كتاب الرد على ابن النغريلة/الصفحة السابعة

من معرفة المصادر
الفصل الخامس كتاب الرد على ابن النغريلة الفصل السادس والفصل السابع
ابن حزم
الفصل الثامن وفصل في قبائحهم


الفصل السادس


ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى مخاطباً لنبيه قالب:صلل : {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الكتاب فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} ، (يونس: 94)

قال هذا المجنون : فهذا محمد كان في شك مما ادعاه .

قال أبو محمد : كان يلزم هذا الخسيس أن لا يتكلم في لغة لا يحسنها ، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يكشف سوءته ويبدي عورته .

وليعلم ان "إن" في هذه الآية ليست التي بمعنى الشرط ، لان من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه وينازع فيه أهل الأرض ويدين به أهل البلاد العظيمة ثم يقول لهم : إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون ، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في مثل دماغ هذا المجنون الجاهل .

وإنما معنى "إن" ها هنا الجحد فهي هنا بمعنى "ما" وهذا المعنى هو أحد موضوعاتها في اللغة العربية ، كما قال تعالى آمراً نبيه قالب:صلل ان يقول : {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف: 188)

بمعنى : ما أنا ندير وبشير لقوم يؤمنون ، كما ذكر الله عز وجل عن الأنبياء انهم قالوا : {إن نحن إلا بشر مثلكم} (إبراهيم: 11)

وكما قال تعالى مخبراً عن النسوة إذ رأين يوسف عليه السلام فقلن : {إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف: 31)

بمعنى: ما هذا إلا ملك كريم ، وكما قال تعالى : {لو أردنا ان نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} (الأنبياء: 17)

أي ما كنا فاعلين .

فعلى هذا المعنى خاطب نبيه قالب:صلل : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ، ثم قال تعالى فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك بمعنى ولا أعداؤك الذين يقاتلونك من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ما هم أيضاً في شك مما أنزلنا إليك بل هم موقنون بصحة قولك وانك نبي حق ، رسول الله قالب:صلل ، لا شك عندهم في ان الذي جاءك الحق .

ومثل هذا أيضاً قوله تعالى : {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} (إبراهيم: 46) تهويناً له .

وكذلك قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ، (الزخرف: 81)

بمعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول الجاهدين لا يكون له ولد .

فوضح جهل هذا المعترض وضعف تمييزه ، والحمد لله رب العالمين .

ولو ان هذا الجاهل الأنوك تدبر ما في باطلهم المبتدع وهجرهم الموضوع الذي يسمونه "توراة"

إذ يقول : عن موسى عليه السلام راجع ربه إذ أراد إرساله وقال : من أنا حتى أمضي إلى فرعون ، أرسل من تريد ترسل . وأغضب ربه تعالى بذلك ، وان يعقوب عليه السلام صارع ربه ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو ، فما انسلخ الصباح عرف انه الله تعالى الله عن هذا الحمق من الكفر علواً كبراً

قالوا: فلما عرفه امسكه فقال له ربه : أطلقني ، فقال له يعقوب : لا أطلقك حتى تبارك علي ، فقال له ربه : كيف لا أبارك عليك وأنت كنت قوياً على الله فكيف على الناس !

ثم مس مأبضه ، فعرج يعقوب من وقته فكذلك لا يأكل بنو إسرائيل من عروق الفخذ لان الله تعالى مسه .

ولا يجرؤ منهم أحد فيقول : إن المصارع ليعقوب كان ملكاً ، فإن لفظ اسم المصارع له في توراتهم "إلوهيم" وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعبرية فلو ان هذا الجاهل تفكر في مثل هذا وشبهه لعلم ان الحق بأيدي غيرهم وأنهم في باطل وغرور ، وعلى ضلال وزور ، والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله تعالى .


الفصل السابع

ثم ذكر هذا المائق الجاهل قوله تعالى في وصف العسل : إن فيه شفاء للناس .

فقال: وكيف هذا وهو يؤذي المحمومين وأصحاب الصفراء المحترقة ؟

قال أبو محمد : لو كان مع هذا الجاهل الأنوك أقل معرفة بطبائع الإنسان او فهم مخارج اللغة العربية لم يأت بهذا البرسام .

أما اللغة فإن الله تعالى لم يقل : العسل شفاء لكل علة ، وإنما قال تعالى : فيه شفاء للناس ؛ وهذا لا ينكره إلا رقيع سليب العقل والحياء او موسوس ، لان منافع العسل وشفاءه في إسخان المبرودين وتقطيع البلغم وتقوية الأعضاء حتى صار لا يطبخ اكثر الأشربة إلا به ولا يعجن جميع اللعوقات إلا به ، وما وصف جالينوس وبقراط ، وهما عميدا أهل الطب ، طبخ شيء من الأشربة إلا به جملة ، وما ذكرا قط أن يطبخ شراب بسكر .

وكيف ينكر هذا الأنوك ان يكون العسل شفاء محضاً ، وهي أغلب أموره ، فكيف أن يكون به شفاء ، وهم يصفون عن نبي من أنبيائهم انه شفى أكلة في عضو إنسان بتين مدقوق وجعله عليه ؟

فإذا كان في التين شفاء من بعض العلل فكيف ينكر هذا الخسيس ان يكون في العسل أشفية كثيرة ؟

وقد وجدنا في اختلاطهم الذي يسمونه "توراة" عن الله تعالى في عدة مواضع انه إذا بلغ الغاية في مدح ارض القدس التي وعدهم بها قال : إلا أنها أرض تنبع عسلا ولبناً ، ووعدهم فيها بأكل عسل الصخور .

أفترى إذ ليس في العسل شفاء أصلاً ، إنما وعدهم تعالى بما فيه الداء والبلاء لا بما فيه الشفاء ، هذا مع إنكار العيان ، وجحد الضرورات في منافع العسل .

كتاب الرد على ابن النغريلة
مقدمة المؤلف | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث | الفصل الرابع | الفصل الخامس | الفصل السادس والفصل السابع | الفصل الثامن وفصل في قبائحهم