا لَبّيْكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى عَرَفَ النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يُرِيدُهُمْ فَانْثَنَى عَلَيْهِ مَنْ أَمَامَهُ، وَلَحِقَهُ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ النّاسِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ يَشْهَدُ أَنْ لا إلَه إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ حَرّمَهُ اللّهُ عَلَى النّار”. قَالُوا: وَعَارَضَ النّاسُ فِى مَسِيرِهِمْ حَيّةٌ ذُكِرَ مِنْ عِظَمِهَا وَخَلْقِهَا، وَانْصَاعَ النّاسُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَتْ حَتّى وَاقَفَتْ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ طَوِيلاً، وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، ثُمّ الْتَوَتْ حَتّى اعْتَزَلَتْ الطّرِيقَ فَقَامَتْ قَائِمَةً فَأَقْبَلَ النّاسُ حَتّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَقَالَ لَهُمْ: “هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا”؟ قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: “فَإِنّ هَذَا أَحَدُ الرّهْطِ الثّمَانِيَةِ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ فَرَأَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَقّ - حِينَ أَلَمّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِبَلَدِهِ - أَنْ يُسَلّمَ عَلَيْهِ وَهَا هُوَ ذَا يُقْرِئُكُمْ السّلامَ”، فَسَلّمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ النّاسُ جَمِيعًا: وَعَلَيْهِ السّلامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَجِيبُوا عِبَادَ اللّهِ مَنْ كَانُوا”. قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تَبُوكَ وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يُصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَهِرَقْلُ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصَ، وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى تَبُوكَ، حَتّى إذَا كُنّا مِنْهَا عَلَى لَيْلَةٍ اسْتَرْقَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسْتَيْقِظُ حَتّى كَانَتْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا بِلالُ أَلَمْ أَقُلْ لَك اكْلأْ لَنَا اللّيْلَ”؟ فَقَالَ بِلالٌ: ذَهَبَ بِىَ النّوْمُ ذَهَبَ بِىَ الّذِى ذَهَبَ بِك، قَالَ: فَارْتَحَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمّ صَلّى الْفَجْرَ، ثُمّ هَذّبَ بَقِيّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ بِتَبُوكَ فَجَمَعَ النّاسَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: “أَيّهَا النّاسُ أَمّا بَعْدُ فَإِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلامُ، وَخَيْرَ السّنَنِ سُنَنُ مُحَمّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الأُمُورِ عَوَاقِبُهَا، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهُدَى هُدَى الأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْقَتْلِ قَتْلُ الشّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الضّلالَةِ الضّلالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اُتّبِعَ، وَشَرّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَمَا قَلّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرّ الأُمُورِ الْمَعْذِرَةُ حِينَ يَحْضُرَ الْمَوْتُ، وَشَرّ النّدَامَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ النّاسِ مَنْ لا يَأْتِى الْجُمُعَةَ إلاّ نَزْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لا يَذْكُرُ اللّهَ إلاّ هُجْرًا؛ وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللّسَانُ الْكَذُوبُ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النّفْسِ، وَخَيْرَ الزّادِ التّقْوَى، وَرَأْسَ الْحُكْمِ مَخَافَةُ اللّهِ، وَخَيْرَ مَا أُلْقِىَ فِى الْقَلْبِ الْيَقِينُ وَالارْتِيَابَ مِنْ الْكُفْرِ، وَالنّيَاحَةَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جَمْرِ جَهَنّمَ، وَالسّكْرَ كِنّ مِنْ النّارِ، وَالشّعْرَ مِنْ إبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الإِثْمِ، وَالنّسَاءَ حِبَالَةُ الشّيْطَانِ، وَالشّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَشَرّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرّبَا، وَشَرّ الْمَأْكَلِ مَالُ الْيَتِيمِ، وَالسّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشّقِىّ مَنْ شَقِىَ فِى بَطْنِ أُمّهِ، وَإِنّمَا يَصِيرُ أَحَدُكُمْ إلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَالأَمْرَ إلَى آخِرِهِ وَمِلاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ ،وَالرّبَا رِبَا الْكَذِبِ، وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللّهِ، وَحُرْمَةَ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَمَنْ يَتَأَلّ عَلَى اللّهِ يُكَذّبْهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللّهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمْ الْغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرّزِيّةِ يُعَوّضْهُ اللّهُ، وَمَنْ يَتّبِعْ السّمْعَةَ يُسَمّعْ اللّهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضَاعِفْ اللّهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ يُعَذّبْهُ اللّهُ، اللّهُمّ اغْفِرْ لِى وَلأُمّتِى، اللّهُمّ اغْفِرْ لِى وَلأُمّتِى، أَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِى وَلَكُمْ”. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ، يُقَالُ لَهُ: عَدِىّ يَقُولُ: جِئْت رَسُولَ اللّهِ ÷ بِتَبُوكَ فَرَأَيْته عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ يَطُوفُ عَلَى النّاسِ يَقُولُ: “أَيّهَا النّاسُ يَدُ اللّهِ فَوْقَ يَدِ الْمُعْطِى، وَيَدُ الْمُعْطِى الْوُسْطَى، وَيَدُ الْمُعْطَى السّفْلَى، أَيّهَا النّاسُ اقْنَعُوا وَلَوْ بِحِزَمِ الْحَطَبِ اللّهُمّ هَلْ بَلّغْت”؟ ثَلاثًا. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَ لِىَ امْرَأَتَانِ اقْتَتَلَتَا فَرَمَيْت فَأَصَبْت إحْدَاهُمَا فَرُمِىَ فِى رَمْيَتِى - يَعْنِى مَاتَتْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رُمِىَ فِى جِنَازَتِهِ. فَقَالَ النّبِىّ ÷: “تَعْقِلُهَا وَلا تَرِثُهَا”. وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ بِتَبُوكَ فَنَظَرَ نَحْوَ الْيَمِينِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ يُشِيرُ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: “الإِيمَانُ يَمَانٍ”، وَنَظَرَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ: “إنّ الْجَفَاءَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِى الْفَدّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ حَيْثُ يُطْلِعُ الشّيْطَانُ قَرْنَيْهِ”. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَعْدِ ابْنِ هُذَيْمٍ: جِئْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَهُوَ جَالِسٌ بِتَبُوكَ - فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ هُوَ سَابِعُهُمْ - فَوَقَفْت فَسَلّمْت، فَقَالَ: “اجْلِسْ”، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَشْهَدُ أَلاّ إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ، قَالَ: “أَفْلَحَ وَجْهُك” ثُمّ قَالَ: “يَا بِلالُ أَطْعِمْنَا”، قَالَ: فَبَسَطَ بِلالٌ نِطْعًا، ثُمّ جَعَلَ يُخْرِجُ مِنْ حَمِيتٍ لَهُ فَأَخْرَجَ خَرْجَاتٍ بِيَدِهِ مِنْ تَمْرٍ مَعْجُونٍ بِالسّمْنِ وَالأَقِطِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “كُلُوا” فَأَكَلْنَا حَتّى شَبِعْنَا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْت لآكُلُ هَذَا وَحْدِى، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ”. قَالَ: ثُمّ جِئْته مِنْ الْغَدِ مُتَحَيّنًا لِغَدَائِهِ لأَزْدَادَ فِى الإِسْلامِ يَقِينًا، فَإِذَا عَشْرَةُ نَفَرٍ حَوْلَهُ، قَالَ: فَقَالَ: “هَاتِ أَطْعِمْنَا يَا بِلالُ”، قَالَ: فَجَعَلَ يُخْرِجُ مِنْ جِرَابِ تَمْرٍ بِكَفّهِ قَبْضَةً قَبْضَةً، فَقَالَ: “أَخْرِجْ وَلا تَخَفْ مِنْ ذِى الْعَرْشِ إقْتَارًا”، فَجَاءَ بِالْجِرَابِ فَنَثَرَهُ، قَالَ: فَحَزَرْتُهُ مُدّيْنِ، قَالَ: فَوَضَعَ النّبِىّ ÷ يَدَهُ عَلَى التّمْرِ، ثُمّ قَالَ: “كُلُوا بِاسْمِ اللّهِ”، فَأَكَلَ الْقَوْمُ، وَأَكَلْت مَعَهُمْ، وَكُنْت صَاحِبَ تَمْرٍ. قَالَ: فَأَكَلْت حَتّى مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: وَبَقِىَ عَلَى النّطْعِ مِثْلُ الّذِى جَاءَ بِهِ بِلالٌ كَأَنّا لَمْ نَأْكُلْ مِنْهُ تَمْرَةً وَاحِدَةً، قَالَ: ثُمّ عُدْت مِنْ الْغَدِ. قَالَ: وَعَادَ نَفَرٌ حَتّى بَاتُوا، فَكَانُوا عَشْرَةً أَوْ يَزِيدُونَ رَجُلاً، أَوْ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: يَا بِلالُ أَطْعِمْنَا، فَجَاءَ بِذَلِكَ الْجِرَابِ بِعَيْنِهِ أَعْرِفُهُ فَنَثَرَهُ وَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَقَالَ: “كُلُوا بِاسْمِ اللّهِ”، فَأَكَلْنَا حَتّى نَهِلْنَا، ثُمّ رَفَعَ مِثْلَ الّذِى صَبّ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَيّام. قَالَ: وَكَانَ هِرَقْلُ قَدْ بَعَثَ رَجُلاً مِنْ غَسّانَ إلَى النّبِىّ ÷ فَيَنْظُرَ إلَى صِفَتِهِ وَإِلَى عَلامَاتِهِ إلَى حُمْرَةٍ فِى عَيْنَيْهِ، وَإِلَى خَاتَمِ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَسَأَلَ فَإِذَا هُوَ لا يَقْبَلُ الصّدَقَةَ فَوَعَى أَشْيَاءَ مِنْ حَالِ النّبِىّ ÷، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى هِرَقْلَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَدَعَا قَوْمَهُ إلَى التّصْدِيقِ بِهِ فَأَبَوْا حَتّى خَافَهُمْ عَلَى مُلْكِهِ، وَهُوَ فِى مَوْضِعِهِ لَمْ يَتَحَرّكْ وَلَمْ يَزْحَفْ، وَكَانَ الّذِى خُبّرَ النّبِىّ ÷ - مِنْ بَعْثَتِهِ أَصْحَابَهُ وَدُنُوّهِ إلَى أَدْنَى الشّامِ - بَاطِلاً، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَهُمّ بِهِ. وَشَاوَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى التّقَدّمِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: إنْ كُنْت أُمِرْت بِالْمَسِيرِ فَسِرْ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَوْ أُمِرْت بِهِ مَا اسْتَشَرْتُكُمْ فِيهِ”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ لِلرّومِ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ، وَقَدْ دَنَوْت مِنْهُمْ حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ أَفْزَعَهُمْ دُنُوّك، فَلَوْ رَجَعْت هَذِهِ السّنَةَ حَتّى تَرَى، أَوْ يُحْدِثَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لَك فِى ذَلِكَ أَمْرًا. قَالُوا: وَهَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِتَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا لِمَوْتِ مُنَافِقٍ عَظِيمِ النّفَاقِ”، قَالَ: فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا مُنَافِقًا قَدْ مَاتَ عَظِيمَ النّفَاقِ. قَالَ: وَأُتِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِجُبْنَةٍ بِتَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا طَعَامٌ تَصْنَعُهُ فَارِسُ، وَإِنّا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ضَعُوا فِيهِ السّكّينَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه”. قَالَ: وَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ إلَى النّبِىّ ÷ فَرَسًا، فَأَعْطَاهُ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْبِطَهُ حِيَالَهُ اسْتِئْنَاسًا بِصَهِيلِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ فَفَقَدَ صَهِيلَ الْفَرَسِ فَسَأَلَ عَنْهُ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: خَصَيْته يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَإِنّ الْخَيْلَ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ اتّخِذُوا مِنْ نَسْلِهَا وَبَاهُوا بِصَهِيلِهَا الْمُشْرِكِينَ أَعْرَافُهَا أَدْفَاؤُهَا، وَأَذْنَابُهَا مَذَابّهَا، وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنّ الشّهَدَاءَ لَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ لا يَمُرّونَ بِأَحَدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ إلاّ تَنَحّى عَنْهُمْ حَتّى إنّهُمْ لَيَمُرّونَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ خَلِيلِ الرّحْمَنِ فَيَتَنَحّى لَهُمْ حَتّى يَجْلِسُوا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، يَقُولُ النّاسُ: هَؤُلاءِ الّذِينَ أُهْرِيقُوا دِمَاءَهُمْ لِرَبّ الْعَالَمِينَ فَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتّى يَقْضِىَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بَيْنَ عِبَادِهِ”. قَالُوا: وَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِتَبُوكَ قَامَ إلَى فَرَسِهِ الظّرِبِ فَعَلّقَ عَلَيْهِ شِعَارَهُ وَجَعَلَ يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرِدَائِهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ تَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرِدَائِك؟ قَالَ: “نَعَمْ وَمَا يُدْرِيك؟ لَعَلّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِى بِذَلِكَ مَعَ أَنّى قَدْ بِتّ اللّيْلَةَ، وَإِنّ الْمَلائِكَةَ لَتُعَاتِبُنِى فِى حَسّ الْخَيْلِ وَمَسْحِهَا”. وَقَالَ: “أَخْبَرَنِى خَلِيلِى جِبْرِبلُ أَنّهُ يُكْتَبُ لِى بِكُلّ حَسَنَةٍ أَوْفَيْتهَا إيّاهُ حَسَنَةً، وَإِنّ رَبّى عَزّ وَجَلّ يَحُطّ عَنّى بِهَا سَيّئَةً، وَمَا مِنْ امْرِئٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَرْبِطُ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَيُوفِيَهُ بِعَلِيفِهِ يَلْتَمِسُ بِهِ قُوّتَهُ إلاّ كَتَبَ اللّهُ لَهُ بِكُلّ حَبّةٍ حَسَنَةً وَحَطّ عَنْهُ بِكُلّ حَبّةٍ سَيّئَةً”، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَأَىّ الْخَيْلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: “أَدْهَمُ أَقْرَحُ أَرْثَمُ مُحَجّلُ الثّلُثِ مُطْلَقُ الْيَمِينِ، فَإِنْ لَم يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ”. قَالَ: وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَمَا فِى الصّوْمِ فِى سَبِيلِ اللّهِ؟ قَالَ: “مَنْ صَامَ يَوْمًا فِى سَبِيلِ اللّهِ تَبَاعَدَتْ مِنْهُ جَهَنّمُ مَسِيرَةَ مِائَةِ سَنَةٍ كَأَغَدّ السّيْرِ، وَلَقَدْ فُضّلَ نِسَاءُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِى الْحُرْمَةِ كَأُمّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْقَاعِدِينَ يُخَالِفُ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ فَيَخُونَهُ فِى أَهْلِهِ إلاّ وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: إنّ هَذَا خَانَك فِى أَهْلِك فَخُذْ مِنْ عَمَلِهِ مَا شِئْت؛ فَمَا ظَنّكُمْ”؟. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، أَوْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ، قَالَ: فَزِعَ النّاسُ بِتَبُوكَ لَيْلَةً فَخَرَجْت فِى سِلاحِى حَتّى جَلَسْت إلَى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ وَعَلَيْهِ سِلاحُهُ فَقُلْت: لأَقْتَدِيَنّ بِهَذَا الرّجُلِ الصّالِحِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَجَلَسْت إلَى جَنْبِهِ قَرِيبًا مِنْ قُبّةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَيْنَا مُغْضَبًا، فَقَالَ: “أَيّهَا النّاسُ مَا هَذِهِ الْخِفّةُ؟ مَا هَذَا النّزَقُ؟ أَلا صَنَعْتُمْ مَا صَنَعَ هَذَانِ الرّجُلانِ الصّالِحَانِ؟ يَعْنِينِى وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ”. قَالُوا: وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى تَبُوكَ وَضَعَ حَجَرًا قِبْلَةَ مَسْجِدِ تَبُوكَ بِيَدِهِ وَمَا يَلِى الْحَجَرَ، ثُمّ صَلّى الظّهْرَ بِالنّاسِ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: “مَا هَاهُنَا شَامٌ، وَمَا هَاهُنَا يَمَنٌ”. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: كُنّا مَعَ رَسُول اللّهِ ÷ بِتَبُوكَ فَقَامَ يُصَلّى مِنْ اللّيْلِ، وَكَانَ يُكْثِرُ التّهَجّدَ مِنْ اللّيْلِ، وَلا يَقُومُ إلاّ اسْتَاكَ، وَكَانَ إذَا قَامَ يُصَلّى صَلّى بِفِنَاءِ خَيْمَتِهِ فَيَقُومُ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْرُسُونَهُ، فَصَلّى لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِى، فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ: “أُعْطِيت خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنّ أَحَدٌ قَبْلِى: بُعِثْت إلَى النّاسِ كَافّةً، وَإِنّمَا كَانَ النّبِىّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِى الصّلاةُ تَيَمّمْت وَصَلّيْت، وَكَانَ مَنْ قَبْلِى يُعَظّمُونَ ذَلِكَ وَلا يُصَلّونَ إلاّ فِى كَنَائِسِهِمْ، وَالْبِيَعِ، وَأُحِلّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ كَانَ قَبْلِى يُحَرّمُونَهَا، وَالْخَامِسَةُ هِىَ مَا هِىَ هِىَ مَا هِىَ هِىَ مَا هِىَ”، ثَلاثًا. قَالُوا: وَمَا هِىَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قِيلَ لِى: سَلْ فَكُلّ نَبِىّ قَدْ سَأَلَ فَهِىَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ”.

  • * *

ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ% الآيَةُ. قَالُوا: غَزَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى حَرّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ مِنْ النّاسِ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَاشْتُهِيَتْ الظّلالُ فَأَبْطَأَ النّاسُ فَكَشَفَتْ مِنْهُمْ بَرَاءَةٌ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَأَبْدَتْ أَضْغَانَهُمْ، وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ. يَقُولُ: ×إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا% إلاّ تَخْرُجُوا مَعَ النّبِىّ ÷ ×مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ% الآيَةُ. قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ خَرَجُوا إلَى الْبَدْوِ يُفَقّهُونَ قَوْمَهُمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ بَقِىَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِى الْبَوَادِى. وَقَالُوا: هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَوَادِى، فَنَزَلَتْ: ×وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً% ×انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً% يَقُولُ: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ، وَيُقَالُ: الْخِفَافُ الشّبَابُ، وَالثّقَالُ الْكُهُولُ. ×وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ% يَقُولُ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِى غَزْوِكُمْ وَجَاهِدُوا، يَقُولُ: قَاتِلُوا؛ ×وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ% عِشْرِينَ لَيْلَةً ×وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ. ×لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا% يَقُولُ: غَنِيمَةً قَرِيبَةً ×وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتّبَعُوكَ% يَعْنِى حِينَ خَرَجَ النّبِىّ ÷ إلَى تَبُوكَ جَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُسْرَةِ وَالْمَرَضِ ×يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ% يَعْنِى فِى الآخِرَةِ ×وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ% أَنّهُمْ أَقْوِيَاءُ أَصِحّاءُ. وَكَانَ النّبِىّ ÷ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ وَيَأْذَنُ لَهُمْ. قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا% حَتّى تَبْلُوَهُمْ بِالسّفَرِ، وَتَعْلَمَ مَنْ هُوَ صَادِقٌ، وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ. ×لا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ% وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَكَانَتْ تُسَمّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، ×إنّمَا يَسْتَأْذِنُك الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاَللّهِ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ. ثُمّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: ×لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ% مِنْ قَبْلِ خُرُوجِك إلَى تَبُوكَ وَظُهُورِ أَمْرِك يَا مُحَمّدُ ×وَهُمْ كَارِهُونَ% لِظُهُورِك وَاتّبَاعِ مَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ×وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلا تَفْتِنّى% نَزَلَتْ هَذِهِ فِى الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ أَكْثَرَ بَنِى سَلِمَةَ مَالاً، وَأَعَدّهُمْ عُدّةً فِى الظّهْرِ، وَكَانَ رَجُلاً مُعْجَبًا بِالنّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلاّ تَغْزُو بَنِى الأَصْفَرَ؟ عَسَى أَنْ تَحْتَقِبَ مِنْ بَنَاتِ الأَصْفَرِ”. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ قَدْ عَلِمَ قَوْمِى أَنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْجَبَ بِالنّسَاءِ مِنّى، فَلا تَفْتِنّى بِهِنّ، يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا% لِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷. ×إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ% تَسُؤْهُمْ يَقُولُ غَنِيمَةً وَسَلامَةً الّذِينَ تَخَلّفُوا وَاسْتَأْذَنُوك؛ ×وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ% الْبَلاءُ وَالشّدّةُ ×يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ%. ×قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا% يَقُولُ: إلاّ مَا كَانَ فِى أُمّ الْكِتَابِ. ×قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ% الْغَنِيمَةَ أَوْ الشّهَادَةَ. ×قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ% كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ ذِى الطّوْلِ يُظْهِرُونَ النّفَقَةَ إذَا رَآهُمْ النّاسُ لِيَبْلُغَ النّبِىّ ÷ وَيَدْرَأُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْقَتْلَ. يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: ×وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ% إلَى قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: ×إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الْحَيَاةِ الدّنْيَا% يَقُولُ: يَكُونُ عَلَيْهِمْ بَيّنَةً لأَنّ مَا أَكَلُوا مِنْهَا أَكَلُوهُ عَلَى نِفَاقٍ، وَمَا أَنْفَقُوا فَإِنّمَا هُوَ رِيَاءٌ. ×وَلا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ% وَهُمْ الْبَكّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةٌ أَبُو لَيْلَى الْمَازِنِىّ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْمَازِنِىّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الأَسْلَمِىّ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِىّ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السّلَمِىّ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِىّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَمْرِىّ ×رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ% يَعْنِى مَعَ النّسَاءِ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ. ×وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ% كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ ابْنُ حِصْنٍ وَقَوْمُهُ مَعَهُ يُرْضُونَ أَصْحَابَ النّبِىّ ÷ وَيُرُونَهُمْ أَنّهُمْ مَعَهُمْ وَيُرْضُونَ قَوْمَهُمْ. ×وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ% مَنْ صَلّى الْقِبْلَتَيْنِ.

  • * *


غَزْوَةُ أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فِى رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَهِىَ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ؛ وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَعِمَادُهُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِى حَبِيبَةَ. قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ تَبُوكَ فِى أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إلَى أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ - وَكَانَ أُكَيْدِرٌ مِنْ كِنْدَةَ قَدْ مَلَكَهُمْ وَكَانَ نَصْرَانِيّا - فَقَالَ خَالِدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ لِى بِهِ وَسَطَ بِلادِ كَلْبٍ، وَإِنّمَا أَنَا فِى أُنَاسٍ يَسِيرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ فَتَأْخُذَهُ”، قَالَ: فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ الرّبَابُ بِنْتُ أُنَيْفِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ كِنْدَةَ، وَصَعِدَ عَلَى ظَهْرِ الْحِصْنِ مِنْ الْحَرّ، وَقَيْنَتُهُ تُغَنّيهِ، ثُمّ دَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، فَأَقْبَلَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْحِصْنِ، فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ الرّبَابُ فَأَشْرَفَتْ عَلَى الْحِصْنِ فَرَأَتْ الْبَقَرَ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ فِى اللّحْمِ هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ؟ قَالَ: لا، ثُمّ قَالَتْ: مَنْ يَتْرُكُ هَذَا؟ قَالَ: لا أَحَدَ، قَالَ: يَقُولُ أُكَيْدِرٌ: وَاَللّهِ مَا رَأَيْت جَاءَتْنَا لَيْلَةً بَقَرٌ غَيْرَ تِلْكَ اللّيْلَةِ، وَلَقَدْ كُنْت أُضْمِرُ لَهَا الْخَيْلَ إذَا أَرَدْت أَخْذَهَا شَهْرًا، أَوْ أَكْثَرَ، ثُمّ أَرْكَبُ بِالرّجَالِ وَبِالآلَةِ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ وَأَمَرَ بِخَيْلٍ فَأُسْرِجَتْ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَعَهُ أَخُوهُ حَسّانُ، وَمَمْلُوكَانِ، فَخَرَجُوا مِنْ حِصْنِهِمْ بِمَطَارِدِهِمْ فَلَمّا فَصَلُوا مِنْ الْحِصْنِ، وَخَيْلُ خَالِدٍ تَنْظُرُهُمْ لا يَصْهِلُ مِنْهَا فَرَسٌ، وَلا يَتَحَرّكُ، فَسَاعَةَ فَصَلَ أَخَذَتْهُ الْخَيْلُ فَاسْتَأْسَرَ أُكَيْدِرٌ، وَامْتَنَعَ حَسّانُ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَهَرَبَ الْمَمْلُوكَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَدَخَلُوا الْحِصْنَ، وَكَانَ عَلَى حَسّانَ قَبَاءُ دِيبَاجٍ مُخَوّصٌ بِالذّهَبِ فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِىّ حَتّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَخْذِهِمْ أُكَيْدِرًا. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ: رَأَيْنَا قَبَاءَ حَسّانَ أَخِى أُكَيْدِرٍ حِينَ قَدِمَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَمّسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ فَوَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا” . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: “إنْ ظَفِرْت بِأُكَيْدِرٍ فَلا تَقْتُلْهُ وَائْتِ بِهِ إلَىّ فَإِنّ أَبَى فَاقْتُلُوهُ”، فَطَاوَعَهُمْ. فَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ بُجَرَةَ مِنْ طَيّئٍ ذَكَرَ قَوْلَ النّبِىّ ÷ لِخَالِدٍ: “إنّك تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَر” وَمَا صَنَعَ الْبَقَرُ تِلْكَ اللّيْلَةَ بِبَابِ الْحِصْنِ تَصْدِيقُ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ شِعْرًا: تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنّى وَمَنْ يَكُ عَانِـــدًا عَنْ ذِى تَبُـــوكَ رَأَيْت اللّهَ يُهْدِى كُلّ هَادِ

