كاموس الكشاني

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

توبيخ الملك كيخسرو لطوس‏

قال: و رجع الايرانيون الى حضرة الملك كيخسرو، و دخلوا عليه خافضى الأحداق ناكسى الرءوس و الأعناق. فاغتاظ الملك عليهم و تنمر و قال:« لولا الحياء من اللّه لأمرت بصلب ألف منكم مع طوس الذى خالف أمرى و أفقدنى أخى، حتى سرى شؤم فعله الى الجوذرزيين حتى حصدهم السيف». و بقى ساعة بعد محاسن أخيه فروز، و يتوجع له و يبكى عليه.

ثم طردهم من عنده، و تقدّم الى الحجاب بألا تمكنهم بعد ذلك من الدخول عليه. فخرجوا و جاءوا الى رستم و تضرعوا اليه، و قالوا له:« هذا الأمر كان شيئا قد كتب اللّه علينا و جرى به سابق القضاء. و من كان منا يعرف‏ فروذ أو يعلم نسبه من سياوخش حتى لا يتعرّض له؟ و إنه لما قتل ابن طوس ختنه احترق قلبه فكان منه ما كان. و الآن فقد وقع المحذور، و مضى المقدور».


عفو الملك كيخسرو عن الإيرانيين‏

و سألوا رستم الشفاعة فيهم.

فدخل على الملك، و كلمه فى حقهم، و اعتذر لهم اليه حتى رضي عنهم. ثم عاوده فى حق طوس، و تشفع اليه فى حتى أطلقه.


إرسال الملك كيخسرو لطوس إلى توران‏

فحضر بين يدى الملك مع جوذرز و غيره من الأمراء و دعا للملك و اعتذر اليه و اعترف لديه بذنوبه. ثم قال:« إن أمر الملك استأنفت الأمر، و رجعت الى توران، و أفرغت وسعي، و بذلت مجهودى حتى أدرك الثار، و أخرب تلك الديار».

فأعجب الملك ذلك، و شاور رستم فيه، و طالت مفاوضتهم فى ذلك و تراجعهم حتى استقرّت آراؤهم على أن يولى طوسا سالارية العسكر، و يعود ثانيا الى قتال توران. فأطلق للعسكر أرزاقهم و خلع عليهم و أعطاهم، و اختار لخروجهم يوما مباركا. فبرز طوس و خيم بالصحراء، و اجتمعت اليه الإصبهبذية فى جموع ضاق بهم الفضاء، و لم يأت عليهم الإحصاء. و خرج الملك فشيعهم و جهزهم ثم رجع. فساروا الى أن وصلوا الى وادى‏ الشهد.


إرسال أفراسياب جيشه بقيادة بيران لحرب طوس‏

فركب بيران فى عساكر الترك حتى شارفهم. فلما وقف على حالهم أرسل الى أفراسياب، و سأله أن يمدّه بمن يقدر على حشده من الجيوش. فأنفذ اليه بعد عشرة أيام عسكرا عظيما. فقوى به قلب بيران، و اشتدّ أزره، و أقبل حتى نزل بحذاء الايرانيين.

قتال الإيرانيين و التورانيين مرات عديدة

فجرت بينهم وقائع كثيرة عظيمة فى أيام متوالية. و كانت آثار الدبرة تظهر فى كل يوم على الايرانيين.


ذهاب الإيرانيين إلى جبل هماون‏

فنفذ طوس فارسا الى الملك كيخسرو، و أنهى اليه الحال، و سأله أن يمدّه برستم و من يقدر عليه من الجنود. ثم إنهم ضاق بهم الأرض، و كثر فيهم القتل، و ظهر فيهم الفشل، فقعدوا ذات يوم يتشاورون فاتفقت آراؤهم على أن يرجعوا وراءهم الى جبل عظيم هناك يسمى هماون فيتحصنوا به، حتى اذا أمنوا و اطمأنوا نظروا فى أمورهم، و دبروا ما يرجع بمصالح أحوالهم و شؤونهم.