فَإِنّــا قَــدْ أُمِرْنَــا بِالْجِهَــــــــادِ

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لأُكَيْدِرٍ: هَلْ لَك أَنْ أُجِيرَك مِنْ الْقَتْلِ حَتّى آتِىَ بِك رَسُولَ اللّهِ ÷ عَلَى أَنْ تَفْتَحَ لِى دُومَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ ذَلِكَ لَك، فَلَمّا صَالَحَ خَالِدٌ أُكَيْدِرًا، وَأُكَيْدِرٌ فِى وَثَاقٍ انْطَلَقَ بِهِ خَالِدٌ حَتّى أَدْنَاهُ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ وَنَادَى أُكَيْدِرٌ أَهْلَهُ افْتَحُوا بَابَ الْحِصْنَ فَرَأَوْا ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ مُضَادٌ أَخُو أُكَيْدِرٍ، فَقَالَ أُكَيْدِرٌ لِخَالِدٍ: تَعْلَمُ وَاَللّهِ لا يَفْتَحُونَ لِى مَا رَأَوْنِى فِى وَثَاقٍ فَخَلّ عَنّى فَلَك اللّهُ وَالأَمَانَةُ أَنْ أَفْتَحَ لَك الْحِصْنَ إنْ أَنْت صَالَحْتنِى عَلَى أَهْلِهِ، قَالَ خَالِدٌ: فَإِنّى أُصَالِحُك. فَقَالَ أُكَيْدِرٌ: إنْ شِئْت حَكّمْتُك وَإِنْ شِئْت حَكّمْنِى. قَالَ خَالِدٌ: بَلْ نَقْبَلُ مِنْك مَا أَعْطَيْت، فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَىْ بَعِيرٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رُمْحٍ عَلَى أَنْ يَنْطَلِقَ بِهِ وَأَخِيهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَيَحْكُمَ فِيهِمَا حُكْمَهُ، فَلَمّا قَاضَاهُ خَالِدٌ عَلَى ذَلِكَ خَلّى سَبِيلَهُ فَفُتِحَ الْحِصْنُ فَدَخَلَهُ خَالِدٌ وَأَوْثَقَ أَخَاهُ مُضَادًا أَخَا أُكَيْدِرٍ، وَأَخَذَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ الإِبِلِ وَالرّقِيقِ وَالسّلاحِ، ثُمّ خَرَجَ قَافِلاً إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أُكَيْدِرٌ وَمُضَادٌ، فَلَمّا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ صَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَحَقَنَ دَمَهُ وَدَمَ أَخِيهِ، وَخَلّى سَبِيلَهُمَا. وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كِتَابًا فِيهِ أَمَانُهُمْ وَمَا صَالَحَهُمْ وَخَتَمَهُ يَوْمَئِذٍ بِظُفْرِهِ. قَالُوا: وَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ اللّيْثِىّ وَكَانَ يَنْزِلُ نَاحِيَةَ الْمَدِينَةِ، حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَصَلّى مَعَهُ الصّبْحَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إذَا صَلّى الصّبْحَ انْصَرَفَ فَيَتَصَفّحُ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ. فَلَمّا دَنَا مِنْ وَاثِلَةَ أَنْكَرَهُ فَقَالَ: “مَنْ أَنْت”؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: “مَا جَاءَ بِك”؟ قَالَ: أُبَايِعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فِيمَا أَطَقْت”؟ قَالَ وَاثِلَةُ: “نَعَمْ”، فَبَايَعَهُ - وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ - فَخَرَجَ الرّجُلُ إلَى أَهْلِهِ فَلَقِىَ أَبَاهُ الأَسْقَعَ فَلَمّا رَأَى حَالَهُ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتهَا؟ قَالَ وَاثِلَةُ: نَعَمْ، قَالَ أَبُوهُ: وَاَللّهِ لا أُكَلّمُك أَبَدًا، فَأَتَى عَمّهُ وَهُوَ مُولِى ظَهْرَهُ الشّمْسَ فَسَلّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلامَهُ لائِمَةً أَيْسَرَ مِنْ لائِمَةِ أَبِيهِ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِى لَك أَنْ تَسْبِقَنَا بِأَمْرٍ، فَسَمِعْت أُخْتَ وَاثِلَةَ كَلامَهُ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ فَسَلّمَتْ عَلَيْهِ بِتَحِيّةِ الإِسْلامِ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: أَنّى لَك هَذَا يَا أُخَيّةُ؟ قَالَتْ: سَمِعْت كَلامَك وَكَلامَ عَمّك، وَكَانَ وَاثِلَةُ ذَكَرَ الإِسْلامَ وَوَصَفَهُ لِعَمّهِ فَأَعْجَبَ أُخْتَه الإِسْلامُ فَأَسْلَمَتْ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: لَقَدْ أَرَادَ اللّهُ بِك أُخَيّةُ خَيْرًا جَهّزِى أَخَاك جِهَازَ غَازٍ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ عَلَى جُنَاحِ سَفَرٍ، فَأَعْطَتْهُ مُدّا مِنْ دَقِيقٍ فَعَجَنَ الدّقِيقَ فِى الدّلْوِ وَأَعْطَتْهُ تَمْرًا فَأَخَذَهُ، وَأَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ تَحَمّلَ إلَى تَبُوكَ، وَبَقِىَ عِيرَاتٌ مِنْ النّاسِ وَهُمْ عَلَى الشّخُوصِ - وَإِنّمَا رَحَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ - فَجَعَلَ يُنَادِى بِسُوقِ بَنِى قَيْنُقَاعٍ مَنْ يَحْمِلُنِى وَلَهُ سَهْمِى، قَالَ: وَكُنْت رَجُلاً لا رِجْلَةَ لِى، فَدَعَانِى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا أَحْمِلُك عُقْبَةً بِاللّيْلِ وَعُقْبَةً بِالنّهَارِ، وَيَدُك أُسْوَةُ يَدِى وَلِى سَهْمُك، قَالَ وَاثِلَةُ: نَعَمْ، فَقَالَ وَاثِلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ: جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا لَقَدْ كَانَ يَحْمِلُنِى عُقْبَتَىّ وَيَزِيدُنِى، وَآكُلُ مَعَهُ وَيَرْفَعُ لِى، حَتّى إذَا بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرٍ الْكِنْدِىّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ خَرَجَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فِى جَيْشِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَخَرَجْت مَعَهُ فَأَصَبْنَا فِيهَا كَثِيرًا، فَقَسَمَهُ خَالِدٌ بَيْنَنَا، فَأَصَابَنِى سِتّ قَلائِصَ، فَأَقْبَلْت أَسُوقُهَا حَتّى جِئْت بِهَا خَيْمَةَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَقُلْت: اُخْرُجْ رَحِمَك اللّهُ فَانْظُرْ إلَى قَلائِصِك فَاقْبِضْهَا فَخَرَجَ إلَىّ وَهُوَ يَتَبَسّمُ وَيَقُولُ: بَارَكَ اللّهُ لَك فِيهَا مَا حَمَلْتُك وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْك شَيْئًا. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ رَحِمَهُ اللّهُ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَسَرْنَا أُكَيْدِرًا فَأَصَابَنِى مِنْ السّلاحِ دِرْعٌ وَبَيْضَةٌ وَرُمْحٌ وَأَصَابَنِى عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ. وَكَانَ بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىّ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَسَرْنَا أُكَيْدِرًا وَأَخَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِمَا عَلَى النّبِىّ ÷ وَعُزِلَ يَوْمَئِذٍ لِلنّبِىّ ÷ صَفِىّ خَالِصٌ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ شَيْءٌ مِنْ الْفَىْءِ، ثُمّ خَمّسَ الْغَنَائِمَ، فَكَانَ لِلنّبِىّ ÷ الْخُمْسَ. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِىّ، يَقُولُ: كُنّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ مَعَ خَالِدِ ابْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ سُهْمَانُنَا خُمْسَ فَرَائِضِ كُلّ رَجُلٍ مَعَ سِلاحٍ، يُقَسّمُ عَلَيْنَا دِرْعٌ وَرِمَاحٌ. قَالَ: حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِىّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْت أُكَيْدِرًا حِينَ قَدِمَ بِهِ خَالِدٌ وَعَلَيْهِ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَلَيْهِ الدّيبَاجُ ظَاهِرٌ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنِى شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ دُومَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لأُكَيْدِرٍ حِينَ أَجَابَ إلَى الإِسْلامِ، وَخَلَعَ الأَنْدَادَ، وَالأَصْنَامَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيْفِ اللّهِ فِى دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَأَكْنَافِهَا، وَإِنّ لَنَا الضّاحِيَةَ مِنْ الضّحْلِ وَالْبُورِ وَالْمَعَامِى، وَأَغْفَالِ الأَرْضِ وَالْحَلْقَةِ وَالسّلاحِ وَالْحَافِرِ وَالْحِصْنِ، وَلَكُمْ الضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ وَالْمَعِينُ مِنْ الْمَعْمُورِ بَعْدَ الْخُمُسِ لا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ، وَلا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ وَلا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ عُشْرُ الْبَتَاتِ تُقِيمُونَ الصّلاةَ لِوَقْتِهَا، وَتُؤْتُونَ الزّكَاةَ لِحَقّهَا، عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَلَكُمْ بِذَلِكَ الصّدْقُ وَالْوَفَاءُ، شَهِدَ اللّهُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِين”. قَالَ: الضّحْلُ الّذِى فِيهِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَالْبُورُ مَا لَيْسَ فِيهِ زَرْعٌ، وَالْمَعَامِى مَا لَيْسَتْ لَهُ حُدُودٌ مَعْلُومَةٌ، وَأَغْفَالُ الأَرْضِ مِيَاهٌ، وَلا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ يَقُولُ: لا يُعَدّ مَا يَبْلُغُ أَرْبَعِينَ شَاةً وَالْحَافِرُ الْخَيْلُ وَالْمَعِينُ الْمَاءُ الظّاهِرُ وَالضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ النّبَاتُ مِنْ النّخْلِ الّتِى قَدْ نَبَتَتْ عُرُوقُهَا فِى الأَرْضِ، وَلا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ، وَلا تُمْنَعُوا أَنْ تَزْرَعُوهُ. قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ هَدِيّةً فِيهَا كِسْوَةٌ وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ كِتَابًا آمَنَهُ فِيهِ وَفِيهِ الصّلْحُ، وَآمَنَ أَخَاهُ وَوَضَعَ عَلَيْهِ فِيهِ الْجِزْيَةَ، فَلَمْ يَكُ فِى يَدِ النّبِىّ ÷ خَاتَمٌ فَخَتَمَهُ بِظُفْرِهِ. وَكَانَتْ دُومَةُ، وَأَيْلَةُ، وَتَيْمَاءُ، قَدْ خَافُوا النّبِىّ ÷ لَمّا رَأَوْا الْعَرَبَ قَدْ أَسْلَمَتْ، وَقَدِمَ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى النّبِىّ ÷ وَكَانَ مَلَكَ أَيْلَةَ، وَأَشْفَقُوا أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَمَا بَعَثَ إلَى أُكَيْدِرٍ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ، فَأَتَوْهُ فَصَالَحَهُمْ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً. وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ وَمُحَمّدٍ النّبِىّ رَسُولِ اللّهِ لِيَحْنَةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، لِسُفُنِهِمْ وَسَائِرِهِمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشّامِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَإِنّهُ لا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ، وَإِنّهُ لا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يُرِيدُونَهُ، وَلا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ” . هَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ أَيْلَةَ؛ ثَلاثَمِائَةِ دِينَارٍ كُلّ سَنَةٍ وَكَانُوا ثَلاثَمِائَةِ رَجُلٍ. قَالَ: حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِىّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْت يُحَنّةَ بْنَ رُؤْبَةَ يَوْمَ أُتِىَ بِهِ إلَى النّبِىّ ÷ عَلَيْهِ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ مَعْقُودُ النّاصِيَةِ، فَلَمّا رَأَى النّبِىّ ÷ كَفّرَ وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ النّبِىّ ÷ ارْفَعْ رَأْسَك وَصَالَحَهُ يَوْمَئِذٍ وَكَسَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بُرْدًا يُمْنَةً وَأَمَرَ لَهُ بِمَنْزِلٍ عِنْدَ بِلالٍ. وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ: “هَذَا الْكِتَابَ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِىّ رَسُولِ اللّهِ لأَهْلِ أَذْرُحَ؛ أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِى كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ، وَاَللّهُ كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ”. قَالَ الْوَاقِدِىّ: نَسَخْت كِتَابَ أَذْرُحَ وَإِذَا فِيهِ: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِىّ ÷ لأَهْلِ أَذْرُحَ، أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ، وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِى كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ، وَاَللّهُ كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالنّصْحِ وَالإِحْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَجَأَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَخَافَةِ وَالتّعْزِيرِ إذْ خَشَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ آمِنُونَ حَتّى يُحْدِثَ إلَيْهِمْ مُحَمّدٌ قَبْلَ خُرُوجِه”. قَالُوا: وَكَتَبَ لأَهْلِ مَقْنَا أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ وَأَنّ عَلَيْهِمْ رُبْعَ غُزُولِهِمْ وَرُبْعَ ثِمَارِهِمْ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرِ بْنِ نُمَيْرٍ أَحَدَ سَعْدِ اللّهِ، وَرَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ أَحَدَ بَنِى وَائِلٍ، قَدِمَا عَلَى النّبِىّ ÷ بِتَبُوكَ، فَأَسْلَمَا وَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ رُبْعَ مَقْنَا مِمّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ، وَمِنْ الثّمَرِ مِنْ نَخْلِهَا، وَرُبْعَ الْمَغْزِلِ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرٍ فَارِسًا، وَكَانَ الْجُذَامِىّ رَاجِلاً، فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ ÷ فَرَسَ عُبَيْدِ بْنِ يَاسِرٍ مِائَةَ ضَفِيرَةٍ - وَالضّفِيرَةُ الْحُلّةُ - فَلَمْ يَزَلْ يَجْرِى ذَلِكَ عَلَى بَنِى سَعْدٍ، وَبَنِىّ وَائِلٍ إلَى يَوْمِ النّاسِ هَذَا. ثُمّ إنّ عُبَيْدَ بْنَ يَاسِرٍ قَدِمَ مَقْنَا وَبِهَا يَهُودِيّةٌ وَكَانَتْ الْيَهُودِيّةُ تَقُومُ عَلَى فَرَسِهِ فَأَعْطَاهَا سِتّينَ ضَفِيرَةً مِنْ ضَفَائِرِ فَرَسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْرِى عَلَى الْيَهُودِيّةِ حَتّى نُزِعَتْ آخِرَ زَمَانِ بَنِى أُمَيّةَ فَلَمْ تُرَدّ إلَيْهَا، وَلا إلَى وَلَدِ عُبَيْدٍ. وَكَانَ عُبَيْدٌ قَدْ أَهْدَى لِلنّبِىّ ÷ فَرَسًا عَتِيقًا، يُقَالُ لَهُ: مُرَاوِحُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ سَابِقْ فَأَجْرَى رَسُولُ اللّهِ ÷ الْخَيْلَ بِتَبُوكَ فَسَبَقَ الْفَرَسُ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْهُ فَسَأَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْفَرَسَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيْنَ سَبْحَةُ”؟ فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا بَدْرًا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ عِنْدِى، وَقَدْ كَبِرَتْ وَأَنَا أَضِنّ بِهَا لِلْمَوَاطِنِ الّتِى شَهِدْت عَلَيْهَا؛ وَقَدْ خَلّفْتهَا لِبُعْدِ هَذَا السّفَرِ وَشِدّةِ الْحَرّ عَلَيْهَا، فَأَرَدْت أُحَمّلُ هَذَا الْفَرَسَ الْمُعْرِقَ عَلَيْهَا فَتَأْتِينِى بِمُهْرٍ. قَالَ النّبِىّ ÷: “فَذَاكَ إذًا فَقَبَضَهُ الْمِقْدَادُ، فَخَبِرَ مِنْهُ صِدْقًا”، ثُمّ حَمّلَهُ عَلَى سَبْحَةَ فَنَتَجَتْ لَهُ مُهْرًا كَانَ سَابِقًا يُقَالُ لَهُ: الذّيّالُ سَبَقَ فِى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَابْتَاعَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ بِثَلاثِينَ أَلْفًا. قَالُوا: وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِتَبُوكَ يُرِيدُ حَاجَتَهُ فَرَأَى نَاسًا مُجْتَمِعِينَ فَقَالَ: “مَا لَهُمْ”؟ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ بَعِيرٌ لِرَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِىّ نَحَرَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ فَخَلّى بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَرُدّ رَافِعُ مَا أَخَذَ، وَمَا أَخَذَهُ النّاسُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذِهِ نُهْبَةٌ لا تَحِلّ”، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ صَاحِبَهُ أَذِنَ فِى أَخْذِهِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَإِنّ أَذِنَ فِى أَخْذِهِ”، قَالُوا: وَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَىّ الصّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “ظِلّ خِبَاءٍ فِى سَبِيلِ اللّهِ أَوْ خِدْمَةُ خَادِمٍ فِى سَبِيلِ اللّهِ أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِى سَبِيلِ اللّهِ”. وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يُحَدّثُ يَقُولُ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى تَبُوكَ فَقَالَ: “اقْطَعُوا قَلائِدَ الإِبِلِ مِنْ الإِبِلِ”. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: “لا تُقَلّدُوهَا بِالأَوْتَارِ”. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ اسْتَعْمَلَ عَلَى حَرَسِهِ بِتَبُوكَ مِنْ يَوْمِ قَدِمَ إلَى أَنْ رَحَلَ مِنْهَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَكَانَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ يَطُوفُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِى الْعَسْكَرِ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ صَوْتَ تَكْبِيرٍ مَنْ وَرَائِنَا حَتّى أَصْبَحْنَا، فَوَلّيْت أَحَدَنَا يَطُوفُ عَلَى الْحَرَسِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَا فَعَلْت، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَيْلِنَا اُنْتُدِبَ”، فَقَالَ سِلْكَانُ ابْنُ سَلامَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ خَرَجْت فِى عَشْرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَيْلِنَا فَكُنّا نَحْرُسُ الْحَرَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “رَحِمَ اللّهُ حَرَسَ الْحَرَسِ فِى سَبِيلِ اللّهِ”، قَالَ: “فَلَكُمْ قِيرَاطٌ مِنْ الأَجْرِ عَلَى كُلّ مَنْ حَرَسْتُمْ مِنْ النّاسِ جَمِيعًا أَوْ دَابّةٌ”. قَالُوا: وَقَدِمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِى سَعْدِ هُذَيْمٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدِمْنَا عَلَيْك وَتَرَكْنَا أَهْلَنَا عَلَى بِئْرٍ لَنَا، قَلِيلٌ مَاؤُهَا، وَهَذَا الْقَيْظُ وَنَحْنُ نَخَافُ إنْ تَفَرّقْنَا أَنْ نُقْتَطَعَ لأَنّ الإِسْلامَ لَمْ يَفْشُ حَوْلَنَا بَعْدُ فَادْعُ اللّهَ لَنَا فِى مَاءِ بِئْرِنَا، وَإِنْ رُوِينَا بِهِ فَلا قَوْمَ أَعَزّ مِنّا، لا يَعْبُرُ بِنَا أَحَدٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَبْلِغُونِى حَصَيَاتٍ”، فَتَنَاوَلْت ثَلاثَ حَصَيَاتٍ فَدَفَعْتهنّ إلَيْهِ فَفَرَكَهُنّ بِيَدِهِ، ثُمّ قَالَ: “اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْحَصَيَاتِ إلَى بِئْرِكُمْ فَاطْرَحُوهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَسَمّوا اللّهَ”، فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَاشَتْ بِئْرُهُمْ بِالرّوَاءِ، وَنَفَوْا مَنْ قَارَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَوَطِئُوهُمْ، فَمَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى أَوْطَئُوا مَنْ حَوْلَهُمْ عَلَيْهِ وَدَانُوا بِالإِسْلامِ. قَالُوا: وَكَان زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ تَبُوكَ، فَكُنّا نَشْتَرِى وَنَبِيعُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَرَانَا وَلا يَنْهَانَا. قَالَ: وَكَانَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَقَمْنَا بِتَبُوكَ الْمُقَامَ فَأَرْمَلْنَا مِنْ الزّادِ وَقَرَمْنَا إلَى اللّحْمِ، وَنَحْنُ لا نَجِدُهُ فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ ÷ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّحْمَ هَاهُنَا، وَقَدْ سَأَلْت أَهْلَ الْبَلَدِ عَنْ الصّيْدِ فَذَكَرُوا لِى صَيْدًا قَرِيبًا - فَأَشَارُوا إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ - فَأَذْهَبُ فَأَصِيدُ فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنْ ذَهَبْت فَاذْهَبْ فِى عِدّةٍ مِنْ أَصْحَابِك، وَكُونُوا عَلَى خَيْلٍ، فَإِنّكُمْ تَتَفَرّقُونَ مِنْ الْعَسْكَرِ”. قَالَ: فَانْطَلَقَتْ فِى عَشْرَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَكَانَ صَاحِبَ طَرْدٍ بِالرّمْحِ وَكُنْت رَامِيًا - فَطَلَبْنَا الصّيْدَ فَأَدْرَكْنَا صَيْدًا، فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ خَمْسَةَ أَحْمِرَةٍ بِالرّمْحِ عَلَى فَرَسِهِ وَرَمَيْت قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ ظَبْيًا، وَأَخَذَ أَصْحَابُنَا الظّبْيَيْنِ وَالثّلاثَةَ وَالأَرْبَعَةَ، وَأَخَذْنَا نَعَامَةً طَرَدْنَاهَا عَلَى خَيْلِنَا، ثُمّ رَجَعْنَا إلَى الْعَسْكَرِ فَجِئْنَاهُمْ عِشَاءً وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَسْأَلُ عَنّا: “مَا جَاءُوا بَعْدُ”؟ فَجِئْنَا إلَيْهِ فَأَلْقَيْنَا ذَلِكَ الصّيْدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: “فَرّقُوهُ فِى أَصْحَابِكُمْ”، قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْت مُرْ بِهِ رَجُلاً، قَالَ: فَأَمَرَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، قَالَ: فَجَعَلْت أُعْطِى الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا الْحِمَارَ وَالظّبْىَ وَأُفَرّقُ ذَلِكَ حَتّى كَانَ الّذِى صَارَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ ظَبْىٌ وَاحِدٌ مَذْبُوحٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُبِخَ فَلَمّا نَضِجَ دَعَا بِهِ - وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ - فَأَكَلُوا، وَنَهَانَا بَعْدَ أَنْ نَعُودَ، وَقَالَ: “لا آمَنُ”، أَوْ قَالَ: “أَخَافُ عَلَيْكُمْ”. حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ، عَن عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: كُنْت أَلْزَمُ بَابَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى الْحَضَرِ وَالسّفَرِ فَرَأَيْتنَا لَيْلَةً، وَنَحْنُ بِتَبُوكَ، وَذَهَبْنَا لِحَاجَةٍ فَرَجَعْنَا إلَى مَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَقَدْ تَعَشّى وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَضْيَافِهِ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِى قُبّتِهِ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِى أُمَيّةَ، فَلَمّا طَلَعْت عَلَيْهِ، قَالَ: “أَيْنَ كُنْت مُنْذُ اللّيْلَةِ”؟ فَأَخْبَرْته، فَطَلَعَ جِعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مُغَفّلٍ الْمُزَنِىّ - فَكُنّا ثَلاثَةً كُلّنَا جَائِعٌ إنّمَا نَعِيشُ بِبَابِ النّبِىّ ÷ - فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْبَيْتَ فَطَلَبَ شَيْئًا نَأْكُلُهُ، فَلَمْ يَجِدْهُ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَنَادَى بِلالاً: “يَا بِلالُ هَلْ مِنْ عَشَاءٍ لِهَؤُلاءِ النّفَرِ”؟ قَالَ: لا وَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ نَفَضْنَا جُرُبَنَا وَحُمُتَنَا، قَالَ: “اُنْظُرْ عَسَى أَنْ تَجِدَ شَيْئًا”، فَأَخَذَ الْجُرُبَ يَنْفُضُهَا جِرَابًا جِرَابًا، فَتَقَعُ التّمْرَةُ وَالتّمْرَتَانِ حَتّى رَأَيْت بَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، ثُمّ دَعَا بِصَحْفَةٍ فَوَضَعَ فِيهَا التّمْرَ، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى التّمَرَاتِ وَسَمّى اللّهَ، وَقَالَ: “كُلُوا بِسْمِ اللّهِ”، فَأَكَلْنَا فَأَحْصَيْت أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ تَمْرَةً أَكَلْتهَا، أَعُدّهَا وَنَوَاهَا فِى يَدِى الأُخْرَى، وَصَاحِبَاىَ يَصْنَعَانِ مَا أَصْنَعُ وَشَبِعْنَا، وَأَكَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنّا خَمْسِينَ تَمْرَةً، وَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا، فَإِذَا التّمَرَاتُ السّبْعُ كَمَا هِىَ فَقَالَ: “يَا بِلالُ ارْفَعْهَا فِى جِرَابِك، فَإِنّهُ لا يَأْكُلُ مِنْهَا أَحَدٌ إلاّ نَهِلَ شِبَعًا”. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ قُبّةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَكَانَ يَتَهَجّدُ مِنْ اللّيْلِ فَقَامَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يُصَلّى، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكَعَ رَكْعَتَىْ الْفَجْرِ، وَأَذّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ، فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالنّاسِ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى فِنَاءِ قُبّتِهِ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَرَأَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَشْرًا، فَقَالَ: “هَلْ لَكُمْ فِى الْغَدَاءِ”؟ قَالَ عِرْبَاضٌ: فَجَعَلْت أَقُولُ فِى نَفْسِى: أَىّ غَدَاءٍ؟ فَدَعَا بِلالٌ بِالتّمْرِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فِى الصّحْفَةِ، ثُمّ قَالَ: “كُلُوا بِسْمِ اللّهِ”، فَأَكَلْنَا - وَاَلّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقّ - حَتّى شَبِعْنَا وَإِنّا لَعَشْرَةٌ، ثُمّ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ مِنْهَا شِبَعًا، وَإِذَا التّمَرَاتُ كَمَا هِىَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَوْلا أَنّى أَسْتَحْيِىَ مِنْ رَبّى لأَكَلْنَا مِنْ هَذَا التّمْرِ حَتّى نَرِدَ الْمَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا”. وَطَلَعَ غُلَيْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ ÷ التّمَرَاتِ بِيَدِهِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَوَلّى الْغُلامُ يَلُوكُهُنّ، فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَسِيرَ مِنْ تَبُوكَ أَرْمَلَ النّاسُ إرْمَالاً شَدِيدًا، فَشَخَصَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ حَتّى جَاءَ النّاسُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ يَسْتَأْذِنُونَهُ أَنْ يَنْحَرُوا رِكَابَهُمْ فَيَأْكُلُوهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ وَهُمْ عَلَى نَحْرِهَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ نَحْرِهَا، ثُمّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى خَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَذِنْت لِلنّاسِ فِى نَحْرِ حَمُولَتِهِمْ يَأْكُلُونَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “شَكَوْا إلَىّ مَا بَلَغَ مِنْهُمْ الْجُوعُ، فَأَذِنْت لَهُمْ يَنْحَرُ الرّفْقَةُ الْبَعِيرَ وَالْبَعِيرَيْنِ وَيَتَعَاقَبُونَ فِيمَا فَضَلَ مِنْ ظَهْرِهِمْ وَهُمْ قَافِلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ”. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لا تَفْعَلْ فَإِنْ يَكُنْ لِلنّاسِ فَضْلٌ مِنْ ظَهْرِهِمْ يَكُنْ خَيْرًا، فَالظّهْرُ الْيَوْمَ رِقَاقٌ وَلَكِنْ اُدْعُ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمّ اجْمَعْهَا فَادْعُ اللّهَ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ كَمَا فَعَلْت فِى مُنْصَرَفِنَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ أَرْمَلْنَا، فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَسْتَجِيبُ لَك فَنَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللّهِ: “مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَأْتِ بِهِ”، وَأَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَجَعَلَ الرّجُلُ يَأْتِى بِالْمُدّ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ وَالْقَبْضَةِ مِنْ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ وَالْكِسَرِ، فَيُوضَعُ كُلّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حِدَةٍ، وَكُلّ ذَلِكَ قَلِيلٌ، فَكَانَ جَمِيعُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الدّقِيقِ وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ ثَلاثَةَ أَفْرَاقٍ حَزْرًا، ثُمّ قَامَ فَتَوَضّأَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ دَعَا اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُبَارِكَ فِيه. فَكَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ يُحَدّثُونَ جَمِيعًا حَدِيثًا وَاحِدًا، حَضَرُوا ذَلِكَ وَعَايَنُوهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حُمَيْدٍ السّاعِدِىّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الْجُهَنِىّ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السّاعِدِىّ، قَالُوا: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَنَادَى مُنَادِيهِ: “هَلُمّوا إلَى الطّعَامِ خُذُوا مِنْهُ حَاجَتَكُمْ”، وَأَقْبَلَ النّاسُ فَجَعَلَ كُلّ مَنْ جَاءَ بِوِعَاءٍ مَلأَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ طَرَحْت يَوْمَئِذٍ كِسْرَةً مِنْ خُبْزٍ وَقَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وَلَقَدْ رَأَيْت الأَنْطَاعَ تَفِيضُ وَجِئْت بِجِرَابَيْنِ فَمَلأْت إحْدَاهُمَا سَوِيقًا، وَالآخَرَ خُبْزًا، وَأَخَذْت فِى ثَوْبِى دَقِيقًا، مَا كَفَانَا إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَتَزَوّدُونَ الزّادَ حَتّى نَهِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ حَتّى كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أُخِذَتْ الأَنْطَاعُ وَنُثِرَ مَا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ: “أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّى عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشْهَدُ أَنّهُ لا يَقُولُهَا أَحَدٌ مِنْ حَقِيقَةِ قَلْبِهِ إلاّ وَقَاهُ اللّهُ حَرّ النّارِ”. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَافِلاً حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ تَبُوكَ وَوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِى النّاقَةِ - وَكَانَ فِيهِ وَشَلٌ يَخْرُجُ مِنْهُ فِى أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يَرْوِى الرّاكِبَيْنِ أَوْ الثّلاثَةَ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “مَنْ سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَشَلِ فَلا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِىَ”، فَسَبَقَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطّائِىّ، حَلِيفٌ فِى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلَمْ أَنْهَكُمْ”؟ وَلَعَنَهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الْوَشَلِ، ثُمّ مَسَحَهُ بِإِصْبَعِهِ حَتّى اجْتَمَعَ فِى كَفّهِ مِنْهُ مَاءٌ قَلِيلٌ، ثُمّ نَضَحَهُ ثُمّ مَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فَانْخَرَقَ الْمَاءُ، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْت لَهُ شِدّةً فِى انْحِرَافِهِ مِثْلَ الصّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النّاسُ مَا شَاءُوا، وَسَقَوْا مَا شَاءُوا، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَئِنْ بَقِيتُمْ - أَوْ بَقِىَ مِنْكُمْ - لَتَسْمَعُنّ بِهَذَا الْوَادِى وَهُوَ أَخْصَبُ مِمّا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِمّا خَلْفَهُ”، قَالَ: وَاسْتَقَى النّاسُ وَشَرِبُوا. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وَقّشٍ: قُلْت لِوَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ: وَيْلَك، أَبَعْدَ مَا تَرَى شَيْءٌ؟ أَمَا تَعْتَبِرُ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا قَبْلَ هَذَا، ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخُو عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ الْمَازِنِىّ، عَنْ خَلاّدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ نَسِيرُ فِى الْجَيْشِ لَيْلاً، وَهُوَ قَافِلٌ وَأَنَا مَعَهُ إذْ خَفَقَ خَفْقَةً وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَمَالَ عَلَى شِقّهِ فَدَنَوْت مِنْهُ فَدَعَمْته فَانْتَبَهَ فَقَالَ: “مَنْ هَذَا”؟ قُلْت: أَبُو قَتَادَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ خِفْت أَنْ تَسْقُطَ فَدَعَمْتُك. فَقَالَ: “حَفِظَك اللّهُ كَمَا حَفِظْت رَسُولَ اللّهِ”، ثُمّ سَارَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمّ فَعَلَ مِثْلَهَا، فَدَعَمْته فَانْتَبَهَ، فَقَالَ: “يَا أَبَا قَتَادَةَ، هَلْ لَك فِى التّعْرِيسِ”؟ فَقُلْت: مَا شِئْت يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ: “اُنْظُرْ مَنْ خَلْفَك فَنَظَرْت”، فَإِذَا رَجُلانِ أَوْ ثَلاثَةٌ، فَقَالَ: اُدْعُهُمْ، فَقُلْت: أَجِيبُوا رَسُولَ اللّهِ فَجَاءُوا فَعَرّسْنَا، وَنَحْنُ خَمْسَةٌ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَمَعِى إدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ وَرَكْوَةٌ لِى أَشْرَبُ فِيهَا؛ فَنِمْنَا فَمَا انْتَبَهْنَا إلاّ بِحَرّ الشّمْسِ فَقُلْنَا: إنّا لِلّهِ فَاتَنَا الصّبْحُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَنَغِيظَنّ الشّيْطَانَ كَمَا أَغَاظَنَا”، فَتَوَضّأَ مِنْ مَاءِ الإِدَاوَةِ فَفَضَلَ فَضْلَةٌ، فَقَالَ: “يَا أَبَا قَتَادَةَ، احْتَفِظْ بِمَا فِى الإِدَاوَةِ وَالرّكْوَةِ فَإِنّ لَهَا شَأْنًا”، ثُمّ صَلّى بِنَا الْفَجْرَ بَعْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ فَقَرَأَ بِالْمَائِدَةِ فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ الصّلاةِ قَالَ: “أَمَا إنّهُمْ لَوْ أَطَاعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَرَشَدُوا”، وَذَلِك أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَرَادَا أَنْ يَنْزِلا بِالْجَيْشِ عَلَى الْمَاءِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، فَنَزَلُوا عَلَى غَيْرِ مَاءٍ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَلَحِقَ الْجَيْشَ عِنْدَ زَوَالِ الشّمْسِ وَنَحْنُ مَعَهُ وَقَدْ كَادَتْ تُقْطَعُ أَعْنَاقُ الرّجَالِ وَالْخَيْلِ عَطَشًا، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالرّكْوَةِ فَأَفْرَغَ مَا فِى الإِدَاوَةِ فِيهَا، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَيْهَا فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَأَقْبَلَ النّاسُ فَاسْتَقَوْا، وَفَاضَ الْمَاءُ حَتّى تَرَوّوْا، وَأَرْوَوْا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ، فَإِنْ كَانَ فِى الْعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَعِيرٍ - وَيُقَالُ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ بَعِيرٍ - وَالنّاسُ ثَلاثُونَ أَلْفًا، وَالْخَيْلُ عَشْرَةُ آلافٍ. وَذَلِكَ قَوْلُ النّبِىّ ÷ لأَبِى قَتَادَةَ: “احْتَفِظْ بِالرّكْوَةِ وَالإِدَاوَةِ”. وَكَانَ فِى تَبُوكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسِيرُ مُنْحَدِرًا إلَى الْمَدِينَةِ - وَهُوَ فِى قَيْظٍ شَدِيدٍ - عَطِشَ الْعَسْكَرُ بَعْدَ الْمَرّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ عَطَشًا شَدِيدًا، حَتّى لا يُوجَدُ لِلشّفَةِ مَاءٌ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَأَرْسَلَ أُسَيْدَ ابْنَ حُضَيْرٍ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ مُتَلَثّمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “عَسَى أَنْ تَجِدَ لَنَا مَاءً”، فَخَرَجَ - وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ وَتَبُوكَ - فَجَعَلَ يَضْرِبُ فِى كُلّ وَجْهٍ فَيَجِدُ رَاوِيَةً مِنْ مَاءٍ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ بَلِىّ، وَكَلّمَهَا أُسَيْدٌ فَخَبّرَهَا بِخَبَرِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَتْ: هَذَا الْمَاءُ، فَانْطَلِقْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ وَقَدْ وَضَعَتْ لَهُمْ الْمَاءَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّرِيقِ هُنَيّةٌ، فَلَمّا جَاءَ أُسَيْدٌ بِالْمَاءِ دَعَا فِيهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَرَكَةِ، ثُمّ قَالَ: “هَلُمّوا أَسْقِيَتَكُمْ”، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ سِقَاءٌ إلاّ مَلَئُوهُ، ثُمّ دَعَا بِرِكَابِهِمْ وَخُيُولِهِمْ فَسَقَوْهَا حَتّى نَهِلَتْ، وَيُقَالُ: إنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِمَا جَاءَ بِهِ أُسَيْدٌ وَصَبّهُ فِى قَعْبٍ عَظِيمٍ مِنْ عِسَاسِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَأَدْخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِيهِ يَدَهُ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا، ثُمّ انْصَرَفَ وَإِنّ الْقَعْبَ لَيَفُورُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلنّاسِ: “زَوّدُوا”، فَاتّسَعَ الْمَاءُ وَانْبَسَطَ النّاسُ حَتّى يُصَفّ عَلَيْهِ الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ فَأَرْوَوْا، وَإِنّ الْقَعْبَ لَيَجِيشُ بِالرّوَاءِ، ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مُبْرِدًا مُتَرَوّيًا مِنْ الْمَاءِ. قَالَ: وَحَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِى سَهْلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: خَرَجَتْ الْخَيْلُ فِى كُلّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَ الْمَاءَ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ طَلَعَ بِهِ وَبِخَبَرِهِ صَاحِبُ فَرَسٍ أَشْقَرَ، ثُمّ الثّانِى أَشْقَرُ، ثُمّ الثّالِثُ أَشْقَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “اللّهُمّ بَارِكْ فِى الشّقْرِ”. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِى عُبَيْدَةَ، وَسَعْدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِى مُرّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “خَيْرُ الْخَيْلِ الشّقْرُ”. قَالُوا: لَمّا كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِبَعْضِ الطّرِيقِ مَكَرَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَائْتَمَرُوا أَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ عَقَبَةٍ فِى الطّرِيقِ، فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ ÷ تِلْكَ الْعَقَبَةَ أَرَادُوا أَنْ يَسْلُكُوهَا مَعَهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ لِلنّاسِ: “اُسْلُكُوا بَطْنَ الْوَادِى، فَإِنّهُ أَسْهَلُ لَكُمْ وَأَوْسَعُ”، فَسَلَكَ النّاسُ بَطْنَ الْوَادِى وَسَلَكَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْعَقَبَةَ، وَأَمَرَ عَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النّاقَةِ يَقُودُهَا، وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَسُوقُ مِنْ خَلْفِهِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يَسِيرُ فِى الْعَقَبَةِ إذْ سَمِعَ حِسّ الْقَوْمِ قَدْ غَشَوْهُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدّهُمْ فَرَجَعَ حُذَيْفَةُ إلَيْهِمْ، وَقَدْ رَأَوْا غَضَبَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَجَعَلَ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنٍ فِى يَدِهِ، وَظَنّ الْقَوْمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ أُطْلِعَ عَلَى مَكْرِهِمْ فَانْحَطّوا مِنْ الْعَقَبَةِ مُسْرِعِينَ حَتّى خَالَطُوا النّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَسَاقَ بِهِ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْعَقَبَةِ نَزَلَ النّاسُ، فَقَالَ النّبِىّ ÷: “يَا حُذَيْفَةُ هَلْ عَرَفْت أَحَدًا مِنْ الرّكْبِ الّذِينَ رَدَدْتهمْ”؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ عَرَفْت رَاحِلَةَ فُلانٍ وَفُلانٍ وَكَانَ الْقَوْمُ مُتَلَثّمِينَ فَلَمْ أُبْصِرْهُمْ مِنْ أَجْلِ ظُلْمَةِ اللّيْلِ. وَكَانُوا قَدْ أَنْفَرُوا بِالنّبِىّ ÷ فَسَقَطَ بَعْضُ مَتَاعِ رَحْلِهِ فَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَسْلَمِىّ يَقُولُ: فَنُوّرَ لِى فِى أَصَابِعِى الْخَمْسِ فَأُضِئْنَ حَتّى كُنّا نَجْمَعُ مَا سَقَطَ مِنْ السّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِمَا، حَتّى مَا بَقِىَ مِنْ الْمَتَاعِ شَيْءٌ إلاّ جَمَعْنَاهُ، وَكَانَ لَحِقَ النّبِىّ ÷ فِى الْعَقَبَةِ. فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا مَنَعَك الْبَارِحَةَ مِنْ سُلُوكِ الْوَادِى، فَقَدْ كَانَ أَسْهَلَ مِنْ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: “يَا أَبَا يَحْيَى، أَتَدْرِى مَا أَرَادَ الْبَارِحَةَ الْمُنَافِقُونَ وَمَا اهْتَمّوا بِهِ؟ قَالُوا: نَتْبَعُهُ فِى الْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَظْلَمَ اللّيْلُ عَلَيْهِ قَطَعُوا أَنْسَاعَ رَاحِلَتِى وَنَخَسُوهَا حَتّى يَطْرَحُونِى مِنْ رَاحِلَتِى”. فَقَالَ أُسَيْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَدْ اجْتَمَعَ النّاسُ وَنَزَلُوا، فَمُرْ كُلّ بَطْنٍ أَنْ يَقْتُلَ الرّجُلَ الّذِى هَمّ بِهَذَا، فَيَكُونُ الرّجُلُ مِنْ عَشِيرَتِهِ هُوَ الّذِى يَقْتُلُهُ، وَإِنْ أَحْبَبْت، وَاَلّذِى بَعَثَك بِالْحَقّ فَنَبّئْنِى بِهِمْ فَلا تَبْرَحُ حَتّى آتِيَكُمْ بِرُءُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِى النّبِيتِ فَكَفَيْتُكَهُمْ وَأَمَرْت سَيّدَ الْخَزْرَجِ فَكَفَاك مَنْ فِى نَاحِيَتِهِ، فَإِنّ مِثْلَ هَؤُلاءِ يُتْرَكُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ حَتّى مَتَى نُدَاهِنُهُمْ وَقَدْ صَارُوا الْيَوْمَ فِى الْقِلّةِ وَالذّلّةِ وَضَرَبَ الإِسْلامُ بِجِرَانِهِ فَمَا يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأُسَيْدٍ: “إنّى أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ النّاسُ إنّ مُحَمّدًا لَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَضَعَ يَدَهُ فِى قَتْلِ أَصْحَابِهِ”، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، فَهَؤُلاءِ لَيْسُوا بِأَصْحَابٍ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلَيْسَ يُظْهِرُونَ شَهَادَةَ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ”؟ قَالَ: بَلَى، وَلا شَهَادَةَ لَهُمْ، قَالَ: “أَلَيْسَ يُظْهِرُونَ أَنّى رَسُولُ اللّهِ”؟ قَالَ: بَلَى، وَلا شَهَادَةَ لَهُمْ، قَالَ: “فَقَدْ نُهِيت عَنْ قَتْلِ أُولَئِكَ”. قَالَ: حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْعَقَبَةِ الّذِينَ أَرَادُوا بِالنّبِىّ ÷ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، قَدْ سَمّاهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِحُذَيْفَةَ وَعَمّارٍ رَحِمَهُمَا اللّهُ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَنَازَعَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِى شَيْءٍ فَاسْتَبّا، فَلَمّا كَادَ الرّجُلُ يَعْلُو عَمّارًا فِى السّبَابِ، قَالَ عَمّارٌ: كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: اللّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَخْبِرْنِى عَنْ عِلْمِكُمْ بِهِمْ فَسَكَتَ الرّجُلُ، فَقَالَ: مَنْ حَضَرَ بَيّنِ لِصَاحِبِك مَا سَأَلَك عَنْهُ، وَإِنّمَا يُرِيدُ عَمّارٌ شَيْئًا قَدْ خَفِىَ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَ الرّجُلُ أَنْ يُحَدّثَهُ، وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَى الرّجُلِ، فَقَالَ الرّجُلُ: كُنّا نَتَحَدّثُ أَنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلاً. قَالَ عَمّارٌ: فَإِنّك إنْ كُنْت مِنْهُمْ فَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَقَالَ الرّجُلُ: مَهْلاً، أَذَكّرَك اللّهُ أَنْ تَفْضَحَنِى، فَقَالَ عَمّارٌ: وَاَللّهِ مَا سَمّيْت أَحَدًا، وَلَكِنّى أَشْهَدُ أَنّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فِى الْحَيَاةِ الدّنْيَا؛ وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأُوحِىَ إلَيْهِ وَرَاحِلَتُهُ بَارِكَةٌ فَقَامَتْ رَاحِلَتُهُ تَجُرّ زِمَامَهَا حَتّى لَقِيَهَا حُذَيْفَةُ ابْنُ الْيَمَانِ فَأَخَذَ بِزِمَامِهَا فَاقْتَادَهَا حِينَ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ جَالِسًا، فَأَنَاخَهَا ثُمّ جَلَسَ عِنْدَهَا حَتّى قَامَ النّبِىّ ÷ فَأَتَاهُ فَقَالَ: “مَنْ هَذَا”؟ قَالَ. أَنَا حُذَيْفَةُ، فَقَالَ النّبِىّ ÷. فَإِنّى مُسِرّ إلَيْك أَمْرًا فَلا تَذْكُرَنّهُ إنّى نُهِيت أَنْ أُصَلّىَ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ وَفُلانٍ - رَهْطٌ. عِدّةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ - وَلا يُعْلِمُ رَسُولُ اللّهِ ÷ ذِكْرَهُمْ لأَحَدٍ غَيْرَ حُذَيْفَةَ، فَلَمّا تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فِى خِلافَتِهِ إذَا مَاتَ رَجُلٌ مِمّنْ يَظُنّ أَنّهُ مِنْ أُولَئِكَ الرّهْطِ أَخَذَ بِيَدِ حُذَيْفَةَ فَقَادَهُ إلَى الصّلاةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَشَى مَعَهُ حُذَيْفَةُ صَلّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَإِنْ انْتَزَعَ يَدَهُ وَأَبَى أَنْ يَمْشِىَ انْصَرَفَ مَعَهُ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ يُخْبِرْ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَحَدًا إلاّ حُذَيْفَةَ، وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ قُرَشِىّ، وَهَذَا الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدُ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَتّى نَزَلَ بِذِى أَوَانٍ، وَقَدْ كَانَ جَاءَهُ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ، جَاءُوا خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَحِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا مِنْ أَصْحَابِنَا، إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِى الْقِلّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلّىَ بِنَا فِيهِ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷، يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّى عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلّيْنَا بِكُمْ فِيهِ”. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِذِى أَوَانٍ رَاجِعًا مِنْ تَبُوكَ أَتَاهُ خَبَرُهُ، وَخَبَرُ أَهْلِهِ مِنْ السّمَاءِ، وَكَانُوا إنّمَا بَنَوْهُ قَالُوا: بَيْنَهُمْ يَأْتِينَا أَبُو عَامِرٍ فَيَتَحَدّثُ عِنْدَنَا فِيهِ، فَإِنّهُ يَقُولُ: لا أَسْتَطِيعُ آتِىَ مَسْجِدَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، إنّمَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ يَلْحَظُونَنَا بِأَبْصَارِهِمْ، يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: ×وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ% يَعْنِى أَبَا عَامِرٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ ÷ عَاصِمَ بْنَ عَدِىّ الْعَجْلانِىّ، وَمَالِكَ بْنَ الدّخْشَمِ السّالِمِىّ، فَقَالَ: “انْطَلِقَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظّالِمِ أَهْلُهُ، فَاهْدِمَاهُ، ثُمّ حَرّقَاهُ”، فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ عَلَى أَقْدَامِهِمَا حَتّى أَتَيَا مَسْجِدَ بَنِى سَالِمٍ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الدّخْشَمِ لِعَاصِمِ بْنِ عَدِىّ: أَنْظِرْنِى حِينَ أَخْرُجُ إلَيْك بِنَارٍ مِنْ أَهْلِى، فَدَخَلَ إلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنْ النّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ النّارَ، ثُمّ خَرَجَا سَرِيعَيْنِ يَعْدُوَانِ حَتّى انْتَهَيَا إلَيْهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَهُمْ فِيهِ وَإِمَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا أَنْسَى تَشَرّفَهُمْ إلَيْنَا كَأَنّ آذَانَهُمْ آذَانُ السّرْحَانِ. فَأَحْرَقْنَاهُ حَتّى احْتَرَقَ وَكَانَ الّذِى ثَبَتَ فِيهِ مِنْ بَيْنِهِمْ زَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ بْنِ عَامِرٍ حَتّى احْتَرَقَتْ أَلْيَتُهُ فَهَدَمْنَاهُ حَتّى وَضَعْنَاهُ بِالأَرْضِ وَتَفَرّقُوا. فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ عَرَضَ عَلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ الْمَسْجِدَ يَتّخِذُهُ دَارًا - وَكَانَ مِنْ دَارِ وَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَدَارُ أَبِى عَامِرٍ إلَى جَنْبِهِمَا فَأَحْرَقُوهُمَا مَعَهُ - فَقَالَ: مَا كُنْت لأَتّخِذَ مَسْجِدًا قَدْ نَزَلَ فِيهِ مَا نَزَلَ دَارًا؛ وَإِنّ بِى لَغِنًى يَا رَسُولَ اللّهِ، وَلَكِنْ أَعْطِهِ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ، فَإِنّهُ لا مَنْزِلَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ ثَابِتًا. وَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ قَدْ أَعَانَهُمْ فِيهِ بِخَشَبٍ، وَكَانَ غَيْرَ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ فِى النّفَاقِ وَلَكِنّهُ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ أُمُورًا تُكْرَهُ لَهُ. فَلَمّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ أَخَذَ أَبُو لُبَابَةَ خَشَبَهُ ذَلِكَ فَبَنَى بِهِ مَنْزِلاً، وَكَانَ بَيْتُهُ الّذِى بَنَاهُ إلَى جَنْبِهِ. قَالَ: فَلَمْ يُولَدْ لَهُ فِى ذَلِكَ الْبَيْتِ مَوْلُودٌ قَطّ، وَلَمْ يَقِفْ فِيهِ حَمَامٌ قَطّ، وَلَمْ تَحْضُنْ فِيهِ دَجَاجَةٌ قَطّ. وَكَانَ الّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضّرَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً: جَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطّافِ - وَهُوَ حِمَارُ الدّارِ - وَابْنُهُ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَهُوَ إمَامُهُمْ، وَابْنُهُ زَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ - وَاَلّذِى احْتَرَقَتْ أَلْيَتُهُ فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ - وَابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ جَارِيَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَخِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “زِمَامٌ خَيْرٌ مِنْ خِذَامٍ، وَسَوْطٌ خَيْرٌ مِنْ بِجَادٍ”، وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ - وَهُوَ الْمُخَبّرُ بِخَبَرِهِ - يَأْتِى رَسُولَ اللّهِ ÷ فَيَسْمَعُ حَدِيثَهُ، ثُمّ يَأْتِى بِهِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ: يَا مُحَمّدُ إنّ رَجُلاً مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَأْتِيك فَيَسْمَعُ حَدِيثَك، ثُمّ يَذْهَبُ بِهِ إلَى الْمُنَافِقِينَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيّهُمْ هُوَ”؟ قَالَ: الرّجُلُ الأَسْوَدُ ذُو الشّعْرِ الْكَثِيرِ الأَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ كَأَنّهُمَا قِدْرَانِ مِنْ صُفْرٍ كَبِدُهُ كَبِدُ حِمَارٍ فَيَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ. وَكَانَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىّ يُخْبِرُ يَقُولُ: كُنّا نَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ مَعَ النّبِىّ فَرَأَيْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ نَبْتَلٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ قَائِمَيْنِ عَلَى مَسْجِدِ الضّرَارِ، وَهُمَا يُصْلِحَانِ مِيزَابًا قَدْ فَرَغَا مِنْهُ فَقَالا: يَا عَاصِمُ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ وَعَدَنَا أَنْ يُصَلّىَ فِيهِ إذَا رَجَعَ، فَقُلْت فِى نَفْسِى: وَاَللّهِ مَا بَنَى هَذَا الْمَسْجِدَ إلاّ مُنَافِقٌ مَعْرُوفٌ بِالنّفَاقِ أَسّسَهُ أَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ، وَأُخْرِجَ مِنْ دَارِ خِذَامِ بْنِ خَالِدٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فِى هَؤُلاءِ النّفَرِ - وَالْمَسْجِدُ الّذِى بَنَى رَسُولُ اللّهِ ÷ بِيَدِهِ يُؤَسّسُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ يَؤُمّ بِهِ الْبَيْتَ - فَوَاَللّهِ مَا رَجَعْنَا مِنْ سَفَرِنَا حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمّهِ وَذَمّ أَهْلِهِ الّذِينَ جَمَعُوا فِى بِنَائِهِ، وَأَعَانُوا فِيهِ ×وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا% إلَى قَوْلِهِ: ×يُحِبّ الْمُطّهّرِينَ% قَالُوا: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، ×لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى% قَالَ: يَعْنِى مَسْجِدَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَيُقَالُ: عَنَى مَسْجِدَ النّبِىّ ÷ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَقَالَ النّبِىّ ÷: “نِعْمَ الرّجُلُ مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ”، وَقِيلَ: لِعَاصِمِ بْنِ عَدِىّ، وَلِمَ أَرَادُوا بِنَاءَهُ؟ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِى مَسْجِدِنَا، فَإِنّمَا هُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَيَلْحَظُهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِأَبْصَارِهِمْ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوا مَسْجِدًا يَكُونُونَ فِيهِ لا يَغْشَاهُمْ فِيهِ إلاّ مَنْ يُرِيدُونَ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِمْ، فَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يَقُولُ: لا أَقْدِرُ أَنْ أَدْخُلَ مِرْبَدَكُمْ هَذَا وَذَاكَ أَنّ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ يَلْحَظُونَنِى وَيَنَالُونَ مِنّى مَا أَكْرَهُ. قَالُوا: نَحْنُ نَبْنِى مَسْجِدًا تَتَحَدّثُ فِيهِ عِنْدَنَا. قَالُوا: قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمّا بَلَغَنِى أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ تَوَجّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِى بَثّى فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِ رَسُولِ اللّهِ ÷ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِى رَأْىٍ مِنْ أَهْلِى، حَتّى رُبّمَا ذَكَرْته لِلْخَادِمِ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِيَنِى شَيْءٌ أَسْتَرِيحُ إلَيْهِ فَلَمّا قِيلَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا، زَاحَ عَنّى الْبَاطِلُ وَعَرَفْت أَنّى لا أَنْجُو مِنْهُ إلاّ بِالصّدْقِ فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ. وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ جَلَسَ لِلنّاسِ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى. وَيُقَالُ: مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ كَعْبٍ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمّا نَزَلَ بِذِى أَوَانٍ خَرَجَ عَامّةُ الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ كَانُوا تَخَلّفُوا عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لا تُكَلّمُوا أَحَدًا مِنْهُمْ تَخَلّفَ عَنّا، وَلا تُجَالِسُوهُ حَتّى آذَنَ لَكُمْ”، فَلَمْ يُكَلّمُوهُمْ. فَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَاءَهُ الْمُعَذّرُونَ يَحْلِفُونَ لَهُ وَأَعْرَصَ عَنْهُمْ وَأَعْرَضَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهُمْ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيُعْرِضُ عَنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ وَعَمّهِ. فَجَعَلُوا يَأْتُونَ النّبِىّ ÷ وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ بِالْحُمّى وَالأَسْقَامِ فَيَرْحَمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَحَلَفُوا فَصَدّقَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ. قَالُوا: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَجِئْت النّبِىّ ÷ وَهُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ. فَسَلّمْت عَلَيْهِ، فَلَمّا سَلّمْت عَلَيْهِ تَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمّ قَالَ لِى: “تَعَالَ”، فَجِئْت أَمْشِى حَتّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِى: “مَا خَلّفَك؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك”؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا لَرَأَيْت أَنّى سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ لَقَدْ أُعْطِيت جَدَلاً، وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا كَاذِبًا لِتَرْضَى عَنّى لَيُوشِكَنّ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يَسْخَطَ عَلَىّ، وَلَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا صَادِقًا تَجِدُ عَلَىّ فِيهِ إنّى لأَرْجُو عُقْبَى اللّهِ فِيهِ، وَلا وَاَللّهِ مَا كَانَ لِى عُذْرٌ وَاَللّهِ مَا كُنْت أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنّى حِينَ تَخَلّفْت عَنْك، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمّا أَنْت فَقَدْ صَدَقْت، فَقُمْ حَتّى يَقْضِىَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيك”، فَقُمْت وَقَامَ مَعِى رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ، فَقَالُوا لِى: وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْت أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَقَدْ عَجَزْت أَلاّ تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِمَا اعْتَذَرَ إلَيْهِ الْمُخَلّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيك ذَنْبَك اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ ÷ لَك، فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِى يَنُوبُونَنِى حَتّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأُكَذّبَ نَفْسِى، فَلَقِيت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا قَتَادَةَ فَقَالا لِى: لا تُطِعْ أَصْحَابَك، وَأَقِمْ عَلَى الصّدْقِ، فَإِنّ اللّهَ سَيَجْعَلُ لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا إنْ شَاءَ اللّهُ، فَأَمّا هَؤُلاءِ الْمُعَذّرُونَ، فَإِنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فَسَيَرْضَى اللّهُ ذَلِكَ، وَيُعْلِمَهُ نَبِيّهُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَذُمّهُمْ أَقْبَحَ الذّمّ، وَيُكَذّبْ حَدِيثَهُمْ، فَقُلْت لَهُمْ: هَلْ لَقِىَ هَذَا غَيْرِى؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَقَالَتِك، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَك، قُلْت: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيّةَ الْوَاقِفِىّ، فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ عَنْ كَلامِنَا أَيّهَا الثّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبْنَا النّاسَ وَتَغَيّرُوا لَنَا، حَتّى تَنَكّرَتْ لِى نَفْسِى، وَالأَرْضُ فَمَا هِىَ الأَرْضُ الّتِى كُنْت أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمّا صَاحِبَاىَ فَاسْتَكَانَا فَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا، وَأَمّا أَنَا فَكُنْت أَشَدّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدُهُمْ وَكُنْت أَخْرُجُ وَأَشْهَدُ الصّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ بِالأَسْوَاقِ فَلا يُكَلّمُنِى أَحَدٌ، حَتّى آتِىَ رَسُولَ اللّهِ ÷، وَهُوَ فِى مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلاةِ فَأُسَلّمَ عَلَيْهِ، فَأَقُولَ فِى نَفْسِى: هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلامِ عَلَىّ أَمْ لا؟ ثُمّ أُصَلّى قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقَهُ النّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلاتِى نَظَرَ إلَىّ وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّى، حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَىّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتّى تَسَوّرْت حَائِطَ أَبِى قَتَادَةَ - وَهُوَ ابْنُ عَمّى وَأَحَبّ النّاسِ إلَىّ - فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَىّ السّلامَ، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُك اللّهَ هَلْ تَعْلَمُنِى أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ فَعُدْت فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُك اللّهَ هَلْ تَعْلَمُنِى أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ فَعُدْت فَنَشَدْته الثّالِثَةَ، فَقَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاىَ، فَوَثَبْت فَتَسَوّرْت الْجِدَارَ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى بِالسّوقِ، فَإِذَا نَبَطِىّ مِنْ نَبَطِ الشّامِ مِمّنْ قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالسّوقِ يَسْأَلُ عَنّى، يَقُولُ: مَنْ يَدُلّنِى عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ فَدَفَعَ إلَىّ كِتَابًا مِنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِى شَمِرٍ مَلِكِ غَسّانَ - أَوْ قَالَ: مِنْ جَبَلَةَ بْنِ الأَيْهَمِ - فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَإِذَا فِى كِتَابِهِ: أَمّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِى أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك، وَلَمْ يَجْعَلْك اللّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك، قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْت حِينَ قَرَأْته، وَهَذَا مِنْ الْبَلاءِ أَيْضًا، قَدْ بَلَغَ مِنّى مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِىّ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ، فَذَهَبْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجّرْتُهُ بِهَا، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ ÷ يَأْتِينِى فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك، فَقُلْت: أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: بَلْ اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبْهَا، وَكَانَ الرّسُولُ إلَىّ وَإِلَى هِلالِ بْنِ أُمَيّةَ، وَمُرَارَةَ بْنِ الرّبِيعِ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْت لامْرَأَتِى: الْحَقِى بِأَهْلِك، فَكُونِى عِنْدَهُمْ حَتّى يَقْضِىَ اللّهُ فِى هَذَا الأَمْرِ مَا هُوَ قَاضٍ، وَأَمّا هِلالُ بْنُ أُمَيّةَ فَكَانَ رَجُلاً صَالِحًا، فَبَكَى حَتّى إنْ كَانَ يُرَى أَنّهُ هَالِكٌ مِنْ الْبُكَاءِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الطّعَامِ فَإِنْ كَانَ يُوَاصِلُ الْيَوْمَيْنِ وَالثّلاثَةَ مِنْ الصّوْمِ مَا يَذُوقُ طَعَامًا، إلاّ أَنْ يَشْرَبَ الشّرْبَةَ مِنْ الْمَاءِ، أَوْ مِنْ اللّبَنِ، وَيُصَلّىَ اللّيْلَ وَيَجْلِسَ فِى بَيْتِهِ لا يَخْرُجُ لأَنّ أَحَدًا لا يُكَلّمُهُ حَتّى إنْ كَانَ الْوِلْدَانُ لَيَهْجُرُونَهُ لِطَاعَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّ هِلالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ، لا خَادِمَ لَهُ وَأَنَا أَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِى، فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَدَعَنِى أَنْ أَخْدُمَهُ فَعَلْت، قَالَ: “نَعَمْ، وَلَكِنْ لا تَدَعِيهِ يَصِلُ إلَيْك”، فَقَالَتْ. يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَىّ وَاَللّهِ مَا زَالَ يَبْكِى مُنْذُ يَوْمَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا، وَإِنّ لِحْيَتَهُ لَتَقْطُرُ دُمُوعًا اللّيْلَ وَالنّهَارَ، وَلَقَدْ ظَهَرَ الْبَيَاضُ عَلَى عَيْنَيْهِ حَتّى تَخَوّفْت أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ، قَالَ كَعْبٌ: فَقَالَ لِى بَعْضُ أَهْلِى: لَوْ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ ÷ لامْرَأَتِك، فَقَدْ أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ، فَقُلْت: وَاَللّهِ، لا أَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا، مَا يَدْرِينِى مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ، فَوَاَللّهِ لا أَسْتَأْذِنُهُ، ثُمّ لَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، وَكَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا، ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا عَلَى الْحَالِ الّتِى ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ. وَقَدْ ضَاقَتْ بِىَ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَىّ نَفْسِى، وَقَدْ كُنْت ابْتَنَيْت خَيْمَةً فِى ظَهْرٍ سَلْعٍ، فَكُنْت فِيهِ إذْ سَمِعْت صَارِخًا أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْت سَاجِدًا، وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، فَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الصّبْحَ، فَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِىّ ÷ تَقُولُ: قَالَ لِى رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ اللّيْلِ: “يَا أُمّ سَلَمَةَ قَدْ نَزَلَتْ تَوْبَةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ”، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا أَرْسَلْت إلَيْهِمْ فَأُبَشّرَهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَمْنَعُونَك النّوْمَ آخِرَ اللّيْلِ، وَلَكِنْ لا يُرَوْنَ حَتّى يُصْبِحُوا”، قَالَ: فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّبْحَ أَخْبَرَ النّاسَ بِمَا تَابَ اللّهُ عَلَى هَؤُلاءِ النّفَرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُرَارَةَ بْنِ الرّبِيعِ وَهِلالِ بْنِ أُمَيّةَ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَوَافَى عَلَى سَلْعٍ فَصَاحَ قَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى كَعْبٍ، يُبَشّرُهُ بِذَلِكَ، وَخَرَجَ الزّبَيْرُ عَلَى فَرَسِهِ فِى بَطْنِ الْوَادِى، فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِىَ الزّبَيْرُ، وَخَرَجَ أَبُو الأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ إلَى هِلالٍ يُبَشّرُهُ، فَلَمّا أَخْبَرَهُ سَجَدَ، قَالَ سَعِيدٌ: فَظَنَنْت أَنّهُ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتّى تَخْرُجَ نَفْسُهُ، وَكَانَ بِالسّرُورِ أَكْثَرَ بُكَاءً مِنْهُ بِالْحُزْنِ حَتّى خِيفَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَهُ النّاسُ يُهَنّئُونَهُ، فَمَا اسْتَطَاعَ الْمَشْىَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ لِمَا نَالَهُ مِنْ الضّعْفِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، حَتّى رَكِبَ حِمَارًا، وَكَانَ الّذِى بَشّرَ مُرَارَةَ بْنَ الرّبِيعِ سِلْكَانُ بْنُ سَلامَةَ أَبُو نَائِلَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ وَقّشٍ وَوَافَيَا الصّبْحَ مَعَ النّبِىّ ÷ مِنْ بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمّ انْطَلَقَا إلَى مُرَارَةَ فَأَخْبَرَاهُ فَأَقْبَلَ مُرَارَةُ حَتّى تَوَافَوْا عِنْدَ النّبِىّ ÷. قَالَ كَعْبٌ: وَكَانَ الصّوْتُ الّذِى سَمِعْت عَلَى سَلْعٍ أَسْرَعَ مِنْ الْفَارِسِ الّذِى يَرْكُضُ فِى الْوَادِى - وَهُوَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ - وَاَلّذِى صَاحَ عَلَى سَلْعٍ، يَقُولُ كَعْبٌ: كَانَ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الّذِى بَشّرَنِى، قَالَ: فَلَمّا سَمِعْت صَوْتَهُ نَزَعْت ثَوْبِى فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ لِبِشَارَتِهِ، وَاَللّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا، ثُمّ اسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ مِنْ أَبِى قَتَادَةَ فَلَبِسْتهمَا، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَتَلَقّانِى النّاسُ يُهَنّئُونَنِى بِالتّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْك حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ، فَقَامَ إلَىّ طَلْحَةُ بْنُ أَبِى طَلْحَةَ فَحَيّانِى وَهَنّأَنِى، مَا قَامَ إلَىّ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ قَالَ لِى، وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنْ السّرُورِ: “أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك”، وَيُقَالُ: قَالَ لَهُ: “تَعَالَ إلَى خَيْرِ يَوْمٍ مَا طَلَعَ عَلَيْك شَرْقُهُ قَطّ”. قَالَ كَعْبٌ: قُلْت: أَمِنْ عِنْدِك يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ؟ فَقَالَ: “مِنْ عِنْدِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ”. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إذَا سُرّ يَسْتَنِيرُ حَتّى كَأَنّ وَجْهَهُ فِلْقَةُ الْقَمَرِ وَكَانَ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِى إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك، هُوَ خَيْرٌ لَك”، قَالَ: قُلْت: إنّى مُمْسِكٌ بِسَهْمِى الّذِى بِخَيْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ: “لا”، قُلْت: النّصْفُ، قَالَ: “لا”، قُلْت: فَالثّلُثُ، قَالَ: “نَعَمْ”، قَالَ: إنّى يَا رَسُولَ اللّهِ ÷ أَحْبِسُ سَهْمِى الّذِى بِخَيْبَرَ. قَالَ كَعْبٌ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْجَانِى بِالصّدْقِ فَإِنّ تَوْبَتِى إلَى اللّهِ أَلاّ أُحَدّثَ إلاّ صِدْقًا مَا حَيِيت، قَالَ كَعْبٌ: وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلاهُ اللّهُ فِى صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ ÷ أَفْضَلَ مِمّا أَبْلانِى، وَاَللّهِ مَا تَعَمّدْت مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ إلَى يَوْمِى هَذَا، وَإِنّى لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِى اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيمَا بَقِىَ. وَقَالَ كَعْبٌ - قَالَ الْوَاقِدِىّ: أَنْشَدَنِيهِ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ: سُبْحَانَ رَبّى إنْ لَمْ يَعْفُ عَنْ زَلَلِى فَقَدْ خَسِرْت وَتَبّ الْقَوْلُ وَالْعَمَل قَالَ: وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ% إلَى قَوْلِهِ: ×وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ% قَالَ كَعْبٌ: فَوَاَللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَىّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطّ إذْ هَدَانِى لِلإِسْلامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِى نَفْسِى مِنْ صِدْقِى رَسُولَ اللّهِ ÷ أَلاّ أَكُونَ كَذّبْته يَوْمَئِذٍ فَأَهْلِكُ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوهُ. قَالَ اللّهُ فِى الّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىَ شَرّ مَا قَالَ: ×سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ% إلَى قَوْلِهِ: ×الْفَاسِقِينَ% قَالَ كَعْبٌ: وَكُنّا خُلّفْنَا أَيّهَا الثّلاثَةُ عَنْ أَمْرِ هَؤُلاءِ الّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ حَلَفُوا فَعَذَرَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمْرَنَا حَتّى قَضَى اللّهُ فِيهِ مَا قَضَى، فَبِذَلِكَ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَعَلَى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا% قَالَ: لَيْسَ عَنْ الْغَزْوَةِ وَلَكِنْ بِتَخْلِيفِهِ إيّانَا، وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ. قَالَ كَعْبٌ حِينَ بَنَى الْخَيْمَةَ عَلَى سَلْعٍ، فِيمَا حَدّثَنِى أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِى الْقَيْنِ: أَبَعْدَ دُورِ بَنِى الْقَيْنِ الْكِرَامِ وَمَـــــا شَادُوا عَلَى تَبْتِيتِ الْبَيْتِ مِنْ سَعَفٍ قَالُوا: وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، فَقَالَ: “الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى مَا رَزَقَنَا فِى سَفَرِنَا هَذَا مِنْ أَجْرٍ وَحَسَنَةٍ، وَمِنْ بَعْدِنَا شُرَكَاؤُنَا فِيهِ”. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَصَابَكُمْ السّفَرُ وَشِدّةُ السّفَرِ وَمِنْ بَعْدِكُمْ شُرَكَاؤُكُمْ فِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا مَا سِرْنَا مِنْ مَسِيرٍ وَلا هَبَطْنَا وَادِيًا إلاّ كَانُوا مَعَنَا، حَبَسَهُمْ الْمَرَضُ أَوَلَيْسَ اللّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِى كِتَابِهِ: ×وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً% فَنَحْنُ غُزَاتُهُمْ وَهُمْ قَعَدَتُنَا، وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَدُعَاؤُهُمْ أَنْفَذُ فِى عَدُوّنَا مِنْ سِلاحِنَا”، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَبِيعُونَ سِلاحَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَدْ انْقَطَعَ الْجِهَادُ فَجَعَلَ الْقَوِىّ مِنْهُمْ يَشْتَرِيهَا لِفَضْلِ قُوّتِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: “لا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمّتِى يُجَاهِدُونَ عَلَى الْحَقّ حَتّى يَخْرُجَ الدّجّالُ”. قَالُوا: وَمَرِضَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَىّ فِى لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوّالٍ، وَمَاتَ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، وَكَانَ مَرَضُهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَعُودُهُ فِيهَا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِى مَاتَ فِيهِ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: “قَدْ نَهَيْتُك عَنْ حُبّ الْيَهُودِ”، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَىّ: أَبْغَضَهُمْ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَا نَفَعَهُ، ثُمّ قَالَ ابْنُ أُبَىّ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ بِحِينِ عِتَابٍ هُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ مُتّ فَاحْضُرْ غُسْلِى وَأَعْطِنِى قَمِيصَك أُكَفّنُ فِيهِ فَأَعْطَاهُ الأَعْلَى - وَكَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ - فَقَالَ: الّذِى يَلِى جِلْدَك، فَنَزَعَ قَمِيصَهُ الّذِى يَلِى جِلْدَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمّ قَالَ: صَلّ عَلَىّ وَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ: وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ خِلافَ هَذَا - يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ أُبَىّ إلَى قَبْرِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَكَشَفَ مِنْ وَجْهِهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَسْنَدَهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ - وَكَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ - وَأَلْبَسَهُ الّذِى يَلِى جِلْدَهُ. وَالأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ حَضَرَ غُسْلَهُ وَحَضَرَ كَفَنَهُ. ثُمّ حُمِلَ إلَى مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ لِيُصَلّىَ عَلَيْهِ، فَلَمّا قَامَ وَثَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُصَلّى عَلَى ابْنِ أُبَىّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ: كَذَا كَذَا، وَيَوْمَ: كَذَا كَذَا؟ فَعَدّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَتَبَسّمَ النّبِىّ ÷، وَقَالَ: “أَخّرْ عَنّى يَا عُمَرُ”، فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ، قَالَ: “إنّى قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنّى إذَا زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ زِدْت عَلَيْهَا”، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ% فَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ: “سَأَزِيدُ عَلَى السّبْعِينَ” فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷، ثُمّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَكُنْ إلاّ يَسِيرًا حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ مِنْ بَرَاءَةٌ: ×وَلا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ% وَيُقَالُ: إنّهُ لَمْ تَزَلْ قَدَمَاهُ بَعْدَ دَفْنِهِ حَتّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى هَذِهِ الآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ مَنْ مَاتَ لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ. وَكَانَ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ يُحَدّثُ يَقُولُ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ أَطَالَ عَلَى جِنَازَةٍ قَطّ، مَا أَطَالَ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ، ثُمّ خَرَجُوا حَتّى انْتَهَوْا إلَى قَبْرِهِ، وَقَدْ حُمِلَ عَلَى سَرِيرٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَوْتَاهُمْ عِنْدَ آلِ نُبَيْطٍ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: رَأَيْت ابْنَ أُبَىّ عَلَى السّرِيرِ، وَإِنّ رِجْلَيْهِ خَارِجَتَانِ مِنْ السّرِيرِ مِنْ طُولِهِ. وَكَانَتْ أُمّ عُمَارَةَ تُحَدّثُ قَالَتْ: شَهِدْنَا مَأْتَمَ ابْنِ أُبَىّ، فَلَمْ تَتَخَلّفْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ إلاّ أَتَتْ ابْنَتُهُ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَىّ، وَهِىَ تَقُولُ: وَاجَبَلاه - مَا يَنْهَاهَا أَحَدٌ وَلا يَعِيبُ عَلَيْهَا - وَاجَبَلاه وَارُكْنَاه، قَالُوا: وَلَقَدْ اُنْتُهِىَ بِهِ إلَى قَبْرِهِ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِىّ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَقَدْ جَهَدَنَا أَنْ نَدْنُوَ مِنْ سَرِيرِهِ، فَمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَؤُلاءِ الْمُنَافِقُونَ، وَكَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الإِسْلامَ، وَهُمْ عَلَى النّفَاقِ مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعٍ وَغَيْرِهِمْ سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ، وَسَلامَةُ ابْنُ الْحُمَامِ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِى عَامِرٍ، وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِى نَوْفَلٍ، وَدَاعِسٌ، وَسُوَيْدٌ، وَكَانُوا أَخَابِثِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا هُمْ الّذِينَ يَعْرِضُونَهُ، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ لَيْسَ شَيْءٌ أَثْقَلُ عَلَيْهِ وَلا أَعْظَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ، وَكَانَ بِهِ بَطْنٌ فَكَانَ ابْنُهُ يُغْلِقُ دُونَهُمْ الْبَابَ، فَكَانَ ابْنُ أُبَىّ يَقُولُ: لا يَلِيَنّى غَيْرُهُمْ، وَيَقُولُ: أَنْتَ وَاَللّهِ أَحَبّ إلَىّ مِنْ الْمَاءِ عَلَى الظّمَأِ، وَيَقُولُونَ: لَيْتَ أَنّا نَفْدِيك بِالأَنْفُسِ وَالأَوْلادِ وَالأَمْوَالِ، فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى حُفْرَتِهِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ وَاقِفٌ يَلْحَظُهُمْ ازْدَحَمُوا عَلَى النّزُولِ فِى حُفْرَتِهِ وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ، حَتّى أُصِيبَ أَنْفُ دَاعِسٍ، وَجَعَلَ عُبَادَةُ ابْنُ الصّامِتِ يَذُبّهُمْ، وَيَقُولُ: اخْفِضُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى أُصِيبَ أَنْفُ دَاعِسٍ، فَسَالَ الدّمُ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ فِى حُفْرَتِهِ فَنُحّىَ وَنَزَلَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلُ فَضْلٍ وَإِسْلامٍ، وَكَانَ لَمّا رَأَوْا مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ مِنْ الصّلاةِ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ وَمِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ فِى حُفْرَتِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِىّ حَتّى سُوّىَ عَلَيْهِ، وَإِنّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النّبِىّ ÷ وَالأَكَابِرُ مِنْ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يُدَلّونَهُ فِى اللّحْدِ، وَهُمْ قِيَامٌ مَعَ النّبِىّ ÷. وَزَعَمَ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ يُدَلّيهِ بِيَدَيْهِ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَامَ عَلَى الْقَبْرِ حَتّى دُفِنَ وَعَزّى ابْنَهُ، وَانْصَرَفَ، فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ: مَا لَقِىَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ هَؤُلاءِ الْمُنَافِقُونَ إنّهُمْ هُمْ الّذِينَ كَانُوا يَحْثُونَ فِى الْقَبْرِ التّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا لَيْتَ أَنّا فَدَيْنَاك بِالأَنْفُسِ، وَكُنّا قَبْلَك، وَهُمْ يَحْثُونَ التّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَكَانَ الّذِى يَحْسُنُ أَمْرُهُ يَقُولُ: قَوْمٌ أَهْلُ كُفْرٍ وَكَانَ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ.