إحاطة جيش توران بجبل هماون‏

فركبوا عند غروب الشمس قاصدين ذلك الجبل، و قدموا بين أيديهم الثقل، و ساقوا طردا و ركضا حتى وصلوا الى الجبل فنزلوا و تحصنوا به. و قال طوس لجيو بن جوذرز: استرح ساعة و تناول شيئا، و انظر من يخرج الى اليزك، و يكون طليعة. فان العدوّ وراءنا لا يتأخر عن طلبنا. فركبت الطلائع و تفرّقوا فى سفح الجبل و على فوهات الطرق.

و لما أصبحوا جاءهم النذير بأن طلائع العدوّ قد طلعت.


قتال هومان و طوس‏

فركب طوس فى العسكر فاصطفوا فى سفح الجبل. فأتاهم هومان فى جموع من الترك، و اصطفوا بحذائهم، و وقف يعنف طوسا و يعيره. بالفرار و الاعتصار بالحصار. و ردّ فارسا يستعجل بيران في اللحاق به.


مجي‏ء بيران إلى جبل هماون بحثا عن الإيرانيين و محاصرتهم‏

فوصل بيران فى جميع عساكره عند غروب الشمس فنزلوا أمام الجبل حتى أصبحوا. ففرق بيران العساكر، و وكلهم بحفظ الطرق عليهم، و سدّ المسالك اليهم. فأحدقوا بذلك الجبل، و قطعوا عنهم المادة و الميرة.


هجوم الإيرانيين على العدو ليلا و الغارة عليهم‏

و كانوا ينزلون و يقاتلون العدوّ ، و الحرب بينهم سجال.

ذكر اطلاع الملك كيخسرو على حال الايرانيين و ما أصاب جيشه‏

قال: ثم أتى الملك كيخسرو الخبر بما جرى على طوس و أصحابه، و ما انتهى اليه حالهم. فعظم عليه ذلك، و أخذه المقيم المقعد، و فزع على ملكه. فنفذ جماعة من الموابذة و الأكابر الى رستم يستدعيه. فلما حضر شرح له حال طوس و ما جرى عليه و على الجوذرزيين. ثم قال: إنى أفزع على هذه الدولة المتطاولة الأيام من الزوال و الانصرام. و قد امتلأ قلبى عليها ذعرا و أو جست فى نفسى خيفة. و ما ربى التاج و التخت من الأوّل إلا أنت، و بك فاضت عليهما السعادة و البخت.

ما يخفى على العالمين وقائعك و أيامك، و ما فعلت بسعالى مازندران، و شياطين كركساران. و الآن فقد جاء كتاب طوس، و هو يستصرخ بك مستغيثا، و يستنجدك مستجيرا. و هو على شفير هار مشرف على يأس و بوار». و كأنما عن هذه الحالة عبر مترجم الكتاب الفتح بن على حيث قال: أغث منه بنصرك ذا صراخ حزين القلب أدمعه سجام‏ أراه اليوم وافى مستجيرا اليك. و إنه موجب الذمام‏ مريض قد قضى أو كاد لما تولى طبعه علل جسام‏ و ليس سواك فى الدنيا طبيب يعالجه لينحسم السقام‏ فان أدركته لطفا و إلا على أطلال كاظمة السلام

فقال له رستم: لا يخفى على علم الملك أنى من اليوم الذى اعتصب كيقباد فيه بتاج السلطنة الى هذا اليوم لم أضع المغفر عن رأسى، و لا استراح عن أوزار الحرب ظهرى، و لا أجمعت عن مطاعنة الأعداء و مضاربتهم ساعدى و يدى. و الآن فأنت ذو الدولة الجديدة و السعادة العتيدة، و أنا أتلقى أمرك بالامتثال، و أقابل حكمك بالطاعة و الانقياد».

فأمر الملك بفتح الخزائن، و مزق الخازن رءوس البدر و الأكياس( و أفرغ الدنانير) و الدراهم على الأجناد، بعد أن سلم مفاتيحها الى رستم، و أطلق فيها يده. ثم قال له: ينبغى أن يسرع البهلوان جادّا كالريح العاصف، و لا يقيم فواق ناقة و لا يستريح روحة راكب. و ليستصحب مائة ألف من آساد الأجناد و الفرسان الأنجاد.

و ليجعل قريبُرز على مقدّمته ». فقبل رستم الأرض، و خرج من عند الملك. و برز الى الصحراء فأفاض على عسكره العطايا و أطلق أرزاقهم. و قدّم قريبُرز بين يديه. و أشار عليه( بأن يعجل اللحاق بطوس و بأن يمنعه من العجلة فى أمره و يشير عليه) بالتثبت و المدافعة و بأن لا يناجز بيران، و يسلك معه سبيل الخديعة و المكر حتى يلحق به فيمن معه على الأثر كالسيل المتلاطم. فسار قريبُرز .

و سار فى أثره رستم، و شيعه الملك فرسخين ثم عاد و هو يستنجز اللّه فى نصره الميعاد.


رویا طوس سیاوخش فی المنام

قال: و نام طوس ذات ليلة بعد أن أقض من المهم مضجعه، و استعرت بنار الغصص أضلعه. فرأى فى منامه كأن شمعة مشتعلة منبثة الأشعة قد طلعت من ماء، و الى جنبها تخت من العاج، و سياوخش قاعد عليه معتصبا بالتاج. فأقبل الى طوس فضحك اليه و قال: الزم هذا المكان.

و أشر على الايرانيين بالثبات و الصبر. فإن النصر قريب. و لا تهتم بمقتل الجوذرزيين فإن هاهنا حديقة ورد، و هم معى فيها نشرب الرحيق، و نواصل الصبوح و الغبوق». فانتبه مسرورا، و قص رؤياه على جوذرز ثم قال: لا أشك أن رستم يلحقنا. و ما من يوم إلا و أتوقع وصوله فيه. و هو و اصل». ثم أمر بدق الكوسات على ذلك الجبل. فركب الفرسان و تأهبوا للمحرب و رفعوا علم الدرفش الميمون.

و ركب بيران من ذلك الجانب، و تقدّم فى عساكره. و وقف كل واحد من الفريقين بإزاء الآخرين.

و لم يتقدّم أحد من الطائفتين لمبارزة و لا محاربة. فاستعجل هومان بيران فى أن يناوشهم الحرب. فقال له: لا تحتد و تأنّ و تجنب النزق و العجلة فى محاربة القوم. فإنا قد سددنا عليهم الطرق، و منعنا عنهم الميرة. و عن قليل يضطرون الى النزول الينا، و يستأسرون لنا».

فاعتمدوا على ذلك و رجعوا الى مضاربهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إرسال أفراسياب الخاقان و كاموس لنجدة بيران‏

و لما أصبحوا طلعت الشمس من برج السرطان و وصل الى بيران رسول أفراسياب يبشره بوصول الأمداد لإنجاده متواصلين منهم خاقان ملك الصين فى عساكر لا تقلهم الأرض، و منهم بلهوان من أهل ماوراءالنهر يسمى كاموس الكشانى.

و هو فارس ما تمخضت أم الشجاعة بمثله. فى جمع سماهم صاحب الكتاب. و حكى أن أفراسياب ما ترك من باب اسفيجاب الى حدود الروم فارسا إلا أتى به.

قال: فبشر بيران أصحابه، و قال لهم: قد فاز قد حكم و يروى زندكم. و ما بقى عليكم من الغناء غير قليل. و ستضعون أوزار الحرب عن قريب و سأفرغ غدا عن هؤلاء المخذولين الذين اعتصموا بهذا الجبل. ثم أقسم العسكر ثلاثة أقسام فقسم أسيره الى بلخ حتى يحتوى عليها. و قسم أنفذه الى بلاد زابل حتى يتملكوها.

و أنهض فى القسم الثالث الى بلاد ايران فأخر بها و أملك تاجها و تختها و اقتل رجالها و أسبى ذراريها و نساءها. ثم أوصى هومان و أصحابه بحفظ الطرق، و النزول على مخارم ذلك الجبل حتى لا ينتهز الايرانيون فى النجاة فأنفسهم فرصة، و لا يهربوا ليلا.