  • * *


ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ% إلَى آخِرِ الآيَةِ قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى حَرّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ مِنْ النّاسِ، وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَاشْتُهِيَتْ الظّلالُ فَأَبْطَأَ النّاسُ وَكَشَفَتْ “بَرَاءَةٌ” عَنْهُمْ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَأَبْدَتْ أَضْغَانَهُمْ وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ. بِقَوْلِ: ×إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا% يَقُولُ: إلاّ تَخْرُجُوا مَعَ النّبِىّ ÷ ×يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا% يَقُولُ: فِى الآخِرَةِ، ×وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرّوهُ شَيْئًا% قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ؟ ×مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ% الآيَةُ، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ خَرَجُوا إلَى الْبَدْوِ يُفَقّهُونَ قَوْمَهُمْ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ بَقِىَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِى الْبَوَادِى، وَقَالُوا: هَلَكَ أَصْحَابُ الْبَدْوِ، فَنَزَلَتْ ×وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ% الآيَةُ. وَنَزَلَ فِيهِمْ: ×وَاَلّذِينَ يُحَاجّونَ فِى اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ% الآيَةُ، ×إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ% يَعْنِى مَنْ نَافَقَ مِنْ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ؛ ×إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا% يَعْنِى مُشْرِكِى قُرَيْشٍ؛ ×ثَانِىَ اثْنَيْنِ% يَعْنِى النّبِىّ ÷ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، ×إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ% حَيْثُ كَانَتْ هِجْرَةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ ×إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ% يَقُولُ: الطّمَأْنِينَةُ ×وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا% يَعْنِى الْمَلائِكَةَ، ×وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِىَ الْعُلْيَا% يَقُولُ: جَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ بَاطِلاً: وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ التّوْحِيدِ هُوَ الظّاهِرَ الْعَالِىَ. ×انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً% يَقُولُ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ، وَيُقَالُ: الْخِفَافُ الشّبَابُ، وَالثّقَالُ الْكُهُولُ، ×وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ% يَقُولُ: أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِى غَزْوَتِكُمْ ×وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ% قَاتِلُوا. ×لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا% يَعْنِى غَنِيمَةً قَرِيبَةً، ×وَسَفَرًا قَاصِدًا% يَعْنِى سَفَرًا قَرِيبًا، ×لاتّبَعُوك% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ ×وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ% سَفَرُ تَبُوكَ عُشْرُونَ لَيْلَةً ×وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى تَبُوكَ جَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُسْرَةِ وَالْمَرَضِ ×يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ% يَعْنِى فِى الآخِرَةِ، ×وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ% يَعْنِى إنّهُمْ مُقَوّوْنَ أَصِحّاءُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْذَنُ لَهُمْ وَيَقْبَلُ عُذْرَهُمْ. قَالَ: ×عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ% حَتّى تَبْلُوَهُمْ بِالسّفَرِ وَتَعْلَمَ مَنْ هُوَ صَادِقٌ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ×الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ% فَتَعْلَمَ مَنْ لَهُ قُوّةٌ مِمّنْ لا قُوّةَ لَهُ اسْتَأْذَنَك رِجَالٌ لَهُمْ قُوّةٌ. ×لا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ% وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَكَانَتْ تُسَمّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ. ×إِنّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ فِى شَكّهِمْ. ×وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدّوا لَهُ عُدّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ% يَقُولُ: كَانُوا أَقْوِيَاءَ بِأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَكِنْ كَرِهَ اللّهُ خُرُوجَهُمْ فَخَذَلَهُمْ ×وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ% يَعْنِى مَعَ النّسَاءِ. ×لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً% يَعْنِى ابْنَ أُبَىّ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ نَبْتَلٍ، وَالْجَدّ بْنَ قَيْسٍ، وَكُلّ هَؤُلاءِ اسْتَأْذَنَ وَرَجَعَ فَيَقُولُ: لَوْ كَانُوا ×فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً% إلاّ شَرّا؛ ×وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ% يَقُولُ: يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ بَيْنَ الرّاحِلَتَيْنِ فَيَرْفَضّ بِهِمَا؛ ×يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ% هَؤُلاءِ النّفَرُ يَقُولُ لأَظْهَرُوا النّفَاقَ وَلَقَالُوهُ. ×وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ% يَقُولُ: مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِالأَخْبَارِ وَهَؤُلاءِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ ×وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ%. ثُمّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ: ×لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ% يَقُولُ: مِنْ قَبْلِ خُرُوجِك وَتَشَاوَرُوا فِى كُلّ مَا يُلَبّسُ عَلَيْك وَعَلَى أَصْحَابِك ×حَتّى جَاءَ الْحَقّ% يَعْنِى ظَهَرَ الْحَقّ، ×وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ% يَعْنِى أَمْرَك يَا مُحَمّدُ ×وَهُمْ كَارِهُونَ% لِظُهُورِك وَاتّبَاعِ مَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ×وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلا تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا% نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ بَنِى سَلِمَةَ مَالاً وَأَعَدّ عُدّةً فِى الظّهْرِ وَكَانَ مُعْجَبًا بِالنّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلا تَغْزُو بَنِى الأَصْفَرَ؟ عَسَى أَنْ تَحْتَقِبَ مِنْ بَنَاتِ الأَصْفَرِ”، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ قَدْ عَلِمَ قَوْمِى أَنّهُ لَيْسَ رَجُلٌ أَعْجَبَ بِالنّسَاءِ مِنّى، فَلا تَفْتِنّى بِهِنّ، يَقُولُ عَزّ وَجَلّ: ×أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا% بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَنِفَاقِهِ، يَقُولُ عَزّ وَجَلّ: ×وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ% بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى قَوْلِهِ. ×إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ% غَنِيمَةٌ وَسَلامَةٌ ×تَسُؤْهُمْ% يَعْنِى الّذِينَ تَخَلّفُوا وَاسْتَأْذَنُوك؛ ×وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ% الْبَلاءُ وَالشّدّةُ ×يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا% حَذّرْنَا؛ ×مِنْ قَبْلُ% يَعْنِى مَنْ اسْتَأْذَنَهُ ابْنَ أُبَىّ وَغَيْرَهُ وَالْجَدّ بْنَ قَيْسٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ ×وَيَتَوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ% بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ الّتِى أَصَابَتْك. بِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: ×قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا% يَقُولُ: إلاّ مَا كَانَ فِى أُمّ الْكِتَابِ ×هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ% يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِنَبِيّهِ: قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَةَ أَوْ الشّهَادَةَ، ×وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ% الْقَارِعَةِ تُصِيبُكُمْ، ×أَوْ بِأَيْدِينَا% يُؤْذَنُ لَنَا فِى قَتْلِكُمْ ×فَتَرَبّصُوا% يَقُولُ: انْتَظِرُوا بِنَا وَنَنْتَظِرُ بِكُمْ وَعِيدَ اللّهِ فِيكُمْ. ×قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ إِنّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ% كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ ذَوِى الطّوْلِ يُظْهِرُونَ النّفَقَةَ إذَا رَآهُمْ النّاسُ لِيَبْلُغَ النّبِىّ ÷ وَيَدْرَءُونَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْقَتْلَ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى% يَقُولُ: رِيَاءً ×وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ% يُرِيدُونَ أَنْ يَظْهَرَ أَنّهُمْ يُنْفِقُونَ. ×فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ% أَىْ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ ×وَلا أَوْلادُهُمْ% الّذِينَ أَعْطَيْنَاهُمْ إيّاهُمْ، ×إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الْحَيَاةِ الدّنْيَا% يَقُولُ: تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَيّنَةً، لأَنّ مَا أَكَلُوا مِنْهَا أَكَلُوهُ نِفَاقًا، وَمَا أَنْفَقُوا، فَإِنّمَا هُوَ رِيَاءٌ. يَقُولُ: ×وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ% أَنْ يَلْقَوْا رَبّهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ. ×وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ% أَىْ رُؤَسَاءَهُمْ وَأَهْلَ الطّوْلِ مِنْهُمْ مِثْلَ ابْنِ أُبَىّ، وَالْجَدّ بْنِ قَيْسٍ وَذَوِيهِ. كَانُوا يَأْتُونَ النّبِىّ ÷ فَيَحْلِفُونَ أَنّهُمْ مَعَهُ، وَإِذَا خَرَجُوا نَقَضُوا، يَقُولُ: ×يَفْرَقُونَ% مِنْ أَنْ يُقْتَلُوا لِقِلّتِهِمْ فِى الْمُسْلِمِينَ. ×لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ% يَقُولُ: لَوْ وَجَدُوا جَمَاعَةً أَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى هَرَبٍ مِنْ دَارِهِمْ إلَى قَوْمٍ يَعِزّونَ فِيهِمْ لَذَهَبُوا إلَيْهِمْ سُرَاعًا. ×وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِى الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ% نَزَلَتْ فِى ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، كَانَ يَقُولُ: إنّمَا يُعْطِى مُحَمّدٌ الصّدَقَاتِ مَنْ يَشَاءُ يَتَكَلّمُ بِالنّفَاقِ. فَجَاءَ النّبِىّ ÷ فَأَعْطَاهُ فَرَضِىَ، ثُمّ جَاءَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَسَخِطَ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ% يَقُولُ: لَمْ يَسْخَطُوا إذَا رَدّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَوْ أَعْطَاهُ قَلِيلاً بِقَدْرِ مَا يَجِدُ ×وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ% يَقُولُ: حَسْبُ نَبِيّهِ، وَقَالَ: إنّ اللّهَ سَيَرْزُقُنَا، وَإِذَا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مَالٌ أَعْطَانَا. قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ%. وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنّ سَائِلاً سَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ اللّهَ لَمْ يَكِلْهَا إلَى مَلِكٍ مُقَرّبٍ وَلا نَبِىّ مُرْسَلٍ حَتّى جَزّأَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ جُزْءٍ مِنْهَا أَعْطَيْتُك، وَإِنْ كُنْت غَنِيّا فَصُدَاعٌ فِى الرّأْسِ وَأَذًى فِى الْبَطْنِ”، وَالْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ كَانُوا لا يَسْأَلُونَ النّاسَ وَالْمَسَاكِينُ الّذِينَ كَانُوا فِى الصّفّةِ فِى عَهْدِ النّبِىّ ÷. ×وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا% يُعْطُونَ قَدْرَ عِمَالَتِهِمْ وَنَفَقَتِهِمْ فِى سَفَرِهِمْ ×وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ% لَيْسَ فِى النّاس الْيَوْمَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَعْطَى أَقْوَامًا، يَتَأَلّفُهُمْ عَلَى الإِسْلامِ ×وَفِى الرّقَابِ% يَعْنِى الْمُكَاتَبِينَ ×وَالْغَارِمِينَ%، يَعْنِى الّذِينَ عَلَيْهِمْ الدّيْنُ يُقْضَى عَنْ الرّجُلِ دَيْنُهُ ×وَفِى سَبِيلِ اللّهِ% يَعْنِى الْمُجَاهِدِينَ، ×وَابْنَ السّبِيلِ% الرّجُلُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ فِى غَيْرِ بَلَدِهِ فَيُعَانُ وَيُحْمَلُ، وَإِنْ كَانَ فِى أَهْلِهِ مُوسِرًا. وَهَذِهِ الصّدَقَاتُ يُنْظَرُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ فِى صِنْفٍ وَاحِدٍ فَوُضِعَ ذَلِكَ فِيهِ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللّهُ. ×وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِىّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ% نَزَلَتْ فِى عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَبْتَلٍ. قَالَ: كَانَ يَقُولُ: إنّى لأَنَالُ مِنْ مُحَمّدٍ مَا أَشَاءُ ثُمّ آتِى مُحَمّدًا فَأَحْلِفُ لَهُ فَيَقْبَلُ مِنّى. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ% يَعْنِى أَنّهُ يَقْبَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ×وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ% يَعْنِى ابْنَ نَبْتَلٍ ×لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ%. ×يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ% حَلِفُهُ لِلنّبِىّ مَا قَالُوا؛ ×لِيُرْضُوكُمْ% يَعْنِى النّبِىّ وَأَصْحَابَ مُحَمّدٍ. ثُمّ يَقُولُ: ×وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ% أَلاّ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا تَقُولُوا إلاّ خَيْرًا. ×أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللّهَ وَرَسُولَهُ%.. إلَى آخِرِ الآيَةِ، يَعْنِى عَبْدَ اللّهِ بْنَ نَبْتَلٍ. ×يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ% قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَكَلّمُونَ بِرَدّ الْكِتَابِ وَالْحَقّ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَى النّبِىّ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ خَافُوا أَنْ يَكُونَ فِيمَا قَالُوا أَوْ فِيمَا تَكَلّمُوا. ×إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ% يَعْنِى مَا يَتَكَلّمُونَ بِهِ. كَانَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجُلاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، ومخشى بْنُ حِمْيَرَ الأَشْجَعِىّ حَلِيفُ بَنِى سَلِمَةَ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، فَقَالَ ثَعْلَبَةُ: أَتَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِى الأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَاَللّهِ لَكَأَنّهُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِى الْحِبَالِ، وَقَالَ وَدِيعَةُ: إنّ قُرّاءَنَا هَؤُلاءِ أَوْعَبُنَا بُطُونًا، وَأَحْدَثُنَا نِسْبَةً وَأَجْبَنُنَا عِنْدَ اللّقَاءِ. فَقَالَ النّبِىّ ÷ لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ: “أَدْرِكْهُمْ فَقَدْ احْتَرَقُوا”. ×وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ% إلَى قَوْلِهِ: ×بِأَنّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ% فَاَلّذِى عُفِىَ عَنْهُ فِى هَذِهِ الآيَةِ مخشى بْنُ حِمْيَرَ؛ وَاَلّذِى قَالَ: ×إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ% وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَاءَ إلَى النّبِىّ ÷ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ فَنَزَلَ ×قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ% وَاَلّذِى قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ: الْجُلاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ؛ وَاَلّذِى عُفِىَ عَنْهُ فِى هَذِهِ الآيَةِ مخشى بْنُ حِمْيَرَ، فَتِيبَ عَلَيْهِ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا. قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ% قَالَ: كَانَ نِسَاءٌ مُنَافِقَاتٌ مَعَ رِجَالٍ. وَقَوْلُهُ: ×بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ% أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ×يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ% بِأَذَى النّبِىّ ÷ وَتَكْذِيبِهِ ×وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ% عَنْ اتّبَاعِهِ ×وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ% لا يَتَصَدّقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ×نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ% يَقُولُ: تَرَكُوا اللّهَ فَتَرَكَهُمْ اللّهُ. ×وَعَدَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ% يَقُولُ: هِىَ جَزَاؤُهُمْ ×وَلَعَنَهُمْ اللّهُ% يَعْنِى فِى الدّنْيَا؛ ×وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ% فِى الآخِرَةِ. ×كَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ% يَعْنِى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مِمّنْ كَذّبَ الأَنْبِيَاءَ وَاسْتَهْزَأَ بِهِمْ وَقَدْ رَزَقَهُمْ اللّهُ الأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالأَوْلادَ فَذَكَرَ أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ثُمّ ذَكّرَ هَؤُلاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ بِهِ أُولَئِكَ، وَقَالَ: ×وَخُضْتُمْ كَالّذِى خَاضُوا% يَقُولُ: اسْتَهْزَيْتُمْ كَمَا اسْتَهْزَى أُولَئِكَ، ×أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ% يَعْنِى الأُمَمَ الّتِى كَانَتْ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ. ×وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ% يَقُولُ: يَأْمُرُونَ بِالإِسْلامِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْكُفْرِ، وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ، يَتَصَدّقُونَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ. يَقُولُ: ×يَا أَيّهَا النّبِىّ جَاهِدِ الْكُفّارَ% يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ بِالسّيْفِ، ×وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ% فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْلُظَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِلِسَانِهِ، ×وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ% يَعْنِى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. ×يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ% وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ؛ ×وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا% قَالُوا: نَضَعُ التّاجَ عَلَى رَأْسِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَىّ فَنَتَوَجّهَ إذَا رَجَعْنَا، وَيُقَالُ: هُمْ الّذِينَ هَمّوا بِالنّبِىّ ÷ فِى الْعَقَبَةِ؛ ×وَمَا نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ% نَزَلَتْ فِى الْجُلاسِ بْنِ سُوَيْدٍ، كَانَتْ لَهُ دِيَةٌ فِى الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَخَذَهَا لَهُ وَكَانَ مُحْتَاجًا. ×وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ% ×فَلَمّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ% إلَى قَوْلِهِ: ×وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ% نَزَلَتْ فِى ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا لا يَجِدُ مَا يَتَصَدّقُ بِهِ، فَقَالَ: وَاَللّهِ لَئِنْ آتَانِى اللّهُ مَالاً لأَتَصَدّقَنّ وَلأَكُونَنّ مِنْ الصّالِحِينَ. فَأَصَابَ دِيَةً اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَتَصَدّقْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الصّالِحِينَ. ×الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ% قَالَ جَاءَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْعَجْلانِىّ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَقَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ: إنّمَا أَرَادَ الرّيَاءَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصّدَقَاتِ، ×وَالّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ% نَزَلَتْ فِى عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ الْحَارِثِىّ، رَأَى النّبِىّ ÷ خَمِيصَ الْبَطْنِ فَجَاءَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ أُوجِرَك نَفْسِى أَجُرّ الْجَرِيرَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِى صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لا تُعْطِينِى فِيهِ خَدِرَةً - الْخَدِرَةُ الّتِى فِيهَا الدّخَانُ. أَوْ يُقَالُ: جَدِيدٌ وَلا حَشَفٌ. قَالَ: نَعَمْ. فَعَمِلَ مَعَهُ إلَى الْعَصْرِ، ثُمّ أَخَذَ التّمْرَ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِىّ ÷ فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا وَمَا يَصْنَعُ، مَا كَانَ اللّهُ يَصْنَعُ بِهَذَا، أَمَا كَانَ اللّهُ غَنِيّا عَنْ هَذَا؟ ×اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: وَدُعِىَ لِيُصَلّىَ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَىّ فَقَالَ: “لَوْ أَعْلَمُ أَنّى إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت؛ إنّى خُيّرْت فَاخْتَرْت” ×فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ% إلَى قَوْلِهِ: ×بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ% قَالَ: نَزَلَتْ فِى الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ% يَعْنِى مِنْ سَفْرَةِ تَبُوكَ؛ ×فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ كَانُوا اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ، ×فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوّا إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ% أَوّلَ سَفَرِى حِينَ خَرَجْت؛ ×فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ% مَعَ النّسَاءِ. ×وَلا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ% الآيَةُ، قَالَ: لَمّا مَاتَ ابْنُ أُبَىّ وُضِعَ فِى مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِيُصَلّىَ عَلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، تُصَلّى عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وَيَوْمَ كَذَا كَذَا؟ فَقَالَ: “يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطّابِ، إنّى خُيّرْت فَاخْتَرْت، فَلَوْ أَنّى أَعْلَمُ أَنّى إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ صَلاةً غُفِرَ لَهُ زِدْت”، وَذَلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: ×اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ% فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَدَفَنَهُ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ فَلَمْ يَرُمْ مَقَامَهُ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ×وَلا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا% الآيَةُ. ×وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطّوْلِ مِنْهُمْ% إلَى قَوْلِهِ: ×بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ% مَعَ النّسَاءِ ×وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ% نَزَلَتْ فِى الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مَيّلاً، كَثِيرَ الْمَالِ. ×وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ% يَعْنِى الْمُعْتَذِرُونَ، وَهُمْ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ مِنْ غِفَارٍ؛ ×لِيُؤْذَنَ لَهُمْ% فِى الْقُعُودِ يَقُولُ: وَيُعْذَرُوا فِى الْخُرُوجِ ×وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ% يَقُولُ: قَعَدَ الْمُنَافِقُونَ الّذِينَ تَخَلّفُوا، وَقَالُوا: اجْلِسُوا إنْ أَذِنَ لَكُمْ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×لَيْسَ عَلَى الضّعَفَاءِ% أَهْلِ الزّمَانَةِ وَالشّيْخِ الْكَبِيرِ، ×وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ% يَعْنِى الْمُعْسِرَ، ×حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ% إذَا كَانُوا هَكَذَا. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَلا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ% هَؤُلاءِ الْبَكّاؤُونَ، وَهُمْ سَبْعَةٌ أَبُو لَيْلَى الْمَازِنِىّ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الزّرَقِىّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ عَنَمَةَ السّلَمِىّ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِىّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ% مَعَ النّسَاءِ يَعْنِى الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ% أَىْ لَنْ نُصَدّقَكُمْ ×قَدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ% يَعْنِى مَا أَخْبَرَهُ مِنْ قِصّتِهِمْ ×وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ% يَعْنِى الْمُنَافِقِينَ إلَى قَوْلِهِ: ×سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ% يَعْنِى لا تَلُومُوهُمْ ×فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ% يَعْنِى اُتْرُكُوهُمْ ×إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×الأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ: يَعْنِى الأَعْرَابَ، ×وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا% إلَى قَوْلِهِ: ×وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ% يَعْنِى دُعَاءَ الرّسُولِ ×أَلا إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِى رَحْمَتِهِ% يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ% يَعْنِى مَنْ صَلّى الْقِبْلَتَيْنِ مِنْهُمْ، ×وَالّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. يَعْنِى مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ. وَفِى الْفَتْحِ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ% كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْعَرَبِ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْمُهُ مَعَهُ يُرْضُونَ أَصْحَابَ النّبِىّ ÷ وَيُرُونَهُمْ أَنّهُمْ مَعَهُمْ وَيُرْضُونَ قَوْمَهُمْ الّذِينَ هُمْ عَلَى الشّرْكِ. ×وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ% يَعْنِى مُنَافِقِى الْمَدِينَةِ؛ ×مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ% يَقُولُ: مَرَدُوا فِى النّفَاقِ ×لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ% ثُمّ أَعْلَمَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نَبِيّهُ ÷ بَعْدُ، ×سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ% يَعْنِى الأَعْرَابَ، يَقُولُ: الْجُوعُ وَعَذَابُ الْقَبْرِ، ×ثُمّ يُرَدّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ% يَقُولُ: إلَى النّارِ. ×وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ% إلَى آخِرِ الآيَةِ، نَزَلَتْ فِى أَبِى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ أَشَارَ إلَى بَنِى قُرَيْظَةَ أَنّهُ الذّبْحُ. ×خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ% يَعْنِى الْمُسْلِمِينَ ×صَدَقَاتُ أَمْوَالِهِمْ% يَعْنِى تُزَكّيهِمْ، ×وَصَلّ عَلَيْهِمْ% اسْتَغْفِرْ لَهُمْ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ% يَقُولُ: مَنْ أَقْبَلَ وَتَابَ ×وَيَقْبَلُ الصّدَقَاتِ% مَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللّهِ. يَقُولُ اللّهُ: ×وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. ×وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ% إلَى آخِرِ الآيَةِ يَعْنِى الثّلاثَةَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَهِلالَ بْنَ أُمَيّةَ، وَمُرَارَةَ بْنَ الرّبِيعِ. ×وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ% يَعْنِى أَبَا عَامِرٍ ×وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ% يَعْنِى أَنْ يُفَرّقُوا بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَيُصَلّى بَعْضُهُمْ فِيهِ ×وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ% يَعْنِى أَبَا عَامِرٍ يَقُولُ: يَقْدَمُ عَلَيْنَا مِنْ الشّامِ فَيَتَحَدّثُ عِنْدَنَا فِيهِ هُوَ لا يَدْخُلُ مَسْجِدَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَلَيَحْلِفُنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى% إلَى آخِرِ الآيَةِ ×لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ% إلَى قَوْلِهِ: ×وَاللّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالِمِينَ% يَقُولُ: لا تُصَلّ فِيهِ، وَصَلّ فِى مَسْجِدِ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَقَدْ أَسّسْته بِيَدِى، وَجِبْرِيلُ يَؤُمّ بِنَا الْبَيْتَ”. وَأَمّا قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا% كَانَ رِجَالٌ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنّمَ% يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ% يَقُولُ: شَكّ فِى قُلُوبِهِمْ، ×إِلاّ أَنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ% يَقُولُ: إلاّ أَنْ يَمُوتُوا. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ شَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ، عَنْ الأَعْرَجِ، قَالَ: إنّمَا عَنَى الرّجُلَيْنِ، وَلَمْ يَعْنِ الْمَسْجِدَ، أَىْ فِى قَوْلِهِ: ×أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ% وَقَوْلُهُ: ×إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ% إلَى قَوْلِهِ: ×وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ% يَقُولُ: اشْتَرَى مِنْ الّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِهِ وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيهِ بِأَنّ لَهُمْ الْجَنّةَ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×مَا كَانَ لِلنّبِىّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى% إلَى قَوْلِهِ: ×أَصْحَابِ الْجَحِيمِ% قَالَ: لَمّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَقَالَ: لأَسْتَغْفِرَنّ لَك حَتّى أُنْهَى، فَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لَمَوْتَاهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ×مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ% يَقُولُ: مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَلا يَتُوبُونَ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَل:ّ ×وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ% قَالَ: وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِمَ ×فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ% لَمّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ تَبَرّأَ مِنْهُ ×إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ% قَالَ: الأَوّاهُ الدّعَاءُ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ% يَعْنِى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَهِىَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَكَانَتْ فِى زَمَنٍ شَدِيدِ الْحَرّ ×مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ% يَقُولُ: أَبِى خَيْثَمَةَ وَمَا حَدّثَ نَفْسَهُ بِالتّخَلّفِ عَنْ النّبِىّ ÷ لِشِدّةِ الْحَرّ وَبُعْدِ الشّقّةِ، ثُمّ عَزَمَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ، ×ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ% ×وَعَلَى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ% إلَى قَوْلِهِ: ×التّوّابُ الرّحِيمُ% وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: ×الّذِينَ خُلّفُوا% يَعْنِى مَنْ تَعَذّرَ إلَى النّبِىّ ÷ مِمّنْ قُبِلَ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: ×مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ% يَعْنِى غِفَارًا، وَأَسْلَمَ، وَجُهَيْنَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ ×أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ% فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ ×وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ% يَعْنِى عَطَشٌ ×وَلا نَصَبٌ% يَعْنِى تَعَبٌ ×وَلا مَخْمَصَةٌ% مَجَاعَةٌ ×وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا% بِلادَ الْكُفّارِ ×وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ% قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً% إلَى آخِرِ الآيَةِ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافّةً فَلَوْلا نَفَرَ% إلَى آخِرِ الآيَةِ، يَقُولُ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إذَا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى غَزْوَةٍ أَنْ يَنْفِرُوا كُلّهُمْ وَيَتْرُكُوا الْمَدِينَةَ خُلُوفًا بِهَا الذّرَارِىّ، وَلَكِنْ يَنْفِرُ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ. يَقُولُ: بَعْضُهُمْ لِيَنْظُرُوا كَيْفَ سَيْرُ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى الْمُشْرِكِينَ وَيَعُوا مَا سَمِعُوا مِنْهُ ×وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ% يَعْنِى يَخَافُونَ اللّهَ. يَقُولُ: ×يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا% يَعْنِى يَقِينًا وَتَسْلِيمًا؛ فَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا: زَادَتْنَا يَقِينًا وَتَسْلِيمًا؛ وَأَمّا الْمُنَافِقُونَ فَزَادَتْهُمْ شَكّا وَرِيبَةً إلَى مَا كَانُوا فِيهِ. وَيُقَالُ إنّهَا فِى الْمُشْرِكِينَ، فَزَادَتْهُمْ شَكّا وَثَبَاتًا عَلَى دِينِهِمْ، وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×فِيهِمْ أَوَلا يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ% فَأَمّا مَنْ جَعَلَهَا فِى الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ يَكْذِبُونَ فِى السّنَةِ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ وَأَمّا مَنْ زَعَمَ أَنّهَا فِى الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: يُبْتَلَوْنَ بِالْغَزْوِ فِى السّنَةِ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ، ×ثُمّ لا يَتُوبُونَ% يَقُولُ: لا يُسْلِمُونَ ×وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ% إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ يَجْلِسُ عِنْدَ النّبِىّ ÷ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ الْمُنَافِقُونَ فَإِذَا خَلا رَسُولُ اللّهِ ÷ خَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: ×ثُمّ انْصَرَفُوا% يَعْنِى اسْتَهْزَءُوا فَكَذّبُوا بِالْحَقّ ×صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْهُ%. يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَهُوَ يُذَكّرُ نَبِيّهُ: ×لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ% يَقُولُ: مِنْكُمْ ×عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ% يَقُولُ: مَا أَخْطَأْتُمْ ×حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ% ×فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِىَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ%.

  • * *


حُجّةُ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَابْنُ أَبِى حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ أَبِى عِمْرَانَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكُلّ وَاحِدٍ قَدْ حَدّثَنِى بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ قَدْ عَاهَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَهْدًا؛ فَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجّ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فِى ثَلاثِمِائَةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً قَلّدَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷ النّعَالَ، وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ فِى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِىّ، وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ خَمْسَ بَدَنَاتٍ. وَحَجّ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَأَهْدَى بُدْنًا، وَقَوْمٌ أَهْلُ قُوّةٍ، وَأَهْلُ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَسَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِالْعَرْجِ فِى السّحَرِ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ الْقَصْوَاءِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْقَصْوَاءُ، فَنَظَرَ فَإِذَا عَلِىّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: اسْتَعْمَلَك رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْحَجّ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ بَعَثَنِى أَقْرَأُ بَرَاءَةٌ عَلَى النّاسِ، وَأَنْبِذُ إلَى كُلّ ذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ.

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَهِدَ إلَى أَبِى بَكْرٍ أَنْ يُخَالِفَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَلا يَقِفُ بِجَمْعٍ، وَلا يَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حَتّى تَغْرُبَ الشّمْسَ، وَيَدْفَعَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ، وَهُوَ مُفْرِدٌ بِالْحَجّ فَخَطَبَ النّاسَ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهْرِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ التّرْوِيَةِ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ مِنْ بَابِ بَنِى شَيْبَةَ، وَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصّبْحَ بِمِنًى. ثُمّ لَمْ يَرْكَبْ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، فَانْتَهَى إلَى نَمِرَةَ، فَنَزَلَ فِى قُبّةٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ فِيهَا، فَلَمّا زَاغَتْ الشّمْسُ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ بِبَطْنِ عُرَنَةَ، ثُمّ أَنَاخَ فَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، ثُمّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَوَقَفَ بِالْهِضَابِ - الْهِضَابُ عَرَفَةُ، وَالْمُصَلّى مِنْ عَرَفَةَ - فَلَمّا أَفْطَرَ الصّائِمُ دَفَعَ فَكَانَ يَسِيرُ الْعُنُقَ حَتّى انْتَهَى إلَى جَمْعٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ النّارِ الّتِى عَلَى قُزَحَ.

فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلّى الْفَجْرَ، ثُمّ وَقَفَ فَلَمّا أَسْفَرَ دَفَعَ وَجَعَلَ يَقُولُ فِى وُقُوفِهِ: يَا أَيّهَا النّاسُ أَسْفِرُوا، يَا أَيّهَا النّاسُ أَسْفِرُوا، ثُمّ دَفَعَ قَبْلَ الشّمْسِ فَكَانَ يَسِيرُ الْعُنُقَ حَتّى انْتَهَى إلَى مُحَسّرٍ، فَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ فَلَمّا جَازَ وَادِىَ مُحَسّرٍ عَادَ إلَى مَسِيرِهِ الأَوّلِ حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ رَاكِبًا؛ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثُمّ حَلَقَ. وَقَرَأَ عَلِىّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ رِضْوَانَ اللّهِ عَلَيْهِ يَوْمَ النّحْرِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ “بَرَاءَةٌ”، وَنَبَذَ إلَى كُلّ ذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ. قَالَ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: “لا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ” . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: حَضَرْت ذَلِكَ الْيَوْمَ - فَكَانَ يَقُولُ: هُوَ يَوْمُ الْحَجّ الأَكْبَرِ - فَخَطَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمَ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ خَطَبَ فِى حَجّتِهِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا؛ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بِمَكّةَ بَعْدَ الظّهْرِ وَبِعَرَفَةَ قَبْلَ الظّهْرِ وَبِمِنًى يَوْمَ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ. وَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَرْمِى الْجِمَارَ مَاشِيًا، ذَاهِبًا وَجَائِيًا، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الصّدْرِ – قَالُوا: رَمَى مَاشِيًا – فَلَمّا جَاوَزَ الْعَقَبَةَ رَكِبَ. وَيُقَالُ: رَمَى يَوْمَئِذٍ رَاكِبًا، فَلَمّا انْتَهَى إلَى الأَبْطَحِ صَلّى بِهِ الظّهْرَ وَدَخَلَ مَكّةَ فَصَلّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَافِلاً إلَى الْمَدِينَةِ.

  • * *


سَرِيّةُ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ إلَى الْيَمَنِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلِىّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ فِى رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُعَسْكِرَ بِقُبَاءَ فَعَسْكَرَ بِهَا حَتّى تَتَامّ أَصْحَابُهُ فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَئِذٍ لِوَاءً أَخَذَ عِمَامَةً فَلَفّهَا مَثْنِيّةً مُرَبّعَةً فَجَعَلَهَا فِى رَأْسِ الرّمْحِ ثُمّ دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَقَالَ: “هَكَذَا اللّوَاءُ”، وَعَمّمَهُ عِمَامَةً ثَلاثَةَ أَكْوَارٍ وَجَعَلَ ذِرَاعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَشِبْرًا مِنْ وَرَائِهِ، ثُمّ قَالَ: “هَكَذَا الْعِمّةُ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، قَالَ: لَمّا وَجّهَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَالَ: امْضِ، وَلا تَلْتَفِتْ، فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: “إذَا نَزَلْت بِسَاحَتِهِمْ فَلا تُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُقَاتِلُوك، فَإِنْ قَاتَلُوك فَلا تُقَاتِلْهُمْ حَتّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلاً، فَإِنْ قَتَلُوا مِنْكُمْ قَتِيلاً فَلا تُقَاتِلْهُمْ تَلَوّمْهُمْ، تُرِهِمْ أَنَاةً، ثُمّ تَقُولُ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إلَى أَنْ تَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُصَلّوا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ صَدَقَةً تَرُدّونَهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، فَلا تَبْغِ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَاَللّهِ لأَنْ يَهْدِى اللّهُ عَلَى يَدِك رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ”. قَالَ: فَخَرَجَ فِى ثَلاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَكَانَتْ خَيْلُهُمْ أَوّلَ خَيْلٍ دَخَلَتْ تِلْكَ الْبِلادَ فَلَمّا انْتَهَى إلَى أَدْنَى النّاحِيَةِ الّتِى يُرِيدُ - وَهِىَ أَرْضُ مَذْحِجَ - فَرّقَ أَصْحَابَهُ فَأَتَوْا بِنَهْبٍ وَغَنَائِمَ وَسَبْىٍ وَنِسَاءٍ، وَأَطْفَالٍ، وَنَعَمٍ، وَشَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَجَعَلَ عَلِىّ عَلَى الْغَنَائِمِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ، فَجَمَعَ إلَيْهِ مَا أَصَابُوا قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمْ جَمْعٌ، ثُمّ لَقِىَ جَمْعًا فَدَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ وَحَرّضَ بِهِمْ، فَأَبَوْا وَرَمَوْا فِى أَصْحَابِهِ. وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى مَسْعُودِ بْنِ سِنَانٍ السّلَمِىّ فَتَقَدّمَ بِهِ فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجَ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ فَبَرَزَ إلَيْهِ الأَسْوَدُ بْنُ الْخُزَاعِىّ السّلَمِىّ فَتَجَاوَلا سَاعَةً وَهُمَا فَارِسَانِ فَقَتَلَهُ الأَسْوَدُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ. ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِىّ بِأَصْحَابِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلاً، فَتَفَرّقُوا وَانْهَزَمُوا وَتَرَكُوا لِوَاءَهُمْ قَائِمًا، فَكَفّ عَنْ طَلَبِهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ فَسَارَعُوا وَأَجَابُوا، وَتَقَدّمَ نَفَرٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلامِ وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَهَذِهِ صَدَقَاتُنَا فَخُذْ مِنْهَا حَقّ اللّهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عُمَرُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِىّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَجَمَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ مَا أَصَابَ مِنْ تِلْكَ الْغَنَائِمِ فَجَزّأَهَا خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ فَأَقْرَعَ عَلَيْهَا، فَكَتَبَ فِى سَهْمٍ مِنْهَا لِلّهِ، فَخَرَجَ أَوّلُ السّهَامِ سَهْمُ الْخُمْسِ، وَلَمْ يُنْفِلْ أَحَدًا مِنْ النّاسِ شَيْئًا. فَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ يُعْطُونَ أَصْحَابَهُمْ - الْحَاضِرَ دُونَ غَيْرِهِمْ - مِنْ الْخُمْسِ. ثُمّ يُخْبِرُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فَلا يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ فَأَبَى وَقَالَ: الْخُمْسُ أَحْمِلُهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَهَذَا رَسُولُ اللّهِ ÷ يُوَافِى الْمَوْسِمَ وَنَلْقَاهُ وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللّهُ. فَانْصَرَفَ رَاجِعًا، وَحَمَلَ الْخُمْسَ وَسَاقَ مَعَهُ مَا كَانَ سَاقَ فَلَمّا كَانَ بِالْفُتُقِ تَعَجّلَ. وَخَلّفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَالْخُمُسِ أَبَا رَافِعٍ فَكَانَ فِى الْخُمُسِ ثِيَابٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ، أَحْمَالٌ مَعْكُومَةٌ وَنَعَمٌ تُسَاقُ مِمّا غَنِمُوا، وَنَعَمٌ مِنْ صَدَقَةِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ - وَكَانَ مَعَهُ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ - قَالَ: وَكَانَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ يَنْهَانَا أَنْ نَرْكَبَ عَلَى إبِلِ الصّدَقَةِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَكْسُوَهُمْ ثِيَابًا فَكَسَاهُمْ ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ، فَلَمّا كَانُوا بِالسّدْرَةِ دَاخِلِينَ مَكّةَ، خَرَجَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ يَتَلَقّاهُمْ لِيَقْدَمَ بِهِمْ فَيُنْزِلَهُمْ فَرَأَى عَلَى أَصْحَابِنَا ثَوْبَيْنِ ثَوْبَيْنِ عَلَى كُلّ رَجُلٍ فَعَرَفَ الثّيَابَ، فَقَالَ لأَبِى رَافِعٍ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَلّمُونِى فَفَرِقْت مِنْ شِكَايَتِهِمْ وَظَنَنْت أَنّ هَذَا يَسْهُلُ عَلَيْك، وَقَدْ كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَك يَفْعَلُ هَذَا بِهِمْ، فَقَالَ: رَأَيْت إبَائِى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَعْطَيْتهمْ، وَقَدْ أَمَرْتُك أَنْ تَحْتَفِظَ بِمَا خَلّفْت، فَتُعْطِيَهُمْ، قَالَ: فَأَبَى عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتّى جَرّدَ بَعْضَهُمْ مِنْ ثَوْبَيْهِ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ شَكَوْا، فَدَعَا عَلِيّا، فَقَالَ: “مَا لأَصْحَابِك يَشْكُونَك” ؟ فَقَالَ: مَا أَشْكِيَتُهُمْ؟ قَسّمْت عَلَيْهِمْ مَا غَنِمُوا، وَحَبَسْت الْخُمُسَ حَتّى يَقْدَمَ عَلَيْك، وَتَرَى رَأْيَك فِيهِ، وَقَدْ كَانَتْ الأُمَرَاءُ يَفْعَلُونَ أُمُورًا، يُنْفِلُونَ مَنْ أَرَادُوا مِنْ الْخُمُسِ، فَرَأَيْت أَنْ أَحْمِلَهُ إلَيْك لِتَرَى فِيهِ رَأْيَك. فَسَكَتَ النّبِىّ ÷. قَالَ: فَحَدّثَنِى سَالِمٌ مَوْلَى ثَابِتٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِى جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا ظَهَرَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ عَلَى عَدُوّهِ وَدَخَلُوا فِى الإِسْلامِ جَمَعَ مَا غَنِمَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ وَأَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ كِتَابًا مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِىّ يُخْبِرُهُ أَنّهُ لَقِىَ جَمْعًا مِنْ زُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنّهُ دَعَاهُمْ إلَى الإِسْلامِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنّهُمْ إنْ أَسْلَمُوا كَفّ عَنْهُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَقَاتَلَهُمْ، قَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: فَرَزَقَنِى اللّهُ الظّفَرَ عَلَيْهِمْ حَتّى قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، ثُمّ أَجَابُوا إلَى مَا كَانَ عُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَدَخَلُوا فِى الإِسْلامِ، وَأَطَاعُوا بِالصّدَقَةِ، وَأَتَى بِشْرٌ مِنْهُمْ لِلدّينِ وَعَلّمَهُمْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُوَافِيَهُ فِى الْمَوْسِمِ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التّنُوخِىّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حُلَيْسٍ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ عَلِىّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلامُ الْيَمَنَ خَطَبَ بِهِ، وَبَلَغَ كَعْبَ الأَحْبَارِ قِيَامُهُ بِخُطْبَتِهِ فَأَقْبَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِى حُلّةٍ مَعَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، حَتّى اسْتَمَعَا لَهُ فَوَاقَفَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: إنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ، قَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ، فَقَالَ عَلِىّ: وَفِيهِمْ مَنْ لا يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ، فَقَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ، فَقَالَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ: وَمَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ، فَقَالَ كَعْبٌ: صَدَقَ، فَقَالَ الْحَبْرُ: وَكَيْفَ تُصَدّقُهُ؟ قَالَ: أَمّا قَوْلُهُ: مِنْ النّاسِ مَنْ يُبْصِرُ بِاللّيْلِ وَلا يُبْصِرُ بِالنّهَارِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ الأَوّلِ، وَلا يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ الآخِرِ، وَأَمّا قَوْلُهُ: مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ، فَهُوَ مَا يَقْبَلُ اللّهُ مِنْ الصّدَقَاتِ. قَالَ: وَهُوَ مَثَلٌ رَأَيْته بَيّنٌ قَالُوا: وَجَاءَ كَعْبًا سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ حُلّتَهُ وَمَضَى الْحَبْرُ مُغْضَبًا؟. وَمَثَلَتْ بَيْنَ يَدَىْ كَعْبٍ امْرَأَةٌ تَقُولُ: مَنْ يُبَادِلُ رَاحِلَةً بِرَاحِلَةٍ؟ قَالَ كَعْبٌ: وَزِيَادَةِ حُلّةٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخَذَ كَعْبٌ وَأَعْطَى، وَرَكِبَ الرّاحِلَةَ وَلَبِسَ الْحُلّةَ، وَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى لَحِقَ الْحَبْرَ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطّوِيلَةِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْعَبْسِىّ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: لَمّا قَدِمَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ الْيَمَنَ، لَقِيته فَقُلْت: أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ مُحَمّدٍ، فَجَعَلَ يُخْبِرُنِى عَنْهُ وَجَعَلْت أَتَبَسّمُ، فَقَالَ: مِمّ تَتَبَسّمُ؟ فَقُلْت: مِمّا يُوَافِقُ عِنْدَنَا مِنْ صِفَتِهِ، فَقَالَ: مَا يُحِلّ وَمَا يُحَرّمُ؟ فَقُلْت: فَهُوَ عِنْدَنَا كَمَا وَصَفْت وَصَدّقْت بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَآمَنْت بِهِ، وَدَعَوْت مَنْ قِبَلَنَا مِنْ أَحْبَارِنَا، وَأَخْرَجْت إلَيْهِمْ سَفَرًا فَقُلْت: هَذَا كَانَ أَبِى يَخْتِمُهُ عَلَىّ وَيَقُولُ: لا تَفْتَحْهُ حَتّى تَسْمَعَ بِنَبِىّ يَخْرُجُ بِيَثْرِبَ. قَالَ: فَأَقَمْت بِالْيَمَنِ عَلَى إسْلامِى حَتّى تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَتُوُفّىَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَقَدِمْت فِى خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَيَا لَيْتَ أَنّى كُنْت تَقَدّمْت فِى الْهِجْرَةِ.