مجي‏ء خاقان الصين إلى جبل هماون‏

و ركب بيران للقاء ملك الصين و كاموس الكشانى. فرأى الخيم و السرادقات طلاع ذلك الفضاء، و رأى الرماح و الأعلام متشاجرة ما بين الأرض و السماء. و دخل على الخاقان فلما وقع نظره عليه قبل الأرض. فاعتنقه الخاقان و أكرمه و أجلسه بين يديه، و سايله عن عسكر ايران و عددهم و عددهم و رؤسائهم و أمرائهم. ثم عزم بيران على النهوض. فأجلسه و قال:

تستريح عندنا هذه الليلة». فبات بيران عنده يشرب معه.


مشورة الإيرانيين فيما بينهم حول أوضاعهم‏

قال: و أشرف طوس من الجبل صباح اليوم المذكور على معسكر الاتراك فرآهم خافتين ساكنين، فاهتم بسبب ذلك و فزع، و قال: لا يخلو حالهم من أحد الأمرين: إما أن يكون قد أتاهم خبر سوء فأصم صداهم، و إما أن يكون قد جاءهم مدد فاشتغلوا بمقدمهم عن الحرب. فإن كان هذا هو الواقع، و العياذ باللّه ، و لم يغثنا رستم فقد انقضت أيامنا و انصرمت أعمارنا، و سيهجمون علينا هجوم السيل، و سيدوسوننا بسنابك الخيل‏

علم جودرز بقدوم رستم‏

( قال: فقام جوذرز من وسط القوم و صعد الى رأس الخيل) و أقعد الديدبان فى أعلاه ينظر بالخيل الفيلة. فصرخ و استغاث و سمعه جوذرز فصار وجهه كالقار من فرط الحذار فقال: الساعة أدبرت عنا السعادات و الدول، و انقطع عن الحياة رجاؤنا و الأمل. قد كان حولى من أولادى و أحفادى عسكر، فلم يبق منهم فى الطلب بثار سياوخش عين و لا أثر. فيا ليت أمى لم تلدنى» و وقع عليه البكاء و العويل. ثم أمر بإسراج فرسه عازما على أن يودع من بقى من أولاده، و يستلم للهلاك. و تفرّقت الأمراء و الإصبهبذية فى سفح ذلك الجبل. و قعدوا حلقا حلقا، قد علتهم الهموم و الكآبة، و يوصى بعضهم الى بعض، و يودع أحدهم الآخر، حين انقطعت عن البقاء أطماعهم و خاب فى الحياة رجاؤهم.

فبينا هم كذلك إذ جاءهم الديدبان يبشرهم بطلوع الرايات و الأعلام و ظهورها من ناحية ايران.

فكادوا يطيرون عند ذلك فرحا و سرورا، و كانوا أذل من الثعالب فصاروا ضراغم و نمورا.

و اشتعلت نيرانهم، و أورقت بعد الذبول أغصانهم. فصاح طوس بأعيان العسكر و وجوه الجيش، و أمرهم بأن يستشعروا القوّة على عدوّهم . فعمهم السرور و الفرح، و كثرت بينهم التهانى و البشائر فى يومهم ذلك. فأفاضوا على الديدبان الخلع، و نثروا عليه الذهب و الفضة و أمر طوس بركوب اليزك الحفظ الطرق.


ذهاب خاقان الصين لرؤية جيش إيران‏

قال: و لما طلعت الشمس فى ثالث ذلك اليوم عبى الخاقان عساكره و قال لبيران: نستعد للمحرب و نجرّب الايرانيين و بنصر طرائقهم.

فقال بيران: نحن كلنا تبع للملك منقادون لأمره فليفعل ما يريد فأمر بدق الكوسات و جاءوا بخمسة من الفيلة و أسرجوها بسروج على أقدارها، مرصعة بالزبرجد، و غشوها بالديباج المذهب. و علاها الفيالون بالأكاليل الموشحة يا للؤلؤ و الياقوت، و الأطواق.

و ركب فى عسكر عادت تشتعل بأسلحتهم الآفاق، و تقمر بأشعتها الأحداق. و جاءوا حتى صافوا طوسا فى جموعه و صفوفه. ثم قال الخاقان لبيران: ما ترى الآن؟ فقال: أيها الملك! قد طويت مراحل بعيدة و تحملت تعبا و مشاق كثيرة. و قد أبصرت العدوّ . و الرأى أن ينصرف الملك و يستريح هو و عسكره ثلاثة أيام. ثم يجعل العسكر قسمين فيحارب العدو من أوّل النهار الى وقت الزوال أحد القسمين، و يقاتلهم القسم الآخر بعد الزوال. فانه عند ذلك يضيق عليهم الأمر فنهجم عليهم فنقتل البعض و نستأثر البعض». فأنكر ذلك كاموس الكشانى و قال: ما هذا التوانى و التمهل؟ و ما بالنا لا نناجزهم مع قلة عددهم و ضعفهم؟ و الأصوب أن نصدمهم صدمة واحدة، و نفرغ منهم، ثم نقود العساكر الى بلاد ايران فنتملكها قهرا، و نخطبها قسرا. فقال خاقان: الرأى ما رآه كاموس.

فاستعدوا الليلة، و ينبغى أن يكون جميع العساكر وقت تبلج الإصباح حاضرين فى هذا الفضاء.

فاتفقوا على هذا الرأى. و انتقضوا من ذلك الموقف. و باتوا ليلتهم فى الإعداد و الاستعداد.


وصول فريبرز إلى جبل هماون‏

قال: فجاء الديدبان صبيحة الغد الى جوذرز، و بشره بقرب العسكر الواصل من ناحية ايران.

فركب جوذرز، و قصد قصد الغبار الذى طلع من طريقهم. فلما خالطه رأى فرسان أهل ايران‏

مقبلين، و رأى فريبُرز بن كيكاوس قدام العسكر. فترجل له و تعانقا فعزاه قريبُرز عن أولاده و سايله. فبكى جوذرز و ذكر له ما هم فيه من الضيق و الشدّة و الخوف من العدوّ . و شرح له كثرتهم و غلبتهم.

و قال: إن جميع عساكر طوس بالنسبة اليهم كشعرة بيضاء فى جلد بقرة سوداء. و كأنهم ما خلوا من بلاد الصين و سقلاب و الهند و الروم ذا روح إلا و قد أتوا به إلينا. ثم سايله و قال: متى يصل رستم؟

فقال: إنه لا يبطئ، و لعله يصل الليلة. ثم قال الجوذرز: فما أصنع الآن؟ و أين أنزل بهذا العسكر؟ و أين أقصد بهم؟ فقال جوذرز: فما الذى قاله رستم لك، و بما ذا أشار عليك؟ فانه لا محيد عن أمره، و لا معدل من عن رأيه. فقال: إن رستم لم يأذن فى الحرب، و قد أمر طوسا بالصبر الى أن تطلع راياته». ثم توجه بمن معه من العسكر نحو الجمل الذى عليه طوس و أصحابه.


مشورة بيران مع خاقان الصين‏

فلما رأى ديدبان التورانية و رباياهم العسكر الذى جاء من صوب ايران، و انضوى الى أصحاب طوس أخبروا بيران بوصول المدد من صوب ايران. فعظم ذلك عليه، و ركب مذعورا الى الخاقان، و أعمله بأن طوسا قد جاءه مدد من عساكر ايران، و أنه بعد لا يعرف مقدار عددهم و لا من المقدم عليهم.

فقال له كاوس: قلدك أفراسياب سالارية جيشه، و سير تحت رايتك جميع عسكره، فما الذى كان بك حتى أقمت فى هذه الناحية خمسة أشهر تدور من جانب الى جانب لا تناجز عدوك. و لا تجد فى قتاله؟ و الآن حين امتلأت الأرض بالعساكر و أنجدك الخاقان و المنثور و غيرهما من ملوك الأطراف و وجوه الأمجاد و الأنجاد فاصبر و لا تقلق حتى يفتح ما أغلقته من الأمر.