  • * *

بَابٌ مَا جَاءَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الصّدَقَاتِ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِى حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنِى سَالِمٌ مَوْلَى ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، قَالَ: قَرَأْت كِتَابًا عِنْدَ أَبِى جَعْفَرٍ فِيهِ: “بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَوَائِمِ مَوَاشِيهمْ مِنْ كُلّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى الْمِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلاثٌ إلَى ثَلاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ شَاةً فَفِى كُلّ مِائَةٍ شَاةٍ شَاةٌ، وَفِى صَدَقَةِ الإِبِلِ فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِى كُلّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَثَلاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتّةً وَثَلاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقّةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ إحْدَى وَسِتّينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتّا وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ إحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، وَلا يُؤْخَذُ فِى الصّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا تَيْسٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، إلاّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدّقُ، وَلا يُفَرّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرّقَيْنِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسّوِيّةِ، فَإِذَا زَادَتْ الإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِى كُلّ خَمْسِينَ حِقّةٌ، وَفِى كُلّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ، وَفِى كُلّ ثَلاثِينَ جَذَعٌ، أَوْ جَذَعَةٌ فِى كُلّ أَرْبَعِينَ مُسِنّةٌ، وَفِيمَا سَقَتْ السّمَاءُ أَوْ سُقِىَ بِالْغَيْلِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِىَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيّةٍ أَوْ نَصْرَانِيّةٍ لَمْ يُفْتَنْ عَنْهَا، وَأُخِذَ مِنْهُ دِينَارٌ عَلَى كُلّ حَالِمٍ أَوْ عَدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِىّ”. قَالَ: حَدّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ الْمُكَيْدِرِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِى بَشِيرٍ الْمَازِنِىّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، قَالَ: كُنّا مَعَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ بِالْيَمَنِ فَرَأَيْته يَأْخُذُ الْحَبّ مِنْ الْحَبّ، وَالْبَعِيرَ مِنْ الإِبِلِ، وَالشّاءَ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ، وَالزّبِيبَ مِنْ الزّبِيبِ، وَكَانَ لا يُكَلّفُ النّاسَ مَشَقّةً، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ فِى أَفْنِيَتِهِمْ فَيُصَدّقَ مَوَاشِيَهُمْ، وَيَأْمُرَ مَنْ يَسْقَبُ بِذَلِكَ، وَكَانَ لا يُفَرّقُ الْمَاشِيَةَ كَانَ يَقْعُدُ فَمَا أُتِىَ بِهِ مِنْ شَاةٍ فِيهَا رَفَاءٌ لَهُ أَخَذَهَا، وَيَأْمُرُ مَنْ يَسْقَبُ بِذَلِكَ وَيَقْسِمُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ - يَسْقَبُ يَسْعَى عَلَيْهِمْ - يَأْخُذُ الصّدَقَةَ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا؛ يَعْرِفُهُمْ. قَالَ: حَدّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمّدٍ الْفِهْرِىّ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِى فَرْوَةَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَعَ رُسُلِ حِمْيَرَ، وَبَعَثَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنْ اجْتَمَعْتُمَا فِى مَكِيدَةٍ فَعَلِىّ عَلَى النّاسِ، وَإِنْ افْتَرَقْتُمَا فَكُلّ عَلَى حِدَةٍ”، قَالَ رَجَاءٌ: وَكَانَ قَدْ قَضَى بِهَا قَضِيّةً دِيَةُ النّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ، وَأَلْفَىْ شَاةٍ عَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ مِائَتَىْ جَذَعَةٍ - أَىْ ثُمّ ضَالَعَ الشّاةَ جَذَعَةً ثُمّ ثَنِيّةً - وَمِائَتَىْ بَقَرَةٍ نِصْفُهَا تَبِيعٌ وَنِصْفُهَا مَسَانّ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ أَلْفَىْ ثَوْبٍ مَعَافِرِيّةٌ. قَالُوا: احْتَفَرَ قَوْمٌ بِالْيَمَنِ بِئْرًا، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ سَقَطَ فِيهَا أَسَدٌ، فَأَصْبَحَ النّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَسَقَطَ إنْسَانٌ فِى الْبِئْرِ فَتَعَلّقَ بِآخَرَ، فَتَعَلّقَ الآخَرُ بِآخَرَ، حَتّى كَانُوا فِى الْبِئْرِ أَرْبَعَةً فَحَرِبَ الأَسَدُ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، فَأَهْوَى لَهُ رَجُلٌ بِرُمْحِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النّاسُ: الأَوّلُ عَلَيْهِ دِيَتُهُمْ فَهُوَ قَتَلَهُمْ، فَأَرَادُوا يُقْبِلُونَ فَمَرّ بِهِمْ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِى بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَمَنْ رَضِىَ فَهُوَ إلَى قَضَائِهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ إلَى غَيْرِهِ فَلا حَقّ لَهُ حَتّى يَكُونَ النّبِىّ ÷ يَقْضِى فِيكُمْ، اجْمَعُوا مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ مِنْ النّاسِ فَجَمَعُوا كُلّ مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ، ثُمّ قَالَ: رُبُعُ دِيَةٍ، وَثُلُثُ دِيَةٍ، وَنِصْفُ دِيَةٍ، وَدِيَةٌ تَامّةٌ، فَالأَسْفَلُ رُبُعُ دِيَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنّهُ هَلَكَ مِنْ فَوْقِهِ ثَلاثَةٌ، وَلِلثّانِى ثُلُثُ الدّيَةِ، لأَنّهُ هَلَكَ اثْنَانِ، وَلِلثّالِثِ نِصْفُ الدّيَةِ، مِنْ أجْل أَنّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ وَاحِدٌ، وَلِلأَوّلِ الدّيَةُ كَامِلَةٌ. فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ بَيْنَكُمْ قَضَاءٌ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَوْا فَلا حَقّ لَكُمْ حَتّى يَأْتِىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَيَقْضِى بَيْنَكُمْ. فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ ÷ فِى حَجّتِهِ، وَهُمْ عَشْرَةُ نَفَرٍ، فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَصّوا عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: “أَنَا أَقْضِى بَيْنَكُمْ إنْ شَاءَ اللّهُ”، فَقَامَ أَحَدُ النّفَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ عَلِيّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا، فَقَالَ: “فِيمَ قَضَى بَيْنَكُمْ”؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ، فَقَالَ: “هُوَ مَا قَضَى بِهِ”، فَقَامَ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: هَذَا قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ، فَلَزِمَ الْمَقْضِىّ عَلَيْهِمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ الأُسْدِ أَهِىَ فِى بِلادِهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهَا لَكَثِيرَةٌ تُغِيرُ عَلَى مَاشِيَتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الأُسْدِ”؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: “فَإِنّهُ غَدَا عَلَى ابْنٍ لِحَوّاءَ فَأَكَلَهُ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ حَوّاءُ فَقَالَتْ: وَيْلَك، أَكَلْت ابْنِى، قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِى أَنْ آكُلَ رِزْقًا سَاقَهُ اللّهُ إلَىّ، فَأَقْبَلَ آدَمُ، فَقَالَ: وَيْلَك، تُخَاطِبُهَا وَقَدْ أَكَلْت ابْنَهَا؟ اخْسَأْ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلِذَلِكَ لا يَمْشِى إلاّ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ”. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنْ شِئْتُمْ وَظّفْت لَهُ وَظِيفَةً لا يَعْدُوهَا إلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْته يُجَالِسُكُمْ وَتَحْذَرُونَ مِنْهُ”، فَخَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: وَظّفْ لَهُ وَظِيفَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَخْشَى أَلاّ يَحْمِلَهَا قَوْمُنَا وَلا يُطِيعُونَ بِهَا، فَنَكُونُ قَدْ قُلْنَا لِرَسُولِ اللّهِ ÷ قَوْلاً لا نَفِى بِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْهُ يُجَالِسُنَا وَنَتَحَذّرُ مِنْهُ، فَقَالَ: “فَذَاكَ”، فَوَلّى الْقَوْمُ رَاجِعِينَ إلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى قَوْمِهِمْ أَخْبَرُوهُمْ، فَقَالُوا: وَاَللّهِ مَا هُدِيتُمْ لِرُشْدِكُمْ لَوْ قَبِلْتُمْ مَا وَظّفَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَمِنْتُمْ مِنْهُ، فَهَيّئُوا رَجُلاً يَبْعَثُونَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى ذَلِكَ فَتُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ الرّسُولُ. قَالَ: وَحَدّثَنِى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَحَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ مَوْلًى لآلِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: قَدِمَ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ مِنْ الْيَمَنِ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمّنْ حَلّ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلِىّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَمَرَنِى بِهَذَا أَبِى، قَالَ عَلِىّ، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ مُحَرّشًا عُلَى فَاطِمَةَ لِلّذِى صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا رَسُولَ اللّهِ ÷ لِلّذِى ذَكَرَتْ عَنْهُ، وَأَخْبَرْته أَنّى أَنْكَرْت ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَبِى أَمَرَنِى بِذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “صَدَقْت مَاذَا قُلْت: حِينَ فَرَضْت الْحَجّ”؟ قَالَ قُلْت: اللّهُمّ إنّى أُهِلّ بِمَا أَهَلّ بِهِ رَسُولُك، قَالَ: “فَإِنّ مَعِى الْهَدْىَ فَلا تَحِلّ”، فَكَانَتْ جَمَاعَةُ الْهَدْىِ الّذِى جَاءَ بِهِ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، وَاَلّذِى سَاقَهُ النّبِىّ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَحَلّ النّاسُ، وَقَصّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، ثُمّ نَحَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ هَدْيَهُ وَأَشْرَكَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلامُ فِى هَدْيِهِ.

  • * *





حَجّةُ الْوَدَاعِ قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، وَأَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ مَنْ سَمّيْت قَدْ حَدّثَنَا أَيْضًا، قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَىْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوّلِ فَأَقَامَ يُضَحّى بِالْمَدِينَةِ كُلّ عَامٍ لا يَحْلِقُ وَلا يُقَصّرُ، وَيَغْزُو الْمَغَازِىَ، وَلَمْ يَحُجّ حَتّى كَانَ فِى ذِى الْقِعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، فَأَجْمَعَ الْخُرُوجَ، وَآذَنَ النّاسَ بِالْحَجّ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلّهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَأْتَمّ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ وَيَعْمَلَ بِعَمَلِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ أَوّلُهَا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقَ فِى ذِى الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتّ، ثُمّ عُمْرَةُ الْقَضِيّةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِى ذِى الْقِعْدَةِ وَأَهْدَى سِتّينَ بَدَنَةً، وَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَحَلَقَ، وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ فِى ذِى الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ: كَمْ حَجّ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ لَدُنْ نُبّئَ إلَى أَنْ تُوُفّيَ؟ قَالَ: حَجّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْحَارِثُ: فَسَأَلْت أَبَا هَاشِمٍ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مُحَمّدِ بْنِ الْحَنَفِيّةِ، قَالَ: حَجّ حَجّةً بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ النّبُوّةِ، وَحَجّتَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ، يَقُولُ: حَجّتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَالأَمْرُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا الّذِى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِنَا، إنّمَا حَجّ حَجّةً وَاحِدَةً مِنْ الْمَدِينَةِ، وَهِىَ الْحَجّةُ الّتِى يَقُولُ النّاسُ: إنّهَا حَجّةُ الْوَدَاعِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كُرِهَ أَنْ يُقَالَ: حَجّةُ الْوَدَاعِ، فَقِيلَ: حَجّةُ الإِسْلامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ السّبْتِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقِعْدَةِ، فَصَلّى الظّهْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَحْرَمَ عِنْدَ صَلاةِ الظّهْرِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. قَالَ: فَحَدّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ انْتَهَى إلَى ذِى الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ الظّهْرِ فَبَاتَ، لأَنْ يَجْتَمِعَ إلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَالْهَدْىُ حَتّى أَحْرَمَ عِنْدَ الظّهْرِ مِنْ الْغَدِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ بَيْتِهِ مُدّهِنًا مُتَرَجّلاً مُتَجَرّدًا حَتّى أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَحْرَمَ فِى ثَوْبَيْنِ صُحَارِيّيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَأَبْدَلَهُمَا بِالتّنْعِيمِ بِثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسِهِمَا. قَالُوا: لَمّا اجْتَمَعَ إلَيْهِ نِسَاؤُهُ - وَكَانَ حَجّ بِهِنّ جَمِيعًا فِى حَجّتِهِ فِى الْهَوَادِجِ - وَانْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ اجْتِمَاعُ أَصْحَابِهِ وَالْهَدْىِ دَخَلَ مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ أَنْ صَلّى الظّهْرَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ فَدَعَا بِالْهَدْىِ فَأَشْعَرَهُ فِى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ وَقَلّدَ نَعْلَيْنِ. ثُمّ رَكِبَ نَاقَتَهُ فَلَمّا اسْتَوَى بِالْبَيْدَاءِ أَحْرَمَ. فَقَالَ: فَحَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: انْتَهَيْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بِذِى الْحُلَيْفَةِ لَيْلاً، وَمَعَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، فَبِتْنَا بِذِى الْحُلَيْفَةِ فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأَيْت الْهَدْىَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ أَشْعَرَ هَدْيَهُ وَقَلّدَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَالْقَوْلُ الأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّهُ لَمْ يَبِتْ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجَمّرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النّبِىّ ÷ يَقُولُ: لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يُشْعِرَ بُدْنَهُ أَتَى بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ وَقَلّدَهَا. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: أَشْعَرَهَا وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَسَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ. وَيُقَالُ: إنّ النّبِىّ ÷ أَمَرَ بِأَنْ يُشْعِرَ مَا فَضَلَ مِنْ الْبُدْنِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الْهَدْىِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنْت عَلَى هَدْىِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى حَجّتِهِ، وَكَانَ مَعِى فَتَيَانِ مِنْ أَسْلَمَ، كُنّا نَسُوقُهَا سَوْقًا نَبْتَغِى بِهَا الرّعْىَ وَعَلَيْهَا الْجِلالُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت مَا عَطِبَ مِنْهَا، كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: “تَنْحَرُهُ وَتُلْقِى قَلائِدَهُ فِى دَمِهِ، ثُمّ تَضْرِبُ بِهِ صَفْحَتَهُ الْيُمْنَى، ثُمّ لا تَأْكُلْ مِنْهَا وَلا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك”. قَالَ: ثُمّ قَدِمْنَا مَكّةَ بَعْدَ يَوْمٍ ثُمّ رُحْنَا يَوْمَ التّرْوِيَةِ إلَى عَرَفَةَ بِالْهَدْىِ، ثُمّ انْحَدَرْنَا مِنْ عَرَفَةَ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى جَمْعٍ، ثُمّ انْتَهَيْنَا مِنْ جَمْعٍ إلَى مَنْزِلِ النّبِىّ ÷ بِمِنًى حَيْثُ ضُرِبَتْ قُبّتُهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ سُقْ الْهَدْىَ إلَى الْمَنْحَرِ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَنْحَرُ الْهَدْىَ بِيَدَيْهِ، وَأَنَا أُقَدّمُهَا إلَيْهِ تَعْتَبُ فِى الْعَقْل. قَالُوا: وَمَرّ النّبِىّ ÷ بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: “ارْكَبْهَا وَيْلَك” قَالَ: إنّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: “ارْكَبْهَا” وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَأْمُرُ الْمُشَاةَ أَنْ يَرْكَبُوا عَلَى بُدْنِهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ: طَيّبْت لِرَسُولِ اللّهِ ÷ إحْرَامَهُ بِيَدَىّ، وَكَانَتْ تَقُولُ: أَحْرَمْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَتَطَيّبْت، فَلَمّا كُنّا بِالْقَاحَةِ سَالَ مِنْ الصّفْرَةِ عَلَى وَجْهِى، فَقَالَ: “مَا أَحْسَنَ لَوْنَك الآنَ يَا شُقَيْرَاءُ”، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يُصَلّى بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ رَكْعَتَيْنِ آمِنًا لا يَخَافُ إلاّ اللّهَ تَعَالَى، فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ صَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ سَلّمَ، ثُمّ قَالَ: “أَتِمّوا صَلاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكّةَ، فَإِنّا سَفْرٌ”. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيمَا أَهَلّ بِهِ ÷. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى طَوَالَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِى طَلْحَةَ، أَنّ النّبِىّ ÷ قَرَنَ مَعَ حَجّتِهِ عُمْرَةً. قَالَ: وَحَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷ قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ تَأْمُرُ النّاسَ أَنْ يَحِلّوا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ قَالَ: “إنّى لَبّدْت رَأْسِى، وَقَلّدْت هَدْيِى، فَلا أَحِلّ حَتّى أَنْحَرَ هَدْيِى”. حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقّاصٍ؛ وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالا: أَهَلّ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْىَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أَفْرَدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْحَجّ، فَكَانَ هَذَا الأَمْرُ الّذِى أَخَذَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الأَحَدِ بِمَلَلٍ، ثُمّ رَاحَ فَتَعَشّى بِشَرَفِ السّيّالَةِ، وَصَلّى بِالشّرَفِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَصَلّى الصّبْحَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ بَيْنَ الرّوْحَاءِ وَالسّيّالَةِ - وَهُوَ دُونَ الرّوْحَاءِ، فِى الْمَسْجِدِ الّذِى عَنْ يَمِينِ الطّرِيقِ. ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الرّوْحَاءَ، فَإِذَا بِحِمَارٍ عَقِيرٍ فَذُكِرَ لِلنّبِىّ ÷، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا حِمَارٌ عَقِيرٌ، قَالَ: “دَعُوهُ حَتّى يَأْتِىَ صَاحِبُهُ”، فَجَاءَ النّهْدِىّ وَهُوَ صَاحِبُهُ فَأَهْدَاهُ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: “صَيْدُ الْبَرّ لَكُمْ حَلالٌ إلاّ مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ”. ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الرّوْحَاءِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِالْمُنْصَرَفِ، ثُمّ صَلّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَتَعَشّى بِهِ، وَصَلّى الصّبْحَ بِالأَثَايَةِ وَأَصْبَحَ يَوْمَ الثّلاثَاءِ بِالْعَرْجِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَصُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ ÷ بِالْمَدِينَةِ: إنّ عِنْدِى بَعِيرًا نَحْمِلُ عَلَيْهِ زَادَنَا، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “فَذَاكَ إذًا”، قَالَتْ: فَكَانَتْ زَامِلَةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَبِى بَكْرٍ وَاحِدَةً، فَأَمَرَ النّبِىّ ÷ بِزَادٍ دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ، فَجَعَلَ عَلَى بَعِيرِ أَبِى بَكْرٍ، وَكَانَ غُلامُهُ يَرْكَبُ عَلَيْهِ عُقْبَةً، فَلَمّا كَانَ بِالأَثَايَةِ عَرّسَ الْغُلامُ، وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَقَامَ الْبَعِيرُ يَجُرّ خِطَامَهُ آخِذًا فِى الشّعْبِ، وَقَامَ الْغُلامُ فَلَزِمَ الطّرِيقَ يَظُنّ أَنّهُ سَلَكَهَا، وَهُوَ يَنْشُدُهُ فَلا يَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى أَبْيَاتٍ بِالْعَرْجِ فَجَاءَ الْغُلامُ مُظْهِرًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: أَيْنَ بَعِيرُك؟ قَالَ: ضَلّ مِنّى، قَالَ: وَيْحَك، لَوْ لَمْ يَكُنْ إلاّ أَنَا لَهَانَ الأَمْرُ عَلَىّ، وَلَكِنْ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَهْلُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَعَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ، وَكَانَ صَفْوَانُ عَلَى سَاقَةِ النّاسِ، وَأَنَاخَهُ عَلَى بَابِ مَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَقَالَ لأَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: اُنْظُرْ هَلْ تَفْقِدُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِك فَنَظَرَ، فَقَالَ: مَا نَفْقِدُ شَيْئًا إلاّ قَعْبًا كُنّا نَشْرَبُ بِهِ، فَقَالَ الْغُلامُ: هَذَا الْقَعْبُ مَعِى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: أَدّى اللّهُ عَنْك الأَمَانَة. قَالَ: حَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمّا نَزَلَ الْعَرْجَ جَلَسَ بِفِنَاءِ مَنْزِلِهِ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا فَجَلَسَتْ إلَى جَنْبِهِ الآخَرِ، وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ فَجَلَسَتْ إلَى جَنْبِ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ غُلامُ أَبِى بَكْرٍ مُتَسَرْبِلاً، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: أَيْنَ بَعِيرُك؟ قَالَ: أَضَلّنِى، فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ يَضِلّ مِنْك؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَتَبَسّمُ وَيَقُولُ: “أَلا تَرَوْنَ إلَى هَذَا الْمُحْرِمِ وَمَا يَصْنَعُ”؟ وَمَا يَنْهَاهُ رَسُولُ اللّهِ ÷. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدٍ الأَسْلَمِىّ، عَنْ آلِ نَضْلَةَ الأَسْلَمِىّ، أَنّهُمْ خُبّرُوا أَنّ زَامِلَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷ ضَلّتْ فَحَمَلُوا جَفْنَةً مِنْ حَيْسٍ فَأَقْبَلُوا بِهَا حَتّى وَضَعُوهَا بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَجَعَلَ يَقُولُ: “هَلُمّ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَدْ جَاءَك اللّهُ بِغَدَاءٍ طَيّبٍ”، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَغْتَاظُ عَلَى الْغُلامِ فَقَالَ النّبِىّ ÷: “هَوّنْ عَلَيْك، فَإِنّ الأَمْرَ لَيْسَ إلَيْك، وَلا إلَيْنَا مَعَك قَدْ كَانَ الْغُلامُ حَرِيصًا أَلاّ يَضِلّ بَعِيرُهُ، وَهَذَا خَلَفٌ مِمّا كَانَ مَعَهُ”، فَأَكَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَهْلُهُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَكُلّ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ÷ حَتّى شَبِعُوا. قَالَ: وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَابْنُهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بِزَامِلَةٍ تَحْمِلُ زَادًا، يَؤُمّانِ رَسُولَ اللّهِ ÷ حَتّى يَجِدَا رَسُولَ اللّهِ ÷ وَاقِفًا عِنْدَ بَابِ مَنْزِلِهِ قَدْ أَتَى اللّهُ بِزَامِلَتِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ زَامِلَتَك أَضَلّتْ مَعَ الْغُلامِ، وَهَذِهِ زَامِلَةٌ مَكَانَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “قَدْ جَاءَ اللّهُ بِزَامِلَتِنَا فَارْجِعَا بِزَامِلَتِكُمَا بَارَكَ اللّهُ عَلَيْكُمَا أَمَا يَكْفِيك يا أَبَا ثَابِتٍ مَا تَصْنَعُ بِنَا فِى ضِيَافَتِك مُنْذُ نَزَلْنَا الْمَدِينَةَ”؟ قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ الْمِنّةُ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَلّذِى تَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ الّذِى تَدَعُ، قَالَ: “صَدَقْتُمْ يَا أَبَا ثَابِتٍ أَبْشِرْ فَقَدْ أَفْلَحْت إنّ الأَخْلاقَ بِيَدِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ، وَمَنْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَمْنَحَهُ مِنْهَا خُلُقًا صَالِحًا مَنَحَهُ، وَلَقَدْ مَنَحَك اللّهُ خُلُقًا صَالِحًا”. فَقَالَ سَعْدٌ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِى هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَهْلَ بَيْتِ سَعْدٍ فِى الْجَاهِلِيّةِ سَادَتُنَا وَالْمُطْعِمُونَ فِى الْمَحْلِ مِنّا، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “النّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلامِ، إذَا فَقِهُوا، لَهُمْ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ”. قَالَ ابْنُ أَبِى الزّنَادِ: يَقُولُ لَهُ جَمِيلٌ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِلَحْيَىْ جَمَلٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. قَالَ: حَدّثَنِى بِذَلِكَ مُحَمّدٌ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِى الزّنَادِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِى عَلْقَمَةَ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالُوا: وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ السّقْيَا يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، ثُمّ أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالأَبْوَاءِ فَأَهْدَى لَهُ الصّعْبُ بْنُ جَثّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ يَقْطُرُ دَمًا، فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ ÷، وَقَالَ: “إنّا حُرُمٌ”. فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَأْكُلُ بِالأَبْوَاءِ لِيَاءً مُقَشّى أُهْدِىَ لَهُ مِنْ وَدّانَ، ثُمّ قَامَ فَصَلّى وَلَمْ يَتَوَضّأْ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْمَسْجِدِ الّذِى يَنْظُرُ وَادِىَ الأَبْوَاءِ، عَلَى يَسَارِك وَأَنْتَ مُوَجّهٌ إلَى مَكّةَ. ثُمّ رَاحَ النّبِىّ ÷ مِنْ الأَبْوَاءِ فَصَلّى بِتَلَعَاتِ الْيَمَنِ، وَكَانَ هُنَاكَ سَمُرَةٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ أَنّ النّبِىّ ÷ جَلَسَ تَحْتَهَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصُبّ الإِدَاوَةَ تَحْتَهَا إذَا مَرّ بِهَا، يَسْقِيهَا. قَالَ: حَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ أَنّ النّبِىّ ÷ جَلَسَ تَحْتَهَا، وَأَنّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصُبّ الإِدَاوَةَ تَحْتَهَا فِى أَصْلِ السّمُرَةِ يُرِيدُ بَقَاءَهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى الْمَسْجِدِ الّذِى هُنَاكَ حِينَ يَهْبِطُ مِنْ ثَنِيّةِ أَرَاكٍ عَلَى الْجُحْفَةِ، وَنَزَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْجُحْفَةَ، ثُمّ رَاحَ مِنْهَا فَصَلّى فِى الْمَسْجِدِ الّذِى يُحْرِمُ مِنْهُ مُشْرِفًا خَارِجًا مِنْ الْجُحْفَةِ، وَالْمَسْجِدُ الّذِى دُونَ خَمّ عَنْ يَسَارِ الطّرِيقِ فَكَانَ يَوْمَ السّبْتِ بِقُدَيْدٍ فَصَلّى فِى الْمَسْجِدِ الْمُشَلّلِ، وَصَلّى فِى الْمَسْجِدِ الّذِى أَسْفَلَ مِنْ لَفَتٍ. قَالَ: حَدّثَنِى إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرّ النّبِىّ ÷ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةِ فِى مِحَفّتِهَا، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ فَأَخَذَتْ بِعَضُدِهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلِهَذَا حَجّ؟ فَقَالَ: “نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ”، وَكَانَ يَوْمَ الأَحَدِ بِعْسْفَانَ، ثُمّ رَاحَ. فَلَمّا كَانَ بِالْغَمِيمِ اعْتَرَضَ الْمُشَاةَ فَصُفّوا لَهُ صُفُوفًا فَشَكَوْا إلَيْهِ الْمَشْىَ فَقَالَ: “اسْتَعِينُوا بِالنّسَلانِ”، فَفَعَلُوهُ فَوَجَدُوا لِذَلِكَ رَاحَةً. وَكَانَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ بِمَرّ الظّهْرَانِ، فَلَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا حَتّى أَمْسَى، وَغَرَبَتْ لَهُ الشّمْسُ فَلَمْ يُصَلّ الْمَغْرِبَ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ. فَلَمّا انْتَهَى إلَى الثّنِيّتَيْنِ بَاتَ بَيْنَهُمَا، بَيْنَ كُدًى وَكَدَاءٍ، ثُمّ أَصْبَحَ فَاغْتَسَلَ وَدَخَلَ مَكّةَ نَهَارًا. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ دَخَلَ مَكّةَ نَهَارًا مِنْ كُدًى عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الأَبْطَحِ، حَتّى دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكّةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْبَابِ الّذِى يُقَالُ لَهُ: بَابُ بَنِى شَيْبَةَ، فَلَمّا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَوَقَعَ زِمَامُ نَاقَتِهِ فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ، قَالُوا: ثُمّ قَالَ حِينَ رَأَى الْبَيْتَ: “اللّهُمّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرّا”. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالطّوَافِ قَبْلَ الصّلاةِ، قَالُوا: وَلَمّا انْتَهَى إلَى الرّكْنِ اسْتَلَمَهُ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ: “بِسْمِ اللّهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ”، ثُمّ رَمَلَ ثَلاثَةً مِنْ الْحَجَرِ، وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللّهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ إيمَانًا بِاَللّهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِى السّائِبِ الْمَخْزُومِىّ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الرّكْنِ الْيَمَانِىّ وَالأَسْوَدِ: “رَبّنَا آتِنَا فِى الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَمَقْت النّبِىّ ÷ فَلَمْ يَسْتَلِمْ مِنْ الأَرْكَانِ إلاّ الْيَمَانِىّ وَالأَسْوَدَ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، قَالُوا: ثُمّ انْتَهَى إلَى خَلْفِ الْمَقَامِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا: ×قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ% و×قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ% ثُمّ عَادَ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ. وَقَدْ قَالَ لِعُمَرَ: “إنّك رَجُلٌ قَوِىّ؛ إنْ وَجَدْت الرّكْنَ خَالِيًا فَاسْتَلِمْهُ وَإِلاّ فَلا تُزَاحِمْ النّاسَ عَلَيْهِ فَتُؤْذِى وَتُؤْذَى”. وَقَالَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: “وَكَيْفَ صَنَعْت بِالرّكْنِ يَا أَبَا مُحَمّدٍ”؟ قَالَ: اسْتَلَمْت وَتَرَكْت. قَالَ: “أَصَبْت”، ثُمّ خَرَجَ إلَى الصّفَا مِنْ بَابِ بَنِى مَخْزُومٍ، وَقَالَ: “أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهِ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَفْدَانَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِى أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ سَعَى بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ. قَالَ: حَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ حَمّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَدِمَ وَهُوَ سَاكِنٌ فَطَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَبِى جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: طَافَ يَوْمَئِذٍ عَلَى بَغْلَتِهِ، وَالأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ - عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالُوا: فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى الصّفَا، فَكَبّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَقَالَ: “لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ”، ثُمّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، فَلَمّا انْصَبّتْ قَدَمَاهُ فِى الْوَادِى رَمَلَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَلِىّ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أُمّهِ، عَنْ بَرّةَ بِنْتِ أَبِى تِجْرَاةَ، قَالَتْ: لَمّا انْتَهَى النّبِىّ ÷ إلَى الْمَسْعَى، قَالَ: “أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السّعْىَ فَاسْعَوْا”، فَسَعَى حَتّى رَأَيْت إزَارَهُ انْكَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ، وَقَالُوا: قَالَ فِى الْوَادِى: “رَبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ الأَعَزّ الأَكْرَمُ”، فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْمَرْوَةِ فَعَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصّفَا، فَبَدَأَ بِالصّفَا وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَدْ اضْطَرَبَ بِالأَبْطَحِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى بُرْدٌ أَنّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِى النّضْرِ حَدّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِى مُرّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ، عَنْ أُمّ هَانِئٍ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاّ تَنْزِلُ فِى بُيُوتِ مَكّةَ؟ فَأَبَى وَاضْطَرَبَ بِالأَبْطَحِ، حَتّى خَرَجَ يَوْمَ التّرْوِيَةِ، ثُمّ رَجَعَ مِنْ مِنًى فَنَزَلَ بِالأَبْطَحِ، حَتّى خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَيْتًا وَلَمْ يُظِلّهُ. قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْكَعْبَةَ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى بَابِهَا خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَدَخَلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَبِلالٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ طَوِيلاً، ثُمّ فَتَحُوهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكُنْت أَوّلَ النّاسِ سَبَقَ إلَيْهِ فَسَأَلْت بِلالاً: أَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الأُسْطُوَانَتَيْنِ الْمُقَدّمَتَيْنِ - وَكَانَ عَلَى سِتّةِ أَعْمِدَة. فَحَدّثَنِى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنّ النّبِىّ ÷ كَبّرَ فِى نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلّ. قَالُوا: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ: دَخَلَ عَلَىّ رَسُولُ اللّهِ ÷ حَزِينًا فَقُلْت: مَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “فَعَلْت الْيَوْمَ أَمْرًا لَيْتَنِى لَمْ أَكُ فَعَلْته، دَخَلْت الْبَيْتَ فَعَسَى الرّجُلُ مِنْ أُمّتِى لا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهُ فَتَكُونَ فِى نَفْسِهِ حَرَارَةٌ وَإِنّمَا أُمِرْنَا بِالطّوَافِ وَلَمْ نُؤْمَرْ بِالدّخُولِ”. وَكَسَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الْبَيْتَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: سَمِعْت الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَسَا رَسُولُ اللّهِ ÷ الْبَيْتَ فِى حَجّتِهِ الْحِبَرَاتِ. قَالُوا: وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. قَالُوا: وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ الثّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ - وَهُوَ يَوْمُ التّرْوِيَةِ فِيمَا اُجْتُمِعَ لَنَا عَلَيْهِ - وَخَطَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهْرِ بِمَكّةَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَارِثَةَ الظّفَرِىّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِىّ الضّمْرِى، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَخْطُبُ قَبْلَ التّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظّهْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ الصّلاةِ، وَالْغَدُ مِنْ يَوْمِ النّحْرِ بِمِنًى بَعْدَ الظّهْرِ. قَالَ الْوَاقِدِىّ: هَذَا الأَمْرُ الْمَأْخُوذُ بِهِ الْمَعْرُوفُ. وَيُقَالُ: إنّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَافَقَ يَوْمَ التّرْوِيَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْمَقَامِ فَوَعَظَ النّاسَ، وَقَالَ: “مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنّ يُصَلّىَ الظّهْرَ بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ”. وَرَكِبَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ بَعْدَ أَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصّبْحَ بِمِنًى، وَنَزَلَ بِمَوْضِعِ دَارِ الإِمَارَةِ الْيَوْمَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا نَبْنِى لَك كَنِيفًا؟ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ ÷، وَقَالَ: “مِنًى مَنْزِلُ مَنْ سَبَقَ”. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمْ يَرْكَبْ مِنْ مِنًى حَتّى رَأَى الشّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، ثُمّ رَكِبَ فَانْتَهَى إلَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ بِهَا قُبّةً مِنْ شَعْرٍ، وَيُقَالُ: إنّمَا قَالَ: إلَى فَيْءِ صَخْرَةٍ وَمَيْمُونَةُ زَوْجَتُهُ تَتْبَعُ ظِلّهَا حَتّى رَاحَ وَأَزْوَاجُهُ فِى قِبَابٍ - أَوْ فِى قُبّةٍ - حَوْلَهُ. فَلَمّا كَانَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَرُحّلَتْ إلَى بَطْنِ الْوَادِى - بَطْنِ عُرَنَةَ. قَالُوا: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لا تَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لا يُجَاوِزُ الْمُزْدَلِفَةَ يَقِفُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِىّ، وَهُوَ يَسِيرُ إلَى جَنْبِه:ِ يَا رَسُولَ اللّهِ ظَنّ قَوْمُك أَنّك تَقِفُ بِجَمْعٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “لَقَدْ كُنْت أَقِفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ النّبُوّةِ خِلافًا لَهُمْ”. وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَقِفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ النّبُوّةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلّهَا تَقِفُ بِجَمْعٍ إلاّ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَإِنّ مُوسَى بْنَ يَعْقُوبَ حَدّثَنِى، عَنْ عَمّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَتْ: كَانَ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ يَقِفُ بِعَرَفَةَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَسْوَدَانِ، وَزِمَامُ بَعِيرِهِ مِنْ شَعْرٍ بَيْنَ غَرْزَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، حَتّى يَقِفَ مَعَ النّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمّ يَدْفَعُ بِدَفْعِهِمْ، فَإِنّنَا لا نَتَكَلّمُ مَعَ النّاسِ - يَعْنِى الْعَرَبَ - كَانَتْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ وَقُرَيْشٌ بِجَمْعٍ تَقُولُ: نَحْنُ أَهْلُ اللّهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ بِبَطْنِ عَرَفَةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَلَمّا كَانَ آخِرُ الْخُطْبَةِ أَذّنَ بِلالٌ، وَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ كَلامِهِ، فَلَمّا فَرَغَ بِلالٌ مِنْ أَذَانِهِ تَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِكَلِمَاتٍ، وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَأَقَامَ بِلالٌ، فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الظّهْرَ، ثُمّ أَقَامَ فَصَلّى الْعَصْرَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. فَحَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ ÷ يَخْطُبُ يَوْمَئِذٍ فِى وَادِى عَرَفَةَ، ثُمّ رَكِبَ. قَالَ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يُشِيرُ بِيَدِهِ إلَى النّاسِ أَنْ يَقِفُوا - إلَى عَرَفَةَ.