و اعلم أنه لو اجتمع عساكر كابل و زابل و خرجت وحدى اليهم ما وقفوا قدامى ساعة. و قد فزعت من رستم و عسكر سجِستان . و أنا فلست أفكر فيهم، و لا أبالى بهم.».

مقاتلة جيو و طوس لكاموس‏

و لما كان من الغد ركب كاموس فى عساكره الى فضاء المعترك، و ركب طوس من الجانب الآخر فتناوشوا الحرب من أوّل النهار الى آخره. و لما جنحت الشمس للغروب رجع كلا الفريقين الى مضاربهم.


مجي‏ء رستم إلى الإيرانيين‏

و كان جوذرز فوق الجبل فجاء الديدبان فى ناشئة الليل، و أعمله بظهور جمع عظيم بين أيديهم الشموع المتقدة و المشاعل المشتعلة، و ذكر أنه لا يشك فى أنهم مواكب رستم قد وصل. فركب جوذرز و نزل من الجبل. فلما بدا له علم رستم ركض فرسه نحوه. و حين رآى وجهه ترجل و خدم.

و نزل رستم أيضا فتعانقا و انتحبا. و جعل جوذرز يدعو له، و يظهر السرور بمقدمه، و يقول: إنك أنفع للايرانيين من التاج و التخت، و خير لهم من الأم و الأب. و قد كنا قبل مجيئك كالحيتان على اليبس.

فنحمد اللّه على أن وصلنا بخدمتك، و أقر أعيننا بطلعتك. و فى نظرى اليك من الفرح ما يهوّن علىّ قتل الأولاد و الأحفاد». و بلغ الخبر طوسا و جيوا و غيرهما من الملوك و الأمراء، فركبوا فى جنح الليل لتلقيه. فلما رأوه نزلوا و خدموا له، و أجهشوا اليه بالبكاء و العويل على من قتل منهم من السادة و الكبراء فبكى رستم عند ذلك، ثم أقبل عليهم يعزيهم و يعظهم.

و ساروا جميعا نحو الجبل. و نصب سرادقه، و نزلت عساكر نيم روز عنده. فدخل السرادق و قعد على التخت، و قعد جوذرز و جيو الى جانبه، و قعد طوس من الجانب الآخر، و اصطف سائر الأمراء و الاصبهبذية قياما على رأسه.

قال: و أخذوا طول ليلتهم يحدّثونه عن عساكر توارن، و عن الذين أنجدوهم مثل خاقان الصين و كاموس الكشانى و منثور على و غيرهما من ملوك تلك الأقاليم، و يذكرون ما كانوا عليه من الخطر و مشارفة الهلاك قبل وصوله. ثم حمدوا اللّه على خلاصهم به من ذلك و نجاتبهم بمقدمه. ثم خرجوا من عنده.

تنظيم الإيرانيين و التورانيين قواتهم و توحيد صفوفهم للقتال‏

و لما أصبحوا ارتفعت أصوات الكوسات من الجانبين، و ركب الخاقان و عبى عساكره، و جعل كاموس على الميمنة و بيران على الميسرة، و وقف فى القلب. فلما رأى رستم ذلك أمر بتسوية الصفوف فجعل جوذرز على الميمنة و قريبُرز على الميسرة، و أمر طوسا بالوقوف فى القلب.

و قال لهم: إن الرخش قد تعب فى هذا الطريق. فانى قد كنت أسير عليه فى كل يوم مسيرة يومين من غير أن أريحه و أجمه. و أنا أخشى عليه بسبب ذلك. فصابروا العدوّ هذا اليوم و دافعوهم». ثم رجع الى الجبل حتى صعده فأشرف على عساكر الترك. فلما رأى و فور جمعهم و كثرتهم نزل و رجع الى أصحابه، و أشار عليهم بدق الكوسات و الزحف على العدوّ .

فتحرّك طوس من موضعه، و زحف كل واحد من الجمعين الى الآخر. فقاتلوا فى ذلك اليوم قتالا عظيما. و كان كاموس يحرّض أصحابه و يأمرهم ببذل الوسع فى القتال.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قتال رستم و أشكبوس‏

فتقدّم فارس منهم يسمى اسكبوس و طلب المبارزة فتصدّى له‏ رهام( بن جوذرز فتطاعنا ساعة فهرب منه رهام) و أراد طوس أن يخرج من الصف لمبارزته. فمنعه رستم من ذلك، و قال: الزم مكانك». و برز اليه بنفسه و هو راجل، و بيده قوسه، و قد غرز فى وسطه سهاما عدّة . فلما رآه اسكبوس ضحك متعجبا منه حين تصدّى لمبارزته راجلا. فسدّد رستم نشابة الى نحر فرسه فرماه بها، و فتقطر منه الفرس على جنبه، و بقى يقاتل راجلا. فرماه رستم بنشابة أخرى فجر صريعا لوجهه. و انكسرت قلوب الأتراك بسبب ذلك.

سؤال بيران عن قدوم رستم و قتاله راجلا

و رجع كلا الفريقين الى مواضعهم فقطعوا ليلهم فى حديث الحرب متعجبين من قتل راجل لمثل ذلك الفارس، و هم لا يدرون أنه رستم.


تنظيم الإيرانيين و التورانيين قواتهم و ترتيب صفوفهم من جديد

و لم يزالوا فى تهيئة أسباب الحرب حتى أصبحوا. فدعا الخاقان بكاموس و قال: لا ينبغى أن يكون قتالكم اليوم مثل قتالكم بالأمس».

و حثهم و حرضهم على الجد و الاجتهاد و إفراغ الوسع و الطاقة. و أما رستم فانه قال لأصحابه: إنى قد أنعلت الرخش، و أباشر القتال بنفسى فى هذا اليوم.

ثم ظاهر بين درع و جوشن، و لبس فوقها عدّة أخرى من جلد الببر. و ركب و حرض أصحابه. و ركب الخاقان، و عبى عساكره على تعبيته بالأمس.


مقتل ألواذ على يدي كاموس‏

و زحف الايرانيون اليهم على تعبيتهم. فكان أوّل من تقدّم كاموس الكشانى فى مثل هيجان الفيل القطم، و صاح و قال: أين ذلك الراجل الذى بارز بين الصفين بالأمس. فعلم طوس و جيو و أصحابهما أنهم لا طاقة لهم بمقاومته. فلم يتعرّض منهم أحد. و كان فى أصحاب رستم الزابليين فارس يسمى ألواذ قد أفنى عمره فى معالجة الحروب، و تعلم من رستم الفروسية و طرائق القتال. فتقدّم لمبارزته، فما كان إلا قليلا حتى طعنه كاموس طعنة اختطفه بها عن ظهر فرسه، و رماه الى الأرض قتيلا.

مقتل كاموس على يدي رستم‏

فلما رأى رستم ذلك اغتاظ و تمزق.

ثم تقدّم اليه و فى إحدى يديه الجرز و فى الأخرى الوهق. فقال له كاموس: ما هذا الشهيق و التغيظ؟ و ما هذا الإدلال بهذا الحبل؟ فقال رستم: إن السبع الجائع اذا ظفر بالصيد زأر، و أما هذا الحبل فستخبرك عنه رقبتك. فثوّر كاموس فرسه، و ضرب بسيفه رقبة الرخش ضربة عظيمة فلم تؤثر فيه غير قطع التجفاف. فحلق رستم عند ذلك عليه الوهق، و أعلقه فى وسطه، و اجتره اليه، و ثوّر رخشه فأخذ الكشانى أسيرا، و رماه من ظهر فرسه الى الأرض صريعا لليدين و الفم.

ثم ترجل عليه و كتفه‏ و عاد به الى أصحابه، و أباحهم دمه، فأخذته السيوف يمنة و يسرة حتى تناثرت أوصاله و أجزاؤه، و تطايرت أعضاؤه و أشلاؤه‏.