  • * *

خُطْبَةُ النّبِىّ ÷ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الصّلاتَيْنِ وَكَانَ مِنْ خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ: “أَيّهَا النّاسُ إنّى وَاَللّهِ مَا أَدْرِى لَعَلّى لا أَلْقَاكُمْ بِمَكَانِى هَذَا بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا رَحِمَ اللّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا، فَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ، وَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَاعْلَمُوا أَنّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، وَاعْلَمُوا أَنّ الصّدُورَ لا تُغَلّ عَلَى ثَلاثٍ إخْلاصُ الْعَمَلِ لِلّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَهْلِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ، أَلاّ إنّ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمِى مَوْضُوعٌ وَأَوّلُ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ أَضَعُ دَمَ إيَاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ - كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - وَرِبَا الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ، وَأَوّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، اتّقُوا اللّهَ فِى النّسَاءِ، فَإِنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَةِ اللّهِ، وَإِنّ لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكَسَوْتهنّ بِالْمَعْرُوفِ، قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ - كِتَابُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنّى، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ”؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلّغْت وَأَدّيْت وَنَصَحْت، ثُمّ قَالَ بِإِصْبَعِهِ السّبّابَةِ إلَى السّمَاءِ يَرْفَعُهَا وَيَكُبّهَا ثَلاثًا: “اللّهُمّ اشْهَدْ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ عَمّهِ الزّهْرِىّ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ وَقَفَ بِالْهِضَابِ مِنْ عَرَفَةَ، فَقَالَ: “كُلّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ إلاّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ إلاّ بَطْنَ مُحَسّرٍ، وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ إلاّ خَلْفَ الْعَقَبَةِ”. قَالُوا: وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى مَنْ هُوَ بِأَقْصَى عَرَفَةَ، فَقَالَ: “الْزَمُوا مَشَاعِرَكُمْ فَإِنّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبِى نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: عَرَفَةُ أَوّلُ جَبَلٍ مِمّا يَلِى عُرَنَةَ إلَى جَبَلِ عَرَفَةَ، كُلّهِ مِنْ عَرَفَةَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَظَرْت إلَى النّبِىّ ÷ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَادّ يَدَيْهِ يُقْبِلُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ أَفَضْلَ دُعَائِى وَدُعَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلِى مِنْ الأَنْبِيَاءِ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوَمَةِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ نَاسًا اخْتَلَفُوا فِى صِيَامِ النّبِىّ ÷ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ أُمّ الْفَضْلِ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ بِعُسّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ وَهُوَ يَخْطُبُ، قَالُوا: وَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ يَدْعُو. وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ إذَا كَانَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَهَيْئَةِ الْعَمَائِمِ عَلَى رُءُوسِ الرّجَالِ. فَظَنّتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَدْفَعُ كَذَلِكَ، فَأَخّرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ دَفْعَهُ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَفْعَةُ النّبِىّ ÷. قَالَ: حَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِى الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْن الزّبَيْرِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْته يَسْأَلُ عَنْ سَيْرِ النّبِىّ ÷ عَشِيّةَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ وَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصّ - وَالنّصّ: فَوْقَ الْعَنَقِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيّهَا النّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ عَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ لِيَكُفّ قَوِيّكُمْ عَنْ ضَعِيفِكُمْ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا رَفَعَتْ نَاقَةُ النّبِىّ ÷ يَدَيْهَا فِى شَيْءٍ مِنْ الدّفْعَتَيْنِ وَاضِعَةً حَتّى رَمَى جَمْرَةً. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُهَنِىّ، عَنْ عُيَيْمِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجُهَنِىّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ وَقَدْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى جَمْعٍ، وَالنّارُ تُوقَدُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ يَوْمَهَا حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَبْصَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ النّارَ، قَالَ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: مَتَى كَانَتْ هَذِهِ النّارُ يَا أَبَا يَزِيدَ؟ قَالَ: كَانَتْ فِى الْجَاهِلِيّةِ وَضَعَتْهَا قُرَيْشٌ؛ لا تَخْرُجُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى عَرَفَةَ إلاّ تَقُولُ: نَحْنُ أَهْلُ اللّهِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنِى حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِى أَنّهُمْ كَانُوا يَحُجّونَ فِى الْجَاهِلِيّةِ فَيَرَوْنَ تِلْكَ النّارَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْن عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إلَى الشّعْبِ”، قَالَ: وَهُوَ شِعْبُ الإِذْخِرِ يَسَارَ الطّرِيقِ بَيْنَ الْمَأْزِمَيْنِ، وَلَمْ يُصَلّ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ صَلّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبّحْ بَيْنَهُمَا، وَلا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ، قَالَ: صَلاّهُمَا رَسُولُ اللّهِ ÷ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. قَالُوا: وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ قَرِيبًا مِنْ النّارِ - وَالنّارُ عَلَى قُزَحَ، وَهُوَ الْجَبَلُ وَهُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ - فَلَمّا كَانَ فِى السّحَرِ أَذّنَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَهُ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ مِنْ الذّرّيّةِ وَالنّسَاءِ. قَالَ: حَدّثَنِى أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، أَنّ سَوْدَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ اسْتَأْذَنَتْ النّبِىّ ÷ فِى التّقَدّمِ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ حَطْمَةِ النّاسِ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ ثَبِطَةً، فَأَذِنَ لَهَا، وَحَبَسَ نِسَاءَهُ حَتّى دَفَعْنَ بِدَفْعِهِ حِينَ أَصْبَحَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا: فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ ÷ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبّ إلَىّ مِنْ مَفْرُوجٍ بِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِى أَنَسٍ، عَنْ أُمّهِ قَالَتْ: تَقَدّمْت مَعَ سَوْدَةَ زَوْجِ النّبِىّ ÷ فِى حَجّتِهِ فَرَمَيْنَا قَبْلَ الْفَجْرِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ ÷ مَعَ أَهْلِهِ، فَرَمَوْا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْر. قَالَ: فَحَدّثَنِى جُبَيْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا بَرَقَ الْفَجْرُ صَلّى رَسُولُ اللّهِ ÷ الصّبْحَ، ثُمّ رَكِبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، ثُمّ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ لا يَدْفَعُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرٌ، كَيْمَا نُغِيرْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ قُرَيْشًا خَالَفَتْ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ”، فَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ، وَقَالَ: “هَذَا الْمَوْقِفُ وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِف”. قَالَ: وَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَمَعَ مِنْ أَقْصَى الْمَأْزِمَيْنِ إلَى الْقَرْنِ الّذِى خَلْفَ وَادِى مُحَسّرٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ ابْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَوْضَعَ فِى وَادِى مُحَسّرٍ. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ حَمَلَ حَصَى الْعَقَبَةِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ: حَدّثَنِى الثّوْرِىّ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَائِلٍ، قَالَ: سَمِعْت قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْكِلابِىّ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يَرْمِى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ لا ضَرْبَ وَلا طَرْدَ وَلا إلَيْك إلَيْك. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِى مَعْمَرٍ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شخيرة، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ النّبِىّ ÷ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِىّ ÷ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ، قَالَ: وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ إلَى الْمَنْحَرِ، قَالَ: “هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلّ فِجَاجِ مَكّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ”، ثُمّ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلاثًا وَسِتّينَ بِالْحَرْبَةِ، ثُمّ أَعْطَى رَجُلاً فَنَحَرَ مَا بَقِىَ، ثُمّ أَمَرَ مِنْ كُلّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ مِنْ الْبُدْنِ الّتِى نَحَرَ فَجُعِلَ فِى قِدْرٍ فَطَبَخَهُ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِىّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنْ عَلِىّ عَلَيْهِ السّلامُ، قَالَ: أَمَرَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ أَتَصَدّقَ بِجَلالِ بُدْنِهِ وَجُلُودِهَا وَلُحُومِهَا، وَلا أُعْطِى مِنْهَا فِى جَزْرِهَا شَيْئًا.

  • * *

حَلْقُ شَعْرِ رَسُولِ اللّهِ ÷ قَالُوا: لَمّا نَحَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْهَدْىَ دَعَا الْحَلاّقَ، وَحَضَرَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَأَعْطَى الْحَلاّقَ شِقّ رَأْسِهِ الأَيْمَنَ، ثُمّ أَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِىّ، وَكَلّمَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِى نَاصِيَتِهِ حِينَ حَلَقَ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَكَانَ يَجْعَلُهَا فِى مَقْدَمِ قَلَنْسُوَتِهِ، فَلا يَلْقَى جَمْعًا إلاّ فَضّهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ: كُنْت أَنْظُرُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَمَا نَلْقَى مِنْهُ فِى أُحُدٍ، وَفِى الْخَنْدَقِ، وَفِى الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِى كُلّ مَوْطِنٍ لاقَانَا، ثُمّ نَظَرْت إلَيْهِ يَوْمَ النّحْرِ يُقَدّمُ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ بَدَنَةً، وَهِىَ تَعْتَبُ فِى الْعَقْلِ، ثُمّ نَظَرْت إلَيْهِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَاصِيَتك لا تُؤْثِرُ بِهَا عَلَىّ أَحَدًا، فِدَاك أَبِى وَأُمّى فَأَنْظُرُ إلَيْهِ أَخَذَ نَاصِيَةَ رَسُولِ اللّهِ ÷، فَكَانَ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَفِيهِ. قَالَ: وَسَأَلْت عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا: مِنْ أَيْنَ هَذَا الشّعْرُ الّذِى عِنْدَكُنّ؟ قَالَتْ: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ لَمّا حَلَقَ رَأْسَهُ فِى حَجّتِهِ فَرّقَ شَعْرَهُ فِى النّاسِ، فَأَصَابَنَا مَا أَصَابَ النّاسَ. فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ اللّهِ ÷ رَأْسَهُ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ وَعَارِضَيْهِ وَقَلّمَ أَظْفَارَهُ وَأَمَرَ بِشَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَنْ يُدْفَنَا. وَقَصّرَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَلَقَ آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “رَحِمَ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ ثَلاثًا”، كُلّ ذَلِكَ يُقَالُ: وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “وَالْمُقَصّرِينَ” فِى الرّابِعَةِ. قَالُوا: وَأَصَابَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الطّيبَ بَعْدَ أَنْ حَلَقَ وَلَبِسَ الْقَمِيصَ، وَجَلَسَ لِلنّاسِ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدّمَ أَوْ أُخّرَ إلاّ قَالَ: “افْعَلُوهُ وَلا حَرَجَ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، أَنّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. فَقَالَ: انْحَرْ وَلا حَرَجَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَحَرْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: “ارْمِ وَلا حَرَجَ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَبْدَاللّهِ ابْنَ حُذَافَةَ السّهْمِىّ يُنَادِى فِى النّاسِ “أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ: إنّهَا أَيّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرُ اللّه”، قَالَ: فَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ صِيَامِهِمْ إلاّ مُحْصِرًا بِالْحَجّ، أَوْ مُتَمَتّعًا إلَى الْحَجّ، فَإِنّ الرّخْصَةَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ÷ أَنْ يَصُومُوا أَيّامَ مِنًى. فَأَفَاضَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَوْمَ النّحْرِ، وَيُقَالُ: أَفَاضَ لَيْلاً فِى نِسَائِهِ مَسَاءَ يَوْمِ النّحْرِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَفَاضُوا بِالنّهَارِ، فَأَتَى زَمْزَمَ فَأَمَرَ بِدَلْوٍ فَنُزِعَ لَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ وَصَبّ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: “لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهَا يَا وَلَدَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَنَزَعْت مِنْهَا”. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: نَزَعَ النّبِىّ ÷ دَلْوًا لِنَفْسِهِ مِنْ زَمْزَمَ، قَالَ عَطَاءٌ: فَكُنْت أَنْتَزِعُهُ لِنَفْسِى، فَلَمّا كَبِرْت وَضَعُفْت كُنْت آمُرُ مَنْ يَنْزِعُهُ لِى، وَكَانَ يَرْمِى الْجِمَارَ حِينَ تَزِيغُ الشّمْسُ قَبْلَ الصّلاةِ فَكَانَ إذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ عَلاهُمَا، وَيَرْمِى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى. وَكَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الأُولَى أَكْثَرَ مِمّا يَقِفُ عِنْدَ الثّانِيَةِ، وَلا يَقِفُ عِنْدَ الثّالِثَةِ فَإِذَا رَمَاهَا انْصَرَفَ. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ وَقَفَ عِنْدَهُمَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَلا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِى رَمْىِ الْعَقَبَةِ، فَإِذَا رَمَاهَا انْصَرَفَ. وَرَخّصَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِلرّعَاءِ أَنْ يَبِيتُوا عَنْ مِنًى، وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ فَرَمَى بِاللّيْلِ، وَرَخّصَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى ذَلِكَ. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِى الْبَدّاحِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِىّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ رَخّصَ لِلرّعَاءِ فِى الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى. قَالُوا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “ارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ”، وَكَانَ أَزْوَاجُهُ يَرْمِينَ مَعَ اللّيْل.

  • * *

خُطْبَةُ النّبِىّ ÷ يَوْمَ النّحْرِ قَالَ: فَحَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَارِثَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِىّ، قَالَ: وَحَدّثْنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، قَالا: خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النّحْرِ بَعْدَ الظّهْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ. وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْقِصّةِ. قَالا: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَيّهَا النّاس، اسْمَعُوا مِنْ قَوْلِى فَاعْقِلُوهُ فَإِنّى لا أَدْرِى، لَعَلّى لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِى هَذَا فِى هَذَا الْمَوْقِفِ أَيّهَا النّاس، أَىّ شَهْرٍ هَذَا”؟ قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “هَذَا شَهْرٌ حَرَامٌ، فَأَىّ بَلَدٍ هَذَا”؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ: “بَلَدٌ حَرَامٌ”، ثُمّ قَالَ: “أَىّ يَوْمٍ هَذَا”؟ فَسَكَتُوا، فَقَالَ: “يَوْمٌ حَرَامٌ”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى يَوْمِكُمْ هَذَا، إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ”، ثُمّ قَالَ: “إنّكُمْ سَوْفَ تَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ؛ أَلا وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، أَلا وَإِنّ كُلّ رِبًا فِى الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ كُلّ دَمٍ فِى الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوّلُ دِمَاءَكُمْ أَضَعُ دَمُ إيَاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ - كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِى بَنِى سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ، قَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ، فَلْيُبْلِغْ الشّاهِدُ الْغَائِبَ، أَلا إنّ كُلّ مُسْلِمٍ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ وَلا يَحِلّ مَالُ مُسْلِمٍ إلاّ مَا أَعْطَى عَنْ طِيبِ نَفْسٍ”. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِىّ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت غَنَمَ ابْنِ عَمّى، أَجْزُرُ مِنْهَا شَاةً؟ قَالَ: وَعَرَفَنِى، فَقَالَ: “إنْ لَقِيتهَا نَعْجَةً تَحْمِلُ شَفْرَةً وَزِنَادًا بِخَبْتِ الْجَمِيشِ” - الْجَمِيشُ وَادٍ قَدْ عَرَفَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالسّاحِلِ كَثِيرُ الْحَطَبِ، وَهُوَ وَادٍ لِبَنِى ضَمْرَةَ، وَهُوَ مَنْزِلُ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِىّ، وَيُقَالُ: خَبْتُ الْجَمِيشِ مَوْضِعُ صَحْرَاءَ، يُقَالُ: جَنْبَ كَدَاءٍ - “فَلا تُهِجْهَا”، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا، وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ، أَلا وَإِنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللّهِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ وَرَجَبٌ الّذِى يُدْعَى شَهْرَ مُضَرٍ، الّذِى بَيْنَ جُمَادَى الآخِرَةِ وَشَعْبَانَ وَالشّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَثَلاثُونَ أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ فَقَالَ النّاسُ: نَعَمْ، فَقَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ”، ثُمّ قَالَ: “أَيّهَا النّاسُ إنّ لِلنّسَاءِ عَلَيْكُمْ حَقّا، وَإِنّ لَكُمْ عَلَيْهِنّ حَقّا، فَعَلَيْهِنّ أَلاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا، وَلا يُدْخِلْنَ بُيُوتَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ إلاّ بِإِذْنِكُمْ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِى الْمَضَاجِعِ، وَأَنْ تَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ وَأَطَعْنَكُمْ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنّمَا النّسَاءُ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا، وَإِنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَةِ اللّهِ، فَاتّقُوا اللّهَ فِى النّسَاءِ وَاسْتَوْصُوا بِهِنّ خَيْرًا، أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ قَالَ النّاسُ: نَعَمْ، قَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ، أَيّهَا النّاسُ إنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنّهُ قَدْ رَضِىَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمّا تَحْقِرُونَهُ فَقَدْ رَضِىَ بِهِ، إنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَإِنّمَا الْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ، وَلا يَحِلّ لامْرِئٍ مُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ، وَلا مَالُهُ إلاّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَإِنّمَا أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ، وَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، إنّى قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا لا تَضِلّونَ بِهِ، كِتَابُ اللّهِ، أَلا هَلْ بَلّغْت”؟ قَالَ النّاسُ: نَعَمْ، قَالَ: “اللّهُمّ اشْهَدْ”، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ. عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سُئِلَ عَطَاءٌ مَا الضّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرّحِ؟ قَالَ: بِالسّوَاكِ وَبِالنّعْلِ، قَالَ عَطَاءٌ: وَسُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: ×وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا% قَالَ: كَلِمَةُ النّكَاحِ. قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ لَيَالِىَ مِنًى بِسِوَى مِنًى. قَالَ: حَدّثَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الصّدْرِ بِالأَبْطَحِ. قَالَ: حَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، قَالَ: مَا أَمَرَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ أَنْ أَنْزِلَ مَنْزِلاً؛ جِئْت الأَبْطَحَ فَضَرَبْت قُبّتَهُ. فَجَاءَ فَنَزَلَ. قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا تَقُولُ: إنّمَا نَزَلَ بِالْمُحَصّبِ لأَنّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. قَالَ: حَدّثَنِى ابْنُ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ النّبِىّ ÷ ذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَىّ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ حَاضَتْ، قَالَ: “أَحَابِسَتنَا هِىَ”؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: “فَلا إذًا”، فَلَمّا جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا مِنْ التّنْعِيمِ وَقَضَتْ عُمْرَتَهَا، أَمَرَ بِالرّحِيلِ وَمَرّ ÷ بِالْبَيْتِ فَطَافَ فِيهِ قَبْلَ الصّبْحِ، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ. قَالُوا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “إنّمَا هِىَ ثَلاثٌ يُقِيمُ بِهَا الْمَهَاجِرَ بَعْدَ الصّدْرِ”، وَكَانَ سَائِلٌ سَأَلَهُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكّةَ فَلَمْ يُرَخّصْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إلاّ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، قَالَ: “إنّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ مُكْثٍ وَلا إقَامَةٍ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنّ النّبِىّ ÷ لَمّا وَدّعَ الْبَيْتَ فَكَانَ فِى الشّوْطِ السّابِعِ خَلْفَ الْبَيْتِ يُمْنَى الْبَابِ. وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: تَعَوّذَ بَيْنَ الرّكْنِ الأَسْوَدِ وَالْبَابِ وَأَلْصَقَ بَطْنَهُ وَجَبْهَتَهُ بِالْبَيْتِ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ إذَا قَفَلَ مِنْ حَجّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوَةٍ، فَوَافَى عَلَى ثَنِيّةٍ، أَوْ فَدْفَدٍ كَبّرَ ثَلاثًا، ثُمّ قَالَ: “لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِى وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَىّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، سَاجِدُونَ عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، اللّهُمّ إنّا نَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِى الأَهْلِ وَالْمَالِ، اللّهُمّ بَلّغْنَا بَلاغًا صَالِحًا نَبْلُغُ إلَى خَيْرِ مَغْفِرَةٍ مِنْك وَرِضْوَانٍ”. قَالُوا: وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ الْمُعَرّسِ نَهَى أَصْحَابَهُ أَنْ يَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلاً، فَطَرَقَ رَجُلانِ أَهْلَهُمَا، فَكِلاهُمَا وَجَدَ مَا يَكْرَهُ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِالْبَطْحَاءِ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجّ سَلَكَ عَلَى الشّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ مَكّةَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ مُعَرّسِ الأَبْطَحِ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فِى مُعَرّسِهِ فِى بَطْنِ الْوَادِى، فَكَانَ فِيهِ عَامّةَ اللّيْلِ، فَقِيلَ لَهُ: إنّك بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِنِسَائِهِ: “هَذِهِ الْحَجّةُ، ثُمّ ظُهُورُ الْحُصْرِ”، وَكُنّ يَحْجُجْنَ إلاّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ، قَالَتَا: لا تُحَرّكُنَا دَابّةٌ بَعْدَ النّبِىّ ÷.

  • * *

عِيَادَةُ النّبِىّ ÷ لِسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقّاصٍ بَعْدَ حَجّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَمَالِكٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَنِى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَعُودُنِى عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَصَابَنِى، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ بَلَغَ بِى مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلا يَرِثُنِى إلاّ ابْنَةٌ لِى، فَأَتَصَدّقُ بِثُلُثَىْ مَالِي؟ قَالَ: “لا”، قُلْت: فَالشّطْرُ؟ قَالَ: “لا” ثُمّ قَالَ: “الثّلُثُ وَالثّلُثُ كَثِيرٌ، إنّك أَنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفّفُونَ وَإِنّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللّهِ إلاّ أُجِرْت بِهَا، حَتّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِك”، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أُخَلّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: “إنّك إنْ تُخَلّفْ فَتَعْمَلَ صَالِحًا تَزْدَدْ خَيْرًا وَرِفْعَةً، وَلَعَلّك أَنْ تُخَلّفَ حَتّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ أَوْ يُضَرّ بِك آخَرُونَ، اللّهُمّ أَمْضِ لأَصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ - يُرْثَى لَهُ أَنْ مَاتَ بِمَكّةَ”. قَالَ: فَحَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الأَعْرَجِ، قَالَ: خَلّفَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى سَعْدٍ رَجُلاً، وَقَالَ: “إنْ مَاتَ سَعْدٌ بِمَكّةَ فَلا تَدْفِنْهُ بِهَا”. قَالَ: فَحَدّثَنِى سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبَى وَقّاصٍ لِلنّبِىّ ÷: أَيُكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ الرّجُلُ فِى الأَرْضِ الّتِى هَاجَرَ مِنْهَا؟ قَالَ: “نَعَمْ”. قَالَ: حَدّثَنِى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: مَرِضْت فَأَتَانِى رَسُولُ اللّهِ ÷ يَعُودُنِى، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيِى فَوَجَدْت بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِىّ، ثُمّ قَالَ: “إنّك رَجُلٌ مَفْئُودٌ - الْمَفْئُودُ وَجَعُ الْفُؤَادِ - فَائِت الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ، إنّهُ رَجُلٌ يُطَبّبُ فَمُرْهُ فَلِيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنّ بِنَوَاهُنّ - أَىْ يَدُقّهُنّ - ثُمّ لْيُدَلّكْكَ بِهِنّ”.

  • * *


غَزْوَةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مُؤْتَةُ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَذْكُرُ مَقْتَلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ وَوَجَدَ عَلَيْهِمْ وَجْدًا شَدِيدًا؛ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ لأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ النّاسَ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ، وَأَمَرَهُمْ بِالانْكِمَاشِ فِى غَزْوِهِمْ. فَتَفَرّقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُمْ مُجِدّونَ فِى الْجِهَادِ فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ ÷ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ الثّلاثَاءِ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ دَعَا أُسَامَةَ ابْنَ زَيْدٍ، فَقَالَ: “يَا أُسَامَةُ سِرْ عَلَى اسْمِ اللّهِ وَبَرَكَتِهِ حَتّى تَنْتَهِىَ إلَى مَقْتَلِ أَبِيك، فَأَوْطِئْهُمْ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلّيْتُك عَلَى هَذَا الْجَيْشِ، فَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى، وَحَرّقْ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرِعْ السّيْرَ تَسْبِقْ الْخَبَرَ، فَإِنْ أَظْفَرَك اللّهُ فَأَقْلِلْ اللّبْثَ فِيهِمْ، وَخُذْ مَعَك الأَدِلاّءَ، وَقَدّمْ الْعُيُونَ أَمَامَك، وَالطّلائِعَ”، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ بُدِىَ بِرَسُولِ اللّهِ ÷ فَصُدّعَ وَحُمّ. فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ عَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ بِيَدِهِ لِوَاءً، ثُمّ قَالَ: “يَا أُسَامَةُ اُغْزُ بِسْمِ اللّهِ فِى سَبِيلِ اللّهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ، اُغْزُوَا وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَمَنّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ، فَإِنّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تُبْتَلَوْنَ بِهِمْ، وَلَكِنْ قُولُوا: اللّهُمّ اكْفِنَاهُمْ وَاكْفُفْ بَأْسَهُمْ عَنّا، فَإِنْ لَقُوكُمْ قَدْ أَجْلَبُوا وَصَيّحُوا، فَعَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ وَالصّمْتِ، وَلا تَنَازَعُوا وَلا تَفْشَلُوا فَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَقُولُوا: اللّهُمّ نَحْنُ عِبَادُك وَهُمْ عِبَادُك، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهمْ بِيَدِك، وَإِنّمَا تَغْلِبُهُمْ أَنْتَ، وَاعْلَمُوا أَنّ الْجَنّةَ تَحْتَ الْبَارِقَةِ” . قَالَ: حَدّثَنِى يَحْيَى بْنُ هِشَامِ بْنِ عَاصِمٍ الأَسْلَمِىّ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “يَا أُسَامَةُ شِنّ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ أُبْنَى”. قَالَ: فَحَدّثَنِى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنّ النّبِىّ ÷ أَمَرَهُ أَنّ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا، وَأَنْ يُحَرّقَ. قَالُوا: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷ لأُسَامَةَ: “امْضِ عَلَى اسْمِ اللّهِ”، فَخَرَجَ بِلِوَائِهِ مَعْقُودًا فَدَفَعَهُ إلَى بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِىّ، فَخَرَجَ بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ ÷ أُسَامَةَ فَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ، وَضَرَبَ عَسْكَرَهُ فِى سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ الْيَوْمَ. وَجَعَلَ النّاسُ يَجِدّونَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْعَسْكَرِ، فَيَخْرُجُ مِنْ فَرْغٍ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى مُعَسْكَرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فَهُوَ عَلَى فَرَاغٍ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَوّلِينَ إلاّ اُنْتُدِبَ فِى تِلْكَ الْغَزْوَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِى وَقّاصٍ، وَأَبُو الأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ؛ وَفِى رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ عِدّةٍ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ أَشَدّهُمْ فِى ذَلِكَ قَوْلاً عَيّاشُ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ: يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْغُلامُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الأَوّلِينَ؟ فَكَثُرَتْ الْقَالَةُ فِى ذَلِكَ، فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَرَدّهُ عَلَى مَنْ تَكَلّمَ بِهِ وَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ ÷ غَضَبًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةً، وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، ثُمّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: “أَمّا بَعْدُ، يَا أَيّهَا النّاسُ فَمَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِى عَنْ بَعْضِكُمْ فِى تَأْمِيرِى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ؟ وَاَللّهِ لَئِنْ طَعَنْتُمْ فِى إمَارَتِى أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُمْ فِى إمَارَتِى أَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَاَيْمُ اللّهِ إنْ كَانَ لِلإِمَارَةِ لَخَلِيقًا وَإِنّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخَلِيقٌ لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبّ النّاسِ إلَىّ، وَإِنّ هَذَا لَمِنْ أَحَبّ النّاسِ إلَىّ، وَإِنّهُمَا لَمُخِيلانِ لِكُلّ خَيْرٍ فَاسْتَوْصُوا بِهِ خَيْرًا، فَإِنّهُ مِنْ خِيَارِكُمْ”، ثُمّ نَزَلَ ÷ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ السّبْتِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الأَوّلِ. وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ يَخْرُجُونَ مَعَ أُسَامَةَ يُوَدّعُونَ رَسُولَ اللّهِ ÷ فِيهِمْ عُمَرُ ابْنُ الْخَطّابِ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللّهِ ÷ يَقُولُ: “أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ”، وَدَخَلَتْ أُمّ أَيْمَنَ، فَقَالَتْ: أَىْ رَسُولُ اللّه، لَوْ تَرَكْت أُسَامَةَ يُقِيمُ فِى مُعَسْكَرِهِ حَتّى تَتَمَاثَلَ، فَإِنّ أُسَامَةَ إنْ خَرَجَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ÷: “أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ”، فَمَضَى النّاسُ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَبَاتُوا لَيْلَةَ الأَحَدِ، وَنَزَلَ أُسَامَةُ يَوْمَ الأَحَدِ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ ثَقِيلٌ مَغْمُورٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِى لَدّوهُ فِيهِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلانِ، وَعِنْدَهُ الْعَبّاسُ، وَالنّسَاءُ حَوْلَهُ فَطَأْطَأَ عَلَيْهِ أُسَامَةُ فَقَبّلَهُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ لا يَتَكَلّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إلَى السّمَاءِ، ثُمّ يَصُبّهَا عَلَى أُسَامَةَ، قَالَ: فَأَعْرِفُ أَنّهُ كَانَ يَدْعُو لِى. قَالَ أُسَامَةُ: فَرَجَعْت إلَى مُعَسْكَرِى، فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ غَدَا مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَأَصْبَحَ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ مُفِيقًا، فَجَاءَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: “اُغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ”، فَوَدّعَهُ أُسَامَةُ وَرَسُولُ اللّهِ ÷ مُفِيقٌ مُرِيحٌ، وَجَعَلَ نِسَاءَهُ يَتَمَاشَطْنَ سُرُورًا بِرَاحَتِهِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَصْبَحْت مُفِيقًا بِحَمْدِ اللّهِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ ابْنَةِ خَارِجَةَ، فَائْذَنْ لِى فَأَذِنَ لَهُ، فَذَهَبَ إلَى السّنْحِ، وَرَكِبَ أُسَامَةُ إلَى مُعَسْكَرِهِ، وَصَاحَ فِى النّاسِ أَصْحَابِهِ بِاللّحُوقِ بِالْعَسْكَرِ، فَانْتَهَى إلَى مُعَسْكَرِهِ وَنَزَلَ وَأَمَرَ النّاسَ بِالرّحِيلِ، وَقَدْ مَتَعَ النّهَارُ. فَبَيْنَا أُسَامَةُ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ الْجُرْفِ أَتَاهُ رَسُولُ أُمّ أَيْمَنَ - وَهِىَ أُمّهُ - تُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ يَمُوتُ فَأَقْبَلَ أُسَامَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، فَانْتَهَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ وَهُوَ يَمُوتُ فَتُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَىْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوّلِ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ عَسْكَرُوا بِالْجُرْفِ الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، بِلِوَاءِ أُسَامَةَ مَعْقُودًا حَتّى أَتَى بِهِ بَابَ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَغَرَزَهُ عِنْدَهُ، فَلَمّا بُويِعَ لأَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ أَمَرَ بُرَيْدَةُ أَنْ يَذْهَبَ بِاللّوَاءِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، وَأَلاّ يَحِلّهُ أَبَدًا حَتّى يَغْزُوَهُمْ أُسَامَةُ، قَالَ بُرَيْدَةُ: فَخَرَجْت بِاللّوَاءِ حَتّى انْتَهَيْت بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، ثُمّ خَرَجْت بِهِ إلَى الشّامِ مَعْقُودًا مَعَ أُسَامَةَ، ثُمّ رَجَعْت بِهِ إلَى بَيْتِ أُسَامَةَ، فَمَا زَالَ فِى بَيْتِ أُسَامَةَ حَتّى تُوُفّىَ أُسَامَةُ. فَلَمّا بَلَغَ الْعَرَبَ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَارْتَدّ مَنْ ارْتَدّ عَنْ الإِسْلامِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ لأُسَامَةَ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ: اُنْفُذْ فِى وَجْهِك الّذِى وَجّهَك فِيهِ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأَخَذَ النّاسُ بِالْخُرُوجِ وَعَسْكَرُوا فِى مَوْضِعِهِمْ الأَوّلِ، وَخَرَجَ بُرَيْدَةُ بِاللّوَاءِ حَتّى انْتَهَى إلَى مُعَسْكَرِهِمْ الأَوّلِ فَشَقّ عَلَى كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ الأَوّلِينَ وَدَخَلَ عَلَى أَبِى بَكْرٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقّاصٍ، وَأَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللّهِ إنّ الْعَرَبَ قَدْ انْتَقَضَتْ عَلَيْك مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَإِنّك لا تَصْنَعُ بِتَفْرِيقِ هَذَا الْجَيْشِ الْمُنْتَشِرِ شَيْئًا، اجْعَلْهُمْ عِدّةً لأَهْلِ الرّدّةِ تَرْمِى بِهِمْ فِى نُحُورِهِمْ وَأُخْرَى، لا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهَا وَفِيهَا الذّرَارِىّ وَالنّسَاءُ فَلَوْ اسْتَأْنَيْت لِغَزْوِ الرّومِ حَتّى يَضْرِبَ الإِسْلامُ بِجِرَانِهِ وَتَعُودَ الرّدّةُ إلَى مَا خَرَجُوا مِنْهُ أَوْ يُفْنِيَهُمْ السّيْفُ ثُمّ تَبْعَثُ أُسَامَةَ حِينَئِذٍ فَنَحْنُ نَأْمَنُ الرّومَ أَنْ تَزْحَفَ إلَيْنَا فَلَمّا اسْتَوْعَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ كَلامَهُمْ قَالَ هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَنَا. فَقَالَ وَاَلّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ ظَنَنْت أَنّ السّبَاعَ تَأْكُلُنِى بِالْمَدِينَةِ لأَنْفَذْت هَذَا الْبَعْثَ وَلا بَدَأْت بِأَوّلَ مِنْهُ وَرَسُولُ اللّهِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ وَلَكِنْ خَصْلَةً أُكَلّمُ أُسَامَةَ فِى عُمَرَ يَخْلُفُهُ يُقِيمُ عِنْدَنَا، فَإِنّهُ لا غَنَاءَ بِنَا عَنْهُ. وَاَللّهِ مَا أَدْرِى يَفْعَلُ أُسَامَةُ أَمْ لا، وَاَللّهِ إنْ رَأَى لا أُكْرِهُهُ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ عَزَمَ عَلَى إنْفَاذِ بَعْثِ أُسَامَةَ وَمَشَى أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى أُسَامَةَ فِى بَيْتِهِ وَكَلّمَهُ أَنْ يَتْرُكَ عُمَرَ فَفَعَلَ أُسَامَةُ وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ أَذِنْت وَنَفْسَك طَيّبَةٌ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ نَعَمْ وَخَرَجَ وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ يُنَادِى: عَزْمَةٌ مِنّى أَلاّ يَتَخَلّفَ عَنْ أُسَامَةَ مِنْ بَعْثِهِ مَنْ كَانَ اُنْتُدِبَ مَعَهُ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِنّى لَنْ أُوتَى بِأَحَدٍ أَبْطَأَ عَنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ إلاّ أَلْحَقْته بِهِ مَاشِيًا وَأَرْسَلَ إلَى النّفَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ كَانُوا تَكَلّمُوا فِى إمَارَةِ أُسَامَةَ فَغَلّظَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَهُمْ بِالْخُرُوجِ فَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْ الْبَعْثِ إنْسَانٌ وَاحِدٌ. وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ يُشَيّعُ أُسَامَةَ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَمّا رَكِبَ أُسَامَةُ مِنْ الْجُرْفِ فِى أَصْحَابِهِ - وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافِ رَجُلٍ وَفِيهِمْ أَلْفُ فَرَسٍ - فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ إلَى جَنْبِ أُسَامَةَ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: أَسْتَوْدِعُ اللّهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك؛ إنّى سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يُوصِيك، فَانْفُذْ لأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ ÷ فَإِنّى لَسْت آمُرُك وَلا أَنْهَاك عَنْهُ، وَإِنّمَا أَنَا مُنْفِذٌ لأَمْرٍ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ ÷، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَوَطِئَ بِلادًا هَادِئَةً لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ الإِسْلامِ - جُهَيْنَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ قُضَاعَةَ - فَلَمّا نَزَلَ وَادِى الْقُرَى قَدِمَ عَيْنًا لَهُ مِنْ بَنِى عُذْرَةَ، يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثٌ، فَخَرَجَ عَلَى صَدْرِ رَاحِلَتِهِ أَمَامَهُ مُغِذّا حَتّى انْتَهَى إلَى أُبْنَى؛ فَنَطَرَ إلَى مَا هُنَاكَ وَارْتَادَ الطّرِيقَ ثُمّ رَجَعَ سَرِيعًا حَتّى لَقِىَ أُسَامَةَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أُبْنَى، فَأَخْبَرَهُ أَنّ النّاسَ غَارُونِ وَلا جُمُوعَ لَهُمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسْرِعَ السّيْرَ قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْجُمُوعُ وَأَنْ يُشِنّهَا غَارَةً. قَالَ: فَحَدّثَنِى هِشَامُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، قَالَ: قَالَ بُرَيْدَةُ لأُسَامَةَ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ إنّى شَهِدْت رَسُولَ اللّهِ ÷ يُوصِى أَبَاك أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ خَيّرَهُمْ، وَإِنْ أَحَبّوا أَنْ يُقِيمُوا فِى دَارِهِمْ وَيَكُونُوا كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلا شَيْءَ لَهُمْ فِى الْفَيْءِ وَلا الْغَنِيمَةِ إلاّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَحَوّلُوا إلَى دَارِ الإِسْلامِ، كَانَ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ أُسَامَةُ: هَكَذَا وَصِيّةُ رَسُولِ اللّهِ ÷ لأَبِى، وَلَكِنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ أَمَرَنِى، وَهُوَ آخِرُ عَهْدِهِ إلَىّ أَنْ أُسْرِعَ السّيْرَ، وَأَسْبِقَ الأَخْبَارَ، وَأَنْ أَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ، فَأُحَرّقَ وَأُخَرّبَ، فَقَالَ بُرَيْدَةُ: سَمْعًا وَطَاعَةً لأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ ÷. فَلَمّا انْتَهَى إلَى أُبْنَى فَنَظَرَ إلَيْهَا مَنْظَرَ الْعَيْنِ عَبّأَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: اجْعَلُوهَا غَارَةً وَلا تَمْنَعُوا فِى الطّلَبِ وَلا تَفْتَرِقُوا، وَاجْتَمِعُوا وَأَخْفُوا الصّوْتَ، وَاذْكُرُوا اللّهَ فِى أَنْفُسِكُمْ وَجَرّدُوا سُيُوفَكُمْ وَضَعُوهَا، فِيمَنْ أَشْرَفَ لَكُمْ، ثُمّ دَفَعَ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ فَمَا نَبَحَ كَلْبٌ وَلا تَحَرّكَ أَحَدٌ، وَمَا شَعَرُوا إلاّ بِالْقَوْمِ قَدْ شَنّوا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمْ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، فَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ لَهُ، وَسَبَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَحَرّقَ فِى طَوَائِفِهِمْ بِالنّارِ، وَحَرّقَ مَنَازِلَهُمْ وَحَرْثَهُمْ وَنَخْلَهُمْ فَصَارَتْ أَعَاصِيرُ مِنْ الدّخَاخِينِ، وَأَجَالَ الْخَيْلَ فِى عَرَصَاتِهِمْ وَلَمْ يُمْعِنُوا فِى الطّلَبِ أَصَابُوا مَا قَرُبَ مِنْهُمْ، وَأَقَامُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ فِى تَعْبِئَةِ مَا أَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ. وَكَانَ أُسَامَةُ خَرَجَ عَلَى فَرَسِ أَبِيهِ الّتِى قُتِلَ عَلَيْهَا أَبُوهُ يَوْمَ مُؤْتَةَ كَانَتْ تُدْعَى سَبْحَةَ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِى الْغَارَةِ خَبّرَهُ بِهِ بَعْضُ مَنْ سَبَى؛ وَأَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمّا أَمْسَوْا أَمَرَ النّاسَ بِالرّحِيلِ وَمَضَى الدّلِيلُ أَمَامَهُ حُرَيْثٌ الْعُذْرِىّ، فَأَخَذُوا الطّرِيقَ الّتِى جَاءُوا مِنْهَا، وَدَانُوا لَيْلَتَهُمْ حَتّى انْتَهَوْا بِأَرْضٍ بَعِيدَةٍ، ثُمّ طَوَى الْبِلادَ حَتّى انْتَهَى إلَى وَادِى الْقُرَى فِى تِسْعِ لَيَالٍ، ثُمّ قَصَدَ بَعْدُ فِى السّيْرِ فَسَارَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَا أُصِيبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ هِرَقْلَ وَهُوَ بِحِمْصَ فَدَعَا بَطَارِقَتَهُ، فَقَالَ: هَذَا الّذِى حَذّرْتُكُمْ، فَأَبَيْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوهُ مِنّى، قَدْ صَارَتْ الْعَرَبُ تَأْتِى مَسِيرَةَ شَهْرٍ تُغِيرُ عَلَيْكُمْ، ثُمّ تَخْرُجُ مِنْ سَاعَتِهَا وَلَمْ تُكْلَمْ، قَالَ أَخُوهُ: سَأَقُومُ فَأَبْعَثُ رَابِطَةً تَكُونُ بِالْبَلْقَاءِ فَبَعَثَ رَابِطَةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا حَتّى قَدِمَتْ الْبُعُوثُ إلَى الشّامِ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمَا. قَالُوا: وَاعْتَرَضَ لأُسَامَةَ فِى مُنْصَرَفِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ كَثْكَثٍ - قَرْيَةٌ هُنَاكَ - قَدْ كَانُوا اعْتَرَضُوا لأَبِيهِ فِى بَدْأَتِهِ فَأَصَابُوا مِنْ أَطْرَافِهِ، فَنَاهَضَهُمْ أُسَامَةُ بِمَنْ مَعَهُ وَظَفِرَ بِهِمْ وَحَرّقَ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ وَأَسَرّ مِنْهُمْ أَسِيرَيْنِ فَأَوْثَقَهُمَا، وَهَرَبَ مَنْ بَقِىَ فَقَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو بَكْرِ بْنُ يَحْيَى بْنِ النّضْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بَعَثَ بَشِيرَهُ مِنْ وَادِى الْقُرَى بِسَلامَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَغَارُوا عَلَى الْعَدُوّ فَأَصَابُوهُمْ، فَلَمّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِمْ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللّهُ عَنْهُ فِى الْمُهَاجِرِينَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتّى الْعَوَاتِقَ سُرُورًا بِسَلامَةِ أُسَامَةَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ عَلَى فَرَسِهِ سَبْحَةَ كَأَنّمَا خَرَجَتْ مِنْ ذِى خُشُبٍ عَلَيْهِ الدّرْعُ، وَاللّوَاءُ أَمَامَهُ يَحْمِلُهُ بُرَيْدَةُ، حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ مَعَهُ اللّوَاءُ. وَكَانَ مَخْرَجُهُ مِنْ الْجُرْفِ لِهِلالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ، فَغَابَ خَمْسَةً وَثَلاثِينَ يَوْمًا، عِشْرُونَ فِى بَدْأَتِهِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ فِى رَجْعَتِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالَ: تُوُفّىَ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَأُسَامَةُ ابْنُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ زَوّجَهُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَ سَنَةً امْرَأَةً مِنْ طَيّئٍ فَفَارَقَهَا وَزَوّجَهُ أُخْرَى، وَوُلِدَ لَهُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ ÷ وَأَوْلَمَ رَسُولُ اللّهِ ÷ عَلَى بِنَائِهِ بِأَهْلِهِ. قَالَ: فَحَدّثَنِى أَبُو الْحُرّ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحُرّ الْوَاقِفِىّ، مِنْ وَلَدِ السّائِبِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْفَةَ، أَنّ ابْنًا لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَحِمَهُ اللّهُ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ÷ فِى بَيْتِ أُمّ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَسْوَدُ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ كَانَ هَذَا جَارِيَةً مَا نَفَقَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ÷: “بَلَى، إنْ شَاءَ اللّهُ يُجْعَلْ لَهَا مَسَكَانَ مِنْ وَرِقٍ وَقُرْطَانِ وَيُجْعَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حُلُوقٌ فَكَأَنّهُ ذَهَبٌ”. قَالَ: حَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ حَوْطٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَصَابَهُ الْجُدَرِىّ أَوّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَهُوَ غُلامٌ مُخَاطُهُ يَسِيلُ عَلَى فِيهِ، فَتَقْذَرُ بِهِ عَائِشَةُ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ ÷ فَطَفِقَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيُقَبّلُهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا وَاَللّهِ بَعْدَ هَذَا فَلا أُقْصِيهِ أَبَدًا. عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِى حُسَيْنٍ الْمَازِنِىّ، عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَقَطَ أُسَامَةُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ شَجّةٌ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ ÷ يَمُصّ الدّمَ وَيَبْصُقُهُ. عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ ÷ قَالَ لِفَاطِمَةَ: وَهِىَ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِ أُسَامَةَ شَيْئًا، فَكَأَنّهَا تَأَذّتْ بِهِ فَاجْتَذَبَهُ رَسُولُ اللّهِ ÷ وَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ: لا أَتَأَذّى بِهِ أَبَدًا. قَالَ: حَدّثَنِى مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، أَنّ مُجَزّزًا الْمُدْلِجِىّ نَظَرَ إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، وَهُمَا مُضْطَجِعَانِ قَدْ خَمّرَا رُءُوسَهُمَا وَأَرْجُلَهُمَا، فَقَالَ: “إنّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ”، فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ ÷ لِشَبَهِ أُسَامَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ. عَنْ مُحَمّدٍ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ ÷ عُرْيَانًا قَطّ إلاّ مَرّةً وَاحِدَةً جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ غَزْوَةٍ يَسْتَفْتِحُ فَسَمِعَ رَسُولُ اللّهِ ÷ صَوْتَهُ، فَقَامَ عُرْيَانًا يَجُرّ ثَوْبَهُ فَقَبّلَهُ. قَالَ: حَدّثَنِى مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِى الْحُوَيْرِثِ، وَمَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالا: إنّ رَسُولَ اللّهِ ÷، قَالَ لأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ: “تَزَوّجِى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَإِنّهُ خَيْرٌ لَك”، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ×وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً مُبِينًا% صَدَقَ اللّهُ الْعَظِيمُ.

  • * *

تَمّ كِتَابُ الْمَغَازِى بِحَمْدِ اللّهِ وَمَنّهِ

  • * *